الناس

معالم أزمة الخبز في سوريا

خبز بايت وإعانة… عن أحوال رمضان في دمشق/ سلوى زكزك

“هذي البلاد باتت ضيّقة حتى الاختناق وقاسيّة كلقمة خبز يابسة عافتها حتى الطيور الجائعة” يقول أحدهم. بات جليًّا أنّ الحياة الشاميّة قد بلغت درجة من الصعوبة لم تعد قابلة للاحتمال. يقول خالد (اسم مستعار)، النازح إلى دمشق أملًا بالنجاة: “كم أنا نادم على خوفي من ركوب البحر وترك هذه البلاد الخانقة”.

على باب بيت الجيران ثلاثة صناديق كرتونيّة ممتلئة بقشور الفول والبازلاء، إنّه موسم المونة! تعيش في المنزل ثلاث عائلات في بيت واحد، تتقاسم غرفه ومرافقه العتيقة والعمل والطعام، وأيضًا ضيق المنزل وكلفة المعيشة التي باتت سببًا لخلافات حادة، أسمع أصواتها حتى في بيتي.

قالت لي جارتي: “كسبنا المونة وكسبنا معها طبخة رز بفول طازجة مطبوخة بحبات الفول الناعمة والغضة في أول أيام شهر رمضان”، فقد أصبحت الطبخات الدمشقيّة العريقة والمحبّبة حلما بعيد المنال في ظل واقع يئن الناس فيه من وطأة الجوع وارتفاع الأسعار بطريقة غير معقولة وغير مسبوقة، إذ ارتفعت الأسعار أكثر من عشرة أضعاف عن رمضان الماضي.

غابت عن هواء دمشق روائح البيض المقليّ المجهّز خصوصًا لوجبة السحور، وغابت فتّات الحمص وصحون الفول المدمّس والمغمور باللبن عن وجبات الإفطار أيضًا، الأمر الذي ترك أثره على البائعين الذين يقاومون غول الفقر.

يشكو لي أبو حسن (اسم مستعار/ ستون عامًا) بائع الفول والحمص في سوق ساروجة، من قلّة الطلب على بضاعته، وقد اضطر لخفض إنتاجه من مادة المسبحة (الحمص) بسبب تراجع الطلب عليها وانقطاع الكهرباء المُزمن والطويل ممّا يهدّد بفسادها، لأنّ “الحمص عمره قصير، كنت أسلق ثلاثة كيلو غرامات منه يوميًا، أما الآن فبالكاد أسلق كيلو واحد”، لأنّ الناس تطلب كميات لا تتجاوز نصف الكيلوغرام فقط، سواء من الحمص أو من الفول، “وتطلبها بلا زيت”، لأنّ ثمنها يرتفع بسبب الارتفاع المهول في سعر زيت الزيتون حتى وصل سعر الليتر الواحد إلى حدود الثلاثة عشر ألف ليرة (حوالي أربعة دولارات أمريكيّة ونصف).

يضيف شبه جازم وعلامات الخيبة تكسو وجهه، ويده تتردد بين لجم رجفان شفتيه أو الإشارة إلى الحجم القليل لبضاعته “صاروا يزيتونه بالزيت النباتي! مع أنّ الزيت النباتي يُفقد الفول طعمته الأصلية”.

لا إفطار في البيوت

يقول البائع الذي يخالط الزبائن والناس يوميًا لحكاية ما انحكت إنّ “العمال المياومين أو الذين يناوبون ليلًا حتى في رمضان، وحتى الباعة الجوالين وأصحاب البسطات، تخلّوا عن عادة الإفطار في بيوتهم بسبب ارتفاع أجور النقل وندرة المواصلات، عدا عن سعيهم الدؤوب وشبه اليائس لكسب غلّة ترمّم النقص الحاد في السيولة وتعثّر البيع وندرته. هم يشترون الفول فقط لإفطارهم، أنا متأكد أنّهم لا يشبعون، خاصة وأنّهم يشترون وجباتهم بلا زيت وبدون مخلل أو بصل، وبلا خبز أيضًا تخفيفًا لسعر الوجبة، فغالبيتهم يُحضرون خبزهم معهم في الصباح”.

روى البائع لحكاية ما انحكت قصة شاب طلب منه وبرجاء حار بصلة وحبتين من مخلل الفليفلة الحادة مجانًا.، لأنّه لا يملك القدرة على دفع ثمن هذه الأشياء القليلة.

واعًا لحلويات رمضان

طالما ارتبطت طقوس رمضان بالحلويّات الخاصة به، مثل الناعم والمعروك والنهش، لكن الكميات المعروضة، رغم قلتها، مقارنة بأيّ موسم رمضاني سابق، تفتقد من يشتريها. ففي باب الجابية، حيث توجد أشهر محال بيع القشطة والقطايف، يستوقف فتى سيدة، ويقول لها، “أختي مريضة وبدها قطايف بقشطة”!

الحالة العامة ترفض أيّ سؤال للتأكد من صحة خبر مرض الطفلة من عدمه، ثمّة طلب إنساني في وقت يكتسب فيه المنح ميزة نفسيّة وروحانيّة خاصة. تقترب السيدة من صاحب أصغر محل لبيع القشطة، تمنح البائع ألف ليرة، وتقول له: “أنت وسماحة نفسك! فأنا لم أشتر القشطة حتى لنفسي!”.

يشتكي باعة الحلوى الشعبيّة من تراجع حجم مبيعاتهم أيضًا، ومن تراجع هامش الربح، يقول لحكاية ما انحكت أحد باعة الحلوى الشعبيّة في كراجات السيّدة زينب واسمه أبو هيثم (اسم مستعار)، وعلامات العرج واضحة على جسده بعد أن فقد حديثًا إصبعين من إحدى قدميه بسبب إصابته بمرض السكري: “هامش الربح كان يصل إلى حوالي الأربعين بالمئة لكلّ كيلو غرام من الحلوى، لكنه الآن تراجع إلى ما دون العشرين بالمئة، وهذا الهامش لا يغطي أجور المحل ولا أجور العمال ولا كلفة تشغيل مولدة الكهرباء”.

“من أكياسهم تعرفونهم”

تبدو هذه الكلمات الثلاث توصيفًا حقيقيًا للحالة المزريّة التي تعصف بالسوريين والسوريات، أكياس صغيرة الحجم لا تحتوي إلّا على القليل من كلّ شيء بعد أن اعتاد الدمشقيون على الشراء بالقطعة وانتهى زمن الشراء والبيع بالكيلو، خيارَتين لا غير وثلاث قطع من الفلفل الأخضر وربطة بقلة وربطة بقدونس…

ارتفعت قيمة كلّ المواد الأساسيّة حتى وصل سعر ربطة البقلة إلى خمسمئة ليرة سوريّة (حوالي 25 سنت أمريكي)، والفتوش طبق رئيسي في رمضان، لكن لا بدّ من التقنين حتى في الفتوش، طبق صغير يوّزع محتواه عبر لقيمات محدّدة لكلّ شخص، واللسان العاجز يعزّي صاحبته حين تقول لنا: “القليل من كلّ شيء أفضل من أن يبقى فيُرمى”.

أما السَلَطَة فتعتمد على الخس والقليل من البندورة، لأنّ الخيار ارتفع في سعره حتى وصل إلى الألفي ليرة سوريّة للكيلو غرام الواحد (حوالي 70 سنت أمريكي)، والتنافس يبلغ أشده على ما يتبقى في صناديق الخضار من اليوم السابق: بندورة طريّة جدًا، بطاطا مُكسّرة الأطراف أو زرقاء الحواف، خسٌ ذابل وبصل طريّ صغير… يتنافس عليها الناس، فقط، لأنّها أرخص سعرًا، والسيّدة المُسنّة تحاول جاهدة لملمة أكبر عدد ممكن من أوراق الخس المرميّة على أرض الشاحنة التي تنقل الخضار، والتي يبرّر باعتها ارتفاع أثمانها بسبب تعذر تأمين المحروقات لنقلها وارتفاع أثمانها إن هي توفرت.

كلّ ما يبدو حجمه كبيرًا فهو ربطات خبز ليس إلّا، وبعض الأكياس التي تحتوي على كميّة كبيرة من الحشائش، واسمها المتداول هو “بيعة”. يُطلق عليها هذا الاسم لأنّها تُباع بسعر قليل، وهي عبارة عن كومة ذابلة من السبانخ أو السلق أو… تباع دون أن يتم وزنها.

بعد الارتفاع الجنوني في الأسعار وبعد تحوّل الخبز إلى مادة نادرة يصعب تأمينها ويحتاج الحصول عليها للوقوف طويلًا في الطوابير، اكتسب السوريون عادة جديدة، إذ باتوا يجمعون بقايا الخبز البائت أو المتيبّس أو سيء التحضير، ثم يضعونها في أكياس ويعلقونها على أيدي حاويات القمامة، كي يراها العابرون فيتشجعون على أخذها.

أراقب امرأة في مقتبل الثلاثين من عمرها، بجسد نحيل ووجه شاحب وعينين قلقتين وفم مطبق بشدّة وكأنّه ملصق بلاصق قوي، تتفحص أحد أكياس الخبز تسحبه وتقول محدثة نفسها: “أمّنا على خبز الفتة”، وهي تقصد فتة الخبز والشاي للأولاد. قد تكون هذه “الوجبة” هي طعام الإفطار أو السحور. تلمح السيّدة، على طرف الرصيف علبة لبن بلاستيكيّة بيضاء نظيفة مغطاة بورقة بلاستيكيّة شفافة، تعاينها فتكتشف داخلها نواة نبات كوسا طازجة نُزعت حديثًا، تفرح بها وتقول “أمّنا على طبخة مفركة كوسا للفطور”، تحمل غنيمتها وتمضي.

تراجع دور الجمعيّات الأهليّة

تقلّص دور الجمعيّات الأهليّة التي كانت تقدّم وجبات للصائمين بسبب قلّة المانحين وبسبب ارتفاع كلفة تأمين خطوط المساندة للمحتاجين، والذين قدّرت الأمم المتحدة أعدادهم بثمانين بالمئة من الشعب السوري، كما تراجعت، عددًا ومضمونًا، المنح الموّزعة من الجهات المانحة، من حيث محتوى الصناديق المُقدّمة، ومن حيث عدد الأسر المشمولة بأحقيّة التوزيع أو المنح.

باتت سلّة الإعانة حلمًا صعب المنال بعد أن تحولت وعبر عشر سنين مضت إلى شريك رئيسي يشارك السوريين والسوريات، حتى في اختياراتهم لوجباتهم اليوميّة. من الضروري الإشارة إلى أنّ “ماركة تجارية” جديدة صارت أشهر من نار على علم، اكتسحت الأسواق والحياة السوريّة، “ماركة” لها سحرها ووقعها الخاص ولها مواصفاتها الحصريّة، والتي تحولت إلى سمة عامة وإلى نمط اقتصادي موازي، وهي “الإعانة”، فصرنا نرى زيت الإعانة وبرغل الإعانة ورز الإعانة وشاي الإعانة، حتى صارت عبارة “الإعانة” رمزًا سوريًا ممهورًا بشعار منظمة الأغذيّة العالميّة ويتلاعب به تجّار الحرب وتجّار السوق السوداء.

في إحدى حافلات نقل الركاب المتهالكة، تجري سيدة اتصالًا مع زوجها، لتطمئنه بأنّها قد حصلت على صندوق إعانة، تجلس على مقعد جانبي حديدي ضيق، تبدو السيدة فَرِحة بما تحمله رغم علامات التعب الواضحة وقطرات العرق الغزير على جبهتها التي تحاول تجفيفها بمنديل ورقي متفتت. يطلب منها زوجها فتح الصندوق وإخباره عن كلّ المحتويات، تحاول تأجيل تلبية طلبه، لكنه يُصرّ على ذلك، تفتح غطاء الصندوق الكرتوني وتبدأ بالعد، تمتد الرؤوس القريبة لتشاركها تسميّة المواد الموجودة، وعندما تنتهي، يسألها غالبيّة الركاب عن كيفيّة الحصول على صندوق مماثل: “هل يحتاج عقد إيجار، شهادة وفاة، دفتر عائلة…؟”. يضيق صدر السيدة، تصمت بعد أن قالت: “ما بعرف شي، زوجي سجّل عليها”.

قرّرت سلمى وهي معلمة لغة عربيّة لطلاب المرحلة الثانوية ورغم اقترابها من سن التقاعد استضافة والدة زوجها في بيتها طيلة شهر رمضان، كان لديها حجة قويّة في ذلك، رغم ضيق ذات اليد ورغم ضيق المنزل. أعلمت زوجها بأنّ استضافة الأم سيوفر عليهم الكثير، فبدلًا من تكلفة ومشقّة إيصال الطعام إلى الأم يوميًا وبدلًا من دعمها بمبلغ مالي محدّد تغطي فيه نفقات الوجبات في رمضان أو تزويدها بمواد غذائيّة كالسمن والزيت والأرز واللحم، سيعيشون سويّة ويتشاركون الطعام القليل. برّرت قرارها قائلة لحكاية ما انحكت: “الطبخة صايرة وصايرة! وعندما ترى ما نأكله بأم عينها لن تطلب الأفضل أو الأكثر كلفة”.

مصائب كورونا “فوائد”

ربما كان من “محاسن” جائحة كورونا الفتّاكة ورغم حصدها لأرواح الكثيرين، ورغم حالة الهلع التي دبّت في حياة السوريين، خاصة في ظلّ عدم قدرتهم على اتباع كلّ إجراءات الوقاية المطلوبة أو تأمين نفقات العلاج بصورة شخصيّة، إلّا أنّها كانت ذريعة مواتية لتبرير عدم الالتزام بالدعوات العائليّة. يبدو أنّ قرارًا شبه جماعي قد أُبرم ونفّذ!  لا دعوات لأحد خارج نطاق الأُسرة الصغيرة نفسها، وإن تمت الدعوات تحت إلحاح الضرورة، فتقاسم الوجبات والأطباق هو أحد الحلول المتبعة تحت ضغط الغلاء المجنون وسوء الأحوال الاقتصاديّة.

تتبدل علاقة دمشق بأهلها إلى ما يشبه الخصومة، خصومة عاطفيّة وانعدام في التواصل. تتصدر الشكوى كلام الناس ولغتهم، ويبلغ الخوف منتهاه في عبارة “الله يجيرنا من الأعظم” وكأنّ كل ما يجري يقبل انحدارًا أكبر! أو يسمح لنفسه بفرض أوضاع كارثيّة أوسع انتشارًا وأكثر أذىً، وكأنّ السوريين والسوريات ينتظرون الأكثر سوءًا بكامل اليقين. لكنهم، وبرغم كلّ هذا يربون الأمل في زاويّة حادّة وضيقة في دواخلهم، علّها تنفرج أو تستقيم.

“هذي البلاد باتت ضيّقة حتى الاختناق وقاسيّة كلقمة خبز يابسة عافتها حتى الطيور الجائعة” يقول أحدهم. بات جليًّا أنّ الحياة الشاميّة قد بلغت درجة من الصعوبة لم تعد قابلة للاحتمال. يقول خالد (اسم مستعار)، النازح إلى دمشق أملًا بالنجاة: “كم أنا نادم على خوفي من ركوب البحر وترك هذه البلاد الخانقة”.

يقول متحسرًا وصدى أغنية تتردّد في الشارع؛ أغنية تقول كلماتها: “كلّ شيء ضاق، ضاق حتى ضاع”.

كاتبة سوريّة.

جكاية ما انحكت

———————————-

معالم أزمة الخبز في دمشق/ محي الدين عمّورة

يكاد لا يمر يوم دون أن أشاهد فيه طوابير من الناس المصطفين أمام الأفران بالعشرات والمئات، ورغم أن هذا المشهد بات مألوفاً لدي، كما لدى بقية سكان العاصمة السورية الذين يمرون أو يقفون يومياً أمام الأفران، إلا أن المنظر لا بدّ أن يسترعي انتباهك في كل مرة. بينما كنت أهمّ بكتابة تقرير عن أزمة الخبز، كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل في دمشق، وكان جميع أفراد عائلتي نياماً عداي، كنت أسهر باحثاً عن مفردات تصف هذا المشهد اليومي اللا-إنساني. أيُّ الكلمات بوسعها أن تصف الصورة الموجعة التي أراها يومياً!

فجأةً أحسست بالجوع، فذهبت إلى البراد – الذي تحوّل إلى نمليّة نتيجة الانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي – علّي أجد شيئاً أتناوله. وجدت رغيفاً ونصف من الخبز، وقبل أن أمد يدي إليه تذكرت أن الأولاد سيستيقظون باكراً للذهاب إلى المدرسة، وهم عادةً يتناولون بعض الطعام قبل ذهابهم، أو يأخذون معهم سندويشات إلى المدرسة. ألغيتُ الفكرة نهائياً، وتناولت بعض التمرات، وعدت إلى طاولتي وأوراقي. ربما هي مصادفة غريبة، أن تكتب أو تصف شيئاً تعيشه وتشعر به في لحظتها.

خفّ إحساسي بالجوع قليلاً، لكنه لم يتلاشَ. ابتعدتُ قليلاً عن واقعي للتفكير بعشرات ألوف الباحثين يومياً عن ربطة خبز، فما من سوريّ هنا إلا يقول بأنّ حاله أفضل من حال غيره، وهي كذبة يبدو أننا تعودنا على تعزية أنفسنا بها. أخذتُ أفكر في حال الناس الذين يعيشون هذا الإحساس يومياً، الذين يقفون ساعاتٍ طوالاً كي يحصلوا على خبز يسكّت جوعهم وجوع أبنائهم، وهو – أي الخبز – أبسط وأصعب ما يمكن أن يتناولوه خلال يومهم. اقتربتِ الساعة من الثالثة فجراً، ورغم الشعور بالجوع الذي عاد للتفاقم مع مرور الوقت، إلا أنّي تعبت وغلبني النعاس فقررت النوم، ولكن ليس لوقت طويل. ساعتان فقط واستيقظت.

– ليش أي ساعة بيسكر الفرن؟

– حسب ما يجي على باله، تسعة أو عشرة.

لتكتمل الصورة أمامي وأعيش المشهد بنفسي، قررت أن أذهب إلى الفرن لإحضار الخبز. في المكان الذي أعمل فيه، يقوم شخص يُدعى أبو عدنان بشراء الخبز وبيعه لنا. ربطة الخبز بمئة ليرة في الفرن، ونحن نشتريها منه بثلاثمئة ليرة. ورغم أننا ندفع ثلاثة أضعاف ثمنها، يبقى أفضل من الانتظار لساعات أمام أي من الأفران. ولكن بسبب تعطل سيارته منذ يومين لم يحضر الخبز. الساعة هي الخامسة صباحاً. قلت في نفسي سأذهب إلى الفرن، لن أجد الكثير من الناس وسأحصل على الخبز في أسرع وقت دون انتظار طويل. وصلت إلى الفرن فوجدت ثلاثة طوابير: اثنان للرجال وواحد للنساء، في كل طابور لا يقل العدد عن 30 شخصاً. سألت أحدهم أين علي الوقوف، فقال لي: أنت مدني ولا عسكري؟ فأجبته بأني مدني، فقال لي قف خلف ذلك الطابور. انتظرت نحو ربع ساعة، لم أرَ أحداً يخرج بالخبز من الفرن، فقلت للشخص الذي يقف أمامي: «ليش ما في خبز؟»، فنظر نحوي باستغراب، وأجاب: «للساعة ستة حتى يشتغل الفرن». أردفت بالسؤال: «وهي العالم من إيمت واقفة عالدور؟»، فقال: «كل واحد شي، بس يعني أول واحد أكيد قبل الساعة ثلاثة». عدت للسؤال مجدداً كمن صار سائحاً بفضل فرق السعر الذي أدفعه لأبو عدنان: «وبيضل واقف للساعة ستة حتى يشتغل الفرن؟»، فأجاب: «إي عادي، مو أحسن ما يجي ويوقف عالفاضي ويرجع بلا خبز!».

أموال مستوردي القمح محجوزة في لبنان

ازداد التدهور الاقتصادي في سوريا تدريجياً، حتى انفجر العام الماضي عندما وقف النظام عاجزاً عن شراء واستيراد القمح، سواء من خارج البلاد أو من المناطق السورية الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، والتي تشكّل معظم الأراضي المزروعة القمح في البلاد. يُلقي النظام بالمسؤولية على عقوبات قيصر والعقوبات الغربية، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في عدم توفُّر القَطع الأجنبي الكفيل بشراء القمح، فضلاً عن الأزمة المالية في لبنان التي كشفت عن وجود كميات كبيرة من الأموال لعدد من رجال الأعمال السوريين الذين يعملون واجهة لنظام الأسد، وهي التي كانت تتكفل بشراء كثير من الاحتياجات – على رأسها القمح – من الخارج، غير أن تجميد أموالها في البنوك اللبنانية حال دون قدرتها على مواصلة هذا العمل.

خبز الأسواق بعشرة أضعاف سعره في الأفران

كانت أعداد الناس قُبالةَ باب الفرن تتزايد بشكل كبير، في كل طابور ما يزيد عن 60 إلى 70 شخصاً، ونحن نتحدث عن فرن صغير في حي شعبي. يخرج رجل تجاوز السبعين من عمره من الطابور بعد أن أتعبه الوقوف، ليجلس أرضاً متّكئاً إلى الحائط بانتظار دوره. كان كل شيء طبيعياً، حتى أصبحت الساعة السادسة وبدأ الفرن بالعمل. هنا استبشرتُ خيراً بأنّ الانتظار لن يطول. كنت أرى بعض الأشخاص يحملون الخبز – البعض منهم بكميات كبيرة – ويمضون مع بقاء الطابور على حاله، وأنا ما أزال في مكاني لم أتقدم خطوة واحدة. ثم أصبحت أرى أشخاصاً يأتون مباشرة إلى شباك الفرن، لا ينتظرون أكثر من دقيقتين، فيأخذون خبزهم ويغادرون، معظمهم يرتدون ثياباً عسكرية.

بعد نصف ساعة وأنا لم أتقدم خطوة، سألت ذات الشخص: «مين هدول العالم؟»، فقال: «مشكَّل: جيش وأمن ودفاع وطني، وفي منهن بياعين». فبادرت بالسؤال: «ع أساس فيه دور للعساكر!»، فأجاب: «لأ، الدور بس للمتقاعدين، وفي منهن بيعملو حالهم عساكر بس منشان يوقفوا على دور العساكر لأنه بيمشي أسرع من دور المدنيين». أشار الرجل إلى أحد الخارجين بكمية كبيرة من الخبز قائلاً: «هاد الزلمة عنده محل براس الحارة، بيبيع الربطتين مع بعض بألف وخمسميت ليرة، وأحياناً الربطة الوحدة بألف ليرة إذا كان الخبز قليل. صاحب الفرن متفق معه وبيتقاسمو المربح. كلهم عصابة، صاحب الفرن والبياع والمفرزة». سألته عن العناصر بزي عسكري ويقفون بجانب الفرن: «هدول مفرزة أمن؟»، فقال: «لأ، هدول دفاع وطني، بس في أفران بيوقّف قدامها مفرزة أمن، وفيه أفران دفاع وطني».

هِبَات القمح الروسي لا تحل المشكلة

كانت روسيا، حليفة النظام والمورّد الأساسي للقمح، قد فرضت قيوداً على صادراتها من القمح، حتى تلك المتّجهة إلى سوريا، واكتفت بتزويد سوريا بمئة ألف طن طوال العام 2020، قالت إنها قدمتها كمساعدات إنسانية بحسب ما صرّح وزير خارجيتها سيرغي لافروف. وفي 2020، دمّرت حرائق المحاصيل حوالي 35 ألف هكتار من الأراضي الزراعية الخاضعة لسيطرة النظام، ما فاقم الأزمة. كما أدى انخفاض قيمة العملة إلى زيادة تكلفة الواردات، مثل القمح والوقود والأسمدة، فضلاً عن آلات إنتاج القمح والخبز وقطع غيارها. كذلك ساهمت أزمة الوقود في سوريا في زيادة أسعار القمح، لأن إنتاجه يعتمد بشكل أساسي على الديزل.

بالعودة إلى المشاهد المؤلمة على باب الفرن، نظرتُ خلفي لأجد طفلاً صغيراً.

– عمو، إنت بالمدرسة؟

– إي عمو، صف ثالث.

– إذا طوّلت ممكن تتأخر على مدرستك

– ما بيأثر، كتير أيام ما بروح عالمدرسة منشان جيب خبز

– طيب مافي حدا غيرك بالبيت يجي ياخد؟

– لا والله، أبي بيطلع خمسة الصبح على شغله، وأمي بتضل مع أخي الصغير بالبيت، وأنا بجي بوقف عالدور.

في طابور النساء، تجلس في الدور امرأة مسنّة على كرسي صغير جلبته معها لأنها لا تقوى على الوقوف لساعات. لم أتمالك واندفعت لسؤالها:

– خالة، ما في حدا يجبلك خبز بدال ما إنتي تجي؟

– لأ، ما في. بنتي متزوجة، أحياناً بتجبلي، بس مو على طول فيه

– ما عندك شباب؟

– عندي شبين، واحد مسافر وواحد بالجيش.

نساء أخريات مع أطفالهن، منهن من تحمله بيدها ومنهن من تجره خلفها. لكن المشهد الأكثر إيلاماً هو ذلك الشخص الذي يقف أمام الشباك بزيه العسكري ويتبع للمفرزة، يتفوه بالكلام البذيء مع معظم الناس، رجال ونساء، كبار وصغار، لا يحترم أحداً على الإطلاق، لأنه المكلَّف بتنظيم الطوابير ومنع التجاوزات، لكنه في الواقع المتسبب الأول بدخول المتطفّلين من هنا وهناك، إما نتيجة المعرفة الشخصية، أو الصحبة أو القرابة، أو الأهم من ذلك المنفعة المادية.

طلاب على الأفران بدل المدارس

في الأثناء، تأتي امرأة بكامل زينتها، فينادي بأعلى صوته: «عطيها خبز لزوجة الشهيد»، فأعود لذات الشخص أمامي، والذي يبدو أنه يعرف الحيّ وساكنيه وما يدور أمام هذا الفرن يومياً: «هي عنجد زوجها شهيد»، فيضحك بصوت منخفض ويجيب: «إي نعم زوجها شهيد، كان بالدفاع الوطني، استشهد بداريّا وقت كان عم يعفش». تقترب من الشبيح فتاة صغيرة بعمر ست سنوات تقريباً، فينهرها وينادي عليها: «ارجعي لورا». تعود الفتاة إلى أمها التي تقف في دور النساء، فتدفعها إلى الأمام مرة ثانية، فيتكرر نفس المشهد أربع إلى خمس مرات، والفتاة تذهب وتعود إلى أمها مُوبَّخة. قلت لها: «شو قصتك مو واقفة عالدور، ليش عم تبعتيها تتبهدل وترجع!»، فأجابت: «معي بطاقتين، وحدة إلي ووحدة لأختي، عاجزة ما عندها حدا يجبلها، وهو ما بيعطي غير بطاقة. لهيك بجيب معي البنت لتاخد ع بطاقة أختي. عم أبعتها منشان ما وقّفها عالدور. إذا أخدت قبلي، بتروح عالبيت بتلبس وبتروح عالمدرسة. لساتها صف أول، ونص الأيام ما داومت منشان الخبز».

في العام 2020، جاءت أزمة انتشار فيروس كورونا لتُفاقِم المعاناة، لكن النظام أعلن في شهر آذار(مارس) أنّه لن يرتفع سعر الخبز (خمسين ليرة سورية لربطة الخبز الواحدة حينها)، واكتفى بتوحيد بدء العمل في المخابز في توقيت واحد لمنع تهريب الدقيق على حد زعمه. أتبعه بعد أيام بقرار بيع الخبز عبر المعتمدين وفروع السورية للتجارة في إطار إجراءات التصدي لفيروس كورونا، لكن المشكلة لم تُحَلّ، فاتجه إلى طريقة أخرى في شهر نسيان (أبريل) من العام نفسه، وهو بيع الخبز عبر «البطاقة الذكية» في دمشق وريفها خاصة. ولكنّ الوضع بقي على حاله، فأصدر في شهر أيلول (سبتمبر) قراراً جديداً حدّد بموجبه كمية الخبز المباعة للمواطنين بناءً على عدد أفراد الأسرة، مدعياً أن هذا الإجراء اتُخذ لضمان العدالة في التوزيع، وللحد من الهدر في مادة الخبز ومنع الاتجار بالمادة في الأسواق.

المعتمَدون سبب إضافي لأزمة الخبز

يمر الوقت أمام الفرن وأنا ما زلت أراقب الناس، كلَّ واحد على حدة. تشعر أن وراء كل منهم ألف حكاية، ولكن ما يجمعهم هو البؤس البادي على وجوههم. تجاوزت الساعة الثامنة حين جاء دوري، وأخذت ربطتَي الخبز وعدت إلى بيتي، وأنا أدعو من كل قلبي لأبو عدنان أن يصلّح سيارته كيلا أعيش نفس التجربة مرة ثانية. ولكن هؤلاء الناس مجبرون على عيشها يومياً، لأن الخيارات الأخرى أصعب حتى من انتظارهم لساعات: إما الشراء من السوق السوداء بسعر يصل حتى 1000 ليرة للربطة الواحدة، وربما أكثر؛ أو البحث عن المعتمَدين المرخَّصين من النظام، وهم أسوأ من الأفران كما وصفتْهم صحيفة البعث التابعة لحزب البعث الحاكم؛ أو اللجوء إلى الخبز السياحي الذي أصبح رفاهية بعدما تضاعفت أسعاره قبل أيام قليلة، وبات سعر كيلو الغرام الواحد منه 1700 ليرة.

حال بقية الأفران ومن يقفون أمامها لا تقل مأساوية عما ذكرناه، بل إن بعضها يفوق ذلك. القصص المأساوية لا تنتهي، بعضها فقط يظهر للعلن. فقد نشرت صحيفة البعث خبراً من المزة عن حرمان نحو 200 عائلة من الخبز بسبب «مزاجية متعهد الفرن». ونشر المرصد السوري لحقوق الإنسان مقطع فيديو أظهر احتجاز مدنيين داخل حرم أحد الأفران في منطقة مشروع دمّر، حيث قام صاحب الفرن بإقفال الباب على الواقفين «عقوبة لهم بسبب بقائهم أمام الفرن رغم انتهاء الدوام». وكذلك نقل موقع بي بي سي عربي الصور الشهيرة لأقفاص حديدية وضعت أمام أحد الأفران في دمشق لتنظيم طوابير الخبز، وكأنّ نظام الأسد يؤكّد أنّ البلاد صارت سجناً كبيراً يُجبَر الملايين على العيش فيه. مقابل كل ذلك، هناك آلاف القصص والانتهاكات التي تُرتكَب يومياً أمام الأفران دون أن يسمع عنها أحد.

اخبزوا في بيوتكم ولا تنتظروا الدولة!

في 22 آذار (مارس) الفائت، نشرت منظمة هيومن رايتس ووتش تقريراً مطولاً عن واقع الخبز في سوريا وما يعانيه سكان البلاد يومياً. ذكر التقرير العديد من الأسباب التي أدت إلى ذلك، وحمّل النظام وحلفاءه مسؤولية ما وصل إليه حال البلاد بشكل عام، وواقع الخبز بشكل خاص. ورغم أن نظام الأسد وموظفيه دأبوا منذ اندلاع الثورة السورية على ترديد العبارة الشهيرة: «الخبز خط أحمر»، مع وعود دائمة بعدم رفع سعر الخبز، ألا أن سعر الربطة الواحدة ارتفع من 15 ليرة عام 2011 إلى 100 ليرة اليوم، أي تضاعف خلال 10 سنوات بنسبة تزيد على 550 بالمئة. كما بات اليوم يُوزَّع بموجب البطاقة الذكية بحصص يومية لأفراد الأسرة.

وكان من بين الحلول التي تفتّق عنها دماغ وزير الزراعة في حكومة النظام هو أن نعود «للخَبز في بيوتنا، وألا ننتظر الدولة، بل نساعدها». على الرغم من أن كلام الوزير قوبل بالكثير من ردود الفعل الغاضبة والمتهكّمة، خاصة مع معرفة الجميع بأن الطحين غير متوفر أساساً، وأنه إن توفر فأسعاره مرتفعة جداً، إلا أن البعض رأى في كلماته إشارةً على أن النظام بات عاجزاً عن تأمين لقمة الخبز لشعبه، وأنه سيُعلن عن إفلاسه علناً كما يدور الحديث الآن بين الناس.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى