أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

المخاض السوري وموازنة الديني بالسياسي/ علي العبدالله

11 يونيو 2025

يرزح المشهد السياسي السوري تحت وطأة ظاهرتين سياسيتين سلبيتين: سلطة تأخذ قراراتها بدلالة فئوية، سنّية، ورجال دين يتصدّرون قيادة المكونات الدينية والمذهبية الأخرى، المسيحيين والموحدين الدروز والعلويين والإسماعيليين، ما حوّل الصراع السياسي إلى صراع ديني ومذهبي، أفرز حالة تفاضلية بين مكونات المجتمع السوري، عمّقت الخلافات وكرّست الانقسامات، وجعلت الاستقرار السياسي والأمني بعيد المنال.

نحن أمام مشهد سياسي تهيمن على تفاعلاته سرديّتان اتفقتا فاختلفتا، اتفقتا على إعطاء الأولوية لهوياتها الفرعية، فاختلفتا على الخيارات والحلول الوطنية المناسبة لإقامة دولة سورية جديدة، حيث توجّهت السلطة السورية الجديدة السنّية منذ اللحظة الأولى لإسقاط النظام البائد في عملية ردع العدوان إلى البدء ببسط سيطرتها على المجال العام بنقل حكومتها في محافظة إدلب إلى العاصمة، وتسليمها سلطة إدارة مرحلة انتقالية، تلتها عمليات تعيين محافظين وقادة جيش وأمن من لون واحد، سنّة، من الفصائل التي شاركت في عملية ردع العدوان، وفي مقدّمتها الفصيل الأساسي: هيئة تحرير الشام، تلتها خطوات تأسيسية لكيان سياسي جديد: عقد مؤتمر النصر وتولية أحمد الشرع رئاسة المرحلة الانتقالية، وتكليفه بمهام من صلاحيات رئيس منتخب، حل الأحزاب والفصائل المسلحة ووضع إعلان دستوري وتشكيل هيئة تشريعية، وتكليفه قائداً من هيئة تحرير الشام بتشكيل جيش سوري جديد قوامه الفصائل المسلحة، وآخر لتشكيل جهاز مخابرات جديد، ومنح رتب عسكرية من مرتبة الضباط القادة لمقاتلين من الفصائل وعينهم في مواقع عسكرية حسّاسة، وعقد مؤتمر حوار وطني لإسباغ الشرعية على خطواته التالية التي يستدعي القيام بها وجود شرعية شعبية مثل وضع إعلان دستوري وتشكيل هيئة تشريعية انتقالية. حتى تشكيل لجنتي العدالة الانتقالية والكشف عن مصير المفقودين اللتين تستدعي طبيعتهما أن تكونا مستقلتين، لم يخرج عن التوجّه العام للسلطة الجديدة باختيار شخصيات لرئاسة اللجنتين من المقرّبين، بحيث تضمن السلطة أن يبقى عملها تحت السيطرة وأن تكون النتائج في صالح سرديتها.

زاد الطين بلة ما تسرّب عن ممارسات السلطة في مواضيع شديدة الحساسية، مثل إخضاع عناصر الجيش والمخابرات والشرطة لدورات تثقيف عقائدية في الفكر السلفي، والتحضير لإخضاع معلمي المدارس الابتدائية لدورات مماثلة، كي تنعكس في تعاطيهم مع تلاميذهم، بحيث يكونون سبل ترويج وتعميم، واستبدال خطباء المساجد بخطباء مرضيٍّ عنهم لترويج نمطٍ من السلفية معروفة باسم المدخلية، يقوم أساسه المنهجي على رفض الطائفية والفرقة والتحزّب وعدم جواز معارضة الحاكم وعدم إبداء النصيحة له في العلن، يرى النصيحة له في السرّ أولى؛ ويعتبر ذلك من أصول عقيدة أهل السنّة والجماعة، ويعتبر مخالفة هذا الأصل خروجاً على الحاكم المسلم. وسبق ذلك تشكيل مجلس إفتاء من ممثلين عن المذاهب السنّية فقط، ما أثار أسئلة عن مغزى استبعاد أتباع بقية المذاهب الإسلامية العلويين والموحدين الدروز والإسماعيليين، هل اعتبرتهم خارج الإسلام أم اعتبرتهم سقط متاعٍ لا قيمة له، وهل يعني استثناء المذاهب غير السنّية أن من حقّهم تشكيل مجالس إفتاء خاصة بهم، ما يفتح على صراع فتاوى؟. وكان لافتاً أن بيان مجلس الإفتاء العتيد عن تحريم الثأر والانتقام خارج نطاق القضاء والإطار القانوني لم يحدّد ما إذا كان هذا التحريم يشمل كل المواطنين السوريين بغضّ النظر عن دينهم ومذهبهم، لأن ربطه حرمة الدم والمال والعرض بكلام الرسول (عليه الصلاة والسلام) يثير شبهة شموله المسلمين فقط.

تشكيل حزب للسلطة السورية الجديدة تحت اسم “الأمانة العامة للشؤون السياسية” في وقتٍ تمنع نشاط الأحزاب السياسية القائمة، وتمنع تأسيس أحزاب جديدة، ما أثار مخاوف من تأسيس نظام الحزب الواحد، وتحول “الأمانة العامة للشؤون السياسية” إلى حزب قائد في المجتمع والدولة؛ كما كان حزب البعث في النظام البائد. ما ترك انطباعاً بأن السلطة الجديدة تعمل في المرحلة الانتقالية، التي حددت مدّتها بخمس سنوات، على إقامة نظام شمولي عبر ترويض المجتمع وتنميط سلوكه وردّات فعله وفق توجهاتها.

عكست القرارات والإجراءات العملية المذكورة أعلاه وجود هدفين رئيسين للسلطة السورية الجديدة: توفير غطاء سياسي وإحكام السيطرة على المجال العام، كان هذا واضحاً بقوة في قرار الرئيس الانتقالي أحمد الشرع تكليف لجنة لوضع إعلان دستوري وتزويدها بمحدّدات، بحيث يظهر الإعلان ثمرة جهود لجنة مستقلة، ويحقق خيارات الرئيس الانتقالي وتفضيلاته في الوقت نفسه، كما تجلى ذلك في إصدار مراسيم تشريعية، في تعارض تام مع مواد في الإعلان الدستوري تقيّد حقّ الرئيس الانتقالي بإصدار مثل هذه المراسيم، لتسجيل مكاسب على طريق تحقيق الهدفين المذكورين.

لم يحظ توجّه السلطة السورية الجديدة بقبول مكونات سورية عديدة رأت فيه توجهاً لفرض سردية محدّدة على المجتمع السوري وتشكيل نظام سياسي فئوي لا يختلف عن النظام البائد إلا بالشكل، سنّي مقابل علوي. وقاد هذا إلى بروز مواقف رافضة لدى الموحّدين الدروز ولدى العلويين. رفض الكرد أيضاً، لكن لاعتبارات قومية ومطالب تتعلق بطبيعة النظام السياسي المستهدف، بحيث تضمن تعددية وتشاركية فعليتين، وقد ترتّب عن رفض الموحدين الدروز والعلويين توجهات السلطة السورية الجديدة الذي تصدّرته قيادات دينية، مشايخ العقل الدروز وشيوخ الطائفة العلوية، نشوء حالة سياسية شديدة الخطورة والتدمير، فحواها تحوّل الصراع السياسي إلى صراع مذهبي عزّز الانقسامات ورفع الجدران بين مكوّنات المجتمع السوري، فالخيارات ما دون الوطنية لدى السلطة الجديدة استدعت خياراتٍ دون وطنية مضادّة، وهو ما جسّده رفض الموحدين الدروز في السويداء وجرمانا وصحنايا تسليم أسلحتهم قبل تلبية مطالبهم وتحفظ مشايخ العلويين في محافظات الساحل، اللاذقية وطرطوس، ومطالبتهم بوقف الانتهاكات بحقّ المدنيين من العلويين في حمص وحماة، حيث وقعت عمليات اعتقال عشوائية وانتقام وقتل للمدنيين ونهب للبيوت وإتلاف لمحتوياتها والتعدّي على مزارات علوية، والتنمّر على المدنيين وإذلالهم خلال عمليات البحث عن عناصر النظام البائد وحل الجيش والمخابرات من دون تقديم بدائل توفر فرص عيش كريم للأسر، فرص عمل لغير القتلة والفاسدين الذين يجب عزلهم ومحاسبتهم، وطرد الأسر من مساكنهم التي حصلوا عليها خلال سنوات الخدمة في الجيش والمخابرات، وعمليات القتل الواسعة التي حصلت ضد المدنيين بعد استغلال أنصار النظام البائد هذه المظالم بتحريض أبناء الطائفة، والتحرّك لبسط سيطرتهم على محافظات الساحل، واستمرار عمليات القتل، وجديدها أخيراً ما حصل في قرية الدالية في ريف اللاذقية، وهذا أثار أسئلة حول طبيعة المواطنة التي تسعى السلطة السورية الجديدة لإرسائها قاعدة للنظام السياسي المستهدف، أهي مواطنة مبنية على الهوية الإثنية أم مواطنة مبنية على القيم المشتركة، وحول تجاهل السلطة السورية الجديدة انعكاسات قراراتها على المواطنين وردود الفعل المحتملة وطبيعتها وحدّتها بالتالي، حيث ثمة حاجة ماسّة عند أخذ أي قرار أو إصدار مرسوم إلى مراعاة التعدّد القومي والديني والمذهبي، ووضع انعكاس هذا القرار أو المرسوم على المجتمع السوري وقواه السياسية والاجتماعية بالحسبان، وإجراء حسابات دقيقة، بحيث تضمن السلطة السورية الجديدة أن يكون أثر قرارها ومرسومها إيجابياً يؤدّي إلى تخفيف الاحتقان والتوتر، وإلى تقريب المواقف على طريق بناء وحدة وطنية، فالوضع الهشّ والانقسامات القومية والمذهبية تحتاج حصافة وقدرة على تدوير الزوايا لرأب الصدع وجسر الهوّة بين المواقف والسرديات.

لا يشكّل التصرف الحصيف المذكور من السلطة، على أهميته وضرورته، حلّاً للمعضلة التي يواجهها المجتمع السوري على خلفية الاصطفافات المذهبية والانقسامات العمودية التي خلفها النظام البائد، وكرّستها السلطة الجديدة عبر سياستها الفئوية والتمييزية؛ فالموقف يحتاج تحرّكاً موازياً من القوى السياسية والاجتماعية في كل المكونات السورية، للتخفيف من حدّة الاستقطاب وتطويق عمليات التحريض على الكراهية والتحرّك لرأب الصدع في المناطق التي شهدت مواجهات وقتل ونهب عبر العمل على توفير الأمن وتضميد الجراح وجبر الضرر بالتعويض عن الخسائر وإجراء المصالحات. وهذا يستدعي جهداً سياسياً واجتماعيّاً لإعادة صياغة التوازنات داخل المكونات ودفعها إلى موازنة حضور القيادات الدينية بتشكيل هيئات سياسية وازنة تتصدّر المشهد السياسي، أو تعادل، على الأقل، تأثير القيادات الدينية بحيث تشكّل قوة امتصاصٍ للتحريض وللتوتّرات السياسية والاجتماعية، تمهيداً لإعادة البعد السياسي إلى المشهد، وفتح الطرق أمام المساومات السياسية والاتفاق على حلول مقبولة للملفات العالقة.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى