صفحات الحوار

إليزابيث كسّاب: الخروج للبصريّ طريقة لكسر حدود المُدوّنة الكلامية

أشرف الحساني

في الندوة التي نظّمها “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” بعنوان “الفكر العربي المعاصر: حقل في عزلة، كتابة تاريخ الفكر العربي المعاصر بين الفلسفة والفنّ التشكيلي والثقافة”، قالت الباحثة والأكاديميّة اللبنانية إليزابيث سوزان كسّاب إنها تعمل في جعل الصورة ومُتخيّلها الفني والاجتماعي والسياسي، في قلب تحليل ومشاغل الفكر العربي المعاصر، بطريقة تجعلها تُفكّر في مفهوم الحداثة، انطلاقًا من التشكيل العربي، أمام تجارب عربية كثيرة تحبل بها المنطقة اشتغلت على نفس مفاهيم وقضايا وإشكالات تناولها الفكر العربي بالدرس والتحليل في إطار خطاب كتابي يحتكم إلى ما تمّ البحث والتقصّي فيه فكرًا وسياسة. على هذا الأساس تعتبر كسّاب أنّ الفكر العربي حديث “نصوص عن نصوص” وما الخروج من الخطاب المكتوب إلى آخر بصريّ إلاّ مُحاولة لتخليص الفكر العربي من تقوقعه حول ذاته بنفس المناهج والأدوات والأساليب، دون أنْ يُفكّر مرّة في اقتحام الصورة وعوالمها الفنيّة والتخييلية، انطلاقًا من عشرات التجارب التشكيليّة العربيّة، التي درست الحداثة والأصالة والمعاصرة والذات والحرية والغيرية. وهي في مُجملها مفاهيم، ظلّت لسنوات طويلة تُمثّل ترسانة فكرية ومُعجمًا دلاليًا للفكر العربي المعاصر. غير أنّ الندوة لم تكُن إلا مقدّمة للتوغّل أكثر مع الأكاديميّة كسّاب في باقي مشروعها الفكري على خلفية مؤلّفاتها التي صدرت في هذا المضار مثل: “الفكر العربي المعاصر: دراسة في النقد الثقافي المقارن”، “تنوير عشية الثورة: النقاشات المصرية والسورية”.

هنا حوار معها:

منعطف هزيمة 1967

(*) صدر لك قبل أشهر كتاب جديد بعنوان “تنوير عشية الثورة: النقاشات المصرية والسورية” (2020). ما حدود التقاطع والتلاقي بين كتابك هذا والآخر الذي صدر عام 2012 والمُتعلّق بـ”الفكر العربي المعاصر: دراسة في النقد الثقافي المقارن”؟

تقع اهتماماتي البحثية في مجال الفكر العربي المعاصر والكتابان يأتيان في هذا المسار البحثي. أنظر إلى بحثي بالدرجة الأولى كمحاولة إصغاء لهواجس المفكرين والمفكرات العرب للتعرف على مقارباتهم لها في السياق العربي المعاصر، أي منذ أواسط القرن العشرين، خاصة بعد منعطف 1967، إلا أنني أكتشف مع الوقت أهمية العقود الأولى ما بعد الاستقلال، حيث عاشت الكثير من المجتمعات الناطقة بالعربية نضالات ديمقراطية بارزة والتي ووجهت بقمع شديد من قبل السلطات الحاكمة، منبِّئةً بذلك سلسلة النضالات وموجات القمع التي عرفتها العقود اللاحقة. أعتقد أن هذه الفترة المبكرة من تاريخ بلادنا لم تُدرس بعد بما يكفي. تاريخنا المعاصر حافل بالأحداث الجسيمة والدراماتيكية، تفاعل معها الناشطون والناشطات في الفكر والفن. أهتم بهذا التفاعل وأحاول دراسته توثيقًا وتحليلًا.

(*) وبخصوص الكتاب الآخر، ما المُنطلقات الإبستمولوجية التي صاغت أفقه النظري، انطلاقًا من التحوّلات التي طالت الواقع العربي؟

في كتابي الفكر العربي المعاصر ركزت بصورة خاصة على النقد الثقافي الذي تلا هزيمة 67. شكلت الهزيمة صدمة عسكرية وسياسية مدوّية وسبّبت أزمة شاملة راح  العديد من المُثقّفين يبحثون عن تفاسير ومخارج لها، حتى راج الحديث عن أزمة حضارية وعُقدت مؤتمرات للبحث فيها كمؤتمر الكويت سنة 1974 تحت عنوان “أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي”.  كان البحث يميل بالغالب إلى التفاسير الثقافية، أي تلك التي تُرجع الهزيمة إلى عوامل ثقافية كالعقليات وطرق التفكير والقيم الثقافية والدينية والتقليدية. نذكر هنا على سبيل المثال الكتابين: معنى النكبة مجددًا لقسطنطين زريق والنقد الذاتي بعد الهزيمة لصادق جلال العظم. وفي الكتابين جرى التركيز على ضعف التفكير العقلاني والحداثي في المجتمعات العربية كسبب أساسي في الفشل في الدفاع عن الحقوق القومية وتعثر التطور على جميع الأصعدة. في الحقيقة فاقمت الهزيمة الخيبات التي اختبرتها المجتمعات العربية من آمال الاستقلال و الوعود التي بثّتها دول ما بعد الاستقلال والتي انتظر منها الناس تحقيق السيادة والحرية والتقدم والعدالة والرفاه. فمثّلت الهزيمة ذروة تلك الخيبات، تبعتها صعود الأنظمة العسكرية وتصلب الاستبداد. لم يعد يجدي الاكتفاء باتهام الأعداء الخارجيين، كان لا بد من الاعتراف أن ثمة خللًا داخليًا أدى إلى كل هذا الفشل. شغل البحث عن ذلك الخلل العديد من المثقفين في المجتمعات الناطقة بالعربية وهيمن الميل إلى التفسير الثقافي لما حُدد كأزمة حضارية شاملة.

(*) لكن لماذا هذا الاقتصار على الجانب الثقافي للمسألة مع أنّ الجانب السياسي كان له دور بارز في تأجيج هذا الإخفاق الذي ستُرافقه موجة كبيرة من الإصلاح داخل الفكر العربي المعاصر؟

كان هناك أيضًا مقاربة أخرى للأزمة والهزيمة، ألا وهي المقاربة السياسية، أي اعتبار “تغييب الشعب” كما قال الكاتب السوري، سعد الله ونوس، غداة الهزيمة، السبب الأساسي وراء تقهقر حقوق الناس في الأرض والكرامة والحرية. من وجهة النظر هذه اعتُبر تفرد السلطات الحاكمة في القرارات وعدم السماح بمشاركة الناس في الشأن العام، أي غياب الديمقراطية، الأسباب الأساسية وراء الهزيمة ووراء فشل دول ما بعد الاستقلال. تتبُّع النقاشات الفكرية حول الأزمة والأزمة الثقافية في العديد من الدول العربية يظهر تقدم هذه المقاربة السياسية مع تفاقم الأوضاع في تلك البلدان في نهايات القرن العشرين. فأصبح طبيعة ومسار دولة ما بعد الاستعمار الكارثي الموضوع الأساسي في النقاشات وهمّها الأكبر. هذا لا يعني اختفاء الهم والنقد الثقافيين، بل استمرّ في بعض الأوساط وأخذ منحىً ثقافاويًا، يفسر كل شيء بالثقافة. لكن عمومًا اشتدّ الاستياء من أداء الدولة وهيمن الشعور بالعجز في إصلاحها وبالتالي اليأس من إمكانية تغيير الأوضاع بصورة عامة في شتى المجالات. كان هذا الشعور ملموسًا في العديد من الكتابات والحوارات وقد قمت بتوثيقه وتحليله في السياق التاريخي لتلك السنوات، لكني لم أتنبأ بالانفجار الذي كان سيؤدي له بعد صدور كتابي ببضعة أشهر. فظهر كتابي بنسخته الإنكليزية في نهاية سنة 2009 وقامت الثورات العربية في أواخر سنة 2010.

(*) إلى أيّ حد كانت هذه الأساب الثقافيّة والسياسية كافية بالنسبة للدكتورة إليزابيث سوزان كسّاب، حتى تظلّ حريصة على تقديم إسهامات فعلية في مجال الفكر العربي المعاصر؟

طبعًا استمرّيت في متابعة المشهد الفكري خلال الثورات بمختلف موجاتها ونشرت بعض المقالات حول موقف المفكرين والمفكرات منها، وأيضًا كان لي فضول في رصد نقاشات التنوير التي سبقت الثورات في القاهرة ودمشق، والكتاب الثاني تنوير عشية الثورة هو دراسة لتلك النقاشات. خلاصتها كانت أن ما قُصد بـ”التنوير” هو نوع من “الإنسانوية السياسية،” أي التركيز على الانسان، على كرامته وحريته، وعلى ضرورة إعادة إحيائه بعد بطش السلطات المتوحشة به. فـ”الخراب” و”خراب الانسان” بصورة خاصّة موضوع يتكرر في تلك الكتابات عن التنوير. أما السبيل الذي اتضح للمشاركين والمشاركات في النقاش إلى “ترميم” هذا الانسان فكان سياسيًا في الدرجة الأولى، أي في المشاركة السياسية والديمقراطية. رأيت في مطالبات الناس خلال احتجاجات الثورات العربية صدى لتلك “الانسانوية السياسية” دون أن أرى فيما بينها علاقة سببية. بمعنى آخر، لا أقول إن الحركات الاحتجاجية أتت نتيجة لتلك الكتابات، بل أن بعض المفكرين عبّروا بطريقتهم عما كان عموم الناس يعاني منه وسيخرج في المظاهرات العارمة للتعبير عنه في شوارع المدن العربية.

الاهتمام بالبصريّ

(*) كيف تأتى لك التفكير في موضوع الفكر العربي المعاصر في علاقته بالوسائط الفنيّة البصريّة، على خلفية اللقاء الأكاديمي “الفكر العربي المعاصر: حقل في عزلة، كتابة تاريخ الفكر العربي المعاصر بين الفلسفة والفنّ التشكيلي والثقافة” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات). من المُلاحظات الجادّة التي خصلت إليها في الندوة، أنّ الفكر العربي المعاصر أضحى في السنوات القليلة الماضية، وكأنّه نصوص عن نصوص أو حديث كتب عن كتب. كيف يُمكن في نظرك للفكر العربي أنْ ينزاح عن هذا التصوّر الفكري الذي يجعله منحصرًا في الخطاب المكتوب بدل الانفتاح عن الحقل البصريّ؟

اهتمامي بالبصري أتى من اشتغالي الطويل على الفكر المكتوب ومن تَوْقي إلى توسيع مجال البحث في الفكر العربي المعاصر خارج المكتوب والمُدوّن. فمن ناحية وجدت أن حقل الفكر العربي المعاصر كحقل دراسة يفتقر إلى معارف ضرورية لفهمه كمعارف في التاريخ الاجتماعي وسوسيولوجيا المعرفة. ومن ناحية أخرى وجدت أن العمل في الفكر العربي المعاصر كحقل دراسي يقتصر إلى حد بعيد على إنتاج نصوص عن نصوص دون التفاعل مع أبعاد أخرى. الأعمال في التاريخ الاجتماعي للفكر العربي الحديث والمعاصر قليلة. فعلى سبيل المثال ليس لدينا دراسات عن دور النشر ومراكز البحث والمجلات التي شكّلت بشكل أساسي المدوّنة التي نسميها “الفكر العربي المعاصر”. ليس من الممكن برأيي فهم هذه المدوّنة بالاكتفاء بقراءة نصوصها وتحليلها دون الاستفادة من الحقول المجاورة كالتاريخ الاجتماعي وسوسيولوجيا المعرفة لاكتشاف حيثيات تشكّل إنتاجه ومنتجيه، من مواضيع ومقاربات ومؤسسات وبنيات سلطة. تلك الحقول المُجاورة تساعدنا على فهم مدوّنة الفكر العربي الحديث والمعاصر كمُنتَج ومنتِج لحقل فكري سوسيولوجي- تاريخي. كما تساعدنا على فهم علاقات القوّة التي قام ويقوم عليها هذا الحقل. مع الأسف ما زالت هذه الحقول المجاورة ضعيفة إلاّ أنّنا نشهد في الآونة الأخيرة صدور دراسات قيّمة حول بعض المجلات كمجلة الطليعة اللبنانية وهيئات كرابطة العقلانيين العرب تساهم في فهمنا وتقييمنا لتلك المدوّنة.

(*) هل لهذا السبب نجد في المحاضرة، التي ألقيتها، تكرار صيغة “الخروج” أكثر من مرّة، بما يجعلها مفردة قويّة وهامّة تهدف إلى خرق طبيعة الدائرة الضيّقة، التي يشتغل فيها الفكر العربي، صوب فضاءات أرحب حيث يتعانق الفكري بالبصريّ؟

الخروج إلى البصري، هو بالنسبة لي طريقة أخرى لكسر حدود المدوّنة الكلامية وتوسيع مفهوم الفكر إلى ما هو غير كلامي وبالأخص إلى الفنّ التشكيلي العربي المعاصر. ففنانو وفنانات المنطقة العربية أيضًا عالجوا العديد من المواضيع، التي شغلت الفكر الكلامي كمواضيع الحداثة والتراث والخصوصية والهوية والحرية. أود أن أقرأ المّدوّنة الكلامية بموازاة المدونة البصرية، بطريقة “طباقية” إذا أردت. وتركيزي هو على مسألة محدّدة هي مسألة الذاتية والإبداع الأصيل.

فقد شغلت هذه القضية الكثير من المفكرين والعديد من الفنانين. في الفلسفة على سبيل المثال تساءل عدد من الفلاسفة العرب المعاصرين عن معنى ومغزى البحث عن “فلسفة عربية” أصيلة، أي غير مقلِّدة. وطرحوا الأسئلة التالية: كيف للفلسفة ان تكون “خاصة” وموضوعها تجريدي، مجرّد عن الحيثيات، مهتمّ بالمفاهيم العقلية البحتة؟ ولكن هل هناك عقل بحت، مجرّد عن اللغة والثقافة والتاريخ؟ هل يمكن للنقد العقلي أن يتجرّد من كل ذلك؟ هل العقل المجرّد هو الذي يطرح الأسئلة الفلسفية؟ أم هي الظروف التي تملي الأوليات لهذه الأسئلة وتفرض طرق معالجاتها؟ هل من سبيل إلى فلسفة عربية معاصرة، لا تقلِّد الأجندة والإنتاج الغربيين ولا تكرّر الموروث المحلي؟ وما عسى تكون مقوّماتها وعناصرها؟ بصورة أعمّ، ماذا يعني أن يبدع الانسان فكريًا وأنْ ينتج فكرًا “أصيلًا”؟ ما معنى الأصالة هنا؟ هل هي التمحور حول الذات المعاصرة بمعاشها وموروثها وتأثيراتها الراهنة؟ أم هي هويّة دفينة يجب البحث عنها في اللغة أو الموروث الأدبي أو الديني؟ هذه هواجس شغلت أكثرية المجتمعات والثقافات التي عرفت الهيمنة الأجنبية والغربية بصورة خاصة. وقد قمت في كتاب الفكر العربي المعاصر بمقارنة النقاشات التي قامت في إفريقيا وجنوب أميركا وحتى شمال أميركا حول هذه الأسئلة مع النقاشات العربية. فالناطقون بالعربية لم يكونوا الوحيدين في الانشغال بهذه الأمور، إلا أن اطلاعنا على النقاشات المشابهة في أماكن أخرى من العالم غير الأوروبي يبقى ضعيفًا وبالتالي يُهيّأ لنا أننا الوحيدون في المعاناة من هذه الهواجس.

(*) كيف اهتديت إلى هذا المجال أو بعبارى أخرى، كيف تُفكّرين بعدّتك الفكرية اقتحام العوالم البصريّة، رغم ما يُعانيه التشكيل العربي اليوم من أهوال ومآزق وتصدّعات؟

في مشروعي الراهن أود أنْ أرى كيف واجه البصريون والبصريات هذه القضية. فقضية الذاتية في الإنتاج الفني مركزية لهم. فهم يطمحون إلى إيجاد بصمة أو توقيع يُميّز أعمالهم ويعرف عنها بصورة واضحة. فعند نشوء الفن التشكيلي العربي الحديث طُرحت مسائل  الإبداع الأصيل والذاتية بقوة: كيف السبيل إلى فن عراقي أو مصري أو لبناني حديث؟ أين مكانة الحداثة الغربية في إنتاج حداثة محلية؟ أي دور للإرث الثقافي المرئي المحلي، إرث حضارة ما بين النهرين، أو إرث حضارة الفراعنة، أو إرث الفنيقيين؟ ما هو مكان الثقافة الشعبية المحلية في هذا الفن الذي يُراد له أن يكون إبداعًا أصيلًا وغير مقلِّدًا؟ هناك كتابات من فنانين وفنانات دونت التفكير في هذه المسائل وقامت مجموعات بإطلاق بيانات توضح موقفها منها. وقد شهد العقدان الماضيان صدور دراسات قيّمة توثق وتناقش أعمال وكتابات هذا الفن التشكيلي العربي الحديث والمعاصر، جعلت من هذا الحقل من أنشط الحقول دراسة وبحثًا. هذا ما شجعني على الاستفادة من معارفها وتحاليلها للقيام بتلك القراءة الطباقية للحقلين الكلامي والبصري. آمل ان تعطي هكذا قراءة زاوية أوسع لفهم معنى المعاصرة والحداثة في الفكر العربي. ولكن من الأهمية بمكان ألا نحوّل الفكر الكلامي إلى فن تشكيلي وألا نجعل من الأعمال الفنية دراسات كلامية. فالبحث ليس عن جابري يصور أو عروي ينحت ولا عن جواد سليم يؤلف أبحاثا فلسفية. كل حقل له طبيعته وأدواته وخصوصيته وعلى الزاوية الواسعة ان تحترم خصائص الحقلين. سؤالي الأساسي هو: أي تصور للذاتية والإبداع الأصيل قدم لنا البصريون والكلاميون في منطقتنا الناطقة بالعربية في الزمن المعاصر؟

(*) في نفس الطرح، ما أهمية الاشتغال على هذه المدونات الفكرية والبصرية؟

تشكّل هذه المدونات خلفيتنا الفكرية والثقافية والجمالية، فعلينا أنْ نمتلكها امتلاكًا نقديًا ونبني عليها. عمل المراكمة مهمّ إذا أردنا ان نتجنب البدء من الصفر في كل مرة ومع كل سؤال. فهناك جهود بُذلت على مدى عقود لمعالجة قضايا كثيرة ما زالت تواجهنا واختلفت معالجاتها مع اختلاف السياقات التاريخية. من هنا أهمية الاشتغال على التاريخ الفكري والفني وإتاحتها للجمهور العام لتكون متوفرة “كالماء والهواء،” وأيضًا أهمية إدراجها في المناهج التعليمية. طبعًا ليس المطلوب أن يتخصص الجميع فيها، لكن أن تكون ثقافة عامة تسمح للناس أن يكوّنوا فكرة عامة عن بيئتهم الفكرية والفنية. قد يبدو هذا أمرًا بديهيًا ولكن مع الأسف لا تتاح هذه الثقافة للعموم، ولا سيما في المدارس والجامعات، لأنه في أحيان كثيرة لا تُعتبر مهمة، بأهمية الثقافة الغربية أو الثقافة العربية الكلاسيكية الوسيطة. عدم التعرف على هذه الثقافة المحلية، الحديثة والمعاصرة، يولّد صورة سلبية عن النفس حيث يقتنع المرء أن الفكر والفن هما إما من صلاحيات الغرب أو من منجزات الماضي البعيد.

فمن دواعي السرور التفات عدد من الباحثين والباحثات الشباب إلى هذا الإرث الحديث والمعاصر. أذكر على سبيل المثال لا الحصر أعمال بهية شهاب وزينة المعاصري في مجال التصميم العربي، وأعمال سلوى مقدادي وندى شبوط وأنكه لنسن وساره روجرز وحنان طوقان وصونيا ميخر- أتاسي وشربل داغر في مجال الفن التشكيلي العربي. كثير من هذه الدراسات تُنتج من قبل شباب وشابات من منطقتنا العربية يعملون في جامعات ومتاحف في الغرب وأحيانًا في الشرق الأوسط. هناك جهود لدعم هكذا بحوث في منطقتنا ونشرها باللغة العربية. تسمح هذه الأعمال كلها بتجميع الجهود السابقة والراهنة وتحويلها إلى مخزون وبالتالي إلى إرث قيّم لمن أراد.

أخيرًا، آمل شخصيًا أن أصمم مقررًا يقدم الدراسات والنقاشات حول الحداثة والإبداع من المدونتين الفكرية والفنية، يسمح للمشاركين والمشاركات فيه، التعرف على هذين الحقلين والنظر في مساهمتهما في تصوراتنا للذاتية المعاصرة.  

ضفة ثالثة

—————————–

تنوير عشية الثورة: النقاشات المصرية والسورية/ ليزابيث سوزان كساب

صدر عن سلسلة “ترجمان” في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب تنوير عشية الثورة: النقاشات المصرية والسورية، وهو ترجمة محمود محمد الحرثاني العربية لكتاب إليزابيث سوزان كسّاب، Enlightenment in the Eve of Revolution: The Egyptian and Syrian Debates، الذي تناقش فيه السياقات الفكرية التي تخلّقت فيها أجواء الثورة في كل من مصر وسورية، مستعرضةً الفروق بين خطابات التنوير في السنوات التي سبقت الثورتين، ومقارنةً بين ما يُسمى “التنوير الحكومي” و”التنوير المستقل” في الحالة المصرية وعلاقتهما بالإسلاميين.

في كتابها (أربعة فصول في قسمين، 280 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا)، تناقش كساب، في الحالة المصرية، أعمال مفكرين من مشارب مختلفة مثل مراد وهبة، ومحمد عمارة، ومنى أباظة، ونصر حامد أبو زيد، وجابر عصفور، وشريف يونس. أما في الحالة السورية، فتحتل أعمال أنطون مقدسي، وسعد الله ونّوس، وفيصل دراج، وممدوح عدوان، وبرهان غليون، وطيب تيزيني، مكانة بارزة. وتميّز المؤلفة بين لحظتين في التنوير السوري: اللحظة السيزيفية، واللحظة البروموثية، في تحليل عميق لقضايا لا تكفّ عن البروز كلما خبا أُوَارها أو أُريدَ له أن يخبو.

تنوير مصر في التسعينيات: علماني وحكومي وإسلاموي

يضم القسم الأول، “القاهرة”، فصلين. وفي الفصل الأول، “نقاشات التنوير العلمانية والحكومية والإسلاموية في مصر في تسعينيات القرن العشرين”، تراجع المؤلفة أفكار جابر عصفور من الخطاب العلماني، وأفكار محمد عمارة من الخطاب الإسلامي، فـ “كلاهما يتحدث باسم معسكره، وكل منهما ينسج حججه من فهم متين لتاريخ الأفكار المصري الحديث، وكل منهما راسخٌ القدم في مجاله: الأول في النقد الأدبي، والثاني في الدراسات الإسلامية”.

قبل ذلك، تتطرق المؤلفة إلى خطاب للتنوير كان قائمًا في سبعينيات القرن العشرين، فتح بابه مراد وهبة، ولقي سبيله إلى نقاشات التسعينيات من القرن العشرين، “حيث تلاقت اهتماماته الفكرية مع تلك النقاشات، لكنه ظل إلى حدٍّ بعيد مستقلًّا عن المعسكرين. وإذا ما ألقينا نظرة على هذا الخطاب المستقل فسيكتمل تصورنا عن التنوير في مصر أواخر القرن العشرين”.

تجد المؤلفة أن النهضة وطبيعتها وهويتها تشغل حيزًا مركزيًا في خطابات التنوير الثلاثة، فـ “خطاب الدولة وخطاب العلمانيين يريدان استعادة أفكارها وبواعثها التنويرية الأساسية لنصرة حملتهم التنويرية الراهنة. أما الإسلاميون فيريدون الإصرار على طابعها الديني. ويشكل الدين والأصولية الدينية والعلمانية العنوان الرئيس الثاني لنقاشات التنوير المصرية في تسعينيات القرن العشرين. وما تضطلع به الدولة من شأن في تعريف وإدارة حيز الدين وحيز مشروع التنوير هو العنوان الرئيس الثالث”.

يظهر للمؤلفة أن المثقفين المصريين غير الإسلامويين يراهنون على دفاع الدولة عن الحريات ضد التحدي الإسلاموي الشامل، ومن ناحية أخرى يشتكون من سياسات الدولة الأوتوقراطية ورأفتها “الموسمية” تجاه الإسلامويين. كما ينتقد المثقفون المصريون الحجم المتضخم للدولة، بينما يخشون عليها من الاضمحلال تحت تأثير الإسلامويين.

التنوير المصري: تفكيك نقدي

تقول المؤلفة في الفصل الثاني، “تفكيك بعض النقاد المصريين لنقاشات التنوير المصري في تسعينيات القرن العشرين عند نهاية الألفية”، إن خطابَي التنوير الحكومي والإسلاموي تعرّضَا لهجوم حادّ من جهات عدة، مناقِشةً ثلاث هجمات؛ أولاها من الباحثة في علم الاجتماع منى أباظة، وثانيتها من الباحث في الدراسات الإسلامية نصر حامد أبو زيد، وثالثتها من المؤرخ شريف يونس. وبحسبها، استهجن هؤلاء المفكرون الثلاثة ما تعرض له التنوير من امتهان يتصف بالنفاق والسطحية، بل إنه يتصف بالسخرية المُرّة. وقد حللوا الخلفية التاريخية الاجتماعية للمثقفين المنخرطين في كلتا الحملتين، “ورأوا أن كلا الخطابين مُداجٍ لأن أنصار كلٍّ منهما في الواقع كانوا محافظين مذعنين لا شأن لهم، ثمّ إنهم ليسوا إزاء أفكار التنوير التحررية. أضف إلى ذلك اعتقادهم أن كلا الخطابين سطحي أُنتج على عجل ليواجه الخطر الإسلاموي من دون تحليل جادّ للواقع الذي أسفر عن هذا الخطر، ومن دون إفاضة في التصورات النظرية لأفكار التنوير. أخيرًا، بين أولئك المفكرون أن الخطابين استخدما استخدامًا هزليًا في لعبة سلطة، كان الغرض منها القفز على السلطة أو التلاعب بها، وليس نشر قيم التنوير.

ترى المؤلفة أنّ فشل التنويريين العلمانيين في الدفاع عن الحرية والعلمانية “ليس بسبب افتقارهم إلى الشجاعة والالتزام، إنما بسبب شكوكهم بشأن قدرة تلك القيم على التناغم مع رغبات الناس الذين هم في أعينهم محافظون ومتدينون حتى النخاع ولا تعنيهم أفكار الحرية ويميلون ميلًا لتلقي الأفكار الإسلاموية. وبهذا يجد التنويريون أنفسهم مُحاصرين من جهة معسكر إسلاموي يطرد عدوانه ومن جهة جمهور يسيء فهمهم ويعجز عن تقدير مثلهم التنويرية”.

النقاشات السورية: اللحظة السيزيفية

يشتمل القسم الثاني من الكتاب، “دمشق”، على فصلين. وتقول المؤلفة في الفصل الثالث، “نقاشات التنوير في سورية في تسعينيات القرن العشرين: اللحظة السيزيفية”، إن الإسلام السياسي في خطابات التنوير السوري لم يكن الخصم الرئيس، كما هو الحال في التجربة المصرية، “إنما كان استبداد الدولة السورية وفسادها ووحشيتها. فقد تعرض الإسلامويون في سورية للاضطهاد والاعتقال والاغتيال قبل بدء النقاشات بعقد من الزمان؛ وأعلن الإسلام السياسي جريمة وإلى حدٍّ بعيد اختفى من المشهد السوري”. كذلك، كان المجال العام الذي جرى فيه النقاش السوري يخضع لكثير من القيود، أكثر كثيرًا مما تعرض له النقاش المصري، وذلك حصيلة قمع الدولة المنظم لأركان المعارضة وحركاتها من جميع ألوان الطيف السياسي. ولم تكن الحكومة السورية، بخلاف نظيرتها المصرية، تُعنى في ذلك الوقت بخطاب التنوير. وبحكم الرقابة الشديدة في سورية، فإن أولئك الذين تجاسروا على الكلام لجؤوا في الحقيقة إلى لغة عامة مشيرين إلى المجتمع العربي والدولة العربية والأنظمة العربية.

في تحليل خطابات التنوير السورية، تستكشف المؤلفة مفاهيم ومجازات ووقائع الظلمة والنور في خطابات أحمد برقاوي، وميشيل كيلو، وممدوح عدوان، وبرهان غليون، وعبد الرزاق عيد، وصادق جلال العظم، وطيب تيزيني. وفي ضوء ما ألقاه الباحث الفرنسي المتخصص في علم الاجتماع ميشيل سورا، تبحث عن طبيعة فاعلية النظام السوري في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، وتهتمّ برائدَين من رواد التنوير السوري السيزيفيين؛ هما سعد الله ونّوس، وفيصل دراج، ثم تنتهي إلى مناقشة مجلة قضايا وشهادات، بوصفها منتدى للتنوير السوري السيزيفي.

ربيع دمشق: اللحظة البروموثيوية

تعرض المؤلفة في الفصل الرابع (الأخير)، “التنوير وربيع دمشق على منحنى الألفية: اللحظة البروموثيوية”، بإسهاب لتحركات المثقفين السوريين المنخرطين في ربيع دمشق، وتتساءل في النهاية: هل كانت هذه التحركات ساذجة تعوزها اللباقة السياسية ومحكومًا عليها بالفشل منذ البداية؟ وهل كانت تحركات معزولة لنخبة منسلخة عن واقعها ومنعزلة عن الناس؟ ثم هل كانت المخاطر التي ركبتها تلك النخبة حين جهرت بصوتها وتحركت وفقًا لأفكارها بشأن التعبئة المدنية تستحق العناء، بالنظر إلى الثمن المُتوقع؟

بحسب المؤلفة، مهما كانت طبيعة الإجابات عن هذه التساؤلات، “فإن الأحداث بما فيها اندلاع التظاهرات الضخمة في آذار/ مارس 2011 أثبتت أن الأفكار والتحركات والناس الذين انخرطوا في ربيع دمشق لم تكن بمعزلٍ عن مزاج البلاد العام؛ إذ لاح أنها تزامنت مع نذير كاسح بشأن تدهور الأمور سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وناقوس خطر يدق بضرورة الإسراع في معالجة التدهور عقلانيًا وعلنيًا، في ظل اليأس والذلة اللذين ما برحا يتناميان في قطاعات كبيرة من المجتمع. هذه الأفكار، وليس التحركات، كانت حاضرة في كتابات تسعينيات القرن العشرين التي جاء بها السيزيفيون”.

تضيف المؤلفة أن الإجابة عن السؤال “أين المثقفون؟”، الذي يظهر عادةً في بداية حركات الاحتجاجات في أنحاء الوطن العربي، تستدعي أن يجيب المرء بالإشارة إلى هذه الكتابات (وأحيانًا التحركات) التي أصدرها مفكرون نقديون عرب على مدار السنين الطويلة من عمر هذه الحركات.

تختم المؤلفة كتابها قائلةً: “لا أحاجج هنا أن الكتابات والأفكار أدت إلى الحركات على نحو سببي، وإنما أشير إلى التشابه بين المخاوف والتوق والمساعي التي عبرت عنها كتابات السيزيفيين، وتحركات البروموثيين، ومطالب المحتجين السوريين”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى