نقد ومقالات

فالوذَجُ الورَقِيِّ ولوزينَجُ الرقْميّ…مَلامِحُ للثورةِ الجاريةِ في كوكَبِ الكُتُب/ أحمد بيضون

حين غادرتُ بيروت إلى بلتيمور بنيّةِ الإقامةِ في هذه الأخيرةِ – وكانَ ذلك قَبْلَ ما يَقْرُبُ من عامينِ – اتّسعَت حقائبي لكتابينِ ورقيَّينِ أو ثلاثةٍ لا أكْثَرُ. هذا بينَما خَلّفْتُ ورائي آلافاً عدّةً من الكُتُبِ جمَعْتُها في عُمْرٍ بحالِهِ فتكاثَرَت إلى أن اكتظَّ بها منزلايَ اللبنانيّانِ (ولو أنّ الجنوبيَّ مِنْهُما بقِيَ أكثرَ ترحيباً بالمزيدِ منها مِن البيروتيّ!) حتّى جازَ للعائلةِ التساؤلُ كلّما حلَّ على الرفوفِ المثقَلةِ ضيفٌ جديد: “متى تطردُنا الكتُب من بَيتِنا؟”

خَلّفتُ ورائيَ الكتبَ والبيتينِ والسؤالَ إذن (لأسبابٍ لا مسؤوليّةَ عَنْها للكُتب!) ولكن حَملتُ في حقيبةِ يدي الصغيرةِ لوحاً إلكترونيّاً مطويّةً جوانِحَهُ على نَيِّفٍ وألْفَيْ كتابٍ فَضْلاً عن موادَّ أخرى كثيرة… هذا اللوحُ (الذي أسْتَعْمِلُهُ الآنَ لكتابةِ هذه المقالةِ) يَزِنُ أقَلَّ من نصفِ كيلُغْرامٍ بقليلٍ ويُعادِلُ طولُهُ وعَرْضُهُ، على التقريبِ، طولَ كتابٍ واحدٍ من القَطْعِ الوسَطِ وعَرْضَهُ وتَقِلُّ سماكتُه عن سماكةِ كتابٍ من مائةِ صفحة.

بنِعْمةٍ من مكتبَتي الصغيرةِ هذهِ (وقد جمعتُها في عَقْدٍ وبعضِ عقدٍ من الزمنِ، وهي قابلةٌ للزيادةِ غيرِ المحدودةِ إلّا بِهِمّتي ومَوارِدي) أواصِلُ، في مَهْجَري الأميركيِّ، ما تطيبُ لي مواصلتُهُ من نشاطي اللبنانيِّ (وخُلاصَتُهُ القراءةُ والكتابةُ) من غيرِ شعُورٍ بفُقْدانِ شيءٍ من اللوازمِ المعتادةِ لهذا النشاطِ تقريباً. بلى أسألُ نَفْسي أحياناً: ما تَكُونُ حالي لو رغِبْتُ في الكتابةِ عن المجلّةِ القديمةِ الفلانيّة أو في مجرَّدِ الرجوعِ إلى بعضِ أعدادِها، وهي متوقّفةٌ عن الصدورِ وغيرُ مُرَقْمَنةٍ وتَقْبَعُ مجموعتُها على الرفّ الفلانيِّ في منزِلي الجنوبيّ؟ لا يُشْعِرُني السؤالُ ببَرْدٍ ولا بِحَرٍّ – والحَقُّ يُقالُ – وذاكَ لِعِلْمي أنّ الأمْرَ مستَبْعَدٌ، ومُسْتَبْعَدٌ ما هُوَ مِن قبيلِهِ أيضاً، في المَنْظورِ من أيّامي على الأقَلّ. لذا يبقى السؤالُ مُجَرّداً يُشْعِرُ، إنْ أشْعَرَ بشيءٍ، بِسَعْيٍ في غيرِ محلِّهِ إلى إعجازِ النفْس!

أعلَمُ أنّ ما سَبَقَ بعيدٌ جدّاً عن اسْتِنْفادِ المَوْضوعِ وأنَّ التحكيمَ بينَ الكتابِ الورَقيِّ والكتابِ الرقْمِيِّ أشْبَهُ شيءٍ بالتَحْكيمِ بينَ الفالوذَجِ واللوزينَجِ في قَوْلِ أَشْعَبٍ الطُفَيْليِّ وهو يَلْتَهِمُ ما قُدِّمَ إليهِ من هذا وذاك: “كُلَّما هَمَمْتُ بالحُكْمِ لواحدٍ أَدْلى الآخَرُ بِحُجَّتِه!” وأوّلُ ما يستحسَنُ التنويهُ بِهِ أنّ مزايا الكتابِ الرقميِّ لا تنحصرُ في خفّةِ حَمْلهِ أو في انعدامِ وزنِهِ أصلاً، بالأحرى، ولا في استغنائهِ عن الرفوفِ والخزائنِ وعزوفِهِ عن احتلالِ الجُدران. بل يزيِّنُ اقترانُ الوزنِ بالثَمَنِ، في العبارةِ الشائعةِ، أن نذكُرَ التدنّي النسبيِّ لكلفةِ الرقميِّ ولثَمَنِهِ، بالتالي، بالقياسِ إلى الورقِيِّ. ويصِلُ تدنّي الثَمَنِ إلى حَدِّ الإلغاءِ في حالةِ الكُتُبِ التي تُرَقْمَنُ بعْدَما تسقطُ حقوقُها، بالأقدميّةِ أو بغَيْرِها، من يدِ أصحابِها الأصليّين. فهذه، وقد باتت تحصى بالملايينِ وتتوزَّعُها لغاتٌ كثيرةٌ، يُمْكِنُ الحصولُ عليها بشَرْطِ حيازةِ التجهيزِ المناسبِ والصلةِ بالشَبَكةِ، لا غيرُ. هذا ويشتَمِلُ وضعُ انعدامِ البَدَلِ على ما هُوَ مقَرْصَنٌ من الكُتُبِ، وإن تَكُنْ الحقوقُ فِيهِ ما تَزالُ محفوظةً، وهذا أيضاً باتَ كثيراً وتتعاطاهُ، على الشبكةِ، مواقعُ كبيرةٌ وصغيرةٌ (يتقاضى بعْضُها بَدَلَ اشتراكٍ زهيداً ويَتَعاطى بَعْضُها النَصْبَ) ولا تُفْلِحُ في قَطْعِ دابِرِهِ جهودُ المكافَحة.

في المَساقِ نفْسِهِ، يُتيحُ انْعِدامُ الوزنِ المُشارُ إليهِ شراءَ الكتابِ الرقْمِيِّ عن بُعْدٍ، أي بِلا حاجةٍ إلى الانتِقالِ في طلَبِه، وهو ما باتَ ميسوراً في حالةِ الكتابِ الورَقِيِّ أيضاً إذ تُسَوِّقُهُ وتُسَوِّقُ غيرَهُ من السِلَعِ عن بُعْدٍ مؤسّساتٌ متفرّغةٌ بعْضُها عالميُّ النطاق. ولكنّ الكتابَ الرقميَّ يكونُ الحُصولُ عليهِ فَوريّاً أو شِبْهَ فوريٍّ عادةً فيما يستغرقُ سَفَرُ الكتابِ المادّيِّ وقتاً وقد تترتّبُ عليهِ نفَقةٌ مضافة. وما يصِحُّ في الشِراءِ عن بعدٍ باتَ يَصِحُّ في الاستعارةِ عن بُعْدٍ أيضاً: فإنّ كثيراً من المكتباتِ الكبرى اعتمَد نظاماً للإعارةِ بشُروطٍ تختلِفُ من حالةٍ إلى أخرى. وهو ما يُتيحُ للقارئِ المؤهَّلِ أن يُطالِعَ، من غيرِ أن يُغادِرَ مقامَهُ، كتاباً (رُبَّما يكونُ نادراً أو قديماً أو يَكُونُ مَخْطوطاً) تولّت رَقْمَنَتَهُ مكتبةٌ واقعةٌ في الجهةِ الأخرى من الكوكب.

تُيَسِّرُ هذه الميزاتُ كلّها، على نحوٍ غيرِ مسبوقٍ البَتّةَ، مهمّةَ الحصولِ على الكتاب. ويُقارَنُ اختِراعُ الكتابِ الرقْميِّ ودورانُهُ عَبْرَ الإنترنتّ بثوراتٍ تاريخيّةٍ كبرى، في هذا المِضْمارِ، أظْهَرُها اختِراعُ المطبعةِ ومفاعيلُه. فماذا الآنَ عن تجربةِ القراءةِ، بَعْدَ تحصيلِ الكتابِ، وهي تُمَثِّلُ الوجهَ الآخرَ المُتَمِّمَ للمقارنةِ بين الرقْمِيِّ والورقيِّ. هَهُنا أيضاً يُظْهِرُ الكتابُ الرقْمِيُّ طواعيةً غيرَ معهودةٍ في تَلَقّي القارئِ المُقْبِلِ عليهِ. فإنّ الشاشةَ المُضاءةَ تسمَحُ بالقراءةِ في العتمةِ، إذا عزَّ الضوءُ المُحيطُ لأيِّ سَبَبٍ كان. ويسمَحُ تكبيرُ الحُروفِ، وهو يحصُلُ بحركةٍ يسيرةٍ من الأصابعِ، بالقراءةِ المريحةِ لضِعافِ البَصَرِ أو لِمُتْعَبيه. ويستقْبِلُكَ الكتابُ الذي باشرتَ قراءَتَهُ مفتوحاً على الصفحةِ التي بلَغْتَها منه، إلخ.

هذا وهذهِ الميزاتُ الأخيرةُ متعلّقةٌ بالشُروطِ المادّيّةِ أو الخارجيّةِ للقراءة. فإذا سرّحْنا النَظَرَ الآنَ إلى المَضْمونِ وأدواتِ التعاملِ معهُ ووجوهِ الإفادةِ منهُ، طالَعَنا الكِتابُ الرقْمِيُّ بجديدٍ رائعٍ الجِدّةِ هنا أيضاً. وأوّلُ ما يُذْكَرُ، في هذا البابِ، ميزةُ “البحثِ” وهي تبيحُ استعادةَ المقاطِعِ من الكتابِ التي وردَت فيها كلمةٌ أو عبارةٌ يرغبُ القارئُ في الاطّلاعِ على ما يتعَلّقُ بها من الكِتابِ… فيُعْرَضُ عليهِ هذا كلَّهُ بتتابعِ الوُرودِ صفحةً بَعْدَ صفحة. وتَرُدُّنا وظيفةُ البحثِ هذه إلى الفَهارسِ المختَلفةِ التي تُزَوَّدُ بِها كتبٌ ورقيّةٌ كثيرة، وهي، في كلِّ حالٍ، تبقى ظاهرةً في موضِعِها من الكتابِ إذا خَضَعَ لرَقْمنةٍ لاحقة. على أنّ الاختِلافَ قائمُ بين الحالتينِ، وتفَوُّقُ الرقميِّ ظاهرٌ هنا أيضاً. فإنّ بعضَ الكُتُبِ تلحقُ بِهِ فهارِسُ وبعضَها يصدُرُ مجرّداً منها، ولا يُرادِفُ الغيابُ والحُضورُ دائماً غيابَ الحاجةِ إلى الفهارسِ وحُضورَها. ثُمَّ إنّ الماثلَ في الفهرسِ الورقيِّ مُقْتَصَرٌ بالضرورةِ على عناصرَ من الكتابِ مختارة. فيمكِنُ أن يَتَوَصَّلَ المُفَهْرِسُ إلى حَصْرِ الأعلامِ فعلاً في فهرسٍ خاصٍّ بِها. ولكنّهُ إذا أرادَ، مَثَلاً، حصْرَ المُصْطَلَحِ لم يُؤْمَن التعَسُّفُ من جهتِهِ في الأخْذِ والتَرْكِ ولم تُضْمَن بالتالي حَصْرِيّةُ الفهرسِ ولا اضطِرادُ تَجَنُّبِهِ لِما لا يَنْبَغي أن يَرِدَ فيه أيضاً.

وأمّا برمَجِيّةُ القراءةِ فتأذَنُ بالبَحث عن أيّةِ كلمةٍ في أيِّ كتابٍ يعتَمِدُها، سَواءٌ أكانَ الكتابُ روايةً أو تاريخاً لعلمِ الفيزياءِ وسَواءٌ أكانت الكلمةُ علَماً أو مُصْطَلَحاً أَمْ كانت غيرَ ذلك. هكذا يسعُك البَحْثُ عن اسمِ هيغل في كتابٍ لإنجلز ويسعُكَ البَحْثُ عن حرفِ جَرٍّ ما ترغَبُ في درسِ معانيهِ المختلفةِ في روايةٍ لفلوبير أو للطيّب صالح!

وفي رِكابِ مزيّةِ البَحثِ تقعُ مزيّةُ الإحالةِ الفوريّةِ، في متنِ النَصِّ أو في الحواشي، إلى أعمالٍ أخرى مختلفة. فتكفي نقرةٌ لرابطٍ في حاشيةٍ، مثَلاً، لـ”فَتْحِ” مقالةٍ ما، رقميّةٍ هي الأُخْرى، اتَّخَذَها المؤلّفُ مرجِعاً لبَعْضِ ما قَدَّمَ ويريدُ إطلاعَ القارئِ على ما ذَكَرَهُ منها. مثْلُ هذا لا يَأْذَنُ بِهِ الكتابُ الورقيُّ بطبيعةِ حالِه. وهو قد أصبَحَ كثيرَ الورودِ في المراجعِ العامّةِ المستجيبةِ لمُمْكِناتِ العَصْرِ الرقميِّ، فَنَقَعُ في الموسوعاتِ الجديدةِ، مَثَلاً، على روابطَ مفضِيةٍ إلى وثائقَ أو إلى خرائطَ وجَداولَ وموادَّ تَكْميليّةٍ أخرى… بل أيضاً إلى أشرطةِ فيديو في بعضِ الحالات. وما هذا إلّا التجسيدُ المتعلّق بالكُتُبِ لمزيّة عامَةٍ من مَزايا الأنترنتّ: ألا وهي التَفاعُليّة.

ولنُشِرْ هنا إلى أنّ الإحالاتِ الفَوْريّةَ (وهي رائجةٌ في المَجَلّاتِ العلميّةِ حيثُ سادَ الرقميُّ وهَيْمَنَ وباتت لمقالاتِ الباحثينَ روابطُ بحيثُ يُحيلُ بعضُها إلى بعضٍ) راحت تلقى إقبالاً متزايِداً في الصحافةِ الرقْمِيّة بعُمومِها. فيتآزَرُ التحريرُ والإخراجُ في التفَنُّنِ فيها إلى حَدٍّ أخَذَ يُغَيِّرُ ما كُنّا بَدَأْنا نألَفُهُ من مَظهَرٍ عامٍّ للصَحيفةِ الرقميّةِ نفْسِها. ولا يجانِبُ “الورَقِيّونَ” الصوابَ كَثيراً إذْ يأخُذونَ على هذه الإحالاتِ المتنوّعةِ إفضاءَها المُحْتَمَلَ إلى تشتيتِ انْتِباهِ القارئِ، فلا ينتهي إلى حصيلةٍ منظّمةٍ لِما اقْتَرَحَهُ عنوانُ المقالةِ بِدايةً. ولكنّ موضوعَ الصحافةِ الرقميّةِ موضوعٌ كبيرٌ قائمٌ برَأْسِهِ أشَرْنا، في معرِضِ كلامِنا على الكُتُبِ، إلى مَلْمَحٍ من مَلامِحِهِ المُسْتَجَدّةِ ولا يَتَّسِعُ هذا المَقامُ للتَبَسُّطِ فيه.

إلى ذلكَ كُلِّهِ، كانَ أنصارُ الوَرَقِيِّ يُشَدّدونَ إلى وقتٍ قريبٍ على الملاحظاتِ التي يُدَوِّنونَها في حواشي الكِتابِ والعلاماتِ والخطوطِ التي يُمَيِّزونَ بها مقاطِعَ استوقَفَتْهم وعلى مكانةِ هذا كُلِّهِ من علاقَتِهِم بالكُتُب. ولكنّ البرمجيّةَ لم تلبَث أن أخذت تَعْرِضُ على الشاشةِ أقلاماً تَتَنَوَّعُ ألوانُها وسَماكةُ خطوطِها يختارُ القارئُ بنَقْرةٍ ما يُناسبُ غرضَهُ منها ثمّ يخطُّ بإصبَعِهِ ما يشاءُ حيثُ يشاءُ من الصفحة. وهذا إلى ممحاةٍ يسَعُهُ استعمالُها لإزالةِ ما خَلّفَهُ القلَمُ أو تصويبِه: تكفي لذلك حركةٌ نظيفةٌ لا تُتْلِفُ الصفْحةَ ولا تُبْقي أثَراً غير مرغوبٍ فيه مَهْما يَكُن. حتّى أنّ البرمجيّةَ تُزَوِّدُك أيضاً علامةً تعادِلُ ثَنْيَ زاويةِ الصفحةِ في موضِعٍ من الكتابِ ترغبُ في العودةِ إليهِ لاحقاً!

ما الذي يبقى لفالوذَجِ الورَقيِّ يُقابلُ بِهِ هذا الهَرَمَ من المَزايا التي للوزِينَجِ الرَقْميّ: ما سَجّلناهُ منها وما قد يكونُ فاتَنا؟ في صعيدِ الواقِعِ المادّيِّ، يَبْقى القَليلُ بِخِلافِ ما زَعَمَ أشْعَب! تبقى أُلْفَتُنا الحِسّيّةُ لِمَلْمَسِ الكتابِ وحُضورِه بيْنَ أيدينا وتحتَ أنْظارِنا واعْتِيادُنا العَبَثَ بِهِ، ويبقى ما يُسَمّيهِ بعضُنا “رائحةَ” الورقِ معَ أنّ هذهِ مألوفةٌ، بخاصّةٍ، لوَرَقِ الصُحُفِ الرَديءِ حالَ خُروجِها مِن المَطْبَعةِ وللكُتُبِ إذا أَصابَتْها رُطوبةٌ تُورِثُ عَفَناً مُنْذِراً بالتَلَف. وتَبْقى الطُقوسُ الأنيسةُ لزيارةِ المَكْتَباتِ والتَلَبُّثِ فيها: ما كانَ مِنْها مَتاجِرَ وما كانَ دوراً للمُطالعةِ والبَحْثِ، وبَعْضُ هذهِ أشْبَهُ بالمَتاحِفِ أو الكاتدرائيّات. وتَبْقى “وَجاهةُ” الرُفوفِ المكتنَزةِ وجَمالُها في البيتِ أو في المَكْتبِ واستواءُ المكتبةِ “سيرةً” لصاحِبِها والأُنْسُ بحُضورِ الكُتُبِ عليها ولَوْثَةُ اقتنائها: ما قُرِئَ مِنْها وما لَنْ يُقْرَأ. ولَكِنَّ ابْنةَ أُخْتي الأميركيّةَ امْتَدَحَت بِحَماسٍ، على مَسْمَعٍ مِنّي، مَكْتبةَ الكُلّيّةِ التي تُزاوِلُ فيها أبْحاثَها مشيرةً إلى أنّها خاليةٌ من أَيِّ كِتابٍ على رَفّ! على أنّهُ يتعيَّنُ الالتِفاتُ، من الجهةِ الأُخْرى، إلى أنّ ما خَطّتْهُ البَشَرِيّةُ وما أخْرَجَتْهُ المطابعُ لم يُرَقْمَنْ كُلُّهُ إلى اليومِ، وإن يَكُن السَعْيُ جارياً على أقدامٍ وسيقانٍ كثيرة.

واضِحٌ، من بَعْدُ، أنّ الأمْرَ كُلَّهُ، على الجَبْهةِ الوَرَقيّةِ، مِزاجُ أجْيالٍ أخَذَت تَتَقَدَّمُ في العُمْرِ وتَضْؤلُ أَعْقابُها من جيلٍ إلى تاليه. هذا المِزاجُ وَجْهٌ عَزيزٌ من وُجوهِ حياةِ البَشَرِ، أو بَعْضِهِم، على الأصَحِّ، إلى أمْسِ بَلْ إلى اليَوْم! وما يَزالُ الحُضورُ الغامِرُ للكتابِ الورَقِيِّ حَوْلَنا يُسايِرُ هذا المِزاج. ولكنّ بعضَ الظواهرِ راحَ يُنْذِرُ بالضُمورِ المُضطَرِدِ لانتشارهِ وبِأَيلولةٍ شِبْهِ مُتْحَفيّةٍ له. ففضلاً عن الأزْمةِ العامّةِ التي تَضْربُ سوقَ الكُتُبِ مُشْتَمِلةً على المكتباتِ: من تجاريّةٍ يهجُرُها الزبائنُ وعامّةٍ يتضاءلُ روّادُها مع احتِيالِها في استِدراجِهِم، وعلى دورِ النَشْرِ التي تَعْصفُ بها أيضاً فوضى الرقمنةِ وازدهارُ القَرْصنة، تُسَجَّلُ ظواهِرُ من قَبيلِ “الطَبْعِ على الطلَبِ” تَشي بتَضعضُعِ الورقيِّ بدَوْرِها. فكأنَّما يُقالُ لك: “هَهْ! أنتَ من بقيّةِ السَلَفِ الصالِح؟ إذن نَسْحَبُ لك نسخةً ورقيّةً من الكِتاب!”

في هذا السِجالِ نفسِهِ، يُسَجِّلُ أنصارُ الورَقيِّ ما تورِثُهُ القراءةُ على شاشةٍ من تعبٍ للعينينِ ومن أرَقٍ في بعضِ الحالات. ولكنّ الشاشاتِ تتحَسّنُ لهذه الجهةِ أيضاً وتتَهاوى هذه الحُجّة. ما تزالُ الشاشةُ الممتازةُ مرتفعةَ السِعْرِ ولَكِنّ هذا لن يدومَ: ستُعالجهُ المنافسة. أمْرٌ أخيرٌ (ولكنّهُ ليسَ الآخِر!) يُسَجِّلُهُ الرقميّونَ من جِهَتِهِم: وهو أنّ الميلَ إلى تقليصِ الاعتِمادِ على الورقِ ينقِذُ كثيراً من أشجارٍ تحتاجُ إليها صِحّةُ الكوكبِ المُنْهَك ليَبقى في قَيدِ الحياة… المستقبَلُ للرقْمِيِّ إذن!

هذا ما اجتَمَعَ عندنا من معطياتِ سجالٍ مُسْتَشْرٍ، حيوِيٍّ للغاية، تتغيّرُ مُعْطَياتُهُ سريعاً على غِرارِ كلِّ شيءٍ يَنْتَمي إلى هذا المِضْمار. وما قَدّمناهُ بعيدٌ – لا رَيْبَ – عن الإحاطة. لم نُشِرْ إلى “الكتابِ المسموعِ” مَثَلاً! وهذا مع أنّهُ، وهو الصاعِدُ، قد يستوي “ثورةً في ثورةِ” الكتابِ الرقميّ. ولكنّ هذا حديثٌ يطول…   

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى