تشكيل الحكومة السورية الجديدةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

تنافس إقليمي على سوريا بعد سقوط نظام الأسد.. صراع معقد على النفوذ والمصالح/ حسان الأسود

2025.05.24

مثل سقوط نظام الأسد في سوريا نقطة تحول محورية، تفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التجاذبات الإقليمية والدولية. فبعد عقود من حكم الفرد الواحد، يواجه هذا البلد الغني بالتاريخ والجغرافيا مستقبلًا غامضًا، تحكمه مصالح قوى دولية وإقليمية متنافسة، وتطلعات قوى محلية تسعى لملء الفراغ السياسي والأمني.

لطالما كانت سوريا في بؤرة تقاطع المصالح الدولية ومنذ فجر التاريخ، هذا بالذات كان أحد الأسباب في جعلها متنوعة سكانيًا وحضاريًا، باعتبار أنّ كل مجموعة بشرية سكنتها تركت فيها شيئًا خاصًا ومميزًا.

واليوم، مع الصراع المستعر على تثبيت قيادة أميركا للعالم الذي تخوضه إدارة ترامب، يجد السوريون والسوريات أنفسهم وبلدهم أيضًا محطّ تنافس لا يخلو من خشونة هنا ومراوغة ناعمة هناك.

كانت إيران طرف العصى الثانية التي وازن من خلالها حافظ الأسد علاقته مع الدول العربية، وطالما استخدم هذه العلاقة لابتزاز الطرفين.

تغيرت المعادلة باستلام بشار الحكم إرثًا عن أبيه، فقد أدت سياساته الهوجاء لزيادة النفوذ الإيراني بشكل كبير، مما أفقد سوريا ثقلها الطبيعي وألحقها بالمشروع التوسعي الإيراني. كانت إيران تعتبر سوريا حلقة وصل أساسية في مشروعها الإقليمي الممتد من طهران إلى بيروت، وقد دعمت نظام الأسد البائد عسكريًا واقتصاديًا بقوّة لتعزيز هذه الحلقة. إيران التي تلقّت ضربات متتالية في المنطقة، لن تستكين وتسلّم بالهزيمة النهائية في سوريا، وهذا واضح من خلال تصريحات كبار قادتها نزولًا من المرشد إلى قيادات ميدانية في الحرس الثوري، لكنّ فرصتها في العودة باتت شبه مستحيلة الآن.

على الحدود الشمالية تمتلك تركيا حضورًا طبيعيًا كبيرًا مع سوريا، كما لديها علاقات تاريخية متداخلة بشكل كبير تعود إلى الحقبة العثمانية. وقد استقبلت تركيا ملايين اللاجئين السوريين، وتشابكت مصالحها الاقتصادية والسياسية مع هذا البلد. لقد كانت الطموحات التركية الإقليمية، خاصة في عهد أردوغان، كبيرة في سوريا، أوضح عدد من كبار مسؤوليها السياسيين والأمنيين ذلك مستعينين بالميثاق الملي التركي. كانت الهواجس الأمنية من أهم أسباب تدخل تركيا العسكري والسياسي، فدعمت فصائل موالية لها لمنع أي تهديد لأمنها القومي، وحاربت كل المحاولات الكردية لإنشاء إقليم خاص مستقل أو ذي حكم ذاتي.

مع سقوط نظام بشار الأسد أصبحت تركيا اللاعب الأكثر حضورًا وتأثيرًا حتى ولو لم تكن الأوحد. تجلّى هذا بعبارات الرئيس ترامب التي لا تخلو من عمق رغم مبالغتها وسطحيتها الفجّتين، عندما قال بما معناه “إنّ أردوغان استولى على سوريا وهذا ما لم يفعله أحد منذ ألفي عام”.

جنوبًا، تتابع إسرائيل عن كثب التطورات في سوريا، التي تمثل تهديدًا أمنيًا مباشرًا لها حسب تصريحات كبار قادتها المتتالية. تخشى إسرائيل من تنامي نفوذ الجماعات الجهادية المتطرفة حسب تعبيرات دأبت على استخدامها العقلية الإسرائيلية، كما تخشى من وصول أسلحة متطورة إلى حزب الله، رغمّ أنّ هذه الحجّة الأخيرة أقرب إلى العبث منها إلى المنطق في ظل عقلية القيادة السورية الجديدة ومرجعيتها الفكرية والدينية.

تدخّلت إسرائيل عسكريًا لمنع أي تهديد لأمنها، وهذه ذريعة سخيفةٌ أيضًا لأنّه حقيقة لم يكن هناك أي تهديد استراتيجي لها من قبل سوريا بدءًا من استلام حافظ الأسد السلطة. تسعى إسرائيل بجدّية لإقامة منطقة عازلة على طول حدودها مع سوريا وعلى حساب الأراضي السورية أو المجال الحيوي السوري، وهذا كلّه بانتظار تفاهمات معلنة أو سرية تغزل خيوطها بأناة حينًا وبتهوّر أحيانًا كثيرة، رافعة ذرائع خبيثة وسخيفة أيضًا مثل حماية الدروز أو العلويين.

غربًا، يشكل لبنان خاصرة رخوة لسوريا، ففي ظل هشاشة مؤسساته الموروثة من عقودٍ خلت، وتحت وطأة تزايد حدّة الصراع داخليًا مع حزب الله الحليف الوثيق لإيران، ومع وجود إرادة متصاعدة لتقوية الدولة تجاه الجماعات التي تقاسمتها، يبقى الخطر قائمًا خلال الفترة القادمة. إنّ تعافي لبنان سينعكس بقوّة وبشكل مباشر على استقرار سوريا، وطالما أنّ القيادة السورية الجديدة لديها ما يكفيها من تحديات داخلية الآن، فهي بالتأكيد ستحترم تعهداتها بالقطع مع النهج السابق الذي كان يتعامل مع لبنان بوصفها حديقة خلفية لنظام الحكم السوري.

خليجيًا، تلعب السعودية دورًا محوريًا في التوازنات الجديدة التي برزت بعد سقوط نظام الأسد، وتنطلق من رؤية قيادتها لموقع سوريا في الأمن القومي العربي، ومن تنافسها الإقليمي مع إيران. فبالنسبة للرياض، تمثل سوريا ساحة حيوية يجب ألا تقع تحت الهيمنة الإيرانية مجددًا، وركنًا أساسيًا في خط دفاع عربي جماعي يمتد من الخليج إلى المتوسط. يعتقد كاتب هذه السطور أنّ السعودية ترى في مرحلة ما بعد الأسد فرصة لفرض نهج سياسي واجتماعي جديد، يقوم على دعم القوى السنية المعتدلة، وبناء نموذج محافظ حداثي يشبه التجربة السعودية في “رؤية 2030”.

تسعى الرياض إلى أن تظهر كقوة تحديث عربية، تمزج بين الاستقرار والانفتاح الاقتصادي، مع الحفاظ على القيم التقليدية والمجتمع المحافظ، ما يشكل بديلًا “متوازنًا” للمشروع الإيراني الثيوقراطي من جهة، والنموذج التركي الحداثوي من جهة أخرى. ومن المتوقع أن تستخدم السعودية أدوات متعددة لتحقيق هذا الهدف، تشمل الدعم المالي لإعادة الإعمار، الاستثمار في التعليم والخدمات، وربما المشاركة في إعادة بناء المؤسسات السورية بما يتماشى مع رؤيتها للمنطقة، وقد ظهرت بوادر هذه السياسة السعودية جليّة من خلال الدعم الكبير للقيادة السورية في المحافل الدولية كما حصل في اجتماعات الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية.

كانت زيارة الرئيس الأميركي ترامب للرياض قبل أيام، وما نتج عنها من رفع للعقوبات عن سوريا، أكبر تتويج لهذا الجهد السعودي العظيم على طريق إعادة سوريا إلى محيطها ومكانتها الطبيعية في الإقليم.

تتباين مواقف الدول العربية من الصراع في سوريا، فدولة قطر أكثر قربًا من الخط السعودي وكانت زيارة الأمير تميم كأول قائد عربي تخطو قدماه أرض العاصمة السورية بعد هرب الطاغية ذات دلالة بالغة الأهمية، كذلك لا يخفى الدعم السياسي الكبير الذي تقدّمه قطر في المحافل الإقليمية كالعلاقة مع العراق، والدولية كالعلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية. بينما تميل دول أخرى كالإمارات ومصر إلى الحذر والانفتاح المتأني. هذا الانقسام يعكس تضارب المصالح الإقليمية، ويؤثر على إمكانية بلورة موقف عربي موحد تجاه مستقبل سوريا، وهو واحدٌ من أهمّ التحديات التي تواجه سوريا شعبًا وقيادة جديدة.

إن الوصول إلى سوريا موحّدة ومستقرّة، تتحقق فيها تطلعات شعبها، لا يزال تحديًا كبيرًا للمجتمع الإقليمي، ويحتاج إلى توافق دولي أيضًا، وهو ما سنتحدث عنه في مقالة لاحقة. مع ذلك، لا يمكن للقوى السياسية السورية التعويل فقط على هذه التأثيرات الإقليمية التي تطرقنا إليها أعلاه، لبناء منظومة قيمّ وممارسات ليبرالية وديمقراطية. عليها أن تعمل بالمتاح والمتوفر داخليًا وأن تسعى بكل قوتها لتشكيل جبهة سورية عريضة تضمّ كل القوى الوطنية القادرة على التأثير. مسؤولية القيادة السورية في هذه المرحلة كبيرة جدًا، إنّ انفتاحها على القوى السياسية السورية سيكون عنصر قوّة لها لا عامل تثبيط وإضعاف، ونرجو أن تدرك ذلك وأن تتعامل معه بكل الجدّية الوطنية المطلوبة واللازمة.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى