أبحاثالأحداث التي جرت في الساحل السوريسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

“سُنَّة وعلويون” إن بقينا على غفلتنا/ مالك داغستاني

2025.04.03

الأسبوع الماضي، بعد نشر مادتي “طائفيون بربطات عنق”، نالني ما نالني من التأنيب الذي صدر عن أصدقاء كثر أحبهم. سأعترف بأنه تأنيب ودودٌ بالقياس مع ما بدت لهم أنها مادة قاسية. خضت نقاشات خاصة مع بعضهم. منهم من كان غاضباً بشدّة مما ورد في مقالتي، بعضهم أقل غضباً، مع كثر استحسنوها، بل واعتبروها منصفة.

لن أكتمكم، ولن أكتم أصدقائي من الطرفين، أن الموقف العميق في معظم تلك النقاشات والمواقف كان يعتمد على الجذر الطائفي لصاحب الموقف إن كان سنّياً أو علوياً، حتى لو أن أصحاب الموقف لا طائفيون، كما أنا متأكد. اكتشفت، خلال تلك المعمعة، أن شيئاً واحداً قد شفع لي لدى المعترضين، وهو أنهم يعرفون تماماً أني أحمل في قلبي وعقلي ما يشبه ميزان الذهب، خصوصاً حين أكتب، كي لا أترك لشيء أن يتفلّت خلال الكتابة.

أهم ما توصلت إليه، شخصياً، خلال تلك النقاشات، الصريحة بمعظمها، أن هناك قشرة رقيقة لم نرفعها بعد، تغطي طبقة مترسبة في دواخلنا، لم نتمكن حتى الآن، من الوصول إليها خلال أعمق المكاشفات. الأمر الذي ينطبق حتى على الأكثر شفافية بيننا. تبدو تلك القشرة أحياناً تخفي ما يشبه الميل العاطفي طائفياً (هو أنسب توصيف توصلت إليه لحالتنا). ليبدو هذا الميل في موقعٍ أقل من أن يصلح لوسم صاحبه بأنه طائفي، وهنا لن أبرئ نفسي.

كيف ذلك؟ لستُ باحثاً مختصاً أصلح للإجابة عن هذا السؤال الشائك الذي يحتاج إلى دراسات معمقة، ولكن سأحاول أن أتلمس، بشكل سريع (سطحي للأسف)، بعض الجوانب والأسباب التي أجد أنها أورثتنا ما نحن عليه اليوم. أهمها، حجم الجريمة التي ارتكبها نظام الأسد الأب، خصوصاً خلال مواجهات الثمانينات حيث تشكّلت بدايات الشرخ، كي لا نذهب بعيداً في تاريخ الطوائف وتشكّلها وحقائق باطنيتها الدينية عند العلويين، وتقيّتها السياسية عند السنّة.

بدأ الأمر مع المجازر التي ارتكبها حافظ الأسد ليس بحق الإخوان المسلمين، أعدائه المعلنين بحسب خطابه السياسي، بل بحق بيئات السنّة في أكثر من مدينة سورية، عبر أجهزة الأمن وعبر “سرايا الدفاع” والوحدات الخاصة، ذات الصبغة العلوية التي قادها رفعت الأسد وعلي حيدر وهاشم معلا وغيرهم من الأسماء المعروفة في تلك المرحلة، ما أكسب المواجهة بعداً طائفياً ملموساً في المجتمع، فجعل تلك البيئات، من الجانبين، تنكمش تجاه المختلف طائفياً. فبدا كأن العلويين هم من ارتكبوا الجريمة من وجهة نظر السنة، وبدا للعلويين أن الطرف الآخر (السُنَّة) كان يخطط لإبادة العلويين عبر اقتلاع النظام، بحسب الرواية غير المعلنة التي حاول الأسد ترويجها وترسيخها في البيئة العلوية.

كانت رسالة الأسد الأب يومها للسوريين “سوف أحكمكم إلى الأبد” التي تحولت شعاراً فيما بعد، أما السنّة فقد قرؤوا الشعار “العلويون سيحكمونكم إلى الأبد”. ثم جاء توريث الابن ليؤكد لهم، إن الأبد العلوي الذي اعتقدوه دوماً كان صحيحاً. فالتوريث لم يكن دستورياً (أرجو ألا تسخروا من استخدامي لمثل تلك التعبيرات) ولا حتى عائلياً بالمعنى الملكي للتوريث من وجهة نظر السُنّة، لكنه طائفي ارتدى ثوباً عائلياً، ليجد تبريراً ولو كان واهياً. فتهمة أنه توريث عائلي أخف وطأة من أن يكون توريثاً طائفياً.

ثم لتأتي بعدها الجريمة والمجزرة الكبرى خلال الأربعة عشر عاماً الأخيرة على يد الابن الذي ورث الحكم، والتي مرة أخرى طالت تلك البيئات، حيث ضحايا القتل تحت التعذيب وضحايا القصف وتدمير المدن والقرى، والكيماوي والبراميل. وكانت الحصيلة قتل وتشتيت تلك البيئات وتهجيرها، ومرة أخرى بدا لهؤلاء أن المرتكب هو العلوي، في معظم الحالات، ومن السذاجة إقناع الضحايا بغير ذلك، حتى لو صحَّ نسبياً في بعض الحالات.

كل هذا جعل من العلوي في الذهن السوري الأكثري شريكاً أصيلاً للقاتل، إن لم يكن هو القاتل بصفته الطائفية. بدا هذا حتى في أذهان أكثر المنصفين، ولن ينفع هنا ولن يغير في الأمر تبريرات من مثل بأن الأسد أفقر البيئات العلوية مما جعلها تتوجه لأجهزة الأمن والحرس الجمهوري، بصفتها تلك وليس بسبب الانتماء الطائفي، فباقي البيئات السورية ليست أكثر غنى، بل هناك بيئات أشد فقراً وتخلفاً، لكن الأسد اعتمد العصبية الطائفية لشدّ أزره والحفاظ على بقائه في السلطة، ونجح في ذلك عبر تقديمه بعض المكاسب المادية مما تنتجه الدولة، وعبر نهب منظّم (تعفيش) طال تلك البيئات لسنوات طويلة.

تلك الممارسات رسّخت لدى عموم الجمهور قناعاته الصلبة التي نشهد نتائجها اليوم بتصويب الاتهام نحو العلوي بصفته شريكاً للقاتل. ولن ينجو من هذا الانحياز حتى أشد المنصفين والعقلانيين من السُنَّة، فحتى لدى هؤلاء، من ذوي التفكير الهادئ، هناك ندبة ترسخت خلال نصف قرن، حتى لو ادّعوا عدم وجودها.

المخيف للمستقبل، أن ما يحدث اليوم من قتل طائفي ومجازر انتقامية في الساحل، لم تتوقف حتى الآن، سيترك ندبة أخرى مماثلة في الطرف المقابل، حتى لدى المنصفين الذين يعرفون دوافع ما يجري وسياقه التاريخي، نحن نرى بوادرها اليوم،، لتجعل من السنّي حتى لو كان عقلانياً ومنصفاً شخصاً ينتمي إلى جهة مقابلة، وهذا ما نشهده بوضوح في ظلّ الاستقطاب الحاد حالياً. شخصياً، حاولت خلال هذا الأسبوع تلمس تضاريس تلك الندبة في داخلي فلم أصل إلى نتيجة، ومع ذلك ليس لديَّ أدنى شك بأنها موجودة، ربما في مكان أعمق من الذي وصلت إليه حتى الآن.

خلال زيارة امتدت شهراً إلى سوريا بعد سقوط الأسد، سمعتُ من الكثيرين في مجتمع المدينة، عن فرحهم بكسر احتكار العلويين لوظائف الدولة، بل وحتى الأمنيات بطردهم منها، هنا أتحدث بشكل خاص عن مدينتي حمص، حيث يتداول الناس نسباً مئوية حقيقية كاسحة عن احتلال العلويين للوظائف في كل مؤسسة أو دائرة حكومية في المدينة. توزيع الريعية المادية الناتجة عن الوظائف الرسمية في الدولة على أساس طائفي، ليس أمراً غير ذي أثر لدى هؤلاء المواطنين الذين كانوا يجدون أنفسهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة في “سوريا الأسد” إلى ما قبل سقوطه بيوم واحد.

الصراخ اليوم لدى أصدقاء علويين بأننا ذاهبون إلى الكارثة، وإلى شرخ اجتماعي وطائفي سوف يمتد لعشرات السنوات محق وصحيح تماماً، لكن الأكثر صحةً أنه لا الكارثة ولا مختلف أنواع الشروخ الاجتماعية والدينية والطائفية والإثنية ابتدأت في الساحل خلال آذار/مارس الماضي. بدأ هذا قبل نصف قرن وما زال مستمراً إلى اليوم، ويجب العمل فوراً على وقفه، لنتمكن، بعد زمن ربما ليس بالقليل، من القول إننا عائدون من الكارثة، ولسنا ذاهبين إليها.

أسهل حياة للفرد، عندما يتعلق الأمر بالخوض في القضايا العامة، هي السير ببلادةٍ مع قطيع ما، وتبني أفكار هذا القطيع مهما كانت ركيكة، دون طرح الأسئلة، ودون الشعور بالمسؤولية الوطنية، مع ما يرافق ذلك، من ضرورة رمي القطعان المنافسة أو المعادية بما بها وما ليس بها. ستجد قربك من سوف يصفق لك، دون أية توقعات إيجابية من قطعان الطرف الآخر التي ستشتمك بطبيعة الحال، ولن يشعرك ذلك بأي ضير ما دام الأمر صادراً عن الآخرين (الأشرار). إنه الموقع الذي لا أريده لنفسي، ولا أتمناه لأي سوريّ، خصوصاً أصدقائي.

حين أعود عشر سنوات للخلف وأذكر ما كنت أريده لسوريا، وما كانت تريده جبهة النصرة أو ما يريده أبو محمد الجولاني شخصياً لها، ثم أرى ما وصلنا إليه اليوم، فأنا أشعر أن الواقع أقرب الآن إلى حلمي عن سوريا من أحلام الجولاني، بل وأشعر أني منتصر أكثر منه، رغم أنه يقطن اليوم في قصر الرئاسة.

فأنا، كمواطن سوريّ، بقيت على الكثير من الثوابت التي أؤمن بها وتحقق جزء منها، أكثر مما فعل هو خلال تحوّلاته الحادّة ليغدو الرئيس أحمد الشرع. رغم ما يرافق ذلك اليوم من مخاضات عسيرة أهمها الفلتان الأمني في كثير من المناطق، الأمر الذي أخشى أنه متعمد وليس كما يُوصّفه البعض. ولكن هل أعني أن هذا هو النصر الذي كنت أريده لسوريا؟ لا إطلاقاً، ولكنه  النصر الذي سوف يفتح الباب السوري على غد مازلت مصراً أنه أفضل بعد كسر قفل أبد الأسد.

باختصار، هذا هو واقعنا اليوم بصورته الفجّة ودون تزيينات. نحن أمام كارثة وطنية مكتملة الأركان، ورثناها عن حقبة الأسدين، والمخجل المعيب أننا نتابع بها، وهذه مسؤولية السلطة الحالية. المطلوب منا، بل وليس أمامنا، سوى أن نبتكر لها حلولاً مستدامة، غير إقصائية، تخفف منها شيئاً فشيئاً، ليكون بالإمكان حلّها بعد سنوات، وإلا فإن مفاقمتها عبر انتهاج طريق الغلبة الطائفية، باعتماد سياسات مخاتلة وشكلية سوف تبقي الكارثة مشتعلة تحت رماد من نوعٍ ما. كارثةٌ ستظهر في التاريخ ثانية أمام الأجيال السورية الجديدة، هكذا قال التاريخ على الدوام، وهذا ما سيفعله بنا إن بقينا على غفلتنا.

تلفزيون سوريا

——————————

طائفيون بربطات عنق/ مالك داغستاني

2025.03.27

“بعض الصراخ العلمانيّ في الحالة السورية، هو في العمق سُعارٌ طائفي”. كتب هذا الاقتباس صديقي نبيل ملحم (كاتب معارض وسجين سابق، وعلوي. الصفة الأخيرة اضطررت لذكرها رغم أنها لا تُلحظ في سيرته الشخصية).

كنت لأستهجن وأعلّق غاضباً من كتابته تلك، لو فعلها قبل أربعة شهور، أما اليوم فقد وجدتها، على قِصَرها، عبارة ذهبية تكثّف ببراعة وذكاء حال البعض.

في شباط/فبراير 2022، نشرت منظمة العفو الدولية “Amnesty” تقريراً عن أفعال إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بصفتها ممارسات “فصل عنصري”. وصف المسؤولون الإسرائيليون التقرير بأنه معادٍ للسامية ” Anti-Semitism”. رفضت أغنيس كالامارد الأمينة العامة لإمنيستي الردود، ووصفتها بأنها “هجمات لا أساس لها وأكاذيب مكشوفة”. لاحقاً جادل المدافعون عن حقوق الإنسان بأن الانتقاد الإسرائيلي للتقرير كان بمثابة “تسليح” لمعاداة السامية، أي جعل المصطلح المُحق سلاحاً وهراوة لخنق النقاش، والسماح للأكاذيب الإسرائيلية بالبقاء والرسوخ دون منازع.

كثير من المعارضين العلويين، وآسف مسبقاً أنني سأستخدم كثيراً مثل تلك التوصيفات في مادتي هذه، كانوا يكررون على الدوام أن اضطهادهم في عصر الأسدين كان مضاعفاً، وهذا كلام دقيق بالتأكيد. فهم عانوا من نظام الأسد إضافة إلى معاناتهم من بيئاتهم المؤيدة، وتعرضوا للنبذ من تلك البيئات، وفي بعض الحالات من عائلاتهم، بسبب مواقفهم. ليتحول بعضهم اليوم، بأعجوبة ” miracle” كأنها سماوية، ويروا تلك البيئات مثل كل المجتمع السوري تناسباً عددياً، بريئة من مساندة الأسد ودعمه!

طبعاً هذه ليست دعوة لمحاسبة تلك البيئات لموقفها السابق، فهو من آفات الأسد التي زرعها في المجتمع السوري، وبالتأكيد لن تنجو طائفة ولا إثنية سورية من تلك اللعنات التي يجب معالجتها وتفكيكها. فالسُنّة، على سبيل المثال، لم ينتصروا على العلويين، بحسب بعض الادّعاءات المبنية على الأحقاد اليوم، وإنما انتصر السوريون على الأسد، حتى لو أن بعضهم لا يشعر بذلك. ولكن أن نصل إلى درجة ألا نجرؤ على قول الحقائق، ومنها حقيقة أن ما فعله فلول الأسد بتخطيطٍ مسبق، هو ما أشعل الساحل، وهو ما استجلب الرد، وهو رد إجرامي في الكثير من مناحيه دون شك، ألّا نجرؤ على قول ذلك خوفاً من هراوة تهمة الطائفية، فهذا أمر مبتذل وتسليح للمصطلح، يشبه ما كان يفعله الأسد عند اتهامه معارضية بإثارة النعرات الطائفية حتى لو كانوا لا دينيين.

لدي حادثة خاصة جرت معي صبيحة يوم مجزرة كرم الزيتون عام 2012 في مدينة حمص. كنت قد كتبت عنها قبل سنوات، وفي ذكرى المجزرة من كل عام أعيد نشرها على صفحتي الشخصية. فعلت هذا العام، كما كل عام، فتلقيت رسائل خاصة وعامة، تستبطن لومي على نشرها في هذا التوقيت. رسائل بدت لي وكأنها اتهامّية بأنني إنما أفعل ذلك لتبرير مقتلة الساحل. لكن في عمقها قرأتها كمطلب من السوريين بوجوب عدم الحديث اليوم عن مجازر الأسد، كي لا يتم التشويش على المشهد الحالي، الذي يرضي مظلومية جديدة.

لدى الصهيونية، لا يكفي أن تعترف بالهولوكوست، بل يجب عليك الاعتراف بكامل تفاصيله، بحسب الرواية اليهودية تماماً، حتى لو انطوت على مبالغات، وإلا فأنت “لاسامي”. وفي حالتنا حول مجازر الساحل، سوف تظهر أمام وجهك بطاقة حمراء، تهدد بإعدامك معنوياً، لو أنكرت ولو تفصيلاً بسيطاً، أو أنك لم تصادق على الرواية كما هي، حتى لو وجدت أن بها بعض المبالغات. فأن تقول إن هذه الصور هي لقصف إسرائيلي على البقاع بلبنان وليست في الساحل، فأنت تشكك بالرواية كاملة وتحاول التقليل من حجم المجزرة!

لماذا نخاف الحديث الواضح؟ لنلاحظ أنه في سياقات التحليلات الغربية عن سوريا، لا يمكن لأي باحث أن يغفل المسألة الطائفية في تاريخ سلطة الأسد، وغالباً يتم التطرق لها بإسهاب، ويتم تفكيكها حتى إحصائياً. واليوم التحليلات الغربية تحيل إلى مجازر الأسد وسياقاتها الطائفية تجاه السُنّة، كواحدة من أهم الأسباب التي دفعت لارتكاب الفظاعات ضد المدنيين الأبرياء في قرى الساحل العلوية. الغربيون يتحدثون عن الطابع الطائفي في حكم سوريا اليوم وأمس، وفي كل بحث ترد الأرقام عن عدد الضباط العلويين الذين يسيطرون على المفاصل الحسّاسة في الجيش والأمن، وهو من بديهيات أبحاثهم، ولن يغيّر من هذا وجود مسؤولين متنفذين من طوائف أخرى.

هنا تجدر الإشارة إلى أننا لم نسمع أي موقف غربي مندّد أو حتى سلبي على توصيف أسعد الشيباني وزير خارجية سوريا، حين استخدم في مؤتمر بروكسل تعبير “حكم الأقلية”. فالغربيون يعرفون “البير وغطاه” ولا يُغطّون الشمس بغربال، بينما قامت الدنيا ولم تقعد لدى بعض يساريينا وعلمانيينا، على هذه الجريمة الذي ارتكبها الشيباني، لنؤكد بسذاجة أننا نتقن لعبة الاختباء خلف إصبعنا. مع ذلك فالشارع السوري بشقّيه العلوي والسني، بفطرته، يعتبر هذا الأمر بمثابة مسلّمة يجاهر بها دون ارتداء أقنعة. أما لدى النخب فإن النقاش سوف يرتدي ياقة بيضاء مُنشّاة، ليتم التحايل على تسمية الأشياء بمسمياتها.

الاعتقال والقتل تحت التعذيب والمجازر الطائفية كانت تحدث على مدار عقود في سوريا، وبشكل وحشي فاضح خلال العقد الأخير. في ليلة واحدة صيف عام 2013، تم قتل أكثر من 1500 مدني سوري، أغلبهم نساء وأطفال، فيما عُرِف بمجزرة الكيماوي في غوطة دمشق الشرقية. البعض ربما لم يصدقها، وفي بعض الحالات صدقها، وقبل بها باعتبارها دفاعاً عن النفس (الطائفة). أما اليوم عندما وصلت نفس تلك الانتهاكات إلى عتبات بيوت أهله ومعارفه (طائفته)، فقد آلمته وبدأ الحديث عنها والصراخ لوقفها، ومع ذلك، هو صراخ محق دون أدنى شك، رغم أنه انتقائي.

طبعاً، وبالتأكيد يجب وقف تلك المجزرة، ومحاسبة مجرميها أمام العدالة بلا تمييز، لكن دون اعتبارها سابقة إبادية في تاريخ سوريا المكتظ بجرائم الأسد المتراصفة. وبالتالي، هذا لا معنى لإدانة من يتحدث عن المجازر الأخرى التي حدثت للسوريين الآخرين، طبعاً ما لم يكن بقصد تبرير المجازر الحالية. فهذا سياق تاريخي يجب أخذه بمجمله، وليس بالقطعة. عموماً، إنكار المجازر، رغم أنه يبدو ظاهرياً حالة معاكسة للمبالغة بأرقام وأحداث المجازر، إلا أنهما يتشابهان من حيث المفاعيل، كلاهما يسهمان في تغييب الرواية الحقيقية، أو على الأقل يؤديان إلى التشكيك بصحتها، وهذا لمصلحة المرتكبين.

بهدف عدم الدخول في أية حالة تعميمية، لا يجب أن يفوتنا هنا التأكيد أن مواقف البعض، لا تنفي وجود من كان يتكلم عن كل الجرائم بضمير حيّ، طوال فترة الأربعة عشر عاماً الماضية، وحتى ما قبلها، وما زال يتحدث حتى اليوم، وهؤلاء عانوا الهجوم من بيئاتهم على طول الخط. ولا بأس أن نذكر، أنه حين يكون المنتقد للصهيونية يهودياً، ويصعب وصفه بأنه معادٍ للسامية، فإن هناك مصطلحاً تحقيرياً بديلاً هو اليهودي الكاره لذاتهِ “self-hating Jew”، وفي الحالة السورية يُتَّهم هؤلاء من ذوي الضمائر الحية بما يشبه ذلك، من مثل أنهم يتلذذون بجلد الذات، وهذا لا ينطبق على المعارضين العلويين وحسب، بل أيضاً على المعارضين السنّة ممن يرون فيما حدث في الساحل مجزرة ومقتلة طائفية.

أفهم جيداً، أن نتعاطف مع الضحية في العراق أو لبنان، على سبيل المثال، أكثر من تعاطفنا مع الضحية الأبعد في رواندا. وهذه تبدو لي فطرة إنسانية من طبيعة الاجتماع البشري. ولكن ما هو غير مفهوم، عدم التعاطف مع الضحية من القرية المجاورة بسبب الجذر الطائفي المختلف لسكان تلك القرية، بينما، على العكس تماماً، نتعاطف مع مدينة أبعد بسبب الجذر الطائفي المماثل، وهذا الأمر ينطبق على الطوائف والأعراق السورية عموماً، وليس من اختصاص طائفة بعينها. هنا يجدر التأكيد أن تهمة الطائفية لا يجب أن تستخدم كغطاء لا لإدانة الجريمة ولا لتسويغها، لأن ذلك سيؤدي إلى تقليص التأثير لدحض المفهوم البغيض “العداوة الطائفية”، في الوقت الذي يتطلب الأمر دفاعاً قوياً متماسكاً لتفكيكه.

في مادتي، الأسبوع الفائت، لامني صديق، يعرفني ويعرف سيرة حياتي، لاستخدامي تعبير “أحداث الساحل” متسائلاً حول ما الذي كان يحكمني حين استخدمته! وهو بطبيعة الحال سؤال استنكاري لعدم تسميتها مجازر الساحل. ساءني الأمر بدايةً، وعدت للمادة لأتأكد، فلم أجد بها التعبير المذكور مطلقاً، بل استخدمتُ فيها، تعبيري “مجازر الساحل، والقتل الطائفي”، وفي مادتي الأسبق كنت فصّلت في الأمر أكثر. رددتُ أن ملاحظته غير صحيحة، وزدت على ذلك بأن وصفتُ سؤاله عما يحكمني بأنه سيء. أعاد الرجل القراءة واعتذر. لكني توقفت أمام اضطراري لمراجعة المادة ومحاولة تبرئة نفسي من استخدام تعبير، ليس من الجريمة استخدامه في سياقٍ ما، ما لم يكن ينفي أنها مجازر.

تالياً، وليس من باب الخوف من المسِّ بطهرانيةٍ لا أدّعيها، حزنت. لم أحزن لنفسي بل حزنت على صديقي، حيث بدا لي وكأنه يرفع في وجهي هراوة، تشبه تهمة معاداة السامية، لكن على نحوٍ طائفي. بيني وبين نفسي، تساءلتُ: أن يفوتكَ خلال القراءة شيء ما، فهو أمر مفهوم، أما أن تضيف لما قرأتَ أمراً لم يرد أصلاً في النص، فكيف لمثل هذا أن يحدث؟ مع ذلك لم أستحسن أن أسأله: بماذا كنت محكوماً، وأنت تقرأ مادتي؟

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى