مراجعات الكتب

المأساة السورية وليمة صحفية (قراءة في كتاب الأسد أو نحرق البلد)/ راتب شعبو

يختار الصحفي الامريكي سام داغر (ٍSam Dagher) عبارة (الأسد أو نحرق البلد) (Assad´-or-we burn the country) عنواناً لكتابه عن مجريات الثورة السورية التي اندلعت في مطلع 2011، ويشرح العنوان الشديد الوضوح، بعنوان فرعي يقول: (كيف قادت شهوة السلطة لدى عائلة إلى تدمير سورية)، How one family’s lust for power destroyed Syria.

سام داغر صحفي أميريكي غطى أحداث الشرق الأوسط لمدة 15 عاماً لصالح وول ستريت جورنال ونيويورك تايمز. وقد غطت تقاريره حرب الاحتلال الأميريكي للعراق كما غطت الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي. وهو أحد المرشحين لنيل جائزة بولتزر عن كتابه الذي نتناوله هنا، والذي صدرت طبعته الأولى في أيار/مايو 2019.

بدأ داغر عمله الصحفي من دمشق في تشرين الأول/أكتوبر 2012، وكان الصحفي الغربي الوحيد ذا الإقامة الدائمة في دمشق. قبل سبعة أشهر من مباشرته عمله الصحفي في دمشق، أي في شباط/فبراير 2012، كان صحفيان أميريكيان، هما ماري كولفين (Marie Calvin) وأنتوني شديد (Anthony Shadid)، قد قضيا أثناء قيامهما بمهامهما الصحفية داخل سورية، ولكن في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد. بعد حوالي سنة من بداية عمله في سورية، اعتقل داغر لفترة وجيزة في أحد أقبية المخابرات. كان حظه طيباً أنه خرج سليماً، فقد كان يمكن أن يخفوه في الأقبية أو أن يقوموا بقتله ونسب الفعل لإرهابيين آخرين، كما قال له أحد أصدقائه السوريين. صار داغر بعد ذلك عرضة للتهديد والوعيد، إلى أن طُرد من سورية في أواخر العام 2014، ووضعت “المخابرات” (يعرف داغر المخابرات بأنها “بوليس سري”، ثم يستخدم الكلمة العربية في كامل النص الانكليزي لغياب كلمة انكليزية تعطي المعنى والمحتوى النفسي المناسب) اسمه على القائمة السوداء. بعد ذلك فكر داغر بإنجاز كتابه هذا.

العبارة المستخدمة عنواناً للكتاب تكشف، بأربع كلمات، العمق المظلم لنظام الأسد في سورية “الأسد أو نحرق البلد”. تخطت هذه العبارة في غضون السنوات التسع الماضية، كونها صيحة “تشبيح” تهدف إلى التهديد والإرهاب، إلى كونها حقيقة عاشها ويعيشها السوريون حتى باتت العبارة تحرض في نفوسهم الشعور بمزيج من الإهانة العميقة والقهر وحتى الخجل.

كيف أمكن أن يحصل ما حصل؟ كيف يكون لكل هذا العنف الفاحش والعاري أن يجد له مكاناً في عصر الفيسبوك والتويتر واليوتيوب والفضائيات؟ كيف لضمير العالم أن يمرر مثل هذه المأساة المستمرة؟ ما هي الوصفة السحرية التي تجعل العالم يرى في مجرم يقتل محكوميه على مدى تسع سنوات، شريكاً ممكناً وحاجة ضرورية؟ هل يكون العالم عاجزاً إلى الحد الذي يجعل المبعوث الأممي لحل الصراع الدائر في سورية ستيفان دي ميستورا (Staffan de Mistura) يقول: “لن يكون هناك سلام إن أردتم العدالة والمحاسبة، عليكم أن تختاروا بين السلام والمحاسبة”؟

الحكم العائلي “يعانق السحبا”

يحاول داغر الإجابة على السؤال الذي يثبته كعنوان فرعي للكتاب: “كيف قادت شهوة السلطة لدى عائلة إلى تدمير سورية”؟ من خلال ثلاثة محاور الأول هو البحث في نشوء الحكم العائلي في سورية وتكريس العلاقة المتبادلة بين السلطة العائلية وطائفة الرئيس. والثاني هو البحث في التركيبة الشخصية والنفسية للوريث بشار الذي انتقل بسبب موت أخيه باسل في مطلع 1994، من هامش العائلة إلى المركز، ما جعل عقدة الهامشية وإثبات الذات، فاعلة في تحديد خياراته كرئيس في لحظة تهديد حكمه. والثالث هو المجال السياسي العالمي المختل إلى حد أنه يقبل المرض (الاستبداد العصبوي) للخلاص من الأعراض (التطرف والإرهاب وانعدام الاستقرار).

يستعيد الكتاب تاريخ تشكل حكم الأسد والعلاقة الوطيدة التي ربطت بين حافظ الأسد ومصطفى طلاس على أنها أحد أسس قيام وصمود نظام الأسد. مصطفى من عائلة ريفية متواضعة ينتسب إلى الكلية الحربية بوصفها معبراً ممكناً إلى تحسين المكانة الاجتماعية وربما إلى السلطة والمجد، والحال مشابه بالنسبة لحافظ الأسد. في 1953، يكون الرجلان في عداد أول صف يُقبل في كلية القوى الجوية التي أسستها الدولة السورية الفتية شمال مدينة حلب. كان الحديث السياسي محظوراً داخل الكلية (ذلك قبل أن يصبح الجيش الوطني ذراعاً عسكرية للحزب الحاكم)، مع ذلك اكتشف الرجلان تقاربهما السياسي “البعثي” ونشأت بينهما علاقة قامت أولاً على التقارب السياسي ولكنها استمرت فيما بعد على أساس المصلحة المتبادلة التي تؤمنها السلطة. شخصيتان مختلفتان ولكنهما متكاملتان. استقرت العلاقة على ولاء وثقة مطلقة من جانب طلاس للأسد، مع إدراك الأول للمضمون الحقيقي للسلطة التي يمثلها الثاني. لم يكن طلاس مخدوعاً بأن الأسد يعمل على رفع البعث وتحقيق غاياته، بل كان يدرك جيداً أن الأسد يؤسس لحكم عائلة، وأن السلطة هي الغاية الأولى والأخيرة وكان ولاؤه يقوم على هذا الإدراك، ومن هنا منبع قوة العلاقة وفاعليتها وديمومتها.

يستعرض الكتاب العلاقة السياسية والسلطوية والشخصية بين الرجلين: عناية طلاس بعائلة الأسد حين سجن هذا في القاهرة عقب حركة الانفصال في سورية 1961، وتكفل طلاس بنقل عائلة الأسد مع عائلته إلى سورية عبر البحر. محاولة الانقلاب الفاشلة في 1962 ثم سجن الأسد وطلاس، بقاء الثاني في السجن وخروج الأول بعد أيام قليلة، ثم تسريح الأسد من الجيش وتحويله إلى وظيفة مدنية في اللاذقية، ثم ولادة الابن الثاني لمصطفى طلاس (مناف)، وهو لا يزال في السجن، بعد وقت قصير من ولادة الابن الذكر البكر لحافظ (باسل). سيصبح مناف قائداً للحرس الجمهوري، ولكنه سيفشل في تكرار علاقة طلاس/الأسد مع الأسد الوريث، فيما سيقضي باسل في حادث سير بعد أن كان جاهزاً لخلافة أبيه.

الولاء والثقة المطلقة التي أولاها مصطفى لحافظ جعلته يقدم، بتوجيه من الأخير، على محاكمة وقتل منافسين سياسيين مثل سليم حاطوم وبدر جمعة حال عودتهما إلى سورية عقب هزيمة 1967، وجعلته يعمل يداً بيد مع الأسد على عزل صلاح جديد عن طريق إبعاد الضباط الموالين له في الجيش. والأهم أن مصطفى كان جاهزاً للتوقيع على آلاف أحكام الإعدام الميدانية بحق من اعتبروا عناصر لحركة الأخوان المسلمين في سورية. المرة الوحيدة التي تعكر فيها قليلاً جو الود بين الرجلين كان فيما يخص موافقة حافظ على الميزانية العسكرية الهائلة التي طالب رفعت بتخصيصها لسرايا الدفاع، وذلك على خلاف رأي مصطفى الذي ذهب إلى موسكو لوقت قصير كنوع من التعبير عن الاحتجاج، ولكن في 1984 كان مصطفى جاهزاً للوقوف بحزم مع حافظ في وجه أخيه رفعت.

بعد موت الأسد الأب، كان طلاس يمثل الحضور القوي لحافظ في غيابه، حين قاد عملية التوريث. “كان على مصطفى الذي بلغ الثامنة والستين قبل شهر، أن ينفذ وصية حافظ: انقل السلطة التي عملنا لها طوال حياتنا إلى بشار. وكان حافظ قد أجل تقاعد مصطفى بمرسوم استثنائي واحتفظ به وزيرا للدفاع كي يرعى نقل السلطة لبشار .. فقد استدعى مصطفى كبار الضباط إلى مكتبه واقترح عليهم ترفيع بشار إلى مرتبة القائد العام للجيش: موافقتكم تعني أنكم ستحافظون جميعا على امتيازاتكم غير منقوصة. أرجو ممن يعترض أن يغادر الآن من هذا الباب. قال مصطفى مشيرا إلى باب خلفي كان قد وضع عليه جنوداً مزودين بأمر إطلاق النار وقتل كل من يخرج من الباب. لم يخرج أحد”.

وكان طلاس الأب قد نصح بشار: “إذا شئت أن تستمر في الحكم عليك أن تزرع الخوف في نفوس الآخرين”، هذه النصيحة التي لا شك أن بشار سمعها مراراً من أبيه، وأضاف عليها: “وعليك أن تقتل فيهم أي أمل في التغيير”.

أثر التكوين الشخصي لبشار

ما كان يمكن لمناف طلاس أن يكون لبشار كما كان مصطفى لحافظ. العلاقة مختلفة في نشأتها وفي طرفيها. مناف في الأصل صديق لباسل الأسد وليس لبشار الذي يصغره بعامين، والذي كان لظروف نشأته وطبيعته الشخصية دور مهم في طريقة معالجة الحدث الأول في درعا ثم في معالجة تداعيات ذلك الحدث.

يكرس الكاتب جزءاً من عمله للبحث في شخصية بشار الذي كان مُهمَلاً من الأب ومقموعاً من اخته البكر وأخيه الأكبر اللذان كانا في موقع التقدير الأعلى في العائلة. لذلك كان لدى بشار مشاكل شخصية عديدة مثل الانعزال والخجل وتقلب المزاج والعجز عن بناء الصداقات، “يكون صديقك في بداية السنة ثم يقطع علاقته بك في نهاية الفصل ويتظاهر أنه لا يعرفك”، يقول أحد زملائه في الصف، ويضيف: “لم يكن يميل إلى مساعدة أحد، أو تقاسم شيء مع أحد، حتى ولو قطعة من الشوكولا”.

الشعور القديم بالهامشية يدفع بشار، وقد أصبح رئيساً، إلى إثبات الذات على نحو مبالغ فيه. بالنسبة له فإن قوة حضور أبيه وأخيه البكر كانت وحشاً يتوجب عليه أن يقتله كي يثبت نفسه. “أريد أن ينسى العالم باسل وأبي – أنا أستطيع أن أحقق ذلك”، أسرّ مرة لمناف طلاس. وينقل فنان سوري كان على علاقة ببشار أن هذا الأخير كان ينفر من الذين يقولون له حين يلتقونه “رحم الله أباك”، فهو يرى في ذلك استمراراً للتهميش ولكسوف صورة الابن أمام صورة الأب. قد يكون في هذا تفسير للازدواجية التي يعرضها بشار بين الطيبة الظاهرة وإضمار الاحتقار للناس، كما بين الواجهة الحضارية والعمق الهمجي. كان يمكن لهذه الازدواجية أن لا تظهر لو لم يصل هذا الرجل إلى الموقع الأول في سلطة مبنية على العنف والتمييز.

يرصد الكاتب تغيرات في شخصية بشار بعد عودته إلى سورية إثر وفاة باسل ثم بدء إعداده لخلافة أبيه وبدء احتكاكه مع العسكر والمخابرات. من التغيرات وصوله إلى قناعة تتعارض مع الصورة الحضارية التي جرى الترويج لها في شخصيته، قناعة عبر عنها في وقت مبكر (1995) لأصدقائه الذين باتوا أكثر تلهفاً لمعرفة ما يدور في رأس “ولي العهد” من أفكار: “لا توجد طريقة أخرى لحكم مجتمعنا سوى بإبقاء الحذاء على رؤوس الناس”.

سيكون مناف طلاس المحور الأساسي في الكتاب، بوصفه جزءاً من القصر الذي انقسم إزاء الثورة بين أشداء وليّنين، بين بطشيين وتفاوضيين راحوا يتنافسون على كسب الأسد الذي كان ينوس بين الطرفين، كما كان يخال مناف قبل أن يكتشف أن الوريث في الأساس هو صاحب خيار الحسم الأمني العسكري، ولكنه كان يجيد التمويه والتواجد في الأرض الفاصلة بين المعسكرين أو حتى الظهور أقرب إلى التصالحيين. قبل هذا الاكتشاف كان مناف يرى أن بشار خاضع لتأثير المتشددين ضمن الدائرة الضيقة (أمثال ماهر الأسد وحافظ مخلوف) الذين أفسدوا أول مسعى تفاوضي قام به، بطلب من بشار، موفق القداح (رجل أعمال من أبناء درعا، وله مشاريع مشتركة مع رامي مخلوف ولكن له احترام وتقدير لدى الأهالي)، بين المعتصمين في الجامع العمري في درعا وبين النظام في 22 آذار 2011. فقد وافق المعتصمون، بعد ساعات من التفاوض، على مغادرة الجامع بشرط الإفراج الفوري عن كل المعتقلين منذ 18 آذار ومعرفة مصير المفقودين. وما أن اتجه قداح ومرافقوه لنقل الاتفاق إلى خلية الأزمة في الجانب الآخر من المدينة، حتى عم الظلام المدينة فجأة وقطعت خدمة الانترنت عنها، وعلا صوت الرصاص، ثم خرج نداء من الجامع عبر مكبرات الصوت: “يا أهالي درعا أنجدونا، إننا نتعرض للقتل”. جرح في تلك الليلة الكثير من المعتصمين وقتل ثمانية منهم على الأقل، بينهم طبيب جاء للنجدة في سيارة إسعاف.

كما أفسد المتشددون وساطة أخرى مع أهالي دوما قام بها مناف طلاس، أيضاً بطلب من بشار. فقد استقبل بشار، بعد وساطة مناف، وفداً من أهالي دوما وقدم لهم التعازي وأخبرهم أن كل من قتل سيعتبر شهيداً وسيعوض على عائلاتهم، كما سيعالج الجرحى على نفقة الحكومة وسيجري تحقيقاً فيما جرى ويعاقب المرتكبين. وقال إنه سيلتقيهم في غضون أسبوع، ولكن بدلاً من مقابلة بشار بعد أسبوع، وجد هؤلاء أنفسهم تحت التعذيب في أقبية المخابرات.

الازدواجية نفسها مارسها بشار مع أنصاره قبل الثورة، فقد عين مثلاً محمود سلامة، وهو شخصية لها بعض الاستقلالية، رئيساً لتحرير جريدة الثورة، وقال له اكتب ما تشاء وبلا حدود. وحين فتح سلامة الجريدة لكتاب ديموقراطيين معارضين أو غير موالين، أُجبرته المخابرات على الاستقالة، ولم ينفع الرجل تكرار القول “أقسم بالله، إن الرئيس قال لي أن أنشر ما أريد”. بعد ذلك بفنرة قصيرة توفي سلامة بأزمة قلبية.

نجد الازدواجية كذلك مع الزوار الخارجيين. كان أمير قطر مثلا قد أرسل ابنه تميم بعد فترة وجيرة من اندلاع الثورة السورية واعتماد الحل الأمني تجاهها. رجا الضيف من بشار أن لا يمضي أكثر في خيار العنف، واعداً بالمزيد من الدعم المالي. كان رد بشار إن الأمور ليست بهذا السوء الذي يتصوره، وبعد ذلك (نيسان، أيار) شن حملة عسكرية على المناطق الثائرة. ثم جاء الاقتراح القطري التركي بموافقة أميريكية: اكبح المخابرات وقوى الأمن وجهز لانتخابات تعددية وسوف ندعمك في هذه الانتخابات، أصغى بشار باهتمام وبدا راغباً في الأخذ بالنصيحة، ولكن أفعاله لم تكن تصالحية بأي شكل. “لا نريد أن نقابل أناس لهم توقعات ومطالب عالية وغير معقولة. لا نريد أن نلزم أنفسنا بوعود لا نستطيع تنفيذها”، قال بشار لمناف. يقول بشار إذن إننا لا نريد أن نتخلى عن السيطرة التامة. هذا هو الأساس الذي جعل المسار الكارثي يشمل سورية، الأساس الذي يلخصه عنوان الكتاب “الأسد أو نحرق البلد”.

قد يعتقد البعض أن بشار مغلوب على أمره أمام تشدد المتشددين الأقوياء في نظامه، كما اعتقد مناف وتجرأ، بفعل قناعته هذه، أن يعرض على بشار استعداده لتنفيذ انقلاب واعتقال ماهر الأسد وحافظ مخلوف، على أن يكون بشار معه، فكان رد هذا الأخير: “مشكلتك أنك لين أكثر مما يجب”. الواقع كان خيار المواجهة العنيفة متخذاً قبل أن تصل موجة الثورات العربية إلى سورية، كما كشف منشقون عن النظام شاركوا مع أعلى مستويات اتخاذ القرار، في مناقشة الرد على التحرك الشعبي المتوقع حدوثه في سورية. وكان قرار النظام بعدم التراجع أمام المتظاهرين متخذاً، استناداً إلى أن تراجع النظام سيقود إلى المزيد من المطالب وتعزيز قوة الحراك ما سيؤدي إلى “سقوط النظام”. لذلك دخل النظام المعركة على أنها معركة حياة أو موت.

على سبيل المثال، هل كان عزل عاطف نجيب (ابن خالة بشار ورئيس فرع الأمن السياسي المسؤول عن اعتقال وتعذيب أطفال درعا الذين كتبوا على الجدران “إجاك الدور يا دكتور”) ومحاكمته والإفراج عن الأطفال والتعويض لهم ومواسات عائلاتهم، سوف يضع حداً لاحتقان الناس ورغبتهم في الخلاص من النظام؟ رغم افتراضية السؤال، ورغم أن الكثيرين يعبرون عن قناعة بأن الأمر كان سينتهي عند ذلك الحد، نرجح أن البديل الوحيد عن المسار الكارثي الذي تحقق في سورية، هو أن يقبل النظام طوعاً الدخول في مسار تغيير حقيقي ينتهي بتفككه، على الطريقة التي شهدها النظام السوفييتي في عهد ميخائيل غورباتشيف (1985-1992). مع ذلك يبقى لدى بشار ودائرته اللصيقة ومسؤوليه الأمنيين والعسكريين قلق وخوف من الشارع لم يكن لدى القيادة السوفييتية التي اتخذت مسار البيريسترويكا.

الديموقراطيات تحب وتحابي الأقوياء بدلاً من محاسبتهم

في التعامل مع ثورة 2011، لم يقرأ نظام الأسد الابن في كتاب حماة فقط بل وفي كتاب العلاقة مع الغرب أيضاً. في 1984 أصبح فرانسوا ميتيران (Francois Mitterrand) (صديق صهر طلاس أكرم عجة) أول رئيس فرنسي يزور سورية منذ استقلالها. ومن دمشق أنكر ميتيران أن يكون لسورية صلة باغتيال السفير الفرنسي في لبنان 1981، أو بتفجير القاعدة الفرنسية في بيروت بعد عامين حيث قتل 58 جنديا فرنسياً، أو بالعديد من عمليات الاغتيال التي طالت معارضين سوريين في فرنسا وأوروبا. “لا شيء يثبت مسؤولية سورية، وطالما أن الرئيس الأسد يؤكد أن لا علاقة لسورية في ذلك، لا أرى ما يدعو للشك في كلامه”. كان لدى الحكومة الفرنسية أدلة عن تورط النظام السوري في هذه العمليات، ولكن ميتيران تغاضى عن كل شيء وذهب إلى دمشق بأمل تخفيف التوتر وتحقيق تعاون مع الأسد لكبح موجة العنف التي كانت تطال فرنسا ودولاً أوروبية أخرى على يد جماعات راديكالية في الشرق الأوسط. العبرة إذن هي أن استهداف الدول الأوروبية يجعلها تحابيك كي تأمن جانبك.

نجحت هذه السياسة حتى مع أميريكا عقب احتلالها العراق، ثم انخراط نظام الأسد في دعم الجهاديين في العراق، فقد وجد الأميريكان من دراسة الوضع في العراق في نهاية 2006 أنهم في مأزق وأن الأفضل لهم التعاون مع سورية وإيران، وهذا أبعد سيف مقتل الحريري عن رقبة بشار. الشيء نفسه حصل عقب دعم التحول الإسلامي في الثورة السورية والعمليات الجهادية التي استهدفت فرنسا التي كانت رأس حربة العداء لنظام الأسد.

في العلن ظل الموقف الأميريكي والأوروبي مضاداً للأسد، ولكنه في الحقيقة لم يكن كذلك، وهذا ما دفع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف لوصف الغرب الذي يطالب بعزل بشار بأنه منافق. بدت اللوحة منذ 2014 كما لو أن هناك تقسيم عمل بين الولايات المتحدة التي تفرغت لمحاربة “داعش”، والنظام الذي تفرغ لمحاربة المناطق الثائرة.

الأداة الإسلامية ذاتها التي تبقى صالحة للاستخدام على طول الخط، والتي لها مفعول السحر فتجعل اليمين واليسار الأوروبي يكررون مع البرلمانية الفرنسية فاليري بوير (Valerie Boyer) التي زارت سورية في 2016، والتي أصبحت لاحقاً متحدثة باسم الجمهوري فرانسوا فيون (Francois Fillon)، المرشح الرئاسي (2017): هل تفضلون التحدث مع داعش أم مع بشار؟

وقع الكتاب في النفس السورية

قد لا يضيف الكتاب كثيراً إلى من تابع الصراع في سورية منذ بدايته، وإن كان يغني القارئ بتفاصيل وأضواء على زوايا “من داخل القصر”، ليست في متناول عموم المتابعين عادة. يستفيد الكاتب من لقاءات مع شخصيات قريبة من رأس الهرم. ورغم أنه لا يستسلم تماماً لروايات محدثيه “القصريين” إلا أن رواية هؤلاء تشكل النسيج الأساسي للكتاب ولا يعدّلها سوى شيء من التحفظ الطفيف من قبل الكاتب. منظور هؤلاء الرواة، إضافة إلى النزعة الصحفية الأمريكية التي تبالغ في دور الفرد ودور النازع الشخصي في تفسير الحدث، فيبدو المحامي السوري مازن درويش ثائراً لأن أباه كان معتقلاً في زمن الأسد الأب، ويبدو الفنان السوري خالد الخاني كذلك لأن أباه قتل على يد نظام الأسد الأب في حماة 1982، كل هذا يساهم بنسبة كبيرة في تحديد الصورة العامة للعمل.

لا يخفي الكاتب موقفه، فهو ينحاز، دون استدراك، إلى قضية الشعب السوري الساعي للتحرر من سيطرة عائلة حاكمة، فخخت المجتمع من خلال تغذية عصبيات لا تتوافق مع الوطنية السورية. ويبدو جهد الكاتب واضحاً في السعي إلى معرفة وفهم تطور الحدث منذ بداياته وإلى تلمس حساسيات المجتمع السوري والاستثمار السياسي فيها لجهة تأجيجها وتوظيفها. مع ذلك تشعر خلال قراءة الكتاب أن الكاتب يحيل المأساة السورية إلى رواية للقراءة يحضر فيها الحوار “الروائي” والوصف المستفيض، ولاسيما للأماكن الراقية، والذي سوف يبدو للقارئ متنافراً مع الحدث، أو قد يبدو تقليلاً من التركيز على الحدث. لا تستطيع أن تهرب من الشعور بأن متطلبات القارئ الغربي تحكم العمل أكثر من أي شيء آخر، بحيث يؤلمك أن تتحول مآسينا إلى “روايات” صحفية خارجية عن واقع فظيع ولكنه يبقى واقع “آخر”، روايات مصنوعة لتسلية قراء أميريكيين تدغدغ لديهم الإحساس بالعلو فوق هذا النمط “المتخلف” من المآسي التي تبدو كأنها مجرد ولائم للصحافة ومناسبات للجوائز.

——————————-

الأسد أو نحرق البلد: كيف دمرت شهوة عائلة واحدة للسلطة سورية؟/ محمد فاروق الإمام

لم يكن يدر في خلدي في لحظة من اللحظات أن يكون شعار (الأسد أو نحرق البلد) الذي واجه به نمرود الشام بشار الأسد انتفاضة الشعب السوري المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، أقول إنه لم يدر بخلدي أن يكون هذا الشعار سيجسّد عنواناً لكتاب يحكي مأساة الشعب السوري التي عاشها ولا يزال على مدار نصف قرن ويزيد بكل فصولها الأليمة السوداوية الحزينة المخضبة بالدم المهراق من أجساد السوريين.

كتاب (الأسد أو نحرق البلد) خطّته يدي صحفي أمريكي هو الكاتب “سام داغر”، مراسل صحيفة وول ستريت جورنال، الذي زاول مهنته ‏في سورية بين العامين 2012/2014، واعتقل من قبل السلطات السورية، ثم أطلق سراحه وأخرج ‏من البلاد، وكان شاهداً على الكثير من القتل والدمار والجرائم التي ارتكبت في هذا البلد المنكوب.

كتاب (الأسد أو نحرق البلد الصادر في منتصف العام 2019 بالإنجليزية لم يترجم حتى الآن، وكما هو واضح مزيج ‏من التاريخ والبحث الاستقصائي والاجتماعي، والصحافة والأدب، والتجربة الشخصية.

وكان المصدر الرئيس لروايته للأحداث القريبة كانت معايشته وخبرته، وكذلك لقاءاته المطولة مع العميد ‏في الحرس الجمهوري “مناف طلاس” الرفيق القريب والحميم من بشار الأسد إلى حين انشقاقه عن ‏النظام في الخامس من تموز/ يوليو 2012‏.

أهمية الكتاب أنه لا يكتفي بتقديم صورة بانورامية شاملة لوقائع الثورة السورية التي انطلقت في 15/18 آذار/‏مارس 2011 ، والتي استطاع أن يغطيها صحفيا حينما كان في سورية، وإنما أيضا بشمول هذا ‏العرض لجذور الصراع، وبذور الطائفية والاستئثار الذي طبع نظام عائلة الأسد، وتركيب هذه ‏العائلة وتحولاتها، ولمسار الأسد الأب باتجاه السلطة منذ وقت مبكر، وما ارتكب في هذا المسار ‏من جرائم ومجازر وتصفيات بحق السوريين جميعهم، ثم تسليطه الضوء على حالة التخادم بين هذا ‏النظام وأركان النظام الدولي بتجلياته الأوربية والأمريكية والروسية والصهيونية، سواء زمن حكم ‏الأب الممتد لثلاثين عاما، أو حكم الابن الذي جاء الى السلطة بالصدفة بعد مصرع أخيه باسل، ‏وقد مضى عليه في السلطة عشرون عاما. وكيف أن أركان النظام الدولي هؤلاء اجتمعوا على أن ‏الحفاظ على نظام الأسد فيه مصلحة عميقة لهم، وأن دور هذا النظام داخل سورية وفي محيطها ‏الإقليمي بالغ الأهمية لهم.

ويسلط الكتاب الضوء على دور النظام في توليد المنظمات الإسلامية المتطرفة، وذلك حين أطلق ‏قادتها من سجونه، لينطلقوا إلى تشكيل تنظيماتهم، والدور الروسي والإيراني في المأساة السورية، ‏وكذلك دور الولايات المتحدة وحلفائها.

وإذا ما أردنا الولوج إلى أعماق هذا الكتاب نذهب إلى الحوار الذي أجرته صحيفة ميسلون مع الكاتب والصحافي سام داغر مؤلف الكتاب المهم “الأسد أو نحرق البلد؛ كيف دمرت شهوةُ عائلة واحدة للسلطة سورية” الذي صدر في أواخر أيار/ مايو 2019، عن دار النشر الأميركية (Little Brown and Company)، والذي يقع في نحو 600 صفحة، وفي ما يأتي نصّ الحوار:

كان هدفي الرئيس هو التأكد من ألّا يتم طمس أو نسيان جوهر هذه القصة؛ شعب ينتفض من أجل الحرية والكرامة ضد أحد أكثر الأنظمة وحشية وقمعًا في العالم، بوساطة حملة متعمدة وممنهجة ومنظمة من قبل نظام الأسد وداعميه لتغيير التاريخ، وإنكار الحقائق، ونشر الأكاذيب والمعلومات المضلِّلة حول ما يحدث في سورية منذ عام 2011. للأسف، ساعدت الحكومات ووسائل الإعلام الغربية النظام وداعميه في هذا العمل، عن طريق التركيز أحادي الجانب على تنظيم (داعش) والجماعات الإسلامية المتطرفة في القصة السورية، متناسين في كثير من الأحيان أن النظام وجماعته كانا الدافع لهذه الحركات جميعها.

أعتقد أن شعار “الأسد أو نحرق البلد” يجسِّد عقلية وأسلوب حكم هذه العائلة، منذ وصولها إلى السلطة في عام 1970. إنه يجسِّد الطريقة التي يعمل وفقها هذا النظام، داخليًا وخارجيًا. أعتقد أن كلمة “حرق” ليست مجرد حرق أو تدمير بالمعنى الحرفي للكلمة، بل هي في الأحرى أقرب إلى فكرة إلحاق الألم وغرس الخوف عندما يتحدى أو يهدِّد أو يقف أي شخص في طريق هذه الأسرة والنظام. يمكن التفكير في الأمر كما لو أنه الطريقة التي ستعمل بها منظمة إجرامية على غرار المافيا أو جماعة مثل كوزا نوسترا Cosa Nostra في صقلية أو كامورا Camorra في نابولي: من أجل الحفاظ على قبضتهم وغرس الذعر في قلوب الناس، عليهم أن يظهروا بأكثر الطرق المروعة والعلنية ما يمكن أن يكون ثمن أي تحدٍّ لهم أو اعتراض عليهم.

قام حافظ بتعذيب وقتل وإخفاء عشرات الآلاف من السوريين في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي لدعم هذه الفكرة: إما أن تخضع لي ولحكمي خضوعًا تامًا أو ستُسحق. اعتمد النهج ذاته عندما واجهته بعض الفصائل اللبنانية والحكومات الغربية في لبنان. تم إلحاق الألم المباشر بالشعب اللبناني، وغير المباشر بالحكومات الغربية، من خلال الميليشيات الوكيلة والمنظمات الإرهابية. كانت هذه رسالة حافظ: إما أن تسمحوا لي بحكم لبنان أو سأسبب الكثير من المعاناة في لبنان وخارجه.

الفكرة ذاتها اعتمدها بشار الأسد عندما رعى الإرهاب في العراق ولبنان وما هو أبعد منهما قبل عام 2011. لقد أراد أن يوصل هذه الرسالة: إما أن تتوقفوا عن تهديد حكمي ومصلحتي أو سيعاني الكثير من الناس. وبالطبع كانت فكرة “الاستسلام أو الاحتراق/ الموت” مبدأ بشار منذ بداية الثورة. لم يرغب الناس في الخضوع كما حدث في عهد حافظ، لذلك كانت العواقب وخيمة.

نعم، أشار لي الكثير من السوريين إلى هذا: احترق البلد وبقي الأسد. للأسف هذا صحيح عندما نفسر الشعار حرفيًا على أنه يعني موت مئات الآلاف وتدمير مدن وبلدات بأكملها. لكني أعتقد أن هذا الشعار المشؤوم يتجاوز معناه الحرفي. إنه شعار نظام الأسد ومبدؤه منذ نشأته، ومن ثمّ سيبقى للأسف حاضرًا ما بقي هذا النظام في السلطة.

2–أشرت في كتابك إلى أن بشار الأسد تمكن من البقاء حتى الآن، مع كل ما عانته وتعانيه سورية اليوم من دمار وقتل، عبر تطبيق قواعد “دليل الإرهاب” التي كانت أساس حكم عائلته لسورية، ومن ثم قام بشار الأسد بدلًا من الديمقراطية والتحديث، بنوع من “التحديث السلطوي”، أي توسيع دائرة الدولة البوليسية، على الرغم من أن بشار الأسد كان يمثل في البداية بارقة أمل لكثير من السوريين بوصفه رئيسًا شابًا ومنفتحًا.

من خلال متابعتك للنظام السوري على مدار نصف قرن، هل هناك فروقات بين نظام حافظ الأسد ونظام بشار الأسد، خصوصًا من حيث التعاطي مع المعارضين أولًا، وطريقة حكم البلد ثانيًا، والسياسة الخارجية ثالثًا؟

أعتقد أن جوهر وبنية النظام هي نفسها في عهدي الأب والابن، وقد تجلى ذلك في الطريقة التي واجها بها التهديدات والتحديات الداخلية والخارجية كما أوضحت في إجابتي عن السؤال الأول. أعتقد أن الاختلافات تكمن في الأسلوب والأدوات المستخدمة لإدامة حكم النظام والأسرة. ركز حافظ بشكل أكبر على روافع السلطة الكلاسيكية مثل الجيش والأجهزة الأمنية وحزب البعث. بالطبع كان يتحكم في كل شيء، لكنه أراد أن يعطي الانطباع بأنه كان يحكم بالإجماع من خلال ومع مجلس من الأعضاء على النمط السوفياتي مثل مصطفى طلاس وعبد الحليم خدام ورفعت الأسد (قبل نفيه) وعبد الله الأحمر وعلي دوبا وشفيق فياض وأمثال هؤلاء. أصبح النظام أكثر طائفية في أثناء وبعد التحديات التي واجهها حكم حافظ في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، لكن حافظ استمر في بذل جهده لإعطاء الانطباع بأن نظامه غير طائفي، وأن مساعديه السنة يتمتعون بسلطة حقيقية، على الرغم من أن ذلك لم يكن صحيحًا. من الناحية الشكلانية، كان حافظ ينتمي إلى قالب الديكتاتوريين التقليديين في عصره. علاوة على ذلك، كان ذا طبيعة تقشفية، ويتمتع بالصرامة والزهد –لا ملامح لونية أو ذوقية لديه. باستثناء وريثه باسل، كانت زوجته وأطفاله الآخرون بالكاد معروفين للشعب السوري.

عندما ورث بشار السلطة، كان النظام مصممًا على إعادة إنتاج وتسويق نفسه. إنه من النواة القاسية نفسها أو القرص الصلب ذاته، ولكن بمظهر خارجي لامع وبراق. كان هذا واضحًا جدًا في طريقة تقديم بشار وأسماء للسوريين والعالم. كان التركيز دائمًا على تصويرهما كزوجين عصريين مهتمين بالتكنولوجيا، جميلي اللباس، أنيقي المظهر دائمًا، ولديهما أفكار تقدمية للغاية حول الاقتصاد والأعمال والتعليم، ولكن بالطبع داخل حدود النظام وبحسب قواعده. من حيث أدوات ورافعات السلطة، استُبدل أعضاء الحزب من النمط السوفياتي في الحزب والجيش (أو الحرس القديم كما أطلق عليهم بشار نفسه)، بأفراد من العائلة، وهم كادر جديد من ضباط المخابرات وشركاء الأعمال والمعاونين. تضم هذه الدائرة أسماء وماهر ورامي (قبل أن يفقد حظه) وآصف (قبل مقتله) ومجموعة من رجال الأعمال والشركاء السنة الذين يدخلون ويخرجون إلى هذه الدائرة بحسب الظروف. لقد أثبت بشار باستمرار أنه أكثر قسوة من والده في ملاحقته، وغالبًا ما يقضي جسديًا على، أي شخص في دائرة السلطة هذه يجرؤ على تحديه أو تهديده. هذا مهم جدًا بالنسبة إليه شخصيًا أن يفهم الناس أنه أكثر صلابة وقسوة من والده؛ ليخافه الناس أكثر.

3-ذكرت في كتابك أن ردّة فعل بشار الأسد على أطفال درعا، كانت بناء على نصيحة أخيه ماهر وابن عمه حافظ مخلوف، بمضاعفة القمع، وبإطلاق سراح الإسلاميين من سجونه، أولئك الذين شجعهم في وقت سابق على محاربة الأميركيين في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، لكنه سجنهم فيما بعد عندما عادوا إلى ديارهم.

الحقيقة، كانت هذه الطريقة في التعاطي مع الواقع السوري خطرة، ويمكن أن تأتي بنتائج عكسية، ما العناصر التي جعلت النظام مطمئنًا للسير في هذا الطريق؟ ألم يكن يخشى فعلًا سيطرة الإسلاميين؟ من جانب آخر، ألم يكن في مصلحة النظام إجراء بعض الإصلاحات المقنعة للسوريين، ومن ثم الظهور بمظهر البطل الذي يقود الإصلاح، أم أن أي إصلاح حقيقي من شأنه أن يؤدي إلى انهيار النظام فعليًا؟

أعتقد أننا يجب أن نفهم أنه في بداية الثورة والأحداث في درعا كان هناك معسكران من الناس في دائرة سلطة بشار: أولئك الذين ينادون بالحوار مع المتظاهرين وإجراء بعض الإصلاحات الحقيقية، وأولئك الذين يدعون إلى سياسة الأرض المحروقة، ولا حل وسط على الإطلاق. كان بشار يستمع إلى كلا المعسكرين، وفي النهاية يتخذ القرار بنفسه ما إذا كان سينخرط ويُحاور أو يسحق ويدمر. في بعض الأحيان، كان بشار يعمل بالطريقتين معًا، كوسيلة لكسب الوقت والمماطلة، كما هو الحال عندما التقى بممثلين ووفود من مختلف المجتمعات المتمردة في وقت مبكر، أو عندما سمح لبعثة جامعة الدول العربية بالمجيء إلى سورية، بينما استمر في العنف والقتل في الوقت نفسه.

أولئك المحيطون ببشار الذين لم يؤمنوا بالتسوية وأرادوا سحق كل معارضة، خاصة المعارضة السلمية، كانوا يفعلون كل شيء للكذب وتغيير الحقائق لتقديم الانتفاضة منذ البداية على أنها بقيادة متطرفين إسلاميين مدعومين من قوى خارجية. كما كانوا يقولون لبشار طوال الوقت: “الأمر لا يتعلق بالإصلاح، حتى لو شرعت في إصلاحات، فلا يهم لأن هؤلاء الناس يريدون قطع رأس النظام والتخلص منك، هذه حالة إما نحن أو هم”.

كان إطلاق سراح الإسلاميين من السجون إحدى طرق النظام لتسميم الثورة، مثل طرقه الأخرى القائمة على الأكاذيب والمعلومات المضللة التي نشرها، والقتل المستمر للمتظاهرين السلميين. عندما شكل هؤلاء الإسلاميون الذين أطلق سراحهم مجموعات مسلحة وبدؤوا بالحصول على دعم دول مثل قطر والمملكة العربية السعودية وتركيا، يمكن للمتشددين حول بشار أن يلجؤوا إليه ويقولوا: قلنا لك ذلك. لقد أعطى ذلك بشار والمتشدِّدين المبرر للضرب بشكل أقسى، وزيادة القتل وعدم تقديم تنازلات، لأن هذه في أذهانهم ليست ثورة سلمية، بل تمرد مسلح بقيادة “إرهابيين” مدعومين من قوى خارجية.

لم يرغبوا قط في أي إصلاح جدي منذ البداية، لأن الإصلاح والتسوية في أذهانهم يساوي الضعف والاستسلام ونهاية النظام. لم يكن هناك سوى طريق واحد للمضي قدمًا: التحدي والمواجهة العسكرية. كانت هذه في أذهانهم هي الطريقة الوحيدة للبقاء بأي ثمن.

على مدى 50 عامًا، أنتج النظام الوحشية والمعاناة، ولا يمكنه البقاء في قيد الحياة وإدامة نفسه إلا من خلال إعادة إنتاج هذه الوحشية والمعاناة.

4-نقلت في كتابك عن “مطلعين من داخل النظام” قولهم إن بشار الأسد أمر قادة الجيش بالتخلي عن نقاط على الحدود العراقية مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، فهل كان النظام أحد الأطراف المسؤولة عن ولادة التنظيم؟ وهل هناك معلومات تفيد بوجود تنسيق أو تعاون بين النظام و”داعش” بعد سيطرة الأخير على مساحة واسعة من الأرض السورية؟ وهل كان تجنب قصف التنظيم من قبل النظام وروسيا في محطات عديدة مؤشرًا على وجود هذا التنسيق أو التعاون؟ وهل استخدم النظام التنظيم في بعض المراحل لترهيب بعض المناطق والضغط عليها، كما حدث مرات عدة في محافظة السويداء؟

ليس لدي معلومات عن تنسيق وتعاون مباشر بين النظام وتنظيم “داعش”، لكننا نعرف الآتي:

1-هذا التعاون والتنسيق المباشر موجود بين النظام السوري والقاعدة في العراق. فعلت المخابرات كل ما يمكن لتسهيل عمليات القاعدة في العراق قبل عام 2011، وساعدت في توفير مجندين سوريين وغير سوريين وانتحاريين عبر سورية، وساعدت في تمرير الأسلحة والأموال عبر سورية، وسمحت لمعسكرات التدريب بالوجود داخل الأراضي السورية على الحدود مع العراق.

2-تخلى النظام عمدًا عن مناطق في شرق سورية مع علمه أن تنظيم “داعش” سوف يستولي عليها. لقد أراد أن يقوم التنظيم بتفكيك الجماعات الأخرى الأكثر اعتدالًا.

3-تعمد النظام تجنب المواجهة المباشرة مع تنظيم “داعش” مثلما تخلى عن تدمر دون قتال.

4-عندما انخرطت روسيا بشكل مباشر في عام 2015، استهدفت هي والنظام عمدًا الفصائل المعتدلة المدعومة من الولايات المتحدة. كانت رسالتهم واضحة وثابتة منذ البداية، كلهم ​​”ارهابيين”، لا فرق بين هذه الجماعات وتنظيم “داعش”، كلهم ​​متشابهون.

5-نعلم أنه كان هناك تنسيق وتعاون مباشر بين تنظيم “داعش” وممثلين عن النظام، وكانوا عادة رجال الأعمال وقادة الميليشيات الذين يعملون لحساب النظام، في الأعمال التجارية وتجارة النفط.

في حالة السويداء، ليس لدي دليل على تعامل وتعاون مباشرين، ولكن بعض الناس في السويداء أخبروني أن هناك (بدو) معروفين في المنطقة لديهم تاريخ في التعاون مع المخابرات، والذين انضموا فيما بعد إلى تنظيم “داعش” في المنطقة بشكل رئيسي كوسيلة لاكتساب القوة والتأثير واكتساب الموارد الاقتصادية. أضف إلى ذلك الحالات التي لم يفعل فيها النظام شيئًا لمنع هجمات تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في المنطقة، ووقف متفرجًا ومراقبًا حدوثها.

5-ماذا كانت استراتيجية النظام السوري في التعامل مع الاحتجاجات في شمال شرق سورية خلال 2011 و2012، أي كيف كانت استراتيجيته في التعاطي مع تظاهرات السوريين الكرد في البدايات، وهل كانت هناك علاقة خاصة فعلًا تربطه بحزب الاتحاد الديمقراطي “الكردي”؟

عليك أن تتذكر أن العديد من الكرد السوريين كانوا مع الاحتجاجات. رأينا احتجاجات كبيرة في البداية في أماكن مثل عامودا والقامشلي وغيرها من البلدات والمدن ذات الأغلبية الكردية. كان لدى النظام أولويات أخرى في البداية: التعامل مع ما يحدث في درعا وحمص ودمشق واللاذقية، فقد مثَّل وجود احتجاجات في هذه المدن تهديدًا أكثر خطورة للنظام من وجودها في الشمال الشرقي البعيد. كما كان النظام حذرًا من مواجهة الكرد السوريين على الفور نظرًا إلى تاريخ الاشتباكات العنيفة هناك، وأبرزها حوادث عام 2004.

كان للنظام استراتيجية مختلفة في الشمال الشرقي: الاعتماد على حلفائه القدامى، حزب العمال الكردستاني (PKK). فقد أُطلق سراح العديد من قادة حزب العمال الكردستاني من سجون النظام في عام 2011، وسرعان ما بدأوا بالتنظيم والتآمر للسيطرة على الشمال الشرقي. لقد طاردوا معظم قادة الاحتجاج الوطنيين. كانت هناك اغتيالات وترهيب. لم يكن على النظام أن يفعل الكثير.

لدى حزب العمال الكردستاني (PKK) تحالف طويل الأجل مع الاتحاد الوطني الكردستاني (PUK)، ولدى النظام أيضًا علاقة طويلة الأمد مع الاتحاد الوطني الكردستاني وقيادته. استضافت عائلة الأسد جلال طالباني وعائلته في السبعينيات.

لقد عُقد الاتفاق الأمني لعام 2012 بين النظام وحزب العمال الكردستاني/ وحدات حماية الشعب (الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني) بوساطة من الاتحاد الوطني الكردستاني وقاسم سليماني، وعقدت الاجتماعات بين جميع الأطراف في معقل الاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية في كردستان العراق.

6– في بعض لحظات الضعف العسكري التي مرّ فيها النظام، وفقدان سيطرته على نسبة كبيرة من الأرض السورية، شاع لدى بعض أطراف المعارضة السورية فكرة أن النظام يمكن أن يلجأ إلى التمترس في أماكن محدّدة في الساحل السوري، ومن ثم الاكتفاء ببناء “دولة علوية” على حد قولهم. هل كان هذا صحيحًا أم كان مجرد وهم لدى تلك “المعارضة”؟

لم يشكل ذلك شيئًا من اعتبارات بشار الأسد ذاته، لكنها كانت بالتأكيد خطة “ب” حاضرة في ذهن بعض الأشخاص من حوله، خاصة أولئك المقربين من إيران وحزب الله. كان ذلك خيارًا سيفكرون فيه إذا لم يتمكن النظام من الدفاع عن دمشق وفقد السيطرة الكاملة على العاصمة. وهي لم تكن لتكون “دولة علوية” بالقول. على الرغم من أنها ستكون بشكل افتراضي ملاذًا أو جيبًا يهيمن عليه العلويون، إلا أنها ستكون أيضًا موطنًا لأقليات أخرى مثل المسيحيين والشيعة وغيرهم، إضافة إلى السنة الموالين للنظام.

بالطبع عندما أدركت إيران وحزب الله في صيف 2012 أن دمشق في خطر، وأن النظام لا يستطيع الدفاع عن العاصمة، قاموا بتصعيد دعمهم العسكري والمالي المباشر للنظام. في هذه الفترة بدأ رجال المليشيات الشيعية بالدخول، وعندها انخرط قاسم سليماني وحسن نصر الله بطريقة أكبر كثيرًا في صوغ وتنفيذ خطة الدفاع عن دمشق، وتأمين منطقة الحدود اللبنانية، واستعادة مدينة حمص والريف المحيط بها، وتأمين الممر من العاصمة إلى الساحل عبر حمص.

7– ذكرت في كتابك أن وضعية زوجة الأسد، من حيث أصلها ولغتها الإنجليزية، كانت مفيدة جدًا لعملية تسويق الأسد ونظامه لدى الغرب، حتى في اللحظات التي كان فيها النظام محاصرًا ومأزوماً في عام 2005 وما بعده، بسبب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، إلى درجة أنه، في عام 2008، تم تكريم الزوجين من قبل الرئيس الفرنسي وقتها نيكولا ساركوزي. كيف تنظر إلى دور زوجة الرئيس خلال العقد الفائت، وهل كانت على توافق مع سياسات النظام، وهل وجودها اليوم في الواجهة يمكن أن يخدم النظام من حيث إعادة تعويمه بعد كل الذي جرى في سورية؟

كانت أسماء الأسد بالغة الأهمية للنظام منذ اللحظة التي ورث فيها بشار السلطة عن حافظ في عام 2000. وكانت عنصرًا مركزيًا في الجهد المبذول لكسب دعم وحسن نية كل من الشعب السوري والمجتمع الدولي لنقل السلطة إلى بشار. كانت الرواية التي جرى الترويج لها في وسائل الإعلام المحلية والغربية من قبل النظام، وكذلك من قبل بشار وأسماء نفسيهما، هي قصة الفتاة البريطانية المولد، الجميلة والمتعلمة والسنية من حمص، والتي لم تنس أبدًا جذورها وعادت إلى سورية لمساعدة بشار في القيام بـ “إصلاحاته”.

لعبت دورًا حاسمًا في جهد إعادة تأهيل النظام بعد عزلته الدولية في عقب دور النظام المشتبه به في اغتيال رفيق الحريري عام 2005، ودعمه للتمرد في العراق حيث كان يُقتل جنود عراقيون وأميركيون.

خلال فترة “إعادة الارتباط” بين عامي 2007 و2010، سحرت شخصية أسماء وذكاؤها وجمالها المسؤولين الأميركيين والفرنسيين، وساعدت على إقناعهم بأن بشار كان مستعدًا لفتح صفحة جديدة.

على سبيل المثال، في عام 2009، كان جون كيري (الذي كان في ذلك الوقت رئيسًا للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ ومبعوثًا خاصًا إلى سورية) معجبًا بشكل خاص بأسماء، ولم يخجل من التعبير عن ذلك لمحاوريه. بعد عشاء مع بشار وأسماء، أعلن كيري أن بشار “رجل يمكننا التعامل معه”.

8– في ضوء معلوماتك، ومقابلاتك، والمعطيات التي توافرت لك، ما السر الذي جعل الولايات المتحدة تتهاون مع النظام السوري؟ بعض المراقبين كان يسمي النظام السوري بالنظام المدلل أكثر من “إسرائيل” نفسها.

ليس الأمر أن الولايات المتحدة “متهاونة” إلى حد بعيد بشأن سورية، بل كيف نجح نظام الأسد على مر السنين في استغلال الديناميكيات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، وكذلك مصالح الأمن القومي للغرب، في تعاملاته مع كل من الولايات المتحدة والدول الأوروبية.

في أوائل ومنتصف السبعينيات، كانت الولايات المتحدة تنظر إلى حافظ كشخص يمكن كسبه إلى جانبها لمواجهة الشيوعية في المنطقة. أعطى الأميركيون الضوء الأخضر لدخول حافظ إلى لبنان في بداية الحرب الأهلية معتقدين أنه سيواجه مجموعات المسلحين المسلمين الفلسطينيين واليساريين الذين يقاتلون المسيحيين. من خلال دعمها لحافظ والدكتاتوريين العرب الآخرين، حرصت الولايات المتحدة أيضًا على ألا يشن العرب حربًا مرة أخرى ضد إسرائيل بعد عام 1973.

في الثمانينيات، كان يُنظر إلى حافظ أنه طاغية دموي، ووُضع النظام على القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب منذ اللحظة الأولى التي وُضعت فيها القائمة في عام 1979. ولكن بعد ذلك كان الأميركيون أكثر قلقًا بشأن سيطرة الإسلاميين على النظام: الثورة الإسلامية في إيران وتمرد الإخوان المسلمين في مصر وسورية. نصب حافظ نفسه على أنه أهون الشرين؛ الديكتاتوريين والإسلاميين. كما اعتبرت علاقات النظام مع مجموعة من الجماعات الإرهابية التي تنفذ هجمات ضد المصالح الغربية في أوروبا والشرق الأوسط، ورعايتها في بعض الحالات، مفيدة في مكافحة هذه الجماعات. أخبر حافظ الأميركيين والأوروبيين أن بإمكانه مساعدتهم من خلال تبادل المعلومات الاستخباراتية حول هذه المجموعات.

في التسعينيات، قدم حافظ نفسه على أنه مفيد للأميركيين على عدة جبهات ما لم يفعلوا شيئًا للتدخل في أي شيء يفعله في بلده سورية ومستعمرته لبنان. في المقابل، انضم حافظ إلى التحالف لمواجهة عدوه وخصمه صدام حسين، وانخرط في عملية السلام التي ترعاها الولايات المتحدة مع إسرائيل.

في العقد الأول من القرن الحالي، أراد بشار مساعدة الولايات المتحدة في محاربة “الإرهاب” ما دام مستفيدًا من هذه العلاقة، وما لم تفعل أميركا شيئًا لتهديد نظامه. عندما تمت مواجهته في العراق ولبنان، فعل بالضبط ما فعله والده في الماضي؛ رعاية الإرهاب. ثم عاد إليه الأميركيون والأوروبيون بين 2007 و2010 بما كان فعليًا رسالة مضمونها: نحن نعرف حقيقتك وحقيقة نظامك الرهيب، لكن رجاء ساعدنا في تحقيق الاستقرار في العراق ولبنان، وسنتظاهر مرة أخرى بأنك “مصلح”، بل وسندعمك أيضًا.

بعد 2011: كان أوباما مهووسًا بعدم وجود عراق آخر بين يديه، لذلك كان سعيدًا بتأييد التغيير في سورية ما دامت أميركا لا تتدخل عسكريًا وماليًا، وقادت دول مثل قطر وتركيا والمملكة العربية السعودية الجهد في دعم المعارضة العسكرية والسياسية. عرف بشار كل هذا، وعرف أيضًا أن البعبع الإسلامي هو أكثر ما يقلق الأميركيين والأوروبيين. كل ما كان عليه أن يفعله هو التشبث بما يكفي ليتحول الصراع إلى حرب بالوكالة وظهور تنظيم “داعش”. وكما تنبأ، فإن الأميركيين والأوروبيين سوغوا الأمور على هذا النحو: هذه الآن حرب إقليمية فوضوية بالوكالة تشمل روسيا وإيران وآخرين ولا نريد التورط، وهزيمة “داعش” ووقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا أكثر أهمية كثيرًا لنا من التخلص من بشار.

لمدة 50 عامًا، عمل آل الأسد على هذه الفرضية: رؤساء الولايات المتحدة يأتون ويذهبون، وتتغير سياسات الولايات المتحدة، لكننا موجودون هنا لنبقى، ولدينا كل وقت في العالم لانتظار خروجهم.

9– أشرت في نهاية كتابك إلى أن تنازل أوباما عن خطه الأحمر بعد استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية، الذي أسفر عن مقتل نحو 1400 شخص في غوطة دمشق، في آب/ أغسطس 2013، كان نقطة تحول حاسمة، وإنه “لا يوجد حدث واحد في تاريخ الصراع السوري ساعد المتطرفين الإسلاميين في تبرير إرهابهم أكثر من الهجوم والطريقة التي تعامل بها المجتمع الدولي مع آثاره”، فهل كان النظام يتوقع ردّة الفعل المتردِّدة أو الضعيفة هذه من جانب أميركا والمجتمع الدولي، الأمر الذي دفعه لاستخدام السلاح الكيماوي من دون تردّد أو خوف من العواقب؟ وهل استخدم النظام السوري السلاح الكيماوي بقصد إثارة الغرب وأميركا لعقد اتفاق معه لنزع هذا السلاح، ما يعني عمليًا عودته إلى الساحة الدولية بعد العزلة التي فُرضت عليه في عقب الثورة؟

استخدم النظام الأسلحة الكيماوية على نطاق ضيق ابتداءً من كانون الأول/ ديسمبر 2012، ورأى كيف تجاوب الأميركيون والأوروبيون، وبشكل أساسي التوجه إلى تحقيق أممي طويل الأمد الذي كان نظام الأسد بارعًا في التلاعب به.

لذلك كان النظام يعرف بالفعل حدود تحذير “الخط الأحمر”. قرر بشار وماهر الأسد مهاجمة الغوطة في آب/ أغسطس 2013 لسببين رئيسين:

1-الاشتباه في أن الجماعات المتمردة في ريف دمشق كانت تخطط لشن هجوم كبير على العاصمة بمساعدة مركز العمليات العسكرية بقيادة الولايات المتحدة في عمان.

2-التعرض لضغوط هائلة من القاعدة العلوية “ليدفع السنة الثمن” بعد أن هاجم المتمردون المدعومون من الولايات المتحدة والجماعات الإسلامية المتطرفة القرى العلوية في ريف اللاذقية، ما أسفر عن مقتل 190 شخصًا واختطاف 200 معظمهم من النساء والأطفال.

لا أعتقد أنه من الدقة القول إن النظام “عاد إلى الساحة الدولية” بعد العزلة. لا يزال نظامًا معزولًا ومعاقبًا بشدة. كل ما في الأمر أن الأميركيين والقوى الأوروبية الرئيسة، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، يعتقدون أن انهيار النظام يعني الفوضى و”داعش” واللاجئين -على الرغم من أن هذه ثنائية زائفة في الواقع. في الوقت الحالي هم لا يمانعون العيش مع نظام ضعيف تدعمه إيران وروسيا.

10–كانت هناك لحظة حاسمة أخرى في مسار الصراع مع النظام السوري، تمثلت بالتدخل العسكري الروسي في أيلول/ سبتمبر 2015؛ فمنذ ذلك الحين، وتدريجيًا، استعاد الأسد السيطرة على معظم الأرض السورية باستثناء محافظة إدلب. هل تعتقد بأن التدخل الروسي قد حصل من تلقاء نفسه أم أنه حدث بمباركة وتشجيع أميركيين؟

لا أعتقد أن إدارة أوباما “شجعت” روسيا على التدخل في سورية، لكنها لم تمانع ذلك على الإطلاق، وأبلغت الروس بذلك ضمنيًا للأسباب التالية:

1-بحلول عام 2015 كانت الأولوية الأميركية هي محاربة “داعش” في العراق وسورية، وليس إسقاط بشار.

2-شعرت الولايات المتحدة بالخيانة من قبل الحلفاء الإقليميين، مثل قطر وتركيا والمملكة العربية السعودية، ورأت أنهم يدعمون ويمولون الجماعات الإسلامية المتطرفة في سورية التي تتعاون مع جبهة النصرة. كما رأوا أن تركيا لا تفعل شيئًا يذكر للسيطرة على حدودها التي كانت شريان الحياة لتنظيم “داعش” والجماعات المتطرفة الأخرى. بحلول الوقت الذي تدخلت فيه روسيا، كان معظم المسؤولين الأميركيين، بمن فيهم أوباما، مقتنعين بأنه لا يوجد شيء من قبيل “المتمردين المعتدلين” على الرغم من أنهم كانوا يقولون رسميًا خلاف ذلك.

11–في ضوء معرفتك العميقة بالنظام السوري، هل تتوقع أن يكون هناك فاعلية للعملية التفاوضية الجارية، ولعملية تغيير الدستور “مسار اللجنة الدستورية” في ظل وجود النظام واستمراره؟

المفاوضات في جنيف واللجنة الدستورية هي ببساطة وسيلة للأميركيين والأوروبيين للتظاهر بأنهم ما زالوا مهتمين بسورية، وللتنكر للواقع الوحشي الذي وصفته في إجابتي على سؤال سابق: الأميركيون والقوى الأوروبية الرئيسة مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، تعتقد أن انهيار النظام يعني الفوضى وداعش واللاجئين -على الرغم من أن هذه ثنائية زائفة في الواقع. في الوقت الحالي هم يفضلون العيش مع نظام ضعيف تدعمه إيران وروسيا.

إنهم سعداء تمامًا بأخذ الروس زمام المبادرة في هذه العملية تحت غطاء مفاوضات الأمم المتحدة. قد تؤدي النتيجة في النهاية إلى دستور جديد والسماح لبعض الشخصيات المعارضة بالعودة إلى دمشق، لكن لن يرحل بشار الأسد، ولن يتغير النظام.

الحل الحقيقي والشامل في سورية يتطلب العدالة والمساءلة ومحاكمة كل من ارتكب جرائم حرب، خاصة بشار الأسد ونظامه، وكذلك تفكيك النظام الحالي. لا أحد في المجتمع الدولي على استعداد لدعم هذا، لذا فإن البديل هو مفاوضات طويلة الأمد ولا تنتهي أبدًا للتوصل إلى ما يسمى بالحل السياسي مع استمرار معاناة السوريين. إضافة إلى أن سورية خرجت من الأخبار الآن، لأن المخاوف المحلية الأكثر إلحاحًا تشغل بال الولايات المتحدة وأوروبا.

12–اليوم، بعد عقد من الصراع، هل ترى النظام السوري قويًا أم ضعيفًا، خصوصًا في ظل وجود خمسة احتلالات في سورية؟ هل ما يزال النظام صاحب قراره؟ وهل يُتوقع فعلًا استمراره في ظل هذه الاحتلالات والعقوبات والوضع الاقتصادي المتردي والسمعة السلبية في العالم؟

البلد مقسم بحكم الأمر الواقع مع سيطرة روسيا وإيران على الجزء الأكبر. على بشار الأسد أن يثبت باستمرار لكل من روسيا وإيران أنه الشخص الوحيد الذي يمكنه خدمة مصالحهما وأجنداتهما. إنه يسيطر على السوريين من خلال الخوف والمخابرات، ويسيطر على ما تبقى من الاقتصاد من خلال أصدقائه التجاريين، ولا يزال قادرًا على تحييد أي تهديد لمنصبه من داخل دائرة سلطته بسرعة، كما حدث مع رامي مخلوف العام الماضي. مرة أخرى، كل ذلك من أجل البقاء بأي ثمن والاستمرار في إظهار نفسه لإيران وروسيا أنه رجلهم. أما الهامش الآخر في المناورة، فهو اللعب على إيران وروسيا ضد بعضهما بعضًا.

في تعليقها على كتاب “الأسد أو نحرق البلد.. كيف دمرت شهوة عائلة واحدة للسلطة سوريا”؟ قالت صحيفة الغارديان إن هذا الكتاب يقدم رواية مقنعة من الداخل عن الطموح المميت للأسد، خاصة أن كاتبه سام داغر كان الصحفي الوحيد في دمشق مع بداية الأحداث بين 2012 و2014.

تعليقات الكتاب والصحفيين على كتاب سام داغر

قال إيان بلاك في عرضه للكتاب: إن رواية سام داغر الكئيبة والمفصلة بشكل مثير للإعجاب عن تدمير سوريا، ترتكز على عاملين وثيقي الصلة فيما بينهما، وهما وجوده مع بداية الأزمة ثم دقة مصادره، خاصة ما قدمه له الجنرال السوري المنشق مناف طلاس وآخرون من رؤى عن الرئيس السوري بشار الأسد ودائرته الداخلية، وكذلك عن نشطاء المعارضة البارزين.

وأوضح الكاتب أن طلاس الذي انشق عن نظام الأسد في صيف 2012، كان أحد جنرالات الحرس الجمهوري النخبة في سوريا وأحد المقربين من بشار الأسد، وأنه لم يكن مجرد لاعب يشارك الأسد لعبة التنس، بل كان صديقه الحميم والمقرب بالفعل.

وقد انشق طلاس -كما يقول الكتاب-عندما شعر بالقلق من القمع الوحشي الذي قام به الأسد منذ اندلاع الاحتجاجات في مدينة درعا في مارس 2011، بعدما قام شباب -تحت تأثير التغييرات التي حدثت في تونس ومصر وليبيا-مطالبين بالكرامة والحرية والإطاحة بنظامهم القمعي، وبدا حينها أن سوريا كانت متجهة منذ البداية إلى وجهة مختلفة وقصة أكثر دموية، حسب الكاتب.

ونبه بلاك إلى عنوان الكتاب، الذي هو في الحقيقة شعار تهديدي لأنصار الأسد، وكذلك إلى العنوان الفرعي “كيف دمرت شهوة عائلة واحدة للسلطة سورية؟”، كما ذكّر بما نقل عن الأسد من قوله قبل بدء الاضطرابات وبعدها من أنه “لا توجد وسيلة لحكم مجتمعنا إلا بالنعال فوق رؤوس الناس”.

وأوضح داغر أن رد فعل الأسد على أطفال درعا، كان بناء على نصيحة شقيقه الأصغر ماهر وابن عمه حافظ مخلوف، بمضاعفة القمع وبإطلاق سراح المئات من الإسلاميين الذين تم تشجيعهم في السابق على محاربة الاحتلال الأميركي في العراق بعد سقوط صدام حسين، لكنهم سجنوا عندما عادوا إلى ديارهم.

وكانت النتيجة -كما يصورها داغر-أن شعار “سلمية” الذي حملته الثورة السورية منذ البداية قد تلاشى تحت ضجيج الهجمات بالقنابل والتفجيرات الانتحارية الجهادية التي قال الكاتب إن بعضها مزيف من قِبَل النظام.

وفي الأيام الأولى من الثورة -كما يقول الكاتب-كان هناك جدل في العواصم الغربية حول كيفية رد فعل الأسد، خاصة أن صعوده إلى السلطة عام 2000 رافقه “ربيع في دمشق” قصير العمر، كما رافقه الحديث عن إصلاح فيما يتعلق خصوصا بالتحرير الاقتصادي، ولكن كل ذلك لم يشمل “حاجز الخوف” الذي تحافظ عليه فروع مختلفة من شرطة المخابرات السرية في كل مكان.

وقال الكتاب إن أصل زوجة الأسد الناطقة بالإنجليزية أسماء كان لا يقدر بثمن، حتى عندما كانت سوريا في مأزق بسبب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، فقد شكلت مصدر دعاية وفي عام 2008، تم تكريم الزوجين من قبل الرئيس الفرنسي وقتها نيكولا ساركوزي، وفي العام التالي استضافا أنجلينا جولي وبراد بيت في دمشق.

ورأى الكاتب أن الردود الدولية والإقليمية تعد جزءا مهما من هذه القصة القاتمة والمستمرة، إذ دعا الرئيس الأميركي وقتها باراك أوباما في أغسطس/آب 2011 الأسد إلى التنحي، وتلته في ذلك بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى.

وبحلول نهاية ذلك العام، كان عدد القتلى في سورية قد تجاوز خمسة آلاف، وقد بلغت احتمالات التدخل الغربي، ذروتها عندما وصل طلاس إلى باريس بمساعدة عملاء المخابرات الفرنسية.

الحرب من أجل البقاء

غير أن الصورة الكبيرة -حسب الكاتب-هي أن ردود الفعل الغربية المترددة قابلها عزم استراتيجي من قبل إيران، لدعم كل من الأسد وحزب اللات اللبناني، وتدخل من روسيا التي أغضبها دور الناتو في الإطاحة بالزعيم الليبي معمر القذافي، في حين أن الدعم الإقليمي غير المنسق للجماعات السورية المتمردة من قبل السعودية وقطر وتركيا المتنافسة على النفوذ، ساعد في تغيير المشهد العسكري والرواية الرسمية.

وهكذا -يقول الكاتب-تحول ما رآه داغر صراعا متحركا من أجل الحرية، إلى حرب على الإرهاب، وذلك كما كتب داغر “ما يتماشى مع تقليد النظام الراسخ المتمثل في رعاية الوحش ومن ثم تقديم نفسه للغرب باعتباره الوحيد القادر على ذبحه، ومن ثم يطرح شروطه المسبقة”.

وبنقله رواية مناف طلاس (سني خدم النظام مثل والده الذي حضر مجزرة حماة 1982) التي لا تخلو من تبرير لأمور شخصية، لا يكتفي داغر (مراسل صحيفة وول ستريت جورنال) بتقديم رواية تربط بين التطورات بطريقة يمكن فهمها من قبل جمهور غير خبير، بل ينثر قصصا يؤكد كثير منها على قسوة نظام كان يقتل الشعب من أجل البقاء.

وقد أوضح المؤلف أن مقتل الصحفية ماري كولفين وزميلها الفرنسي في حمص كان “له ما يبرره” بالنسبة للنظام كما أخبره جنرال سوري، كما أظهر دون أدنى شك أن الأسد هو من رتب لقتل صهره آصف شوكت وغيره من كبار الشخصيات الأمنية، فيما وصفته وسائل الإعلام الرسمية بأنه هجوم إرهابي.

ونقل داغر عن “مطلعين من داخل النظام” قولهم إن الأسد أمر قادة الجيش بالتخلي عن نقاط على الحدود العراقية مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية.

وكشف أن طلاس مدعوما من حكومة المملكة المتحدة، نصح المراقبين -للبرنامج السوري السري- من وكالة المخابرات الأميركية بتغطية اجتماعاته مع منشقين محتملين آخرين.

وقد خصص داغر مساحة كبيرة لمرويات مازن درويش، المحامي العلوي وناشط حقوق الإنسان الذي تعرض للتعذيب في سجن صيدنايا السيئ السمعة، وكذلك للشابة الدرعاوية سالي مسالمة، وقد فر كل منهما إلى ألمانيا.

وفي نهاية كتابه، خلص داغر إلى أن موافقة أوباما على استخدام الأسد للأسلحة الكيميائية، الذي أسفر عن مقتل ما يقرب من 1400 شخص بالغوطة في أغسطس/آب 2013، كان نقطة تحول حاسمة، وقال إنه “لا يوجد حدث واحد في تاريخ الصراع السوري ساعد المتطرفين الإسلاميين في تبرير إرهابهم ورسالة الكراهية أكثر من الهجوم والطريقة التي تعامل بها المجتمع الدولي مع آثاره”.

أما اللحظة الحاسمة الأخرى فتمثلت في التدخل العسكري الروسي في سبتمبر/أيلول 2015، ومنذ ذلك الحين، استعاد الأسد السيطرة على معظم أنحاء البلاد باستثناء محافظة إدلب، حيث يجري الآن النظر إلى ما يبدو أنه الفعل الأخير في مأساة سورية.

وختم الكاتب عرضه بأن النظام في الأشهر الأخيرة، نشر شهادات وفاة الأشخاص الذين اختفوا وتعرضوا للقتل ملقيا اللوم على النوبات القلبية أو السكتات الدماغية، في حين بدأ بإعادة بناء تماثيل حافظ الأسد التي دمرت منذ عام 2011 في درعا وفي أماكن أخرى، مما يؤكد أن العنوان الفرعي للكتاب يبدو موضوعيا، وفقا للكاتب.

لقد ناقش الكاتب الأمريكي سام داغر كيف دمرت عائلة الأسد، سورية، بسبب تمسكها بالبقاء في السلطة، منطلقًا من الشعار الذي رفعه مناصرو النظام السوري منذ بداية المظاهرات الشعبية المنادية بإنهاء حكمه “الأسد أو نحرق البلد”.

وبحسب الصحيفة، يشرح الكاتب كيف أعاد الصراع في سورية تشكيل الشرق الأوسط وأدى إلى زعزعة النظام العالمي ككل، معتبرًا أن الأسد كان على استعداد لقتل مئات الآلاف من الشعب السوري للبقاء على كرسي السلطة وقبل ظهور “تنظيم الدولة الإسلامية”.

ويربط الكاتب بين القمع الكبير الذي مارسه النظام صد السوريين، وإطلاقه سراح مئات الإسلاميين من السجون بحسب الكتاب، كما نقل الكاتب عن مصادر من داخل النظام، أن الأسد أمر ضباطه بالتخلي عن نقاط حدودية مع صعود “تنظيم الدولة”، كما يتهم الكاتب، الأسد بقتل صهره آصف شوكت.

فأكد سام ضاهر ثانية على عدم ثقته بالمجتمع الدولي وإنه فعلاً أثناء وجوده في دمشق شاهد بأم عينه كيف تحتجز قوات الأسد مساعدات الأمم المتحدة بحجة أن طريق إيصالها لمحتاجيها الذين يموتون من الجوع (في المعضميّة مثلاً) غير آمن بسبب الإرهابيين…!

وأما عن التقاعس الأمريكي فيقول داغر: إن أوباما (حسب رأيه) لم يُرد تكرار تجربة العراق بالتدخل العسكري في سورية حتى أنه منع قيام منطقة حظر جوي. أمريكا أرادت أن تنفذ سياستها عبر حلفائها كالسعودية وقطر. وأضاف: كلما أرادت أمريكا أن تفعل شيئا من أجل السوريين كانت تصطدم بالفيتو الروسي والصيني.!!

كتاب سام داغر يستحق القراءة المتأنية التي تتركك تعيش في عمق الأحداث الدامية والعذابات المرة، التي عاشها الشعب السوري على مدار ما يزيد على نصف قرن بكل حيادية وموضوعية وبلا انحياز أو عنصرية.

المصدر

*الجزيرة-15/7/2019

*ملتقى العروبيين- د.مخلص الصيادي-10/6/2020 

*صحيفة الغارديان البريطانية-17/07/2019

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى