شهاداتمراجعات الكتب

مذكرات فاروق الشرع على حلقات

فاروق الشرع: أدركتُ متأخّراً أن لدى بشّار الأسد ميولاً سيكوباتيّة (8)

07 مايو 2025

في ظلّ إصراره على الحل الأمني، أحكم بشّار الأسد قبضته على مفاصل السلطة والدولة، وكان للتدخّل الروسي، الذي أصرّت موسكو على أنه شرعي جاء بطلب الحكومة السورية المعترف بها دولياً، دور مهمّ في إنقاذ نظام بشّار الأسد عسكرياً، وفي مواجهة المحاسبة الدولية والعقاب، لا سيما في قضية استخدام الأسد السلاح الكيميائي ضد شعبه. ووجدت الأطراف الدولية في سورية مصالح متبادلة، وسارت التطورات وفق تفاهماتٍ معلنةٍ وضمنيةٍ، تفاهمات ستغيّر، برأي فاروق الشرع، النظام العالمي بصورة سريالية، ليشهد السوريون، تحت عنوان “الحرب على الإرهاب” والاحتفاظ بـ “بشّار أولاً”، نكبات تدمير وطنهم ومعضلات احتلاله متعدد الأشكال، ليظلّوا في حفرة عميقة، لا يعرفون متى وكيف سيخرجون منها.

——————————————————————————————-

أين حزب البعث الحاكم؟

في أوائل يوليو/ تموز 2013، وقبل يوم أو يومين من انعقاد المؤتمر العام لحزب البعث، دعيتُ على الرغم من انقطاعي عن العمل في مكتبي إلى اجتماع مصغّر ضم كلاً من أعضاء القيادة محمد سعيد بخيتان، وهيثم سطايحي وأسامة عدي. اقترح الرفاق عليّ أن أجتمع على انفراد مع الرئيس قبل المؤتمر؛ لأن مصلحة الحزب (كما عبّروا) تتطلّب حدوث هذا اللقاء. فرفضت الفكرة واستمر النقاش بيننا طويلاً. ولمّح بعضُهم إلى أن ما دار بيننا سيصل حتماً إلى مسامع الرئيس، فانصرفنا لأن مزيداً من النقاش لن يغيّر شيئاً. وأظنّ أن سطايحي نقل له مباشرة ما دار بيننا لأنه موضع ثقته، حيث كان يعمل في مكتبه قبل تعيينه عضواً في القيادة عام 2005.

كان واجبي الحزبي يحتم عليّ حضور مؤتمر حزب البعث في 8 يوليو 2013؛ لأنني كنتُ عضواً في قيادته. لم يبدُ فعلياً مؤتمراً للحزب، لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون. ورغم أنه جرت دعوتَنا إلى مؤتمر حزبي تحت عنوان اللجنة المركزية، فإن القيادة لم تُبلّغ بأسماء الحضور. وجدْنا عند انعقاد المؤتمر أنه لم يحضر كل أعضاء اللجنة المركزية المسجّلين مثل المحافظين، بل أضيف إلى الحضور أشخاصٌ معيّنون من الرئيس والأجهزة الأمنية. في الماضي، كان أعضاء المؤتمر يمثّلون الحزب سواء جاءوا بالانتخاب أو بالتعيين. لم تجرِ هذه المرّة أية انتخابات ولو شكلية من أي نوع، كالتي كانت تجري في الستينيات، وحتى أواخر التسعينيات، حين كنّا نبلغ الحزبيين المشاركة فيها حتى لو كانوا يعملون في بلد عربي يحظر وجودهم فيه.

افتتح الجلسة بشّار الأسد، وتتالى المتحدّثون في المؤتمر يكيلون سيلاً من المدائح للرئيس والانتقادات للقيادة القُطرية. ومن بين المنتقدين يوسف أحمد الذي كان قد صبّ جام غضبه على القيادة القُطرية من دون استثناء، ما عدا رئيسها بشّار الأسد بالطبع!

كان طبيعياً أن يتولّى الأمين القُطري المساعد بخيتان الرد على المداخلات، لكنه لم يكن جالساً على المنصّة الرئيسة كما جرت العادة. فاستدعاه الرئيس وأجلسه على مسافة محسوبة منه على كرسيٍّ انفلت رفاسه، فصار يعلو ويهبط بالأمين القُطري المساعد، والأسد ينظر إليه ويضحك! لا يستطيع وصف هذه الحالة بروحها الساخرة إلا الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف. … تم ضبط الكرسي بمساعدة من أحد الرجال الواقفين خلف الرئيس وراء الباب الموارب. وبعدما استعاد بخيتان أنفاسه ردّ على المنتقدين.

دخل عدد من الأشخاص مع الرئيس إلى غرفةٍ مجاورةٍ لصالة الاجتماع في القصر الجمهوري، وخرجوا منها بعد قليل ليعلن أسماء القيادة الجديدة من دون أي تصويت. لقد تم استبعادي أنا وجميع أعضاء القيادة القُطرية منها ما عدا بشّار الأسد، رغم أنه – بوصفه رئيس الجمهورية وأميناً لحزب البعث العربي الاشتراكي – يستمدّ رسمياً سلطاته التنفيذية والحزبية من هذه القيادة التي أسقطها ببساطة، لأنها من وجهة نظره العقائدية لا تؤيّد الحل العسكري.

جرى في ما بعد إغلاق مكتبي بوصفي نائباً للرئيس، وسُرّح معظم الكادر الوظيفي الذي كان يعمل معي بمن فيهم عمّال النظافة، ونُقلت قلة منهم إلى وزارات أخرى في الدولة. وبعدها وصلت رسائل إلى كل من كانت له علاقة بي، ويعمل في الدولة بمنع زيارتي أو التواصل معي.

بشار الأسد (وسط)، الأمين العام لحزب البعث الحاكم، يترأس اجتماعاً للقيادة القطرية في دمشق (25/6/2000/فرانس بر س)

بشّار الأسد (وسط) يترأس اجتماعاً للقيادة القُطرية في دمشق (25/6/2000 فرانس بر س)

التهديد الأميركي الخلّبي

جرى استخدام السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية في 21 أغسطس/ آب 2013، وقدّر عدد الضحايا بحوالى 1400 فرد بينهم أطفال. وقبل ذلك بعام، كانت الإدارة الأميركية قد أعلنت أن استخدام السلاح الكيميائي خطٌّ أحمر. خصّص مجلس الأمن جلسة للاستماع إلى أيان ألياسون مساعد الأمين العام للأمم المتحدة حول استخدام السلاح الكيميائي في سورية، وطالب بفتح تحقيق حول هذه المسألة المتعلقة بالسلاح الكيميائي المحرّم دولياً، والتي يمكن أن يُحال مرتكبوها إلى محكمة الجنايات الدولية.

باشر باراك أوباما بحشد الأساطيل وقاذفات توماهوك والصواريخ الذكية، واختار مواقع حكومية سورية، وأعطى أسماء المستهدفين وأماكن وجودهم في دمشق! لم يكن التهديد الأميركي جاداً حقاً، لا سيما بعد إسراع روسيا، بطلب من واشنطن، في عقد صفقة مع سورية لنزع مخزون الأسلحة الكيميائية. اجتمع سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي وجون كيري وزير الخارجية الأميركي على الفور، وصدر بالإجماع قرار عن مجلس الأمن رقم 2118 في 27 سبتمبر/ أيلول 2013، طالب بتدمير مخزون الأسلحة الكيميائية ونزعها. تنفّس السوريون الصعداء، لأن الضربة الأميركية من الصواريخ الذكية قد لا تصيب أهدافها المحددة، ولكن قد تصيب بعض السوريين الأبرياء.

في جلسة لاحقة له في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2013، تبنّى مجلس الأمن تشكيل لجنةٍ من هيئة حظر الأسلحة الكيميائية بالاشتراك مع المجلس على أن ينتهي تدميرها لمخزون سورية في يونيو/ حزيران 2014. على الرغم من ذلك، تواصلت المزاعم حول استخدام الأسلحة الكيميائية في سورية؛ إذ في 22 مايو/ أيار 2014، أنقذت روسيا في مجلس الأمن السلطات السورية من اتهاماتٍ تلطخ أيديها بدماء آلافٍ من أرواح الأبرياء السوريين، وحالت دون محاسبتها أمام محكمة الجنايات الدولية، وذلك باستخدامها الفيتو للمرة الرابعة في مجلس الأمن.

انتهز سيرغي لافروف في لقاءاته وتصريحاته التراخي الأميركي، فطالب الولايات المتحدة بتصنيف جبهة النصرة عام 2014 منظمةً إرهابية. انتهز كيري الفرصة أيضاً، وأبلغ بعض فصائل المعارضة السورية عندما اجتمع معها بلقاء في نيويورك بأنه يجب ألا تتوقع أن تقاتل الولايات المتحدة إلى جانبها، بل “نحن الذين نتوقع منكم أن تقاتلوا لمصلحتنا بسورية”.

استغلّ الإبراهيمي فرصة هذا التفاهم الروسي – الأميركي، فأبدى حرصاً شديداً على جمع الطرفين السوريين: الحكومة والمعارضة للمرّة الأولى عام 2014 في جنيف. لكن الاجتماع فشل ووصل الطرفان السوريان إلى طريق مسدودة بعد جهد بذله الإبراهيمي لم يقابل بجهود مماثلة روسية – أميركية! أصر الوفد الحكومي السوري على أن يكون الإرهاب في رأس جدول الأعمال مع المعارضة وفي كل الاجتماعات. كما لم تستثمر المعارضة وتسأل وفد النظام عن تعريفه للإرهاب.

لم يغضب الأميركيون من استخدام الفيتو الروسي، واستمرّت الاتصالات بينهم على الأقل في الأجواء السورية. وكان التفاهم الروسي – الأميركي يجري في السر، ولا يتعدّاه إلى دول أخرى.

استقالة الأخضر الإبراهيمي

لمن يتذكّر القانون الدولي، يعرف أن جميع القرارات الصادرة عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هي جزء من القانون الدولي، وما كانت لتمر لولا موافقة الحليف الروسي، بدءاً من بيان جنيف الأول عام 2012 وصولاً إلى القرار 2254، اللذين أقرهما في مجلس الأمن على مستوى وزراء الخارجية.

كان تجاهل هذين القرارين من الدولة في سورية يعني استبعاد الحلّ السياسي والاستمرار بالحلّ العسكري، ومواصلة تدمير البلد. كان واضحاً تجاهل الرئيس بيان جنيف وقرارات الأمم المتحدة بإعلانه عام 2014 عن إجراء انتخابات رئاسية لسبع سنوات أخرى؛ أي إلى عام 2021، وترشيح شخصين آخرين معه (شكلياً) ليلغي إحساس الناس بتفرده بالحكم، لكن النتائج أكدت التصور الاستبدادي الذي حاول نفيه بشق الأنفس.

تضاعف حنق الرئيس بشكل خاص، حينما صرح الإبراهيمي في 14 مارس/ آذار 2014 بـ”أن إجراء الانتخابات الرئاسية في سورية سيعيق أيّ عملية سلام بين الأطراف المتناحرة”. سارعت صحيفة الوطن السورية في افتتاحيتها شبه الرسمية إلى توجيه نقد لاذع إلى الإبراهيمي في 3 إبريل/ نيسان 2014 واصفة الرجل بأنه “لم يكن يوماً وسيطاً نزيهاً، بل كان طرفاً في مشروع الشرق الأوسط الجديد”. وصارت استقالة الإبراهيمي وشيكة، لا سيما مع شكواه منذ بداية مهمته بأن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ.

لم أذهب، بطبيعة الحال، إلى صندوق الاستفتاء للتجديد للرئيس بشّار الأسد عام 2014، قناعة مني بأن هذه الانتخابات فاقدة الشرعية، وخصوصاً أنها تجري ونصف الشعب السوري بين لاجئ إلى الخارج ونازح في الداخل، فضلاً عن الدمار الهائل في معظم المدن والبلدات السورية. واستقال الإبراهيمي في مايو 2014، وحل محله مبعوث عن الأمم المتحدة هو ستيفان دي ميستورا، الذي اعتقد بأن قرار مجلس الأمن 2254 سيسعفه في إيجاد الحل السحري للأزمة السورية.

التدخّل الروسي ومسار فيينا

بعدما أفشل الرئيس بشّار الأسد الحوار الوطني، وأجهض بعثة المراقبين العرب برئاسة محمد مصطفى الدابي، وأحبط المساعي الدولية ممثلة بكوفي عنان، وتخلّى عن الجهود العربية والدولية ممثلة في الأخضر الإبراهيمي، كما تخلى عن المبعوث الجديد ستيفان دي ميستورا، تشجّع الروس على التدخل عسكرياً في سبتمبر 2015 لكي يحولوا دون سقوط الأسد وانهيار النظام في دمشق. اعتبر الروس أن تدخلهم شرعي، لأن الطلب جاء من الحكومة السورية. لم يكن هنالك اعتراض دولي جدّي من أي طرف إقليمي أو دولي، باستثناء بعض السجالات الإعلامية المتهكّمة من واشنطن ضد التدخل العسكري الروسي. لكن حقيقة الأمر أن التدخّل الروسي في سورية أرضى الأميركيين بانضمام روسيا إلى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وأرضى النظام السوري للتخلص من “المعارضة السورية سلمية كانت أم مسلحة”، وأرضى الغرور الروسي العسكري بالإعلان عن إطلاق صواريخ فرط صوتية من بحر قزوين إلى شمال سورية.

حصلت روسيا بعد هذه التفاهمات على قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية 49 عاماً، وحصلت الولايات المتحدة على مواقع عسكرية استراتيجية في شرق سورية من دون جهد يُذكر. في هذه الأجواء المشحونة بالخيبات والتمنّيات، وبعد التدخل الروسي الجوي، عُقدت اجتماعات مصغّرة في فيينا في 23 أكتوبر، لإيجاد حل سلمي للأزمة السورية، ضمّت سيرغي لافروف، وجون كيري، وعادل الجبير عن السعودية، وفريد الدين أوغلو عن تركيا. ثم عُقد اجتماع آخر موسّع في 30 أكتوبر من العام نفسه بمشاركة إيران. لكنه مع ذلك لم يحقق تقدمّاً رغم أنه كان أكبر تجمّع إقليمي ودولي على مستوى الوزراء ضم الاتحاد الروسي، والولايات المتحدة، والجمهورية الإسلامية الإيرانية، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، وخمس عشرة دولة أخرى، فضلاً عن مشاركة الأمين العام للأمم المتحدة، ومفوضة الاتحاد الأوروبي، والمبعوث الخاص ستيفان دي ميستورا.

ظهرت بعد هذا الاجتماع مجدّداً مماحكات إعلامية بين طهران والرياض، وسجالات سياسية بين واشنطن وموسكو، لا سيما في سياق تمدد حلف شمال الأطلسي (ناتو) شرقاً وظهور المسألة الأوكرانية بتعقيداتها المعروفة؛ الأمر الذي وتّر الأوضاع بدلاً من أن يساعد على حلها. عُقد اجتماع آخر في فيينا نفسها في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني، طالب بوقف إطلاق النار والبدء بعملية انتقالية في سورية، لكنه لم يحقّق تقدّماً في حل الأزمة، مع أن التنسيق بين الشريكين الرئيسين، الروسي والأميركي، ظل مستمراً في الأجواء السورية، حيث إن “الاختلاف في الرأي لا يفسد للودّ قضية”!

تواصلت عملية اجتماعات فيينا بعقد اجتماع آخر في 14 ديسمبر/ كانون الأول 2015. لم يحقّق الاجتماع خرقاً مهماً لحل الأزمة السورية، لكنه وضع النقاط على الحروف للمرّة الأولى، حيث صدر عن مجلس الأمن القرار رقم 2254 في 18 ديسمبر 2015.

في لقاءات كيري مع كلٍ من لافروف والرئيس بوتين في موسكو، ارتأوا ضرورة اجتماع الحكومة السورية مع المعارضة قبل مطلع السنة المقبلة، وجرى الاتفاق على تكليف الأردن بتحديد الفصائل المسلحة السورية التي لا تعدّ إرهابية، وتكليف السعودية بجمع فئات المعارضة السلمية مع بعضها. ظهرت منصّتا موسكو والقاهرة للمعارضة على سطح الأحداث، فجرى ضمّهما إلى اجتماعات الرياض-1 والرياض-2. لكن الخلاف ظلّ قائماً بين موسكو وواشنطن حول مستقبل الرئيس بشّار الأسد، فلافروف فضّل ترك مصيره إلى الشعب السوري، بينما رأى كيري أن لا مستقبل للأسد في سورية. الموقفان الروسي والأميركي غير متباعدين كثيراً، لأن الحرص على بقاء الأسد كان بالنسبة إلى الروس معلناً، أما بالنسبة إلى الأميركيين فطابعه سري للغاية.

بعدما اطمأنت روسيا إلى أن تدخّلها العسكري في سورية لم يلقَ اعتراضاً جدّياً من الولايات المتحدة، صعّدت من وتيرة استخدامها الفيتو في مجلس الأمن، وخصوصاً في معرض انتهاكات النظام السوري الجسيمة لحقوق الإنسان. تجاهل الروس تنفيذ القرار 2254، ولم يكن للأميركيين اعتراض على هذا التجاهل، لأنهم لم يكونوا متحمّسين لتطبيقه حينها؛ فالروس يحتلون سماء سورية، فيما يحتلّ الأميركيون شرقها.

بعد الإجهاز على آلاف السوريين من المعارضة المسلحة والسلمية بصواريخ المقاتلات الروسية في شرق حلب، جرى إطلاق روسيا وإيران وتركيا، بوصفها دولاً ضامنة، مسار أستانة عام 2017. واخترع بوتين (المشهور بحسه الأمني على المستوى العالمي) مصطلحاً أطلق عليه مناطق “خفض التصعيد”، التي تعني واقعياً أن روسيا غير قادرة على وقف القتال في كل الأراضي السورية بل خفضه فقط.

كلمة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أثناء عرض عسكري بقاعدة حميميم في محافظة اللاذقية بسورية، 11/ 12/ 2017 (فرانس برس)

بوتين يلقي كلمة في أثناء عرض عسكري في قاعدة حميميم بمحافظة اللاذقية (11/12/2017 فرانس برس)

ليست هذه المصطلحات الجديدة المتعلقة بالدول الضامنة ومناطق خفض التصعيد عصيّة على الفهم. لكن كيف يمكن تبرير نقل مقاتلي مناطق خفض التصعيد في “الباصات الخضر” إلى الشمال السوري؟ إذ لو تم الأخذ بالافتراض أن الشمال السوري سيكون ساحة لتأهيل المعارضة المسلّحة ليقبلوا بالتسوية السلمية، فلماذا لم يترك المعارضون حيث هم ويجري تأهيلهم؟

كان في إمكان تركيا أن تصبح ذات تأثير أكبر من تأثير اللاعبين الآخرين بحكم العلاقات التاريخية والحدود الطويلة مع سورية التي لا تتوفر لدى الروس والإيرانيين، وخاصة أن مسؤولية حراسة الحدود السورية – التركية الطويلة تقع على عاتق تركيا منذ توقيع اتفاقية أنقرة بعد الحرب العالمية الأولى في عام 1923.

السيكوباتية السياسية

لم يكن مستغرباً في خضم الأزمة السورية أن يتهامس بعض المواطنين بأن رئيسهم أصبح لديه سلوكٌ لا ينسجم مع ذكائه العلمي، حيث دأب بعض الكتّاب والمعلقين الاستراتيجيين على وصف هذه الحالة بـ”الانفصال عن الواقع”، وآخرون بـ”الشعور بالعظمة”، الذي قد يصيب بعض الحكّام الذين لا يتخلون عن كرسي السلطة، بذريعة أن هناك قضايا كبرى بانتظارهم.

أدركت، مع الأسف، متأخّراً وفي خضم الكارثة التي عصفت بسورية منذ عام 2011، أن لديه بعض الميول السيكوباتية، وهي حالة نفسية يفتقد أصحابها كلياً المشاعر؛ فلا خوف من العواقب، ولا شعور بالندم تجاه الخطأ، ولا تفاعل مع آلام الناس أو حتى هموم المحيطين به. قد تبدو بعض هذه الصفات، أول وهلة، صلابةً أو جسارة، لكنها جسارةٌ تفتقد بشدة الحكمة عندما تصبح الأمور أشد تعقيداً والمواقف أكثر صعوبة. ولعل المجازفات السياسية لإيران وروسيا المرتكبة طوال سنوات الأزمة، جاءت من الإدراك لهذه المواصفات التي اكتشفتاها في شخصيّته بحكم معرفتهما الطويلة بالداخل السوري.

لقد كان الرئيس بشّار نرجسياً لا يعرف دواخله إلا عدد محدود من المسؤولين الآخرين، منهم نبراس الفاضل الذي كان مقرّباً جداً من الرئاستين السورية والفرنسية، والذي استدعاه من فرنسا؛ إذ لا بد من أن الفاضل اكتشف أن اهتمام الرئيس بالخبرات الأوروبية لم يكن فعلياً في مجال النظم الإدارية، وإنما لتسويق صورته وصورة زوجته كلوحة فنية من تراث الغرب الأوروبي.

كان يرسل قبل أي زيارة رسمية إلى دولة أوروبية مسؤولاً سورياً ليتفق مع وكالات الأنباء والصحف لتغطية زيارته برفقة زوجته؛ فتتكلم هذه الوكالات عنه وعن أناقة زوجته، التي ترتدي أحدث ما صمّمته دور الأزياء العالمية، مثلما جرى حين أرسل وزير السياحة سعد الله آغا القلعة قبل الزيارة الرسمية إلى بريطانيا. كما كان من المعروف أيضاً تعاقده مع إعلاميين أجانب لتلميع صورته وصورة زوجته. ومع ذلك، نشر أحد الإعلاميين كتاباً ينتقدهما فيه.

بات من الملاحظ، حتى في خضم الكارثة التي ألمّت بسورية، أنّ اسمي الرئيس وزوجته كانا طاغيين على كل شيء في الفضائيات ونشرات الأخبار العالمية، بدلاً من اسم سورية وجيشها وقواتها المسلحة، حتى إن صوره تصدّرت الليرة السورية من دون شعور بالإحراج مع الوضع الاقتصادي المتردي، ودونما اكتراث أن النظام دفع من دم السوريين في حربه ضد المؤامرات الدولية أكثر مما دفعه السوريون في حروبهم من أجل فلسطين.

وعلى ذكر شعوره بالزهو، من منّا لا يتذكر خروج الرئيس بشّار إلى إحدى شرفات قصره منتشياً من فرط السعادة لـ “انتصار الروس”، ليعلن إعادة حلب إلى سيطرة الدولة عام 2016، وكأنه اعتبر ما قبل حلب ليس كما بعده، كأنه بداية تقويم جديد مثل ميلاد السيد المسيح! كان الرئيس أيضاً يمارس العناد في غير محلّه ويتراجع عن قرارات أو مراسيم كان قد طلبها من وزرائه بسرعة قياسية، ثم يلغيها قبل أن يجف حبر توقيعه عليها. وبوصفه مسؤولاً أول، لا يعتبر الرئيس نفسه مسؤولاً عن المراسيم التي يوقع عليها: هناك رئيس حكومة ووزراء ومسؤولون عديدون يجب أن يتحمّلوا مسؤولياتهم كما يقول، وينفّذ كل واحد منهم ما هو مطلوب منه! وخير مثال على ذلك تراجعه عن الحوار الوطني الذي بدأ بمبادرة منه وكلّفني بترؤسّه، وهو يعلم أن هدفه بناء مجتمع سوري يتساوى فيه المواطنون في السلطة أو خارجها.

ولا يشعر الرئيس الأسد بأن كل السوريين مواطنوه؛ فإهمال جزء كبير منهم أمر لا يقضّ مضجعه. لقد بات من الصعب على المحيطين به النفي أن الرهانات الإيرانية والروسية على سورية لم تستمدّ فعلياً من هذه الصفات الشخصية لبشّار الأسد. فلا دولة محورية في العالم كانت تتابع باهتمام شديد تفاصيل الحياة في سورية أكثر من متابعة الروس والإيرانيين لها. فالدول الأخرى بما فيها أميركا وأوروبا وتركيا وحتى دول الخليج العربية، كانت قد وضعت تصوّراتها وفقاً للتطوّرات المستجدّة، فيما رسم الروس والإيرانيون خططهم مسبقاً بدهاء ومكر عظيمين.

السلطة الخفية

بدأتُ بالتحدث عن السلطة الخفية علناً في اجتماعات القيادة القُطرية في بدايات الأزمة السورية، مستذكراً اتخاذ القيادة القُطرية المنتخبة سابقاً في عام 2005 ما سمّيت خطة الإصلاح، حيث تضمّنت بنداً يدعو إلى إصدار قانون للأحزاب وآخر لتحرير الإعلام. بقيت هذه المقرّرات الجريئة التي اتخذت على وقع الغزو الأميركي للعراق آنذاك حبراً على ورق سنين. فتساءلت في اجتماع القيادة القُطرية عن أنه إذا كانت أعلى هيئة سلطة في البلاد تتخذ قرارات فتوضع على الرف من دون اكتراثٍ بها، فمن هم إذاً الذين يملكون السلطة الحقيقية في البلد، هل هم حكومة أشباح؟

لم أتلقَ تعليقاً أو جواباً من أحد عن تساؤلي، لكن في إحدى المرات ذكرتني إحدى أبرز الشخصيات العسكرية السورية، العماد حسن تركماني، بحديثي حول مدى نفوذ السلطة الخفية عندما كنت أقول ليتها تأخذ مكاننا ولن نمانع في التخلي عن مناصبنا. لم يشرح لي لمَ وصل إلى ذلك الاستنتاج المتّفق مع كلامي، لكني أعتقد أنه كان وليد تجربته في إعطاء توصياتٍ للرئيس خلال الأزمة لم يؤخذ بها مطلقاً.

سلاح المعارضة الهزيل

لم تملك المعارضة السورية المسلحة إلا سلاحاً هزيلاً، لتواجه نظاماً مدجّجاً بكل أنواع السلاح بما فيه الصواريخ والطائرات الحربية والطائرات السمتية التي تحمل البراميل المتفجّرة، فلم تُمنح المعارضة سلاحاً تواجه به النظام ومقدراته العسكرية، ومهما توسلت وأراقت ماء وجهها أمام الولايات المتحدة التي تدّعي دفاعها عن المعارضة، فلم تزودها بصواريخ محمولة على الكتف، مثل صواريخ “ستينجر”، التي أدت دوراً في إنهاء الاحتلال السوفييتي لأفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي!

مع ذلك كله، تظلّ شرعية السلطات السورية موضوعياً سارية المفعول في عالم أكثر من ثلثي سكانه شمولي السلطة والحكم. لكن الحكومة السورية تعرضت للتشكيك في شرعيتها، ليس لأن معظم الدول العربية قاطعتها، ولا لأن “أصدقاء سورية” من أوروبيين وعرب مارسوا الدعم الوهمي للمعارضة، وإنما لأن النظام السوري نفسه لم يحترم دستوره الذي يحرم قمع الحريات، فلجأ إلى الاعتقال التعسفي، ومارس القتل خارج إطار القانون، وملأ سجونه بالمعتقلين منذ الأشهر الأولى لانتفاضات “الربيع العربي”.

هولاكو العصر الحديث

ليس مستبعداً البتة أن السوريين – من بقي منهم داخل البلاد أو غادرها لاجئاً أو تائهاً في أرض الله الواسعة، وسواء أكانوا من الذين تفاءلوا بـ “الربيع العربي” أو وجدوه شراً مستطيراً – سيظلون في حالة تباعد في قارّاتٍ تفصلها البحار والمحيطات عندما يتأكّدون بالصوت والصورة أن بلادهم دخلت موسوعة غينيس العالمية لاحتلالها المرتبة الأولى في ميدان الدمار. لقد تفوقت مدنها وبلداتها المنكوبة على ما حلّ ببعض المدن الأوروبية مثل برلين وستالينغراد ودريزدن خلال الحرب العالمية الثانية. وسيدرك السوريون أنفسهم، عندما تهدأ الأحوال في بلادهم وينجلي عنها غبار الحرب، أن ما جرى فاق فعلياً ما خلفته جحافل هولاكو من قتل ودمار في بلاد الشام قبل مئات السنين؛ فـ “الطغاة يجلبون الغزاة”، حسبما يمكن فهم ما قاله عبد الرحمن بن خلدون في مقدّمته الشهيرة. غير أن المفارقة أن عصر هولاكو في الماضي السحيق كان أكثر رحمة من هذا العصر الحديث، فهو لم يكن قادراً على الفتك بالبشر والحجر بمقذوفٍ كيميائي مزعوم مجهول المصدر، ولم يكن في استطاعته تدمير مئات البيوت وتحويلها إلى ركام في لحظات، لعدم توفر أنواع مبتكرة من البراميل المتفجّرة تهبط من السماء، أو من صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت بأكثر من مرّة.

لن يكون مستحيلاً يوماً ما جمع السوريين بعد أن يتوقّف القتل، والبدء بتكوين صورة شاملة عما حصل، عندما نعرف بدقّة أعداد الضحايا والقتلى في الداخل السوري، والمهجرين واللاجئين إلى دول الجوار وما وراء البحار. لكن كيف يتحقق ذلك قريباً، والأرقام في ارتفاع متواصل حتى اليوم؟ والأهم هو السؤال هل سيتمكن السوريون من الحصول على جواب شافٍ عن مصير أبنائهم من معتقلين أو مختطفين وكيف مات بعضهم؟ فإذا كان قد استعصى عليّ عندما كنت نائب رئيس الجمهورية وعضو القيادة السياسية أن أعرف مصير مقربين ومعارف غيَّبتهم أفرع الأمن إلى الأبد، بمن فيهم سائقي وكذلك مرافقي السابق لسنوات طويلة، فكيف سيتمكن الآخرون من ذلك؟

لا يستطيع النظام الادّعاء بالانتصار، وثلث الأراضي السورية يقع خارج سيطرته الفعلية، فشرق الفرات وإدلب والشريط على طول الحدود السورية – العراقية، بما فيه قاعدة التنف، خارج سيطرة النظام. كذلك فإن المعارضة السورية مهما كانت تسمياتها وتحت أي سلطة تلوذ، لا تستطيع الادعاء بالسيطرة التامّة على الثلث نفسه، والتحكم بموارده الاقتصادية المهمة.

مهما تعدّدت الآراء والاجتهادات حول الأزمة السورية وتداعياتها على سورية والمنطقة، فإن المنتصرين الحقيقيين في المدى المنظور هم إسرائيل وروسيا وخلفهما الولايات المتحدة، التي لم تدفع تكاليف توازي ما ربحته في سورية من مواقع استراتيجية. أما السوريون تحديداً، فجميعهم خاسرون، ولا أحد يستطيع التفوّق على النظام في ميدان “انتصار – الانكسار”.

كان السوريون في الماضي لاعبين ماهرين باعتراف الأصدقاء والأعداء، وقد يتجاوزون أحياناً حدود بلادهم بحقٍّ أو بباطل، لكنهم لم يسمحوا للآخرين باللعب داخل حدود سورية، سواء كان الآخرون حلفاء أو أصدقاء. كل ادّعاء سوري رسمي بالانتصار اليوم، ليس إلا هذراً وخوفاً من إعلان الحقيقة المرة التي سيزاح غبار الحرب عنها يوماً ما.

صدق الإعلام السوري، ربما من المرّات القليلة، وصدقت معه الأقلام التي ادعت طوال سنوات الاقتتال، وعبر عشرات المقالات والدراسات، أن الحرب في سورية ستغيّر النظام العالمي، لأنه فشل في تغيير بشّار الأسد. إنه حقاً تغيير سريالي للنظام العالمي، فقد أصبح الروس ينافسون الأميركيين على خطب ودّ إسرائيل على نحوٍ غير مسبوقٍ في تاريخ العلاقات الدولية، بعدما كان الادّعاء أنهم يعملون لإقامة عالم متعدّد الأقطاب لا مكان استراتيجياً لإسرائيل فيه. أما السوريون، في سياق حربهم على الإرهاب والاحتفاظ بـ “بشّار أولاً”، فقد شهدوا نكبات تدمير وطنهم ومعضلات احتلاله متعدّد الأشكال، ثم جرى تركهم في حفرة عميقة، لا يعرفون متى وكيف سيخرجون منها.

—————————————

فاروق الشرع: بشّار الأسد رأى بيان جنيف في 2012 كارثة (7)

06 مايو 2025

يصدر كتاب “مذكّرات فاروق الشرع… الجزء الثاني 2000 – 2015” عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ويغطي فترةً من رئاسة بشار الأسد (2005 – 2015) استمر فيها الشرع في منصبه وزيراً للخارجية، ثم في منصب نائب رئيس الجمهورية، قبل أن يضطر إلى الاعتكاف بمنزله في 2013، وإصدار الأسد تعليمات بعدم التواصل معه. وبينما اعتُبر الجزء الأول شهادة تاريخية مهمة على مسار من الأحداث التي شهدتها سورية في تفاعلاتها الإقليمية والدولية، خصوصاً ما يتعلّق بالمفاوضات السورية – الإسرائيلية، في عهد حافظ الأسد، يقدّم الشرع في هذا الكتاب شهادته على أحداث لا تقل أهمية في عهد بشار، منها اغتيال رفيق الحريري واتهامات مسؤولين سوريين بالتورّط في اغتياله، ما أسهم في دفع الخروج السوري من لبنان، وأحداث عصفت بسورية مع اندلاع الثورة السورية (2011). وتنشر “العربي الجديد” فصولاً من الكتاب. وهنا حلقة ثامنة تتناول فشل الجهود العربية في معالجة الأزمة السورية ومن ثمّ تدويلها،  وصولاً إلى اعتزال الشرع في ظلّ إصرار الرئيس الاسد على الحلّ العسكري الأمني.

—————————————————————————————————-

وقعت جامعة الدول العربية خلال “الربيع العربي” في حضن مجلس التعاون لدول الخليج العربية بعد تردّي أوضاع الدول العربية الفاعلة فيها؛ العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003؛ وسورية منذ اغتيال رفيق الحريري عام 2005؛ وترسيخ الانفصال بين الضفة وغزّة منذ عام 2006. أما دول الاتحاد المغاربي فقد ضعف تأثيرها عربياً منذ أن أخفقت في لم شمل أقطارها، فضلاً عن أن السودان أصبح سودانَيْن في عام 2011. غير أن مجلس التعاون، الذي فاجأه وقوع الجامعة في أحضانه، لم يستطع أن يتدبّر أمرها، لا سيما أن السعودية بمساحتها الشاسعة وثروتها ونفوذها الواسع، انكفأت سياسياً واكتفت بأن سخّرت المال الوفير في التعامل مع “الربيع العربي” وتداعياته. فضّلت السعودية أن تجلس في المقعد الخلفي وتفسح المجال لقيادة الجامعة إلى دولة قطر التي رأت فيها مؤهلاتٍ قد لا تتوفر في الدول الخليجية الأخرى.

من بين مؤهلات دولة قطر المتعدّدة النجاح الاقتصادي الهائل الذي تحقّق في عهد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، ووجود أكبر قاعدة فيها لحليفتها الولايات المتحدة، واندفاع قطر، في الوقت ذاته، إلى لقيام بأدوار مختلفة في الوساطة وتسوية النزاعات الخشنة، ممزوجة مع دور تنموي سخي، لا تضاهيها فيه أي من الدول الأخرى في مجلس التعاون (مثل اتفاق الدوحة بين الأطراف اللبنانية عام 2008، ودارفور وتشاد ومناطق نزاع أخرى، والحديث مع طالبان والفلسطينيين والإسرائيليين في أي وقت). كان التفويض السعودي مشفوعاً أيضاً باعتلال صحة وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، وغضب العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز من خذلان إخوانه لاقتراحه تحويل مجلس التعاون إلى اتحاد بين دول الخليج في أثناء انعقاد القمة الخليجية في الرياض نهاية عام 2011.

لم يكن في حينه بين المسؤولين القطريين من هو أكثر خبرة في المجالين السياسي والاقتصادي من الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني. فمن منظور السياسة العامة، شغل منصبي رئيس الوزراء ووزير الخارجية. أما من منظور الاقتصاد، فهو معروف لدى الأوساط العالمية المالية وفي الداخل القطري بأنه صاحب ثروة قادر على استثمارها وإدارتها من دون ضجّة. كان حمد بن جاسم قادراً أن يتولى (على سبيل المثال) استضافة اجتماع وزاري عربي وتحديد مكانه وزمانه.

لم يكن تسلّم دولة قطر إبّان “ثورات الربيع العربي” رئاسة مجلس جامعة الدول العربية بدلاً من دولة فلسطين مجرد مصادفة. دعي الرئيس الفلسطيني محمود عباس ووزير خارجيته رياض المالكي إلى مأدبة غداء أقامها الشيخ حمد بن جاسم في القاهرة قبل ساعات من بدء الدورة الجديدة للجامعة. اقتنع الرئيس عبّاس بوجاهة الطلب القطري بأن تحل دولة قطر محل دولة فلسطين في رئاسة الجامعة اعتباراً من سبتمبر/ أيلول 2011.

أصبح تفويض مقعد القيادة في الجامعة لحكومة قطر أمراً واقعاً. كانت أول حركة دبلوماسية قام بها رئيس مجلس الجامعة توجهه إلى دمشق مصطحباً معه وزراء خارجية أربع دول عربية، هي الجزائر ومصر وسلطنة عُمان والسودان، إضافة إلى الدكتور نبيل العربي الأمين العام للجامعة، من أجل مقابلة الرئيس بشّار الأسد في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2011.

كان اللقاء في دمشق طويلاً على غير العادة بين الرئيس والوزراء العرب، وودّياً وإن تخلّلته بعض المماحكات. ويمكنني القول إن الشيخ حمد بن جاسم حاول أن يكون مهذّباً إلى أبعد الحدود؛ لأنه ارتبط هو وأمير دولة قطر بعلاقة خاصة مع الرئيس بشار الأسد عقداً. وكانت الزيارات المتبادلة والمتكرّرة بين دمشق والدوحة، وعلى أعلى مستوى، لا سيما بين الرئيس السوري وأمير دولة قطر لا تحتاج مواعيد وترتيبات مسبقة، وكان غير المعلن منها أكثر من المعلن.

كان الشيخ حمد بن جاسم يرغب أيضاً في أن يكون وسيطاً ناجحاً باسم الجامعة في حل الأزمة السورية. لكن الرئيس الأسد أخذ في هذا اللقاء المهم دور المستخفّ بأقواله، حتى لو جاء بعضها منسجماً مع طروحاته. فجعل من استحضار الولايات المتحدة قميص عثمان، متهماً الشيخ حمد خلال اللقاء بصلات خاصة معها، متناسياً خلال سنوات صداقته الطويلة مع قطر أنها تستضيف أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط. وهي لا تنزعج أساساً لوجود علاقة خاصة مع الولايات المتحدة لتعزيز دورها السياسي ومصالحها في تصدير الغاز بيسر وسلاسة إلى مختلف أنحاء العالم. كما تابع الرئيس الأسد غاضباً “في سورية لا يوجد سقوط أنظمة، إما أن تتفتّت سورية أو تبقى دولة”، مفترضاً أن الحاضرين سيكونون أشد حرصاً على بقاء سورية موحدة من رئيس جمهوريتها!

قرأت باعتباري رئيساً للجنة السياسية محضر الاجتماع بين الرئيس ووفد وزراء الجامعة، وكان محوره أن وفد الجامعة أتى ليحصل من الرئيس على الموافقة على المبادرة العربية لحل الأزمة السورية. صدر في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 (أي بعد عودة وفد الجامعة من زيارته إلى دمشق بأسبوع) خلاصات في مجلس الجامعة عن النقاط التي أخذها الوفد العربي خلال اللقاء من فم الأسد خلال المماحكات. من أبرزها وقف العنف من أي طرف كان، والإفراج عن المعتقلين، وسحب الجيش من المدن، وحرية الحركة للصحافيين والمراقبين العرب الذين قرّرت الجامعة إرسالهم في ديسمبر/ كانون الأول 2011.

وافق الجانب السوري على هذه النقاط خلال اللقاء، ولكن مع نية عدم الالتزام بالموعد ولا بالبنود التي يمكن تنفيذها بعد محاولته إفراغ كل بند من مضمونه. فضلاً عن أن الرئيس اعتاد الموافقة بلطفٍ مع محاوريه وجهاً لوجه في اللقاءات الرسمية على أن يتراجع عن الموافقة بعد مغادرة الوفد مطار دمشق الدولي.

سافر وفد سوري برئاسة وليد المعلم إلى الدوحة بطلب شخصي من أمير دولة قطر بعد لقاء الوفد العربي في دمشق بأربعة أيام. اجتمع الوفد بأمير قطر الذي انتقد بشدة موقف سورية بسبب عدم التزامها بالتعهّد الذي قطعه بشّار الأسد على نفسه بوقف إطلاق النار، وأرجع الأمير هذا الموقف صراحة إلى سيطرة الأجهزة الأمنية السورية على القرار.

كانت جامعة الدول العربية قد علّقت عضوية ليبيا مبكراً عام 2011 عندما طلب مندوبها الدائم عبد المنعم الهوني نفسه تعليق عضوية بلاده، لأنه كان معارضاً ليبيّاً في الأساس، في حين رفض المندوب الدائم لسورية يوسف أحمد تعليق عضوية بلاده في الجامعة لأنه التصرّف الطبيعي، فضلاً عن أن سورية من الدول المؤسّسة للجامعة من بين سبع دول. لكن مجلس الجامعة أقدم على تعليق عضويتها، على الرغم من الأخطاء التي ارتكبها في أثناء التعليق، وفي مقدّمتها الاسترشاد بالنموذج الليبي.

ليست تفاصيل ما أحاط بقرارات مجلس الجامعة منذ تعليق عضوية سورية اعتباراً من 16 نوفمبر 2011 وحتى تدويل الأزمة السورية بالأمر المثير، ويستطيع المرء الاطّلاع على القرارات العربية من مصادر عديدة.

لقد أصبح أي إجراء ضد سورية مرحّباً به من ممثلي الدول العربية باستثناء التحفظات من لبنان والجزائر والعراق، والتي لم تصل إلى حد الإصرار على إلغاء قراراتٍ تتعارض مع روح الميثاق. أما الدول العربية الأخرى فلم تشعُر أن في ذلك إساءة إلى سورية، حيث ترى أن النظام الذي يخرج عليه شعبه ويواجه الناس بالرصاص يستحقّ المقاطعة. إنها لحقيقة مرّة أن كل “ثورات الربيع العربي” اندلعت في أنظمة جمهورية، حيث فشلت مع الزمن في إحداث التغييرات المنشودة. لكن الأنظمة الملكية أيضاً ليست في منأى عن التغيير.

عندما وافقت دمشق على إرسال نائب وزير خارجيتها الدكتور فيصل المقداد إلى مقرّ الجامعة في القاهرة للتوقيع على بروتوكول التعاون مع بعثة المراقبين العرب في سورية، لم يكن مجلس الجامعة سعيداً بهذا التوقيع، وإنْ لم تخرج الدول العربية بتصريحاتٍ علنيةٍ تؤكد ذلك. لكنها كانت تنتظر انتهاء مهمّة بعثة المراقبين العرب بفارغ الصبر لتدويل الأزمة السورية، وإلقاء المسؤولية على النظام السوري الذي سيلقي كامل المسؤولية على العرب والمؤامرات الدولية.

تحينت الجامعة الفرصة لسحب المراقبين العرب من دمشق قبل أن يستكمل عدد عناصرها. وليس سرّاً أن تشعر السلطات بدمشق بالارتياح الضمني لقرار سحب المراقبين من دمشق، فلم تحرك ساكناً. حاولت جهدي بوصفي رئيساً للجنة السياسية تجنباً للتدويل أن أجد مخرجاً على الأقل للإبقاء على بعثة المراقبين العرب في سورية، التي تعرّض لها شبّيحة النظام بالشتائم والإهانات عند وصولها إلى مشارف محافظة اللاذقية. كان رئيس البعثة الفريق محمد مصطفى الدابي جادّاً في عمله، فضلاً عن التزامه القومي، حيث كان فخوراً بما أوصاه به الرئيس السوداني قبل سفره إلى سورية بقوله إنك تخدم آخر القلاع العربية في مواجهة العدو الصهيوني.

فيصل المقداد (يسار) وأحمد بن حلي يوقعان اتفاق تعاون سوري مع المراقبين العرب بحضور نبيل العربي في القاهرة (19/11/2011فرانس برس)

يقف الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي (يمين) بينما يوقع نائبه أحمد بن حلي مع فيصل المقداد (يسار) في القاهرة اتفاقاً بتعاون سوري مع المراقبين العرب

تدويل الأزمة السورية

استغلت اللجنة الوزارية في جامعة الدول العربية تقرير رئيس بعثة المراقبين العرب الفريق الدابي، الموثق بالأرقام والمعلومات، بعد قيامه بجولة واسعة في سورية رافقه خلالها ضبّاط عسكريون وأمنيون سوريون، وأرسلت تقريره إلى اللجنة العربية في القاهرة، ليرسله رئيسها حمد بن جاسم إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ومن المفارقات الغريبة أن تدويل الأزمة السورية ترافق مع اعتراضات شكلية، حيث إن وسائل الإعلام السورية دأبت على اتهام المعارضة وحدها بالتدويل الذي يرقى من وجهة نظرها إلى مستوى الخيانة، بينما كانت السلطة السورية منهمكةً بالاتصال مع الدول الأجنبية، لأن التدويل بمفهومها الأممي أفضل من التعريب. ومن هنا انطلق التهكم والسخرية من العرب و”العربان” و”الأعراب” حينذاك في بعض الأوساط في سورية، وهي عباراتٌ لم تدخل في القاموس السياسي لحزب البعث العربي الاشتراكي منذ تأسيسه، ولا في قاموس أي حكم سوري آخر.

كان الاتحاد الروسي يؤيد حلاً سياسياً يجري بموجبه وقف إطلاق النار وسحب الجيش من المدن حتى مؤتمر جنيف (يونيو/ حزيران 2012). كان تحفّظه الأساسي في مجلس الأمن عام 2011 يتمحور حول اعتراضه على اتخاذ قرار شبيه بالقرار 1937 الخاص بليبيا عام 2011 الذي أسيء استخدامه أطلسياً من أجل الحرب على ليبيا، بدلاً من استخدامه أممياً لصنع السلام فيها. عدا ذلك، كان الروس لا يمانعون (من دون أن يصرّحوا عن رغبتهم) بتأدية دور الوسيط بين الحكومة السورية والمعارضة، أو بين سورية ومجلس الأمن. لكن الأخير لم يعر هذا الأمر ما يستحقه من اهتمام، لأن الدول الغربية دائمة العضوية غير معنية بأن تعطي روسيا هذا الدور، وسورية لا ترغب في أن تصبح روسيا وسيطاً بينها وبين المعارضة لأنها تريد أن تكون روسيا إلى جانبها فقط.

عندما زارنا وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في دمشق في يناير/ شباط 2012، سأل الرئيس بشّار الأسد: متى سينتهي الجيش السوري من قصف بابا عمرو في حمص؟ فأجاب خلال يومين أو أسبوع على أبعد تقدير. ثم سأله على مائدة الغداء من سيكون ممثلكم للحوار مع المعارضة، أجاب بتلكؤ نائب الرئيس فاروق الشرع، وحين وجد الرئيس متردّداً في ذكر الاسم، قال لافروف هل يزعجك أن أعلن اسمه في المؤتمر الصحافي، أجاب الرئيس بالموافقة على مضض “لقد أصدرنا قراراً جمهورياً بهذا الشأن!”. ولكن لافروف أعلن في مؤتمره الصحافي الذي عقده في بهو القصر مباشرة بعد الغداء أن الرئيس الأسد كلف نائبه الشرع بتمثيل الدولة السورية في الحوار بين النظام والمعارضة. مرّت أسابيع وأشهر والرئيس لم يفِ بأي من الوعدين، فلا القصف على بابا عمر توقف، ولا الحوار جرى استئنافه بفاروق الشرع أو بغيره.

ردّاً على عدم التزام الموقف السوري، عقد في تونس في 24 فبراير/ شباط 2012 المؤتمر الأول تحت عنوان أصدقاء سورية، ثم عقد المؤتمر الرابع في مراكش في المغرب قبل نهاية عام 2012 حضرته أكثر من مائة دولة. وكانت روسيا في 14 إبريل/ نيسان 2012 قد صوّتت بوضوح في مجلس الأمن إلى جانب أميركا وبريطانيا وفرنسا لصالح القرار 2042، الذي سيتم بموجبه إرسال 30 مراقباً للإشراف على وقف إطلاق النار في سورية.

تبعه بعد أسبوع قرار آخر رقم 2043 في 21 إبريل/ نيسان 2012، أيدته موسكو، ونصّ على تطبيق خطة كوفي عنان الشهيرة بالنقاط الست. هذا الموقف الروسي أزعج السلطات السورية كثيراً، وجاء منسجماً مع موقف جامعة الدول العربية أيضاً، ومع موقف كوفي عنان نفسه الذي حظي تعيينه بترحيب الجانبين العربي والدولي.

وفي أثناء ذلك، جرى تعيين الجنرال روبرت مود القادم من الصليب الأحمر الدولي رئيساً لبعثة المراقبين الدوليين في سورية الذين وصل عددهم إلى نحو 300. والجنرال مود نرويجي الجنسية وضابط مرموق استطاع أن يقيم علاقات ودية مع بعض أعضاء الحكومة السورية، فنجح في تثبيت وقف إطلاق النار فترة قصيرة، تنقل خلالها من محافظة درعا في الجنوب إلى محافظة إدلب في الشمال.

في 25 مايو/ أيار 2012، وقعت مجزرة في غاية البشاعة في الحولة (غربي حمص) وراح ضحيتها عشرات المدنيين من بينهم أطفال ونساء. فأدانتها روسيا والصين والدول الغربية في مجلس حقوق الإنسان. ووُجهت أصابع الاتهام إلى القوات الحكومية السورية ومجموعة من الشبيحة الموالية للنظام، إلا أن النظام ألقى كامل المسؤولية على تنظيم القاعدة والمعارضة السورية، ورفض في الوقت ذاته السماح للأمم المتحدة بفتح أي تحقيق حول الأمر!

بيان جنيف (30 يونيو 2012)

عين كوفي عنان في 23 فبراير 2012 مبعوثاً دولياً في سورية، وحاول بخبرته المعهودة أن يجمع “كبار القوم” المعنيين بالأزمة السورية فيما عرف بـ “مجموعة العمل من أجل سورية”، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة (هيلاري كلينتون) والاتحاد الروسي (سيرغي لافروف) والصيني (يانغ جيه تشي) والاتحاد الأوروبي (كاترين أشتون) وغيرهم من عرب وأجانب في جنيف بتاريخ 30 يونيو 2012. كانت نقاط التفاهم واسعة داخل المؤتمر بين المسؤولين الكبار والصغار، لا سيما حول النقاط الست لخطة كوفي عنان، في إطار حل سياسي. أما النيّات فكانت شيئاً آخر.

كان التباين الوحيد في نهاية المطاف الذي حال دون الوصول إلى خاتمة مرضية للجميع استحضار اسم الرئيس بشّار الأسد سلبياً او إيجابياً. هنا ظهرت عقدة “النجار” المتداولة شعبياً، والتي ردّدها المسؤولون الروس والأميركيون في أرجاء العالم، وذلك لتفشيل حل الأزمة السورية من أساسها، وليس لتنحية الرئيس السوري ذائع الصيت، ونقاط عنان الست، ذريعةً لفظيةً لا أكثر، لأن العالم يُصدر أحكامه، في النهاية، بالاستناد إلى الأقوال، فهي الدليل الدامغ الذي لا يظهر غيره في عالم اليوم.

مع ذلك، حُيّدت مسألة تنحية الرئيس من النص، وجاء القرار مطوّلاً من أبرز فقراته: “إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرّك في ظلها العملية الانتقالية. وأن تمارس هيئة الحكم الانتقالية كامل السلطات التنفيذية. ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، ويجب أن تُشكّل على أساس الموافقة المتبادلة”.

عقد اجتماع مصغر في القصر ترأسه الرئيس لمناقشة بيان جنيف. كنتُ قد قرأت البيان وعرفت الملابسات كافة التي أحاطت بصياغته، ووجدته يفتح الأفق أمام خروج سورية من نافورة الدم. بدأ الرئيس الاجتماع بانفعال واضح، واعتبر البيان كارثة، والتفت إلى وليد المعلم الذي علق بأن بيان جنيف فعلاً كارثة لأنه صناعة أميركية. علقت: “أين الكارثة؟ إذا كان هناك نقطة في البيان لا تعجبنا، فبإمكاننا إطلاع الروس على هواجسنا، وهم باعتقادي لن يمانعوا لأن لهم اليد الطولى في صياغة البيان، ولمعرفتهم بكوفي عنان، الذي ما كان ليتبنّى النقاط الست الواردة في البيان لولا موافقة الروس عليها”. كرّرت الأقوال. صمت الرئيس فصمت وزير خارجيته، لأن بيان جنيف من وجهة نظر الرئيس النهائية كارثة ليس إلا. … وحتى هذه اللحظة، ما زلت أتساءل أين تكمن الكارثة في بيان يدعو لوقف إطلاق النار وسحب الأسلحة الثقيلة من المدن وتشكيل حكومة وحدة وطنية بين السلطة والمعارضة ولا يتعرض لمنصب رئيس الجمهورية؟

في 19 يوليو/ تموز 2012، أي بعد بيان جنيف بنحو ثلاثة أسابيع تقريباً، كان مجلس الأمن قد اجتمع وأعدّ مشروع قرار تحت الفصل السابع تقدمت به كل من فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، لكنه لم يمرّ بسبب الفيتو الروسي الذي يعني الإنقاذ الأولي للنظام الذي بدا في وضعٍ صعبٍ جداً.

تفجير خلية الأزمة

أستذكر وفاة العماد حسن تركماني رئيس خليّة الأزمة المروعة بتفجير مكتب الأمن الوطني في 18 يوليو 2012، مع وفاة أصدقاء آخرين وهم شخصيات مهمة في خلية الأزمة: العماد آصف شوكت الذي كان قد نقل من شعبة المخابرات العسكرية إلى الأركان، ووزير الدفاع العماد داود راجحة، واللواء هشام الاختيار رئيس مكتب الأمن الوطني. تمكّنت من رؤية الأخير لحظة احتضاره في غرفة العناية المشدّدة في مستشفى الشامي بدمشق، وإلى جانبه ابنه الشاب الذي كان أيضاً في الغرفة المجاورة لصالة الاجتماعات ساعة تفجير المكتب. ونجا الرابع وهو اللواء محمد الشعار وزير الداخلية، بسبب مغادرته قاعة الاجتماع قبيل دقائق معدودة من التفجير إلى الحمّام. شكلت لجنة تحقيق، لكن القيادة لم تبلغ فيما إذا وصلت إلى أية نتائج. وسبقتها بأسبوع محاولة تسميم عدد من أعضاء اللجنة التي لم تؤخذ من القيادة على محمل الجد رغم انتشار شائعات بأن الفاعل هرب إلى خارج البلاد.

كلفني الرئيس في آخر دقيقة أن أتولى بالنيابة عنه تشييع الشهداء (ضحايا التفجير) الأربعة إلى مثواهم الأخير في ضريح الجندي المجهول مع أن كل الترتيبات اتخذت على أساس حضوره، لا سيما أن أحدهم وهو آصف شوكت كان صهره زوج أخته الكبرى بشرى. قال لي الرئيس عبر هاتف مدير مراسم الرئاسة الموجود في أثناء مراسم التشييع إنه سيكلمني فيما بعد عن الأسباب التي منعته من المشاركة بالتشييع، وهو ما لم يحدُث، وأنا بدوري لم أسأله، لأنني لم أعد أراه كالسابق.

الفيل يا ملك الزمان

كان أعضاء القيادة القُطرية يتفقون معي في موقفي ضد الحل العسكري للأزمة. وقد طالبوني بأن يعقد الرئيس اجتماعاً معهم كي أعيد على مسامعه رأيي الدائم بضرورة الحل السلمي. فاشترطت عليهم أن يعبروا عن هذا الرأي حين أطرح الموضوع بوجودهم؛ لأن الرئيس كان عادةً يسمع رأيي على انفراد أو بالتوصيات التي كانت تصدر عن القيادة القطرية واللجنة السياسية التي كنت أرأسها. فوعدوا بذلك.

حين اجتمعنا مع الرئيس في القصر الجمهوري، طرحت مشكلة الحل العسكري وضرورة انتهاج حل سياسي للأزمة. وحاول أسامة عدي عضو القيادة القُطرية التأكيد على ما قلته، فقاطعه الرئيس وقال للجميع إنه لم يعد يثق بأداء وزارة الخارجية وأن الأسلوب الذي تنتهجه الخارجية لم يعُد مجدياً من دون أن يشرح ماذا يقصد. وأضاف: من الآن فصاعداً سأقوم أنا بالعمل من تحت الطاولة، لأن ذلك سيعطي نتائج أفضل. قالها وسط دهشة أعضاء القيادة لتغيير الموضوع، فران الصمت وانفضّ الاجتماع.

توقفوا عند الباب الخارجي للقصر يتساءلون عن أسباب هذا الموقف الغريب للرئيس. عبّرت عن استيائي لعدم مشاركتهم رغم تأييدهم في الاجتماعات الحل السلمي وأخبرتهم أن هذا آخر اجتماع للقيادة سأحضره.

استقالة كوفي عنان الصامتة

أعرف أن كوفي عنان مبعوث الأمم المتحدة قد أراق ماء وجهه لكي يوافق الرئيس بشّار الأسد على سحب الدبابات إلى خارج المدن السورية فقط. فلم يكن هناك من صدى لطلبه، كما لم يكن هناك أي التزام بما نصّت عليه نقاطه الست، وأدّى ذلك إلى استقالته في مطلع أغسطس/ آب 2012؛ أي بعد ستة أشهر فقط من تعيينه مبعوثاً إلى سورية. كان بطبعه قليل الكلام. ولذلك لم يعرف الكثير من الناس موقفه من الأزمة السورية، إلا بعد استلام الأخضر الإبراهيمي مهمّته الجديدة الدولية والعربية. عندها فقط نطق عنان بعد خروجه من سورية بما كان يفكر فيه بعد أن رأى، بوصفه أميناً عاماً سابقاً للأمم المتحدة، أنه كان يتعامل مع مهمّة في غاية التعقيد، من دون أن يتلقى دعماً دولياً أو من الحكومة السورية.

صرّح كوفي عنان، في 2 أغسطس 2012 لصحيفة نيويورك تايمز، أنه من دون تعاون دولي موحد وضاغط إضافة إلى جهد إقليمي، يستحيل إجبار الطرف السوري على الشروع بعملية سياسية. وفي مقالة نشرت مقتطفات منها صحيفة فايننشال تايمز اللندنية حمّل مسؤولية إخفاق مهمته إلى الحكومة السورية وللرئيس بشار الأسد بالاسم. لقد وصفت استقالته بالدراماتيكية بعد أن رأى أن الرئيس على الرغم من وعده بقبول النقاط الست، استمر بقتل شعبه، بينما المعارضة لم تبدِ استعدادها لانتقال سلمي يكون للرئيس الأسد دور فيه.

الأخضر الإبراهيمي

في 17 أغسطس/ آب 2012 عُيِّن الأخضر الإبراهيمي مبعوثاً خاصاً باسم جامعة الدول العربية والأمم المتحدة بعد استقالة كوفي عنان. كان في شبابه عضواً في جبهة التحرير الوطني الجزائرية ومثّلها في مؤتمر باندونغ عام 1955. شغل منصب وزير خارجية الجزائر. وله تجربة دبلوماسية طويلة ساعدته في معالجة العديد من النزاعات، نجح في حل بعضها وفشل في أخرى. كان يدرك، منذ بداية تكليفه، صعوبة حل الأزمة السورية، لأنه الوحيد من بين المبعوثين الدوليين الذي يعرف الداخل السوري، حيث كان أمين عام اللجنة الثلاثية الخاصة بالوجود السوري في لبنان في ثمانينيات القرن الماضي، فضلاً عن تسلمه الأمانة العامة للجنة الثلاثية التي تشكلت من المغرب والجزائر الخاصة بلبنان في نهاية الثمانينيات.

حاول الإبراهيمي خلال مهمّته أن يوسع اتصالاته بالسوريين وبي شخصياً. وفضّل أن يستشير الرئيس بشار الأسد قبل اللقاء بي؛ لأنني كنتُ آنذاك معتكفاً في منزلي بسبب موقفي، ولكن طلبه جوبه بالرفض من الرئيس نفسه. استغرب الإبراهيمي هذا الموقف، ورأى أن استشارة الرئيس لم تكن في محلها لأن ذلك يعني فشل مهمّته المبكر، فطلب مني عبر الهاتف أن أرسل مبعوثاً لإطلاعه على التفاصيل. كلفت الدكتور توفيق سلوم مدير الشؤون السياسية أن يجتمع مع مساعده مختار اليماني ليضعه بصورة لقاء الإبراهيمي مع الرئيس الأسد. نقل لي سلوم مضمون لقاء الإبراهيمي مع الرئيس، وأن الإبراهيمي لم يكن مرتاحاً للنتيجة التي تعني أنه إذا كان الرئيس غير موافق على اجتماعه بفاروق الشرع الذي اختاره الرئيس الأسد نائباً له، فكيف سيكون في إمكان الإبراهيمي العمل مع الشخصيات السورية الأخرى؟

حديثي إلى صحيفة الأخبار

أدليت بحديث صحافي مع إبراهيم الأمين رئيس تحرير صحيفة الأخبار اللبنانية نشر في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2012، لتوضيح موقفي للرأي العام، ومحاولة لقطع الطريق على الإشاعات التي أخذت تتزايد يوماً بعد يوم بحديثها إما عن انشقاقي أو عزلي أو خروجي من البلاد.

تحدّثت بصراحة وأوضحت حقيقة موقفي الذي كان يبدو غامضاً خارج القيادة، وشرحتُ وضع سورية على نحو عام من وجهة نظري. قلت في بداية المقابلة: “إن السلطة كانت تتوسّل في بداية الأحداث رؤية مسلح واحد أو قناص، الآن هي تشكو كثرة المجموعات المسلحة”، وإن “توفير الأمن واجب، لكن يختلف عن الحل الأمني للأزمة”، تساءلت: “هل يحقّ لأيٍّ كان أن يُدخل الوطن بعنق زجاجة لا يخرج منها إلا بكسره؟”. صارحت الرأي العام بأن “الخط البياني للأحداث يأخذك إلى مكان غير مريح تسير فيه الأمور فعلاً من سيئ إلى أسوأ”.

أقررتُ بعمق الكارثة السورية “كل يوم يمر يبتعد الحل، نحن يجب أن نكون في موقع الدفاع عن وجود سورية وليس في معركة وجود فرد أو نظام”، وأوضحتُ مسؤولية رأس الدولة عما يجري قائلاً: “هو لا يخفي رغبته بحسم الأمور عسكرياً بينما يعتقد الكثيرون أن لا بديل عن الحل السياسي ولا عودة إلى الوراء” في إشارة إلى رغبة الرئيس المستحيلة في الإبقاء على شكل السلطة الحالي من دون أي تغيير. “وإن فقدان الثقة بين هذين الطرفين (نظام الحكم والمعارضة)، وبالتالي استحالة جمعهما في حوار مباشر، سيفضي إلى تدمير وتفكيك مستمرين لا يستفيد منهما في هذه المرحلة إلا الاحتلال الإسرائيلي”.

توقّعت “أن الشعب لن يقبل بتدخل الجيوش الأجنبية على أراضيه وستكون هناك مقاومة”، وأخيراً، دعوتُ إلى أن الحل يجب أن يكون سورياً من خلال تسوية تاريخية على قاعدة وقف إطلاق النار وتشكيل حكومة وحدة وطنية ذات صلاحيات واسعة.

أخذتُ في الحسبان كل الاحتمالات السيئة بعد حديثي الصحافي، لأن الحزب الحاكم لا يؤمن بحرية التعبير. صحيحٌ أنني لم أفكر بالانشقاق، ليس لأنني أحب بلدي أكثر من الذين يموتون من أجله، وإنما ليقيني بأن الدول التي يمكن أن أنشق إليها، لن تجعل سورية أفضل حالاً.

أثارت المقابلة ردوداً كثيرة من المعارضة والسلطة. اعتبر بعض المعارضة أنه لا يمكن لأحدٍ أن يصرح بمثل مضمونٍ كهذا ما لم يكن الموضوع متفقاً عليه، وهو دليل ضعف السلطة وأنها زائلة خلال أيام. أما الطرف الموالي فوصل إلى حد التلميح إلى أن موقفي من حل الأزمة يقترب من الخيانة. وكان أبرز توضيح للموقف الرسمي مما جاء في المقابلة ما ورد رسمياً في تصريح لوزير الإعلام عمران الزعبي بعد جلسة في مجلس الوزراء، هاجمني فيها بأن تصريحاتي “ليست إلا رأي من آراء 23 مليون سوري”.

لقد قرّرت أن أقول ما قلته مهما كانت العواقب، لأضع الجميع أمام مسؤولياتهم في إنقاذ سورية من مخاطر مصيرية كنت أراها بوضوح. اتصل بي إبراهيم الأمين بعد عدة أيام من نشر المقابلة ليبلغني أن أعداد صحيفته مُنعت من دخول سورية، وفيما بعد عرفت أنه منع هو شخصياً من دخول سورية فترة.

العزل والعزلة

في بدايات 2013، كنت أدرك أن الخيار العسكري سائر حتى النهاية، حتى تدمير البلد، وأن الحوار السوري – السوري جرى اغتياله، والحوار السوري – العربي أفشل، فلم يتبق سوى احتمالات بعيدة جداً لحل دولي، وإن جرى ستتم فيه التضحية بسورية بسبب تناقضات الدول الأجنبية المتورطة. قررت آنذاك عدم الذهاب إلى مكتبي والجلوس في المنزل، فلا آذان صاغية، ولا النصيحة باتت تجدي. تلقيت عدة اتصالات لتغيير موقفي، بما فيها زيارة هيثم سطايحي عضو القيادة القطرية، الذي على الأغلب قام بها بعد استشارة رئيس الجمهورية، أو بتوجيه منه. ولفهم ما أفكر فيه، أبلغتُه أنه عندما يرتئي الرئيس إعادة عجلة الحوار السوري – السوري، ويزودني أو غيري بصلاحيات حقيقية لإنجاحه، فسوف أكون موجوداً فقط حينها.

أتذكّر زيارات عدد من الرفاق بعد قراري الانقطاع عن الدوام في مكتبي. زارني بعضهم أكثر من مرّة لإقناعي بالعودة، لكنني لم أغيّر من قناعاتي، لا لتعنّت في موقفي، وإنما لأن الحل المتبع أدخل البلاد في مأزقٍ لا يمكن الخروج منه، إلا عبر سلسلة من الإصلاحات المرفوضة من سلطة خفية لا ترى وجوه أعضائها في أي اجتماع حكومي أو حزبي، لكنهم يتصرّفون بمقدرات الحزب الحاكم والدولة كأنهم ورثتها الحصريون.

كل الذين زاروني لإقناعي بالعودة إلى مزاولة عملي في مكتبي لم يكونوا بطبيعة الحال أعضاءً في الحكومة الخفية. كان من بينهم الدكتور محسن بلال وكذلك ممن يحتلون مناصب رسمية عليا كاللواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن الوطني الذي زارني في منزلي لإقناعي بالعودة، والدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية، التي أبلغتني على الهاتف أنها ترغب في زيارتي في مكتبي. لكن الخيار الذي اتخذته كان لا رجعة عنه.

أبلغتُ كل من تواصلوا معي بأنه إذا كان الرئيس جاداً في قبول الحل السياسي، فما عليه إلا أن يُصدر قراراً معلناً بإعادة تشكيل هيئة الحوار الوطني وبالأسماء التي يريدها. لأن قبولي بغير ذلك، لا يضع أية ضمانات للحيلولة دون تحكّم أعضاء السلطة الخفية بمسار الأحداث، بل ستعتبر عودتي مصادقة حينها على قرارات لم أكن طرفاً فيها.

لم يكن الرئيس يقيم وزناً لأي عمل سياسي يمكن أن يرى السوريون فيه بديلاً من الطريق العسكري، حتى لو اخترع في مقابلاته مقولة “إن الحل السياسي سيكون موازياً للحل العسكري”، ففي العلوم الخطان المتوازيان لا يلتقيان.

كان استمرار وجودي في الحكم فترة أطول وغير محدّدة بحل سياسي واقعي سيعني موافقتي على هذا النهج المدمر للبشر والحجر، فضلاً عن أنه يمنح قتل السوريين نوعاً من التبرير الجماعي في الداخل السوري. “إذا سكت أهل الحق عن الباطل، توهم أهل الباطل أنهم على حقّ”، قال علي بن أبي طالب هذه الحكمة البليغة، التي تصلح لكل الأوقات والأزمان، منذ ألف وأربعمئة عام.

——————————–

فاروق الشرع: هكذا أفشل بشّار الأسد الغارق في حبّ الذات الحوار الوطني (6)

05 مايو 2025

يصدر كتاب “مذكرات فاروق الشرع… الجزء الثاني 2000 – 2015” عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ويغطي فترةً من رئاسة بشار الأسد (2005 – 2015) استمر فيها الشرع في منصبه وزيراً للخارجية، ثم في منصب نائب رئيس الجمهورية، قبل أن يضطر إلى الاعتكاف بمنزله في 2013، وإصدار الأسد تعليمات بعدم التواصل معه. وبينما اعتُبر الجزء الأول شهادة تاريخية مهمّة على مسار من الأحداث التي شهدتها سورية في تفاعلاتها الإقليمية والدولية، خصوصاً ما يتعلّق بالمفاوضات السورية – الإسرائيلية، في عهد حافظ الأسد، يقدّم الشرع في هذا الكتاب شهادته على أحداث لا تقل أهمية في عهد بشار، منها اغتيال رفيق الحريري واتهامات مسؤولين سوريين بالتورّط في اغتياله، ما أسهم في دفع الخروج السوري من لبنان، وأحداث عصفت بسورية مع اندلاع الثورة السورية (2011). وتنشر “العربي الجديد” فصولاً من الكتاب. وهنا حلقة سادسة تتناول قرار الرئيس تشكيل هيئة الحوار الوطني برئاسة فاروق الشرع، وفي الوقت نفسه الحملة المنظمة السرّية التي قادها بشار الأسد وأجهزته المختلفة لإفشال الحوار.

……………………………………………………………………………………………………

شكّل الرئيس بشّار الأسد بموجب القرار الجمهوري رقم 20 في 31 مايو/ أيار 2011 هيئة الحوار الوطني، وكلّفني رئاستها. وضمّت الباحث الاقتصادي الدكتور منير الحمش نائباً لرئيس اللجنة، وعضوي القيادة القُطرية ياسر حورية، وهيثم سطايحي، والدبلوماسي المجرّب والعريق عبد الله الخاني (انسحب من الهيئة لاحقاً)، والأديب وليد إخلاصي، وصفوان قدسي نائب رئيس الجبهة الوطنية التقدمية، وحنين نمر عضو القيادة المركزية للجبهة والأمين العام للحزب الشيوعي السوري الموحد، وأستاذ القانون الدكتور إبراهيم درّاجي. كانت مهمّة الهيئة وضع أسس وآليات حوار وطني وصولاً إلى مؤتمر وطني شامل لحل الأزمة. لقد اعتبر الرئيس تشكيل هيئة الحوار فرصة تاريخية، نقلتها عنه الصحف السورية الرسمية، وهذه الفرصة من شأنها حثّ الشعب على مناقشة مستقبل سورية كما صرّح الرئيس نفسُه.

عقد الرئيس بعدها مباشرة اجتماعاً في قصر الشعب مع أعضاء الهيئة، أكّد خلاله “صياغة الأسس العامة للحوار المزمع البدء به، بما يحقق توفير مناخ ملائم لكل الاتجاهات الوطنية للتعبير عن أفكارها وتقديم آرائها ومقترحاتها بشأن مستقبل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في سورية، وتحقيق تحولات واسعة تسهم في توسيع المشاركة في ما يتعلق بقانوني الأحزاب والانتخابات وقانون الإعلام”. هكذا أورد الإعلام الحكومي نصّ خبر اللقاء، نقلاً عن المكتب الصحافي لرئاسة الجمهورية، الذي قال أيضاً: “لقد أصبح الحوار ممكناً وقادراً على توفير نتائج أفضل بعد صدور العديد من القرارات والمراسيم التي تسهم في تعزيز المشاركة من مختلف المكونات السياسية والاقتصادية والاجتماعية”.

اجتمعت اللجنة السياسية برئاستي في 11 يونيو/ حزيران 2011، حيث كان الرئيس ينوي التوجّه إلى الشعب بعد أسبوع للحديث عن المسائل التي تمر بها سورية، وعن أهمية الحوار الوطني الشهر المقبل. تمنّت اللجنة السياسية ضرورة تضمين كلمته المتلفزة المواضيع التالية التي حظيت بإجماع اللجنة، علماً بأنني أعلمته على الهاتف أيضاً بأنني أرسلت إليه صورة عن المحضر مع ملخص لتضمين خطابه ما يلي: • مراجعة الدستور مع إجراء تعديلات على بعض مواده. • مناقشة قانون جديد للأحزاب.• مناقشة قانون للإعلام. • مناقشة المادة الثامنة من الدستور.

ألقى الرئيس بالفعل خطابه في مدرج جامعة دمشق في 20 يونيو/ حزيران 2011، وذكر فيه مطالب اللجنة السياسية المشار إليها، غير أنه أوردها في نهاية خطابه ولم يعطها الأولوية التي تستحقّ في هذا الظرف الحسّاس. تحدّث عملياً عن إمكانية تعديل الدستور وحتى إمكانية صياغة دستور جديد للبلاد. لكن بعض وسائل إعلام المعارضة ركّزت حينها على عبارة الجراثيم الغامضة التي لصقها بشكل غير مباشر بالمعارضين، فتركها للمعارضة لتتهكّم وتشرحها بما يتناسب مع أهدافها.

بعد اللقاء مع الرئيس، عقدت هيئة الحوار الوطني برئاستي عدة اجتماعات مكثفة ودورية لوضع خطط عمل من أجل تحقيق الغاية المتوخّاة من إنشائها. لكن الرئيس عبّر لي مباشرة ولأعضاء آخرين في اللجنة عن انزعاجه من نشر أخبار اجتماعات الهيئة في وسائل الإعلام، فأوقفت ذلك، لأن موضوع الدعاية ليس من أولويات اهتماماتي، ولم يخطُر ببالي أن الرئيس كان يرى فيها مساساً بدوره في ظرفٍ يجب أن نشرك الشعب بالخطوات التي قطعها الحوار الوطني في سورية. أصبح دور أعضاء الهيئة مكرّساً فقط من أجل التحضير للقاء تشاوري يمهد لحوار وطني شامل في مؤتمر جامع برئاسة الرئيس، وسوف يُعقد قريباً في قصر المؤتمرات بدمشق.

مهما يكن من أمر، فإن الفترة المتاحة أمامنا، وهي أقل من شهر، كانت ضيقة لعقد لقاء تشاوري يمهد للقاء الحوار الوطني، لا سيما بوجود لقاءات لبعض الشخصيات السورية المعارضة في الداخل، مثل اللقاء في فندق سميراميس في 27 يونيو 2011، أي قبل انعقاد مؤتمر الحوار الوطني في مجمع صحارى بأسبوعين، وإعلان بعض المبادرات الأخرى.

كانت المعارضة السورية في الخارج أشدّ انتقاداً لهيئة الحوار الوطني من معارضة الداخل، حيث اعتبرتها صنيعة النظام، بل طالبت بعض قادتها برفض أي حوار، أو ربما أنها تصرّفت حينها كأن الحزب الحاكم انتهى أو في طريقه إلى النهاية القريبة.

اتّخذنا في هيئة الحوار الوطني من القيادة السياسية مرجعية، انطلاقاً من القناعة بأن حزب البعث يمثل شريحة مهمّة تجاوز عدد المسجلين في صفوفه آنذاك مليوني عضو داخل سورية. لهذا، اقترحت الهيئة على القيادة أن يمثل الحزب بثلث في الحوار الوطني، أما الثلثان الآخران فسيكون ثلث للمستقلين وثلث للمعارضة بالتساوي. وافقت القيادة بالإجماع على هذا الاقتراح، ولقي، في الوقت ذاته، الترحيب من أعضاء الهيئة؛ لأن تشكيلتها، من حيث ميول أعضائها السياسية التي وافق عليها الرئيس عند إصدار قرار الهيئة، تكاد تعكس صورةً مشابهةً لهذه الصيغة.

كانت الخطوة الثانية عقد لقاءات مع الشخصيات المعارضة المعروفة في الداخل السوري، مثل حسن عبد العظيم، وعارف دليلة، والطيب تيزيني، ورجاء الناصر، ومحمد حبش، وقدري جميل، وميشيل كيلو، وحسين العودات، ولؤي حسين، وحبيب عيسى، وغيرهم. هذه الشخصيات المعارضة المهمة كانت قد عبرت عن مواقفها بوضوح في منتصف مارس/ آذار 2011 بوسائل شتى، وقبل ذلك عبر وسائل الإعلام. كان الهاجس المشترك لهؤلاء المعارضين، كما تبيّن لي خلال لقاءاتي معهم، يتمحور حول مصداقية النظام ومدى وفائه بتعهداته. حاولت من جانبي شرح الأمر بقولي: “إننا في النظام وأنتم في المعارضة سنندم جميعاً في المستقبل إذا لم نشارك لإنجاح الحوار الوطني”.

تلخّصت الخطوة الثالثة بتوجيه هيئة الحوار الوطني عدة دعوات إلى من هم في الخارج والداخل. بلغ عدد المدعوين إلى اللقاء التشاوري رجالاً ونساءً أكثر من مئتي شخصية، وهم الذين سيعقدون أولى لقاءاتهم في العاشر من يوليو/ تموز بدمشق، إلا أن عدم تلبيتهم الدعوة لا يحتاج إلى توضيح؛ فالأسباب ما زالت موجودة حينها: استمرار إطلاق النار على المتظاهرين، والاعتقال عند الوصول إلى سورية، أو مراجعة أحد فروع الأمن من دون سبب وجيه. كنتُ أعرف مسبقاً أن معظم معارضة الخارج لن تغامر بالحضور، حتى لو كانت جنحتهم مخالفة سير، إلا بتدخّل شخصي من رئيس الجمهورية.

في اجتماع دوري للقيادة القُطرية برئاسة الأمين القطري المساعد للحزب محمد سعيد بخيتان، طرحت مجدداً ما استجد من أمور ذات صلة بالمراحل التي قطعها التحضير لمؤتمر الحوار أو اللقاء، وضرورة أن تسمي القيادة من سيشارك فيه؛ لأن الفترة المتبقية على انعقاده غدت محدودة، ثم إنني شخصياً أردت التأكّد مرة أخرى من موافقة أو تحفظ كل عضو في القيادة، إزاء انعقاده، وأيضاً من تمثيل الحزب بثلث الحضور؛ لأن الشكوك بدأت تساورني جراء تمتمات من داخل الحلقة الأمنية، كان أكثرها دلالة من اللواء محمد ناصيف خير بيك، وهو من أبرز الشخصيات الأمنية سنوات والمقرّب من آل الأسد، وكان قد عُيّن قبيل تقاعده معاوناً لي نائب رئيس، حيث عبر في حديث مع مدير مكتبي عن الامتعاض من فكرة اللقاء المذكور وما قد ينتج منه من توصياتٍ غير مرغوبة. لكنني شعرت بالاطمئنان لأن الإجماع متوفر، حيث ذهب بعض أعضاء القيادة القطرية إلى حد القول إن الثلث من المستقلين سيكون أقرب إلى أفكار “البعث” منه إلى أفكار المعارضة.

وعد بخيتان أنه سيوافينا بأسماء الحزبيين المقترحة خلال يومين. وفعلاً، تم تزويد هيئة الحوار بهذه الأسماء. أما المعارضة، خصوصاً معارضة الخارج، فقد اعتذر بعضها للهيئة هاتفياً أو خطّياً، بمن فيهم برهان غليون وسمير العيطة ورامي عبد الرحمن، في حين بقي آخرون متردّدين حتى اليوم الأخير من افتتاح أعمال اللقاء التشاوري، مثل هيثم مناع الذي كان أخوه معتقلاً وسبباً مباشراً في عدم حضوره. ولم يكن التأجيل متاحاً لإقناع المتردّدين من المعارضة، لأنه سيعطي إشارة سلبية إلى احتمال فشل الحوار الوطني. بلغ عدد المدعوين 213، حضر من بينهم 187، واعتذر عن عدم الحضور 26 مدعواً. وكان واضحاً أن بعض من اعتذر في الداخل قد أعرب عن رأيه صراحةً بأنه لا يمكن أن يشارك في المؤتمر ووالده معتقل، أو في ظل استمرار العمليات الأمنية. والرئيس هو فعلاً مفتاح المدعوين من الخارج، ومن بينهم الممنوعون وأسماؤهم في المطار وعلى الحدود؛ لأن الصلاحيات لا تنقصه.

كنتُ أعرفُ مسبقاً أن المعارضة في الخارج لن تغامر بالحضور للمشاركة في هذا المؤتمر؛ لأن أسماءهم كانت لا تزال على قوائم الممنوعين من دخول سورية. وعلى الرغم من معرفة أعلى السلطات التنفيذية، وفي مقدّمتهم رئيس الجمهورية، بأسماء جميع المدعوين، لكن لم يجر، مع الأسف، أي مسعى لطمأنتهم.

أذكر أنني بوصفي وزيراً للخارجية منذ سنوات، وبتوجيه من الرئيس نفسه، أرسلتُ تعميماً إلى جميع سفاراتنا في الخارج لحل موضوع وثائق الممنوعين من العودة وإصدار جوازات سفر لهم. اتّصلت بالرئيس مستوضحاً أسباب عدم تنفيذ الجهات المعنية للتعميم، فتحجّج أنه جرى إخباره للتو من رئيس الهيئة المركزية للرقابة بأن هناك أضابير بأسماء أكثر من ثلاثمئة ألف لا يمكن تسويتها بالسرعة المطلوبة.سور

اللقاء التشاوري للحوار الوطني

سهرتُ حتى ساعة متأخّرة من الليل لمراجعة الكلمة التي سألقيها في صباح الجلسة الافتتاحية. لم أشعُر بحجم المسؤولية مثلما شعرتُ بها حينها، إزاء كل حرف وعبارة وتداعياتها ومعناها القريب والبعيد، كأنني ما كتبت خطاباتي سابقاً أكثر من عقدين في الأمم المتحدة وفي محافل دولية عديدة. لكن للكلام هنا عن سورية الداخل بالذات وقع آخر، لأنني منذ الأيام الأولى لأحداث ما أطلق عليه “الربيع العربي”، وخلافاً لتوقعات كثيرين، كنتُ أشعر بأن نهاية الأحداث ليست قريبة، وأن الطريق الذي سوف نسلكه بإرادتنا مليء بالحفر والمزالق، ولا أريد ألبتة أن يشعر الآخرون، خصوماً أم أصدقاء، بأنني متشائم إلى هذا الحد. كنتُ أصف الوضع في سورية، عندما يسألني أحد الضيوف، بالمعقّد والمركّب. وكررت هذا الوصف في كلماتي في مناقشة البيان الأخير للمؤتمر وأمام الجميع.

بدأت الجلسة الافتتاحية صباح 10 يوليو/ تموز 2011 بكلمة مقتضبة ألقاها الدكتور منير الحمش، عبّر فيها عن أهداف المؤتمر وأهميته الاجتماعية والاقتصادية في إخراج البلاد من أزمتها، ثم أعطاني الكلمة لافتتاح المؤتمر. أكّدتُ في كلمتي أن هدف هذا الحوار، في نهاية المطاف، هو الوصول إلى الدولة التعدّدية الديمقراطية، وأنه لا ينطلق في أجواء مريحة، لأن خطط الآخرين استندت إلى كمٍّ من الأخطاء الذاتية التي كنّا نرميها تحت السجادة دونما تفكير عميق في قادم الأيام، وشرحت أن هناك مطالب محقة تتعلق بحياة الناس المعيشية وأمانهم وكرامتهم لا يجوز أن نهملها، وأن هذا الحوار ليس منّة من أحد على أحد.

أوضحتُ أن معاقبة مواطنين سوريين يحملون رأياً مختلفاً بمنعهم من السفر أو من العودة إلى الوطن سيقودهم حتماً إلى طلب الحماية من دولٍ أخرى. وقلتُ، من جانب آخر، مخاطباً من يرفضون الحوار من المعارضة، إن الحروب الكبرى والصغرى والأزمات الوطنية لم تنته إلا بالحوار. وعبّرتُ عن أمل جميع المواطنين بأن يفي الرئيس بشّار الأسد بما وعد به الشعب السوري، مذكّراً بخطابه على مدرّج جامعة دمشق في 20 حزيران/ يونيو 2011. ورفضتُ في كلمتي أي تدخّل خارجي، وطالبت أن تكف بعض الدول عن صبّ النفط على النار.

ثم فُتح المجال لمداخلات المشاركين في اللقاء، ومناقشة ما ورد في جدول الأعمال من بنود ومشاريع قوانين، كان في مقدمتها مشروع قانون الأحزاب والانتخابات وقانون الإعلام، وتوصية بتشكيل لجنة قانونية – سياسية لمراجعة الدستور. كان ذلك كله قد ورد في كلمة الرئيس على مدرج جامعة دمشق. طالب مشاركون كثيرون بتشكيل لجنة لإصلاح القضاء، فأدرج هذا الموضوع مع المواضيع الأخرى. كل من طلب الكلام تحدّث، وبعضهم طلب المداخلة أكثر من مرّة. كما أتيحت الفرصة لإدارة جلسات اللقاء التشاوري لعدد من المشاركين رجالاً ونساءً، شبّاناً وشابات.

انقطاع البثّ التلفزيوني

انعقد اللقاء على مدى ثلاثة أيام في إحدى صالات منتجع صحارى. وتصدّرت الصالة يافطة كتب عليها “مؤتمر الحوار الوطني: اللقاء التشاوري 10-12 تموز”. وفي أعلاها “الحوار الوطني: ضمان لمستقبل سورية”.

بدأت الجلسة الأولى في العاشرة صباحاً. وفي مساء اليوم الذي سبق افتتاح اللقاء، أي في 9 يوليو، اتصلت بالرئيس لإبلاغه بالترتيبات المتخذة، وقلت له إن مجرياته ستبثّ على الهواء مباشرة. فاستغرب فكرة النقل التلفزيوني! وتساءل إن كان ذلك ضرورياً. كان جوابي: توجد مصلحة وطنية، خاصة في هذه الظروف كي يطلع الرأي العام السوري على وجود حوار بين السوريين بموافقة الدولة نفسها. لم يكن الرئيس مرتاحاً لفكرة النقل التلفزيوني المباشر، لكن بعد مناقشة طويلة معه وافق مشترطاً أن يكون البث لجلسة الافتتاح فقط. أعرف أن الرئيس ينام مبكّراً، فآثرت ألا أطيل الكلام عليه حتى لا تتأثر ساعة نومه البيولوجية.

أبلغني عديدون ممن تابعوا اللقاء التشاوري للحوار الوطني بالانزعاج الشديد، لأن انقطاع البث التلفزيوني بعد جلسة الافتتاح لم يكن مفهوماً؛ إذ لا يتصوّر الناس أن الرئيس هو الذي أمر بقطع الإرسال التلفزيوني. ليس لدي شك في أنه هو الذي أمر بذلك، لأنه وحده يملك صلاحية الأمر بقطع البثّ عن هذا النوع من اللقاءات، حيث كان يشرف بشكل مباشر على تفاصيل قطاع الإعلام بعد رفضه أن يتولى تلك المسؤولية أي طرف آخر في السلطة. جرت العادة على التأكيد أن كل الأفعال السلبية لا يمكن أن تصدُر عن السيد الرئيس، بل يمكن أن تصدُر عن وزير الإعلام، أو عن المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، أو عن المسؤولين في المكتب الصحافي للقصر، أو عن ادّعاء خطأ تقني مزعوم، لكن الرئيس لا يصدر أمراً كهذا فهو معصوم عن الخطأ!

المادّة الثامنة في الدستور

بعد انعقاد اليوم الأول من اللقاء التشاوري، هاتفني الرئيس بشّار الأسد مساءً مستفسراً إن كنّا سنناقش في اليوم التالي المادة الثامنة من الدستور التي تنصّ على أن “حزب البعث العربي الاشتراكي هو القائد في الدولة والمجتمع” أجبته بأن كثيرين في اللقاء لا شك في أنهم سيطرحون المادة الثامنة، ولكن كل ما سيصدر عن اللقاء توصيات لا يمكن اعتمادها إلا بمراسيم تشريعية تحظى بتوقيع السيد الرئيس، وأن المادة الثامنة وردت نصّاً في الدستور، ومن ثمّ، فإن إلغاءها يتطلب النظر في إلغاء بعض مواد الدستور أو تعديلها.

في السابعة من صباح اليوم الثاني للقاء، اتصل الرئيس بي ثانية حول الموضوع نفسه وطلب مني بإصرار ألا أقبل طرح المادة الثامنة. قلت له لا أستطيع؛ لأن اللقاء له صفة مؤتمر، وهو سيّد نفسه مثل كل المؤتمرات، وفي أي حال، ليس لدى المؤتمر سلطة تشريعية تسمح له باتخاذ قرارات، وذكّرته بكلمته قبل ثلاثة أسابيع فقط، وإشارته فيها إلى إمكانية مناقشة تعديل الدستور أو صياغة دستور جديد.

قبيل بدء الاجتماع بقليل، وبعد هاتف الرئيس، طلب صفوان قدسي رؤيتي على انفراد ليبلغني بأنه يطلعني بسرّية مطلقة أن محمد دعبول (أبو سليم)، مدير مكتب الرئيس، طلب منه ألا يوافق على مناقشة المادة الثامنة مطلقاً عند طرحها خلال المناقشات، بأمر من الرئيس. وكان قد أبلغني قبل ذلك بقليل الدكتور هيثم سطايحي انزعاج الرئيس من طرح المادة الثامنة، وألحّ عليّ أن أتصل بالرئيس ثانية قبل بدء الجلسة. اتصلتُ بالرئيس، وقلتُ له إن جميع ما تتخذه هيئة الحوار من قراراتٍ لا تعتبر نافذة إلا بمصادقة منه وتوقيعه عليها.

عقدتُ اجتماعاً لأعضاء الهيئة أخبرتهم مضمون الاتصال بالسيّد الرئيس، وأكّدت أن لا أحد منا يريد إفشال المؤتمر لأن كل الإصلاحات لا معنى لها بوجود المادة الثامنة في الدستور، وأنه لا علاقة لذلك بمطالب المعارضة، لأنها كانت بالفعل مطالب حزبية منذ انعقاد المؤتمر القُطري العاشر للحزب في عام 2005، الذي أكّد أهمية إصدار قانون جديد للأحزاب يضمن المشاركة الوطنية في الحياة السياسية، وإلغاء قانون الطوارئ، وإصدار قانونٍ جديد للإعلام، ولكن لم ينفذ أي مطلبٍ أو توصيةٍ منها خلال السنوات الست المنصرمة. وأضفتُ أن عدم مناقشة المادة الثامنة يعني استمرار احتكارنا الحياة السياسية في سورية، ويتناقض هذا الاحتكار مع تشكيل هيئة الحوار نفسها.

كانت هذه هي آرائي قبل انعقاد المؤتمر وإبّان التحضير له، وبعد نهاية أعماله، فلقد كرّرتُ هذه المعاني خلال اجتماعات القيادة القُطرية والقومية والجبهة الوطنية التقدمية. ولن أستطرد هنا إلا لضرورة بيان ذلك. ففي اجتماع نادر عقد في مطلع الأحداث مع جميع رؤساء الأجهزة الأمنية بحضور أعضاء القيادة القُطرية، لفتُّ الانتباه إلى المخاطر التي تنتظرنا في مواجهة الأزمة. تحدّثت في هذا الاجتماع عما جرى في شرق أوروبا من تغيرات مذهلة قبل عقدين، لا سيما في رومانيا، حيث أعدم الرئيس الروماني وزوجته بصورة بشعة، كما تطرّقتُ إلى عمليات التهريب والفساد المستشري ومنها تهريب الأسلحة، خاصة على الحدود الشمالية والشرقية من البلاد في ظل فساد الأجهزة الأمنية والشرطية، وأكّدت أن خطرها اليوم أشدّ من أي وقت مضى.

أظهر اللواء جميل حسن مدير المخابرات الجوية – التي ذاع بطشها على كل لسان – توتّراً ونرفزةً في أثناء كلمتي، وقدّرت أن نرفزته بسبب ما فهمه من أنني أعرّض بالمؤسسة الأمنية. حين انتهى الاجتماع، اختلى بمحمد سعيد بخيتان. وبعد عدة شهور من هذه الحادثة، تأكّدت من انزعاجه عندما كلفت مدير مكتبي بالاتصال به في محاولة لإطلاق سراح بعض من أقاربي الشبان من المتظاهرين الذين جرى اعتقالهم في درعا من فرع المخابرات الجوية، فكان ردّه لمدير مكتبي: “قل لأبي مضر إننا مؤسسة غير فاسدة على عكس ما ادّعى سابقاً، لذلك فنحن لا نقبل الواسطة”، وأبقاهم في السجن.

أتيحت الفرصة في المؤتمر لجميع من طلب الكلام، شبّاناً وشابات، نقابات عمال وفلاحين وطلبة، فنانين ومهندسين وأطباء ومحامين، ومن مختلف أطياف المجتمع السوري، وإن كانت المناقشات لم تخلُ، في بعض الأحيان، من المشاحنات والخلافات ووجهات النظر الحادّة والمتعارضة. لكن الحوار كان شاملاً باستيعابه لمختلف الأفكار، لا مكان فيه للملل، ولم يسجل أي تبرّم رغم انقضاء ثلاثة أيام طويلة من العمل، بل جاء معبراً عن “جوع للحوار”، بحسب ما ورد على لسان أحد المشاركين فيه.

كان من بين هذه المداخلات المهمّة في اللقاء التشاوري تلك التي قيلت من دون نقل مباشر على الهواء: من حنين نمر ومحمد حبش وعمر أوسي وقدري جميل وإلياس نجمة وحنان قصّاب حسن وإلياس زحلاوي وعباس النوري ونجوى قصّاب حسن وبثينة شعبان وعبد الرحمن العطار وغسان طيارة ودريد لحام وحسن م. يوسف وعزّوز شعبان وغيرهم، خاصة من شبان وشابات كان لمشاركتهم الأثر الكبير في إغناء المؤتمر من الجيل الذي يشكل النواة في المجتمعات العربية.

بعد انتهاء الحوار في اللجان الفرعية، والانتقال إلى تشكيل لجنةٍ لصياغة البيان الختامي، صارحتُ المؤتمر بأن “هناك من لا يريد التغيير أبداً”، وأن “هناك من يريد أن يقلب كل شيء رأساً على عقب”، ووصفتُها بوجهات نظر من الجانبين، ثم أعدتُ وصفها بأنها وجهات نظر متعارضة وحادّة، وبعضها يتطلع إلى سقفٍ عالٍ. ودعوتُ إلى الخروج من الاستقطاب برؤيةٍ تفتح الطريق أمام انعقاد مؤتمر وطني شامل مفوض باتخاذ القرارات. وأن هيئة الحوار لن تنتهي هنا، بل ستواصل اتصالاتها واجتماعاتها مع الشخصيات الوطنية والمعارضة وبناء توافقات تسمح بإنجاح المؤتمر الشامل.

شُكلت لجنة لصياغة بيان ختامي حول أعمال المؤتمر ممن يرغب في ذلك من أعضاء اللقاء التشاوري، على ألا يتجاوز عدد المشاركين فيها العشرين. كان التنافس شديداً على المشاركة في اللجنة التي استغرقت أعمالها ساعات طويلة. وساهمت هيئة الحوار الوطني في المساعدة البنّاءة على حسم بعض الجدل الحادّ بين أعضاء لجنة الصياغة. بادرتُ لحسم الجدل حول المادّة الثامنة بكتابة صيغة حولها لم يعترض عليها أحد. كلفت هيئة الحوار الدكتور إبراهيم درّاجي بإلقاء البيان الختامي للمؤتمر، حيث حظي كل بندٍ فيه بتغطية إعلامية واسعة وتعليقات سياسية يصعب حصرها هنا. ولا بد من التنويه بالجهود التي بذلتها لجنة الصياغة بصبر وبصيرة ساعات مضنية وطويلة سادها شعور عالٍ بالمسؤولية الوطنية.

وفي هذا السياق، لا بد من الإشادة بالمداخلة الشجاعة للمفكر المعارض الطيب تيزيني الذي دعا فيها إلى تفكيك الدولة الأمنية في إطار رؤية وطنية، وبالمداخلات القيّمة الأخرى التي حُرم المواطنون من متابعتها عبر الشاشات لانقطاع نقلها المباشر على الهواء، إلا أنها موثقة باعتبارها جزءاً من تاريخ سورية في الأشهر الأولى من الأحداث التي شغلت العالم في عام 2011.

كانت المعارضة السورية في الخارج أشدّ انتقاداً لهيئة الحوار الوطني من معارضة الداخل، حيث اعتبرتها صنيعة النظام، بل طالبت بعض قادتها برفض أي حوار، أو ربما أنها تصرّفت حينها كأن الحزب الحاكم انتهى أو في طريقه إلى النهاية القريبة.

البيان الختامي

جاء في البيان الختامي “بعد الترحّم على شهداء الوطن” تحديد القواسم المشتركة للمؤتمرين، وبلغ عددها 18 قاسماً مشتركاً، بدأت بأن “الحوار هو الطريق الوحيد الذي يوصل البلاد إلى إنهاء الأزمة”، وأكدت “ضرورة الإفراج الفوري عن جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي”، و”الموقوفين في الأحداث الأخيرة ما لم تثبُت إدانتهم أمام السلطات القضائية”، والتوصية بـ “إنشاء مجلس أعلى لحقوق الإنسان”، والتوجّه نحو “إقامة دولة الحق والقانون والعدالة والمواطنة والتعدّدية الوطنية”، و”أن المعارضة الوطنية جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني السوري” و”رفض التدخل الخارجي”، وتأكيد “تحرير الجولان”، و”على الثوابت الوطنية والقومية المتصلة بالصراع العربي الصهيوني، وتحرير الأراضي العربية المحتلة، وضمان الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني”. وأقرّ المؤتمرون “تشكيل لجان تعد قانون الأحزاب وقانون الانتخابات، وقانون الإعلام”، و”إنشاء لجنة قانونية سياسية لمراجعة الدستور بمواده كافة”، “بما في ذلك المادة الثامنة”. قال لي المعارض ميشيل كيلو الذي كان في دمشق عندما اعتذر عن المشاركة في اللقاء التشاوري: “لو كنتُ أتوقّع صدور مثل هذا البيان الختامي لكنتُ شاركتُ في المؤتمر، أنا لا أطلب أكثر من ذلك لبلدي”.

الحوار مع هيئة التنسيق

كان البيان الختامي للقاء التشاوري قد أكّد أن انعقاده هو تمهيد “لانعقاد مؤتمر الحوار الوطني مشدداً على إبقاء الاتصالات مع الأطراف والشخصيات الاجتماعية والقوى السياسية السورية في داخل الوطن وخارجه كافةً”. وبالفعل، أجرت هيئة الحوار الوطني اتصالاتٍ بدأتها مع هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديمقراطي، التي أعلن تشكيلها في 25 يونيو 2011، وجرى الاجتماع الأول بالفعل في 30 يوليو 2011 مع الأستاذ حسن عبد العظيم الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي المعارض، والناطق الرسمي للتجمّع الوطني الديمقراطي، ورئيس هيئة التنسيق الوطنية، وحضر مندوبون عن أحزاب في التجمّع الوطني الديمقراطي، وفي الحركة الوطنية الديمقراطية، وتجمّع اليسار الماركسي، وعدد من الشخصيات والقوى الوطنية والديمقراطية. وأكد الاجتماع ما جاء في البيان، مثيراً السؤال “عن أسباب عدم تبني توصيات اللقاء التشاوري حتى الآن من السلطة السياسية”. وجرى التفاهم على بحث المقترحات حول التنسيق بين الهيئتين، الحوار الوطني وهيئة التنسيق، في اجتماعات كل منهما، والعودة إلى الاجتماع. لكن الهجوم على اللقاء التشاوري قد أخذ يشتد، مما أحبط ذلك.

الهجوم الرئاسي على اللقاء التشاوري

جرت محاولات عديدة للتشويش على المؤتمر ومحاولة إفشاله في أثناء انعقاده وبعده، منها على سبيل المثال: زيارة السفير الأميركي الجديد روبرت فورد غداة افتتاح المؤتمر إلى مدينة حماة، التي تصادف أن خرجت عن بكرة أبيها في مظاهرة سلمية، وليس للترحيب بالسفير الذي لا يعرف معظم أهل حماة شكله؛ لأن تقديم أوراق اعتماده لم يمر عليه سوى أسابيع قليلة.

أمر الرئيس بإدخال عدد من الدبابات إلى مدينة حماة تحسّباً من النتائج. قلتُ للرئيس إن ما جرى في حماة من مظاهرات سلمية كان في الإمكان اعتباره بمنزلة قدوة يمكن تطبيقها في مدن سورية أخرى. فقال منزعجاً لقد استقبلوا السفير الأميركي بالزهور! قلت له، هل سكّان حماة الذين خرجوا بمئات الألوف يحملون جميعهم الزهور؟ علق غاضباً: ومن قال إنهم كانوا بمئات الآلاف، إذ لم يتجاوز عددهم ثمانين ألفاً!

كانت زيارة السفير إلى حماة حركة انتهازية منه، مع أن زيارته لا تحتاج إلى موافقة رسمية من وزارة الخارجية السورية، تطبيقاً لمبدأ المعاملة بالمثل للسفير السوري عماد مصطفى الذي اعتاد أن يتنقل بحرية داخل الولايات المتحدة. وصارت زيارته القصة الأهم عند أصحاب السلطة، وليس المظاهرة الأكبر في تاريخ هذه المدينة التي أحدثت ضجّة كبيرة لم تشهد المدينة مثيلاً لها.

جاء التشويش الثاني عندما وصلت باصات نزل منها عشراتُ الشبّيحة المعروفون بولائهم للسلطة في الصباح الباكر من 11 يوليو 2011 إلى محيط السفارتين الأميركية والفرنسية بدمشق، خلال انعقاد مؤتمر الحوار الوطني، ربما لإعطاء الانطباع أن للقاء الحوار ارتباطات غربية. استفسرتُ من اللواء هشام الاختيار هاتفياً عن سبب مرابطة هؤلاء الشبّان في محيط السفارتين الأميركية والفرنسية، فنفى علمه بمن أرسلهم، وأعلمني أن أحد الشبان قتل أمام السفارة الفرنسية وهو يحاول اقتحام سورها. لكن ما حدث بعدها محاولة نسف توصيات مؤتمر الحوار بتوقيف نحو 1600 شخص في حي الميدان، ما كان له أثر سلبي داخل سورية وخارجها؛ إذ نقلت الصور التي جرى بثّها من أمام السفارتين، فضلاً عن الاعتداء على بعض المواطنين في الشارع كأن شيئاً لم يتغيّر، بل ستكون هناك عـودة إلى الوراء وخيمة العواقب.

جاء التشويش الثالث من داخل البيت الرسمي. فقبل ساعة من قراءة نص البيان الختامي، اقتربت الدكتورة بثينة شعبان من مقعدي، وتقدّمت بمقترح جديد بعد أن تم التصويت النهائي على نص البيان الختامي. تضمّن المقترح إدخال فقرةٍ جديدةٍ على نص البيان تتعلق بدور المرأة في المجتمع، قلت لها إن هذه المعاني متضمّنة في البيان الختامي الذي يخاطب الجميع رجالاً ونساء، وفي كل الأحوال كان عليها أن تتقدّم به سابقاً للجنة الصياغة. لكنها أصرّت، فرفضتُ مقترحها الذي سيفتح باب النقاش مرّة أخرى. الأمر الذي يعني إهدار كل ما بذلته لجنة الصياغة من جهد ساعات طويلة مع احتمال تمديد اللقاء التشاوري يوماً رابعاً، وهي تعرف ذلك. اكتشفتُ نيتها الحقيقية المبيتة من وراء اقتراحها، وكنتُ أتصوّر سابقاً أنها في مقدّمة من يريد إنجاح مؤتمر الحوار الوطني. وانسحبت وغادرَت القاعة معلنةً لي استقالتها، فقلتُ لها إن الاستقالة يجب أن تقدّم للرئيس بشّار الأسد الذي عيّنها.

حصل التشويش الرابع والأخطر بهدف إلغاء نتائج اللقاء التشاوري، حيث صدرت توجيهات من رئيس الجمهورية بغاية السرّية (لم تصل إلى علمي إلا بعد مدّة) بطلب التنديد على نطاق رسمي بالبيان الختامي بذريعة أنه تجاهل مكاسب الشعب السوري. أخبرني عبد السلام حجاب مدير مكتبي الصحافي أن رئيس اتحاد الفلاحين هلال الهلال انتقد نتائج اللقاء التشاوري، وأن رئيس الاتحاد الوطني لطلبة سورية عمار ساعاتي الذي أمضى قرابة عقدين رئيساً للاتحاد، أصدر تصريحاً كما أجرى مقابلة صحافية أيضاً هاجم فيها اللقاء التشاوري، علماً أنه شارك في المؤتمر وأجرى مداخلات متكرّرة في النقاش العام، ولم يسجل تحفظه على البيان الختامي. قلت لعبد السلام حجاب متهكماً، لا شك أن حرية التعبير بدأت تشقّ طريقها في سورية، لأن نص البيان الختامي للمؤتمر بالذات كان هدفه تحقيق مكاسب إضافية للشعب السوري وليس إلغاء أي مكسبٍ منها. ولكن عندما تأكدت لاحقاً ممن كان وراء الهجوم على البيان الختامي، في إطار حملة منظّمة في غاية السرية لإلغاء نتائج المؤتمر، أصبتُ بخيبة أمل كبيرة؛ لأنني لم أتخيّل حينها أن مستوى المراوغة حول ما يجري في بلدنا قد هبط إلى هذه الدرجة لدى أعلى قيادة في البلاد.

حلّلتُ لاحقاً بأن الاثنين تحرّكا بموجب تعليمات خفيّة لإعطاء الانطباع بأن هذا الرفض لنتائج المؤتمر يأتي من القاعدة الشعبية للسلطة، فلاحين وطلبة، وليس بالضرورة من الرأس. وجرى تعميم وصف المؤتمر بـ “المؤتمر التآمري”. وقد كوفئ الرجلان لاحقاً بتعيينهما عضويين في القيادة القُطرية التي جاءت بعد عزل القيادة التي كانت قائمة في عام 2013.

لقد أُفشِل رسمياً وبصورة متعمّدة أول حوار سوري – سوري عندما كان عدد المتظاهرين المعارضين لا يتجاوز بضع مئات، وعندما لم يكن هناك سوى بضعة آلاف ممن اضطرّوا إلى اللجوء إلى تركيا، حيث أعادهم في اليوم التالي عبد الرحمن العطار الذي شارك في المؤتمر بصفته مدير الهلال الأحمر السوري، فأوقفت الأجهزة الأمنية عدداً منهم في طريق العودة للتحقيق معهم بحسب ما قال العطار.

تبيّن بعد محاولة إفشال اللقاء التشاوري أن طريق اللقاءات الشخصية التي أجراها الرئيس الأسد بناءً على طلبه مع شخصيات وطنية مختارة، راوح عددها ما بين 30 و 50 من كل محافظة سورية في القصر الجمهوري بترتيب من السلطات الأمنية والحزبية، لم تسفر عن تحوّل مهم في مسار المطالب الشعبية، ليس بسبب وجود عيب في الشخصيات المنتقاة، بل ربما لمست هذه النخب لطف الرئيس معها، فبادلته اللطفَ بأفضل ما لديها، لكنّ كثيراً منها لم يتحوّل إلى داعية له، كما كان يأمل في مواجهة ما اعتبره الرئيس في أحاديثه المتكرّرة معارضة إرهابية، هدفها إحداث فتنة في سورية، فاعتبر ذلك تأييداً لنهجه.

كان الرئيس الغارق في حبّ الذات، لا يستطيع سماع سوى كلمات المديح التي لا بد من أن تقال له في هذه المناسبات من مواطنيه، من دون أن يقرأ ما بين السطور في ما قاله القادمون من مختلف المحافظات للاطّلاع على جوانب تخفى عليه وعلى الكثيرين منا حول الأحداث السورية وتداعياتها.

بعد ذلك، دعا الرئيس إلى نقل الحوار إلى المحافظات السورية بترتيباتٍ رسمية، شارك فيها المحافظون وأمناء فروع الحزب. كانت التوجيهات لهم حينها بالتمسّك بثوابت السلطة، وهي ألا تقل مدة الرئاسة عن سبع سنوات وألا يجري تداول للسلطة في أي دستور جديد، وضرورة تجنّب الانتقادات الجارحة التي يمكن أن تنال من مقام الرئاسة.

لم يجرِ حديث بيني وبين الرئيس أو القيادة عن مخرجات الحوار الوطني، فكما يقول المثل السوري “المكتوب يظهر من عنوانه”؛ أي إن ما جرى من محاولات لإجهاضه كافية للدلالة على نيّات المستقبل.

———————————————-

فاروق الشرع: وحدَه الاعتداء على تمثال والده أزعج بشّار الأسد في مظاهرات درعا (6)

03 مايو 2025

يصدر كتاب “مذكرات فاروق الشرع… الجزء الثاني 2000 – 2015” عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ويغطي فترةً من رئاسة بشّار الأسد (2005 – 2015) استمرّ فيها الشرع في منصبه وزيراً للخارجية، ثمّ في منصب نائب رئيس الجمهورية، قبل أن يضطرّ إلى الاعتكاف بمنزله في 2013، وإصدار الأسد تعليمات بعدم التواصل معه. وبينما اعتُبر الجزء الأول من الكتاب شهادةً تاريخيةً مهمةً على مسار من الأحداث التي شهدتها سورية في تفاعلاتها الإقليمية والدولية، خصوصاً ما يتعلّق بالمفاوضات السورية – الإسرائيلية، في عهد حافظ الأسد، يقدّم الشرع في الكتاب شهادته على أحداث لا تقلّ أهميةً في عهد بشّار، منها اغتيال رفيق الحريري واتهامات مسؤولين سوريين بالتورّط في اغتياله، ما أسهم في دفع الخروج السوري من لبنان، وأحداث عصفت بسورية مع اندلاع الثورة السورية (2011). وتنشر “العربي الجديد” فصولاً من الكتاب. وهنا حلقة سادسة تتناول انطلاق الثورة السورية ومساراتها الدموية، بعد إصرار بشار الأسد على الحل الأمني رافضاً مقترحات الحل السياسي محلياً وإقليمياً ودولياً.

انتشر مصطلح الربيع العربي وتغلغل بقلوب الناس وعقولهم، واستمدّوا منه شحنة كبيرة من التفاؤل بأن أحوالهم سوف تتحسن، وفرص العمل ستتوفّر، والأسعار ستنخفض، والعدالة ستأخذ مجراها خلال هذا الربيع ولن تنتظر الربيع القادم. ومن جهة أخرى، استنفرت هذه الأفكار الافتراضية أصحاب السلطة الرسمية والأجهزة الأمنية في سورية التي رأت فيها مؤامرة “صهيو- أميركية” تستهدف النظام وتهدّد الأمن والاستقرار في ربوع الوطن. وهذه السلطة هي التي تمثل الشرعية الدستورية التي تقدم الخدمات والوظائف إلى الشعب، وتحفظ الأمن في البلاد، وتطبق القانون على جميع المواطنين بالتساوي.

لكن هل كان القانون مطبّقاً على جميع المواطنين منذ بداية الأحداث؟ فكلنا يذكر الروايات حول عاطف نجيب، رئيس فرع الأمن السياسي في درعا، ومحافظ درعا الدكتور فيصل كلثوم، ومصير لجان التحقيق العديدة التي شكلت لمعالجة أحداث حمص وبانياس واللاذقية وحماة وغيرها الكثير، وفشلها في الوصول إلى نهاياتها المنشودة، وخاصة ما تعلق منها بإطلاق الرصاص “المجهول المصدر” في درعا، والسلاح والليرات السورية المسحوبة حديثاً (كما أشيع) من المصرف المركزي، حيث وجدت فجأة داخل ردهات الجامع العمري في درعا من دون أن يُعرف من أدخلها حتى الآن!

ثمّة مثال آخر، إذ جرى حرمان سكان مدينة حماة من خدمات الدولة الضرورية والأساسية في يوليو/تمّوز 2011، ومُنعوا من استخدام عمّال النظافة واللجوء إلى دوائر الدولة لفضّ المشكلات والخلافات فيما بينهم، بأمرٍ من السلطات الحكومية العليا بعد احتجاجاتهم السلمية. كانت وقائع مظاهرة حماة تؤكّد أن السلطات لجأت إلى معاقبة أهل المدينة خلافاً للقانون والدستور، بعد أن خرجوا بمئات الآلاف سلميّاً من دون حمل سلاح. كان وجود السفير الأميركي في المظاهرة حركة انتهازية منه، وتمّت بموافقة شبه رسمية من الدولة منحتها وزارة الدفاع. لقد عوقب أهل حماة جماعيّاً بقسوة شديدة، فسقط عشرات الشباب قتلى بالرصاص، كما عوقب غيرهم من المواطنين في المحافظات الأخرى من دون وجود سفراء في استقبالهم، واعتُقل بعضهم في دمشق وفي غوطتي دمشق الشرقية والغربية، وعذّبوا منذ بداية الأحداث، وقُتل عدد منهم ولم يكن بأيديهم سلاح.

استعانت السلطة الرسمية في سورية، مع اشتداد “الأزمة” في مطلع عام 2012، بمقاتلي حزب الله اللبناني المقاوم ضد العدو الإسرائيلي، لحماية القرى الحدودية اللبنانية – السورية والأضرحة “الشيعية” حول دمشق، مع ما يعنيه ذلك من إيقاظ الروح المذهبية الطائفية بصورة رسمية في سورية من دون تفكير بعواقبه الخطيرة. كما شرعت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعدئذ بدفع رواتب مجزية وصلت إلى عدة أضعاف عما يتقاضاه الجندي السوري لمليشيات مذهبية استقدمتها من بلدان مجاورة، فضلاً عن تجنيدها بعض المتطوعين السوريين الشباب في صفوفها، ووعود باحتمال إعفائهم من الخدمة العسكرية لاحقاً، لأنها أصبحت صاحبة سلطة في دمشق.

من جانب آخر، جرى تزويد مختلف فصائل المعارضة المسلحة من بعض الدول القريبة والبعيدة بسلاحٍ غير رادع لم يحسم الاقتتال، ولم يمنع الانتقام، فضلاً عن السلاح الذي صنعته بعض الفصائل المعارضة محليّاً، أو غنمته خلال المعارك مع الجيش العربي السوري. يضاف إلى ذلك ما سمحت تركيا بتهريبه بعد فشلها بإيجاد حل سياسي عن طريق وزير الخارجية أحمد داود أوغلو في مساعيه لإقناع الرئيس بشار، الذي فاوضه ارتجاليّاً طوال صيف 2011. ولم تُختتم تلك المفاوضات بتصريحات لتنوير الرأي العام السوري بما جرى خلالها.

مال وفير وسلاح لا يصلح للردع

رغم كل السلاح الوارد عبر الحدود المفتوحة رسميّاً من دون رقيب خلال سنوات الحرب على سورية، والمال الوفير القادم من بعض الدول الخليجية من دون حسيب، لم يُسمح للمعارضات المسلحة، بمختلف أشكالها، مواجهة الصواريخ المجنحة والطائرات الحربية والبراميل المتفجرة، التي لا تملك المعارضة أيّاً منها، فقد تعهدت كل الدول الداعمة للمعارضة السورية الامتناع عن تزويدها بصواريخ ضد الطائرات الحربية (كالتي استخدمت في أفغانستان لإسقاط المقاتلات السوفياتية في ثمانينيات القرن الماضي)، ومن ثمّ لا يمكن أن يصدّق إنسان في العالم أن كل هذا الدمار الهائل في المدن السورية كان بفعل أسلحة فصائل المعارضة السورية البسيطة.

الخطأ الذي وقعت فيه المعارضة يكمن في عدم اتحادها، أو على الأقل توافق جبهة واحدة بين فصائلها المختلفة، على برنامج سياسي موحد لبرامجها السياسية. ولعل السبب يعود أساساً إلى تبعيتها لمموّليها غير الموحّدين أصلاً، إذ تبيّن ذلك حين لم ينجح الملك عبد الله بن عبد العزيز في تحويل مجلس التعاون إلى اتحاد خليجي.

تظلّ شرعية السلطات الرسمية ومؤسساتها الحكومية، بإيجابياتها وسلبياتها، مستمدّة من الشعب الذي يحتمي بها، كما ورد في آخر دستور سوري معمول به لعام 1973 أو وفق الدستور الجديد الذي صدر في عام 2012. لكن الحكومة السورية نفسها تعرضت للتشكيك بشرعيتها، ليس لأن معظم دول جامعة الدول العربية قاطعتها منذ نهاية عام 2011، ولا لأن “أصدقاء سورية” المفترضين من الدول الأوروبية شكّكوا بشرعية النظام في دمشق، وإنما لأن الحكومة السورية نفسها لم تلتزم بتطبيق كامل بنود دستورها، فبارك بعض أجنحتها الاعتقال التعسفي والقتل خارج إطار القانون والدستور، وبقيت الأحكام العرفية من الناحية الفعلية على حالها وبصورة أسوأ مما كانت عليه سابقاً، رغم جميع المحاولات الرسمية لإلغائها.

هل يُعقل أن تصبح مئات من الدول في الأمم المتحدة التي كانت تاريخيّاً مؤيدةً المطلب السوري المشروع في تحرير الجولان المحتل فجأة متآمرة على سورية؟ وإذا كان الأمر فعلاً كذلك نتيجة “للتآمر الكوني”، ألا يستحقّ هذا الموضوع الخطير الدراسة والتفكير لحظة وإعادة النظر في مواقفنا غير المقنعة للسوريين أنفسهم؟ أم إن التصدّي للإمبريالية العالمية مقتصر على سورية وحدها؟ أما حلفاؤها الكبار الإقليميون والدوليون، من إيرانيين وروس، فمسموحٌ لهم التفاوض مع الإمبريالية الأميركية في ذروة سنوات الأزمة السورية: إيران حول الملف النووي الذي تواصل التفاوض بشأنه خلال الأزمة السورية ما بين عامي 2011 و2015، وروسيا تفاوض حول أوكرانيا.

كنتُ في الماضي القريب أو البعيد ألوم الرفاق الذين تخلوا سابقاً عن مسؤولياتهم لأسبابٍ كنت أراها بسيطة، وكانوا هم لا يرونها كذلك. ألا يتحتّم عليّ أن أبادر في ظل هذه الأزمة التي نعيشها، وهي غير مسبوقة في تاريخ سورية الحديث باعتراف الصديق والعدو، ولا بتاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم؟ أم تُترك الأمور على غاربها ويستمرّ الحط من الحل السياسي، ما سيكون له عواقب كارثية على سورية، وسيدفع كل السوريين الثمن وحدهم، أينما كانوا في الداخل أو في الخارج؟

ولعل هذا الأمر بالذات هو الذي شجّعني، بعد أن أجهضت كل المحاولات العربية والدولية، وفي أعقاب الاجتماعات مع وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، في زيارته الرسمية إلى دمشق في 7 فبراير/شباط، أن أقترح على الرئيس عام 2012 دعوة وزيري خارجية إيران وروسيا، بوصفهما بلديْن صديقين لسورية، والاجتماع بهما في القصر الجمهوري، لأخذ رأيهما في حل سياسي شامل، قد يساعد سورية على الخروج من أزمتها الراهنة.

تجاهل الرئيس إعطاء أي جوابٍ على اقتراحي رغم تكراره، ربما لأنه كان يعرف حينها أن هاتين الدولتين قد تؤيدان الحل السلمي، كما صدر عنهما في بداية الأحداث، وليس الحلّ العسكري، خاصة إذا كان صاحب الاقتراح هو الرئيس بشّار قائد الجيش وآمر فرقه. لقد تأكّد لي جواب الرئيس الحقيقي على هذا الاقتراح، عندما عقدت القيادة القُطرية صيف 2012 اجتماعاً برئاسته قال فيه إنه من الآن فصاعداً “سيقود منفرداً السياسة الخارجية من تحت الطاولة”، وأشار بيده إلى تحت طاولة الاجتماع الرئاسية، موحياً بأن المشكلة لا علاقة لها ألبتّة ببنية الحكم أو بموقفه الفردي الذي يتخذه رئيساً للبلاد في هذه الأزمة.

لقد علمتُ مباشرة من السفيرين الإيراني والروسي اللذين اجتمعت بهما في عام 2012 ذاته، أن بلديهما كانا يؤيدان حلًا سياسياً في بداية الأزمة، حتى إن السفير الإيراني أخبرني حينها أن طهران استقبلت وفدأً من المعارضة الإسلامية السورية لهذا الغرض، منتقداً خلال هذا اللقاء كثرة الحواجز العسكرية في دمشق ومعلقّاً عما يقوله الناس بأن المسؤولين السوريين يختبئون خلف هذه الحواجز. وأبلغني السفير الروسي بدمشق نقاطاً محددة حول الحل السياسي في سورية شبيهة بالنقاط الست التي وردت في خطة كوفي عنان المدعومة عربيّاً ودوليّاً.

كان عنان قد قدم في 10 مارس/ آذار 2012 إلى الرئيس خطّته ذات النقاط الست، وأبرز ما نصت عليه: التوصل بشكل عاجل إلى وقف فعال للعنف المسلح بكل أشكاله من كل الأطراف تحت إشراف الأمم المتحدة لحماية المدنيين وتحقيق الاستقرار في البلاد، وسحب الوحدات العسكرية السورية من داخل التجمعات السكانية وما حولها، والحصول على التزامات من المعارضة بوقف القتال، وصولًا إلى وقف دائم للعنف المسلح بكل أشكاله من كل الأطراف، وتكثيف وتائر الإفراج عن المحتجزين تعسفيّاً، وضمان حرية حركة الصحافيين في أنحاء البلاد وانتهاج سياسةٍ لا تنطوي على التمييز بينهم فيما يتعلق بمنح تأشيرات الدخول، واحترام حرية التجمع وحق التظاهر سلمياً كما يكفل القانون. وعد الرئيس بشار كوفي عنان بالتجاوب مع نقاطه الست. ونشر ذلك على الملأ. لكن المواجهات الشرسة استمرت في بصر الحرير بدرعا والرستن، كما استمرت مداهمات المدن التي كان فيها نشطاء مسلحون كثر، ولم تتوقّف دورة العنف قط.

الرصاص الحي في درعا

أطلق على درعا مصطلح “مهد الثورة” في سورية، لأنها كانت المدينة السورية الأولى التي أطلق الرصاص الحي فيها، وسقط من بين أهلها شهداء، مع أن المظاهرات وبعض الاحتجاجات والتجمعات حدثت في محافظات سورية أخرى أيضاً، وربما بصورة متزامنة، لكن من دون سقوط شهداء وضحايا. حدثت تجمعات وتجمهرات في دمشق أمام مجلس الشعب ووزارة الداخلية وحول الجامع الأموي وفي سوق الحريقة، وفي حي الميدان وأحياء أخرى، وكذلك في اللاذقية، وبانياس وحمص والرستن، وفي الغوطة الشرقية في دوما وجوبر وحرستا، والغوطة الغربية في داريا والزبداني والمعضمية على التوالي، وفي قرى أخرى بعيدة عن العين والكاميرات.

أما ساحة العباسيين التي تستوعب عشرات الآلاف في دمشق، فلقد جرت حراسة مداخلها بكتيبة سورية؛ لأسباب أمنية، منذ أن أصبح ميدان التحرير في القاهرة مكاناً لتجمع المتظاهرين في مصر. كانت الرسالة واضحة لا سيما للدمشقيين وأبناء غوطتهم بأن التظاهر السلمي ممنوعٌ إلا إذا نظّمته الدولة، كما حدث مع المسيرة الموالية المنظمّة في 29 مارس 2011، التي كانت الأولى، وربما الأخيرة، بهذا الحجم في العاصمة دمشق.

ترافقت مع أحداث درعا عدة أحداث في عموم البلاد ولها دلالاتها؛ أبرزها في 15 مارس/ آذار 2011، فبدأ التظاهر بجمهرة صغيرة في سوق الحريقة بدمشق إثر خلاف بين شرطة المرور وأحد تجار السوق. تطوّر الحدث فجأة، بعد أن تضامن مئات غدوا بسرعة ألوفاً من الأهالي ضد شرطة المرور، وهم يهتفون “حاميها حراميها”، ما استدعى تدخّل عددٍ من رجال الشرطة والأمن. ثم كبر الموضوع وكاد أن يخرج عن السيطرة؛ ما استدعى حضور كبار ضبّاط الشرطة، ثم حضور وزير الداخلية اللواء سعيد سمّور بنفسه لمعالجة المشكلة المستعصية.

تمكّن وزير الداخلية، بحسن تصرّفه، من إنهاء الخلاف بصورة مرضية للجميع، حتى إن بعضهم في الجمهرة العفوية أخذ يهتف باسم الرئيس، بينما آخرون كانوا يردّدون بصوت مرتفع “الشعب السوري ما بينذل”. اعتبرت بعض الأجهزة الأمنية أن ذلك بمنزلة تمرد لا يجوز التعامل معه بهذه الطريقة، مع أنه لا تناقض بين الموقفين؛ فالرئيس الطبيعي لأي دولة لا يقبل الذل لشعبه بأي حال من الأحوال. لكن في صباح اليوم التالي، في أثناء اجتماع القيادة، تساءل عضو القيادة القُطرية ووزير الدفاع العماد علي حبيب عن حادثة الأمس بسوق الحريقة وتداعياتها المحتملة في هذه الأجواء، فجاءه الجواب من أحد الأعضاء: سورية ليست كمصر وتونس، وأن تصرّف وزير الداخلية قلل من “هيبة الوزارة”. وعند أول تغيير وزاري، فقد سعيد سمّور منصبه، وجرى تعيين وزير جديد ليعيد للوزارة “هيبتها” المفقودة.

قصة أطفال درعا

أما القصة الأخرى التي تستحقّ سرد تفاصيلها، فقد غطّتها وسائل إعلام عالمية وتعاملت معها مواقع التواصل الاجتماعي بكثافة غير مسبوقة، في حين تجاهلها الإعلام السوري الرسمي. كانت القصّة تتعلق بخمسة عشر مراهقاً في الإعدادية والثانوية كتبوا على حيطان المدرسة في فبراير/ شباط 2011، “إجاك [أتاك] الدور يا دكتور”. اعتقل هؤلاء الفتية من بيوتهم ومدارسهم إثر ذلك. لم تنشر وسائل الإعلام السورية الرسمية أي خبر يمتّ بأي صلة لما حدث معهم، لا في البداية ولا في النهاية، ولا صحّحت أي معلومة حولهم حتى لو جاء هذا التصحيح لمصلحة النظام.

زعمت التعليقات أن أظافر بعض أطفال درعا اقتُلعت في أثناء التعذيب، لكن اللواء هشام الاختيار رئيس مكتب الأمن القومي (الذي أصبح الوطني لاحقًا)، والذي سلّم فيما بعد التلاميذ إلى أهلهم باليد، أنه لم يلحظ أن أحداً من الفتيان قد اقتلعت أظافره. أما الإعلام السوري، فاعتبر ما جرى لتلاميذ درعا كأنه لا يمت بصلة لمواطني الدولة السورية وحقوقهم، ولا كان موضع متابعة حثيثة في وسائل الإعلام الأجنبية وضجّ بها العالم.

انشغل أهالي درعا أسابيع عديدة بقصة اعتقال التلاميذ، لا سيما آباؤهم الذين راجعوا كبير مسؤولي الأمن في درعا والمحافظ أكثر من مرّة، وأراقوا ماء وجوههم في كل مرّة. سرت شائعات وقصص شتى حولهم وحول دوائر القضاء في درعا، وفيما إن كانت هناك قوانين ومحاكم يلجأون إليها. انتشرت الشائعات واتسعت مثل بقعة زيت فوق سطح رقيق من الماء؛ لأن درعا مدينة صغيرة يعرف أهلها بعضهم. تلاميذ مراهقون قد تأثروا بما شاهدوه على التلفزيون في ميدان التحرير بالقاهرة، ومن منا لم يتأثر!

كتب الأطفال (التلاميذ) منذ أسابيع على جدران مدارسهم، وبعضهم ربما كتب على أحد حيطان البلدة القديمة في درعا أشياء كثيرة كان بينها “إجاك الدور يا دكتور” و”الشعب يريد إسقاط النظام”. علمتُ أن شبيهاً بهذه العبارات كُتب أيضاً على جدران مدن أخرى في المحافظات النائية، غير أن السلطات الأمنية هناك كانت تغضّ النظر وتمحو تلك العبارات، حتى لو أعيدت كتابتها في اليوم التالي.

لا دخان من دون نار

هزّت العبارات التي كتبت على الجدران العميد عاطف نجيب، رئيس فرع الأمن السياسي في درعا، لا سيما أنه يمتّ بقرابة لرئيس الجمهورية، وإلا – كما أشيع في حوران – لما تمّ تعيينه في هذا المكان الحساس المجاور للجولان السوري المحتل والأردن وإسرائيل. هكذا كان حديث الناس في حوران؛ فأهل التلاميذ يعرفون نصف الحقيقة، أما النصف الآخر فلا يعلمه الرأي العام السوري إلا من وسائل الاتصال الأجنبية. استخلص هذا الضابط من التقارير التي وردت إليه أن التعامل مع أناس تجرّأوا على المسّ بالذات الرئاسية لا يمكن غفرانه. كانت خطورة الجريمة المرتكبة في نظره أكبر بكثير من أن تعالج في درعا التي لا تمتلك – مثل دمشق العاصمة – كل المعلومات والأدوات اللازمة للتعامل مع هذا الموضوع الخطير.

كان لا بد إذًا من سوق التلاميذ إلى دمشق، حيث جرى إيداعهم في فرع فلسطين العسكري؛ لأن ذنبهم لا يمكن أن يكون إلا سياسيًا، كما أفادت تقارير نجيب لدمشق، وهذا الفرع كما يشاع عنه يتعامل مع المشبوهين بالتخابر أو العمالة. لكن الشائعات كبرت على مستوى العالم، وبلغت حدًا من الخطورة لعدم نشر أي خبر عما حصل؛ ما دفع إلى الانتفاضة في درعا التي اعتُبرت مهد الثورة.

أطلق على المظاهرة في 18 مارس “ثورة الغضب”؛ لأنها تحوّلت بعد تشييع ثلاثة شهداء ودفنهم في مقبرة البلدة في درعا إلى تظاهرة كبرى، وخصوصًا حين انضم إليها آباء وأقارب “الأولاد” الذين كانوا مجهولي المصير. كان الجميع خلال المظاهرة، ساخطين وهائجين، وهم يحاولون اجتياز جسر وادي الزيدي – الذي يفصل بين درعا البلد ودرعا المحطة – بإيقاع سريع، حتى لا يغيب عن أعينهم سراي الحكومة، الذي كان ينظر إليه الأهالي على أنه مصدر المشاكل والمظالم.

اجتازت المظاهرة جسر الوادي إلى فضاء أرحب تضيع فيه أصوات الحناجر العالية، والتي لم يسمعوا مثيلًا لصداها في أزقة البلدة القديمة ذات البيوت الحجرية المكسوة بالطين. حطم المتظاهرون الهائجون كل ما وقعت عيونهم عليه، وعبثوا بموجودات سراي الحكومة، وبيت المحافظ في درعا وحتى مكاتب “سيريتل” (شركة الاتصالات التي يملكها رامي مخلوف ابن خال الرئيس). وحاول نفر من المتظاهرين الغاضبين إزالة تمثال للرئيس حافظ الأسد، لكنهم لم يتمكّنوا منه لضخامته؛ فمزقوا صورة كبيرة لبشار “الأمل”، الذي ظن بعضهم حتى ذلك الوقت أنه قد يكون مثلهم متمردًا على الظلم.

السلاح والمال داخل الجامع العمري

في المساء، لاذ بعض الأهالي بالجامع العمري وسط البلدة القديمة بدرعا، بعيدأً عن الأعين لتقبل التعازي وقراءة الفاتحة على أرواح الشهداء. سرت تمتماتٌ أن التلفزيون السوري بثّ صوراً لكميات كبيرة من الليرات السورية وقطعاً من السلاح عُثر عليها في الجامع العمري. ساد المكان صمتٌ في منتصف الليل قطعه إطلاق رصاص كزخّات المطر العاصف، سقط على إثره عدد آخر من الشهداء والضحايا حول الجامع من دون أن يعرف مصدر الرصاص. قالت عناصر من الأمن إنهم لم يتأكّدوا من أطلق النار في ليل ماطر حالك السواد، فلم تستطع قوات الأمن والشرطة السيطرة الكاملة على الموقف في درعا.

خرج الناس في موجة واحدة غاضبين، وتعاظمت الموجة واشتدّت الهتافات. لم تستطع قوات الأمن والشرطة المحلية السيطرة على الموقف، فاستدعت السلطة بعد ذلك عدة مروحيات. حطّت طائرة في الملعب البلدي في درعا ونزل منها جنود ملثمون يرتدون قمصاناً سوداء، ظنّ بعض الأهالي الذين لمحوهم عن بعد بأنهم إيرانيون، وظن آخرون بأنهم يمهّدون لزيارة الرئيس إلى درعا. كانت خيبة أملهم كبيرة لأن الزيارة لم تتم. أما قصة القمصان السوداء فتبين أنها مستوردة من إيران قبل مدة، كما أخبرني الرئيس نفسه في وقت لاحق عندما التقيته في القصر الجمهوري. وأما الجنود، فلقد كانوا، مع الأسف، سوريين جاؤوا لقمع المتظاهرين وليس مقدّمة لزيارة الرئيس.

خارج المدينة، هبّت القرى المجاورة مثل النعيمة وعتمان وغيرها، والتي لا تبعد عن درعا سوى بضعة كيلومترات، بالآلاف تضامناً. هبّوا سيراً على الأقدام، وبعضهم تسلق التراكتورات الزراعية. هرعت إلى مداخل المدينة إحدى كتائب الجيش المنتشرة في المنطقة، وتمكن وزير الدفاع علي حبيب أن يوقف إطلاق النار من الجنود، ونجح الضابط الذي اشتهر بشجاعته في معركة السلطان يعقوب والتي أوقفت الزحف الإسرائيلي في البقاع في أثناء غزو لبنان عام 1982 في تجنب مذبحة كبرى في محيط درعا، واستعادة البنادق التي انتزعها عدد من القرويين في أثناء عراكهم مع بعض الجنود عند المدخل الشمالي للمدينة. (أقال رئيس الجمهورية العماد علي حبيب من منصبه بعد أشهر من الحادثة).

شكّل الرئيس في اليوم التالي، في 20 مارس 2011، وفداً للتعزية برئاسة وزير الإدارة المحلية تامر الحجة. تمنّيت أن يكون الوفد برئاسته لأن وجوده في مقدّمة المعزين سيكون له وقع خاص، لا سيما أنه لم يزر درعا سابقاً، فابتسم معتبرأً كلامي إطراءً، ولكنه لم يقبل فكرة أن يذهب هو شخصيّاً للتعزية، وعقب قائلًا “ستتفاجأ بأن تامر الحجّة قد يصبح بعد عودته رئيساً لمجلس الوزراء”، وأعقبها بضحكة، ظانّاً بأني أشكك بقدراته على تعيين رئيس وزراء من دون استشارة القيادة القُطرية.

سبق تشكيل الوفد الرسمي سفر وفد أمني ضم عدة ضباط برئاسة اللواء هشام الاختيار رئيس مكتب الأمن الوطني، وأسامة عدي، عضوي القيادة القُطرية، والعميد رستم غزالي رئيس فرع ريف دمشق للمخابرات العسكرية وابن محافظة درعا، حيث أقاموا في فرع الحزب بدرعا عدة أيام. أعفي خلالها المحافظ فيصل كلثوم من منصبه، فيما نُقل العميد عاطف نجيب إلى موقع عسكري آخر.

اتصل اللواء علي مملوك بي هاتفيّاً، وكان يومها مديراً للمخابرات العامة، وقال لي إن السيد الرئيس طلب من خالد مشعل، رئيس حركة حماس، أن يذهب إلى درعا ليبذل جهوداً لتهدئة الأمور. رحبتُ بهذا التكليف، لأنه سيساعد في تهدئة الأوضاع هناك؛ إذ يتمتّع مشعل بسمعة طيبة في درعا. لكنني فوجئت بعد ساعات قليلة بأن الرئيس طلب من مملوك إعادة مشعل إلى مقرّه في دمشق ولو كان في منتصف الطريق؛ لأن مساعيه لن يُكتب لها النجاح المطلوب. كان قطع مهمّة مشعل كما فكرت فيه بعد فترة قليلة مرتبطًاً في الحقيقة بالحل الأمني الذي عزم الرئيس سرّاً على الإقدام عليه.

عاد الوفد الرسمي من درعا ورفع تقريره إلى الرئيس، الذي لم يطلع أيًاً من المؤسّسات عليه، لا مجلس الوزراء ولا الحزب ولا الجبهة الوطنية. علمتُ ببعض المعلومات عن مضمون التقرير إلى اللجنة السياسية التي يجتمع أعضاؤها دوريّاً في مكتبي، والتي شكلت منذ عدة سنوات برئاستي.

كان بعض أعضاء اللجنة يعرفون شيئاً عما جرى ولا يعرفون كل شيء. كان مفاجئاً لي ولأعضاء اللجنة مثلًا أن عدد البعثيين الذين واظبوا على التزامهم الحزبي في محافظة درعا في أثناء بداية الاضطرابات عام 2011 لم يعد يتجاوز 7% من المسجّلين في فرع درعا، وهو وضعٌ يستدعي التفكير في الانهيار الذي وصل إليه وضع الحزب الحاكم في سورية.

مطالب الأهالي في درعا

روى لنا فيصل المقداد، نائب وزير الخارجية وعضو اللجنة السياسية، الذي سنحت له فرصة التنقل في محافظة درعا عدة أيام بعد انتهاء اللجنة الحكومية من مهمتها في التعزية، أنه استمع لعدد كبير من مواطنين عاديين ووجهاء ونخب وحزبيين في محافظة درعا، فأجمعوا أن طريقة معالجة ما حدث، وخاصة اعتقال الأولاد وإرسالهم إلى دمشق واستهتار المحافظ وأجهزة الأمن بأهاليهم والمعاملة المذلة والمهينة التي استقبل بها آباؤهم وعدم إطلاق سراح أبنائهم، هو الذي أجج مشاعر الأهالي ودفعهم إلى الاعتداء وتحطيم كل ما وقع تحت أيديهم، بما في ذلك تحطيم سيارة المحافظ، الذي أنقذه في الوقت الحرج أحد المواطنين كان في المظاهرة.

كانت مطالب أهالي درعا تتلخص في التالي: أولاً، إطلاق سراح التلاميذ المعتقلين؛ ثانياً، اللجوء إلى الأهالي بدل الاستعانة بتعزيزات عسكرية من دمشق؛ ثالثاً، التحقق من أن أحد أجهزة الأمن هو الذي أدخل الأسلحة والأموال إلى الجامع العمري. طالب بعض الأهالي أن يزور الرئيس درعا ليطلع بنفسه على أحوال الأهالي، وأكّدوا أن زيادة الرواتب لا تحلّ مشكلة للذين يعملون بوظائف غير حكومية وخاصة بعد زيادة أسعار المازوت، التي تهم المزارعين أيضاً. تحدث المواطنون في درعا عن الآثار الكارثية للقرار الحكومي 49 المتعلق بالمناطق الحدودية الذي منعهم من التعامل مع عقاراتهم وممتلكاتهم إلا بموافقة السلطات الأمنية؛ ما يعني دفعهم رشى أو إرضاء بعض المسؤولين. كما أصر الجميع على المطالبة بإجراء تحقيق في الأحداث، وخاصة مع العميد عاطف نجيب، حيث اعتبروا أنه أساء للقوات المسلحة قبل أن يسيء إلى أهالي الأولاد في درعا؛ لأن رئيس الجمهورية باعتباره قائداً أعلى في الجيش والقوات المسلحة اكتفى بنقله إلى موقع آخر خارج المحافظة بدلًا من كف يده، كما حصل مع المحافظ فيصل كلثوم.

دُعينا إلى اجتماع القيادة القُطرية صباح 23 مارس 2011 في القصر الجمهوري، وترأسّه الرئيس. كنتُ وبقية أعضاء القيادة نتوقّع أن يضعنا في صورة ما وصل إليه من معلومات حول الأحداث الدامية في درعا، وتفاصيل ما جرى في الجامع العمري، وصحة الشائعة حول ما قيل إن الأسلحة والنقود التي وجدت لم تكن من فعل الأهالي، ومضمون ما سمعه من الوفود الرسمية الرئاسية التي عادت للتو من درعا. لكن الرئيس لم يوضح ما جرى، ولم يضعنا في أي تفصيل حول ما سمعه عن أحداث درعا. كان واضحاً لي، أن انزعاجه كان متمحوراً حول ما أصاب صورته من تشويه في درعا بالدرجة الأولى، فقال بصوت متهدج: “أنا لا يهمّني سوى الاعتداء على تمثال الرئيس حافظ الأسد ولا تهمّني صورتي الشخصية”، ملتفتاً إلى يمينه كأنه يوجّه غضبه المكتوم نحو محمد سعيد بخيتان الأمين القُطري المساعد لحزب البعث.

فهم بخيتان الرسالة، وحاول تهدئة الرئيس بقوله: “يا سيادة الرئيس، كل شيء سيعود كما كان التمثال والصور” وأي شيء تعرّض للتخريب. كانت سمات الغضب واضحة على وجه الرئيس، واستمر بالاستفسار من أعضاء القيادة القُطرية، وقال، في نهاية الاجتماع، لا بد من إصدار قرارات عن هذا الاجتماع للقيادة القُطرية، وتابع وهو يقرأ من ورقة أمامه: زيادة في الرواتب، ووضع آليات جديدة لمكافحة الفساد، والنظر في إلغاء الأحكام العرفية، وستبلغ بثينة شعبان وسائل الإعلام بكل هذه الأمور، منهياً الاجتماع بعد ذلك بالوقوف لترديد شعار الحزب.

مؤتمر شعبان والمؤامرة

لدى خروجنا من هذا الاجتماع المقتضب الذي لم يكن يتناسب مع فضول ما لدى أعضاء القيادة من أسئلةٍ واستفسارات، لم يترك الرئيس مجالاً لأحدٍ كي يتحدّث إليه، باستثناء بثينة شعبان، المستشارة الرئاسية للإعلام، والتي هرعت وراءه وهو يحدّثها بكلتا يديه عما هو مطلوب منها قوله. ظهرت شعبان بعد ذلك من وراء الميكرفون في القصر أمام حشد من الإعلاميين. حاضرت شعبان فيهم عن الأزمة والفتنة والمؤامرة التي تستهدف سورية والمنطقة. أما قرارات القيادة القُطرية التي كان يجب أن تصبح محور المؤتمر الصحفي، فقد مرّت عليها بعجالة إلى الحد الذي نسي الرأي العام السوري فيه القرارات التي اتخذها الرئيس والقيادة القُطرية لمعالجة الأزمة التي تمر بها البلاد.

يوم الجمعة، بعد يومين على المؤتمر الصحفي لبثينة شعبان، تفاقم الوضع مجدّداً في درعا، واتسعت المظاهرات لتشمل معظم الريف وتمتد خارج المحافظة إلى بعض المناطق في غوطتي دمشق الشرقية والغربية، وكذلك بانياس وحمص ومنطقة الصليبية باللاذقية. قرّر الرئيس عندها إلقاء خطاب في مجلس الشعب جرى تحديده في 30 مارس 2011. زرتُ الرئيس في مكتبه وأشعرتُه بضرورة أن يوضح أمام مجلس الشعب قرارات القيادة القُطرية المتخذة الأسبوع الماضي برئاسته، وخاصة النظر في إلغاء الأحكام العرفية، وضرورة التعبير عن أسفه البالغ لفقد سورية شهداء من المدنيين والعسكريين على حدّ سواء. فهزّ رأسه بالموافقة.

أدليتُ عندها بتصريح صحفي قلت فيه إن الشعب سيسمع من السيد الرئيس ما يسرّ الجميع، إلا أن الرئيس، مع الأسف، لم يفِ بما وعدني به وأغفله في خطابه في مجلس الشعب. وبدلأً من ذلك، أمر بإخراج مسيراتٍ ضخمةٍ مؤيدة له في دمشق وبعض المحافظات قبل الخطاب، ترافقت مع إقالة محمد ناجي العطري من رئاسة الوزارة التي شكّلها عام 2003، والتي لم تجرِ مناقشتها في القيادة القُطرية خلافًا للأعراف. كان معروفاً في الوسط السوري أن وزارة العطري كانت عنواناً ولسنين عديدة لعملية تحرير الاقتصاد السوري بقيادة نائب رئيس الوزراء عبد الله الدردري، وهي سياسةٌ ذات جرعاتٍ نيوليبرالية ثقيلة بالمعايير السورية، لم تكن تحظى بقبول واسع، نظراً إلى أبعادها السلبية على بعض قطاعات الشعب، ولا سيما على القطاعيْن الصناعي والزراعي. لذلك فسّر الإعفاء في سياق امتصاص بعض من جوانب النقمة الشعبية الحاصلة عبر التضحية بوزارته.

اعتبر أحد أعضاء القيادة أن لخروج مسيرات كبيرة في هذا الوقت بالذات دلالة على التأييد الشعبي للنظام، وليس على آمال الناس بسماع خطابٍ يرضي تطلعاتهم بعدما انهمكت أجهزة الإعلام السوري وفي مقدمتها التلفزيون السوري ببثّ مقابلات عن تلك التطلعات، ونشرت صحفٌ لبنانية قريبة من القيادة السورية عن سلسلة إجراءات إصلاحية عملية سيعلن عنها الرئيس. علقت حينها “قد لا نستطيع بعد عدة أشهر رغم وجودنا في السلطة إخراج نصف هذا العدد”. مع ذلك، كنتُ سعيداً بما توقعته بأن كلمته ستكون منحازة إلى الشعب أو أقرب إلى نبض الشارع بعد لقائي معه.

ظهر الرئيس بالصوت والصورة في 30 مارس 2011 في مجلس الشعب، وكان في استقباله رئيس المجلس محمود الأبرش خارج مبنى. كان منشرح الصدر منتشيّاً، وهو يدخل القاعة وسط عاصفة من التصفيق، لا سيّما أنها المرّة الأولى التي سيتكلم فيها منذ اندلاع الأحداث في سورية.

أشار في كلمته إلى درعا وإلى اللاذقية أيضاً، محمّلاً مسؤولية ما يجري من أحداث إلى المؤامرات الخارجية من دون أن يسمّي أية دولة متآمرة، وكرّر مصطلح الفتنة. لم يعلّق على ما جرى من لغط وإشاعات حول الجامع العمري والمال والسلاح الذي عثر عليهما في داخله، ولا عن قرارات القيادة القُطرية التي كان ينتظر أعضاء المجلس كي تتوثّق بحديثه. لكنه اكتفى بالثناء على أهل درعا وتضحياتهم، فاستجرّ من مجلس الشعب تصفيقاً مدويّاً.

قد أحبطني بشدة ما سمعته، خاصة أنه جاء مخالفاً لما اتفقنا عليه. لكنها ليست المرّة الأولى أو الأخيرة التي لا يعمل فيها الرئيس بالنصيحة التي أسديتُها إليه، رغم الموافقة الظاهرية عليها. في خضم استمرار هذه الأحداث الدامية، وعدم توفر أدوات سلمية في سورية لمنع تحول المظاهرات إلى أعمال شغب وفتنة، وضرورة استخدام خراطيم المياه والقنابل المسيّلة للدموع والرصاص المطاطي بدلًا من الرصاص الحي، نقلت للرئيس مباشرة هواجسي وهواجس اللجنة السياسية حول هذه الأمور. قلت له إنني رأيت تأثيرها الكبير في المظاهرات في أثينا باليونان قبل يومين، أجاب بأننا في سورية لا نملك هذه الأدوات.

مع الأسف، شاهد كثير من المواطنين خراطيم الدبّابات في المدن، ولكنهم لم يروا خراطيم المياه في مواجهة المتظاهرين!

تولّدت في درعا حلقة شيطانية دموية: تشييع إلى المقبرة، تليها مظاهرات غاضبة، فقُتل بالرصاص الحي، فتشييع فقتل، لتبدأ حلقة مرسومة بالدم، لم تنتهِ عند حدود المقبرة، ولا عند حدود المحافظة. هذه الحالة الراهنة لأحداث درعا أبلغناها للرئيس شفهيّاً وخطيّاً مرفقة بمحاضر اللجنة السياسية التي تضم كبار المسؤولين في الحزب والدولة، علّه يأمر بوقف إطلاق النار.

صدرت توجيهات رئاسية في 21 إبريل/ نيسان 2011 بمراسيم جمهورية افتراضية، مثل رفع حالة الطوارئ في سورية، وتنظيم حقّ التظاهر السلمي. كما شكلت لجنة للتحقيق بأحداث درعا وأخرى في اللاذقية، ولجنة ثالثة لحل مشكلة إحصاء 1962 الاستثنائي في الحسكة، الذي صنف نحو 28% من سكّان الجزيرة السورية (محافظة الحسكة) باعتبارهم “أجانب” وأطلق عليهم في السجلات الرسمية اسم “أجانب تركيا”. وأضيف قرار لمكافحة الفساد. كان إبريل 2011 حافلًا بالتوجيهات الرئاسية التي لم تبصر النور ربما بسبب تدخل أيدٍ خفية غيرت من المراسيم المعلنة، ما عدا ما ورد منها بخصوص منح الجنسية لمواطنين أكراد وفق الإحصاء المذكور، وكان هذا الموضوع على طاولة الرئيس منذ عام 2004 بعد تقارير من عدة لجان حزبية وأمنية بمعرفته ولم يوافق على أي منها.

سعت القيادة القُطرية بشكل جادّ منذ بداية الأحداث إلى وضع الأسس القانونية للتظاهر السلمي، والآليات اللازمة لتطبيق إلغاء قانون الأحكام العرفية لأنه “أم المشاكل” في سورية بسبب اتصاله بحياة الناس وكرامتهم. وساهم في هذا الموضوع الأمين القطري المساعد محمد سعيد بخيتان ورئيس خلية الأزمة العماد حسن تركماني. ليس من المعقول مثلاً أن يعتقل مواطن من بيته في الفجر من دون إذنٍ من النيابة العامة، ويخضع للتحقيق لمدة غير محددة، وأن يتعرّض للتعذيب، وقد لا يُحال إلى القضاء.

أذكر أن اللواء هشام الاختيار بعد أن عاد من مدينة حماة بتكليف من القيادة، بعد مجزرة بشعة ومهولة بحقّ المتظاهرين ارتكبها فرع الأمن العسكري، روى أن سكان حماة شكوا بأنهم يحتاجون إلى أكثر من سبعين موافقة أمنية لتسيير شؤون حياتهم بشكل طبيعي، واتخذ الاختيار في الاجتماع مع أعيان حماة وشخصياتها قرارات عاجلة بإزالة عديد من المشكلات والمظالم التي حدَثت على خلفية أزمة الثمانينيات مع جماعة الإخوان المسلمين لكن لم ينفَّذ أي منها.

اخترعت بعض الأجهزة الأمنية سيناريو “المندسّ”، الذي لم يُلقَ القبض عليه أبداً لإقناع الناس بصحة وجوده في صفوف المعارضة. لقد تحول المندس بعد مدة من الزمن إلى تندر وسخرية بين الناس في سورية.

أذكر أنني قلت للرئيس في مكتبه: “لماذا يُطلقون النار بدلأً من اللجوء لتفتيش البيوت غرفة غرفة وسد مداخلها ومنافذها لإلقاء القبض على المندسّ كما نرى في دول أخرى؟ أفهم أنه ليس المطلوب من الجيش أن يؤيد المظاهرات، لكن واجبه أن يتصرف بحيادية وحكمة لا أكثر ولا أقلّ”. … تجاهل الرئيس ذلك كله، بل صدرت منه الأوامر حينها بإخراج وسائل الإعلام العربية والأجنبية من سورية، لا سيما بعد مجزرة الصنمين التي راح ضحيتها عشرات من المتظاهرين في 25 مارس 2011، من بينهم أطفال ونساء. … قليل من المهتمين بالسياسة وبالشأن العام يعرف أن قانون الأحكام العرفية موجود في القانون في سورية قبل حكم البعث عام 1963، وكانت آخر صياغة للقانون الذي عملت به حكومات البعث منذ 8 مارس 1963 قد ورثها الحزب عن عهد الانفصال. ومع ذلك، هل يجوز استمرار العمل به لأنه من صنع الذين قبلنا سواء أكانوا انقلابيين أم ديمقراطيين وبرلمانيين؟ وماذا يعني الإصلاح والتحديث إذا لم يشمل أيضًا الإصلاح السياسي في بلادنا؟ أم إن انتهاج الإصلاح الاقتصادي من دون إصلاح سياسي هدفه زيادة الغني غنىً والفقير فقراً من دون أن يكون له رأي سياسي آخر؟

حاول رئيس الوزراء الجديد الدكتور عادل سفر فور تسلّم منصبه في مايو/ أيار 2011، أن يضع آليات لتفعيل بعض القرارات الإصلاحية المتعلقة بالإعلام والأحزاب ومكافحة الفساد. لكن الزمن لم يسعفه، حيث أقيل من الحكومة بعد حوالى السنة.

أزيح عادل سفر عن منصبه، ربما لأنه لامس الخطوط الحمراء لبعض العقود الحكومية مع القطاع الخاص، والتي كانت شروطها مجحفةً بحق الدولة مثل أحد عقود الهاتف الخليوي مع شركة “سيريتل”، حيث ذكر في اجتماع القيادة القُطرية تحديداً الإجحاف في تلك العقود نظراً إلى قلة مداخيلها على الخزينة العامة بالمقارنة مع أرباح الشركة.

عُين رياض حجاب رئيساً للوزراء في يونيو/ حزيران 2012 بتوجيه وإشادة من الرئيس بالذات، ومن دون عرض اسمه على القيادة، لكنه غادر الحكومة إلى الخارج منشقّاً عن الدولة بعد شهرين فقط.

———————————-

فاروق الشرع: لم أرً لامبالاة في القمم العربية كما شاهدتُ في قمّة سِرت الثانية (5)

02 مايو 2025

يصدر كتاب “مذكرات فاروق الشرع … الجزء الثاني 2000 – 2015” عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ويغطي فترةً من رئاسة بشّار الأسد (2005 – 2015) استمرّ فيها الشرع في منصبه وزيراً للخارجية، ثمّ في منصب نائب رئيس الجمهورية، قبل أن يضطرّ للاعتكاف بمنزله في 2013، وإصدار الأسد تعليمات بعدم التواصل معه. وبينما اعتُبر الجزء الأول من الكتاب شهادةً تاريخيةً مهمةً على مسار من الأحداث التي شهدتها سورية في تفاعلاتها الإقليمية والدولية، خصوصاً ما يتعلّق بالمفاوضات السورية – الإسرائيلية، في عهد الرئيس حافظ الأسد، يقدّم الشرع في هذا الكتاب شهادته على أحداث لا تقلّ أهميةً في عهد بشار، منها اغتيال رفيق الحريري واتهامات مسؤولين سوريين بالتورّط في اغتياله، ما أسهم في دفع الخروج السوري من لبنان، وأحداث عصفت بسورية مع اندلاع الثورة السورية (2011). وتنشر “العربي الجديد” فصولاً من الكتاب. وهنا حلقة خامسة تتناول قمّتَي سرت، الأولى التي استمرت فيها الخلافات العربية العربية، والثانية التي سادتها لا مبالاة تجاه ملفّات حاسمة

قمة سرت الأولى

عقدت القمّة العربية الدورية في سرت في نهاية مارس/ آذار 2010، برئاسة الزعيم الليبي العقيد معمّر القذافي تحت شعار “القدس ودعم صمود غزة”، الذي ملأ ساحات المدينة وشوارعها صوراً عملاقة له ولأقواله “التاريخية” حول فلسطين. غاب عن القمّة صديقُه الرئيس المصري محمد حسني مبارك، الذي كان يومها يتلقى العلاج في أحد المستشفيات الألمانية، وكذلك العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز، متعمّداً عدم المشاركة في هذه القمة، بسبب وقوع مشاحناتٍ ومماحكاتٍ بينه وبين معمّر القذافي خلال انعقاد قمّة الدوحة في عام 2009.

شعر القذافي بنوعٍ من الإحباط في بداية القمة لغياب الزعيمين المصري والسعودي، بعد أن عاد من نيويورك منتشياً، حيث ألقى خطابًا حماسيّاً في الجمعية العامة للأمم المتحدة صفّقت له الوفود طويلاً عندما طالب بإلغاء حق النقض (فيتو) في مجلس الأمن، ومزّق ميثاق الأمم المتحدة أمام ممثلي مختلف دول العالم، وقذف به في وجه رئيس الجمعية العامة، وكان يشغل هذا المنصب وزير خارجية ليبيا. كانت الأمم المتحدة بأعضائها الذين تجاوز عددهم 160 دولة سعيدة بمعظمها بخطابٍ جسورٍ للقذافي أمام الجمعية العامة، الذي يطالب فيه بإلغاء حق الفيتو.

كان لافتاً في مدينة سرت الليبية، مسقط رأس القذافي، أن المقاعد الخلفية في مؤتمر القمّة، قد امتلأت بشخصيات ليبية موالية لقائد ثورة الفاتح من سبتمبر، كانت تصفّق معجبة بقائدها وبكل ما يقول، وتظهر صورها على الشاشات العملاقة المنصوبة على جدران القاعة الواسعة، كأن المؤتمر كله يصفّق له، فالزعيم الليبي وحده – كما يردّد القذافي – ولا أحد غيره، يحظى بهذه الشعبية والولاء في سِرت موطن قبيلته.

اقترح أمير قطر، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، في كلمته الافتتاحية في قمّة سرت التي سلم فيها الرئاسة إلى معمّر القذافي، تشكيل لجنة اتصال عليا برئاسة رئيس القمّة، أي القذافي وأربعة أو خمسة أعضاء آخرين ينتخبهم المؤتمر، تكون مهمّتها إصلاح العمل العربي المشترك، الذي يعاني أمراضاً مستعصية وخطيرة. كان جدول الأعمال الذي وزّع على الوفود في قمّة سرت شاملاً ومفتوحاً، لم يترك شاردة ولا واردة إلا أقحمت في القائمة الموزعة على المشاركين. هذه هي رغبة القذافي. تقدّم الرئيس اليمني علي عبد الله صالح الذي وجد الباب مفتوحاً له بمبادرة وحدوية بين الدول العربية على المنوال الأفريقي وبوحي من تطلعات القذّافي الاتحادية. ورأى عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية ألا تكتفي القمّة بالحوار بين الدول العربية، بل أن يضطلع هذا الاتحاد بمحاورة دول الجوار العربي، وفي مقدّمتها تركيا وإيران، اللتان “بيننا وبينهم مصالح حيوية مشتركة وخلافات مائية أو حدودية”.

أمام هذه الزحمة في جدول الأعمال والمقترحات التي بدأت تتوالى على منصّة الرئاسة، اقترح الزعيم الليبي إما تمديد المؤتمر يوماً إضافيّاً، أو تأجيل القمة كي تعقد مجدّداً قبل نهاية عام 2010، فالمواضيع المطروحة عديدة وأيام المؤتمر محدودة. جاء التصفيق فوراً للاقتراحين من الصفوف الليبية الخلفية. اقترح عمرو موسى بعد أن همس في أذن معمر القذافي، المنتشي والجالس في وسط المنصة، متسائلاً بصوت مسموع لقربه من الميكرفون: لماذا لا تعقد في العام الواحد قمتان عربيتان، أيها الأخ القائد، واحدة عادية والأخرى تشاورية. سر الأخ القائد، فأومأ صوب أمين عام الجامعة موافقاً بصوت عالٍ، فأصبح تحويل القمّة إلى قمتين أمراً لا مفر منه.

كانت سورية حريصة على نجاح قمّة سرت الدورية عرفانًا بجميل القذافي الذي شارك في قمّة دمشق في مارس 2008، في حين قاطعها العاهل السعودي والرئيس المصري معاً لأسبابٍ متصلة بتداعيات اغتيال رفيق الحريري وذيول حرب تموز 2006. وجرى التعبير عن هذا الحرص السوري تجاه ليبيا بتكليفي مع وفد سوري ضم فيصل المقداد وبثينة شعبان للقيام بجولة عربيةٍ إلى دول المغرب العربي قبيل موعد هذه القمّة الدورية – التي نحن بصددها – لتشجيع قادتها على المشاركة في قمة سرت؛ لأن العلاقات بين الدول المغاربية لم تكن على ما يرام. ما أتذكّره من هذه الجولة، أن جميع القادة الذين زرناهم أومأ بالحضور دون التزام واضح. وتصادف أن الطائرة التي أقلّتنا إلى أغادير لمقابلة الملك محمد السادس كادت أن تهوي وهي تحاول الهبوط في مطار أغادير، الذي جرى تشييده على سفوح جبال أطلس، متأرجحة في ليلٍ ماطر لا ترى عبر نوافذ الطائرة المدينة ولا أين تقع أنوار مهبط الطائرة.

عُدنا إلى ليبيا لنضع القذافي في صورة نتائج جولتنا في المملكة المغربية وموريتانيا والجزائر وتونس. أطلعنا القذافي، وهو يستمع من دون اهتمام واضح إلى نتائج الجولة، على مخطّط لإعادة هيكلة القمم العربية وإجراء التعديلات المطلوبة على ميثاق الجامعة التي كان قد صمّمها له عمرو موسى عندما زاره قبلي منذ عدة أيام للإعداد للقمّة العربية في سرت. طلب القذّافي من حرّاسه الشخصيين إحضار طاولةٍ أمامي ونشر عليها مصوّرات مخططة بالألوان لمجالس الجامعة. وبدأ يشرح: كل وزارة من الوزارات العربية لديها مجلس خاص في اجتماعات الجامعة، والمجلس يتناول مختلف الشؤون التي تتعلق بتلك الوزارات من استيراد الأسلحة إلى التعامل مع أسعار المواد الغذائية. كل مجلس من مجالس الجامعة له رئيس وزراء، ورؤساء الوزارات يجتمعون مع وزرائهم المعنيين دوريّاً، ونتائج الاجتماعات تعرض على رئيس القمّة العربية الذي “كان الله في عونه” ويقصد نفسه. ونظر طويلًا إلى سقف الخيمة الملونة بألوان أفريقية زاهية، وتابع بأنه لا يجوز لرئيس القمة أن يتخلى عن هذه المسؤولية حتى تظهر حصيلة الاجتماعات للمجالس واللجان كلها، مهما أخذت من الوقت. اكتشفت حينها أن القذافي يخطط لكي يكون رئيسًا للقمم العربية، وأن ما سمعته بأنه غضب من الزعماء الأفارقة عندما رفضوا العام الماضي التمديد لرئاسته القمة الأفريقية في أديس أبابا لم يكن مجرّد إشاعة.

تنفّس أمير قطر الصعداء عندما سلّم القذافي رئاسة القمّة وتخلص من عبء قمّتين عربيتين عقدهما في الدوحة العام الماضي 2009، الأولى كانت طارئة إبّان العدوان الإسرائيلي على غزة ولم يتوفر لها النصاب المطلوب، والثانية عادية حصلت خلالها مشادة كلامية بين الملك عبد الله بن عبد العزيز والقذافي. كانت المشادّة بين الزعيمين من طراز الطرائف التي يُعجب بها المخرجون السينمائيون، فيحولونها إلى مسلسلات تلفزيونية أو مسرحيات كوميدية. عقدة القصة تظهر للجمهور حيث فهم الواحد الآخر عكس ما كان يقصده الأول، فلا يكتشف أيٌّ منهما حقيقة نيّات الطرف الآخر، إلا بعد فوات الأوان وبعد حصول القطيعة. لكن أمير قطر جمعهما في اليوم نفسه لاحقاً، وقبل مغادرة الملك عبد الله، ولكن ما في القلوب ظلّ في القلوب كما يبدو.

كان انسحاب الملك عبد الله بن عبد العزيز فجأة في قمّة الدوحة العام الماضي تعبيرًا عن احتجاجه على مداخلة القذافي التي أرادها مدخلًا للمصالحة على طريقته الخاصة، وليس انتقادًا للملك السعودي. تسمّر القذافي للحظة في مكانه مندهشًا وهو يستمع يومها إلى الشتائم الموجهة إليه من العاهل السعودي بدلًا من الترحيب بما قاله القذافي، ثم غادر مقعده والدهشة واضحة على قسمات وجهه إلى خارج القاعة، وعلق رئيس القمة الجلسة. لكن أحداً من القادة المؤتمرين لم يحاول المصالحة بينهما. حاولتُ أن أقنع الرئيس بشّار بأن يقوم بدور لتوضيح ما كان يقصده صديقه القذافي، لكنه لم يتحمّس للقيام بذلك، وقال وما شأننا في ذلك!

لنعد إلى قمّة سرت، والتي تأجلت بلا مشاوراتٍ وبلا تصويت، ولكن من دون أن تلقى استحسان أحد، لا سيما الفلسطينيون منهم، سواء كانوا مشاركين في المؤتمر من السلطة في رام الله، أو مراقبين عن بعد من غزّة. فالقمة لم تتّخذ قراراً بالمساعدة المادية ومقدارها خمسمئة مليون دولار. ومن ثمّ، حُرم الفلسطينيون من دعم صمود أهالي القدس، ومن رفع الحصار عن غزة.

ولم يناقش أحد مقترح علي عبد الله صالح الاتحادي، حتى إن بعض القادة الذين تكلّموا مع الصحافيين داخل قاعة المؤتمر ضاعت أصواتهم وسط الضجة واللغط. هكذا انتهت قمّة سرت الأولى.

قمّة سرت الثانية

عقدت قمّة سرت الثانية التشاورية في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2010، بعد مرور حوالى ستة أشهر على انعقاد قمّة سرت الأولى الدورية. اللافت للنظر أن أموراً كثيرة تغيّرت في سرت ما بين القمّتين خلال الشهور الستة المنصرفة أو الفارطة (بحسب القاموس المغاربي). لاحظتُ، في مقدّمة التغييرات، زيادة عدد الصور الملوّنة بأزياء مصممة خصّيصاً لقائد ثورة الفاتح من سبتمبر، لا سيما أن رداءه المزركش بألوان زاهية أصبح يتغيّر في اجتماعات الصباح عن لقاءات المساء. وشمل التغيير أيضًا شعارات القمة، فلم نلحظ شعار “دعم صمود القدس” الذي كان موجوداً في كل تقاطعات الشوارع في قمّة سرت الأولى، واستعيض عنه بأقوال مختارة للزعيم القذافي. كان اللافت أيضاً بعد عودتنا إلى مقرّات الضيافة نثر ورود الجوري داخل الفيلات على أغطية الأسرّة وفوق الوسائد وفي الحمّامات الرخامية، وكان العمل على إزاحتها عن الشراشف والوسائد بعد يوم عمل طويل وعشاء رسمي لا يسهّل الخلود إلى النوم.

أصبح إعطاء الطلبات المرغوبة لتناول وجبة الإفطار في اليوم التالي واجباً يزاوله عدد من الشبان، يرتدون بزّة سوداء وربطة عنق على شكل فراشة بلون قرمزي. يخبرك هذا الشاب مثلاً، وهو يمسك قلماً ودفتراً، بأن طلبات الطعام ستأتي بسرعة لوجود زوارق تحيط بسفينة تركية لإعداد الطعام، وهي عائمة قبالتنا هنا على شاطئ سرت الهادئ، فاطلبوا ما تشاؤون فلن يطول وصول طلباتكم، لأن الزوارق طوربيدية سريعة. تذكّرتُ تلك السنوات التي كنتُ أزور فيها ليبيا في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وكيف أنني والنزلاء معي لا يستطيعون أن يطلبوا طعام الفطور إلى الغرف. فمن يريد شيئاً في الصباح عليه أن ينزل إلى مطبخ الفندق بنفسه، فالشعار الذي كان يستقبلك في تلك الأيام الغابرة من مطار طرابلس إلى الفندق: “نحن شركاء لا أجراء”.

شدّ اهتمامي في التغيير أيضاً، ولكن من زاوية سياسية، اتخاذ وزراء الخارجية المكلفين بالتحضير لقمّة سرت الثانية قراراً باستئناف المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل من دون ذكر شرط تجميد الاستيطان الذي لم يتجاهله حتى الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال زيارته القاهرة عام 2009.

فور وصولي إلى سرت عشية انعقاد القمة الثانية برفقة الرئيس بشّار، جاءني إلى مقرّ إقامتي مندوبنا الدائم لدى جامعة الدول العربية يوسف أحمد، وجاء بعده مباشرة نائب وزير الخارجية فيصل المقداد، وقد شاركا معاً في اجتماعات وزراء الخارجية وفداً برفقة وزير الخارجية وليد المعلم للإعداد للقمّة، وأبلغاني فحوى المداولات ومشاريع القرارات التي اتفق عليها الوزراء لرفعها إلى القمّة صباح اليوم التالي. تحدّثوا عن مجريات ما حصل أمس في اجتماع لجنة مبادرة السلام العربية التي يرأسها وزير خارجية قطر الشيخ حمد بن جاسم. وكيف اتُخذ قرار استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين من دون أي شروط لذلك، وبخروج متعمد لوزير الخارجية وليد المعلم من قاعة الاجتماع.

لم أشاهد أن أحداً من السياسيين يستخدم لغة الجسد كما استخدمها الشيخ حمد بن جاسم ووليد المعلم، بحسب وصف يوسف أحمد وفيصل المقداد اللذيْن أبلغاني أن بن جاسم غمز بطرف عينه الوزير المعلم كي يخرج من الاجتماع الوزاري بإيماءة منه لتمرير قرارٍ بغياب سورية يدعو السلطة الفلسطينية إلى استئناف المفاوضات مع إسرائيل بتفويض عربي. مرّ القرار بالإجماع ومن دون تحفّظ من أي وزير عربي بمن فيهم الوزير السوري.

كان استئناف تفاوض الفلسطينيين مع إسرائيل يومئذ مشروطاً بإيقاف الاستيطان، وهو شرط لم يستطع حتى باراك أوباما نفسه، كما قلت، تجاوزه والقبول به رغم معرفة الجميع بالعلاقة الاستراتيجية الخاصة التي تربط الولايات المتحدة بإسرائيل، ولكنه تجاوز هذا الشرط لاحقاً. صدر قرار الموافقة على التفاوض مع إسرائيل من دون إيقاف الاستيطان عن القمة أيضًا، لأن أحداً من الزعماء العرب بمن فيهم الرئيس السوري لم يعترض على البيان الختامي حين تلاه عمرو موسى في المساء. ظننتُ أن الرئيس لم يطّلع على الأمر. كنتُ قد طلبت من المقداد وأحمد أن يبلغا الرئيس بما حصل، لأن من الضروري أن يستمع منهما مباشرة لكي يكون في صورة القرارات التي ستُعرض على مستوى الرؤساء والملوك عند وضعها أمامه في اليوم التالي. تأكّدت خلال حديثي مع الرئيس بأنه قد استمع منهما فعلاً إلى ما جرى ولم يعلق سلبيّاً ولا إيجابيّاً، فاستنتجتُ أن المعلم لم يتصرّف من بنات أفكاره.

تطرّقت في حديثي مع الرئيس الأسد ونحن في الطائرة باتجاه دمشق إلى أن الرئيس السوداني عمر حسن البشير ناشد في مداخلاته الأخيرة في القمّة بأن الجنوب قد ينفصل عن شمال السودان وقد يصبح السودان سودانيْن، موجّهاً كلامه إلى القادة العرب بأن يهبوا لمساعدته. كان الرئيس البشير جادّاً؛ لأن الموضوع كما قال أكبر منه ومن السودان. لكن لا أحد من القادة العرب حاول أن يستوضح منه أو يسأله ما المطلوب من الدول العربية لإنقاذ السودان من التقسيم؟ قلتُ للرئيس الأسد: لم أر طوال العقود الماضية لامبالاة في القمم العربية كما شاهدت في قمة سرت الثانية، وخاصة عندما طرح الرئيس السوداني احتمال تقسيم السودان.

تشكّلت اللجنة الخماسية التي كان قد اقترحها أمير قطر في قمّة سرت الأولى لتطوير منظومة العمل العربي المشترك برئاسة القذافي وعضوية الشيخ حمد بن خليفة، والرئيس العراقي جلال طالباني، والرئيس حسني مبارك، وعمرو موسى. لم يحظ الرئيس الأسد بعضوية اللجنة الخماسية. كانت العلاقات بينه وبين الشيخ حمد في مجالات المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والمالية على أفضل ما يرام، لكن لا بد من أن شيئًا ما قد حصل بينهما في الأيام الأخيرة.

كان غياب الودّ بين الرئيسين الأسد ومبارك مزعجاً للقذّافي منذ قمة دمشق، حيث قال خلال رئاسته قمّة سرت إنه لا يجوز أن يستمر هذا الخصام بين “ابني بشار” وبين حسني. حاول خلال الجلسات في المؤتمر أن يجمع بينهما، فوجئتُ بوزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط يأتي إلي ويقول إن الرئيس مبارك ينتظر الرئيس الأسد هناك، وأشار إلى المكان المخصّص للرئيس مبارك مترئسّاً الوفد المصري واستعدادهم لوضع كرسي بجانبه للرئيس الأسد ليتبادلا أطراف الحديث. اقترحتُ على أبو الغيط أن يكون اللقاء طبيعيّاً ولائقاً بين الرئيسين في إحدى الغرف المعدّة لمثل هذه الاجتماعات في المؤتمر والقريبة من هذا المكان، لكن الرئيس مبارك – بعد جهود أبي الغيط غير المُجدية – رفض أن يتزحزح عن كرسيه قيد أنملة.

طلب القذّافي من أحمد قذاف الدم، الذي كان مشرفاً على تحرّكات الزعماء العرب، أن يرتب لقاءً ولو شكليّاً بين الرئيسين في صالة الشرف عند المغادرة، لكن مبارك أمر بالتوجّه مباشرة إلى طائرته وعدم المرور إلى صالة الشرف، حيث كان بانتظاره في الصالة أبو بكر يونس ممثلاً للقذافي في توديع رؤساء الوفود. كان الأسد ينتظر مبارك في الصالة مع يونس، حيث جاء قذّاف الدم وأبلغنا همساً بأن الرئيس مبارك عنيد، وارتأى أن يذهب إلى طائرته مباشرة.

ملك الملوك

كاد القذافي “ملك ملوك أفريقيا غير المتوّج” أن يخرج من جلده منتشياً طوال الوقت بعد أن اختتم العام الماضي 2009 بالتصفيق المدوي له في الجمعية العامة للأمم المتحدة كما ذكرت، وبعد أن عُقدت عام 2010 قمّتان عربيتان في سرت مسقط رأسه، وأعقبهما قمّة ثالثة في اليوم التالي أفريقية – عربية خطط لها مسبقاً وشارك على هامشها بعض القادة الأوروبيين. كان من الطبيعي أن يكون قائد ثورة الفاتح من سبتمبر هو رئيس هذه القمم كلها والمتحدث الأول فيها، يقول فيها ما يشاء من دون أن يعترضه أحد.

قرأتُ بعد اختتام أعمال قمّة سرت تعليقاً ساخراً على أحد المواقع الإلكترونية حول ما ظهر في القمّة التشاورية جاء فيه: “قمّة سرت، مكانك سرت”. ليت هذا التعليق الرصين رغم نبرته الساخرة كان في مكانه، لأن الذي كتبه لم يعرف أن العالم العربي لن يبقى في مكانه، بل سيهتز قريباً بكل من عليه. لا أحد يستطيع شطب الأحداث المزلزلة عام 2011. إن التاريخ يتغيّر لكنه لا ينتهي.

————————-

فاروق الشرع: رغب رفيق الحريري في إعادة تأثيث منزلي وكنت في مطعم ساعة اغتياله (1)

28 ابريل 2025

كان رفيق الحريري لطيفاً كما عرفتُه خلال اللقاءات وبعض المآدب

احتفظت مع الحريري بعلاقة ودية ليوم اغتياله بانفجار سمع صداه بدمشق

كانت استقالة عمر كرامي من رئاسة الحكومة اللبنانية مفاجئة لنا

أبلغت عنان أن الأنسب هو التحقيق مع ضباط سوريين بمقر الأمم المتحدة

سألت بشار أثناء لقائي به في القصر إذا كان حادث موت كنعان انتحاراً

يصدر كتاب “مذكّرات فاروق الشرع … الجزء الثاني 2000 – 2015” عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ويغطي فترةً من رئاسة بشّار الأسد (2005 – 2015) استمرّ فيها فاروق الشرع في منصبه وزيراً للخارجية، ثمّ في منصب نائب رئيس الجمهورية، قبل أن يضطرّ إلى الاعتكاف بمنزله في 2013، وإصدار بشّار الأسد تعليمات بعدم التواصل مع الشرع. وبينما اعتُبر الجزء الأول من الكتاب شهادةً تاريخيةً مهمةً على مسار من الأحداث التي شهدتها سورية في تفاعلاتها الإقليمية والدولية، خصوصاً في ما يتعلّق بالمفاوضات السورية – الإسرائيلية، في عهد الرئيس السوري حافظ الأسد، يقدّم الشرع في هذا الكتاب شهادته على أحداث لا تقلّ أهميةً في عهد بشّار الأسد، منها اغتيال رفيق الحريري واتهامات مسؤولين سوريين بالتورّط في اغتياله، ما أسهم في دفع الخروج السوري من لبنان، والأحداث التي عصفت بسورية مع اندلاع الثورة السورية في العام 2011. وتنشر “العربي الجديد” فصولاً من الكتاب. وهنا حلقة أولى.

التعرف إلى الحريري

ليس الاغتيال حديث العهد، فقد شهد العالم سقوط قادة سياسيين كبار مضرجين بدمائهم لإسكات صوتهم أو إنهاء دورهم الشعبي. وكان من أبرزهم على سبيل المثال: المهاتما غاندي عام 1948، والكونت برنادوت عام 1948، وجون كيندي عام 1963، ومارتن لوثر كينغ عام 1968. كان من الطبيعي أن يحتل اغتيال هذه الشخصيات التاريخية بعد الحرب العالمية الثانية عناوين الصحف والمجلات، وأن تُروى عن أقوالهم ومآثرهم قصص لا تنتهي. والسؤال الذي سيتبادر إلى أذهان كثيرين في لبنان، وربما خارجه أيضاً، هل كان اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري عام 2005، رجل الأعمال والسياسي الملياردير، ثمناً لقضية قدم حياته من أجلها؟

اغتيال الحريري، الذي عرفه لبنان عن قرب منذ ثمانينيات القرن الماضي بعد أن صار له شأن وحظوة خاصة لدى العاهل السعودي فهد بن عبد العزيز، قد استقطب اهتمام كل اللبنانيين، وحظي بتغطية إعلامية عربية ودولية غير مسبوقةٍ ترافقت مع ثورة الاتصالات والمعلومات. كان اغتيالُه مدوياً بالمعنى التام للكلمة، وفي كل أبعاد ما تعنيه.

لقد وصل صدى اغتيال الحريري إلى كل البيوت في القرى والبلدات والمدن القريبة والبعيدة عن بيروت، فشكّل منذ انتشار الخبر المأساوي تعاطفاً شعبياً لا سابقة له في تاريخ لبنان، كأنه نجم متألق هوى إلى الأرض.

غير أن تسرُّع بعض الأطراف اللبنانية بتوجيه أصابع الاتهام إلى سورية، وجثمانُ الحريري ما زال في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، قد شقّ المركب اللبناني من الداخل، وعصفَ بالعلاقات السورية – اللبنانية، وأدخل الشكوك إلى العلاقات السورية – العربية وبصورة أكثر تحديداً مع دول الخليج العربية. حدث كل ذلك قبل أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود. أما السوريون فقد أصابتهم الحيرة: المستفيدون من الحريري في بعض المؤسسات الرسمية لا يمكن أن يقتلوا دجاجة تبيض ذهباً، والمحبون للحريري لوجه الله أغضبهم ظهور شعارات تهزأ من اللهجة السورية في بعض المسيرات، وتضع السوريين في لبنان في فوهة الاتهام، لا تفرّق بين من يرتشي من الحريري ومن لا يبيع ولا يشتري.

كان رفيق الحريري لطيفاً كما عرفتُه خلال اللقاءات وبعض المآدب التي كان أغلبها في منزل عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري، وأحياناً في مزرعة حكمت الشهابي رئيس الأركان العامة. لا يفرّق الحريري كثيراً بين السياسة ودهاليزها المعقدة إلا من زاوية تأثيرها في الاقتصاد والبورصة ومستقبل السوليدير ومستقبل علاقته الشخصية بسورية والسعودية، وخصوصاً الملك فهد بن عبد العزيز، وفرنسا لا سيّما رئيسها جاك شيراك. كان متحرّراً في أفكاره وثرياً يصعب تقدير ما في حوزته من مال ولم يكن شديد التواضع. فقد روى مرة بحضوري أن زوجته في صباها حاولت السفر وحدها من جدة إلى بيروت، فمُنعت في المطار لعدم وجود زوجها معها، فقالت لموظفي الجوازات: هل هناك امرأة في العالم يكون زوجها رفيق الحريري وتحاول الهرب منه؟

كانت كل الشخصيات اللبنانية السياسية المحبّة له أو الحاسدة التي التقيتها تتحدّث عن براعة الحريري في اصطياد اللحظات المناسبة لتعزيز ثروته وتوسيع أعماله داخل لبنان وخارجه، والاحتفاظ، في الوقت ذاته، بمنصبه رئيسَ وزراء لبنان. لقد أصبح المال السياسي في عهده عنصراً بارزاً في الصعود السياسي منذ بداية الحرب الأهلية، بعد أن كانت شجرة العائلة الأساس في هذا الصعود.

زارني الحريري أول مرّة صيف عام 1986 في شقتي المستأجرة من الدولة. كان أول تعليقٍ له بعد أن تفقد الصالون والأثاث البسيط على الطريقة الغربية: “هذا لا يليق بوزير خارجية سورية”، وكأنه يلمّح إلى أنه سيساهم في تغيير السكن أو إعادة تأثيث المنزل. وقد سمعتُ لاحقاً أنه كان يقدّم ذلك لعدد من المسؤولين السوريين الكبار لتغيير أثاث بيوتهم، وحتى بناء منازل لهم. لم يقتنع كثيراً بمدى ارتياحي لهذا المكان، وبالطبع تجاهلت تلميحاته بتقديم المساعدة، وانتهى حينها موضوع الاقتصاد الذاتي بيني وبينه، لكنه لم ينته، كما يبدو، مع بعض المسؤولين السوريين الآخرين الذين أسمع عن صلاتهم المادية معه سنوات؛ فقد كان يرسل أولادهم إلى الجامعات بدعم من مؤسّسة الحريري الخيرية. أما علاقتي الشخصية معه فظلت ودّية، لأنه كان رئيس وزراء أو رئيس وزراء سابق وأنا وزير خارجية لبلد شقيق جارٍ للبنان الذي يقيم أو يعمل فيه كثير من السوريين: عمالاً ورجال أعمال وسياسيين متقاعدين مدنيين وعسكريين.

ذكر رفيق الحريري أمامي في إحدى المرّات أن السعودية مدينة له بمبلغ كبير قيمته عقود بمئات الملايين من الريالات السعودية لمشاريع ناجحة نفذها، ولم يستوفِ منها كامل أتعابه، وأن الملك فهد وعده بأن يسدد له مستحقاته دون نقصان بعد إقرار الميزانية، لكنه استدرك قائلاً: إن أول مليون حصل عليه في السعودية، في مطلع شبابه عندما كان عصامياً، قد أدّى إلى غيابه عن الوعي لعدة دقائق. وأضاف عندما لاحظ استغرابي: صدقني إن جدران بيتي في جدة بقيت تهتز عدّة دقائق، أما اليوم فملايين الدولارات لا تهز شعرة في رأسي.

ما زلت أذكر أيضاً زيارته لي في مستشفى الجامعة الأميركية في تشرين الأول/ أكتوبر 1999 بعد خضوعي لعملية أجراها الجراح منير عبيد بإشراف الدكتور سمير علم. ارتأى الحريري حينها أن أمضي فترة النقاهة في باريس، وأن طائرته الخاصة ستكون بتصرّفي في مطار خلدة. شكرتُه على هذه اللفتة الكريمة التي يصعُب نسيانها، وقلت إنني أرتاح أكثر بأن أقضي فترة النقاهة في بيتي بدمشق وبالقرب من أولادي وعائلتي، واحتفظت معه بعلاقة ودّية بعيداً عن دوي الطائرات الخاصة، إلى أن وافته المنية يوم اغتياله بانفجار مروع زلزل بيروت، وسُمع صداه في دمشق.

ساعة الاغتيال

كنت أقيم ظهر يوم 14 شباط/ فبراير 2005، مأدبة غداء في مطعم النبلاء بدمشق تكريماً لميكيل موراتينوس بمناسبة انتهاء مهمته مبعوثاً أوروبياً خاصاً لعملية السلام في الشرق الأوسط. جاءتني قصاصة ورق كتب عليها أن انفجاراً ضخماً وقع في بيروت، فالتفجيرات بين الحين والآخر غير مفاجئة في لبنان رغم أن الحرب الأهلية انتهت، لكن عندما جاءتني قصاصة ورق ثانية من مدير مكتبي الصحفي ذكر لي أن الانفجار مروع وأنه ربما استهدف موكب رفيق الحريري الذي نُقل إلى مستشفى الجامعة الأميركية بحالة شديدة الخطورة. تغير نوع الحديث بيننا وتغيرت معه نكهة الطعام.

كان موراتينوس حينها واقفاً يلقي خطاب الوداع، متأثراً لمغادرته المنطقة، ويشكر سورية على ما لقيه من اهتمام المسؤولين السوريين فيها خلال زياراته العديدة لها. كنا منشغلي الذهن بالأخبار التي لا تدعو إلى الاطمئنان والتي تأتي تباعاً من بيروت حول مجريات الأمور. بينما كان موراتينوس يتوقع مني الرد الطبيعي على كلمته كما جرت العادة في مثل هذه المناسبات الوداعية، ارتفع الضجيج في المطعم عندما بث خبر وفاة الحريري. اتصلت بالرئيس بشّار من هاتف محمول، ونحن نهم بمغادرة المطعم لأستفسر منه إن كان سيرسل أحداً إلى بيروت أو يرسل برقية تعزية. تساءل: هل ستكون برقية بروتوكولية أم سياسية؟ فأكّدت أن تكون سياسية لأن المستهدف من هذا الاغتيال هو سورية في لبنان، وارتأيتُ أن تتضمّن البرقية إضافة، باقتراح من وليد المعلم الذي كان يجلس إلى جانبي، حول ضرورة تضامن اللبنانيين مع بعضهم في هذه اللحظات العصيبة.

دموع خدّام السخية

لدى خروجنا من المطعم سألني بعض الصحافيين عن التفجير المأساوي، فأكّدت إدانتي له واعتبرتُه عملاً إجرامياً لا مبرّر له. لكن في أول نشرة أخبار سمعتها من راديو السيارة، كانت الاتهامات تتوجّه نحو سورية، فاعتبرت أنه كلام إذاعات وثرثرات. لكن البيان الذي خرج بعد ساعات من دارة الحريري نفسها كان ثأرياً برائحة سياسية. وهذا موقفٌ لا يستعصي على فهم من يعرف الظروف التي مرّت بها العلاقات بين البلدين.

في أولى نشرات الفضائيات المسائية اللبنانية لم أعثر على تصريحي من بين التصريحات الأخرى، مع أن بعض الوكالات الإخبارية كانت قد وزّعته مباشرة، ومنها وكالة الأنباء الكويتية تحت عنوان “الشرع يستنكر ما حصل للحريري ويعتبر اغتياله عملاً إجرامياً شنيعاً”. استغربتُ كيف يمكن سحب تصريح بالصوت والصورة لوزير خارجية بلد معني بهذا الحدث في لبنان الذي يطغى الوجود السوري فيه على أي شيء آخر.

بعد لحظات، شاهدتُ على شاشة التلفزيون نائب الرئيس خدّام بين المعزّين بدارة الحريري والدموع تنهمر من عينيه. هاتفتُ الرئيس بشّار مرّة ثانية، معتقداً أنه أرسل خدام للتعزية باسمه بدلاً من إرسال البرقية، فقال إنه لا علم له بسفره. فاقترحت عليه أن يطلب منه بوصفه نائباً للرئيس أن يعزّي باسم الرئيس أيضاً حتى لو كان الراحل رفيق الحريري رئيس وزراء سابق؛ ففي لبنان يحتفظ المسؤول بلقبه حتى بعد تركه المنصب أو وفاته.

الاغتيال في مجلس الأمن

في اليوم التالي للانفجار، أي في 15 شباط/ فبراير 2005، أصدر مجلس الأمن بياناً رئاسياً دان فيه جريمة اغتيال رفيق الحريري، واعتبرها جريمة إرهابية، وكلف الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان تسمية بيتر فيتزجيرالد، المحقق الإيرلندي، ليرأس بعثة من الأمم المتحدة لتقصي حقيقة ما جرى وملابساته ودوافعه. عاد فيتزجيرالد إلى نيويورك وقدم تقريره إلى مجلس الأمن في 24 آذار/ مارس 2005، بعد أن أجرى لقاءاتٍ عديدة في بيروت طوال أسبوع كامل تفحص خلاله موقع الانفجار والتقى بعض المسؤولين.

ذكر فيتزجيرالد في تقريره الخطي، الذي رفعه إلى كوفي عنان، أن الأمور معقدة في لبنان وأنه يرى ضرورة التعامل معها بحرفية وخبرة عالية، وأن هذه الجريمة تتطلب تحقيقات أعمق وأشمل. لكنه ذكر أنه لمس خلال مهمته في بيروت وجود استقطاب حاد في لبنان؛ ففي حين رأى بعض اللبنانيين أن مسؤولية الأمن في لبنان تقع على عاتق سورية، رأى آخرون أن جريمة الاغتيال تستهدف الوجود السوري.

لكن معظم وسائل الإعلام العربية لم تستوقفها إلا عبارة تحميل سورية المسؤولية، ولم تتحدث عن الاستقطاب الحاد في لبنان والاصطفافات المتسارعة فيه التي جاءت في تقرير فيتزجيرالد، وإنما استرسلت في تعليقاتها عن اتهام سورية باغتيال الحريري، إلى حد أصبح هذا الاتهام منذ ذلك الوقت كاللازمة في النوتات الموسيقية، تتكرر في الصحف والتصريحات على القنوات الفضائية، لا سيما الخليجية، قبل أن يجري أي تحقيق رسمي حول الانفجار وضحاياه ومن يقف وراءه.

لقد تأثّر مجلس الأمن – الذي تجاهل وجود دولة وقضاء في لبنان – بالضجّة غير المسبوقة في وسائل الإعلام وتداعياتها اللبنانية بخاصة؛ فطلب من كوفي عنان بعد اطّلاعه على تقرير فيتزجيرالد تشكيل لجنة تحقيق دولية تتولى الموضوع في الكشف عن مرتكبي هذه الجريمة الإرهابية، ومعرفة المسؤولين عن التخطيط لها، وأسماء الأشخاص الذين وُجّهت إليهم الأوامر بتنفيذها، وجرى تكليف القاضي الألماني ديتليف ميليس برئاسة هذه اللجنة.

تكليف مجلس الأمن ديتليف ميليس

حظي ديتليف ميليس، بعد أن تولى مهمته في لبنان، بنجومية عالية. وكان هذا “الميليس” من جهة أخرى مُغرماً بالتلفزيونات اللبنانية ومراسليها الذين يتقنون عدة لغات أجنبية، فأصبح يعقد الكثير من المؤتمرات الصحفية. لا نستطيع في الوقت ذاته أن نتجاهل أن ميليس بوصفه قاضياً ألمانياً ورئيساً للجنة التحقيق، يجب ألا يظهر على وسائل الإعلام إلا بعد وصوله إلى نتيجة محققة وموصوفة.

لقد عرض ميليس أكثر من مرّة على سبيل المثال صورة لسيارة “الميتسوبيشي” التي تم شراؤها من اليابان واستُخدمت في التفجير، واعتبر كشفها أهم إنجازاته، مع أن الأمن السوري قد ساعده في عملية الكشف. كما لا ننسى هوسه بتلبية دعوات اللبنانيين الكثيرة إلى المطاعم المكتظّة بالناس، والذي كان يبدو عليه السرور بارتيادها وتحية روادها وتمضية السهرات الطويلة معهم فيها، وترك الإشراف على كتابة التقارير لفريق عمله المتعدد الجنسيات.

غير أن هناك جانباً آخر من حياة هذا المحقق، ليس طريفاً إلى هذا الحد، وذلك عندما كلفه الأميركيون بالتحقيق في تفجير الملهى الشهير ببرلين الغربية عام 1986، وخرج باتهام ليبيا بهذا العمل الإرهابي في عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان. لم يتردّد ريغان حينها بقصف منزل معمّر القذافي بطرابلس، مستنداً إلى برقية غامضة لا يمكن أن تشكل دليلاً دامغاً لإدانة القذافي، سواء أكان المرء من المعجبين بالقذافي أم لا.

لفت انتباهي في هذا السياق أن مجلس الأمن لم يجتمع ويتصرّف بهذه السرعة تجاه أي مجزرة حدثت في العالم منذ تأسيس الأمم المتحدة قبل ستين عاماً. ولو تمكن المرء من الرجوع إلى تفحص هذه الأحداث في سجلات المجلس على نحو عشوائي أو مدروس، لما وجد في بياناته منذ نشأته اهتماماً يذكر باغتيال الشخصيات، مهما كان شأنها وعدد ضحاياها.

قامت الدنيا ولم تقعد في لبنان طوال أيام وأسابيع وأشهر، ورفعت الأعلام والرايات المختلفة في الساحات وعند مفترقات الطرق وعلى شرفات بعض البنايات؛ ما ساهم في انقسام اللبنانيين بين موالاة ومعارضة، بين حشود بمئات الألوف لفرقاء “8 آذار”، وأخرى مماثلة لفرقاء “14 آذار”، كأن شبح الحرب الأهلية يظهر من جديد بعد أن انتهت باتفاق الطائف منذ أكثر من خمس عشرة سنة.

القرار 1595

اجتمع مجلس الأمن مرة أخرى وبسرعة لافتة للنظر في تقرير ميليس، وأصدر بعد أيام قليلة في 7 نيسان/ أبريل 2005 القرار 1595، الذي يشبه بأرقامه القرار 1559 الشهير. وبالتداعي المقصود أو العفوي تم الربط بين القرارين في الديباجة. وتجدد الاتهام الموجّه إلى سورية بالتمديد للرئيس لحود وربطه باغتيال الحريري. وتجدد اتهام سورية والرئيس السوري شخصياً بتهديد حياة رفيق الحريري في حال لم يقبل التصويت لصالح التمديد للرئيس لحود، وذلك في لقاء معه غير معلن في 26 آب/ أغسطس 2004، وقول الحريري نقلاً عن الأسد بأنه “سيكسر رأسه ورأس لبنان عليه” إن لم يوافق على التمديد للحود!.

ربما أدّى تيري رود لارسن، مبعوث الأمم المتحدة في لبنان، دوراً خاصاً من وراء الستار في إصدار القرار 1595. لم يوجّه الاتهام مباشرة إلى سورية ولا حتى بالاسم، مثلما جرى مع القرار 1559، الذي تحدث عن انسحاب الجيوش الأجنبية من لبنان دون تسمية سورية أو حزب الله بالاسم. لكن تفسيرات القرارين تُركت للأمانة العامة للأمم المتحدة.

كان لارسن الذي زار دمشق مراراً واجتمع بالرئيس بشار في دمشق وحلب، والتقى بي أيضاً في وزارة الخارجية، واحداً من الشخصيات الأوروبية النادرة التي تجيد العمل على “المسرح السياسي” من دون أن يظهر دورها الحقيقي في الواقع الملموس. كان يتمتع بموهبة خاصة فيها الكثير من الدهاء والذكاء والمراوغة التي يصعب معها الإمساك به متلبّساً بأي كلام لا يريده.

طلب ميليس الذي كان على معرفة بلارسن في تقريره إعادة صياغة الدولة في لبنان، ولم يدرك المحقق الدولي بأن هذه الصياغة قد استغرقت سنوات طويلة وصولاً إلى اتفاق الطائف. وعندما أدرك الصعوبات أمامه، طلب ميليس من السلطات اللبنانية توقيف كبار المسؤولين الأمنيين في لبنان خطوةً أولى، لوجود صلات لهم بسورية والذين أُطلق عليهم في وسائل الإعلام تسمية “الضباط الأربعة”، وهم: مدير الأمن العام اللواء جميل السيد، ومدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء علي الحاج، وقائد لواء الحرس الجمهوري العميد مصطفى حمدان، ومدير الاستخبارات العسكرية العميد ريمون عازار. كما طلب في إثرها من الحكومة السورية جلب عدد من الضباط السوريين إلى مقرّه في “مونتي فيردي” ببيروت، من بينهم اللواء غازي كنعان الرئيس السابق لفرع الأمن والاستطلاع في القوات العربية السورية بلبنان، وخلفه العميد رستم غزالي لاستجوابهم والتحقيق معهم.

شهود الزور وميليس

تولت المعارضة اللبنانية في أعقاب هذه الخطوات الانقلابية إدارة شؤون لبنان بدعم من مجلس الأمن، لا سيما في أعقاب استقالة حكومة عمر كرامي المتسرعة؛ إذ لم تتحمل كرامته الاستفزازات التي سمعها من بعض أعضاء مجلس النواب اللبناني. كانت استقالة كرامي مفاجئة لنا في سورية، حيث مواقف آل كرامي غير المتملقة للوجود السوري لا تخطئها العين.

بلغ التوتر في علاقاتنا مع السلطات اللبنانية الجديدة ذروته في أعقاب استقالة عمر كرامي، حيث أصبح وضع قواتنا المحدودة العدة والعتاد في لبنان (حوالى 14 الفاً) محرجاً لنا، فهي لا تستطيع أن تدافع عن نفسها إذا تعرّضت للاعتداء من أي طرف لبناني. لقد أصبح هاجسنا الأكبر حينها أن يُقدم أحدهم على إحراق دبابة سورية مركونة في أحد “الزواريب” اللبنانية، ثم يجري الادّعاء أن “ثورة” قد اندلعت في لبنان.

كانت سورية أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تعزز قواتها إلى أقصى حد ممكن وتنزل إلى بيروت العاصمة وبذلك قد تصبح طرفاً في حرب أهلية جديدة منفلتة من عقالها، وإما أن يعاد انتشار القوات السورية بعيداً عن بيروت باتجاه ظهر البيدر.

الانسحاب السوري من لبنان

كنت بطبيعة الحال من الذين يفضلون الخيار الثاني انسجاماً مع موقفي المتحفظ على بقاء قواتنا طويلاً في لبنان أكثر من اللازم، وضرورة احترام بنود اتفاق الطائف، حتى لو لم يجر تطبيقه كاملاً من اللبنانيين مثل إلغاء الطائفية السياسية؛ لأن هذا شأنهم. أبلغت الرئيس بهذا الموقف وتمنيت أن يكون تاريخ الانسحاب قبل موعد الانتخابات النيابية اللبنانية المزمع إجراؤها في أيار/ مايو 2005. كنت قد حدثت الرئيس أكثر من مرة أن قوة سورية في لبنان لا تستند إلى وجودها العسكري فيه، بقدر ما تستند إلى العلاقة الاستراتيجية الجيوسياسية والاقتصادية والتاريخية بين البلدين.

اتفقنا على أن ينتهي الانسحاب في 26 نيسان/ أبريل 2005 قبل أن يحين موعد إجراء الانتخابات النيابية، حتى لا يقال إن الانتخابات ستجري بوجود عسكري سوري.

تزامن تكليف مجلس الأمن لميليس برئاسة لجنة التحقيق، مع الإصرار على تنفيذ قراري مجلس الأمن 1595 و1559 من جهة، ومساءلة المسؤولين الأمنيين السوريين بالمثول إلى مونتي فيردي في بيروت من جهة ثانية. كلفت الدكتور رياض الداوودي وأحمد عرنوس الاتصال بالأمانة العامة للأمم المتحدة وبلجنة التحقيق الدولية في مونتي فيردي لمقابلة ميليس لإقناعه بأن سفر الضباط السوريين إلى بيروت غير ممكن بسبب التدهور الخطير الذي طرأ على العلاقات السورية – اللبنانية منذ اغتيال الحريري واحتمال تعرض حياتهم للخطر.

اعتبر ميليس أن المطلوب من السلطات السورية بموجب التفويض الممنوح له من مجلس الأمن أن يكون تعاون سورية مع لجنة التحقيق تعاوناً كاملاً غير مشروط، وأورد ذلك في تقريره وفي تصريحاته ومؤتمراته الصحفية. كما صرح أن بابه مفتوح لمن يريد أن يدلي بشهادته أمامه، وأمام اللجنة (وفُهم من كلامه أنه سيستقبل من يريد اتهام سورية برحابة صدر). فاستقبل خلال عدة شهود من تبين فيما بعد أنهم شهود زور من أمثال هسام هسام ومحمد زهير الصديق وغيرهما. كما استقبل أسماءً سياسية معروفة لبنانية وسورية، من بينهم نائب الرئيس عبد الحليم خدام، ووليد جنبلاط رئيس الحزب التقدمي، ونائب وزير الخارجية السوري وليد المعلم، الذي تطوع شخصياً للإدلاء بشهادته أمام لجنة التحقيق الدولية.

الأول هسام هسام اعتقلته السلطات اللبنانية لإجباره على الإدلاء بشهادة يتهم فيها عدداً من أسماء المسؤولين السوريين بارتكاب جريمة الاغتيال. وتبين فيما بعد أنه أدلى بهذه الشهادة تحت التعذيب والضغط. أما الثاني محمد زهير الصديق فقد تلاعب بميليس ومساعديه وببعض الصحافيين اللبنانيين وأعطاهم عدة شهادات مزورة، وأجرى فيما بعد مع الفضائيات اللبنانية مقابلات عديدة أدلى فيها بمعلومات متناقضة مثيرة للشك، ولا تصلح دليلاً على صحة الاتهام.

قرار تحت الفصل السابع

علمت عبر وسائل الإعلام بتحديد اجتماع لمجلس الأمن في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2005 في الساعة العاشرة صباحاً على مستوى وزراء الخارجية، مخصص للبحث في تقرير ميليس الخاص باغتيال الحريري. ومع أنني لم أكن مدعواً بصورة رسمية لأن عضوية سورية في مجلس الأمن انتهت عام 2003، فإنني أستطيع الحضور مراقباً إذا رغبت في ذلك. سافرت على عجل إلى نيويورك؛ لأن اجتماعات مجلس الأمن على هذا المستوى نادرة ولم تحصل إلا مرة واحدة قبيل غزو العراق، ويهمني شخصياً أن أستمع مباشرة إلى ما سوف يقال عن تفاصيل اغتيال رفيق الحريري ومن يقف وراءه.

اجتمعت على الفور بعد وصولي نيويورك مع كل من وزيري خارجية روسيا والصين سيرغي لافروف ولي تشاوتشين اللذين تربطنا صداقة قديمة ببلديهما، إذ أخبراني بأن مشروع قرار مجلس الأمن قد تمت الموافقة عليه مساء أمس – ربما وأنا في الطائرة من دمشق إلى نيويورك – وأن هذا القرار أُدخلت عليه بعض التعديلات بجهودهما وإلا كان أكثر قسوة وأشد إدانة لسورية، وشرحا لي بأن صدوره تحت الفصل السابع كان سببه أن التعاون السوري لم يعتبر كاملاً مع لجنة التحقيق الدولية. لم أشهد لقاءً رسمياً جافاً بهذا الشكل في حياتي، لا مع الأصدقاء ولا مع الخصوم.

دخلتُ إلى القاعة الشهيرة لمجلس الأمن لمشاهدة التصويت فقط على القرار والاستماع إلى شروحات الوزراء بعد التصويت. طلب رئيس مجلس الأمن مني الجلوس في المقعد المخصّص لي بوصفي عضواً مراقباً بين الوزراء الخمسة عشر الأعضاء في المجلس. ولفت الانتباه إلى أنه يحق لي الكلام ولا يحق التصويت، وأنا أعرف ذلك عن ظهر قلب، ثم أعطى الكلمات إلى الوزراء الأعضاء الدائمين ثم الأعضاء غير دائمي العضوية.

كان التصويت على القرار 1636 بالإجماع، ثم بدأ الوزراء بشرح أسباب التصويت ومواقف دولهم من جريمة اغتيال الحريري. كان هناك تقارب في الشكل وحدّة في المضمون في كلمات الوزراء. بعضها كان خفيض النبرة مثل لافروف وتشاوتشين، والوزير البرازيلي سيلسو أموريم، الذين لم يتعرضوا في مداخلاتهم للنيل من سورية. ولكن الكلمات التي كانت أكثرها شدة وأعلاها نبرة ضد سورية صدرت عن كونداليزا رايس، وزيرة خارجية الولايات المتحدة وجاك سترو وزير خارجية بريطانيا.

كنت لحسن الحظ آخر المتحدثين، وهذا في الواقع لا علاقة له بالحظ، وإنما بما ورد في النظام الداخلي لمجلس الأمن، فأنا في هذه الحالة أستطيع الرد على ما استمعت إليه بثقة ومعرفة نقاط الضعف والقوة فيما قاله الوزراء للتو. جاء ردي شاملاً لكل المتحدثين.

جرت المماحكات والكلمات الخشنة التي استخدمها جاك سترو، الذي كان يجلس بجانب كونداليزا رايس ويتهامس معها كأنه يسجل ما تطلب منه أن يقوله رداً على خطابي. ولذلك أرى أيضاً أن رده الفظ كان دليل ضعف حجته، وعندما التقيته بعد عدة أشهر في ندوة دولية عُقدت في المنامة، اقترب مني واعتذر وذكر أن بعض أصدقائه قالوا له إنه كان عليك ألا تنفعل في ردك على الوزير السوري.

شكّل نص القرار رقم 1636، الصادر عن مجلس الأمن في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2005 تحت الفصل السابع، سابقة في القانون الدولي وسجّل مفهوماً جديداً في تعريف الأمن والسلم الدوليين. لقد أساء هذا القرار لمصداقية مجلس الأمن أكثر مما أساء لسورية. ونسيه الناس مع مرور الزمن مع أنه صدر تحت الفصل السابع وأجاز استخدام القوة ضد سورية. لقد كان، في اعتقادي، قراراً انفعالياً وثأرياً لا يستطيع مجلس أن يفتخر بإصداره.

ومع أنني لا أجد ضرورة في نشر كل ما جرى أمامي في مجلس الأمن من مناقشات ومداخلات، حيث يستطيع القارئ المهتم الرجوع إليها في سجلات الأمم المتحدة، فإنني أجد لزاماً أن ألخص مضمون كلمتي وزيري خارجية الولايات المتحدة وبريطانيا، لألقي مزيداً من الضوء على نصّ القرار وحيثياته وموقفي بلديهما منه، والذي صدر بإشرافهما وتبنّيهما.

ملخص كلمة كونداليزا رايس

باتخاذ القرار 1636 (2005) هذا الصباح، فإننا، نحن في الأمم المتحدة نعلن تأييدنا لقيام اللجنة بالبحث عن الحقيقة، وهي اللجنة التي يقودها السيد ديتليف ميليس باقتدار. ونؤكد أيضاً على مطالبنا العادلة الموجهة إلى الحكومة السورية ونوضح بجلاء أن عدم الامتثال لتلك المطالب سيؤدي إلى عواقب وخيمة من جانب المجتمع الدولي.

فعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية، تغلغل احتلال سورية للبنان في كل جوانب المجتمع اللبناني. غير أن التدخل السوري أصبح بداية من السنة الماضية شديد الفساد ولا يمكن احتماله، الأمر الذي أدى إلى حشد قوى المعارضة ضده، داخل لبنان وفي صفوف المجتمع الدولي على حد سواء. وفي أواخر آب/ أغسطس الماضي، فرضت الحكومة السورية تمديد ولاية الرئيس اللبناني إميل لحود. وردّاً على ذلك، تصرف المجتمع الدولي، بالرغم من أن بعض أعضاء مجلس الأمن لم يريدوا أن يخص عملنا سورية بالاسم. لذلك، ففي القرار 1559 (2004)، دعا المجلس إلى انسحاب كل القوات الأجنبية من لبنان، ودعا جميع الدول إلى احترام سيادة لبنان.

وعندما لم تف الحكومة السورية بأي من تلك المطالب، استقال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري احتجاجاً. وبعد أقل من أربعة أشهر، اغتيل رئيس الوزراء الحريري في تفجير إرهابي أودى بحياة 22 شخصاً آخرين. وقف مليون مواطن لبناني وقفة رجل واحد في وسط بيروت مطالبين علانية بإظهار الحقيقة وتحقيق العدالة والتحرر من السيطرة السورية.

وقد تلقينا الآن التقرير المؤقت للجنة (662/2005). وقيل لنا إن هناك التقاء في الأدلة يوضح التورط اللبناني والسوري معاً في هذا العمل الإرهابي. وقيل لنا إنه من الصعب أن نتخيّل مؤامرة الاغتيال المعقدة هذه أن تنفّذ بدون معرفة كبار المسؤولين السوريين. وباعتماد قرار اليوم بالإجماع، تتخذ الأمم المتحدة خطوة نحو محاسبة سورية على أي امتناع آخر عن التعاون في تحقيقات اللجنة، والنظر في اتخاذ إجراءات إضافية إذا اقتضت الضرورة. إن القرار الذي اتخذناه اليوم في إطار الفصل السابع من الميثاق هو الطريقة الوحيدة لإجبار الحكومة السورية على قبول المطالب المشروعة للأمم المتحدة، وعلى التعاون الكامل مع لجنة ميليس للتحقيق.

ملخص كلمة جاك سترو

إنني ممتن لجميع زملائي هنا على تصويتهم بالإجماع في مجلس الأمن لصالح القرار 1636 (2005)، وبهذه الصياغة القوية للقرار، أعتقد أننا نرسل رسالة قوية جدًا إلى حكومة سورية وإلى عناصر في لبنان بشأن ضرورة تعاونهما الكامل مع التحقيق الذي يجريه المدعي العام ميليس.

لقد شهد لبنان الكثير من العنف ومن إراقة الدماء عبر تاريخه. ومع ذلك، فإن اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 14 شباط/ فبراير كان صدمة شديدة لشعب لبنان وللمجتمع الدولي بأسره لحسم الخلافات السياسية باللجوء إلى ممارسات القرون الوسطى المتمثلة في الاغتيال السياسي.

والأدلة المجتمعة في تقرير ميليس (662/2005) خطيرة ومثيرة للقلق. ولكن بعد الدراسة المتأنية للتقرير، من الصعب ألا نؤيد الاستنتاجات التي خلص إليها، من أن هناك أدلة تشير إلى تورط لبناني وسوري رسمي، على السواء، في هذا العمل الإرهابي، ولكن لكي تتمكن اللجنة من الانتهاء من مهمتها، فهي في حاجة إلى التعاون الكامل وغير المشروط من جانب سورية، بموجب الفصل السابع من الميثاق.

كما نحذّر أيضًا، على الوجه الصحيح، حكومة سورية بأن صبرنا له حدود. وإن عدم تعاونها الكامل الآن سيجبرنا على النظر في اتخاذ تدابير إضافية لضمان أن يتمكن مجلس الأمن، وعن طريق اللجنة، من الاضطلاع بدوره في تقديم المساعدة للحكومة اللبنانية في تصميمها على تحقيق العدالة. وإذا أدرنا ظهورنا لهذه الجريمة، بسبب ما يبدو من صعوبة حلها سياسيًا، فإن ذلك لن يؤدي إلى فقدان الشعب اللبناني الثقة بهذه الهيئة فحسب، بل إنه سيقوض أيضًا مصداقية المجلس وسلطته وسيضر بجهودنا لإنقاذ سيادة القانون الدولي.

 ردّ فاروق الشرع

اعتراضي الأساسي الموجه إلى تقرير لجنة التحقيق الدولية هو أنه انطلق من افتراض أن سورية متهمة بارتكاب هذه الجريمة بدلًا من أن ينطلق من افتراض البراءة حتى تثبت الإدانة. والغريب أن مجلسكم قد أيد اللجنة فيما ذهبت إليه دون تدقيق أو تمحيص. لو أن تواجد قوات عسكرية وأجهزة أمنية في بلد ما يعني أن أي حادث إجرامي أو إرهابي يقع في هذا البلد، ما كان يمكن أن يقع بدون علم أو موافقة هذه القوات وهذه الأجهزة، لكان يجب اتهام القوات والأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة الأميركية في التفجيرات الإرهابية التي ارتكبت بتاريخ 11 أيلول/ سبتمبر 2001، واتهام الأجهزة الأمنية الإسبانية بتفجير القطارات في مدريد بتاريخ 11 آذار/ مارس 2004، واتهام الأجهزة الأمنية البريطانية بتفجيرات مترو الأنفاق في لندن بتاريخ 7 تموز/ يوليو 2005.

ثم إن الإنسان لا يملك إلا أن يبدي استغرابه إزاء اتخاذ المجلس لهذا القرار تحت الفصل السابع من الميثاق، في حين أنه لم يتعامل بنفس الطريقة في حالات أخطر وأكبر. ففي حالة مجزرة قانا، على سبيل المثال، التي ذهب ضحيتها أكثر من مئة مدني في نيسان/ أبريل من عام 1996، لم يقرر مجلس الأمن آنذاك حتى تشكيل لجنة تحقيق دولية، لأن إسرائيل كانت الطرف المتهم صوتًا وصورة.

وفي العراق اكتفى المجلس بمجرد إصدار بيان رئاسي في حادث الانفجار المروّع الذي أودى بحياة ممثل الأمم المتحدة في العراق سيرغيو دي ميللو وأكثر من عشرين من رفاقه في آب/ أغسطس 2003. أما عندما اعتدت إسرائيل في نيسان/ أبريل 2002 على مخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة، ودمرته بصورة معلنة وقتلت أكثر من 400 فلسطيني منهم عشرات الأطفال والنساء، رفضت حتى استقبال اللجنة التي شكلها مجلس الأمن برئاسة الرئيس الفنلندي مارتي اهتيساري وأغلق الموضوع. مع كل ذلك، فإن سورية، انطلاقًا من حرصها على كشف الحقيقة، كان قرارها وما زال، التعاون التام مع اللجنة الدولية حتى إقامة الدليل القاطع على من ارتكب هذه الجريمة البشعة المدانة.

أخيرًا، اسمحوا لي أن أعبر بتعليق بسيط ومختصر، حول ما قاله السيد جاك سترو. وكان محقًا عندما تكلم عن أن اغتيال الراحل رفيق الحريري شبيهًا بما كان يجري في العصور الوسطى. وأنا أضيف إلى ما قاله السيد سترو أن التحقيق في هذه الجريمة قد تم أيضًا بما يشبه ما كان يتم في العصور الوسطى، لأن المتهم أدين قبل التحقيق معه.

طلب جاك سترو – الذي كان يتهامس مع كونداليزا رايس طوال الجلسة ويدون على الأرجح ما كانت تريد أن يقوله بالنيابة عنها – الكلام للمرة الثانية لأنه ربما شعر بفشله في إقناع الآخرين.

مداخلة جاك سترو الثانية

ما كنت سأرد سيدي الرئيس حتى سمعت وزير خارجية سورية السيد فاروق الشرع يعبر عما لا أستطيع أن أصفه إلا بأنه مقارنة بالغة الفظاظة بين الحالة التي تجد حكومة سورية نفسها فيها الآن ومواقف حكومة الولايات المتحدة الأميركية في 11 أيلول/ سبتمبر، وحكومة إسبانيا في 11 آذار/ مارس 2004، وحكومة المملكة المتحدة في 7 تموز/ يوليو من هذا العام. وأظن أنه لو وجد من بين الزملاء حول هذه الطاولة من كانت لديه أي شكوك في الحاجة إلى إصدار القرار 1636 (2005) بموجب أحكام الفصل السابع، فإن القاضي ميليس يوضح، وقد اقتبست منه، أن افتراض البراءة ما زال قائمًا.

ولكن التحقيق الذي يجريه الآن ليس تحقيقًا في العصور الوسطى، كما يشير السيد الشرع، بل هو معروف في كل التحقيقات السليمة: أي أولًا، تحديد الأدلة الأولية لتبين ما إذا كانت هناك حاجة إلى مزيد من التحقيقات. ولو كانت الحكومة السورية قد قدمت تعاوناً تامّاً في المضمون، لكان تقرير السيد ميليس مختلفًا، وأنا على يقين قاطع بأنه لما كان من المطلوب عقد اجتماع على مستوى وزاري، ولا حتى اتخاذ قرار على الأرجح. وإن كان الوزير الشرع يوحي بأن ما حدث في 11 أيلول/ سبتمبر 2001 و3 آذار/ مارس 2004 و7 تموز/ يوليو 2004، تم بموافقة حكومات الولايات وإسبانيا والمملكة المتحدة، فأعتقد أنه يجب أن يقول ذلك صراحة.

ردّ فاروق الشرع

أعتذر عن أخذ الكلمة للمرة الثانية. والحقيقة أنني لا أريد أن أدخل في أية مماحكات، ولكن أريد أن أوضح بعض النقاط التي أثارها السيد جاك سترو. النقطة الأولى، في ما يتعلق بما قاله ميليس، فالسيد سترو يتفق معي على أن ما قاله ميليس فرضيات وليست وقائع، إذ عندما انتهى استجواب الشخصيات السورية في دمشق جرى سؤاله من أحد الصحافيين ما إذا كان سيعود أم لا؟ وقال قد أعود وقد لا أعود. وهذ يعني تشكيكه باستخلاصاته.

النقطة الثانية، لقد أدنّا هجمات 11 سبتمبر 2001 مرات عديدة، لأننا ببساطة نحن العرب ندفع ثمن هذه الهجمات الإرهابية، فنحن جزء من ضحاياها. كما أدانت سورية تفجير القطارات في إسبانيا عبر بيان رسمي، وأدنا أيضًا بالتصريحات الرسمية وعبر الاتصال الهاتفي تفجيرات مترو الأنفاق في لندن. النقطة الثالثة والأخيرة، إننا نريد أن نصل إلى الحقيقة من اغتيال الراحل رفيق الحريري بأدلة قاطعة، وليس لأهداف أخرى تنطلق من أجندات خفية.

رئيس مجلس الأمن: لا يوجد متكلمون آخرون في قائمتي. والتفت يمينًا ويسارًا، وكانت رايس تنظر إلى سترو وتتهامس معه ولم يطلب أي منهما الكلام مرة أخرى.

بعد هذه الجلسة، صادفت جاك سترو في إحدى دورات المياه في مجلس الأمن، فقال لي على انفراد معتذراً “I will behave next time” أي أنني سأتصرف بطريقة أفضل في المرّة القادمة.

الخروج من المأزق

كانت هذه من الأيام العصيبة لوزير خارجية سورية، يرفض الابتزاز والمس بكرامة بلده، بمواجهة دول كبرى، رغم أنه على المستوى الشخصي من بين غير المتحمّسين لبقاء القوات السورية في لبنان بعد اندحار إسرائيل من جنوب لبنان في عام 2000. لقد كان اتفاق الطائف يسمح في إحدى فقراته بوضوح لا لبس فيه، بتمركز القوات السورية بعد الانسحاب من لبنان، في ظهر البيدر وعين دارة والبقاع من الأراضي اللبنانية، بصورة قانونية وبموافقة الحكومة اللبنانية وجامعة الدول العربية. ومن هذه المواقع اللبنانية المرتفعة تستطيع قواتنا أن ترى بيروت بالعين المجردة وتراقب الجبهة اللبنانية – السورية – الإسرائيلية وبأبسط وسائل الرصد.

كان في مقدمة المطلوب التحقيق معهم في سورية رئيس الجمهورية بشار الأسد وآخرون من عائلته. وكتب ميليس لي خطيًا بمعرفة الأمين العام للأمم المتحدة في حزيران/ يونيو 2005 قائمة بهذه الأسماء وما هو المطلوب منها. أطلعت رئيس الجمهورية على الرسالة في مكتبه في قصر الروضة، حيث لا يجوز الحديث على الهاتف بأمور بالغة الحساسية. قرأ الرسالة ولم يعطني جوابًا كأنما هي موجهة إلي شخصيًا ولا تعني آل الأسد. اعتبر ميليس حينها أن عدم الرد على الرسالة التي وجهت إلى وزير الخارجية بسرعة تضليلًا للتحقيق. وأثار نشر هذا الاتهام لي في تقريره دون وجه حق حملة إعلامية ضدي شخصيًا بتهمة تضليل التحقيق؛ حملة استمرت أسابيع كأن عملية الاغتيال جرت بمعرفتي.

في آخر تقرير لميليس، الذي قدمه إلى مجلس الأمن في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2005 قبيل أن يتنحى عن رئاسة لجنة التحقيق الدولية بأيام معدودة، ظهرت عيوب قانونية لا تخطئها العين في تقريره لا سيما بالنسبة إلى مصداقية الشهود. لقد تمسكنا في سورية بمسلمتين قانونيتين: الأولى، ألا يكون التحقيق سياسيًا وإنما مهني وقانوني بامتياز؛ إذ لا يعقل أن يصدر عن مجلس الأمن قرار يعتبر فيه الحكومة اللبنانية مرجعًا يُعتد به، ولا يُعتّد في الوقت ذاته بسلطتها القضائية؛ فيشكل مجلس الأمن لجنة قضائية دولية. والثانية، ألا يمثل أي مسؤول سوري مدني أو عسكري إلى مونتي فيردي في لبنان؛ لأن العلاقة مع لبنان تمر بمرحلة غير طبيعية.

شرحت لكوفي عنان أمين عام الأمم المتحدة ومساعده تيري رود لارسن على الهاتف آنذاك أهمية الاستجابة لهاتين النقطتين، وضرورة استبعاد أي أسماء بصورة مسبقة اتهمت عن طريق شهود زور، أما إذا كانت هناك أسماء ليست من اختراع شهود الزور فتجري اللقاءات معهم داخل سورية، وليس في مونتي فيردي في بيروت. قال لي عنان دعني أفكر لأن الموضوع ليس كله بيدي.

بعد يومين اتصل عنان معي هاتفيّاً، وقال إنه لم يستطع إقناع مجلس الأمن بإجراء التحقيق داخل سورية، فلجنة التحقيق واضحة في ما قالته في تقريرها وفي الجلسات المغلقة في مجلس الأمن. وقال إن المطلوب أن تجري التحقيقات خارج سورية بعد أن أخذنا مخاوفكم في الاعتبار، أما بالنسبة إلى بقية الضباط الذين تم استجوابهم داخل سورية فعليهم بموجب الفصل السابع أن يمتثلوا للتحقيق الدولي خارج سورية؛ لأن مجلس الأمن وبالتحديد المندوب الأميركي الدائم في مجلس الأمن جون بولتون، قد اقترح عليه البحث عن بلد آخر تضمن فيه حرية التعبير من دون قيد أو شرط.

استغرقت المكالمة الهاتفية، أو بالأحرى المكالمتان الهاتفيتان الأخيرتان مع كوفي عنان، أكثر من نصف ساعة ولم أستطع أن أقنعه بأننا سهلنا التحقيقات داخل سورية ونحن على استعداد لمتابعتها. اقترحت عليه مكانًا لإجراء التحقيقات اللازمة، وقلت إن الجولان أرض سورية تحت احتلال غير قانوني، وهناك منطقة فصل القوات في الجولان يرفع عليها فقط علم الأمم المتحدة، ولا يرفع عليها “العلم الإسرائيلي” ولا العلم السوري، وتستطيع لجنة التحقيق الدولية أن تجتمع مع الضباط السوريين المعنيين في مقر الأمم المتحدة، وسيشعر المحققون بحرية كاملة هناك. قال سأعاود الاتصال معك، فالقرار صادر عن مجلس الأمن والتفويض معطى من المجلس للجنة التحقيق.

من الواضح لي أن كوفي عنان كان مقتنعاً باقتراحي، فقد تحدثنا خلال الاتصال الهاتفي عن كيفية وصول الضبّاط السوريين ولجنة التحقيق إلى مقر الأمم المتحدة في منطقة فصل القوات في الجولان بواسطة مروحية تابعة للأمم المتحدة وعليها شارة وعلم الأمم المتحدة، حيث يمكنها أن تنطلق بالنسبة إلى اللجنة الموجودة في بيروت عبر قوات اليونوفيل في جنوب لبنان، ومنها إلى قوات الأوندوف في الجولان المتجاورتين، دون أن تنتظر موافقة من أية دولة. يكفي وجود إشعار الأمم المتحدة للدول الثلاث (سورية ولبنان وإسرائيل) بخط سير الطائرة التي تحمل شارة الأمم المتحدة بالطبع، وهي أمور يكفلها القانون الدولي والدول المعنية بموافقات عبور الأجواء. عبر عنان عن دهشته لهذا الشرح الدقيق فقلت له إنني كنت أعمل في السبعينيات بمؤسسة الطيران السورية.

عاد عنان واتصل بي بعد أقل من ساعة، وقال لم أحصل على الموافقة المقترحة من المجلس، وأرجو ألا تسألني عن الأسباب. كانت المكالمة الثانية مختصرة جدًا لأنه لم يرغب في أن يفسر سبب رفض الاقتراح. قدّرت أن جون بولتون كان وراء هذا الرفض.

كنت أرى بالتشاور مع اللجنة القانونية، التي تضم عددًا من الخبراء القانونيين في دمشق، لا سيما بعد صدور القرار 1636 تحت الفصل السابع، أن هناك معضلتين اثنتين أمام سورية لكشف الخطة المعقدة قبل أن تصل إلى مبتغاها وتحقق أهدافها من خلال الأدوات العديدة المتاحة في الخارج والداخل. وكان ثمة أهمية للجانب الإعلامي في هذا المجال، بشقيه السياسي والقانوني، في عصر ثورة الاتصالات.

تتعلق المعضلة الأولى بالحفرة الكبيرة التي أحدثها الانفجار الذي أدى إلى اغتيال الحريري، والتي لم تثر – كما هو مفترض – الاهتمام الكافي من حيث عمقها واتساع دائرتها وشدة تدميرها، وهل كان الانفجار قد جرى فوق الأرض أو تحتها بكمية 1000 كيلوغرام من مادة TNT الشديدة الانفجار أو بأكثر منها؟

أما المعضلة الثانية فكانت البحث عن مكان محايد يمكن أن يجري التحقيق فيه بسرية تامة ولا يكون للسلطات السورية تأثير فيه، وذلك غير الذي اقترحته ثمّ رفض، كما أبلغني أمين عام الأمم المتحدة، لا سيما أن لجنة التحقيق تهدد سورية بالفصل السابع؛ أي باستخدام القوة في حال عدم التعاون الكامل معها، وهنا تكمن أهمية المحاولة، بصرف النظر عن نجاحها أو فشلها.

كان الهدف من البحث في حل هاتين المعضلتين، ليس إخراج “الزير من البير”، فهذا ليس زمن المعجزات، خاصة إذا علمنا بأن الدول الثلاث التي نقدم على تحديها تتحكم إلى حد بعيد عبر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وقبله في عصبة الأمم بسياسات المنطقة منذ مئة عام تقريبًا، وهي أميركا وبريطانيا وفرنسا. وقد أدى الدور الرئيس في اللجنة القانونية الدكتور سامي الخيمي، سفيرنا في لندن، بالإشراف على الخبراء الأجانب.

كان هذا هو الواقع ولا يزال، رغم امتلاك سورية وأصدقائها وحلفائها داخل لبنان في أفضل الأحوال “الثلث المعطّل” وليس الثلث القادر على المواجهة والمبادرة وتقرير مصير المنطقة. كان الهدف الممكن الذي نسعى إلى تحقيقه هو إدخال الشك لا أكثر في رواية الاتهام، التي جرى تسويقها للعالم لدرجة أن أصدقاءنا الروس والصينيين وبعض الأشقاء العرب صدقوها. وهذا هو الخطر الحقيقي من وراء الاتهام، دون أن نتجاهل أيضًا أن الرأي العام السوري كان متأثرًا إلى حد كبير باغتيال الحريري؛ فبراءة النظام من دم الحريري هدف لا بد من تحقيقه، ويقع ذلك على كاهل وزارة الخارجية السورية ووزيرها قبل أي مسؤول آخر.

حدث التشكيك بالرواية المتعلقة بالحفرة – على الأقل لدى الروس – عندما أجرينا سرًا، بطلب مني، تجارب حقيقية مصورة في بادية الشام لعدة أيام لمختلف الانفجارات من فوق الأرض وتحتها ومن مختلف السيارات والشاحنات وبألف كيلو غرام من مادة تي إن تي (TNT) الشديدة الانفجار وأكثر. لم نحصل على حفرة بهذا العمق الكبير ولا بهذا الاتساع الذي حصل في انفجار بيروت في ذلك اليوم المروع. أطلعنا موسكو على هذه الصور التي وضعناها في ألبوم خاص تولاه مدير المخابرات العامة اللواء علي مملوك، الذي كُلف بالسفر إلى موسكو سرّاً بإصرار مني وموافقة الرئيس الأسد.

نجح اللواء مملوك في إدخال الشك في نفوس المسؤولين الأمنيين الروس والمستشارين العسكريين لديهم، حول حجم حفرة الانفجار المذهل، كما أبلغني بعد عودته من موسكو. أخرج الروس بعض الصور الملتقطة من الأقمار الاصطناعية لديهم يوم الانفجار، فرصدوا نشاطًا جويًا، وطائرتين كانتا تحلقان فوق بيروت والشاطئ الشرقي للمتوسط ما بين الساعة العاشرة صباحًا والساعة الثانية بعد الظهر بتوقيت بيروت، في 14 شباط/ فبراير 2005، وزودونا ببيانات الأقمار الاصطناعية، ولكنهم لم يستطيعوا تأكيد سبب هذه الطلعات الجوية وفيما إذا كانت إحدى الطائرتين أميركية والأخرى إسرائيلية، لأن كلتيهما من صنع أميركي.

اقتُرح حل المعضلة الثانية عن طريق إجراء التحقيق في بلد محايد. أرسلت إلى كوفي عنان، عبر مبعوث موثوق من قبلي لإبلاغه سرّاً أن ما نراه مناسبًا لتلبية متطلبات قرار مجلس الأمن هو إجراء التحقيق في مقر الأمم المتحدة في فيينا عاصمة النمسا، الموجود على أرض محايدة. سيدخل الضباط السوريون المطلوبون للشهادة من الباب الخلفي، بحيث لا تعلم بهم أية وسيلة إعلامية؛ لأن سرية الموضوع شرطٌ لنزاهة التحقيق. هكذا تضمنت رسالتي إلى الأمين العام. ولتوفير الجو الملائم ليستطيع المحققون الدوليون توجيه الأسئلة بـ “حرّية مطلقة”، قبل كوفي عنان بهذه التعهدات، ولا شك لدي في أن مهنيته العالية أمر يستحق التقدير، لأن هذا الجانب من شخصيته هو الذي أكسبه احترام الآخرين رغم امتثاله أحيانًا لتوجيهات الأميركيين.

لإنجاز هذا الأمر، استدعيت سفيرنا في فيينا صفوان غانم، وهو دبلوماسي قدير ولديه خبرة طويلة، وشرحت له تفاصيل ما يتعيّن عليه القيام به في فيينا قبل وصول الضباط السوريين السبعة المطلوبين للشهادة وبعده. غادر الضباط المعنيون على طائرة خاصة سورية إلى تركيا. ثم غادروا بعدها إلى فيينا بحيث لا يستطيع أحد من الصحافيين معرفة أنهم جاؤوا من سورية. اصطحبهم السفير غانم لدى وصولهم مطار فيينا كأصدقاء وأقارب وأنزلهم في بيته، بعد أن انتقل هو وعائلته إلى فندق قريب من بيته بحسب الاتفاق لكي يكون على تواصل معهم. وأدخلهم من الباب الخلفي لمقر الأمم المتحدة في فيينا، فلم تعلم بهم أية وسيلة إعلامية.

عاد الضباط من فيينا إلى دمشق بعد إجراء التحقيقات المطلوبة بالطريقة نفسها التي غادروا فيها إلى فيينا عبر تركيا. كانت علاقات سورية مع تركيا ممتازة بعد زيارة الرئيس بشار إليها عام 2004، ومع النمسا التي تربطني صداقة مع المسؤولين فيها مثل وزير الخارجية والمستشار النمساوي.

استبقى أحد المحققين في مقر الأمم المتحدة بفيينا العميد رستم غزالي في غرفة المحققين لدقائق إضافية، وطلب منه – كما قال غزالي لسفيرنا صفوان غانم في الطريق إلى المطار – بأن يقول إن بشّار الأسد هو الذي أمر باغتيال الحريري مقابل تبرئته. لكن غزالي رفض هذا العرض جملةً وتفصيلًا على حد قوله.

بعد ذلك، وعلى خلاف ميليس، لم يوجّه المحقق الدولي سيرج براميريتز الذي خلفه، أي اتهام إلى الرئيس أو أخيه ماهر الأسد أو صهره آصف شوكت رئيس شعبة المخابرات العسكرية في تقرير المتابعة الذي أصدره بعد أن اجتمع مع الرئيس بشار في دمشق ليستكمل التحقيق في نيسان/ أبريل 2006 وبعد اجتماعه معي أيضًا. لكنه مهد في تقريره لضرورة تعاون أفضل.

انتهت المهمة بنجاح، بصرف النظر عما توصل إليه المحققون. والنجاح الذي أقصده لا يعني أن ملف اغتيال رفيق الحريري قد أُغلق، وإنما يعني أن تعاون الجمهورية العربية السورية مع لجنة التحقيق الدولية كان كاملًا، وغير مشروط ودون توقيع الحكومة السورية أي اتفاقية مع الأمانة العامة للأمم المتحدة شبيهة بالاتفاقية الخاصة مع لبنان التي تلغي دور القضاء اللبناني.

لم يكن إنجازاً سهلاً عدم تمكين وسائل الإعلام في عصر ثورة الاتصالات من نشر أي خبر عما حدث مع الضباط الكبار السوريين في النمسا مرورًا بتركيا، فضلًا عن سد ذرائع دول كبرى بإلغاء الاتهام المجلل الموجه إلى الرئيس وأفراد من عائلته باغتيال الحريري، والذي اعتبرته أساسيّاً لتبرئة سورية. لكن كانت تبعات ذلك الجهد اتهامًا باطلًا لي في تقرير ميليس بتضليلي للتحقيق.

إلا أن الرئيس بشّار لم يبادلني التقديرات والاستنتاجات نفسها عندما التقيته في مكتبه نهاية عام 2005، بعد أن عاد الضبّاط من فيينا، لأسباب ما زلت أجهلها. فما إن انتهينا من الحديث عن الحريري، وإذ بالرئيس يفاجئني بقوله: توجد علي ضغوط كبيرة، وهي ليست جديدة، بل من أيام الوالد، ولم أحاول حينها الاستماع إليها كما تعرف! وبدلاً من أن أسأله من أين أتت هذه الضغوط – لأنني سمعت عنها فعلاً مباشرة من والده حيث كانت السعودية هي الدولة المقصودة – أجبته بين الجدّ والمزاح الذي كنا نمارسه معًا مبتسمًا للتخفيف من الجو المتوتر: ربما ترغب في تغيير وزير الخارجية.. أجابني على الفور، ومن تقترح مكانك؟

لم أعتب لردّة فعله السريعة، فأنا لست متمسّكاً بالمنصب. وإذا كان بشار قد استبقاني حين أصبح رئيساً فذلك حتماً لشعوره بالحاجة إلى مساعدتي فترة. لكنني شعرتُ بأنه يرغب في استبعادي، كي لا يُعزى أي نجاح له إلى غيره. … أجبته بأن نائب وزير الخارجية وليد المعلم يمكن أن يكون مريحاً له شخصيّاً لسببين؛ إذ لديه علاقاته الوطيدة مع بندر بن سلطان منذ كان سفيراً للولايات المتحدة ومن ثمّ مع السعودية، كما أنه بنى علاقات مع أعضاء الوفد الأميركي المفاوض في أثناء محادثات السلام. ولقد كلف بمهمّات سابقة، آخرها تكليف الرئيس له بلقاء الحريري قبل اغتياله بأسابيع. أما الخيار الثاني فيمكن أن يكون فيصل المقداد ممثل سورية لدى الأمم المتحدة في نيويورك الذي هو مُخلص لكم وللبلد. والخيار الثالث هو الدكتور رياض الداوودي، فهو ضليع بالقانون الدولي وشارك في مفاوضات السلام وكلف بمهمات عديدة كان ناجحًا فيها.

قال لي الرئيس بعد أن تناقشنا حول الأسماء المقترحة بالتفاصيل: ما رأيك بأن تصبح نائباً للرئيس، فأنا أستطيع الاعتماد عليك. أجبتُه: أنت شاب ولا تحتاج إلى أحد. قال: لا، لا أبداً. فصلاحيات نائب الرئيس واسعة ومهمّة، وتستطيع أن تأخذ الصلاحيات التي تقترحها، ويمكن أن تعرضها عليّ، في لقائنا بعد رأس السنة الجديدة.

غادرتُ قصر الشعب وفكّرت مليّاً، فأنا في الواقع لستُ مولعاً بالسلطة، ومن ثمّ لم يتجاوز ما كتبته من صلاحيات الصفحة الواحدة. كانت المادّة الأولى في هذه الصفحة هي ما يكلفني به رئيس الجمهورية. وثانيًا، يجب أن يكون لهذا المنصب ملاك إداري يحدّد مهماته من سيعمل معي. وثالثًا، تصدر كل قرارات الإيفاد بمراسيم جمهورية من الرئيس. ورابعًا، أن تكون هناك ميزانية معلنة ضمن ميزانية الدولة تحظى بموافقة رئيس الجمهورية.

قرأ الرئيس “الورقة – الصفحة” بحضوري في مكتبه، مادّة وراء مادّة، وقال: تستطيع أن تطلب مني ما تريد من نفقات ومخصّصات ولن أبخل عليك بشيء، ومن ثمّ لا تحتاج إلى ميزانية خاصة. ولسنا في حاجة إلى ملاك أبداً، فيكفينا البيروقراطية التي نحن فيها؛ إذ ليس هناك ملاك حتى لرئاسة الجمهورية! ظلّ ممسكًا بورقة الصلاحيات المتواضعة، بعد أن حاول شطب كل ما ورد فيها باستثناء المادة الأولى، وهو القيام بما يكلفني به! لم أخرج مرتاحًا من اللقاء لأنه عمليّاً لم يوافق على شيء.

06 تشرين الأول / أكتوبر 1999 بشار الأسد (يمين) وغازي كنعان بعد زيارتهما وزير الخارجية السوري فاروق الشرع في مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت

بشار الأسد (يمين) وغازي كنعان بعد زيارتهما وزير الخارجية السوري فاروق الشرع في مستشفى الجامعة الأميركية ببيروت (6/10/1999 فرانس برس)

انتحار غازي كنعان

 في سياق جدير بالذكر، هو ما سمعته مباشرة من الرئيس بشّار، واللواء آصف شوكت، عن انتحار غازي كنعان في مكتبه بوزارة الداخلية.

تقدمت شخصيًا صفوف المعزين مع ناجي العطري رئيس مجلس الوزراء وقليل من المسؤولين السوريين أمام مستشفى المواساة بدمشق يوم الأربعاء 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2005، على الرغم من أنه ليس بيني وبينه معرفة عميقة.

عرف اللبنانيون غازي كنعان بوصفه حاكمًا بالوكالة عليهم عقدين، وأصبح بعد ذلك في مطلع حكم الرئيس بشّار مديراً لشعبة الأمن السياسي في وزارة الداخلية، ثم عين وزيراً للداخلية في حكومة العطري. كان قد اتهم من بين عشرات بمقتل رفيق الحريري رغم صداقته العميقة معه. تحدّثت مع كنعان في ملابسات اغتيال الحريري، حيث كلفني الرئيس بالتحدّث مع الضباط السوريين المتهمين. أصر الوزير كنعان أن أتحدث معه في وزارة الخارجية، على الرغم من أنني عرضت عليه أن أزوره في مكتبه بوزارة الداخلية، لكنه رفض بتهذيب بالغ.

سألتُ الرئيس في أثناء لقائي به في القصر إن كان حادث موت كنعان انتحاراً. رفع الرئيس سماعة الهاتف فوراً، وتحدث إلى مدير مكتبه أبو سليم قائلاً: يجلس بحانبي أبو مضر. طلب الرئيس منه قراءة رسالة غازي كنعان التي أرسلها إليه قبيل وفاته. قرأ أبو سليم نصّ الرسالة، بعد أن ضغط الرئيس على زر الهاتف لأستمع إلى الصوت مباشرة. كانت الرسالة يرجو كنعان الرئيس فيها بأن يرعى عائلته وأولاده من بعده، وتخلّلها الكثير من الشكر والتقدير للرئيس.

نعش غازي كنعان محمولاً على الأكتاف لنقله من مستشفى الشامي بدمشق لدفنه في قريته بحمرة بالقرب من اللاذقية (13/10/2005/فرانس برس)

نعش غازي كنعان محمولاً على الأكتاف قبالة مستشفى الشامي بدمشق استعداداً لنقله ليدفن في قريته بحمرا قرب اللاذقية (13/10/2005/فرانس برس)

أما رواية آصف شوكت فكانت تفصيلية وتصويرية. قال لي إنه كان على موعد مع غازي كنعان في الساعة التاسعة صباح انتحاره. لكن كنعان جاء إلى وزارة الداخلية حوالى الساعة الثامنة ثم غادر إلى بيته فوراً. ومن هناك اتصل يقول إنه قد يتأخر قليلًا عن الموعد. ربما أحضر كنعان معه المسدس الذي انتحر برصاصاته لأنه لم يعد يحمل مسدساً منذ أن أصبح وزيراً. كما ذكر آصف أن اللواء ماهر الأسد قد صرح بأنه قام بالتعزية بكنعان في ضيعته بحمرا التابعة إلى ناحية مركز القرداحة في منطقة القرداحة، وتابع قائلًا لي “علماً بأنه لم يكلف نفسه عناء السفر إليها”.

العربي الجديد

—————————————

من مذكّرات فاروق الشرع… محضر اللقاء الأخير بين بشار الأسد ورفيق الحريري (2)

30 ابريل 2025

عرض نائب الرئيس وزير الخارجية السوري الأسبق، فاروق الشرع، في الحلقة السابقة من مذكّراته ونشرتها “العربي الجديد” تفاصيل جلسة مجلس الأمن في نيويورك بعد تصويته على القرار 1636 يطلب تعاوناً سورياً كاملاً مع التحقيق الأممي بشأن جريمة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري. ويأتي الشرع على ملابسات إعفائه من وزارة الخارجية، وحادثة انتحار وزير الداخلية السوري الأسبق غازي كنعان. وفي الحلقة التالية ملحق ضمنه الشرع كتابه الذي يصدره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات نصّ محضر اللقاء الأخير بين الرئيس السوري (المخلوع) بشّار الأسد ورفيق الحريري في أغسطس/ آب في دمشق، ودار بشكل رئيس حول رغبة الأسد في التمديد لإميل لحود رئيساً للجمهورية اللبنانية في معارضة أبداها الحريري.

نص محضر اللقاء بين الرئيس السوري بشّار الأسد ورفيق الحريري رئيس مجلس الوزراء اللبناني في 26/8/2004 في دمشق

الرئيس: معناه ما نمت هنا؟

الحريري: لا والله. البارحة خبّروني. أنا أخدت إجازة وعلى أساس رايح يوم السبت ورحت يوم الجمعة وزرت الأمير سلطان لأنه عمل عملية.

الرئيس: الآن وضعه كويس؟

الحريري: الآن وضعه مليح.

الرئيس: كيف كان لقاؤك مع البطرك.

الحريري: البطرك ردّد الكلام الذي حكاه. وكان قد عمل مقابلة من قبل وطلعت البارحة في جريدة “النهار”.

الرئيس: وشو حاكي فيها؟

الحريري: نفس الكلام تقريبًا بمعنى يا أخي نحن على الأقل بدنا نجيب رئيسنا وبدنا نجيب وزيرنا وبدنا كذا وبدنا كذا. وهو منزعج لأن طالع كلام من عند الرئيس (لحود)، أو من حواليه، مش من الرئيس بالذات، بأن البطرك موافق على التمديد له.

الرئيس: لكن كأنه أعطى كلامًا جيدًا للحود عندما التقى معه في الديمان.

الحريري: لا.

الرئيس: لماذا عَزَمَه إذاً.

الحريري: لم يعزمه. هو الذي طلب. كان فيه عندهم مناسبة تسمية غابة شجر على اسم البطرك صفير. فهي عندهم تقليد يسمون غابة على اسم كل بطرك. وكانوا بصدد هذه المناسبة وعلم لحود بذلك فقال للبطرك: راح إجي وأحضر. قال له البطرك، هذه قصة بسيطة وكذا. قال لحود: لا، بدّي إجي. وطلع وحضر.

الرئيس: في الديمان؟

الحريري: نعم، في الديمان.

الرئيس: الغابة في الديمان؟

الحريري: الغابة في الديمان. وهي منطقة مسيحية. وعندما وقع عليهم الاضطهاد من قبل الأتراك هربوا إلى مكان اسمه وادي قنّوبين من الصعب الوصول إليه.

الرئيس: وأول شيء كانوا حلبيين، جاؤوا من حلب. الموارنة أصلهم حلبيون.

الحريري: نعم ما بعرف إذا كنت تعرف هذه القصة: الله يرحمه والدك مرة كان عندو كميل شمعون فقال له الوالد مازحًا: بمعنى شو بكم بتضلوا تحكوا! مار مارون أصله من عندنا من سورية! فقال له شمعون: أي وأنتم من تلك الأيام عمتدخلوا بشؤوننا!

(ضحك مشترك)

الرئيس: لا، قصدي أيام شمعون وليس أيام مار مارون. فشمعون حكى هذا الكلام في أول الحرب.

الحريري: شمعون وقتها لم يكن رئيسًا للجمهورية.

الرئيس: نعم، أعرف هذا الكلام كان في 1976 أو 1977.

الحريري: نعم.

الرئيس: وكانت علاقتهم جيدة معنا وقتها.

الحريري: هيك وهيك.

الرئيس: هَهْ، معناها كانت بدأت تخرب يعني بعد دخول القوات السورية وليس قبل.

الحريري: نعم، بعد دخول القوات السورية.

الرئيس: أنا ظننت أنه كان يحكي عن التدخل في الشؤون اللبنانية في الستينيات وما قبل.

الحريري: هو قالها كنكتة. عندما قال له الوالد إن مار مارون من عندنا من سورية، قال شمعون: أوف من هديك الأيام عمتدخلوا بشؤوننا.

(ضحك مشترك)

الرئيس: وليد إلى أين رايح؟

الحريري: وليد، وأنا حكيت مع أبو عبدو، إنه حكى كلامًا وإنه مرتبط هنا وهنا وهنا. وليد، تعرف، منطقته منطقة مختلطة فيها دروز ومسيحية وفيها مجموعة إشكاليات وأنا بودّي أن يسمع مني في هذه المسألة. منطقته منطقة مسيحيين مختلطة. وبهالقانون الانتخابي يعني إن المسيحيين رجعوا وصاروا موجودين.

الرئيس: في الجبل بشكل عام أم في قضاء وليد؟

الحريري: في الجبل. في الجبل وإذا بقي الجبل دائرة واحدة كارثة. وإذا تقسّم إلى أقضية، كما الوجود المسيحي فيه بيعود مثل أيام كميل وكمال: كمال بيّو، وكميل يعني شمعون! الدروز قبائل.

الرئيس: يعني غير القبيلتين الأرسلانية والجنبلاطية؟

الحريري: أي. في الأخير يعني عقلهم مثل عقل قبائل البدو! والبدوي إذا أدخلته إلى غرفة يمكنك أن تعمل فيه اللي بدّك إياه، ولكن بدّك تلبسه العباية وتحترمه قدّام جماعته فيمشي الحال. أما أن تلبسه الطاقية بينك وبينه وبتبهدله قدام جماعته فيجنّ. وهذه العقلية موجودة عند الدروز. وعملية الاتصال سواء مع لحود أو معكم أو مع كذا صايرة على “very low level”: [على مستوى منخفض جدًا] وهذه الناحية عاملة له مشكلة.

الرئيس: هو كان جايي لعندي!

الحريري: إي. أعرف. لكن هذا ما دخل في موضوع التمديد للحود، على ما يقول، ووليد معروف عنه أنه بيحكي شي وبيعمل شي، وهو عمبيحكي وعمبيقول، والبارحة مصرّح “للأوريان” وعامل عدة تصريحات، وجوّه كله: هو مش ماشي بعملية تعديل الدستور والتمديد للحود. لأنه يعتبر أنه لم يمش فيه في 1998 بسبب العسكرة وبسبب التدخل.

الرئيس: منشان ما يجي لحود؟

الحريري: منشان ما يجي عسكري. والحقيقة الذي مشي بالتمديد لإلياس الهراوي أكثر واحد كان هو.

الرئيس: إي، بس هو كان جزءًا من الدعم للحود.

الحريري: نعم، هو مشى. طبعًا هو مشي.

الرئيس: ولحود قال هذا. لأن لحود كان مطروحًا أيضًا.

الحريري: نعم صحيح. والقصة هي أن لحود رجل عسكري وهذه مالها علاقة لا بالتوجه السياسي ولا بغيرو وكل هذا الكلام جماعة لحود هم الذين يحكوه. والرجل (لحود)، بدون أدنى شك، فيما يتعلق بموضوع الإدارة الداخلية للبلد أداؤه دون الوسط.

الرئيس: في الحقيقة، كلكم كطبقة سياسية، بنفس المستوى. لكن ليس هذا هو الموضوع. وما راح أحكي بهذه التفاصيل فهذه هي تفاصيل لبنانية. لكن عندما يطلع القرار لا يعود موضوع لحود. وفيك تاخد مثالًا: في سورية عدّلوا الدستور من أجل شخص.

الحريري: نعم.

الرئيس: وبالنتيجة صار بشار رئيسًا، ولكن صار لأنه عاجب الناس وهو مش عاجبهم بالقوة. ونحن في سورية ما عندنا شخص، وأنت تعرف هذا، مثلًا في 1998 نحن اختلفنا معك في موضوع الدولة ولكن نحن حميناك كشخص. ماهيك. وفي عام 2000 رجعت وما كان عندنا مانع. وبقينا حامينك. وبالنسبة للوضع الداخلي، أسمع من اللبنانيين شكاوى بحق لحود، ولكننا نحن لا نعيش في الوضع الداخلي وحده نحن بالنسبة لنا، أنت شايف وضعنا وشايف الضغط الحاصل علينا. وبلا شك نحن نتعرض لضغط قاس كثيرًا والقرار لم نتخذه من زمان. اتخذناه مؤخرًا فقط. لكن أقول لك إننا على المستوى الاستراتيجي هو يشكل الأولوية رقم واحد من بين همومنا. بلا شك إذا جاء لحود سيُفرض عليه أن يمشي بشكل ثانٍ. ما عاد عندو خيار بأن يمشي على كيفه: لا بالطريق، ولا بالشكل، لكن بمجرد أن اتخذ القرار، وأنت بزمانك حاكي لي، والعلاقة بيني وبينك من 1998 إلى الآن علاقة فعلية. وأنت كل مرة كنت تجي وتحكي كلامًا، وأنا كنت أقول لك إنني لست من النوع الذي يحب أن يسمع كلامًا، أنا أريد أن أرى أفعالًا. واليوم سيكون أول احتكاك بيني وبينك حتى شوف فعلًا أين هو رفيق. لأنه بمجّرد أن طلع القرار من هنا المشكلة ما عادت مشكلة لحود. صارت مشكلة سورية. وهذا القرار بمجرد أن نتخذه بدنا نمشي فيه سواء إذا كان فيه معركة أم لا. وهذا الكلام بلغته لوليد وقلت له إن هذا قرار سوري وبس ناخده راح نمشي فيه. وكل اللبنانيين هوّلوا: الشارع والعصيان وكذا!! قلنا لهم: ما عندنا مانع. وأقرب الناس إليه أبلغونا هذا الشيء. قلنا لهم: الآن فيه عملية فرز. الظرف الذي نحن فيه شيء والمرحلة المقبلة شيء آخر. الآن نحن في ظرف، وأنت كنت في ظروف أصعب من هيك، أنت جئت في 1998 وكانت البلد طالعة من حرب ومرت بظروف مختلفة وسورية حمتك وستبقى تحميك. وهذا الموضوع لازم يبقى معروفًا، لازم تبقى ماشيًا مع سورية وسورية لازم تبقى ماشية معك. وما فيك تضمن أنت سورية إذا نحنا ما ضمنّاك. ونحن خلال الفترة الماضية كانت تجربتنا معك جيدة بكل الاتجاهات. لحود ليس مشكلة. أعرف مشكلتك مع لحود وأعرف معاناتك معه. وإذا حكيت لي عنها الآن لساعات سأقول لك إن هذا كله صحّ ولن أعارضك في شيء لكن أريد منك أن نجد حلًا. فيه أولويات وفيه صورة شاملة. ولا يمكننا أن نأخذ فقط الجزء اللبناني منها. (صمت ثم يتابع الرئيس)

الوضع الفرنسي وأحكي معك بصراحة، ما راح حمّلك إياه. الوضع الفرنسي ما بدّي حمّلك إياه لأن علاقتك بشيراك عميقة. وبلا شك أداء شيراك كان سيئًا. وهو الذي حكى مع الأميركيين بشأن القرار بإخراج سورية من لبنان. وشيراك يسعى إلى تفجير الوضع في لبنان. وسورية لا تخرج بهذه البساطة. وإذا كان واضعًا في باله هذا الموضوع، فَفَهّمه إياه! ما لازم ينحكى في هذا الموضوع! فسورية ضمنت الأمن في لبنان وما زالت تضمنه. ونحن ما بدنا نوصل إلى هذه المرحلة. فلا السفير الفرنسي يضيع وقته، ولا البطرك يضيع وقته. وهذه التصريحات التي طلعت وردّ الفعل على الاستشارات صارت مواجهة مع بشار. وبشار يعرف كيف يردّ. وأنا لحد الآن ما فتّ في مواجهة في لبنان. وعندما أدخل أنا في مواجهة كل سورية تدخل في المواجهة. ما فه عندنا حل وسط. كل السوريين يدخلون وحتى دروز البلد، أعني دروز سورية، يدخلون فيها. فهذا الموضوع أتمنى وأنا لاحظت أن الجو ما رايح هيك، نحن ماشون وفعلًا مانّا آخدين القرار، لكن شفنا أن المطلوب في موضوع هذا الاستحقاق هو معركة مع سورية! ولم تعد القضية قضية لحود أو شيء آخر. ما عاد فيه فرصة ما عاد فيه رجعه إلى الخلف. وستكون الأمور صعبة كثيرًا. أتمنى أن نمشي بالموضوع بشكل واضح. أن يمشي بموضوع التعديل الدستوري. وهذا هو ما حبيت أن أنطلق منه. وبدي أسمع منك أنت.

الحريري (متنهدًا بعمق): شوف سيدي…….

الرئيس: أعرف أنك تضعضعت، بس بدنا نحكي. وأنت رجل سياسي وبدك تتحمل مواقف صعبة. مهيك؟!

الحريري: يعني، أنت، أولًا، أنا في 1998 خرجت من الحكم، وأنت، كما قلت، حميتني. لكن حميتني من شخص كلنا جلبناه. مش حميتني من إسرائيل. حميتني من واحد أنا دعمت مجيئه وأنا صوتت له. وأنا مشيت بتعديل الدستور من أجله. ووقتها لو رفضت أنا ما كان جاء. كنا اختلفنا وبعدين ما كان جاء إميل لحود.

الرئيس: وقتها كان قرار الرئيس حافظ الأسد.

الحريري: على راسي، كان قرار الرئيس حافظ الأسد، معليش. كان قرار الرئيس الأسد لكن تشاور معنا فيه وطلبه.

الرئيس: صحيح.

الحريري: وقال هذه وعدت الرجل فيها. ولحود كذب علي، كما كلمتك سابقًا ومش إنو والله، هيك وبس. قعدت أنا وإياه ثلاث جلسات. وفي الثلاث جلسات، سيادة الرئيس، استعمل كل أنواع الكذب لكي يقول لي إنني أنا وإياك يد واحدة. وفي نفس الوقت كان يشتغل ليجلب سليم الحص. ما مهمّ. هو حرّ. رئيس جمهورية جديد وبدّو واحد يفيدو. ما فيه مشكلة! وأنا لم أمشي بالتمديد لأنه هو نفسه أقنعني بحاله، أنا مشيت لأنه الرئيس قرر هيك. لكن هو حط براسه يبعد رفيق الحريري ثلاث سنوات. وهذا في رأيي لا يغيّر. أنا عندي قناعة بأنه لا يغيّر، معليش،….

الرئيس: ما تغيّر فيه شي.

الحريري: سيادة الرئيس، اليوم، اليوم، البارحة، البارحة. أنا نزلت إلى جلسة رئاسة الوزراء البارحة صباحًا. هو ما قدر، أو يمكن عندو خبر بأنني أنا جايي، تلفن وطلب أن تؤجل الجلسة إلى بعد الظهر لأن هو مشغول قبل الظهر. وبدل أن يقول أنا مشغول فخلوا الرئيس الحريري يترأس الجلسة، قال إنه هو المشغول وسيترأسها بعد الظهر! هذا واحد.

ثم بيانه الترشيحي. أنا جاء لعندي أبو عبدو يوم الاثنين ولم يقل لي أبدًا إن فيه قرار. إنما قال لي: سيادة الرئيس بدّو يشوفك وقال لي في واحد الشهر. قلت له: في واحد الشهر عندي عشاء لأنني عازم رئيس البنك الدولي منذ أربعة أشهر ليأتي هو وزوجته ويقعدوا عندي 3-4 أيام وما فيني غيّر الموعد الآن. فقال: طيب، إذًا في 4 أو 5 الشهر. وقال إنو ما فيه قرار وإنما بدنا نفتح الخيارات، وإنّو هدا بيتغيّر وكذا. وكان هذا الكلام يوم الاثنين. يوم الثلاثاء أعلن ترشيحه. وشو عمل ترشيحه؟! نَشَر عرضنا!! كتاب! كتاب!

الرئيس: هو الحق عليه هو حمّل حاله المسؤولية. أنا طلبت البيان.

الحريري: شفت شو قال!

الرئيس: شو قال، قال إننا نتحمل كلنا المسؤولية.

الحريري: قال إننا نتحمل كلنا مسؤولية تعثر الوضع الداخلي، ولكن…..

الرئيس (مقاطعًا): يعني هلق أنت ونبيه لا تتحملان مسؤولية أبدًا؟! (ضاحكًا) يعني كمان هذا ما مقبول أن تقول له: كله أنت. ماله أغلاط؟ لذا غلاط!

الحريري: أولًا، أولًا، نبيه شيء وأنا شيء.

الرئيس: أكيد، لكن أنتم الثلاثة…

الحريري: نبيه رئيس مجلس نيابي وعنده صلاحيات وعنده فريق شغل. وأنا رئيس مجلس وزراء عندي كاركتير وعندي فريق شغل وأنا تقريبًا مجمّع….

الرئيس(مقاطعًا): أنتم كل واحد منكم في دولة أو كل واحد منكم في وطن؟!!

الحريري: لا.

الرئيس: كلكم مسؤولون مسؤولية واحدة تجاه البلد.

الحريري: صار لنا فترة الذي يدير الدولة هو لحود.

الرئيس: ليس كليًا.

الحريري: لا، كليًا كليًا. يمكن مانك بالصورة.

الرئيس: لا، أنا ما بعرف التفاصيل.

الحريري: كليًا، كليًا، سيادة الرئيس. كليًا. ويجلب مواضيع من خارج جدول أعمال الجلسة. وما له حق بذلك. والدستور يقول إنه في حالات الضرورة القصوى يمكن لرئيس الجمهورية أن يطرح موضوعًا من خارج جدول الأعمال. مثلًا منذ أسبوع. جلب موضوعًا يتعلق بفؤاد مخزومي أنا رفضت وضعه على جدول الأعمال.

الرئيس: عندي فكرة عن الموضوع.

الحريري: عال. مقدّم طلب، يريد أن يؤسس حزبًا. وطلع على التلفزيون وسبّ المفتي، سبّ المفتي على التلفزيون!!

الرئيس: طيب أنا بدي أسألك سؤالًا. ما هي العلاقة بين مسبّة المفتي وتأسيس حزب؟! ما له علاقة.

الحريري: لا، له علاقة.

الرئيس: ما هي العلاقة؟

الحريري: فيه علاقة.

الرئيس: صح. الناس إذا زعلانين منه منشان المفتي. يعني، بدي أسألك: منطق الدولة يختلف عن منطق الطائفة.

الحريري: أنا رئيس الحكومة، شو طلبت؟

الرئيس: التأجيل.

الحريري: قلت خلينا نؤجله شوية حتى تهدأ هذه الأمور. أبدًا. أبدًا إلاّ بدّو يجيبه وجابه من خارج الجدول. وما له حق. وما له حق.

الرئيس: طيب، أنت تصرفت بمنطق أن الناس زعلت، السنّة زعلوا. هو طلبه منطقي حسب القانون.

الحريري: يعني هذا مفتي، مفتي شو بدّك فيه.

الرئيس: أعرف، أعرف. لكن أنت عمتحكي بمنطق الشارع، وهو عميحكي بمنطق الدستور أو القانون. إذا كان رئيس الدولة عميحكي بمنطق القانون فحقه. وصار فيه مسبّة بينه وبين المفتي فيحاسب عليها حسب القانون. حاسبوه حسب القانون. لكن أنت وجهة نظرك صح وهو أيضًا وجهة نظره صح.

الحريري: لكنه ما بعت الطلب، ما فيه ورقة على الطاولة!

الرئيس: على كل حال، أنا أعرف تفاصيل هذا الموضوع.

الحريري: أنا فقط عمبعطيك إياه كَمَثل. هذه الجمعة، في جدول أعمال جلسة هذه الجمعة بدو ينبحث.

الرئيس: طيب، وبيان المفتي (قباني) والمفتي قبلان شو موضوعه. هل طلعا من تلقاء ذاتهم أم ماذا؟! خلينا نحكي بالواقع! هكذا هو الحال في لبنان. هيك بدهم اللبنانيين!

الحريري: صحيح.

الرئيس (ضاحكًا): وأنت نفسك عندك إعلام وتسوّق الفكرة التي تعجبك.

الحريري: المشكلة جاءت من قبلان والبيان كله انعمل منشان ما يحصل في المتن.

الرئيس: وهذا أسوأ. معناه ينتقلون من هذا الموضوع إلى موضوع آخر.

الحريري: الذي يكتب البيانات للمفتي القباني هو محمد السمّاك الذي هو قريب لي. لكنه ملحق عند المفتي، قاعد عند المفتي. طلبوا منه فكتب البيان وأراه للاثنين (للمفتيين قباني وقبلان) فوافقا عليه وأذيع البيان.

الرئيس: كم مضى على هذا البيان؟

الحريري: 3-4 أشهر.

الرئيس: معناها جاء لحود وردّ عليه وفينا نعطيه تبريرًا. قصدي: فيه شي من هون، وفيه شي من هون.

الحريري: وأنا لم أعترض على شيء آخر!

الرئيس: أنت قلت إنه حملنا المسؤولية في بيانه. بيان يهاجمه بدّو يوقّفه!

الحريري: لكنه ما ردّ على المفتي. ولو كان ردّ على المفتي كان كويّس.

الرئيس: عندك شك في أنه لو قلت للحود اقعد في بيتك ولا تحضر جلسات مجلس الوزراء بيقعد في بيته أم لا؟

الحريري: (سكت لحظة ولم يجب بشيء على هذا السؤال).

فقال الرئيس: ما بتعرفها! هاي خليها، راح تعرفها في المستقبل.

الحريري: أنت كنت عمبتقول له…

الرئيس(مقاطعًا): لا، أكثر من هيك. أنتم كان المطلوب منكم أن تتفقوا وتوصلوا إلى حل.

الحريري (محتدًا ورافعًا صوته): بشو؟!

الرئيس (بنفس اللهجة): بكل شيء! بكل شيء! لأن مجلس الوزراء مانو آخد دوره. لا أحد من الوزراء يحكي شيئًا عندكم! يا أخي، اشتغلوا كمجلس وزراء! نحن هكذا نشتغل عندنا في سورية. وهذا عندكم في لبنان أهمّ بكثير. أما إذا كان كل واحد منكم يقوّص على الآخر عن قريب، خلينا نقول هيك! هذا هو الواقع. وبالأخير كان اللبنانيون يشتكون من الوضع كله. واللبنانيون ليسوا معه ضدك. ولا معك ضده أبدًا.

المهم، الآن القضية لم تعد لحود. القضية صارت هنا. القضية قضية سورية والقرار قرار سورية. والصورة ليست صورة لبنانية وليست هي العلاقة بينك وبين لحود. الصورة هي بالنسبة لنا ضرورة الإصلاح في لبنان، الوضع الداخلي وموضوع العلاقة مع لبنان على الوضع الخارجي. فهذا هو الموضوع.

الحريري: موضوع لبنان الخارجي لا أعتقد أنه فيه أي إشكال سيادة الرئيس. موضوع لبنان الخارجي طول عمره واقف مع سورية. وهذا الأمر ليس مطروحًا أبدًا.

الرئيس: لا، فيه هيك شي، فيه مئة طريقة لكي يخربطوا الوضع على سورية من داخل لبنان. فيه طرق كثيرة ولا يجوز أن يبسّط الواحد الأمور بهذا الشكل. في الموضوع الخارجي، أعتقد أنك أنت أدرى به.

الآن اتخذ القرار وانتهى الموضوع ونبيه يعرف وهو جايي. الآن بلغني عن طريق رستم. فنحن بدنا نمشي، وبدنا مرحلة جديدة، وبدنا إياك تكون من ضمنها. وأنا لو كان لي وجهة نظر أخرى فيك، أنت تعرف، أنا واضح وصريح، وأنت شفتني. أتعامل مع الرؤساء العرب بطريقتي، أنا بطبعي واضح.

الحريري: بعرف.

الرئيس: فلذلك، لا. نحن لنا مآخذ على كل اللبنانيين. فهم الطبقة السياسية، كل واحد منهم معبأ بالعيوب من راسه إلى رجليه. وضمن هذه المشاكل وهذا الجو المهم هو أن نمشي للمستقبل بطريقة جدية. وأنا ما عمحملك المسؤولية، ولحود يتحمل اللّي عليه. وهلّق لو نقول له: رح واقعد في البيت، بيقعد في البيت وما عنده مشكلة. ونحن لنا مآخذ على فريقه من المرّ وجرّ، من ميشيل وإلياس والبقية اللّي حوله كل هذا الوضع راح يتغير. نحن في سورية ما فينا نمشي معكم بهذه الطريقة. وإلا سينهار لبنان كلبنان. إذا انهار لبنان ستنهار سورية معه.

الحريري: بس هذا الشيء بدو ناس غير هالناس!

الرئيس: لا. لا. أول شي أنت بدّك تتحمل مسؤولية معنا. فإذا كنت أنت على جنب معناها أي رئيس حكومة بيجي. أنت رئيس حكومة بإمكانيات خاصة. وفي هذه الحالة، بهذا التصوّر الذي عندك ما بيمشي الحال.

الحريري: شو التصوّر يعني؟!

الرئيس: بتعرف بعدين، مو هلّق. كل شي بوقته. كل شي بوقته كويس. ولذلك بدنا إياك تمشي بالاتجاه الصحيح. فَخَلَصْ! وأنت عندما تقول إن القرار هنا هل هذا مجرد كلام تحكيه أم أنت مقتنع فيه؟! فأنت كنت تجي دائمًا وتقول لي هذا الكلام.

الحريري: أنا أعرف أن القرار هنا وأنا مقتنع فيه، سيادة الرئيس. بس بموضوع رئيس الجمهورية أن استمر معه مش معقول لأنه خلال ست سنوات، اثنتان في المعارضة وأربع في الحكم، لغاية اليوم، لغاية البارحة، عمتطلب مني شغلة هي فوق طاقة البشر!

الرئيس: إذًا، لماذا تقول إن القرار هنا؟!

الحريري: وأنا بعدي بقول لك إن القرار هنا، لأن لبنان ما ممكن ينحكم إلا بهذه الطريقة. ونحن مش عمّناقش موضوع أين هو القرار. نحن عمّناقش أن وجود إميل لحود والتمديد له هو ضرر، من وجهة نظري أنا، لسورية وضرر للبنان كبير جدًا. وعلى مستوى سقفي عمتطلب مني شغلة فوق طاقتي.

الرئيس (بصوت هادئ): لا، مش فوق طاقتك، بالعكس.

الحريري: بلى، بلى!

الرئيس: معناها عمترفض! هل ترفض؟!

الحريري: مش هيك الموضوع. مش هيك الموضوع. معناها عمتحطني في محلّ إما إنّو أنا…

الرئيس (مقاطعًا): معناها طاقتك صغيرة!

الحريري: إي.

الرئيس: ونحن كنا حاسبينها أكبر من هيك.

الحريري: لا، إي أنا طاقتي في هذا الموضوع مش قادر أتحمله.

الرئيس: كويّس. إذا هذا هو قرارك.

الحريري: سيادة الرئيس، أنا، يعني، ما بدّي أقعد أشكي ضعفي، أنا صار لي فترة عايش على الأدوية، وبحياتي ما أخذت أدوية!

الرئيس: طيب، هلّق…

الحريري (مقاطعًا): أنا صار لي فترة عايش على الأدوية.

الرئيس: يا ترى هل بدك إياني أبني قراري على هذه الكلمة؟!

الحريري: لا، لا، لا. ما بدي إياك تبني قرارك على الأدوية. أنا ما فيّي، ما فيّي! هذا الموضوع، ذلّني! لا، لا، لا، آخذ الموضوع، يعني، معليش، ما بعرف شو بدّي قول. هذا الرجل ذلّني.

الرئيس: هلّق أنت بدك تناقشني حول لحود، وأنا أناقشك حول القرار السوري في موضوع أكبر، في موضوع آخر! فهل سورية أم لحود؟!

الحريري: يعني عمبتحطني بمحل إنّو لحود وسورية واحد!

الرئيس: لا. رفيق. أنت حطيت حالك بهذا الشكل. أنت الآن قلت إن القرار عندنا. وقلت إن الرئيس بشار هو أهم شيء فيه. وهذا الكلام قلته أمامي، ولسّه ما فيه شهرين، وما فيه بيان ولا فيه شي.

الحريري (محتدًا قليلًا): لا، سيادة الرئيس، أنت تعرف شو هو رأيي بلحود. وأنا قلت لك آخر مرة شو عمل فييّ الزلمي. وشو مستمر يعمل فييّ، شو مستمر يعمل فييّ!

الرئيس (بهدوء): سورية ولبنان أهم من شخصين أو من ثلاثة أشخاص. فهمت شو هي الفكرة؟ هذا هو اللّي عمناقشه أنا. بترك لك القرار لَإلَكْ. بترك لك القرار لَإلَك. وهذا الموضوع بيدك. بإيدك. أنت تحدد كيف العلاقة بيننا وبينك. وأنا ما راح أفرض عليك شيء أبدًا.

الحريري: سيادة الرئيس…

الرئيس (مقاطعًا): أنا أعطيتك قراري وأنت حرّ التصرف فيه، أنا أعطيتك إياه، خذه واعمل فيه، وبدّك كبّو!

الحريري: لا، ما بكبّو!

الرئيس: بدّك تمشي فيه، خَلَص.

الحريري: شوف لأقول لك سيادة الرئيس…

الرئيس (مقاطعًا): أنت حكيت كلامًا كثيرًا أمامي وأمام رستم. فبدنا نجّرب!

الحريري: لاء. لاء.

الرئيس: وهذا هو أول محكّ. أول محكّ حقيقي يا رفيق.

الحريري: لاء، لاء، سيادة الرئيس. أنا صار لي 22 سنة ما أخليت يومًا بأمر سورية. ما أخليت يومًا. أنا أخليت؟! طيب، أنا ليش تحملت هذه السنوات؟!

الرئيس: أنا الآن صار لي أربع سنوات رئيس.

الحريري: إي أربع سنوات. في هذه الأربع سنوات، سيادة الرئيس، في السنتين الأوليين أنا عدة مرات كنت بدي إجي وأستاذنك وأقول لك، أنا ما عاد قادر أحمل. واللّي خلاني ما أعمل هيك هو شغلة أساسية هي إنني أعرف أنه في لبنان، في ذلك الوقت قبل أن نعمل مؤتمر باريس-2، إذا أنا تركت معناها راح كل شيء. ولذلك تحملت شوية حتى عملنا مؤتمر باريس-2 وبعد باريس بشوية صارت قصة العراق. وأنا جئت وقلت لكم يا عمّي إذا بدكم تغيروا هذه الحكومة غيروها هلّق وجيبوا الحكومة اللّي أنتم بترتاحوا لها. عملتم حكومة على أساس أنكم ترتاحوا. لكن هذه الحكومة كانت مجّيرة لإميل لحود! مجّيرة لإميل لحود بالسرّاء والضرّاء! وكان من المفروض أن تجي هذه الحكومة من أجل أن تضمن الأمن السوري والسياسة السورية بحيث تكون أنت مرتاحًا مئة بالمئة!

الرئيس (محتدًا قليلًا): إذا بدنا نحكي بهذا المنطق، بدنا نحكي عن الأداء الطائفي الذي صار وكنت أنت جسده. ما تخلينا نفتح كل الأوراق! خلينا هلق واضحين! أنا أعرف وضع لبنان بالتفاصيل. ما بدنا نلعب على بعضنا لعبة القط والفار! أنت تعرف ونحن نعرف. نعرف كل التفاصيل. علاقتك بالمفتي نعرفها. كل الألعاب التي صارت لاستفزاز لحود، ولتظهر أغلاطه أكثر نعرف كيف لُعِبَتْ. ونعرف كل هذه الأمور اللّي عمبتصير بينك وبينه. الموضوع الطائفي كان خطيرًا. وما بدنا نحكي بهذا المنطق! وحركة (رافعًا صوته أكثر) السفير الفرنسي، أحملك إياها الآن مباشرة وأقول لك. أنت عمبتشوف شيراك بخاطرك. فأين هي هذه العلاقة؟ فأنا بدي شوف الأمور على الواقع. إذا كان بدنا نحكي بالواقع وبمصلحة سورية ولبنان نقول: لا، ما صار شي جيد. ما صار أبدًا. وشو هلْ الاتصالات بيننا وبين شيراك، هالثلاثة أربعة مبعوثين الذين بعثهم إلينا؟! هلّق فيه أداء على الواقع وأنا فيني حمَّلك مسؤوليته إذا بدي أحكي بهالمنطق. ما فيك تقول: والله أتعبني وأهانني. هنا فيه قرار دولة. ونحن لا نتعامل كأشخاص. وسورية وضعها غير وضع ويختلف عن الوضع عندكم. أتمنى أن تفهم هذا الموضوع. الآن أعطيتك القرار. والقرار أنا أخذته وتبلغه السوريون واللبنانيون. وما فيه رجعة. بتحب تأخذه، قلت لك القرار بيدك. يعني ما بدي عالج معك هذا الموضوع. أنا عمبحكي معك كصديق في البداية، لكن عندما سأحكي كرئيس أقول لك إن فيه مئة ألف شغلة بيدي أنا. وما بدي نوصل إلى هذه المرحلة! نحن نحبك ونحترمك، وخلّ الصداقة تبقى بيننا هيك. أتمنى أن تمشي بهذا الموقف. ومصلحة سورية ولبنان فوق كل الاعتبارات. وأتمنى أن يكون هذا الكلام واضحًا. والآن جايي لعندي نبيه وراح بلّغه مباشرة وبدنا نمشي. ونحن ماشون. ومهما تكن النتائج نحن ماشون. فأتمنى من الآن لوقتها أن تكون الأمور فعلًا جيدة وأن تكون ضمن الإطار الهادئ لكي تساعدنا حتى نصل إلى مرحلة جيدة. يعني إذا ما كان الوضع جيدًا هل تتحمّله سورية؟ لا، سورية سيكون لها موقف ثانٍ. فأتمنى أن نمشي بالموضوع. والقرار لك أنت. ما راح آخد منك القرار الآن. القرار بيدك. بتحبّ تفكّر، بتحبّ تراجع حالك، بتحب تبلّغ أحدًا، أنا أترك لك الموضوع. بس هذا هو أول محكّ بيني وبينك وأول مرة أجرّبك فيها. أول مرة أقول لك: هات لنشوف، كل شي حكيته وَرْجينا إياه! وَرْجيني نتائجه! هل يا ترى أنا أم لحود، قراري أنا أم مشاكلك مع لحود؟! وما بدّي اسمع الآن الجواب. وأنا عمقول لك روح الآن وبعدين بلِّغْ العميد رستم أو بلِّغ نبيه، ما فيه مشكلة.

الحريري: ماشي الحال.

الرئيس: ونسِّق مع العميد رستم.

الحريري: مَعْ؟!

الرئيس: مع العميد رستم. احكِ معه وبلغه إذا كان في شي.

الحريري: ماشي.

الرئيس: طيب. أهلًا وسهلًا.

الحريري: بخاطرك!

الرئيس: مع السلامة.

———————————–

فاروق الشرع: بشّار الأسد اعتبر إلغاء بيان الإصلاح العربي في قمّة تونس إنجازاً سورياًً (3)

فاروق الشرع

01 مايو 2025

 يصدر كتاب “مذكرات فاروق الشرع … الجزء الثاني 2000 – 2015” عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ويغطي الكتاب فترةً من رئاسة بشّار الأسد (2005 – 2015) استمرّ فيها فاروق الشرع في منصبه وزيراً للخارجية، ثمّ في منصب نائب رئيس الجمهورية، قبل أن يضطرّ إلى الاعتكاف بمنزله في 2013، وإصدار الأسد تعليمات بعدم التواصل معه. وبينما اعتُبر الجزء الأول من الكتاب شهادةً تاريخيةً مهمةً على مسار من الأحداث التي شهدتها سورية في تفاعلاتها الإقليمية والدولية، خصوصاً في ما يتعلّق بالمفاوضات السورية – الإسرائيلية، في عهد الرئيس السوري حافظ الأسد، يقدّم الشرع في هذا الكتاب شهادته على أحداث لا تقلّ أهميةً في عهد بشار الأسد، منها اغتيال رفيق الحريري واتهامات مسؤولين سوريين بالتورّط في اغتياله، ما أسهم في دفع الخروج السوري من لبنان، والأحداث التي عصفت بسورية مع اندلاع الثورة السورية في العام 2011. وتنشر “العربي الجديد” فصولاً من الكتاب. وهنا حلقة رابعة تتناول إجهاض مشروع الإصلاح السياسي العربي في القمّة العربية في تونس (2004).

منذ مطلع عام 2000، اتخذت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية قراراً إصلاحيّاً بعقد القمّة العربية بصورة دورية في شهر مارس/ آذار من كل عام، بحسب الحروف الهجائية لأسماء الدول. في عام 2004، حلّ الدور على تونس لاستضافة القمة، بعد أن عُقدت القمتان السابقتان في بيروت عام 2002، وفي شرم الشيخ عام 2003 بعد اعتذار البحرين عن استضافتها.

عقدنا لقاءً ثلاثيّاً، ضمّني مع (وزيري خارجية السعودية ومصر) سعود الفيصل وأحمد ماهر، قبيل الاجتماع الوزاري التحضيري كما جرت العادة خلال السنوات الأخيرة بين الدول الثلاث سورية ومصر والسعودية، وانضم لاحقاً للاجتماع عمرو موسى.

كان الرأي المرجّح في هذا اللقاء الرباعي المصغر، هو عدم بحث موضوع العراق الساخن، ما دامت دول جوار العراق تجتمع دوريّاً بحضور: سورية والسعودية والأردن والكويت وإيران وتركيا. أما موضوع فلسطين الذي كان يتصدّر عادة جدول أعمال أية قمّة عربية فلن يُبحث جدّياً، لأن الأميركيين، متعهدي عملية السلام، ما زالوا منشغلين بالعراق، فضلاً عن أنهم لا يعيرون المبادرة العربية للسلام التي أُقرّت في قمة بيروت عام 2002 أي اهتمام. انصبّ الاهتمام قي قمّة تونس على مشروع الإصلاح في العالم العربي الذي طرحته الأمانة العامة للجامعة ومصر بناءً على طلب الولايات المتحدة.

عقد الاجتماع الوزاري التحضيري لهذه القمة صباح 27 مارس/ آذار 2004 برئاسة الحبيب بن يحيى وزير خارجية تونس. طرح أحمد ماهر ورقة العمل المصرية لـ”الإصلاح” لمناقشتها وإدراجها على جدول أعمال مؤتمر القمّة، وإصدارها ببيان خاص بحسب رغبة الرئيس حسني مبارك. لم تكن العلاقات يومها جيدة بين مصر وتونس بسبب الخلاف على دور تونس الطموح في الشراكة الأوروبية المتوسّطية، الذي اعتبره مبارك تحدّياً لدور مصر؛ البلد الأفريقي الأكبر.

جاءت ورقة العمل المصرية التي تتحدّث عن الإصلاح لتزيد من حدة الخلاف بين البلدين؛ لأن نظام مبارك من حيث الممارسة السياسية أقل احتكاراً للسلطة في مصر من نظام زين العابدين بن علي في تونس. أما من حيث الشكل، فإن الرئيس جورج بوش قد دعا الرئيس مبارك إلى قمّة الدول الصناعية الثماني في سي آيلاند في يونيو/ حزيران 2004، ولم يوجّه الدعوة إلى الرئيس التونسي، الذي يترأس القمّة العربية الحالية.

تمتع وزير خارجية تونس الحبيب بن يحيى بحسٍّ واقعي، وكانت له مواقف توفيقية في الاجتماعات العربية، تمكّنه من التكيف معها. فاقترح، بوصفه رئيس الاجتماع التحضيري، أن ما جاء في ورقة العمل المصرية يحتاج إلى نقاش بين الوزراء وإخضاع بنودها للتحرير، وهو مصطلحٌ تونسي يعني التعديل. لم تحاول مصر أو الدول العربية الأخرى الاعتراض على اقتراح بن يحيى، الذي يعرف أن رئيسه بن علي لم يترك أي دور فعلي للمعارضة التونسية، إلى درجة أنه هدّد بقطع العلاقات مع سورية إذا استمرت باستقبال المعارض التونسي المبعد راشد الغنوشي، الذي كان يتردّد على دمشق للمشاركة في المؤتمرات العربية التي تعقد فيها تحت شعارات قومية وإسلامية.

لم يكن الأمير سعود الفيصل يتحفّظ شخصيّاً على فكرة الإصلاح، لأن تفكيره ما زال متمحوراً حول هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي هزّت العالم، وكانت بلاده متّهمة بها، لكنه كان يعرف أن المؤسّسة الدينية هي عماد الحكم في المملكة، وهي لا تريد الإصلاح بتاتاً. من جهة ثانية، يأتي طلب الإصلاح، بالنسبة إلى الفيصل، من الرئيس المصري الذي تربطه علاقة استراتيجية بالولايات المتحدة، التي تضغط على حلفائها لإجراء إصلاحات، ما يجعله أكثر تطميناً للمملكة وللفيصل، الذي وافق على مناقشة ورقة العمل المصرية، وإن على مضض.

كان موقف سورية منفتحاً، فرئيسها طرح مبكّراً وعلناً هذه الأفكار الإصلاحية، وحظيت باهتمام دول جامعة الدول العربية، ولكن سورية لا ترى أن يأتي طلب برنامجها الإصلاحي من الولايات المتحدة، لا سيما أن الأميركيين لم يكفّوا عن تهديداتهم لها بعد غزو العراق عام 2003، فأصدروا قانون “محاسبة سورية” بعد غزو العراق عام 2003، ومن ثمّ، الموافقة السورية على برنامج إصلاحي لن تلقى رفض سورية إذا جرى التعامل العربي بمواقف غير ممالئة للأميركيين.

قمّة إلى أجل غير مسمى

بدأنا المناقشات بعد توزيع ورقة العمل المصرية خلال الجلسة التحضيرية للقمّة العربية في تونس على جميع الوزراء العرب، وبدأنا في المناقشات فقرةً فقرة. تجاوز الوقت منتصف الليل، بتوقيت تونس، من دون أن تحظى التعديلات التي كانت تأتي من الوزراء بموافقة الجميع، لكن الرغبة عند الوزراء كانت واضحة في استمرار المناقشات الطويلة والساخنة إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل. اقتربنا إلى حدٍ ما من إنجاز بنود الورقة وتعديلاتها، ولم يبق داخل الأقواس لاجتماع القمّة إلا القليل من الكلمات والعبارات.

فجأة سمعنا، ومن دون سابق إنذار، ونحن منهمكون بوضع النقاط على حروف المناقشات النهائية، صدور إعلان عن الرئاسة التونسية يفيد بإلغاء مؤتمر القمة إلى أجل غير مسمى؛ أي قبل ساعات فقط من انطلاق أي رئيس دولة عربية بطائرته صوب تونس للمشاركة في مؤتمر القمة. فتوقف النقاش وشعرنا بالإحباط بعد إهدار كل هذا الوقت، وبدأنا بالتساؤل عن أسباب الإلغاء.

أُلغيت القمة العربية من دون تحديد موعد جديد لانعقادها؛ فلم تُذكر في البيان التونسي الرئاسي أية تفصيلات أو تبريرات. لا نعرف شيئًا عن اتصالات الرئيس بن علي غير المعلنة مع القادة العرب، ولا نعرف السبب الحقيقي وراء الإلغاء المفاجئ، ولم يطلعنا وزير خارجية تونس، رئيس الاجتماع التحضيري، على أسباب التأجيل. ربما كان هو لا يعرف أيضاً ما الذي يجري خلف الستار. سألني بعض الصحافيين الذين سهروا معنا حتى الفجر عن أسباب التأجيل، فاكتفيتُ بالتعبير عن الأسف لا أكثر ولا أقل، ثمّ اتصلت بالرئيس الأسد؛ لأنه يستيقظ عادة باكراً، وأبلغته ما يمكن أن يقال على الهاتف حول التأجيل وإيقاف ترتيبات السفر، أما التفاصيل فكان سيسمعها بعد عودتي إلى دمشق.

لا بد من إلقاء الضوء على اللقاءات والاتصالات التفصيلية، التي سبقت وصولنا إلى تونس من أجل التحضير للقمّة، ولو كانت مملة؛ لأنها قد تساعد في معرفة سبب الإلغاء من خلال الاتصالات بين العواصم العربية. لقد تكثّفت الاتصالات بين الوزراء العرب منذ مطلع السنة؛ إذ كان بعضُهم يسأل: ماذا نريد من القمّة؟ وماذا سيخرج منها؟ كان أول المتصلين سعود الفيصل، الذي سألني عن جدول أعمال قمة تونس، وما إن كان قد وصل إليّ شيء حوله. بعد هذا الاتصال بثلاثة أيام، زارنا الرئيس حسني مبارك، ورغب في أن تكون الزيارة قصيرة جدّاً، وأن يكون اللقاء في مطار دمشق لمعرفة ما إن كان انعقاد القمّة سيتم في الموعد المتفق عليه عربيّاً في نهاية مارس/ آذار 2004.

اتصل عمرو موسى يسأل عن آخر المستجدّات في المنطقة؛ أي عن آخر ما جرى خلال زيارة مبارك إلى دمشق؛ فقد كان حريصاً دائماً بوصفه أمين عام الجامعة أن يعرف موقف مصر أولاً. بعدها بأيام قليلة، زار الرئيس بشار الرياض ورافقته يومها من أجل التباحث مع الأمير عبد الله بن عبد العزيز حول جدول أعمال القمة الدورية. كان موقف السعودية ملتبساً وغامضاً؛ فقد كانت تؤيد الإصلاح لأنها لا تريد إغضاب الولايات المتحدة من جهة، وتخشى “ردّة فعل” المؤسّسة الدينية من جهة أخرى.

بعد عودتنا من السعودية مباشرة، أي في 20 آذار/ مارس، زارنا أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني ووزير خارجيته حمد بن جاسم، لمعرفة موقف السعودية. وصل في أعقابهما إلى دمشق الشيخ محمد بن مبارك، وزير خارجية مملكة البحرين، يسأل عن تحضيرات القمّة ومصيرها. ثم زارنا مبعوث الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وزير الثقافة يحيى يخلف، في 24 آذار/ مارس، قادماً من رام الله ليتحدّث عن القصف الإسرائيلي أمس، والذي استهدف حياة الشيخ أحمد ياسين، زعيم حركة حماس، وهو خارج من المسجد بعد صلاة الفجر، ومطالب عرفات من القمة.

أخيراً، وبحماس غير معهود وبعد انتظار طويل، تلقّيت اتصالين هاتفيين متتاليين في يوم واحد من الحبيب بن يحيى يبشّرنا بموافقة تونس على موعد جديد لانعقاد القمّة، مقترحاً يومي 22 و23 أيار/ مايو 2004 في تونس وليس في أي مكان آخر، وطلب اعتبار تأجيل الشهرين كأنه لم يكن. وكان الرئيس المصري مبارك خلال فترة الصمت يلمح في أحاديثه، بعد تلقيه دعوة من الرئيس بوش لحضور قمة الدول الصناعية الثماني، إلى أن الرئيس التونسي بن علي إذا كان لا يود عقد القمّة العربية المؤجلة في تونس، فإنه سيدعو إلى عقدها في مقر جامعة الدول العربية في القاهرة أو في شرم الشيخ الأكثر أماناً وهدوءاً.

العرب والإصلاح السياسي

كنا قد اتفقنا في مطلع مارس، نحن وزراء خارجية سورية ومصر والسعودية، على اجتماع غير معلن في القاهرة لتقييم ما سوف ينتج من مؤتمر القمّة المؤجل بعد أن قرّرت تونس الإفراج عنه. جرت مناقشاتنا على غداء عمل، دعانا إليه أحمد ماهر في 20 أيار/ مايو 2004. كانت نقطة الالتقاء بيننا في النقاش تتمحور حول أن العرب، قادةً وشعوباً، في مأزق كبير بعد غزو العراق، وإلا لما أُجّل مؤتمر القمّة المقرر عقده في تونس في مارس إلى مايو/ أيار على نحو مفاجئ. في القاهرة، أرجع أحمد ماهر سوء الوضع العربي إلى احتلال الكويت عام 1990، واعتبر سعود الفيصل أن تردّي الوضع العربي يعود إلى غزو العراق عام 2003 وامتناع جورج بوش قبل ذلك عن استقبال الوفد العربي للاستماع إلى شرح لمبادرة السلام العربية. وأعدت أنا سوء الوضع إلى مرحلة تسبق ذلك، وهي زيارة السادات إلى القدس عام 1977، وقلت إننا في مأزق تاريخي كبير؛ جذوره الرئيسة في الزيارة المشؤومة، من دون أي اكتراث بالوضع العربي وقضية فلسطين.

ساد صمت غريب طويل، فنظرت إلى أحمد ماهر، فوجدتُ أنه يفضّل عدم الكلام. في حين اعتبر سعود الفيصل كأن الكلام موجه إليه شخصيّاً. بدأ الفيصل يدافع عن دور بلاده في دعم العرب والمسلمين وقضية فلسطين، وأخذ يعدّد الدول المستفيدة، ومنها في الطليعة سورية ومصر. توتّر الوضع ونحن نتناول الطعام على ضفاف النيل الهادئ. قلت نحن على الغداء ولسنا في اجتماع رسمي، ونستطيع أن نقول بصراحة بين أشقاء ما يخطر في بالنا من دون قيود. لنعد إلى ما كنّا بصدده في البداية؛ إذ لا يمكننا قبول كل ما تطلبه أميركا من دون مناقشته، لا سيما بعد غزوها العراق وحلّ جيشه وتفكيك مؤسّساته، ورفضها مبادرة السلام العربية. لكننا نؤمن بالإصلاح الذي هو مطلبنا في سورية، قبل أن يكون مطلب الأميركيين والغرب.

بعد أن هدأت النفوس، غادرنا إلى مطار القاهرة، وعقدنا الاجتماع الوزاري التحضيري في تونس، وبحثنا هناك عن موقف توافقي بين وزراء الخارجية العرب، تضمّن الكثير من النقاط الواردة في ورقة الإصلاح المصرية، مضافاً إليها، بربط مقنع وباقتراح مني، أن حقوق الإنسان كلٌ لا يتجزأ، ويجب أن تُحترم عالميّاً، لا سيما من إسرائيل التي تحتل أراضينا العربية وتحرم اللاجئين الفلسطينيين من حق العودة إلى وطنهم. تولّد لدي شعور قوي أن تمرير هذه النقاط في القمة غداً سيكون بمنزلة ربط لحقوق الإنسان بقضية فلسطين. رغم اعتقادي واعتقاد كثيرين من زملائي أن الدول الصناعية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لن تستجيب لهذه المطالب المتعلقة بانتهاكات إسرائيل القانون الدولي واحتلالها الأرض العربية.

يعتبر الأميركيون غزو العراق هزيمة لكل العرب، وأن سقوط بغداد إنذار بسقوط عواصم عربية أخرى. لكن التفاهم العربي هنا هو الأساس، فضلًا عن أن بعض الوزراء اعتبر ربط احترام حقوق الإنسان في العالم العربي باحترام إسرائيل لها مقاربةً عقلانية من شأنها أن تفتح عيون الدول الصناعية لترى أيضًا، وهي تواجه مشاكل العالم، وجود مشكلة فلسطينية لا تقل أهمية عن المشاكل العالمية الأخرى.

مبارك القلِق منذ مقتل السادات

كان الرئيس حسني مبارك قلقاً بعد تعديل الورقة المصرية؛ إذ طلب رؤيتي فور وصوله صباح 21 مايو 2004 في قاعة المؤتمر بوجود الوزير أحمد ماهر، ليسأل عن الهدف من إدخال إسرائيل في الموضوع. شرحت له الأسباب التي رأينا في مقدّمتها ضرورة تطبيق عالمية حقوق الإنسان، وأن لا دولة فوق القانون الدولي، أي إن لدى الدول العربية أيضاً رأياً عاماً ضاغطاً يرى إسرائيل في حالة انتهاك دائم لحقوق الإنسان الفلسطيني والعربي. أوضحت للرئيس مبارك أن مسألة حقّ العودة للفلسطينيين بحسب القانون الدولي لا تحرّمه غير إسرائيل.

افتتحت القمّة العربية ليوم واحد صباح 21 مايو 2004. وكنت قد وضعت الرئيس بشّار بعد وصوله إلى تونس قبل يوم بصورة المناقشات والنتائج التي وصلنا إليها في الاجتماع الوزاري التحضيري على ورقة الإصلاح العربية وعملية ربطه تحقيق الإصلاح بتطبيق حق العودة للاجئين الفلسطينيين الذي يشكل أساس حقوق الإنسان العربي والفلسطيني. علّق عبد الحليم خدّام نائب الرئيس بقوله: هذه أفكار أميركية.

وجد الرئيس بشّار نفسَه في حيرة من أمره؛ لأنه لا يريد أن يرى أحداً يزايد على موقفه. أوضحتُ بوصفي وزير خارجية أسباب تمسّكي بالورقة الإصلاحية: أولاً، لأنها أخذت ببرنامج الإصلاح والتحديث الذي نتبنّاه في سورية. وثانياً، لأنها أصبحت ورقة إصلاح عربية رسميّاً الآن. وثالثاً، لأننا سنحرج الدول الصناعية، رغم أننا لا نعوّل على قبولها لأنها لا تريد إزعاج إسرائيل.

منذ مطلع مارس 2004 تاريخ القمة الدورية في تونس، وحتى 22 مايو يوم اختتام القمّة العربية المؤجلة، يمكن وضع كل الجهود الدبلوماسية التي قمنا بها في كفّة وما سمعته من الرئيس بشار قبل أن نغادر تونس في الكفّة الثانية. اندفع الرئيس كالسهم باتجاه رئيس القمّة زين العابدين بن علي الذي لم يغادر المنصّة بعد، وكأنه أسرّ له بشيء نال رضاه. وعاد بابتسامة وبهجة تراهما في كل ملامح وجهه ولم تغادراه حتى ونحن نهمّ بالخروج من قاعة المؤتمر. وأبلغنا بأنه نجح في الحصول على موافقة رئيس القمّة على شطب كامل البيان المتعلق بـ “الإصلاح”، الذي كانت قد وافقت القمّة العربية عليه بالإجماع (كان عمرو موسى قد قرأ مشروع البيان الختامي وصفّق جميع القادة بمن فيهم الرئيس السوري نفسه). وقال الرئيس لنا إن هذا الجهد الذي بذله مع رئيس القمّة هو أهم إنجاز حققته سورية في مؤتمر قمة تونس.

تبيّن، بعد عودتنا إلى دمشق، أن ما حدث من إلغاء للبيان الختامي من مقرّرات القمة العربية المتعلق بالإصلاح لم يكن نزوة؛ إذ صدرت توجيهات بن علي، بعد اتصالات هاتفية مع بعض الزعماء العرب، فاستبدل البيان الختامي حول الإصلاح بعبارات إنشائية وبلاغية لفظية أفرغته من محتواه ومضمونه. كما أن هذا الإلغاء لم يثر حفيظة الدول العربية الأخرى.

البيان الافتراضي

لم تنشغل الصحافة العربية عموماً بما حل بالبيان الختامي حول الإصلاح الذي وافقت عليه القمّة العربية في تونس، ولا تعرف لماذا شطب البيان، وجرى تحويره بعبارات إنشائية عامة قي مقرّرات القمة. ربما يعود السبب إلى أن الاهتمام بنتائج ذات قيمة من قمّة تونس أو من أية قمّة عربية كان معدوماً من حيث المبدأ على المستوى الشعبي بعد غزو العراق. ثم إن المصريين المطّلعين على بواطن الأمور كانوا في الأساس غير مرتاحين – كما أظهرت بعض الصحف القومية في مصر – لتلبية الرئيس المصري دعوة رئيس أميركي إلى قمّة الدول الصناعية ليطلعها على البيان الذي طلبه بوش من مبارك باسم الدول العربية، في الوقت الذي كانت فيه الطائرات الأميركية تقصف المدن العراقية.

ورغم هذه الأجواء المضطربة، قرّر الرئيس بشّار تعزيز العلاقات السورية – التونسية؛ أي بين الحزب الدستوري الذي يرأسه بن علي وحزب البعث العربي الاشتراكي الذي يرأسه الأسد. فأوفد كبير الحزبيين محمد سعيد بخيتان، الأمين القُطري المساعد، على رأس وفد حزبي عالي المستوى إلى تونس لتعزيز هذه الصورة. فالرئيس بن علي – بحسب رأي بشّار الأسد – يمكن الاعتماد عليه أكثر من غيره من الزعماء العرب. كنتُ من غير المرحبين بزيارة الوفد السوري تونس، فهي لم تُعرض على القيادة القطرية أصلاً، رغم أنها زيارة حزبية بامتياز، فضلاً عن أن بن علي لا يتيح أي هامش للمعارضة في الداخل أو في الخارج، ولكنه يفضّل نفي أعضائها خارج البلاد. ولعل الأهم من ذلك كله أن الرئيس بشّار الذي صبّ اهتمامه خلال السنتين الماضيتين على الإصلاح تراجع عنه، واعتبر إلغاء “البيان” إنجازاً لسورية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى