صفحات الثقافة

المنطقة العمياء: لماذا لا يمكنُ للعلم إنكارُ التجربة البشرية؟

26 مارس 2024

ترجمة: لطفية الدليمي

هذا النص مقتبس من كتاب:

The Blind Spot: Why Science Cannot Ignore Human Experience

المنطقة العمياء: لماذا لا يستطيع العلم إنكارَ التجربة البشرية؟

لمؤلفيه: آدم فرانك Adam Frank، مارسيلو غلايسر Marcelo Gleiser، إيفان ثومبسن Evan Thompson. الكتاب من منشورات معهد ماساتشوستش التقني MIT، الولايات المتحدة، وقد نشر في  آذار/ مارس 2024.

*****

رؤيتنا العلمية العالمية انتهت لأن تصبح عالقة في قلب متناقضة يبدو أنها مستعصية؛ الأمر الذي جعل أزمتنا الحالية أزمة معنى في جوهرها الأساسي. يبدو العلمُ في رؤية أولى وكأنّه تفّهَ الحياة البشرية وجعلها خاوية عديمة المعنى. السرديات الكبرى الخاصة بالكوسمولوجيا (علم الكونيات) والتطوّر البشري تعْرُضُنا – نحن البشر – وكأنّنا محضُ حادثة تصادفية ضئيلة حصلت في كون شاسع لا يهمّه أمرُنا في قليل أو كثير. لكن في رؤية ثانية لا يفتأ العلم يكشف لنا وبكيفية متواترة أنّ وضعنا البشري لا يمكنُ الفرارُ منه أو الانفصال عنه عند بحثنا الحثيث عن الحقيقة الموضوعية لأنّنا لا يمكنُ أن نقف بعيدًا ونتخلى عن كينونتنا البشرية. رؤية الحقيقة الموضوعية ليست فعالية مطلقة، ولا يمكن فصلها عن سياق التجربة البشرية.

تخبرُنا الكوسمولوجيا أنّ في مستطاعنا معرفةَ الكون وأصل بدايته وكيفية تطوّره فقط في سياق- ومن خلال– موقعنا الداخلي فيه وليس من خلال رؤية مطلقة منفصلة عنه. نحنُ نعيشُ داخل فقاعة معلوماتية محكومة بقوانين سببية خاضعة لحتميات محدّدة (المقصود بذلك المسافة التي قطعها الضوء منذ الانفجار الكبير Big Bang) ولا يمكن لنا معرفة ما حصل أو ما قد يحصل خارج ذلك النطاق. في جانب آخر من الصورة ترى  الفيزياء الكمومية أنّ طبيعة المادة ما دون الذرية لا يمكنُ فصلُها عن طرائقنا المستخدمة في بحثها واستكشافها. في علم الحياة (البيولوجيا) أيضًا يبقى أصل الحياة وطبيعتها – وأصل وطبيعة الوعي كذلك- معضلة ملغّزة برغم كلّ التطوّرات المدهشة التي حصلت في علم الوراثة والتطوّر الجزيئي والبيولوجيا الارتقائية. نحنُ في نهاية المطاف لا نستطيعُ التخلّي عن تجربتنا الشخصية وكوننا أحياءً عندما نسعى بكلّ قدراتنا المتاحة لفهم ظاهرة الحياة. يبدو أنّ العلم العصبي الإدراكي Cognitive Neuroscience هو أفضلُ من أصّل هذه الرؤية بين العلوم ووضعها في موضعها المناسب عندما أشار إلى أنّنا لا يمكنُ أن نفهم ظاهرة الوعي فهمًا دقيقًا من غير عيشها من داخل – وفي إطار- التجربة البشرية الحقيقية وليس بعيدًا عنها.

كلّ واحد من هذه الحقول العلمية المشار إليها أعلاه إنّما يدور في مداره البحثي الخاص، وله متناقضاته الإشكالية ومقارباته الخاصة بثنائيات على شاكلة الداخلي Inner في مقابل الخارجي Outer، والمراقِب The Observer في مقابل المراقَب The Observed. هذه الثنائيات الإشكالية هي في التحليل المعمّق إنعكاسٌ لمعضلة مفادُها كيف يمكننا فهمُ موضوعة إدراك قيمة “الذاتية Subjectivity” في كونٍ يُفتَرَضُ فيه، وبصورة مسبّقة، إمكانيّة وصفه وصفًا كاملًا مستعينين بمفردات علمية موضوعية من غير أية إشارة إلى العقل البشري. المتناقضة الصادمة في هذا الأمر تتجوهر في أنّ العلم لا ينفكُّ يخبرُنا أمرين متلازمين: أننا كائنات هامشية في المنظور الكوني للأشياء، وفي الوقت ذاته نحنُ نحوزُ أهمية مركزية في الواقع الذي نسعى ما استطعنا لكشف الغموض الكثيف عنه. لو أنّنا لم نفهم كيفية نشوء هذه المتناقضة الأساسية وما الذي تعنيه تمامًا فلن نكون قادرين أبدًا على فهم العلم كفعالية بشرية، وسنبقى أسرى رؤية قاصرة للطبيعة تقومُ على أساس كونها (الطبيعة) شيئًا يتوجّبُ علينا تحقيق السيادة عليه فحسب.

كلّ واحد من الحقول البحثية المشار إليها فيما سبق (الكوسمولوجيا وأصلُ الكون، الفيزياء الكمومية وطبيعة المادّة، البيولوجيا وطبيعة الحياة، العلم العصبي الإدراكي وأصلُ الوعي) يمثّلُ أكثر من حقل علمي منفرد بذاته. لو نظرنا للأمر بطريقة جمعية فَإنّ هذه الحقول البحثية تمثلُ السرديات العلمية الكبرى لثقافتنا المعاصرة حول أصل وطبيعة كلّ من الكون والحياة والوعي (العقل). هذه الحقول البحثية هي البنية التحتية الأساسية التي يرتكز عليها المشروع الحالي الساعي لبلوغ حضارة علمية عالمية. هذه الحقول البحثية التأصيلية هي أقربُ بشكل معاصر إلى الأساطير القديمة (أو لنقل إنها البديل المعاصر لها)، وغالبًا ما نشهدها في صيغة قصص حكائية هي بمثابة موجّه لنا يعيدُ تشكيل فهمنا للعالَم.

لكلّ الأسباب المذكورة أعلاه فإنّ المتناقضات التي تواجهها هذه الحقول البحثية هي أكبر من محض ألغاز أو أحجيات مفاهيمية أو نظرية غامضة. إنها في التحليل الدقيق إشارةٌ إلى المنظورات الكبرى غير المتوافقة Unreconciled بين الباحث عن المعرفة The Knower والشيء الذي نسعى لمعرفته The Known، وبين العقل والطبيعة، وبين الذاتية والموضوعية. التشظّي بين هذه الثنائيات هو مصدر تهديد بنسف كلّ جهودنا البشرية في الارتقاء بحضارتنا العلمية وإنجازاتنا التقنية المتعاظمة. تقنياتنا الحالية التي تدفعنا نحو حافات تهديدات وجودية كارثية إنما هي تجسيدٌ لهذا الانشطار المفاهيمي لتعاملنا مع كل شيء باعتباره مَصْدَرًا لكمية معلوماتية قابلة للتعامل الموضوعي الصارم ومنفصل عن الذات المتسائلة والمستكشفة. هذا الانشطار بين الذات الباحثة والموضوع المبحوث عنه – مقترنًا بالقمع المتزايد للذات في مقابل تعظيم الموضوع المبحوث الذي هو مادة المعرفة- هو بالضبط منشأ كلّ معضلة المعنى التي نعيشها ونختبرها يوميًا. الكارثة المناخية الطارئة، على سبيل المثال، هي معضلة نشأت بسبب تعاملنا مع الطبيعة على أساس كونها مصدرًا متاحًا لاستخدامنا ومنفعتنا فحسب بصرف النظر عمّا يمكن أن يقود إليه هذا الاستخدام الجائر من عواقب كارثية عالمية.

لو شئنا اختصار الموضوع فسنقول: برغم أنّ جنسنا البشري أبدع أكثر أشكال المعرفة الموضوعية سطوة ونجاحًا بالمقارنة مع كلّ الأزمنة السابقة، فإنّنا في الوقت ذاته نفتقدُ إلى ذلك النجاح وتلك السطوة في فهم أنفسنا. ابتدعنا أفضل الخرائط العالمية للعالم؛ لكننا نسينا الأخذ بنظر الاعتبار صُنّاع تلك الخرائط، وما لم نغيّر طريقة إبحارِنا في هذه الحياة فسنجدُ أنفسنا نغوصُ أكثر فأكثر في مستويات عميقة غير مسبوقة من الأزمات والارتباك والعجز عن فعل الأمور المناسبة.

نحنُ ندعو كلّ مصدر يتسبّبُ في مراكمة وتعميق أزمة المعنى في حياتنا البشرية بِـ(المنطقة العمياء The Blind Spot). في قلب العلم يكمنُ شيء لا نراه وهو الذي يجعل العلم ممكنًا، تمامًا مثلما توجد منطقة عمياء في قلب مجالنا البصري تجعلُ الرؤية أمرًا ممكنًا. في المنطقة العمياء البصرية يوجد العصب البصري، وفي المنطقة العمياء العلمية تتموضعُ تجربتنا المباشرة التي منها وفي سياقها يظهر كل شيء لنا ويصبح في نطاق إمكاناتنا الحسية المتاحة. هذا هو الشرط المسبق لكل ملاحظة أو عملية استكشافية أو مساءلة أو قياس أو تسويغ علمي. يتأسّسُ العلم على قاعدة أن تقع الأشياء في نطاقات إمكاناتنا الحسية البشرية، وهذا ما يستوجبُ تقديمنا الشكر لأجسادنا وقدراتها الفريدة من مشاعر وإحساسات وتبصّرات وإمكانات في التسبيب والمساءلة المعقلنة. التجربة العلمية المباشرة هي تجربة جسدية بشرية في نهاية المطاف.      

“الجسد البشري هو عَرَبة الوجود في العالم”- هذا ما يقوله الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو بونتي Maurice Merleau-Ponty؛ لكنّ التجربة البشرية المباشرة تتموضع خبيئة في المنطقة العمياء.

المأساة التي تفرضها علينا المنطقة العمياء هي خسارةُ ما هو جوهري وأساسي للمعرفة البشرية: تجربتنا التي نعيشها بكلّ تفاصيلها الحية. عندما لا نعيشُ هذه التجربة الحية فإنّ الكون والعالَم الذي يسعى لمعرفته واستكشافه يصبحان تجريدات تفتقد الحياة. العلمُ بالشكل الذي نعرف والذي صنع – وسيظلّ يصنع- الانتصارات الكبرى هو في حقيقته خلوّ من الشعور الإنساني حتى لو انبثق من قلب تجربتنا الإنسانية المباشرة في هذا العالم. هذا الانفصام بين العلم والتجربة الإنسانية المباشرة (وهو جوهر كينونة المنطقة العمياء) يتبدّى في قلب العديد من المعضلات والنهايات المسدودة التي يواجهها العلم في الوقت الحاضر عندما يتعامل مع المادة والزمن والحياة والعقل (الوعي).

المعرفة العلمية ليست نافذة تتيح لنا بلوغ رؤية موضوعية مطلقة للعالم. هي لا تضمنُ لنا منفذًا إلى واقع موضوعي خالد متعالٍ على الزمن والبشر ويمكن معرفته معرفة كاملة. هذه رؤية الإله God’s eye perspective، أو “رؤيةٌ مِنْ لا مكان View from Nowhere” على حدّ العبارة الشهيرة المنسوبة إلى الفيلسوف توماس نيغل Thomas Nagel. بدلًا من هذه الرؤية المطلقة فإنّ العلم هو علمنا البشري الذي لا يمكن اختزاله إلى علم منفصل عن البشر، وهو في النهاية تعبير مجسّدٌ عن كيفية تفاعلنا وتعاملنا مع العالم؛ لكنّ علمنا البشري هو في الوقت ذاته، دومًا، علمٌ مرتبط بالعالم ولا ينفصل عنه، وهو تعبير مجسّدٌ عن الكيفية التي بها ومن خلالها يتفاعل العالم معنا.

يكافح العلم بضراوة ليكون سردية قائمة على التصحيح الذاتي Self-Correcting Narrative، وكلّ سردية علمية ناجحة لا بدّ من أن تضم العالَمَ وتجربتنا البشرية عنه، الاثنان يتطوّران معًا، ولا إمكانية لتطوّر أي منهما بمفرده بعيدًا عن الآخر.

*****

آدم فرانك: أستاذ الفيزياء الفلكية بجامعة روتشستر الأميركية.

مارسيلو غلايسر: أستاذ الفيزياء والفلك والفلسفة الطبيعية بكلية دارتماوث الأميركية. له خمسة كتب منشورة. أنشأ بالاشتراك مع آدم فرانك مدوّنة 13.8 ضمن موقع Big Think الإلكتروني سعيًا للترويج لجمال العلم (الفيزياء بخاصة).

إيفان ثومبسن: أستاذ الفلسفة بجامعة برتش كولومبيا الأميركية.

الموضوع المترجم منشور بموقع Big Think الإلكتروني بتاريخ 7 آذار/ مارس 2024 تحت عنوان:

The “blind spot” in science that’s fueling a crisis of meaning

https://bigthink.com/13-8/why-science-must-contend-with-human-experience

المترجم: لطفية الدليمي

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى