سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعشهادات

وما نجوتُ إذ نجوت: من المخيم ما زلت أكتب لكم/ وئام بدرخان

(Simav)

10-05-2025

        من المقرر أن تُنشَر الترجمة الإنجليزية للنص في مجلة ArabLit Quarterly، صيف 2025.

        بينما يشلع النازحون أوتاد خيماتهم و يحملونها وهناً على وهن إلى بقايا أراضيهم كُتِب هذا النص.

         * * * * *

        اليوم 29.3.2025 في تقويم الأحياء والمحتفلين بالانتصار وفرار ديكتاتور دمشق، أما نحن جثث المخيمات الناجية إلا من القهر، لا تاريخ تعترف به قلوبنا ولا ما تبقّى منها.

        وكأنّ الفرحة تقف عند حدود المخيمات فتتركنا لقهرٍ يلوك عظامنا وتمضي، نعيش غصة الناجي من الرمضاء إلى النار، في كل شيء ندبة، في كل نَفَس ندبة، في كل باب وشبّاك ندبة، حتى في غفواتنا القلقة ندبات وندبات!

        لماذا لا يطالب أحد بإنصاف أرواحنا المعلّقة فوق جثثنا المتحركة، إنصافها من كل جلّادي سوريا، كما يطالبون لمن قضوا والمختفين والمعتقلين؟ نحن الذين ما زلنا في كل صباح نمشط عظامنا ونعيد ترتيبها ونرشّها بكذبة العودة والمُلتقى! نحن ضحايا أحلامنا!

        نحن الذين نعيش الآن بين خرابين، خراب قصف نجونا منه وظلّ بانتظارنا في كل مدينة وقرية ليُفجعنا بفتح ذاكرة بالكاد غفتْ، وخراب الخيام التي بدأت تزحف رويداً رويداً مع كل خيمة يهدّها من استطاع العودة إلى ركام مدينته/قريته، فحمل ما استطاع من أبوابها وشبابيكها وسقفها القماشي وعوازلها الزرقاء، ليُرقِّع غير آبه بيت عودته إلى أرضه مكتفياً بالخلاص من قهر المخيمات.

        نعم، عشنا وهمَ الاستقرار لسنوات وربما يئسنا وأتعبنا النزوح فجبلنا أحلامنا وخذلاننا بطين المخيم، وبنينا فيه ما نسكنه. لم ننسَ كتابة وصايانا على حيطانه لمن بعدنا حين لم يكن ممكناً حتى الحلم بالعودة، وعلّقنا على شبابيكه ستائر من آخر ثياب لبسناها يوم تهجيرنا من مدننا لتمرّ من خلالها كل نسمة، فلا ننسى رائحة أمهاتنا وآبائنا وعتباتنا وشوارعنا وأحبائنا في منفانا الجديد، الذي صار اسمنا فيه «أهل المخيمات».

        اليوم، نعيش وهم النجاة، وما زلنا نغدو ضيوفاً إلى مدننا ونرجع بانكسار العائد الأخير من حرب طويلة إلى بلد لم يعد له فيه أمٌ ولا أبٌ ولا بيتٌ ولا رفاق! بانتظار دور خيماتنا حبيباتنا في الهدم ومكان يؤوي عودتنا.

        أتساءل كثيراً عن معنى النجاة ونحن ما زلنا نتبادل الضفاف مع سوريين آخرين لم يذوقوا مثلنا ما ذقناه، وما زلنا نتبادل الخوف بالألوان، وما زلنا نخرس كثيراً ونغرق في مُفارقات البلد حولنا لقطة لقطة، حتى ننهدَّ من البكاء والتعب، ونغفو على جمر الإيمان بالخلاص.

        لقطة 1:

        2011 الشاب الذي ظننتُ أني سأحبُّه، تنقّلَ معي حتى الإعياء وأنا أصرّ على التصوير حتى آخر 1 بالمئة من شحن الكاميرا بصبر وحرص، لم يمنعه تديُّنه الشديد من مرافقة (سفوري)، كان همّه أن أحمل الحكايات من زواريب حي السبيل وأطفاله وجرائم القناص أبو وائل حتى مجزرة الخالدية، وخبّأني مع نساء بيتهم بلا تردّد.

        تأكدت أني أحببته حين قالت لي أمه تمام الرابعة صباحاً: 

            خلص ما عاد يلزمه دم، لا عاد تدوّري.

        2025 الشاب الذي كانت لديه صبية ستُحبُّه وكان حريصاً على حكايات الناجين معرضاً نفسه للخطر في طرطوس تحت سلطة الأسد أيضاً قتُل الآن، وقالت أمه أيضاً لصبية هناك شيئاً ما عنه، فأحبته في غيابه الأخير.

        لقطة 2:

        2013 ياسين ومريم توأما حصارنا في حمص القديمة، وزينة طلابي، انتظرَهما الأرنب الصغير كثيراً ليعودا بكمشة العشب، لكنه نام جائعاً ليلتها، فالجميع كان مشغولاً بجنازتهما بعد سقوط قذيفة هاون عليهما، رحلا جائعين كالأرنب، وبقيتُ أذهب إلى قبرهما لأعاتبهما لمَ تأخّرا عن الدرس، وأوجز لهما ما تعلمنا اليوم.

        2025 عدتُ إلى حمص، وإلى قبر ياسين ومريم الذي تركناه فوق ملجأ بستان الديوان مع الكثير من قبور المحاصرين، لأجد مكانه حديقة ورد! لم أدرِ أني أكره الورد إلا لحظتها، حين أخبروني كيف حملتهم جرّافة جميعاً إلى المجهول! وظلّ القبر وطفلاه محنطين في صوري و فيديوهاتي يضجان بالحياة! 

        2025 التوأمان اللذان قُتلا في قرى الساحل انتظرتهما القطة على الباب كثيراً، وربما لعقت دمهما، لكن لهما قبراً تزوره أمهما حين تنتهي المعركة الجديدة! 

        لقطة 3:

        2014 أتعمّدُ التباطؤ في المشي لإخبار الشباب المتضوّرين جوعاً عن سلحفاة قريبة ليطبخوها مع حلّة العشب وورق الشجر، علها تنجو فليس فيها كالقطط التي أكلوها لحم يكفي، وبالكاد مع القصف الكثيف حينها كنا نأمل بالحياة.

        2025 يجوع في الساحل السوري مدنيون مثلنا بين الأحراش، ويتضور أطفالهم فيأكلون مما تيسر حولهم، وبدل القصف الكثيف، حولهم وحوش بشر وغابْ!

        لقطة 4:

        أواخر 2014 أتكوّر كجنين في كرتونة لأغفو ليلتي الأولى في مخيم أطمة في ريف إدلب الشمالي، وأحلم بخيمة لا تغوص فيها قدمي في الطين، وأستطيع أن أستحمّ فيها بدل أن أشارك البط خيمته المهترئة لأسكب على جسدي المرتجف ثلاثة ليترات من الماء كحمام، بعد عشرة أيام في الطين.

        2025 ينام مدنيون ثكالى في قرى فقيرة بلا كرتونة قرب جثث أحبتهم، ليلات بلا حمام، ويحلمون بقبور يزرعون في طينها أجسادهم الدامية.

        لقطة 5:

        2011 يقول لي الجدّ (محمد خير عثمان)، والذي شاهدتُ صورته ضمن صور قيصر بعدها، قبل أن أبدأ التصوير:

            شوفي! نحن في بابا عمرو سلفية ومو مناسب تكوني بلا حجاب، لكن هي ثورة وفيها كثير وقليل، ولازم يكون معنا من كل الأشكال.

        كان أول درس لي أن المكان مهما تباين أشخاصه يتسع للجميع.

        2025 تغصّ سوريا الجديدة بنقص حادّ في الجدود لتكمل تلك الدروس.

        لقطة 6:

        2012-2014 في حصارنا في حمص القديمة، تصرخ بوجهي الأشلاء لأحنطّ فجيعتها بصورة أو فيديو، تصرخ الجثث الممزقة قبيل أن تتقطع أوصالها وتسقط، تصرخ الجماجم التي تتكسر فوق جثث أصحابها، تصرخ الجثث اللزجة المنتفخة برائحتها بعد تخليصها، وتموء بجنون القطط التي تسقط عن الجدران من القصف فتتكسر! وأنا حفظت بشكل مرعب أصوات وروائح ولحظات الجميع.

        2015 تخورُ حدَّ الصراخ البقرةُ الهاربة من كوباني بعد حصار داعش لها على حدود مدينة سروج التركية، من الجوع. والخرفانُ تكاد تنفجر من العطش، فتصرخ. وأنا مثلهم، شاهدة للمرة الثالثة على مجازر التجويع والحصار بين عدوين، لا حول لي سوى البكاء مثلهم جوعاً وخذلاناً، وتحنيط اللّحظات بكاميرا تكاد تنفذ من الشحن.

        2015-2025 يصرخ الجوعى في كل سوريا حدّ العواء، حدّ الكفر بكل أرباب الطغيان وشعاراتهم وراياتهم، وأنا شاهدةٌ بينهم مثلهم أواصل البكاء.

        لقطة 7:

        8.12.2024 على طريق شنشار خارج حمص أركضُ بين القبور أنادي: أنا جيت يا بابا أنا جيت يا حبيبي! وأبحث كالمجنونة عن قبر أمي وأبي لأضم شاهدتيهما كما ضممتهما آخر مرة قبل 12عاماً و8 أشهر و10 أيام وشممت رائحتيهما.

        2011-2025. على كل الطرق والمفارق والأقبية والمفارز والمعتقلات من كل الأشكال، قلوبٌ سوريّةٌ مُلتاعة ما زالت تنتظر قبور من غابوا وغُيبّوا ومَن بينهما، وما زال المجرمون على كل الضفاف طلقاء، بل أكثر!

        لقطة 8:

        2015 في مخيم أطمة أنقل البلوك مع العمال وأحمل وهناً على وهنٍ سطل الطين المجبول للمعمار، وأقول لمن يستغرب أني جئت من حمص المدينة: بدّي أعمّر حجر وبشر! ثم أقاوم لظى الصيف كعاملٍ درويش حتى أسقط في لظى الحمى التيفية فتصرَعني، لكني أستمر لنبني «كُتّاب عصافير المخيم»، وألوّن جدرانه بقلبي قبل ريشتي، وأكتب رسائل لكل الذين لن يأتوا على أبوابه وشبابيكه، و أصرفُ ما وصلني ويصلني كي لا أبيع الحلم، وأقاوم كل الشوك والشوق حتى أُكفِّر للأطفال الذين لا يعلمون الفرق بين النهر والينبوع، ونحن في أواخر عام 2024، إلا إذا شبَّهْتَ لهم النهرَ بالمجرور الذي يُغرِق الخيمات والينبوعَ بساقية الماء الملوثة بين زواريب الخيام؛ حتى أُكفّر لهم عن الثمن الذي يدفعونه مقابل حلم بالحرية كنّا من شاركَ في إيقاد شُعلته التي أحرقتنا وأوصلت أهاليهم هنا.

        7.12.2024 أُعلِّقُ التعليم في «كُتّاب عصافير المخيم» لأن الخلاص صار على أبواب حمص، ولأني سأعود إلى مدينتي، واعتزالي لتعليم الأطفال في المخيمات انتهى بانتصارِ حقنا في العودة.

        لقطة 9:

        2012. شتاءً مع الشيخ أبو إبراهيم وعشرات من المقاتلين لتأمين الطريق، أتسللُ بعد أسبوع عبر سلسلة أبنية نحو منزل ارتُكِبَت فيه مجزرة نساء السبيل، حيث لا تزال قدماي ملتصقتان فوق سيراميك الحمّام بدماء تقاوم التخثر للحامل المبقور بطنها، وطفليها اللذين اختبأآ هاربين؛ ما زال صوتها يعاتبني إذا غفوت وتركتُ حكايتهم للنسيان.

        2025. أمهات أخريات من الريف المعترّ لطائفة الديكتاتور تُولولنَ على نواصي الضيعة ناجيات إلّا من قَتْلِ أولادهم هنا وهناك.

        لقطة 10: 

        2014 أواخر الشتاء بين زواريب مخيمات أطمة يتبعني الصبية الصغار ويتصايحون من أول الشارع:

            يا علوية، يا علوية! 

        و ينسج آخرون إشاعة أني مسيحية!

        و يهجم شخص عليّ عندما لا أعطيه حصصاً أكثر من الثياب التي أساعد في توزيعها، فيذكّر الجميع بأني غير محجبة! وأضطرُّ إلى لبس الحجاب بعدها بينهم مُكرَهة قرابة السنوات العشر!

        2025 كلما زرتُ حمص وعدتُ إلى المخيم في إدلب، أرتدي في الكراج حجاباً أخلعه في الكراج ذاته عند الخروج.

        2025 بعد أشهر من الخلاص من الأسد، ما زلتُ أكتب لكم من المخيم، وسط المنسيين المخذولين الحالمين ببيوت يُعيد أيُّ أحد إعمارها، ودوامة ذاكرتي لأربعة عشر عاماً حمّلني فيها الكثيرون حكاياتهم، وناموا في قبورهم أو تعبوا ورحلوا، أو غابوا بلا أي خبر وقالوا: 

            احكي يا وئام ما استطعت، لا تدعي حكاياتنا تذوي مثلنا.

        حمّلوني وما دروا أني لسنوات لم أعد أنام ولا آكل ولا أحيا كبشر.

        لا زلت أكتب لكم في وحدتي وأصحابُ الحكايا حولي ليل نهار يزدادون، وكأنما قدر سوريا ألا تنتهي منها الحكايات، وقدري أن أغشى من الصمت كل حين، وكلما صحوت تمنيت فقدان الذاكرة و لم أنله.

        سوريا، مخيم أطمة في ريف إدلب الشمالي

29.3.2025

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى