أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

شرق أوسط جديد قيد التشكّل/ حسان الأسود

 

2025.06.04

اختزلت كلمات السفير الأميركي توم برّاك، المبعوث الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى سوريا قبل أيامٍ عدّة، جزءًا كبيرًا من معالم المشهد الدولي الجديد والمتحرّك.

وضعت تلك السطور تصوّرًا عامًا ليس فقط لما تفكّر به الإدارة الأميركية الجديدة، بل لما يبدو أنّه ملامح النظام العالمي الجديد المتخلّق من رحم الصراعات، قديمها وحاضرها وجديدها الذي ما زال في طور التحضير. تطرّق السفير إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، حيث تمّت عملية إعادة تقسيم العالم بين الدول المنتصرة فيها. إثر تلك الحرب انهارت ثلاث إمبراطوريات كبرى، النمساوية المجرية، الروسية، والعثمانية، وتشكّلت دول جديدة. كان حلمُ العرب أن يعترف الحلفاء لهم بدولة مستقلة، وهذا كان جوهر محادثات حسين – مكماهون، والتي أثمرت عن دخول العرب الحرب إلى جانبهم في مواجهة الإمبراطورية العثمانية. لكنّ الذي حصل أنّه، وحسب قول السفير توم برّاك، “قبل قرن من الزمان، فرض الغرب خرائط، وانتدابات، وحدودًا مرسومة، وحكمًا أجنبيًا. قسّم سايكس وبيكو سوريا والمنطقة الأوسع لتحقيق مكاسب إمبريالية، لا لتحقيق السلام. كلف هذا الخطأ أجيالًا. ولن نكرره.” فكيف سيكون مصير المنطقة الآن؟

يعالج السفير ذاتُه الأمر من وجهة نظر الإدارة الأميركية، فيقول: “لقد ولّى عصر التدخل الغربي. المستقبل للحلول الإقليمية وللشراكات، وللدبلوماسية القائمة على الاحترام. وكما أكد الرئيس ترامب في خطابه في 13 مايو/أيار بالرياض: (ولّت أيام التدخل الغربي التي كان يسافر فيها المتدخلون إلى الشرق الأوسط لإلقاء محاضرات عن كيفية العيش، وكيفية إدارة شؤونكم الخاصة)”. هكذا عبّر برّاك عن شكل التنافس الجديد، فسيكون للإقليم، الذي هو هنا الشرق الأوسط، كلمة في تحديد مصيره، وستكون الشراكة لا السيطرة بالقوّة الغاشمة هي الوسيلة، وسكون احترام الخصوصية في صميم هذه الشراكة. بعبارة واضحة إننا، نحن الأميركيين، لن نحاضر عليكم في المستقبل بحقوق الإنسان ولا بالديمقراطية أو غيرها. هذا اعتراف صريح بانعدام تأثير هذه الأدوات ما دامت مجرد وسائل لابتزاز الأنظمة. إنّه قرار مباشر بالذهاب إلى تلك الأنظمة والحكومات للاتفاق معها على حصصٍ واضحة ونِسَبٍ محددة وآلياتٍ فعالة للاستفادة المشتركة، وليس للنهب المنظّم والسيطرة بأدوات التدخل العسكري المباشر كما حصل خلال القرن الماضي.

كانت السياسة الأميركية قبل تسلّم إدارة ترامب متأرجحة وغير واضحة فيما يخصّ المنطقة العربية والشرق الأوسط عمومًا، فقرار إدارة أوباما التركيز على الصين، وتحديد الاستراتيجية الأميركية بالابتعاد نحو المحيط الهادئ لاحتواء العملاق القادم من الشرق، تغيّرت مع تسلّم ترامب ولايته الثانية. حاول خلال فترة رئاسته الأولى تفكيك بعض بنى الدولة العميقة التي ترسم الاستراتيجيات الكبرى، وانقطعت محاولته بفوز بايدن. الآن، وبعد أن تغيّر هو ذاته وأصبح أكثر نضجًا وقوّة، عاد ليتابع توجيه الاستراتيجية الجديدة. فيما يخصّ سوريا، كانت السياسة الأميركية تركّز على احتواء إيران، وكان الحذر من التورط في صراعٍ معقدٍ بينها وبين إسرائيل باديًا. بينما تركز واشنطن حاليًا على الملف النووي الإيراني وعلى مكافحة الإرهاب. ورغم أنها لن تتخلى عن حماية إسرائيل، لكنها لن تنظر للمنطقة بعيون الأخيرة، بل بعيون المصالح الأميركية المقدّمة على كل شيء الآن. من هنا خلت جولة ترامب من زيارة تل أبيب، فهذه التي تعوّدت أن تأخذ، ليس لها بند في جدول أعمال الرئيس القادم بطريقة تفكير مختلفة. ومن هنا هذه الحماسة في رفع العقوبات وتلك المرونة في إعطاء التسهيلات للإدارة السورية الجديدة. يرى كثيرون أنّ هذا جاء ثمرة ضغوط عربية متواصلة، وهم محقون في ذلك، لكنّ اللوحة الكبيرة تشير إلى تغيّر عالمي في مطارح التنافس وفي أدواته، كما تشير أيضًا إلى انزياحات في أولويات الحلفاء وتغيير في مصفوفات المصالح.

يُكمل السفير دورة التغيير، فيعود لأسباب الخراب الأولى، فهو بالأصل ابن هذه المنطقة، وإليها تنتمي عائلته. ليست الأعوام المئة التي تفصلنا عن حلم العرب بدولة تجمعهم بالفترة الزمنية الكبيرة، ففي عمر الشعوب هي شيء بسيط، والذاكرة لا تزال رطبة بالمرارة والمآسي التي سببتها تلك الخرائط المرسومة بفوّهات المدافع وعلى أشلاء أهل المنطقة وعلى حساب أحلامهم وحقوقهم. “ولدت مأساة سوريا في رحم الانقسام. يجب أن تأتي ولادتها الجديدة من خلال الكرامة والوحدة والاستثمار في شعبها. يبدأ ذلك بالحقيقة والمساءلة، والعمل مع المنطقة، لا حولها.” هكذا يحدد أساسيات جديدة للعمل المشترك، وإن صحّ وسارت الأمور وفق هذا النهج، فإنّ نقاط الارتكاز الثلاثة التي حددها تحتاج إلى تعريف بسيط لندرك أين سنضع أقامنا وأين ستكون رؤوسنا.

إن كانت الإجابات عمياء، فإنّ الأسئلة مُبصرة، فما هي الكرامة التي ستؤسس لمستقبل المنطقة وشعوبها، وهل ستشمل الفلسطينيين أيضًا إضافة لأشقائهم السوريين واللبنانيين، وهل سيفرض ترامب على إسرائيل القبول بمبدأ الدولة الفلسطينية فرضًا، وهل سيتم الانتقال إلى موجبات الدولة الحديثة التي لا تعيش مع الميليشيات، وهل ستكون الكرامة في البطون الشبعى فقط أم ستصل إلى العقول النيّرة، وهل

سيكون للمواطنين حقّ الاعتقاد والكلام كما سيكون لهم حق الأكل والشرب؟ مئات الأسئلة التي يمكن طرحها حول هذا الركن، الكرامة. أما الوحدة فهي السيف الذي قطع مشاريع التقسيم الإسرائيلية، وبنى جدارًا قويًا في وجه النزعات الانفصالية، لكنّ ذلك يحتاج لتحصين داخلي أيضًا، وهذه مهمة الدول وقياداتها ونخبها، بل هي مهمة كل فرد فيها. من لبنان إلى سوريا فالعراق وفلسطين والأردن ومصر… كلها دول بحاجة لإعادة ضبط إعداداتها، فالحداثة لا تكون فقط في الأجهزة العسكرية والأمنية، بل أيضًا في جوهر العلاقة بين المواطنين، وبينهم وبين دولتهم. التعاقدية التي قامت عليها الدولة في أوروبا لم تنتقل مع هياكل الدول إلينا، بل بقينا على إرث الرعية والراعي. هذا بالذات ما يجب تغييره حتى نحصّن الركن الثاني، أي الوحدة. أما الشعب الذي سيتم الاستثمار به، فهو الحصان الفتيّ الذي راهن عليه السفير، أو الذي يدعو الأنظمة الشريكة للمراهنة عليه. ويضع لذلك منطلقًا بسيطًا، لكنّه عميق وفعّال إلى أبعد الحدود، فالحقيقة هي ضالّة الناس، ولأجلها قامت الثورات، وبالمساءلة تُختتم حقبة غياب الحقيقة، وتبدأ حقبة جديدة، فيها يكون الإنسان هو الجوهر والغاية.

يختم السفير توم بالقول، “نحن نقف إلى جانب تركيا والخليج وأوروبا، هذه المرة ليس بالجنود والمحاضرات، أو الحدود الوهمية، بل جنبًا إلى جنب مع الشعب السوري نفسه. مع سقوط نظام الأسد أصبح الباب مفتوحًا للسلام، ومن خلال رفع العقوبات فإننا نمكن الشعب السوري من فتح هذا الباب أخيرا واكتشاف الطريق إلى الرخاء والأمن المتجددين.”، فهل يعيد التاريخ سيرة الرئيس وودرو ويلسون الذي كان ضدّ الإمبريالية التي قسّمت سوريا الكبرى وقضت على حلم العرب بدولة موحدة قوية في المشرق، وهل يكون ترامب هو المخلّص باعتباره الرجل الذي سيقفل حقبة ويبدأ أخرى، وهل استوت الظروف لهذا كلّه؟ لا أحد يعرف، وترامب لا يعمل وكيلًا لأحلامنا ومتعهدًا لرعاية مصالحنا، ونحن من يتوجب علينا القيام بمهامنا لنسير مع هذا العالم المتغير ولنصنع شرقنا الأوسط الجديد.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى