نقد ومقالات

البعد الميت للثقافة الرسمية/ شاكر الأنباري

لا في العراق وحده فقط، بل بشكل عام، ما زالت الثقافة العربية تنوء بثقل السائد، والمهيمن، في المجتمعات. وهي بهذا تندرج تحت ما يسمى بالرديف أو الأساس لسلطة القمع المتحكمة بمقدرات الأفراد والجماعات ومواردهم وحتى سلوكهم في بعض الأحيان. أغلب الواجهات الثقافية الرسمية كاتحادات الكتاب، ومنظمات الصحافيين واتحاداتهم، ومنظمات الفنانين وغيرها، ترتبط كلها تقريبا ارتباطا بنيويا بالفكر السياسي المسيطر على السلطة. وهو باختصار واحدي النظرة، ديني الهوى، او في الأقل يستخدم الدين كأداة للسيطرة. وهو، أي الفكر السلطوي، محافظ يكرس الظواهر العتيقة، وأنماط التفكير البالية كي لا يخرج الفرد من شرنقته. وهو انعزالي يرفع لافتة الخصوصية الدينية، والقومية. بهذا يقف في صميم موقف العداء من الثقافة العلمانية، والليبرالية الأخلاقية والفكرية. ويتساوى في أحيان كثيرة مع الأصولية الدينية في أوضح تجلياتها تطرفاً.

وينكشف البعد الميت للثقافة الرسمية في كل أزمة تضرب بلداً من البلدان الناطقة بالعربية، اذ سرعان ما ترتد تلك الثقافة الى مقوماتها المتعارف عليها. لذلك ليس من الغريب ان يسمع المرء آراء ديماغوجية من مفكر ليبرالي تتعارض تماما مع مساره الفكري والسلوكي. فالثقافة الرسمية ملفقة أيضا، تغرف من كل حدب وصوب، بحسب اللحظة الزمنية، وبحسب الحدث المستجد على ساحة من الساحات. وليس غريبا أن يؤيد مثقف أو أديب سلوكيات أعتى الحركات والأحزاب الأصولية الدينية، من دون أي اهتزاز لضمير أو تأنيب. تلك هي ملامح يمكن رؤيتها في الفضائيات الرسمية، والاصدارات اليومية، والمطابع وما تنتجه. وبرغم صورة شاحبة مثل تلك، فذلك لا يلغي وجود ثقافة أخرى مضادة، تحاول التواصل مع الحياة الكونية التي تعيشها الكرة الأرضية في الوقت الحاضر. بعد أن أصبحت أرضنا بكل قاراتها تعيش في ايقاع حضارة واحدة، تستخدم التقنيات ذاتها، والمنطق الرياضي العلمي ذاته. تتقارب في الهموم والطموحات، وتتشابه في الرؤى والأذواق والأزياء في بعض الأحيان. الثقافة المضادة نراها في أكثر من صعيد. الرواية الجادة، المتسعة الرؤية الغائصة في تفاصيل مجتمعها، وفي بيئاتها الحقيقية تنتشر يوما بعد آخر، لتصبح بديلا عن ديوان العرب الذي هو الشعر. نمط الشعر الخطابي المتملق الراقص على أصابع الحاكم الذي يتشدق بهموم كبيرة لأمة تعتقد بأنها جزيرة منعزلة عن شعوب العالم. وثمة الشعر الجديد المعبر عن كائن فرد يتقلب في تجاذبات يومية تمتد من المكان الذي يعيش فيه وحتى اقصى نقطة في الكرة الأرضية. وثمة العالم الشاسع للفن التشكيلي المتواشج مع آخر ما وصلته الحركات الفنية في القارات. وثمة السينما، هذا العالم الساحر، وثمة التمرد المنزلق من صحافيين وكتاب ثائرين على واقع رسمي ركيك وهش. وكل ذلك يلتقي مع حركات اجتماعية مدنية تخرج يوما بعد آخر من معطف الثقافة الرسمية، ومن قبضة الحكام ومريديهم.

الثقافة المضادة تكمن في كل موقع الكتروني، وجهاز موبايل، وفضائية حرة، وتظاهرة شعبية، ومدرسة حديثة وجامعة. وما أن يفتش المراقب عن مواصفات الثقافة المضادة حتى يجدها بين يديه. تتجلى في كل مكان من أرض العرب. تلتقي رديفتها العالمية في برزخ الانسانية الشاسع. ولم تعد هناك أسوار رقابية، أو حواجز قومية، أو دينية، تفصلها عنها. الثقافة المضادة تؤمن بتجاوز اللحظة الظلامية  اليوم بأقل الخسائر، الا انها تعرف طريقها جيدا، وهي ماضية فيه ببطء.. لكن باصرار شديد.

(*) مدونة نشرها الروائي العراقي شاكر الأنباري في صفحته الفايسبوكية.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى