صفحات الثقافة

لمَ ما أزال شيوعيًّا/ة سلاڤوي جيجك

ترجمة يزن الحاج

أنا أوّل من يُقرُّ بأنّ حلمَ القرن العشرين الشيوعيَّ قد انتهى. وموقفي أبعد ما يمكن من اللازمة الغبيّة القديمة التي تُكرّر بأنّ الشيوعيّة فكرةٌ حسنةٌ أفسدها منحرفون توتاليتاريّون. لا، ثمّة مشكلات فعليّة في الرؤية الأصليّة، ولذا لا بدّ للمرء من الخضوع لإعادة تقييمٍ صارمةٍ لماركس نفسه. ونعم، أنجز الشيوعيّون الذين تسلّموا السُّلطة أمورًا حسنةً عدّة. نعرف سلسلة الابتهالات – التّعليم، الصحّة، مقارعة الفاشيّة – غير أنّ انتصارهم الحقيقيّ الأوحد ككلّ كان ما حدثَ في الصين بعد 1980، ولعلّه أعظم قصة نجاح اقتصاديّ في التاريخ البشريّ، حيث ترقّى مئات ملايين الفقراء إلى مستوى الطّبقة الوسطى. كيف حقّقت الصين هذا الهدف؟ لقد عُرِّف يسار القرن العشرين بمعارضته لنزعتين أساسيّتين في الحداثة: سلطان رأس المال بفردانيّته العدوانيّة وديناميّاته التّغريبيّة، وسطوة الدولة التسلّطية-البيروقراطيّة. ما نجده في صين اليوم هو – بالتّحديد – أقصى درجات مزيج هاتين السّمتين – دولة استبداديّة قويّة، ديناميّات رأسماليّة جامحة – وتلك هي صيغة الاشتراكيّة الأشدّ فعالية اليوم… ولكنْ أهيَ ما أريده؟

تسير الصين اليوم لتُمسي النّموذج لما سمّاه هنري فارِلْ (Henry Farrell) «الاستبداد المُشبَّك» (networked authoritarianism). الفكرة هي أنّه

إذا تجسّستْ دولةٌ على الشّعب بقدرٍ كافٍ وسمحتْ لمنظومات التعلّم الآليّ بتسجيل سلوكهم والتّجاوب حياله، سيكون ممكنًا خلقُ “مُنافِسٍ أكثر فعالية يمكن له هزيمة الديمقراطيّة في عُقر لعبتها” يلبّي حاجات الجميع أفضل ممّا في وسع الديمقراطيّة أن تفعل. الصين مثالٌ جيّد هنا: يقول مناصروها ومُناوئوها إنّ الصين تخلق، بمساعدة التعلّم الآليّ والرّقابة التّامّة، أوتوقراطيّة مستدامةً، قادرةً على حلّ “المعضلة التسلّطيّة الأساسيّة”: “جمع المعلومات وتصنيفها، والاستجابة الفعّالة لحاجات مواطنيها كي تصون استقرارها.” ولكنّ فارِلْ يُخمّن أنّ هذا الوضع لا يحدث هنا حقًا – فالصّين تعاني فعليًا من عدم استقرار بدرجةٍ هائلة (إضرابات غير نقابيّة، حركات متواصلة مناصرة للديمقراطيّة، معسكرات اعتقال، فقاعات ديون، انهيار تصنيع، اختطافات متكرّرة، فسادٌ مُتفشٍّ، إلخ).

وجد الغرب اللبراليّ استخدامًا أفضل للسيطرة الرقميّة: ديمقراطيّة مُشبّكة دعاها البعض “رأسماليّة الرقابة،” حيث يُتسامَح مع الديمقراطيّة والحريّة ولكن مع إبقائهما عاجزتين. يوضح نمط السّيطرة الرقميّة الجديد هذا سبب انتفاض الناس في الديمقراطيّات اللبراليّة أيضًا: هم لا ينتفضون ضدّ الحريّة، بل ضدّ ما تُنْبئهم به تجربتهم اليوميّة – أنّ الديمقراطيّة المُشبَّكة أشدّ طغيانًا من الاستبداد، بمعنى من المعاني. 

من السّائد اليوم التّشديد على الطبيعة “الإعجازيّة” لسقوط جدار برلين قبل ثلاثين عامًا. بدا مثل حلمٍ يتحقّق، تحقُّق أمرٍ مُحال، أمرٍ ما كان ممكنًا قبل شهور عدّة: تفكُّك الأنظمة الشيوعيّة التي انهارت كبيتٍ من ورق. من كان ليتخيَّل في پولندا انتخاباتٍ حرّة يتسلّم فيها لِخْ ڤاوِنْسا (Lech Wałęsa) رئاسة الجمهوريّة؟ على أنّ على المرء أن يضيف أيضًا أنّ “معجزةً” أعظم حدثت بعد عدة سنوات عام 1995: عودة الشيوعيّين السابقين إلى السُّلطة بانتخابات ديمقراطيّة حرّة، هُمِّش ڤاونسا خلالها تمهيشًا تامًا، وبات أقلّ شعبيّة بكثير من الجنرال ڤويتشخ ياروزلسكي (Wojciech Jaruzelski) الذي كان، قبل عقدٍ ونصف، قد سحق حركة “تضامن” بانقلابه العسكريّ. وبعد عقدين أتت مفاجأة ثالثة: پولندا الآن في قبضة شعبويّين يمينيّين يرفضون الشيوعيّة والديمقراطيّة اللبراليّة على حدٍّ سواء… ما الذي جرى هنا إذن، ما الذي أفضى إلى هذه التّعاكسات اللامتوقّعة؟

قد ينتاب المرءَ إغواءُ تفسيرها بـ “الواقعيّة الرأسماليّة،” حيث لا تعدو المشكلة أنّ الأوروپيّين الشرقيّين لم يمتلكوا تصوّرًا واقعيًا للرأسماليّة، وكانوا مفعمين بآمالٍ طوباويّة فجّة. في الصبيحة التي أعقبت حماس أيّام النّصر المخمورة، كان على النّاس أن يستفيقوا ويخوضوا سيرورةً مؤلمةً لتعلُّم قواعد الواقع الجديد – الثّمن الذي دُفعَ لقاء الحريّة السياسيّة والاقتصاديّة. بدا الأمر كما لو أنّ على اليسار الأوروپيّ أن يموت مرّتين: أولًا بوصفه اليسار الشيوعيّ “التوتاليتاريّ”، ومن ثمّ بوصفه اليسار الديمقراطيّ المعتدل الذي بات يخسر امتيازاته شيئًا فشيئًا منذ التّسعينيّات.

لكنّ الأمور أعقد بقليل. حين احتجَّ الشّعب ضدّ الأنظمة الشيوعيّة في أوروپا الشرقيّة، لم تكن الرأسماليّة هدف غالبيّتهم العظمى. أرادوا ضمانًا اجتماعيًا، تكافلًا، نمطًا معقولًا من العدالة؛ أرادوا الحريّة كي يعيشوا حيواتهم خارج قبضة سطوة الدّولة، كي يتجمّعوا ويتحدّثوا كما يحلو لهم؛ أرادوا حياةَ نزاهةٍ واستقامةٍ بسيطتين، متحرّرةً من التّلقين الأيديولوجيّ البدائيّ ومن النّفاق العيّاب المهيمن… باختصار، كانت الأهدافُ الضبابيّةُ التي حرّضت المتظاهرين مُستمدَّةً، بقدرٍ كبير، من الأيديولوجيا الاشتراكيّة ذاتها. وكما تعلَّمْنا من فرويد بأنّ المكبوت يرتدّ بصورةٍ مُشوَّهة، ارتدّت الاشتراكيّةُ المكبوتةُ في المخيال الانشقاقيّ على هيئة شعبويّةٍ يمينيّةٍ في أوروپا.

في تأويله لسقوط شيوعيّة أوروپا الشرقيّة، برهنَ يورگن هابرماس بأنّه الفوكوياميّ اليساريّ الأكبر، حين قَبِل بصمت أنّ النظام الديمقراطيّ-اللبراليّ القائم أفضل نظام ممكن، وأنّ علينا ألّا نُسائل منطلقاته الأساسيّة في سعينا إلى جعله نظامًا أعدل. ولذا احتفى تحديدًا بما عدّه يساريّون كثر القصورَ الكبيرَ في الاحتجاجات المناهضة للشيوعيّة في أوروپا الشرقيّة: حقيقة أنّ هذه الاحتجاجات لم تتحفّز بأيّة رؤى جديدة حيال المستقبل مابعد-الشيوعيّ. بحسب قوله، كانت الثورات في وسط أوروپا وشرقها محض ثورات “تصحيحيّة” أو “تعويضيّة”، هدفها تمكين تلك المجتمعات من بلوغ ما حظي به الأوروپيون الغربيّون؛ أي العودة إلى المعيار الأوروپيّ الغربيّ بمعنى آخر.

    إنّنا في لحظة انقلاب مثيرة كان هيگل سيبتهج بها. في العقد أو العقدين الأخيرين، تحوّلت “نهاية التاريخ” الفوكوياميّة (حيث لدينا أفضل بنية اجتماعية ممكنة أساسًا) إلى نسختها الأپوكالپتيّة – لم نصل إلى نهاية التاريخ بعد، غير أنّنا نقترب من النّهاية على هيئة كارثة أپوكالپتيّة… ثمّة سمة شكليّة تبقى على حالها في كلتا نسختَيْ “النهاية”: الإحساس بمطمطة لانهائيّة.

من ناحية ثانية، ليست «السترات الصفراء» (gilets jaunes)، واحتجاجات هونغ كونغ، واحتجاجات أخرى مماثلة اليوم (في إسپانيا، وكوريا الجنوبيّة، وبقاع أخرى) حركات تعويضيّة على الإطلاق. بل تُجسّد النّقيض العجيب الذي يسم الوضع العالميّ اليوم. التضادّ القديم بين “الناس العاديّين” وبين النّخب الرأسماليّة-الماليّة قد عاد مع نزعة انتقاميّة، حيث انتفض “الناس العاديّون” في احتجاجات ضد النّخب المُتَّهمة بكونها متعامية عن معاناة [أولئك النّاس] ومطالبهم. بيد أنّ الجديد هو أنّ اليمين الشعبويّ أثبت أنّه أبرع في حَرْف هذه الانفجارات إلى اتّجاهه أكثر من اليسار. ولذا كان آلان باديو (Alain Badiou) مُحقًّا تمامًا حين قال معلّقًا على “السترات الصفراء”: “Tout ce qui bouge n’est pas rouge” – ليس كلُّ ما يتحفّز (يُبلبل) أحمر. فاليمين الشعبويّ اليوم يشارك في عُرفٍ مديدٍ من الاحتجاجات الشعبيّة التي كانت يساريّة بالدرجة الأولى. بل يمكن أن تُرى بضع احتجاجات اليوم بوصفها حالةً من حالات ما تُسمّى أحيانًا احتجاجات الأثرياء – فلنتذكّر أنّ كاتالونيا، مع إقليم الباسك، أغنى مناطق إسپانيا، وأنّ معدّل دخل الفرد في هونغ كونغ أعلى بكثير منه في الصين.

هنا، إذن، تكمن المفارقة التي ينبغي لنا مواجهتها: الإحباط الشعبويّ حيال الديمقراطيّة اللبراليّة هو البرهان بأنّ ثورة عام 1989 ما كانت محض ثورة تعويضيّة. فالاحتجاجات التي أفضت إلى سقوط الأنظمة الشيوعيّة سعت إلى ما هو أكثر من المعيار الرأسماليّ-اللبراليّ، وقد كان اليمينُ الجديدُ الشعبويُّ مَنْ نجح في التقاط السخط الأعمق حيال الحداثة الرأسماليّة. تحدّث فرويد عن Unbehagen in der Kultur، سخط أو تّقلقل في الثقافة؛ واليوم، بعد ثلاثين عامًا من سقوط الجدار، فإنّ الموجة الجديدة المتواصلة من الاحتجاجات في الديمقراطيّة اللبراليّة ذاتها (حالتها النموذجيّة السّترات الصفراء في فرنسا) شاهدٌ على ضرب من ضروب التّقلقل في الرأسماليّة اللبراليّة، والسؤال الجوهريّ هنا: من سيكون أبرز من يُفصِح عن هذا السخط؟ هل سيُترَك الأمر للشعبويّين القوميّين كي يستغلّوه؟ يكمن هنا الواجب الكبير لليسار: ترجمة السّخط المُختمر إلى برنامج تغيير فعّال.

في المشهد الأخير من فيلم V for Vandetta، يهجم آلاف اللندنيّين العزّل وهم يرتدون قناع غاي فوكس إلى مجلسَيْ البرلمان. بلا أوامر، يسمح الجيش للحشد بالدّخول، ويسيطر الشّعب على السُّلطة… أوكي، لحظة انتشاء رائعة، غير أنّي مستعد لبيع أمي للعبوديّة من أجل أن أرى الجزء الثاني من الفيلم – ما الذي سيحدث في اليوم الذي يلي انتصار الشّعب، حين ينتهي الحماس المخمور وتستمر الحياة اليوميّة؟ كيف لهم (إعادة) تنظيم الحياة اليوميّة؟

يقدّم توما پِكيتي (Thomas Piketty) إجابة لهذا السؤال في كتابه رأس المال والأيديولوجيا Capital and Ideology، حيث يطرح ديمقراطيّة اجتماعيّة مُرَدْكلة[1]. يقوم طرح پكيتي على إعادة إنجاز دولة الرفاه ورَدْكَلَتها – لا بتأميم الثروة كلّها كما في شيوعيّة الأسلوب السوڤييتيّ، بل بصون رأس المال وإعادة توزيع الأملاك عبر منح كلّ بالغٍ حصّةً ماليّةً في سنّ الخامسة والعشرين. ستسمح ضرائب الدّخل التّصاعديّة – التي يقترحها – للحكومات بمنح الجميع دخلًا أساسيًا يعادل 60 في المئة من معدّل الأجور في الأمم الثريّة، وبتغطية كلف نزع الكربون من الاقتصاد. وكذلك، لا بدّ أن يحظى الموظّفون بخمسين في المئة من مقاعد مجالس إدارة الشركات؛ وأنّ تُحدَّد قوّة التصويت بنسبة 10 في المئة حتّى لدى أكبر المساهمين؛ وأن تُفرَض ضريبة كربون فرديّة باستخدام بطاقة شخصيّة تُدوّن إسهام كلّ شخص في الاحتباس الحراريّ… ولكنْ ماذا لو رفض الأثرياء دفع هذه الضّرائب المفروضة، وقرّروا الهجرة؟ يقترح پكيتي ضريبة خروج ومنظومة عدالة عالميّة تجعل التملّص من مصادرة الملكيّة مستحيلًا في كلّ مكان. لتحقيق هذا، يتصوّر وجود برلمان عابر للقوميّات مُكوَّن من أعضاء من مُشرِّعي كلّ دولة.

أفضلُ تمثيلٍ لطرفَيْ مأزق اليسار الراديكاليّ اليوم حوارٌ تلفزيونيٌّ قيّم مطوَّل بين پكيتي وآلان باديو. تقوم رؤية باديو على أنّ الپروليتاريّ المرتحل (nomadic proletarian) ينشأ بوصفه قوة ثوريّة عالميّة جديدة عابرةً لحدود الدولة-الأمة والديمقراطيّة البرلمانيّة، تلغي الرأسماليّة. بالنسبة إلى باديو، لا بدّ لنا من تجاوز الديمقراطيّة كما نعرفها اليوم، إلى أمميّة ثوريّة جديدة. طَرْحُ پكيتي ليس أقلّ طوباويّة، مع أنّه يقدّم نفسه بكونه پراگماتيًا يبحث عن حل داخل إطار الرأسماليّة والإجراءات الديمقراطيّة.

ثمّة حلمٌ ثالث، ديمقراطيّة محليّة متجدّدة، تبدو لي طرحًا أسوأ حتّى من طرحَيْ پكيتي وباديو. لا بدّ لممارسات “الديمقراطيّة المباشرة” اليوم، من الفاڤيلات [الأحياء العشوائيّة] (favelas) إلى الثقافة الرقميّة “مابعد الصناعيّة”، أن تعتمد على جهاز دولة. ويعتمد بقاؤها على نسيجٍ كثيفٍ من الآليات الصناعيّة “المُغرَّبة”: من أين تأتي الكهرباء والمياه؟ من يضمن حُكم القانون؟ لمن نلجأ من أجل الرعاية الصحية؟… كلّما تعاظمَ الحكم الذاتيّ في جماعة، تعاظمَ عمل هذه الشبكة بسلاسةٍ وخفاء. لعلّ علينا تغيير هدف النّضالات التحرّريّة من قهر الاغتراب إلى تعزيز نمط الاغتراب الصحيح – كيف لنا بلوغ الفاعليّة السّلسة للميكانزمات الاجتماعيّة “المُغرَّبة” (الخفيّة) التي تصون فضاء الجماعات “اللامُغرَّبة”؟ هذا ما يجعل دولة الرفاه شديدة الإغواء: ليس عليّ مساعدة الفقراء بنفسي، لأنّ جهاز الدولة المجهول سيؤدّي الأمر بدلًا منّي، مُتيحًا لي خيار التملّص من مواجهة المهمّشين والمحرومين وجهًا لوجه.

لذا، مجددًا، لمَ ما أزال متشبّثًا باسم الشيوعيّة الملعون، مع علمي أنّ مشروعَ القرن العشرين الشيوعيَّ قد أخفق، مُولِّدًا أشكالًا جديدة من الرعب القاتل؟ فلأبدأ من حقيقة أنّنا نعيش عصرًا يعجّ بآفاق أپوكالپتيّة [قِياميّة] – ثمّة وفرةٌ، تضادٌّ حقيقيٌّ من التّهديدات الأپوكالپتية. أتحفّظ هنا: حين أتحدّث عن تهديدات أپوكالپتيّة، أعي تمامًا مدى التباس ومراوغة هذا الحقل، وأنّ ثمّة شعرةً دقيقةً تفصل الإدراكات الدّقيقة للأخطار الفعليّة عن السيناريوهات الفانتازيّة بشأن الكارثة العالميّة التي تنتظرنا. ثمّة متعةٌ خاصة في العيش في زمن النّهاية، في ترقّب كارثة، والمفارقةُ أنّ تملّصنا من مواجهة هذه الكارثة يكون عبر تركيز انتباهنا عليها. ولا أرى الشيوعيّة بوصفها حلًا لويلاتنا، بل بوصفها (ما تزال) أفضل اسمٍ يُمكّننا من أحسن فهم للمشكلات التي تواجهنا اليوم، ومن تصوُّر حلٍّ للنّجاة.

إنّنا في لحظة انقلاب مثيرة كان هيگل سيبتهج بها. في العقد أو العقدين الأخيرين، تحوّلت “نهاية التاريخ” الفوكوياميّة (حيث لدينا أفضل بنية اجتماعية ممكنة أساسًا) إلى نسختها الأپوكالپتيّة – لم نصل إلى نهاية التاريخ بعد، غير أنّنا نقترب من النّهاية على هيئة كارثة أپوكالپتيّة… ثمّة سمة شكليّة تبقى على حالها في كلتا نسختَيْ “النهاية”: الإحساس بمطمطة لانهائيّة. عالم فوكوياما عالمٌ لا يحدث فيه أيُّ حدث عظيمٍ أو جديد، تستمر الحياة بتحسينات محليّة (أي العالم الذي وصفه كوجيف (Kojeve) بكونه عالم تنفُّج (snobbery))؛ والأپوكالپس موجودة هنا أيضًا، ونحن نجرّ خطانا في برزخٍ لا ينتهي، بحيث تُعاش نهاية العالم بوصفها استحالة النّهاية. إنّنا معتادون على وضعٍ كهذا في الفن (الذي يحتضر منذ قرن وأكثر) والفلسفة (التي هي منذ هيغل فصاعدًا تتبرّأ من نفسها، تتجاوز نفسها). في كلتا الحالتين، يُفضي الموت إلى إنتاجيّة مدهشة وإلى توليد أشكال جديدة، كما لو أنّ حقيقة الموت خلودٌ عجائبيّ. 

المقتضى التالي الوحيد الآن هو قلب وجهة النظر بأسرها رأسًا على عقب: النّهاية قد حدثت أساسًا، ولكنّنا غفلنا عنها. نبدو مثل القط في المشهد الكرتونيّ القديم المضحك الذي يمشي فوق جرفٍ ولا يسقط إلا حين ينتبه إلى عدم وجود أرضٍ تحته. لا بدّ أن تكون نقطة انطلاقنا بأنّ الأپوكالپس قد حدثت حقًا، بمعنى من المعاني: مجتمعاتنا خاضعةٌ أساسًا لمراقبةٍ وسيطرة رقميّة شاملة، التّغييرات في بيئتنا تواصل عملها، الملايين يرتحلون أصلًا. ولذا لا بدّ أن نتخلّص من مجاز أنّنا “خمس دقائق قبل الظهر،” وأنّها فرصتنا الأخيرة كي نفعل وكي نحول دون الكارثة. الوقت الآن خمس دقائق بعد الظهر، وسيكون السؤال ما ينبغي فعله في كون عالميّ جديد كليًا. لا يعني هذا، بالطبع، أنّ علينا ألا نناضل كي نحول دون الكوارث التي تنتظرنا. لو عدنا إلى نكتة المشهد الكرتوني، وَضْعُنا الحاليّ في مكان ما بين نهايتي الخيط، النهاية الأولى هي ما يحدث حين نشرع بالخطو من دون أرض تحت أقدامنا، والثانية هي ما يحدث حين نسقط فعلًا. إنّنا نمشي على الهاوية أصلًا، وقد فقدنا الأرض تحت أقدامنا، ولكن – بخلاف حالة القط – فإنّ الطريقة الوحيدة كيلا نسقط إلى حتفنا هي أن ننظر إلى الهاوية تحتنا وأن نتصرّف تبعًا لهذا.

وكما أشارت ألينكا زوپانتشتش (Alenka Zupančič) بوضوح، أكبرُ برهان على أنّ الكارثة الإيكولوجيّة قد حدثت هو أنّها قد خضعت لإعادة تطبيع. أكثر فأكثر، بتنا نفكّر “عقلانيًا” حيال كيفيّة أقلمة نفسنا حيالها، بل حتّى كيفيّة الانتفاع منها (نقرأ أنّ بقاعًا كبيرة من سيبيريا ستُتاح للزراعة؛ أنّهم باتوا قادرين على زراعة خضروات في گرينلاند؛ أنّ انصهار الثّلوج في القطب الشّماليّ سيجعل طريق نقل البضائع من الصين إلى الولايات المتّحدة أقصر بكثير…). مثال نموذجي لهذا التّطبيع ردّة الفعل السّائدة حيال انكشاف النّشطاء الفاضحين مثل أسانج، وماننگ، وسنودن، التي لا تصل إلى حدّ الإدانة (“ويكيليكس تروّج الأكاذيب!”) بل تكون أشبه بـ: “كلّنا نعرف أنّ حكوماتنا تقترف هذه الأفعال طوال الوقت، لا مفاجأة هنا!” وبذا، حُيِّدت صدمةُ إفشاء الأسرار عبر الإحالة على حكمة أولئك الأقوياء كفايةً ممّن حافظوا على نظرة متّزنة على وقائع الحياة… ينبغي لنا، في مواجهة هذه “الواقعيّة”، أن نسمح لأنفسنا بأنْ نُصْدَم كليًا وبسذاجة حيال فحش وهول الجرائم التي كشفتها ويكيليكس. فالسذاجة، أحيانًا، أعظم فضيلة. 

يُسمّى الأصوات الأساسيّون لإعادة التّطبيع “متفائلين عقلانيّين” مثل مات رِدلي (Matt Ridley) الذي يمطرنا بوابل الأخبار السعيدة: كان العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أعظم عقد في التاريخ البشريّ، معدّلات الفقر تنخفض في آسيا وأفريقيا، التلوّث يتضاءل، إلخ. إنْ كانت الحال هكذا حقًا، من أين ينبع جوّ الأپوكالپس المتنامي إذن؟ أليس حصيلةَ حاجةٍ مَرَضيّةٍ ذاتيّةٍ إلى التّعاسة؟ حين يُنْبئنا المتفائلون العقلانيّون بأنّنا نبالغ في خوفنا بشأن مشكلات نافلة، لا بد أن يكون ردّنا أنّنا، على العكس، لسنا خائفين بما يكفي. بحسب صياغة ألينكا زوپانتشتش للمفارقة، “بدأت الأپوكالپس أساسًا، غير أنّنا – على ما يبدو – نفضّل الموت على أن نسمح للتّهديد الأپوكالپتيّ بإخافتنا حدّ الموت.”[2] محلَّ لحظات الدّينونة والترقّب المُستسلِم للنّهاية، حلَّ الثّباتُ الشّجاعُ الزائفُ (“سنجتازها على نحوٍ ما، المهمّ ألّا تفقدوا أعصابكم وتقعوا أسرى للهلع”).

سهلٌ أن نرى هنا كيف أنّ المتفائلين العقلانيّين وأنبياء الدّينونة وجهان لعملةٍ واحدة: يُنْبئنا الفريق الأول أنّ بإمكاننا أن نهدأ، إذ لا سبب للذعر، الأمور ليس بهذا السوء؛ ويُنبئنا الفريق الثاني أنّ كل شيء قد ضاع، وأنّ جلّ ما في وسعنا هو أن نهدأ وأن نستمتع استمتاعًا منحرفًا بالمشهد. كلاهما يمنعاننا من التّفكير والتصرّف، من اتّخاذ القرار والاختيار. على ضوء جميع الأسباب التي شرحناها في الكتاب، أفضل اسمٍ لهذا الخيار ما يزال «الشيوعيّة». لا يعني هذا أنّ الشيوعيّة إحدى الخيارات المُتاحة؛ إنّها الخيار الأوحد. أما الخيارات الأخرى التي قُدّمت لنا (مثل “إعادة الضبط العظيمة” (Great Reset) التي روّجت لها الشّركات الكبرى) فليست إلا وسائل لتغيير شيءٍ بعينه بحيث لا يتغيّر أيّ شيء فعليًا. وحالما نختار الشيوعيّة سندرك كيف توجَّب علينا اختيارها. مع الشيوعيّة، ستكون لنا حريّة اختيار ما علينا فعله، ما ينبغي لنا فعله. هذا ما يعادل الادّعاء الهيگليّ القديم بأنّ الحريّة ضرورةٌ مُدرَكةٌ: لا يعني هذا أنّ تحقُّق الشيوعيّة حتميّ – قد لا تتحقّق، قد ننتهي في عربدةٍ تدميريّة ذاتيّة أو في رأسماليّة شركات نيوإقطاعيّة – ولكن حالما نختارها، سندرك أنّها خيار النّجاة الوحيدة.

الهوامش:

[1]: پكيتي محقٌّ في التّشديد على الأيديولوجيا التي تلعب دورًا محوريًا في المجتمع حتّى في عصرٍ يُثْني على نفسه بكونه مابعد-أيديولوجيّ. ولكنّ تركيز پكيتي على الأيديولوجيا تركيزٌ بالغ السّذاجة – هو يفهمها فهمًا حرفيًا بالمطلق، محاججًا بأنّ اليسار كان قادرًا على المضيّ أبعد في إنجاز دولة رفاه ديمقراطيّة-اشتراكيّة، غير أنّه فوَّتَ هذه الفرصة، منذ سبعينيّات القرن العشرين فصاعدًا، بسبب عماه الأيديولوجيّ.

[2]: Alenka Zupančič, The Apocalypse Is Still Disappointing (مخطوط).

[ترجمة يزن الحاج].

موقع جدلية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى