سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعنصوص

وصفات “فيسبوكية”/ سميرة المسالمة

7 مايو 2025

ضاقت بي العتمة في منزل خلا من سكانه، لا أملك جهازَ تلفزيون، أتشارك هذا الفقد مع كثير من العائلات السورية التي لا تملك رفاهية شراء الأجهزة الحديثة الموفّرة للطاقة، حيثُ التقنين الكهربائي أسلوبُ حياةٍ متواطئ ضدّ الرفاهية. لذلك، لا أستغرب جهل الكثيرين بأسماء الصحف الإلكترونية أو القنوات الفضائية المستجدّة، بينما يملك كلٌّ منهم صفحة “فيسبوكية”.

أنا وحيدة الآن، أمشي في شوارع مظلمة، وبعض رشقات الرصاص تشقّ طريقها إلى مسامعي تارةً، أو تسقط بالجوار تارةً أخرى. بعض كبار السن ممّن التقيتهم صدفةً، يتذكرونني كصحافية من زمن “ورق الجرائد”، فيفتحون معي أحاديث متنوعة، فيتحول المقهى الذي نحطّ فيه رحالنا بحثًا عن الضوء والإنترنت والقهوة، إلى منتدى حواريٍّ مرتجل. أفهم منهم أن وسيلتهم الوحيدة – منذ سنوات طويلة- لمعرفة ما يدور خلف جدران منازلهم هي وسائل التواصل الاجتماعي، وغالبًا (فيسبوك)، عبر هواتفهم “المعمّرة” شبه الذكية. بعضهم يراها منبرًا صالحًا للبحث عن الحقيقة، وآخرون يتحدثون عنها بلغة يائسة، كوسيلة لا يمكن الوثوق بها.

بالنسبة لي، قد لا يكون الموقف حادًّا في اتجاهٍ بعينه، لكن ما تشهده منصات التواصل من اصطفافات مسبقة، ليس منبعه فقط اختلاف الآراء، بل من تحوّلها إلى مساحات صراع، تستبدل طرح الفكرة بالحشد لرأيٍ معين، والحجةَ بالهجوم على المختلف معها، ويتحوّل النقاش إلى منصةٍ للتجريح، تجعل الشخص المستهدف إمّا أن يبادر إلى هجومٍ مضاد، فيصطف الجمهور في جبهتين يتراشقان الردود، فيطول السجال ويستديم، وقد ينتقل من العالم الافتراضي إلى الواقع حاملًا كل تبعاته، أو يستسلم الضحايا وينسحبون، لينضموا إلى جمهورٍ مُعادٍ لحريات الحداثة وتطوّراتها، فيحمّلها وِزر خطايا التحشيد وسوء النوايا، أو يتركون مساحتهم خاويةً يعصف فيها الصمت المستضعف أو المستسلم.

“طرح الأفكار وحشد التأييد لها على المنابر، يُمثّل إحدى الصناعات الخطيرة في المجتمعات الهشّة، ما يجعلها قادرة على نقل صراعاتها من عالمها الافتراضي إلى فوهات بنادق القتل الحقيقية على الأرض”

مما لا شك فيه أن حرية الرأي تُعدّ حجر الأساس في بناء المجتمعات المتماسكة والمستنيرة، لكنها، في لحظة فاصلة بينها وبين الانفلات الفوضوي، قد تتحوّل إلى رصاصة قاتلة، تمزق البنى المجتمعية، وتحول الصراعات الفكرية إلى اصطفافات سياسية. ففي العصر الرقمي الذي نعيشه، نحتاج إلى توازن دقيق يربط بين مفهوم الحرية ومسؤولية الرأي، وهما لا يفترقان، لأن الأولى تعني أنك تستطيع فعل ما تشاء، والثانية أنك تدرك أثر ما تفعله أو تقوله، وتتحمل تبعاته.

ومع تأييدي الدعوات التي أطلقها مؤسسو الفضاء السيبراني، ومنهم جون بيري بارلو، أحد مؤسسي مؤسسة الحدود الإلكترونية (1996): “إن الإنترنت يجب أن يكون فضاءً حرًّا من تدخل الحكومات، للحفاظ على حرية التعبير في العالم الرقمي”، لما تحمله من إمكانية إنتاج محتوى حر بعيد عن الرقابة والتقييد، حول أفكارٍ مجموع اختلافاتها يصب في تعزيز وتقوية الحقيقة، من خلال التصادم مع الخطأ، وطرح البراهين على ذلك، إلا أن استخدام وسائل التواصل للاعتداء على الحريات وكرامة الأفراد، ونشر خطاب الكراهية على شبكة الإنترنت، يشكّل تهديدًا جوهريًا للحياة والاستقرار في المجتمع، ويحتّم على حكومات الدول تبنّي رأي المديرة العامة لليونسكو، أودري أزولاي، القائل بـ “ضرورة تنظيم وسائل التواصل الاجتماعي للحد من انتشار المعلومات المضللة مع الحفاظ على حرية التعبير وتعزيز المعلومات الموثوقة”. ومن شأن ذلك فعليًا أن يعزز الوعي الرقمي، ويحد من الفوضى، ويخلق بيئة تواصلية تحترم حرية التعبير.

إنّ اتساع مساحات حرية التعبير يجب أن يقترن بنضج إدراكاتنا لمسؤولية الكلمة. وطرح الأفكار وحشد التأييد لها على المنابر، يُمثّل اليوم إحدى الصناعات الخطيرة في المجتمعات الهشّة، ما يجعلها قادرة فعليًا على نقل صراعاتها من عالمها الافتراضي إلى فوهات بنادق القتل الحقيقية على الأرض، ما لم يلبس المجتمع الدروع الواقية من فلتانها.

لنتذكر معًا أنه في زمن العتمة، تُضاء شاشات الموبايلات التي تحملنا إلى عوالم الآخرين، لنقرأ نصًّا جميلاً هنا، وقصيدة تائهة هناك. أحدهم يقلب مواجع الماضي، والآخر يتجاوز الحاضر إلى علوم المستقبل. مطابخ “التيك توك” عامرة بمختلف الوصفات، نأكل من على موائدها بعيوننا الحالمة، و”إنستغرام” حافل بصور التفاصيل الحياتية لمشاهير صغار وكبار، نساء ورجال، الجدات أيضًا حاضرات. عالم “إكس” متنوع كما “فيسبوك”، وفي فقرة أخرى علوم النباتات والأدوية، تتناقض الوصفات كأنها في سباق على الضحية، وأنا لا أعرف أيها أستطيع تصديقها! هذه قد تعيد لي سنوات عمري المهدورة تشرّدًا وبحثًا عن الحرية، تسدّ المسامات الهرمة، وتكوي دهاليز التجاعيد القاتمة، وتلك وصفات من كركم وكربونات ونشاء، وكل بهارات الهند والسند فوق البشرة، ومعها وصفات لحربٍ طائفية؟!

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى