الناس

عندما سحلوا الطيب تيزيني/  أحمد مولود الطيّار

من يوميات الثورة السورية على فيس بوك

العربي الجديد

١٦ مارس ٢٠٢٤

فر زين العابدين وسقط حسني مبارك. كان يوم جمعة وفارق التوقيت يجلعني أتلقى الأخبار وقد مضى على حدوثها ساعات؛ أجمل صباح في حياتي، السبت 19 آذار  2011، في غرفتي الصغيرة وقبل أنهض من فراشي أو أغسل وجهي ، سحبت اللاب توب، الفيس بوك السوري يغص بالفرح والأخبار تتوالى تباعا على صفحات الأصدقاء: درعا تنتفض!

طويت الفيس بوك ومباشرة إلى قناة الجزيرة، دقائق، ثم إلى العربية فالبي بي سي، كلًها يتصدّرها الخبر السوري وأطفال درعا حديث العالم. يا الله ماذا أفعل؟! أبكي ، أصرخ، أفرح، غرفتي الصغيرة تضيق بي، كندا كلّها تضيق بفرحي، أخيراً السوريون يتحركون، ينتفضون على ذلّهم، يهزون عرش الطاغية، يودعون الخوف ويعلنونها للعالم كله: نحن شعب نستحق الحياة.  خرجت من غرفتي إلى الصالون، كان عثمان – زميلي السوداني في السكن- يجلس وحيداً يتابع التلفزيون، نسيت كل خلافاتي معه وصرخت بفرح :” عثمان الثورة بدأت في سوريا”. ابتسم وبدا فرحاً، أو هكذا تخيلت، وقال لي: “ألم أقل لك أن السوريين سيتحركون”. كان دائما وفي أحاديثي القليلة معه يقول : “سيثور السوريون”.

الشعب السوري ما بينذل

عدت إلى غرفتي، إلى الفيس بوك. كانت الأيام التي سبقت 18 آذار ، والفيس بوك السوري ،حسب التعبير الذي نحته الكاتب والباحث اللبناني زياد ماجد، يؤرخ ليوميات الثورة بكل التفاصيل الكبيرة والصغيرة،  الأيام الثلاثة تحديداً، تنذر أن شيئاً كبيراً سيحدث و”الاستفتاء الحقيقي على بشار الأسد بدأ الآن ولن ينفع التزوير هنا” . كان هذا بوست قد كتبته على صفحتي بتاريخ 18 آذار 2011. وأتبعته ببوست آخر يتوقع وبسخرية تامة وعلى عادة ودأب النظام السوري في توزيع اتهاماته و”الشعب السوري متهم الآن باسقاط هيبة النظام” وذلك بعد المظاهرات والاحتجات التي بدأت تشغل الشوارع والأزقة السورية . ارهاصات 18 آذار بدأت مبكراً سواء عبر بعض الاعتصامات والمظاهرات الطيارة والسريعة أوالاعتصامات التي قامت بها المعارضة السورية أمام السفارة الليبية واضاءة الشموع على أرواح الليبيين الذي استشهدوا نتيجة قمع أجهزة الأمن الليبية،  أو عبر ما بات يعرف في التاريخ السوري المعاصر ب”حادثة الحريقة”، تلك الحادثة التي جرت اثر اهانة شرطي لشاب سوري في منطقة الحريقة في قلب دمشق، تطور الأمر  اثر  رد الشاب المهان على الشرطي بالمثل وتجمع فيما بعد عشرات ثم المئآت من المواطنين يرددون الهتاف الشهير “الشعب السوري ما بينذل” ، الذي غدا واحداً من الشعارات الكثيرة التي يرفعها المتظاهرون في المدن والبلدات السورية، مما استدعى تدخلاً فورياً من وزير داخلية النظام السوري، وعد فيه بمحاسبة الشرطي وقام بتهدئة المتظاهرين، في تصرف ربما هو الأول من نوعه يقوم به مسؤول كبير  منذ استلام البعث السلطة في سوريا؛ إنّما إلى جانب تلك البؤر والتجمعات الصغيرة التي كانت تنذر بالبركان السوري، كان هناك ما هو أهم: “منذ انطلاق الثورة التونسية وحتى اللحظة الحالية، تراكمت لدى المواطن السوري وعبر الصورة القادمة من الفضائيات، ثقافة تلفزيونية كنست وستكنس ثقافة البعث القائمة على التدجين والتلقين لتحل محلها ثقافة مفرداتها الكرامة والحرية والشعب يريد” . هذا البوست كتبته بتاريخ 23 آذار 2011.  أدرك السوري وفي زمن العولمة والفضائيات التي جعلت العالم حقا قرية صغيرة، أدرك أن قيده يمكن كسره والذل الذي يعيشه والقبضة الحديدية التي يرزح تحتها أن “اي في أمل” كم عبر ت احدى المواطنات السوريات على صفحتها بتاريخ 19 آذار  2011. كان للسقوط السريع لحسني مبارك وزين العابدين بن علي تأثير كبير في عزم السوريين على الخلاص من الوريث بشار الأسد.  إنما يدرك السوريون أن كلفة اسقاط طاغية كالرئيس الذي يتحكم بمجرى الهواء الذي يتنفسونه والذي ورث سورية عن ابيه الراحل حافظ الأسد ستكون كلفته عالية وعالية جداً، ولذلك تأخروا في ثورتهم فهم أخبر وأدرى الناس بوكر الأفاعي والثعابين الذي سيمدون أيديهم داخله، فلا حصانة لأحد عند نظام كالنظام السوري، كذلك تعقيدات الموقع الجيوسياسي لسوريا يدركها رأس النظام واستثمرها فيما بعد خير استثمار  لمقايضة السوريين والعالم: اما هو أو لتذهب سوريا من بعده إلى الجحيم وهو ما تجلى فاضحا عبر شعار مؤيديه “الأسد أو نحرق البلد”، كذلك هو على دراية تامة ب”الهندسة الاجتماعية” تلك التي برع فيها  أبيه، تلك الهندسة التي خبزت وعجنت المجتمع السوري كما يحلو لأي ديكتاتور هندسة المجتمع الذي يحكمه. يكتب، الكاتب ومعتقل الرأي السابق، بكر صدقي بوست على صفحته بتاريخ 16 آذار 2011 لخص في هذا البوست شراسة وعنف النظام وأي قمع سيواجهه الشعب السوري في ثورته القادمة:” رأيتهم يجرون المفكر طيب تيزيني بقسوة بالغة، اثنان أمسكوا به من تحت ابطه وجراه بعيداً عن ساحة المرجة، وثالث يرفسه على ظهره طوال الوقت، وحين اقتربوا من عامود الكهرباء على الرصيف خبطوا رأسه بالعمود.” .  بوست بكر حرضني لكتابة بوست بنفس اليوم أقول فيه:” عندما الطيب تيزيني يضرب ويهان وعندما عارف دليلة يسجن ويذل وعندما ميشيل كيلو يمضي 3 سنوات في المعتقل وعندما ياسين الحاج صالح يمضي زهرة شبابه في مختلف السجون السورية وعندما يعتقل الفكر ويزج بخيرة نساء ورجال سوريا في المعتقلات، أدرك الآن لماذا أحرق التتار مكتبة بغداد وسودوا مياه دجلة والفرات”.  في ذات التاريخ 16 آذار 2011 يورد الصحفي عامر مطر على صفحته، وهو الصحفي الذي تم اعتقاله ثلاث مرات فيما بعد واتهامه بتهم عدة، كتب الخبر التالي: ” معتقلوا مظاهرة 16 آذار في دمشق هم : عمر اللبواني، ياسين اللبواني، رنا اللبواني، عمار اللبواني، صبا حسن، عامر داود، هانيبال عوض –عشر سنوات- سهير الأتاسي، مازن درويش، سيرين خوري،ناهد بدوية، نارت عبد الكريم، محمود عوراني،بدر شلاش، كمال شيخو، أسامة نصار، ميمونة العمار، محمد أديب مطر، بشر جودت سعيد، سعد جودت سعيد، غفار محمد، دانة الجوابرة، وفاء اللحام، طيب تيزيني” . أي متابع للشأن السوري وبنظرة بسيطة على الأسماء سيجد من بينها أبناء وتلامذة العلامة الشيخ جودت سعيد داعية النضال اللاعنفي في سوريا، يدرك – هذه التعقيب مكتوب بتاريخ 26 -7 – 2015 – لماذا أفرغت سوريا من كافة  معتدليها ونشطائها السلميين بكافة توجهاتهم وايديولوجياتهم وأضحت الآن مرتعا خصبا للارهاب وداعش والنصرة والقاعدة.

في سياق  ذات احداث ذلك اليوم الرهيب في حياة السوريين والمظاهرة التي تجمهرت أمام مبنى ورزارة الداخلية بتاريخ 16-3-2011 المطالبة  بالافراج عن معتقلي الرأي، تكتب الروائية السورية سمر يزبك على صفحتها مفارقة مؤلمة : ” هنيبال ابن المعتقلة رغدا الحسن ، تركه والده عامر داود معي وقال: دقائق وأرجع لك. كان يمسك بيده ابنه الآخر، أنا وهانيبال ابن الأربع سنوات، نقف وسط ساحة المرجة، نلمح الأب والأخ الكبير ابن العشر سنوات يلقيان في حافلة مع معتقلين أخرين،يُضربون على أيدي قوات الأمن. يقول هانيبال: بدي روح معهن مشوار ، ليش راحوا وتركوني؟ أشيح بوجهه كيلا ينظر اليهما وهما يُضربان”.

يوميات الثورة جعلتني حبيس غرفتي وحبيس الفيس بوك والفضائيات التي كانت تخصص حيزاً كبيرا للثورة السورية. أهملت كل شئ، حتى دوامي إلى المدرسة بات متقطعاً، أمضي أغلب ساعات الليل والنهار اتلقط الأخبار وأقرأ ما يدور من تحليلات. كنت مبتهجا وسعيداً ولكن بحذر فهذا النظام لن يستسلم بسهولة ومبارك والعابدين تلامذة فاشلين في مدرسة حافظ الأسد القمعية والارهابية، والشعب السوري جففت فيه وعلى مدى العقود السابقة كل مظاهر السياسة وما تتطلبه الثورات من سياسة، السياسة كفن وتدبير ، إنما أيضاً ، وكنت أدرك ذلك كما الكثير من السوريين، أن انفجارنا سيحدث ولكن، كيف ومتى وما هي الكلفة؟  هذا كان في علم الغيب. وتتوالى اليوميات وكتابات الثائرين على النظام والموالين له يجمعها الفيس بوك بين دفاته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى