الناس

ألعاب الذاكرة/ مالك داغستاني

من الحكمة ألا تلوثَ أمكنة الطفولة الحميمة بالعودة إليها ومعاينتها. دعها، دعها كما هي، أو كما شاءت لها الألاعيب العجيبة للمخيلة، والانحرافات الوردية للذاكرة البعيدة. كذا لا تعد لرؤية امرأة بعد عشرين عاماً على اللقاء الأخير. دعها كما هي، أو كما شاءت لها أحلامُ الليالي الطويلة. دعها صنيعة تلك الأحلام. اتركها بما راكَمَه العتق عليها، فأعطاها مبررات جدارة الوجود في مملكة الذاكرة. والعِتْق هنا ليس زمناً، ولكنه ربما بُعداً رابعاً. هو في النهاية، الخيال المتَّقد أو التَوْق المتواري.

ليس من المستغرب أن نصادف يوماً سجيناً سابقاً (يكذب) وهو يتحدث عن حكايات سجنه. أو أن نسمع من رجل وطني وثوري (أستثني السياسيين هنا) حكايات نعتقد أنها لم تكن دقيقة، ولا يجدر أخلاقياً تحريفها على هذا النحو. لكن الأمر ليس كما يبدو لنا في ظاهرهِ، إنه فعل بسيط بل وطبيعي، وهو لا يصنف في خانة الكذب هنا. إنها محض ألعاب بسيطة (تلاعبات) قامت بها الذاكرة في غفلة من صاحبها.

واحدة من الهوايات القسرية، ولكن المفضلة بالنسبة للسجناء المحرومين من واقع مُعاش هي الخوض في الذكريات وروايتها. وهنا تتشكل آلية تكوين البعد الرابع للذاكرة. يتم استدعاء حدث أو شخص أو مكان ما من موقع حفْظهِ في الذاكرة (لا بأس هنا لسهولة فهم الآليات من التشبيه بالذواكر الرقمية) لاستعراضه أمام الذات وهي حاجة روحيّة يعرفها كل سجين، وغالباً أمام الآخرين، وهذا أكثر خطورة، فعندها سيكون التأثير أقوى وأكبر، فرواية الذكريات بهدف الاستعراض، يحتّم على الراوي حذف بعض مكونات هذه الذكرى أو الزيادة عليها، لتكون أجمل أو أكثر قيمةً ومدعاةً للفخر، لتكتسب جدارتها بالروي. عند الانتهاء من هذه المهمة الممتعة، تُعاد هذه الذكرى إلى موقع حفظها في الدماغ، دون إزالة الزوائد التي علقت بها، أو إعادة ما تم حذفه منها. تعاد إلى موقعها باعتبارها الحقيقة، دون الأخذ بعين الاعتبار أن حقيقة جديدة قد حلَّت مكان الحقيقة الأصلية.

بعد فترة من السكينة والاختمار، سوف تستعاد هذه (الحقيقة الجديدة) لحاجةِ استعراضها ثانية، بذات الآلية السابقة من الزيادة والحذف. بعد عدد من التكرارات على استحضار تلك الذكرى، وخلال سنوات طويلة من انعدام الشهود والمدققين أو المكذبين والمشككين، لا يمكن لأحد تخيّل ما الذي يمكن أن تكون قد فعلته تلك الانحرافات الطفيفة والبريئة في كل مرة.

صورة جديدة لأنثى لا تشبه في شيء المرأة الأصل التي كنا نعرفها. حدث جديد لا يربطه بالحدث الأصلي الذي تضمنته ذاكرتنا سوى موقعه فيها. مكان لا وجود له باسمه الذي نطلقه عليه سوى في دماغنا. بمرور السنوات سنعتاد الأمر، ولن نشعر بالخيبة كلما قابلنا شخصاً أو مررنا بمكان أو روى أحدهم حادثةً نعرفها، بعد أن نكون قد اكتشفنا أخيراً لعبة الذاكرة التي كنّا لفترات طويلة ضحاياها. اعتقدت سابقاً أن لعبة السجن هذه لا تتيحها الحياة العادية، حيث لا متسع من الوقت خارج السجن، لكل تلك التكرارات.

اعتقدت بدايةً، أنه فقط في السجن يستطيع الإنسان أن يخون ذاكرته ببراءة، ودونما أي شعور بالعار، وحتى دون الإحساس بأنه يكذب. بعد سنوات تصبح نساء أحاديث ليالي السجناء هنَّ الأجمل في العالم على الإطلاق. نساء من مرمرٍ خالصٍ، خارجات للتّو من لوحات عصر النهضة. وتصبح البيوت التي سكنها هؤلاء هي الأدفأ والأبهى، وتكاد تضاهي الأمكنة الأسطورية، ومع قليل من التواضع، الأمكنة الروائية. ويمسي كل ما مرَّ في حيواتهم استثنائياً وجديراً بالتدوين. هذا ليس كذب. إنه ببساطة، البعد الرابع للذاكرة والذي تولِّده الحاجة القاتلة للدفء في ذاك الصقيع القارس لليالي السجن الطويلة. فليس لروح السجين في ذاك القحط المريع ما تقتات به سوى ما تجود به الذاكرة، والذاكرة هي من بين الأشياء النادرة التي تحافظ على نداوتها في يباس السجن.

سأكتشف بعد خروجي إلى الحياة، أن هذه الآلية ذاتها تستمر مع البعض، ممن يحتاجون، إلى فترة ما بعد السجن، وبشكل خاص عند أولئك الذين يقضون سهراتهم في الحديث عن الذكريات البطولية (البطولية تحديداً) خلال فترة الاعتقال، حتى ليغدو أحدهم شخصية أسطورية. قابلت أشخاصاً يتحدثون عن تجربةٍ يفترض أني عشت فصولها، ومع ذلك بالكاد استطعت أن أتعرفها، لكثرة ما تمَّ العبث والتعديل عليها بعيداً عن الشهود، حتى غدا الراوي البطل الوحيد لمآثر ملحمية اجترحها آخرون، ولا بأس أحياناً أنّ يكون محاطاً ببعض الزملاء من “الكومبارس”.

لوقت طويل اعتقدتُ أن هذه الآلية لتجميل وقائع الماضي هي حِكرٌ على السجناء الحالمين، ولم يخطر لي يوماً أنها آلية بشرية طبيعية تحدث، وإن بدرجة أقل، في الحياة العادية خارج السجن. اليوم نقابل الكثير من “الأبطال” أو نقرأ لهم يروون ما فعلوه في السنوات الأخيرة، فنرى تبدلات في الأمكنة وانحرافات في التواريخ الدقيقة للأحداث، ونستغرب الحديث عن وجودهم الفيزيائي في أمكنة لم يكن من الممكن أن يتواجدوا فيها في تلك التواريخ موضوع الرواية. هؤلاء أيضاً لا يكذبون، ومن الممكن تفهم حالتهم وحاجتهم النفسيّة لهذه التبديلات التي تجعلهم يعتقدون ببراءة، تحاكي براءة السجناء حين يُجمّلون ذواكرهم، أنهم يروون الحقائق كما جرت على الأرض، ربما مع القليل من تأنيب الضمير، وغالباً بدونهِ. في حالتنا الراهنة اليوم، إن أية قراءة متأنية، لا تأخذ بالحسبان ألاعيب الذاكرة، وتكوين ذاك البعد الرابع لها، ستجعلنا نكفر بما يرويه الآخرون (من باب التعاطف مع الذات، سنستثني أنفسنا بالطبع) وسوف يضيع الفارق ويصعب التمييز بين الحقائق وبين تحريفاتها. ثانية السياسيون المحترفون خارج وجهة النظر هذه، فهم يكذبون لأن هذا جزء من حياتهم اليومية.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى