أبحاث

«الديكتاتورية التقدمية» تلفيق يساري يعود مجدداً/ إيلي عبدو

يستعيد بعض اليساريين كل فترة مفهوم «الديكتاتورية التقدمية» وذلك في معرض نقدهم للأنظمة الحالية في العالم العربي، إذ يميزون بين هذه الأخيرة التي تحكم بالقمع والترهيب، وأخرى برزت في الستينيات، وقدمت إلى جانب التسلط والاستبداد إنجازات «تقدمية». وغالباً، ما يكون مثال اليساريين جمال عبد الناصر، الذي جمع بحسبهم «الديكتاتورية والتقدم» فمن جهة اكتظت السجون في عهده بالمعارضين، وعطلت الحياة السياسية، ومن جهة ثانية، بنى السد العالي وأمّم قناة السويس ونشر التعليم.

والإشادة اليسارية بهذا النموذج، بقدر ما تستبطن، حنيناً إلى «ديكتاتورية البروليتاريا» فهي أيضاً تستبطن، فصلاً بين الديمقراطية والتنمية، بمعنى أن الأخيرة يمكن أن تتحقق بمعزل عن تداول السلطة وحرية العمل الحزبي والصحافة. وتحققها، يمكن أن يؤمن للناس شرطا معيشيا جيداً، بحيث يحظون بفرص عمل وبمستوى اقتصادي مقبول نسبياً، لكن من دون أن ينتخبوا ممثليهم السياسيين ويحاسبونهم حال أخطأوا، أي أن الناس يسلمون أمورهم للأب الحاكم، ويتخلون عن أدوارهم، من انتخاب ومجتمع مدني ومجموعات ضغط وأحزاب سياسية وصحافة ورأي عام.

غير أن، ما ينعكس على حياة الناس، تحسناً اقتصادياً (حال حصوله فعلاً) عبر التنمية أو التقدمية، ليس سوى نتيجة جزئية لصورة أوسع بما يتعلق بعلاقة الديكتاتورية بالتنمية، ذلك أن، الأولى تستخدم الثانية في سبيل تثبيت نفسها وتوزيع المغانم على الناس لتضمن ولاءهم، وغالباً ما تعود نتائج خطواتها الاقتصادية المتسرعة، بالسلب على المجتمع، عبر تدمير طبقات وسطى كان يمكن أن تترسخ، وتشكل دعامة أي تغيير مقبل، وكذلك عبر تحويل الطبقات الفقيرة التي تزعم «الديكتاتورية التقدمية» العمل لأجلها وتحسين أوضاعها، إلى مادة جماهيرية للزعيم، تزحف لتأييده، وترجوه العودة عن استقالته الوهمية، بالاستعانة بالتعبئة وتخوين المختلف والإعلام الشعبوي الموجه. هؤلاء ليسوا جماهير «التقدمية» بقدر ما هم جماهير الزعيم، خصوصا أن «التقدمية» في الزمن الناصري، ليست كما هي الآن. آنذاك، كانت تعرّف نفسها سياسياً، بالسلب من «الرجعية» ومشاريعها في المنطقة، وهذا التعريف رغم جمعه بعدا اقتصاديا دعائيا، يتمثل بتحسين أوضاع الناس المعيشية، وعدالة توزيع الثروة، لكنه افتقر إلى ما هو اجتماعي، أي مخاطبة الحساسيات المختلفة، وتطوير الوعي تجاهها.

الناصرية «التقدمية» لم تخاطب مثلا النساء، أو الأقباط، انطلاقا من أوضاعهم السيئة في المجتمع، بل انطلاقاً من كونهم جزءا من مجتمع «تقدمي» واحد يحارب الرجعية، ويهدف لهزيمتها. بلغة أوضح، لم تخاطب، النساء من زاوية امتلاكهم وعيا نسويا وقضية منفصلة، ولا الأقباط، من زاوية مراعاة حقوق الأقليات. على العكس الحساسيات المجتمعية، ألغيت وتم محوها تحت عنوان «التقدمية» بدل أن تكون الأخيرة، حاملا لتحسين أوضاع الناس، انطلاقا من قضاياهم المتعددة وليس قضية واحدة، يستغلها الزعيم كستار وشرعية.

التقدمية التي يمثلها جناح واسع داخل الحزب الديمقراطي في أمريكا اليوم، والتي تخاطب حساسيات كثيرة في مجتمع الولايات المتحدة، من نساء ومسلمين ومهاجرين وسود ومثليين وأقليات أخرى، ساهمت في حرب غزة الأخيرة، في الضغط على الرئيس جون بايدن، لتسريع وقف إطلاق النار، بينما «تقدمية» عبد الناصر الأحادية، التي تهمل المجتمع وتسعى لتعليبه وقولبته بقضية واحدة، فقد أسفرت عن هزيمة وضياع أراض عربية. صحيح أن هناك اختلافا في السياقات، يعود لموقع أمريكا المؤثر في العالم، وطبيعة الظروف التي حكمت، كلتا المعركتين، في الستينيات وقبل سنة تقريباً، لكن الصحيح أيضا أن «تقدمية» «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» ضعيفة التأثير، مقارنة بتقدمية المعركة داخل المجتمع نفسه، وملاحظة قضايا جماعاته وأفراده ومعالجتها انطلاقا من شروطها، وليس انطلاقا من شرط عام. وعليه، فإن ديكتاتورا مثل عبد الفتاح السيسي، قد يكون أفضل من ديكتاتور مثل جمال عبد الناصر، ليس لأن الأول أقل ديكتاتورية، بل كونه مكشوفا وعاريا، لا يجمّل قمعه وسلطويته وترهيبه، بـ»التقدمية» على ما يحلو ليساريين كثر أن يفعلوا عند مقاربتهم حقبة «بطل» هزيمة 67. مع العلم أن الأول هو الابن الروحي للثاني، مع وضوح أكثر.

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى