نقد ومقالات

التعاقد الدائم بين شاعرية الماغوط وجمهوره الذي ينتظره/ أدهم حنا

رغم مرور أكثر من ستين عاماً على كتابه الأول، أو حتى قصيدته الأولى، ما زال الشاعر محمد الماغوط محافظاً على جماهيرية جيدة، أو جماهيرية متجدّدة الإقبال على قراءته. وكثيراً ما يكتفي شاب أو فتاة بلفت النظر لثقافتهم الشعرية بالتوكيد على قراءة محمد الماغوط. إحدى التجارب الأكثر ثباتاً، والتي تتداول ويتم الحديث عنها ومحاولة تقليدها دوماً حتى الآن.

ورغم سقوط أسهم الشعر كُلياً في المكتبات العربية، واكتفاء دور النشر بطباعة النصوص السردية الروائية، وحينما يصدر كتاب شعري يكون بعدد نسخ توزع مجاناً في غالب الأوقات أو ومن خلال حفلة تواقيع. لكن، حتى اليوم، يتم شراء كتب الماغوط والحديث عنها بكثافة. 

ألمّح لهذا بدقة صبحي حديدي، مُلمحاً إلى ما يشبه التعاقد الدائم بين شاعرية الماغوط وجمهوره الذي ينتظره. هذا التعاقد الخفي أو الضمني بين القراء ولغة الماغوط الشعرية نفسها. ضرورة فهم النشأة الماغوطية واجبة، خصصاً كتكوّن للتجربة التي أصبحت أصلاً بسبب طبيعتها وتعاقد الجمهور معها. لم يكن الماغوط الأكثر أولوية في النثر، لكنه أصبح الأكثر جذرية وأصلية. يُشير جاك دريدا إلى تكوّن الأصل بناء على لاحقتهِ، على حركة النص في الزمن، أي أن الأصل يخلق من محاولة نسخه والاستناد إليه كنسخة أخرى شبيهة. سكن الماغط عقول السوريين في نشأتهم الشعرية، كمصدر للكتابة النثرية والتواجد الوجداني الذاتي في الكتابة، وخلافاً للرؤية المتساهلة وغير الفاهمة لأثر الماغوط وخصوصية كتابته. هناك هوس حتى في أسلَبة الكتابة الشعرية (stylization) لتوافق طريقة الماغوط، لا سيما بين الأجيال الجديدة، ولا ينفك كاتب نثري عن الاندهاش بتأثير الماغوط فيه ومحاولة الخروج من عباءته التي لم يلبسها يوماً. في كل نص نثري هناك إضافة نقدية، كيما يكون الشاعر ماغوطاً آخر. الماغوط بخلاف أدونيس يلبسه الجميع، ما ان تستحوذ على الكتابة النثرية مقاطع وجدانية أو ارتكابات الحياة اليومية. ورغم أن الماغوط لم يقر يوماً بمزايا شعريته أمام مؤسسي مجلة “شعر”، ولا حتى من أدونيس الذي سمّاه الشاعر منذ القصيدة الأولى، إلا أن المتلقين ينحازون إلى ذِكر الماغوط وتعظيمه دون مرحلته ودون البحث في أساس التجربة وولادتها.

نشأ الماغوط في بيئة غير مثقفة، وفي سجل سخريته من نفسه أو شرح نفسه، يقارن بينها وبين أدونيس كمثال عن أرباب مجلة “شعر” اللبنانيين، فيقول: “أنا فلاح وأدونيس مهندس زراعي”… هذا الفلاح يُمكن فهمه كنثري غريب، بين صناع حروب في حينها، كتّاب مجلة “شعر” الذين حمّلوا قصائدهم/تمردهم على شكل اللغة المنسابة في الشعر – التفعيلة والمقفى- وحمّلوها أيضاً إعادة الخلق والإدراك ومقولات الثقافة والإيديولوجية والمقولة النفسية. أما الماغوط فكان يكتب الشعر فقط ليقول نفسه، أو حتى كترداد للكلمة اليومية أو الذاتية لتجربته في شكل أدبي كتابي. خروجه كشاعر إلى الحياة الثقافية من دون أن يكون عضواً في طبقة ثقافية نامية كلاسيكية ومُحملة بمضامين معرفية وإيديولوجية، شكل عبئاً عليه وعلى النسخة الفريدة في أصالتها.

يسكن في الأرض

“الإنسان شاعر يسكن هذه الأرض”، يقول هولدرلين، شيء من هذا كان في الماغوط، وفينا أيضاً، لكن اكتشاف أهمية النص الشعري الماغوطي كان مثار جدل وتأويل دوماً، هذه الشهرة التي تتجاوز المثقف والمتابع العادي. هذه الشهرة الماغوطية صنعت تمردات كثيرة لكتّاب على ما أنتجه الماغوط، في محاولة التبسيط من التجربة بمحتواها، أو الخروج عنها بصيغة الشاعر غير المثقف. وفي سوريا، باستثناء رياض صالح الحسين، لم يطغ منذ الماغوط شاعر على الساحة العامة مثلما فعل الماغوط. بخلاف الإيديولوجيا التي سادت، أو لغة الشعر المتأملة والتي تحمل شحنات ذهنية ثقافية عالية، كانت النشوانية الذاتية هي مذهبية الماغوط في كتابته.

النشوانية بمعناها الطافح بالقوة والحياة، وكيف تعمل المعاناة نفسها كمحفز للتعبير واستنطاق الذات. ابتكر الماغوط غرابته في التعبير اليومي والمحكي ببساطه، نحو جرأة بوضع تجاربه وذاته في قصيدة. وقد يكون الماغوط هو الأكثر التصاقاً بفقده للإله والأنثى ويتمه الحاد في شعريته، منذ تجربته الأولى، كناظمة نيتشوية إرادوية للتعبير عن الرغبة والقوة والسخط في آنٍ معاً. ديوانه الأول مركزي لفهم تجربته كُلها، شغفه في تجسيد المرأة وجعل رغبته موجودة في كل لحظة. استنطاق الفرادة واستنطاقها برغبتها وفقرها. شيء من هذا جعل الماغوط مفصلياً في استخدامه لغة أقرب للقولية، أو المشافهة وهي تتحول إلى نص بخفاء وسحر مضطرد. تبدو اللغة بسيطة ولا تتقاطع مع المحاكاة – بالمعنى الأفلاطوني – مع لغة الشارع، لكنها تقود ذاتاً تقرأه نحو عريه الخاص في لغته، الشتيمة للحي والسخرية من الأمة، والفخذ النسائي، ونفوره من الثدي المجعد وهو يحمل تاريخاً يصل للموت. وشبقه الجسدي لكي يكون متاحاً من شهوة أنثى، أو هوسه بشهوته لها. إن شيئاً من الماغوط هو يومياته لكن لماذا جعلتنا أكثر تعلقاً وجعله أولوياً وأصلياً على حساب نسخ ستكرره شاءت أم آبت.

للنص الأدبي بُعدان أو قطبان، بحسب فولفغانغ أيزر: قطب فني (artistic)، وقطب جمالي (aesthetic). القطب الأول هو نص المؤلف، والقطب الجمالي هو التحقق الذي ينجزه القارئ. تدور الفكرة حول الماغوط في القطب الجمالي منذ السبعينيات حتى اليوم، وما هو الذي يبدو صادقاً وغريباً للقطب الجمالي الذي يحاصره ويُخلده، فالانحلال بين القارئ والكاتب يشكل أصالته وعدم خوض نصوص الماغوط مرحلة انمحاء رغم تقاعده المُبكر عن الشعر.  يبدو الجانب الأقرب لهذه الشهرة سيكولوجياً، في طريقة الماغوط الخاصة في فهم الذات، فهو كان أكثر حداثوية في الانفراد بتجربته الخاصة والواقعية على المكتوب، من دون جعله مصنوعاً بكلمات ميتافيزيقية أو كلمات إيديولوجية. هايدغر وهوسرل ودريدا يميلون في الأصل لفهم الشعر باقترابه من اللفظي اليومي، ما دامت الكتابة لقيطة لأنها بلا أب، حسب وصف هوسرل. وبخلاف القول واللفظ في حرية الذات وقدراتها وأصالة منطقها، فإن لغة الماغوط الشعرية لم تبتعد عن القول الذاتي الحر المنفلت من توازنه التأملي حتى اليوم. في التعبير عن حدة الشهوة وحدة السخط، لطالما حمل الماغوط سخرية لاذعة في إنتاجه الفني، وتدميراً للذات وصل لمازوشية جمالية رحبة، وألا يستحي في أن يكون خلاسياً أو عبداً لأنثى، أو مُدنساً لوطن وأمة. هذا الجانب من الماغوط كان انتاجياً في انمحاء المعنى، ليس لفقره، بل لتكرار استخدامه بطريقة يكون فيه المعنى واضحاً وصادقاً إلى درجة مُتعبة ومدهشة جمالياً.

طاقة الحزن والشهوة والعيش في مضمون كتابي شكل تجربة آليمة، ويبدو تقليدها هوسياً بين السخرية ولحظة الكناية والاستعارة الجمالية شيء من هذا يبدو أصلياً لتنوعه ورحابته السيكولوجية في التماهي معه. شيء من الماغوط هو خلق للأصيل ولأولٍ ما.

“من أعماق النوم أستيقظ

لأفكر بركبة امرأة شهيةٍ رأيتها ذات يوم

لأعاقر الخمرة وأقرض الشعر”.

“وانا أتسكع تحت نور المصابيح

انتقل كالعواهر من شارعٍ إلى شارع

أشتهي جريمة واسعة

وسفينة بيضا، تقلني بين نهديها المالحين،

إلى بلادٍ بعيدة،

حيث في كل خطوةٍ حانة وشجرة خضراء،

وفتاة خلاسية،

تسهرُ وحيدة مع نهدها العطشان”.

“أيها الشارع الذي أعرفه ثدياً ثدياً، وغيمة غيمة”.

“لقد كانت الشمس أكثر استدارة ونعومة في الأيام الخوالي

والسماء الزرقاء تتسلل من النوافذ والكوى العتيقة

كشرانق من حرير

يوم كنا نأكل ونضاجع ونموت بحرية تحت النجوم

يوم كان تاريخنا

دماً وقارات مفروشة بالجثث والمصاحف”.

” كان أبي، لا يحبني كثيراً، يضربني على قفاي كالجارية

 ويشتمني في السوق

وبين المنازل المتسلخة كأيدي الفقراء”.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى