من ذاكرة صفحات سورية

سقوط القصير 2013 نقطة التحول الكبرى في الثورة السورية، لماذا، ما الذي حصل وما هي النتائج المترتبة عن ذلك -ملف من اعداد صفحات سورية

معركة القصير السورية: تبعات تدخل حزب الله اللبنانية والاقليمية/ شفيق شقير

7 مايو 2013

افتتحت معركة القصير دورًا إقليميًا جديدًا لحزب الله في سوريا، سيضعه في سياق جبهتين عسكريتين الواضح منهما أن إحداهما دفاعية في مواجهة إسرائيل ولا تخفى مبرراتها الوطنية اللبنانية، وأخرى هجومية ضد المعارضة السورية تختزن أبعادًا وحسابات طائفية لبنانية وإقليمية رغم الحديث عن أبعاد أخرى قد تتصل “بالمقاومة

أكد أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في كلمته بتاريخ 30 إبريل/نيسان 2013 أن انغماس حزب الله عسكريًا في الوضع السوري يعبّر عن توجه استراتيجي هدفه عدم السماح بسقوط نظام الرئيس بشار الأسد(1)، وهذا يضع أعباء إضافية على الحزب الذي عليه أن يعيد تموضعه لبنانيًا وإقليميًا كجزء من استراتيجية تسمح له بالتكيف مع التغيرات التي يتعرض لها عمقه الحيوي السوري والمنطقة(2)، فضلاً عن استعداده الدائم لحرب متوقعة مع إسرائيل، كما عليه في الوقت عينه أن يواجه التطورات الميدانية المتسارعة في الضفة السورية، ووفق إيقاع دقيق يتلازم مع السياسة الإيرانية الكبرى في منطقة المشرق العربي.

معركة القصير.. الظروف والأبعاد

أعلن حزب الله في وقت مبكر تحفظه على “الثورة السورية” وتبنى خطاب النظام السوري في انسجام مع الموقف الإيراني الذي كان أكثر وضوحًا في دفاعه عن النظام السوري. ومع تعاظم حجم وقوة المعارضة السورية في مواجهة الرئيس الأسد، كان وقوف حزب الله إلى جانب النظام في تصاعد مواز حتى بلغ ما بلغه مؤخرًا، من الوقوف معه عسكريًا جنبًا إلى جنب في أكثر من موضع على الأراضي السورية، لاسيما حسب المعلن، حول المقامات الدينية هناك لحمايتها، ولحماية المناطق التي يوجد فيها لبنانيون وتحديدًا على الحدود مع منطقة الهرمل اللبنانية في ريف القصير السوري وهم من “الشيعة”، لأن الدولة اللبنانية يتعذر عليها الوصول للأراضي السورية وحمايتهم وحماية أملاكهم لأسباب شتى.

واتخذت المعركة في ريف القصير منحى تصعيديًا كبيرًا حيث سيطر حزب الله على أغلب القرى السورية التي تقع غرب نهر العاصي، وسقط له فيها قتلى بأعداد أكثر من الوتيرة السابقة (بغضّ النظر عن أعدادهم التي تقدرها مصادر المعارضة السورية بالعشرات، وذهب أمين عام حزب الله السابق صبحي الطفيلي بعد معركة القصير إلى أنهم 138 قتيلاً(3)) ليصبح في مواجهة مدينة القصير، ما يؤشر إلى تعاظم دور الحزب العسكري ميدانيًا في هذه المنطقة؛ الأمر الذي تطلب من السيد نصر الله إطلالة مبكرة في نهاية إبريل/نيسان -وكان من المقرر أن تكون في 9 مايو/أيار(4)- ليوضح فيها عاجلا سبب هذا التطور.

ولمعركة القصير صلة بالأوضاع الأمنية الآخذة في التدهور في دمشق وكذلك في معظم المناطق الحدودية الأخرى مع لبنان، والسيناريو الأكثر ترجيحًا هو أن ينقطع التواصل الجغرافي الآمن بين لبنان وسوريا ما سيؤثر على خطوط التنسيق والإمداد بين حزب الله ودمشق، كما سيضعف من الصلة بين قوى 8 من آذار ونظام الرئيس بشار الأسد. في هذا السياق يمكن قراءة “معركة القصير” بلغة حزب الله على أنها “إجراء وقائي” شبيه بذاك الذي كان في بيروت في 7 مايو/أيار 2008 “لحماية المقاومة”(5) أي حزب الله، واستعادة المبادرة لضخ الأمل مرة أخرى في قوى 8 آذار اللبنانية التي لا يزال النظام السوري فاعلاً أساسيًا فيها(6).

وأحد أهم التداعيات المباشرة على الأرض السورية لتدخل الحزب الأخير، هو المزيد من الاستدعاء من قبل المعارضة السورية للجماعات الإسلامية الموصوفة بالتشدد –كما لغيرها من مسلحي المعارضة- في مواجهة تمدد حزب الله، كي تخلق توازنًا عسكريًا معه في تلك المنطقة على وجه الخصوص، كما فعلت مع الجيش السوري النظامي في مناطق عدة من الجبهات المشتعلة. وهذه الحالة قد يقال: إنها تُغذّى لأسباب لها صلة بالضغط على المجتمع الدولي ووضعه أمام خيارين: تعزز نفوذ “الجماعات المتطرفة” في سوريا أو العمل على نجدة الشعب السوري لقطع أسباب “التطرف”، لكن تبقى هذا الحالة بالدرجة الأولى مطلبًا ضروريًا للمعارضة السورية لتمتين جبهتها المسلحة، لأن هذه الجماعات -إلى جانب حركات إسلامية أخرى- لا تزال تمثل العمود الفقري للمعارضة في أكثر من جبهة، وهي الأشد ثباتًا في الميدان. وهذه الصورة ستكون إحدى أبرز صور النزاع الطائفي في المنطقة “حربًا ضروسًا بين إسلاميين: سنة وشيعة”، وربما ستكون القصير أيضًا البقعة الجغرافية التي قد تغض القوى الغربية البصر عن تسرب “جماعة النصرة” ومثيلاتها إليها، في مقابل تدخل حزب الله لتكون المعركة بين “إرهابيين”.

لبنان ومرحلة ما بعد القصير

استقالت الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي(7) في 22 مارس/آذار 2013، وانكشف المشهد اللبناني على أزمة تشكيل حكومة جديدة برئاسة تمام سلام، وأزمة إيجاد قانون انتخابي يرضي جميع الأطراف وذلك قبل أن تنتهي المهلة التشريعية للمجلس النيابي في 19 مايو/أيار، حيث يجب على المجلس النيابي أن يقر قانونًا انتخابيًا قبل هذا التاريخ أو أن يمدد لنفسه، وقد لا يسلم هذا التمديد من الطعن القانوني فيه؛ لذا تتصاعد الأصوات المحذرة من الفراغ.

جاءت معركة القصير في هذه الظروف الشبيهة بالفراغ إذا لم يكن الفراغ عينه، وكأن سقوط حكومة ميقاتي إيذان بسقوط آخر ما تبقى من “سياسة النأي بالنفس” التي كانت الحكومة المستقيلة تتخذها شعارًا لها، ولتفتح الباب أمام معادلة جديدة يبادر حزب الله ومن معه لتشكيلها تقوم على أساس جديد في ما خصّ الشأن السوري جوهرُها أن وقوف اللبنانيين إلى جانب النظام السوري، هو مطلب وطني لبناني ومسألة حيوية “للمقاومة” في وجه إسرائيل، وأن وقوفهم إلى جانب الطرف المقابل أي المعارضة السورية، هو وقوف في وجه “المقاومة” -أي حزب الله- وهو لا يزال يتسامح إزاء القوى اللبنانية المؤيدة للمعارضة السورية –خاصة في الجانب العسكري- لأسباب تتعلق بأمن لبنان وظروفه. والمطلوب بالمقابل من الأطراف الأخرى تفهّم حاجة حزب الله هذه وتوفير الضمانات لها في صيغة التشكيل أي للحكومة الجديدة أو في طريقة إدارتها أو من خارجهما وإلا سيتعثر تشكيل الحكومة.

والجدير بالذكر أن إعلان حزب الله عن دوره المتصاعد في سوريا جاء متدرجًا سياسيا، فكان ينفي التدخل المباشر في الأحداث بسوريا، ثم اعترف “بدعم لبنانيين” شيعة في مناطق حدودية سورية مع لبنان للدفاع عن أنفسهم والبقاء في أرضهم، إلى أن اعترف بالتدخل المباشر و”الدفاع عن المقامات الدينية الشيعية” هناك ثم الوقوف إلى جانب الرئيس الأسد، وتبنى خطابا مذهبيا عالي الأدلجة ضد الثوار بوصفهم “إرهابيين” ضد الشيعة، ما ساهم في إقناع شرائح من جمهوره لتكون معه في حربه هذه، فضلا عن تهيئة ما أمكنه من القاعدة الشيعية وكذلك بعض نخبها لتتفهم دوافعه، ومن المحتمل جدًا أن يكون مقدمة لتدخل عسكري أكبر في سوريا، لأنه لم يعهد من الحزب أن يتبرع بالمعلومات حول نشاطاته -خاصة تلك التي يعرف سلفًا أنها ستجعله أكثر عرضة للإحراج- إلا لتصعيد يليها.

وفي مقابل ذلك، خرجت دعوات بالمقابل من الشيخ أحمد الأسير في مدينة صيدا الجنوبية والشيخ سالم الرافعي في مدينة طرابلس “لنصرة الثوار” في القصير والتطوع لمواجهة “الاعتداءات التي يقوم بها حزب الله” والجيش السوري النظامي ضد الشعب السوري، وتبنى كل منهما خاصة مؤيدو الشيخ الأسير كما هي عادتهم، خطابًا مستنسخًا من خطاب حزب الله في بعض صوره، مفاده أنهم يسعون “لحماية اللبنانيين في سوريا والدفاع عن المقدسات لاسيما المساجد التي تُسوّى بالأرض” كما وزعوا شريطًا مصورًا يظهر الشيخ الأسير إلى جانب مقاتلين في القصير وذلك في سياق التصعيد الإعلامي بين الطرفين.

والموقف الذي أعلنه الشيخان اللذان يشكّلان مرجعية محدودة في الشارع السني حتى الساعة، قياسًا إلى الشعبية والنفوذ اللذين يحظى بهما حزب الله في الطائفة الشيعية، لن يلقى إلا تجاوبًا محدودًا فيما خص المشاركة العسكرية إلى جانب “الثورة السورية”، لكنه قد يساهم راهنًا في إرباك خطاب حزب الله وخلق عراقيل محلية في مواجهة قراره التدخل العلني والواضح في الأزمة السورية. وهذا لا يمنع أن موقف الشيخين يلقى ترحيبًا عامًا من قبل السنة في لبنان “كخطاب تصعيدي” ما قد يمهد لعسكرة الطائفة السنية على المدى المتوسط، خاصة إذا لم تستطع القوى السنية التقليدية ذات الخطاب العابر للطوائف، أن تنجح في ضبط حزب الله ووجهة بندقيته.

هذا المشهد بجملته سيكرس استراتيجيات مذهبية في لبنان، وإذا أضيف إليه أن الخلاف حول الثورة السورية ليس محصورًا بالشأن المذهبي إنما يشهد أيضًا انقسامًا سياسيًا بين قوى 8 و14 آذار وعلى أسس وطنية، سيجعل من الانقسام مركبًا ما بين السياسي والمذهبي وسيجعل مواجهة أي استحقاق سياسي في لبنان -مثل تشكيل الحكومة، الانتخابات البرلمانية، وما إلى ذلك- بحاجة لاتفاق شبيه باتفاق الدوحة 2008(8) الذي سقط بسقوط حكومة الرئيس سعد الحريري في 12 يناير/كانون الثاني 2011؛ حيث أثبت الواقع اللبناني منذ الانسحاب السوري من لبنان، أنه لا يوجد ضامن لأي اتفاق بين اللبنانيين لانعدام الثقة بينهم، ولتداخل الإقليمي مع المحلي بصورة عضوية ومباشرة.

دور حزب الله الإقليمي

إن تصاعد العقوبات الدولية على إيران وتعدد محاور عزلها عن العالم أو التهديد بضربها، جعلا طهران أكثر تمسكًا بالأوراق القوية التي تملكها في المنطقة في العراق واليمن وسوريا ومنها لبنان، وعلى صعيد هذا الأخير من الملاحظ أن حزب الله بعد حرب عام 2006 أصبح أكثر اتساقًا في خطابه وأدائه مع خطاب ومتطلبات إيران في المنطقة، وذلك بغض النظر عن التبريرات التي يحاول أن يعطيها أبعادًا تتصل بالمقاومة ومواجهة إسرائيل ومن معها.

إن تعرض الجبهة -سوريا وإيران- التي ينتمي إليها حزب الله للحصار واحتمال ضربها عسكريًا، يتطلب منه التمسك بدوره الإقليمي ولو على حساب الواقع اللبناني أو على حساب علاقاته التاريخية مع نظرائه السنة من الإسلاميين، لأسباب أصبحت مفهومة تتعلق ببنيته “ومشربه المذهبي الخاص” والمرن-الشبيه بمرونة الخطاب الإيراني وقدرته على عكس البعد المذهبي والإسلامي والوطني وفق التحديات- ذي القدرة الفائقة على استثارة الخطاب المذهبي والقفز فوق الإسلامي والوطني عند الحاجة، وكذلك لأنه بنى “مقاومته” نفسها على معادلة إقليمية معقدة جوهرها قراءة إيرانية متعددة الأبعاد، تقوم في بعدها العقائدي الأيديولوجي على ولاية الفقيه، وفي بعدها الجيوسياسي على ظهور عُلو يد إيران على من سواها في الإقليم، وذلك سواء “بالشراكة” مع العرب كما هي علاقتها التاريخية مع النموذج “السوري” أو بدونهم كما هي علاقتها المتوترة غالبًا مع “دول الخليج”.

والترابط الإيراني-السوري ومن ورائه تحالف حزب الله مع الرئيس بشار الأسد ليس بالضرورة سيستمر بنفس القوة الراهنة خاصة إذا ما تغيرت الظروف لاسيما وأن طهران تملك مساحة للمناورة. فهناك رؤية إيرانية أخرى في ثنايا خطابها التقليدي تفترض وجود معارضة إصلاحية سورية ضد النظام، وأن إيران حريصة على وقف الدم السوري كي لا يغرق الجميع بحرب أهلية طويلة الأمد؛ لذا هي تقول: إن أبوابها مفتوحة لأي حوار بين المعارضة والنظام لإيجاد حل سياسي، وتأمل أن تفتح في ظل هذا الخطاب علاقات مع أطياف سورية عدة مرشحة لأن تكون فاعلة إذا ما انتهت حقبة الأسد، وتكون أكثر تقبلاً للتحالف معها عند الحاجة.

لكن حاليًا يأتي تأكيد المرشد علي خامنئي المتكرر على أن ما يجري في سوريا هو حرب على إيران نفسها وعلى قوى الممانعة وأن المعارضة المسلحة “تُدعم من الصهيونية وأميركا وبعض دول الخليج”، ليحسم الجدل في أن التحالف الاستراتيجي في الظروف الراهنة مستمر حتى آخر بقعة سورية يلجأ إليها الرئيس بشار الأسد ويرفع عليها العلم السوري.

وفي هذا السياق المتعدد للخطاب الإيراني تتموضع معركة القصير إقليميًا، وتعيد الحديث عن إيجاد جغرافيا آمنة لنظام الرئيس بشار الأسد في حال تدهور الأوضاع في دمشق وانعدام الأمن فيها فضلاً عن سقوطها، وهي المنطقة الممتدة ما بين حمص واللاذقية، وبهذا تكون مطلبًا إيرانيًا وسوريًا وهمزته الواصلة هو حزب الله والقرى الشيعية الحدودية في ريف القصير أو قُل: غرب نهر العاصي، لأن تعثر الصلة بين القاعدة الخلفية لحزب الله في منطقة الهرمل اللبنانية وجوارها والامتداد السوري، ستخلق أوضاعًا لوجستية صعبة لحزب الله، لمواجهة أية تطورات خلال هذه المرحلة الراهنة على الأقل التي قد تتطلب منه مددًا مستمرًا من السلاح، لاسيما في حال تجدد المواجهة العسكرية مع إسرائيل بشكل واسع لأي سبب، وكذلك في حال تعرض إيران لأية ضربة عسكرية قد تتطلب من الحزب أن يكون جزءًا من الرد، فضلاً عن استمرار قوى التحالف الإيراني-السوري في لبنان، أي قوى 8 آذار.

وجاء تقدم حزب الله نحو ريف القصير لما يؤمّنه من حاضنة شيعية خالصة وقاعدة ولو محدودة لحزب الله داخل الأراضي السورية تعزز قدرته على المبادرة، ولما قد يوفره من الدعم المتبادل مع النظام السوري إذا ما استقرت المحاور العسكرية بين النظام والمعارضة لتصبح حربًا أهلية طويلة، فيحافظ الحزب على مكاسبه السياسية واللوجستية في لبنان، ويصبح الانقسام اللبناني في هذه الحالة مشدودًا بالكامل إلى الانقسام السوري.

كما أن التقدم نحو القصير يشكّل استجابة لضرورة المرحلة إذا ما كانت المنطقة الحدودية اللبنانية السورية مقبلة على التدويل، بما يقطع الصلة بين لبنان وسوريا على حزب الله ومؤيديه، وهناك سيناريوهات متعددة قد تشبه بنتائجها -وليس بالضرورة بأسبابها- ما أسفرت عنه حرب 2006 مع إسرائيل وتم بموجبها إبعاد حزب الله إلى ما وراء شمال نهر الليطاني (9)، وبالتالي إبعاده في هذه الحالة بعيدًا عن الحدود مع سوريا.

استنتاجات

إن كل الاحتمالات التي قد تؤول إليها الأزمة في سوريا تتقاطع عند حزب الله بضرورة الإسراع بإعادة التموضع عسكريًا في لبنان مع محاولة الاحتفاظ برصيده السياسي مع حلفائه وكذلك الحفاظ على حاضنته الشعبية، والتركيز على زيادة مخزونه العسكري في لبنان وتطوير دوره العسكري في سوريا بطرق مختلفة، لثقته بأن الاضطرابات في سوريا ستستمر طويلاً سواء أسقط نظام الأسد أم صمد لمدة أطول، بنى دويلة أم لجأ لجغرافيا آمنة، بقيت سوريا موحدة أم تقسمت، والعراق شاهد على هذا التحليل فهو أكثر تماسكًا من سوريا القادمة ولا يزال مضطربًا وساحة لكل الأطراف.

ولكن هناك احتمال واحد يستبعده حزب الله ومن ورائه إيران، وربما هو الوحيد الذي يحد من دورهما الفاعل في سوريا، ألا وهو قيام دولة سورية متماسكة من جديد بصيغة ما أو باتفاق دولي أو إقليمي ما، دون أن يكون لهما يد فيه، وهو ما يؤكده حزب الله مرارًا بأن الحل في سوريا هو سياسي ولن نتخلى عنها، أي يجب أن نكون جزءًا من الحل ورعاته.

والخلاصة من معركة القصير أنها افتتحت دورًا إقليميًا جديدًا لحزب الله في سوريا، سيضعه في سياق جبهتين عسكريتين الواضح منهما: أن إحداهما دفاعية في مواجهة إسرائيل ولا تخفى مبرراتها الوطنية اللبنانية، وأخرى هجومية ضد المعارضة السورية، وهي تختزن أبعادًا وحسابات طائفية -لبنانية وإقليمية- رغم كل الحديث عن وجود أبعاد أخرى قد تتصل “بالمقاومة” ودورها في المنطقة.

وأضافت هذه المعركة لبنانيًا معضلة أخرى ووظائف أخرى لسلاح حزب الله في لبنان؛ فمشروعية سلاح حزب الله بعد معركة القصير لم تعد مرتبطة بحماية لبنان من إسرائيل أو بحفظ أمن اللبنانيين من عدوانها فقط، بل بأمن “الشعب اللبناني” في سوريا أو حيث تتخلف الدولة عن حمايتهم، وعلى الاستراتيجية الدفاعية اللبنانية المطروحة بين قوى 8 و14 آذار أن تلحظ ذلك.

إن قدرات حزب الله العسكرية حيث تتوجه فإنها تكرس أعرافًا سياسية جديدة ستزيد من صعوبة التحاور بين الأطراف اللبنانية المتنازعة، وستزيد من ربط الأزمة اللبنانية خاصة إذا ما توسع مفهوم “حماية المقاومة” بالأزمات في الإقليم، بدءًا من سوريا مرورًا بالعراق وصولاً إلى إيران.

___________________________________

شفيق شقير – باحث متخصص في المشرق العربي والحركات الإسلامية

الهوامش

1- قال السيد حسن نصر الله في خطابه هذا بكل وضوح: إن “أصدقاء سوريا، الإقليميين والدوليين، لن يسمحوا بسقوطها بيد أميركا أو إسرائيل أو الجماعات التكفيرية”. ويمكن العودة لخطابه على الرابط أدناه:

http://www.youtube.com/watch?v=wGsGF0CJ5tE

2- حول إعادة تموضع الحزب لبنانيًا وإقليميًا، انظر: حزب الله: الدور في سوريا وانعكاساته اللبنانية، 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، مركز الجزيرة للدراسات.

http://studies.aljazeera.net/reports/2012/11/201211881910626271.htm

3- ذهب الأمين العام السابق الشيخ صبحي الطفيلي، والذي على خلاف مع السيد نصر الله، في مقابلة متلفزة بتاريخ 24 إبريل/نيسان 2013 إلى أن خسائر حزب الله في سوريا تصل إلى 138 قتيلاً. يمكن الاطلاع على المقابلة على الرابط أدناه: http://www.youtube.com/watch?v=_ArI6SdQDJ8

4- أوساط حزب الله أعلنت مسبقًا أن السيد نصر الله التقى خامنئي في إيران وأنه سيكون له إطلالة على جمهوره في 9 مايو/أيار احتفاء بذكرى تأسيس وسيلة إعلامية تتبع للحزب. انظر موقع النهار نت على الرابط التالي: http://www.naharnet.com/stories/ar/80214

5- شهد لبنان في 7 مايو/أيار 2008 انتشارًا عسكريًا واسعًا سيطر من خلاله حزب الله على أجزاء واسعة من بيروت وضواحيها بهدف حماية شبكة الاتصالات الخاصة بحزب الله “وحماية المقاومة”.

6- التقى الرئيس بشار الأسد وفدًا يمثل “الأحزاب اللبنانية” وتحديدًا قوى 8 آذار في 21/4/2013، وذلك بالتوازي تقريبًا مع التصعيد العسكري في ريف دمشق والقصير.

7- انظر استقالة الحكومة اللبنانية، موقع الجزيرة نت،

http://www.aljazeera.net/news/pages/91809f9a-441a-4b51-a31b-5343527412c4

8- أفضى اتفاق الدوحة الذي عُقد بين 16-21 مايو/أيار 2008، بقوى 8 و14 آذار اللبنانية إلى انتخاب رئيس جمهورية جديد، قائد الجيش ميشال سليمان، وإقامة انتخابات برلمانية جديدة، وإلى تشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري. يمكن الاطلاع على بعض وثائق الاتفاق على  الموقع الرسمي له، على الرابط الآتي:

http://www.qatarconferences.org/lebanon/

9- انتهت حرب يوليو/تموز 2006 بقرار مجلس الأمن الدولي 1701 الذي نص فيما نص عليه إضافة إلى “إنهاء العمليات القتالية”، أن تنسحب قوة حزب الله إلى شمالي نهر الليطاني وانتشار الجيش اللبناني هناك.

نبذة عن الكاتب

0bf5914038a14ae6a370eae3786a4d24_6.jpg

شفيق شقير

باحث في مركز الجزيرة للدراسات متخصص في المشرق العربي والحركات الإسلامية

————————————–

6 – يونيو – 2013

معركة القصير: سقوط الهالة.. بعد إماطة اللثام/ صبحي حديدي

إذا لم يكن امرؤ ما ديماغوجياً بالفطرة، يخلط حابل الغد بنابل اليوم والأمس، خبط عشواء؛ وهو ليس موالياً أعمى للنظام السوري، أو لأيّ من حلفائه، وخاصة ‘حزب الله’ وإيران، دون استثناء روسيا بالطبع؛ وليس ‘يسراوياً’ بالمعنى الأشدّ ابتذالاً للمفردة، ما يزال يرى الانتفاضة السورية ‘صناعة صهيو ـ أمريكية’، تشارك في تنفيذها قطر والسعودية و’القاعدة’، فضلاً عن دول الاستعمارَين القديم والجديد في الغرب، وما تبقى من قوى سايكس ـ بيكو… فإنّ أيّ امرىء لا يتحلى بواحد من هذه الميول، أو بها جميعها متشابكة متراكبة، ويمتلك من حسّ الضمير والعقل مقدار الحدّ الأدنى، سوف يحتفظ من تغطيات دخول ‘حزب الله’ إلى بلدة القصير السورية، بتلك المشاهد التي تصوّر الدمار التامّ، المذكّر بذلك الخراب العميم الذي حاق بمدينة مثل ‘غرنيكا’ الإسبانية، سنة 1937؛ أو مدينة هوي، ثالث مدن فييتنام، سنة 1968.

فإذا كان المرء سورياً، وليس بالضرورة ابن أيّ من بقاع الجولان المحتلّ، فإنّ من العسير عليه استبعاد مشاهد تقويض بلدة القصير، بسبب عمليات القصف الجوي (أكثر من 80 غارة مباشرة)، والصاروخي (حيث لم يتردد النظام في استخدام الـ’سكود’)، والمدفعي (بالدبابات والمدفعية الثقيلة والراجمات)، طيلة ثلاثة أسابيع متعاقبة؛ بالمقارنة مع مشاهد تدمير مدينة القنيطرة، على يد الاحتلال الإسرائيلي، خلال حرب 1973. ثمة فارقان، هنا، مع ذلك: أنّ إسرائيل كانت عدوّ السوريين، والعرب، التاريخي، ومخفر الولايات المتحدة والإمبريالية العالمية المدلل المدعوم بالسلاح والمال، أوّلاً؛ وأنها دمّرت المدينة بعد الانسحاب منها، وليس على رؤوس ساكنيها المدنيين العزّل، ثانياً.

وقد يرفع ‘ممانع’ عقيرته بالشكوى من أنّ المقارنة مع إسرائيل غير واردة، أو هي ليست ‘وطنية’، أو ‘غير لائقة’، حتى إذا جاز القول إنّ قوّات النظام الموالية صارت عدوّة الشعب السوري منذ أن قابلت احتجاجاته السلمية بالذخيرة الحية، قبل الانتقال إلى استخدام صنوف الأسلحة كافة. بيد أنّ ذلك كله لا يلغي وجاهة المقارنة، بالمعاني المادّية المحسوسة والملموسة والمرئية، بين خراب وخراب؛ أياً كانت وجاهة السجال في ‘وطنية’ استذكار العدوّ الإسرائيلي إزاء ممارسات النظام السوري الوحشية، أو في ‘أخلاقية’ وضعهما على مصافّ متوازية من حيث استهداف البشر والحجر والزرع والضرع، وعدم التعفف عن تسخير أيّ سلاح ناري، وأية طاقة تدميرية، بما في ذلك الغازات السامة والأسلحة الكيماوية، لإلحاق أقصى الأذى بـ’العدوّ’… كما تقول لغة إعلام النظام في وصف المعارضة، المدنية منها أو المسلحة.

أمّا إذا كان المرء في عداد 40 ألفاً من أبناء القصير، وغالبيتهم الساحقة من النساء والشيوخ والأطفال، ممّن حوصروا في البلدة على امتداد ثلاثة أشهر، وشهدوا من الأهوال والأرزاء ما يتوجب أن يندى له أيّ جبين ذي ضمير؛ فما الذي يتبقى في نفس ذلك المرء من ‘وطنية’، إذْ يشهد بعض مقاتلي ‘حزب الله’، ممّن سبق له أن ألجأهم في بيته إثر العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006، وهم يستبيحون البيت ذاته، ويعيثون فيه ذبحاً وتدميراً؟

وماذا يقول في بعض أهل الضاحية الجنوبية، في بيروت، ممّن فتحت لهم القصير صدور أبنائها قبل أبوابها وبيوتها، مراراً وتكراراً منذ الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982، وهم يوزّعون الحلوى احتفاءً باجتياح… القصير؟

وهنا، أيضاً، هل ألحق العدوان الإسرائيلي خراباً بالضاحية الجنوبية يماثل (وقد يقول البعض: يفوق) الخراب الذي حاق ببلدة القصير، ويوزّع أنصار ‘حزب الله’ الحلوى احتفاءً به؟

وإذا كانت المعركة بين إسرائيل والعرب، سوريين ولبنانيين خاصة، تضرب بجذورها عميقاً في تاريخية القضية الفلسطينية، وفي كفاح الوجود ـ أو حتى الحدود، لمن يشاء! ـ مع الكيان الصهيوني الاستيطاني والعدواني، وظهيرته الإمبريالية العالمية، وما إلى هذه وسواها من عناصر الصراع؛ ثمّ إذا كانت المعركة بين الشعب السوري وسلطة ‘الحركة التصحيحية’، الأمنية والعسكرية والمالية، قد اتضحت طبيعتها، فانتفى منها أي لبس حول المدى الذي يمكن أن يذهب إليه النظام على قاعدة ‘الأسد، أو نحرق البلد’؛ فما المعركة التي ينتشي لها ‘حزب الله’، إلى هذه الدرجة الهستيرية، في هذه البلدة تحديداً: القصير، ملاذ شيعة الجنوب اللبناني، وبعلبك، والضاحية الجنوبية؟

وهيهات لامرئ عربي، في المقابل، أن يمتلك من طاقات التسامي على جذور العقيدة والمذهب والشعور والعصبية، أو مخلّفاتها المترسبة عميقاً في التربية العائلية والذاكرة الفردية والجَمْعية؛ فلا يرى في إسقاط القصير على هذا النحو، وتخريبها بهذه الوحشية، جولة جديدة للنزاع السنّي ـ الشيعي، وتداعيات متجددة لثارات عمرها يرتدّ إلى 1400 سنة خلت. لا يكفي أن يوظّف حسن نصر الله، الأمين العام لـ’حزب الله’، كامل طاقاته في البلاغة والخطابة حول تنزيه أنصاره عن حميّة النوازع الشيعية في قتالهم داخل سورية؛ ولا يكفي أن يتحذلق أمثال نعيم قاسم، نائب الأمين العام، بالقول مثلاً: ‘نحن نواجه التيار التكفيري لأنه لا يمثّل السنة بل الإرهاب، ونحن مستعدون لأوسع العلاقات بين السنّة والشيعة وجميع المسلمين، وسنحافظ عليها بوجه التيار التكفيري الغاصب’.

يكفي، في المقابل، أن ينصت المرء إلى ما يردده جمهور ‘حزب الله’، أثناء مراسم تشييع أحد قتلاه، من عبارات تفتقر بالضرورة إلى مهارات نصر الله اللفظية وحذلقة قاسم التجهيلية، ولكنها توفّر التعبير الأصدق عن الباطن المذهبي المشحون الذي اكتنف ذهاب ذلك القتيل إلى القصير (وليس إلى السيدة زينب، للتذكير!). وأمّا إذا أراد مستزيد أن يستزيد، فله أن يتابع شريط العميد محمد خضور، الضابط في جيش النظام الموالي، وهو يخطب في بعض أبناء قريتَي ‘نبّل’ و’الزهراء’، من أعمال ريف حلب، فيهتف: ‘سنقاتل تحت راية الحسين!’؛ وذلك على مرأى ومسمع من ممثّلي الدولة، محافظ حلب وأمين فرع حزب البعث هناك (وكلاهما ‘علماني’ من حيث المبدأ البعثي، لكي لا يذكّر المرء بأنهما من السنّة أيضاً).

بيد أنّ القصير ليست الفصل الأحدث في الهاوية السياسية، وكذلك الأخلاقية والإنسانية، التي ينحدر إليها ‘حزب الله’ حثيثاً، لأسباب باتت جلية ولا تحتاج إلى فذلكة تحليلية، فحسب؛ بل هي، أيضاً، موقعة فاصلة أتاحت تجريد تلك الهالة المقدّسة التي ظلّ البعض يصرّ على اعتبارها سمة، لازمة مطلقة وأزلية، لصيقة بهذه ‘المقاومة’ العجيبة التي استدارت ببنادقها من مواجهة العدوّ الإسرائيلي إلى القتال ضد ‘عدوّ’ جديد اسمه الشعب السوري. ولهذا فإنّ معركة القصير لا تُصنّف في باب ‘الانتصار’ إلا عند امرىء من الطراز الذي استعرضته الفقرة الأولى في هذا المقال، ولا حاجة لسرد الاعتبارات التي تجعل ‘انتصار’ الحزب في القصير، بمثابة هزيمة له على كلّ جبهة أخرى، عسكرية كانت أم سياسية وأخلاقية، في المواجهة مع إسرائيل أم في مواجهة الضمير العربي والإسلامي السنّي الذي عاضد ‘حزب الله’ طويلاً، حتى آن أوان إماطة اللثام.

وموقعة القصير ليست تلك المعركة التي تتيح للنظام السوري أن يبتسم، كما توقّع البعض، أو أن ينتقل إلى الهجوم المضادّ؛ لسبب أوّل يقول، ببساطة، إنها كانت أشبه بمعركة العين ضدّ المخرز، خاصة بعد أن وضع ‘حزب الله’ كامل أثقاله في القتال، وقامر بخسران الكثير مقابل اجتياح مدينة أطلال. هنا يخون التعبير لسان الشيخ نعيم قاسم، فيكشف النقاب عن أنّ اتضاح ‘الخطر الداهم’ على النظام السوري، وليس البتة على ‘حزب الله’، هو العامل الذي حتّم الدخول في المعركة، على هذا النحو المكشوف الفاضح: ‘نحن لا ندافع عن نظام سورية، وهو المسؤول بالدفاع عن نفسه، إنما ندافع عن مشروع المقاومة الذي تمثّله سورية، وقد دخلنا متأخرين وصبرنا لنرى النتائج، وعندما وجدنا الخطر داهماً، رأينا أنّ من واجبنا التدخل عندما شعرنا أن الخطر داهم على المستوى الستراتيجي’.

سبب ثان، معروف بدوره، هو أنّ القصير اكتسبت بُعداً رمزياً، وأيقونياً في الواقع، أعلى بكثير ممّا تردّد عن مكانتها الديموغرافية، أو مكانها الجيو ـ ستراتيجي، في رقعة الصراع العسكري بين فصائل ‘الجيش السوري الحرّ’ من جهة، وقوّات النظام الموالية، ومقاتلي ‘حزب الله’ من جهة ثانية. ولقد انجرّت المعارضة السورية إلى سيرورة الترقية الرمزية والأيقونية تلك، عن حماس خاطىء كما يتوجب القول، بحيث استسهل البعض الحديث عن ‘معركة فاصلة’ تحسم مسارات مصير الانتفاضة السورية بأسرها، وكأنّ القصير تعادل تحرير حلب أو حمص أو اللاذقية، أو حتى دمشق ذاتها. ولا ريب في أنّ صمود أهل القصير الملحمي، والقتال البطولي الذي خاضته كتائب المقاومة في داخل البلدة وعلى تخومها، لم يسهم في تظهير صورة واقعية للقتال، بل ارتقى به إلى المستويات الأسطورية العالية وحدها.

وكما كانت ابتسامة بشار الأسد باهتة، حين زار حيّ بابا عمرو الحمصي، الذي اجتاحته قوّاته بعد تطبيل وتزمير (اقتضى من نصر الله أن يدلي بدلوه فيه، فيقول ما معناه: لا شيء يحدث في حمص)، وكانت ابتسامة مؤقتة تماماً، لأنّ الحيّ حُرّر مجدداً؛ كذلك فإنّ أية ابتسامة مماثلة سوف تلقى المآل ذاته، أغلب الظنّ، مع فارق أنها هذه المرّة سوف تكون أدنى إلى تظهير المزيد من مكوّنات تأزّم حلفاء النظام، وليس قوّاته الموالية وأجهزته وميليشياته فقط. وكما كان ‘حسم’ النظام في بابا عمرو يتوسّل التلويح بالقبضة العسكرية الثقيلة أمام مداولات مجلس الأمن الدولي، بصدد أوّل مشروع قرار حول سورية آنذاك؛ فإنّ ‘حسم’ القصير كان يستهدف الدخول الصاخب على خطّ الاجتماع التمهيدي الأوّل لـ’جنيف ـ 2’، من جهة؛ وتذكير الناخب الإيراني المحافظ، عشية المناظرات الأولى بين مرشحي الرئاسة هناك، في طهران، بأنّ ‘حزب الله’ هم الغالبون… هنا في القصير!

.. وهنا، في القصير، كانت العين السورية تواجه مخارز شتى: النظام، في أشرس توظيف لآلته العسكرية الإيرانية والروسية، وميليشياته الطائفية، وقطعان الشبيحة والمرتزقة؛ و’حزب الله’، في ذروة قصوى من انفضاح ‘سلاح المقاومة’ الذي قيل إنه لن يستدير إلى الداخل في أيّ يوم، فأعطى تمريناً تمهيدياً على بطلان ذلك الوعد حين استدار لتوّه على الشعب السوري، الشقيق الذي ألجأ أهله ومقاتليه؛ وشراذم المأجورين، الطائفيين، زاعمي حماية المقامات الروحية، و’اللّطامين’ من المهووسين بالقتال ‘تحت راية الحسين’…

العبرة في المآلات، مع ذلك، لأنّ المعادلة ليست مقتصرة على مقاومة العين للمخرز، حين تقتضي الحال على غرار ما شهدت القصير، بل هي في عين تواصل الشخوص إلى أمام، إذْ تبصر الحقّ والمستقبل؛ وفي مخرز يعتريه صدأ محتوم، إذْ يهبط إلى حمأة الباطل والماضي.

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

————————————-

“معركة القصير”: التداعيات والآثار

نجحت كتائب الثوّار السوريّين خلال الربع الأوّل من عام 2013 في تحقيق انتصاراتٍ عسكرية مهمّة من أبرزها تحرير مدينة الرقّة، وإفشال الحملة العسكريّة على حمص القديمة، ووصولهم إلى تخوم العاصمة دمشق (حي جوبر). ونتيجة لتأكّل سيطرة النظام العسكرية، ساد انطباعٌ عامّ بإمكانية اختلال توازن القوى عسكريًّا ورجحانه لمصلحة الثورة. لكن الانطباع السابق سرعان ما تبدّد؛ فقد بدأ النظام السوريّ منذ مطلع نيسان / أبريل 2013 حملةً عسكريّة مضادّة في عموم مناطق سورية، لكنّه حصر أولويّاته العسكرية مرحليًّا في ثلاث معارك، هي:

    معركة الغوطتين: نجح النظام في تحقيق اختراقاتٍ عسكريّة على جبهة الغوطة الغربيّة (داريا والمعضمية)، وأحكمَ السيطرة على طريق المطار. كما طوّق الغوطة الشرقية عند منطقة العتيبة والتي تُعدّ خطّ الإمداد الرئيس للثوّار في الغوطة الشرقية، الأمر الذي دفع 23 فصيلًا مسلّحًا في الغوطة الشرقية إلى تشكيل غرفة عمليات مشتركة بتاريخ 12 أيار/مايو 2013، وبدْء ما سُمّي معركة “الفرقان”، لصدّ الهجوم العسكري على الغوطة الشرقية خاصّةً في بلدة العتيبة. وبالفعل، استطاع الثوّار إخراج قوّات النظام من بلدة العتيبة؛ لتتركّز المعارك في محيطها.

    معركة معرّة النعمان: استطاع النظام في 14 نيسان/ أبريل 2013، فكّ الحصار جزئيًّا عن معسكرَي وادي الضيف والحامدية. كما حاول فتْح طريق دمشق – حلب الدولي من دون أن يحقّق هدفه. وفي أواخر نيسان/ أبريل 2013، أجبرت كتائب الثوّار قوّاتِ النظام على الانسحاب من قرى بابولين، والتح، وتحتايا باتّجاه مدينة خان شيخون، نقطة التمركز الرئيسة لقوّات النظام في ريف إدلب الجنوبي.

    معركة القصير: بدأت في الأسبوع الأوّل من شهر نيسان/ أبريل 2013، ولا تزال رحاها تدور حتّى الآن.

على أهمّية الاختراقات الأخيرة لقوّات النظام في الغوطتين، أو في معرّة النعمان، فهي تبقى جزئيّة ومحدودة التأثير بحكم أسلوب الكرّ والفرّ والانسحابات التكتيكية التي يلجأ إليها الطرفان عادةً. يضاف إلى ذلك أنّ النظام يدرك صعوبة “الحسم” في هذه الجبهات؛ لذلك سعى إلى “تحريكها” لتحقيق أهدافٍ مرحلية تتمثّل في إبعاد الخطر عن العاصمة دمشق في حالة الغوطتين، وتخفيف الضغط عن ريف حلب الجنوبي في حالة معرّة النعمان. أمّا معركة القصير، فهي ذات أهمّية إستراتيجية بالنسبة إلى النظام والثوّار في آنٍ معًا، وسيترتّب عليها نتائج وتداعيات مؤثّرة في النظام والثورة.

تحاول هذه الورقة الوقوف على المعارك الدائرة في مدينة القصير، والتركيز على خصوصيتها وأهمّيتها في الصراع القائم، وتلمّس تداعياتها الحاليّة والمستقبلية على طرفَي النزاع في الأزمة السوريّة.

القصير: المعركة المؤجّلة

لا يمكن النظر إلى ما يجري في القصير بصورةٍ منعزلة عن معركة حمص ككلّ؛ إذ إنّ مسار الأحداث في مدينة القصير، وعلى مدار أكثر من عام، ارتبط بمجريات الأحداث في مدينة حمص.

تقع مدينة القصير جنوب غربي حمص، وتبعد عنها مسافة 35 كيلومترًا، وعن الحدود اللبنانيّة مسافة 15 كيلومترًا فقط. تُعدّ القصير نقطةَ الوصل بين الشمال اللبنانيّ، وريف حمص الجنوبي، كما أنّها تبعد نحو عشرة كيلومترات فقط عن العقدة التي تتلاقى فيها معظم الطرق الدولية البرّية داخل سورية. يبلغ عدد سكّان مدينة القصير 42 ألف نسمة. ويتبعها إداريًّا أكثر من أربعين قرية. تعدّ القصير منطقةً مختلطة دينيًّا وطائفيًّا؛ إذ يتركّز المسلمون السنّة، والمسيحيون في المدينة ومحيطها القريب (قريتَي الموح، وأبو حوري)، وتحيط بها قرًى شيعيّة، أبرزها (البرهانية، والدمينة الشرقية، والعقربية، والنزارية)، وقرًى علويّة مثل الحيدرية والعبودية.

انخرط سكّان مدينة القصير في الاحتجاجات السلميّة منذ جمعة الشهداء 1 نيسان / أبريل 2011. وقد حافظت المدينة على وتيرة احتجاجاتها السلمية حتّى نهاية شباط / فبراير 2012؛ إذ التجأ إليها المقاتلون الهاربون من حيّ بابا عمرو، وشكّلوا مع سكّانها كتائبَ مسلّحة لقتال الجيش النظامي. وبنهاية شهر آذار / مارس 2012، خرجت مدينة القصير عن سيطرة النظام عسكريًّا، ولم تنجح المحاولات المتكرّرة في اقتحامها أو إعادة السيطرة عليها.

على الرغم من تحوّل القصير إلى أكبر تجمّعٍ للثوّار المقاتلين في محافظة حمص بعد اقتحام حيّ بابا عمرو في نهاية شباط / فبراير 2012، فقد أسقط النظام المدينةَ من أولويات حساباته العسكرية خلال عام 2012؛ إذ إنّ إستراتيجيته كانت تقوم على وأد الثورة في مراكز المدن، وعزلها ما أمكن في الأرياف البعيدة. وعليه، فإنّ جميع المعارك خارج مدينة حمص لم تكن أولوية أو ضرورة راهنة بالنسبة إلى النظام.

يؤكّد مسار العمليات العسكرية في محافظة حمص الاستنتاج السابق؛ فقد استغلّ النظام الفيتو المزدوج الروسيّ – الصينيّ في مجلس الأمن ضدّ مشروع قرارٍ تقدّمت به الجامعة العربيّة في 4 شباط / فبراير 2012، وقام بعمليةٍ عسكرية كبيرة في حيّ بابا عمرو استمرّت عشرين يومًا نجح خلالها في اقتحام الحيّ وإجبار المسلّحين الأهليّين والضبّاط المنشقّين الذين اتّخذوا الحيّ قاعدةً لقتال قوّات النظام في حمص، على الانسحاب منها.

 استثمر النظام اقتحام حيّ بابا عمرو إعلاميًّا وسياسيًّا؛ فقد عدّ “انتصار” الجيش في حمص نقطةَ تحوّلٍ لجهة القضاء على الثورة، وإحباط المؤامرة التي ترعاها قوًى دولية، وإقليمية. وضمن هذا الإطار جاءت زيارة بشّار الأسد إلى حيّ بابا عمرو في 27 آذار / مارس 2012، حيث أعلن عن عودة الهدوء إلى مدينة حمص، وأصدر تعليماته إلى المحافظ من أجل إعادة إعمار ما تهدّم في المواجهات.

كانت المفاجأة خارج حسابات النظام، عندما تحصّن مقاتلو الجيش الحرّ في أحياء حمص القديمة، الأمر الذي أدّى إلى تجدّد المواجهة العسكرية. وعلى خلاف مسار العمليات العسكرية في حيّ بابا عمرو، لم يستطع النظام استعادة السيطرة على حمص القديمة. وفي منتصف حزيران / يونيو 2012، بدأ في محاصرتها، وعزلها عن باقي الأحياء. ولاستكمال عزل حمص، قام النظام خلال عام 2012 بعدّة عملياتٍ عسكرية استهدفت خطوط الإمداد، ولا سيّما في قرى الريف الشمالي ومدنه (تلبيسة، والرستن). وبنهاية عام 2012 اقتحم الجيش السوريّ النظامي حيّ دير بعلبة (بوابة حمص القديمة)، ليُحكم حصاره على ما تبقّى من الأحياء فيها (البياضة، والخالدية، والقصور، والقرابيص، وجورة الشياح، وباب هود، وباب الدريب، وغيرها). ونتيجة لذلك، بدأ النظام السوريّ منذ بداية عام 2013 التحضير لحملةٍ عسكريّة تستهدف الأحياء المحاصرة في حمص القديمة، للقضاء على آخر معقلٍ للثورة في مدينة حمص (انظر الخريطة 1).

خريطة (1): أحياء مدينة حمص

القصير: المعركة العاجلة

في مطلع آذار / مارس 2013، وبعد ما يزيد على 270 يومًا من الحصار، أعلن الجيش السوريّ عن بدء اقتحام حمص القديمة ابتداءً من حيّ الخالديّة، إلا أنّ العملية العسكريّة الموسّعة التي استمرّت نحو عشرة أيّام فشلت في تحقيق أهدافها. وقد استطاع الثوّار إجبار جيش النظام، وقوّات الدفاع الوطني – المليشيات الطائفية التي شكّلها النظام – على الانسحاب من محيط الخالديّة. ليس هذا فحسب، بل قامت بعض كتائب الثوّار – قدمت من ريف حمص الجنوبي – في 10 آذار / مارس 2013 بهجومٍ مضادّ في حيَّي بابا عمرو والإنشاءات، وأعادت السيطرة عليهما قبل أن يستعيدهما الجيش النظامي من جديد في 30 آذار / مارس 2013. واستطاعت الكتائب الموجودة في ريف حمص الشمالي (تلبيسة، والرستن) اختراق الحصار، وإيصال إمداداتٍ غذائية وطبّية، وعسكريّة إلى حمص القديمة، الأمر الذي منح المقاتلين داخلها قدرةً إضافية على الصمود والمواجهة.

كان لفشل اقتحام حمص القديمة تأثيرٌ في إستراتيجية النظام؛ فحصار المدينة وعزلُها لم يؤدِّيا الغرض المطلوب لإسقاطها، الأمر الذي فرض عليه تغييرَ الخطط واستبدالها بأخرى أكثر فاعليّة.

اقتنع النظام بأنّ ثغرة حمص تكمن في أريافها، خاصّةً ريفها الجنوبي المحاذي للحدود اللبنانيّة، وفي قلبه مدينة القصير التي تمثّل أكبرَ قاعدة إمداد لمدينة حمص، وأحياءَها الطرفيّة خاصّةً حيّ بابا عمرو، وجوبر والسلطانية (انظر الخريطة 2). تأسيسًا على ذلك، غيّر النظام خططه العسكرية فيما يتعلّق بحمص، وتحوّلت القصير من معركةٍ مؤجّلة إلى معركةٍ عاجلة.

خريطة (2): محافظة حمص (المدينة والأرياف)

خبِر النظام في مواجهاتٍ عدّة حصلت خلال عام 2012 شراسة المقاتلين في القصير، وضراوتهم في القتال الناجمة عن خبرتهم وتنظيمهم، إضافةً إلى امتلاكهم الأسلحة الثقيلة والخفيفة القادرة على موازنة قوّاته. الأمر الذي تطلّب دخول عنصرٍ جديد على خطّ المواجهة (حزب الله) خبيرٍ في حرب العصابات، وقادرٍ على ترجيح الكفّة. ولتبرير انخراطه في المعارك، قامت قيادة حزب الله بحملة تجييشٍ شعبوي طائفي لإقناع جمهورها بضرورة مشاركة مقاتلي الحزب في الصراع السوريّ، للدفاع عن القرى الشيعيّة في منطقة القصير، وعن المراقد الدينية في ريف دمشق، مع أن أحدًا لم يعتد على مقام السيدة زينب في دمشق، وهذا الادعاء بحد ذاته تجن على الثورة السوريّة. وقد اعترف الأمين العامّ لحزب الله حسن نصر الله في خطابه 1 أيار / مايو 2013، بمشاركة مقاتلي الحزب في القتال، معتبرًا أنّ “أصدقاء سورية لن يسمحوا بسقوطها في أيدي أميركا وإسرائيل والتكفيريين”. وفي السياق نفسه، رأى علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيرانيّ للشؤون الدولية، في مؤتمرٍ صحفي عقَده في مدينة قم بتاريخ 4 أيار / مايو2013، أنّ “سورية ليست وحدها، وأنّ إيران لن تتركها وحيدةً في الميدان”. وأضاف ولايتي “أنّ إيران لا تكشف عن جميع أوراقها في سورية لكنّها لن تسمح بسقوطها”. من هنا يمكن القول إنّ مشاركة حزب الله في القتال كانت بتوجيهاتٍ وأوامرَ إيرانيّة.

رجّح دخول قوّات النخبة في حزب الله إلى معركة القصير، كفّة المواجهة لمصلحة النظام؛ فمنذ منتصف نيسان / أبريل 2013 وحتّى منتصف شهر أيار / مايو 2013، استطاع حزب الله السيطرة على القرى المحيطة بالقصير من الجهتين الجنوبية والغربية، وأبرزها تل النبي مندو (قادش)، والبرهانية، والخالدية، ومعبر جوسيه الحدودي، كما وصل مقاتلو الحزب إلى بساتين مدينة القصير التي تبعد عن مركزها مسافة كيلومترين أو ثلاثة كيلومترات فقط (انظر الخريطة 3). وبالتزامن مع دخول حزب الله، أحكمت قوّات النظام سيطرتها على قرية أبل (بوابة الريف الجنوبي باتّجاه مدينة حمص)، ونجحت في 8 أيار / مايو 2013 في فكّ الحصار المفروض من جانب الثوّار على قرى الحيدرية والشومرية والعبودية. بعد ذلك، أحضر النظام تعزيزاتٍ عسكرية من دمشق، وحشَدها في هذه القرى؛ لتكون منطلقًا لاقتحام مدينة القصير. ويجدر بنا الإشارة إلى أنّ التحضيرات لاقتحام مدينة القصير تسارعت بعد اجتماع لافروف – كيري 6 أيار / مايو 2013، والذي تمخّض عنه اتّفاقٌ أميركيّ روسيّ على عقد مؤتمرٍ دولي في جنيف بداية حزيران / يونيو 2013، يَجمع النظام والمعارضة السوريّة في محاولةٍ لحلّ الأزمة السوريّة سياسيًّا على أساس اتّفاق جنيف الذي توصّلت إليه مجموعة الاتصال حول سورية 30 حزيران / يونيو 2012. وبدا الأمر كأن النظام السوري يسعى لتحقيق مكاسب عسكرية قبل المفاوضات بأيّ ثمن، ويعظِّم من أهمية القصير كي يبدو الإنجاز أكبر.

خريطة (3): للمساعدة في تبيان مواقع انتشار حزب الله حتّى بداية أيار / مايو 2013

في 19 أيار / مايو 2013، أعلن الجيش السوريّ عن انطلاق عملياته العسكرية تحت عنوان “تطهير القصير”؛ إذ جرى في الساعة الخامسة صباحًا قصفٌ مدفعي تلته غاراتٌ جوّية مكثّفة استهدفت مواقعَ الثوّار في ريف المدينة، ما أدّى إلى تراجع الثوّار إلى أطرافها؛ ليبدأ الهجوم البرّي لقوّات النظام في الجهتين الشمالية والشرقية من المدينة، وقوّات حزب الله الذي دفع بنحو 1200 مقاتل في الجبهة الجنوبية الغربية.

النتائج والتداعيات

يعدّ النظام المعركةَ في القصير معركةً فاصلة، وذات أهمية إستراتيجية؛ لأنّها ستعيد – من وجهة نظره – خلط الأوراق في مسار الصراع داخل سورية، وعلى الصعيدين الإقليمي والدولي أيضًا. ونذكر هنا أبرز النتائج والتداعيات المحتملة:

    إنّ نجاح النظام في حسم معركة القصير لمصلحته، سيمكّنه من إطباق الحصار على حمص القديمة بقطْع طرق الإمداد كافّة، الأمر الذي قد يُعدّ مقدّمةً لاقتحامها والسيطرة عليها، ومن شأن ذلك أن يعزل الثورة في أطرافٍ بعيدة عن المركز (الشمال، وأقصى الجنوب، والشرق)، ويمنح النظام مقوّماتِ البقاء والصمود كونه سيؤمّن، ولأوّل مرّة منذ منتصف عام 2012، تواصلًا جغرافيًّا آمنًا ما بين العاصمة والمنطقة الوسطى (حمص، وحماة)، وصولًا إلى الساحل السوريّ الذي يُعدّ المنطقة الأكثر أمانًا واستقرارًا في سورية. والجدير بالذكر أنّ النظام السوريّ قام خلال عام 2012 بإعادة تأهيل مرافقَ إستراتيجية في محافظات الساحل (مطار طرطوس، والموانئ)، وقدّم حوافزَ اقتصادية للصناعيّين والمستثمرين في حلب وريف دمشق لنَقْل أعمالهم إلى المناطق الآمنة في الساحل السوريّ.

    إنّ نجاح النظام في إعادة رسم الخريطة الجغرافية لانتشار قوّاته وفق المسار السابق، من شأنه أن يعزّز موقعه التفاوضي في حال بدأ مسار الحلّ السياسي المرتقَب للأزمة (المؤتمر الدولي)، ويمنح حلفاءَه الدوليّين والإقليميين قدرةً أكبرَ على فرض توجّهاتِهم وشروطهم. انطلاقًا من ذلك، يمكن القول إنّ معركة القصير تمثّل تعبيرًا عن إراداتٍ دولية وإقليمية لتغيير مسار الأحداث على الأرض، وليست خيارًا يخصّ النظام وحدَه.

    كشفت معركة القصير بوضوحٍ عن تغوّل حزب الله في الأزمة السوريّة، وانخراطه العسكري المباشر فيها. لقد انجرّ حزب الله راغبًا أو مُكرَهًا إلى معركةٍ يقاتل فيها إلى جانب نظامٍ استبدادي بذرائعَ ومبرّراتٍ طائفية (حماية المراقد، والدفاع عن الشيعة)، ما أثّر في صورة الحزب ونقَله وجدانيًّا – لدى شريحةٍ واسعة من السوريّين والعرب على الأقلّ – من حركة مقاومة تواجه إسرائيل وتحظى بتأييد الشارع العربيّ، إلى حزبٍ طائفي مغلَق ومعتد ومرتهن بصورةٍ كاملة ومطلقة لتوجّهات إيران السياسية والعقائدية. لقد أسهم دخول حزب الله في إذكاء الاستقطاب الطائفي في سورية، وأضفى على الصراع بعدًا دينيًّا ومذهبيًّا. يضاف إلى ذلك أنّ دخول حزب الله المباشر في معارك سوريّة سيؤدّي إلى استنزاف قدراته العسكرية والبشرية، بما يحقّق الهدف الإسرائيليّ والأميركيّ الراهن بتحويل سورية إلى ساحةٍ يتصارع فيها ما يسمّونه قوى التطرّف؛ “الحركات الإسلاميّة، وحزب الله”.

لقد ثبت منذ معركة حلب أنّه لا توجد في سورية معركة “حاسمة”، أو “أم المعارك” كما يقال. فالثورة شعبيّة وممتدة أفقيا وعموديا في المجتمع السوري.

سيكون لنتائج معركة القصير، فيما لو استطاع النظام السيطرة عليها قريبًا، تداعياتٌ كبيرة على الثورة معنويًّا، وعسكريًّا، لكنّها لن تحدّد مصيرها كما يجري تداولُه على نطاقٍ واسع؛ فالصراع مع الاستبداد لا يقاس بحساب موازين القوى، ولا بالتقدّم أو التقهقر في ساحةٍ معيّنة. كما أنّ النجاح الذي يحقّقه النظام بالمذابح والمجازر، يؤكّد ضرورة الثورة وشرعيّتها، وضرورة استمرارها.

ويمكن أن تشكّل المخاطر المحتملة على القصير بصفةٍ خاصّة وحمص بصفةٍ عامّة، فرصةً للثوّار لتجاوز انقساماتهم وتشتّتهم في حمص وفي عموم سورية، وتدفعهم إلى تشكيل أطرٍ قياديّة مناطقية (إن لم تكن ممتدّة على المستوى الوطني) تستطيع تنظيم العمل العسكري الذي يُعدّ ضرورةً راهنة ومستقبلية، لنجاح الثورة. وحتى كتابة هذا التقدير لا يزال الثوار يسجِّلون مقاومةً صلبة مفاجئة للقوات المعتدية، يمكنها أن تقلب الحسابات في أي وقت.

ولكن الأمر الأهم هو أن تتعلم الثورة خطورة عدم وجود قيادةٍ موحَّدة وتراتبية، وضرورة أن تتحرك كلها كجسم واحد في الوقت ذاته.

——————————

معركة القصير ودور حزب الله

2014-05-21 – الأربعاء

خلال نهايات صيف العام ٢٠١٣، أي بعد شهرين على تحرير القُصير، نشر موقع «Combating Terrorism Center» مقالة للكاتب نيكولاس بلانفورد، جاءت في سياق تحليل وقائع ونتائج معركة «القصير»، لجهة مشاركة حزب الله في تحريك المتغيرات الميدانية السورية ومساهمته في قلب التوازن في مناطق كانت تعتبر مركز ثقل وحصناً من حصون المعارضة المسلحة وحلفائها.

الكاتب قَسَم مقالته إلى أربعة محاور أساسية:

١- الحملة ما قبل الهجوم

٢- استعدادات الهجوم

٣- الهجوم

٤- القصير كحالة اختبار لتكتيكات الهجومية المتطورة لحزب الله.

سنحاول في هذا الاستعراض غير المُلخص (كثيراً) لما تضمنته المقالة من نقاط ومحاور، الإضاءة على الرؤية الغربية لمعركة القصير ونتائجها ودور حزب الله فيها، تمهيداً لقراءات أخرى عسكرية وميدانية محلية سنقوم بنشرها تباعاً لمناسبة مرور عام على إحدى أهم مفاصل التحولات العسكرية الميدانية في سوريا، معركة القُصير وريفها وتأمين المنطقة الوسطى.

بدأ الكاتب مقالته بمقدمة تمهيدية اعتبر فيها أن «خسارة القصير كانت ضربة كبيرة للمعارضة المسلحة، ربما بما يتعلق بالروح المعنوية والقدرة على الفهم أكثر منه لكونها ذات قيمة استراتيجية، وهو شعور عززته مكاسب النظام اللاحقة على الأرض».

الحملة ما قبل الهجوم

يوضح الكاتب في بداية شرحه لتحضيرات ما قبل الهجوم أن «التضاريس حول القصير عبارة عن مشهد لأرض زراعية مسطحة من البساتين والحقول المروية جيداً على ضفاف نهر العاصي. أما سكان منطقة القصير فهم مزيج متشابك من الطوائف بما في ذلك السنة، الشيعة، العلويين والمسيحيين. وعلى بعد أربعة أميال غرب القصير هناك حزام من البلدات والقرى الصغيرة والمزارع اللبنانية المأهولة بالسكان الشيعة. وتعتبر السيطرة على الحدود في هذه المنطقة رخوة تقليديا، مما يسمح للسوريين واللبنانيين بالتنقل بحسب ارادتهم عبر الحدود».

ويستطرد موضحاً «إن أهمية القصير تكمن في واقع كون البلدة بمثابة قناة لوجستية للثورة المناهضة للأسد بتسهيلها حركة الاسلحة والمسلحين بين لبنان وحمص»، خاصة مع تسلل المتمردين السوريين إضافة الى متطوعين لبنانيين من لبنان الى سوريا عبر منطقة مشاريع القاع الزراعية والجبال القاحلة المتاخمة الى الشرق. فضلاً عن ذلك، إن الطريق السريع الذي يربط دمشق بميناء مدينة طرطوس الساحلية الواقعة على البحر المتوسط يمتد بين حمص والقصير.

ينقل الكاتب عن مسلحي المعارضة وصفهم مقاتلي حزب الله بـ “المهنيين” و”الأشداء” وبأنه “لم يكن أي منهم دون سن الـ 35 عاما”، وبعد استعراضه لواقع المنطقة (ريف القصير) قبل بدء الحملة واصفاً قيام المسلحين بطرد السكان القرى السورية من اللبنانييين الشيعة بأنه كان محاولة لإقام حزام لهم يتصل بالجزء العلوي من شمال لبنان، ينقل عنهم (سكان القرى) أن « المتمردين- الذين وصفوهم بالسلفيين الجهاديين – قاموا بقتل المدنيين ونهب المنازل وتدمير المحاصيل في مناطقهم».

يتابع الكاتب شرح وقائع ما قبل الحملة على مدينة القصير مُفصلاً «في منتصف أبريل/ نيسان عام 2013، أطلق الجيش العربي السوري وحزب الله حملة اكثر تصميماً على الاستيلاء على القرى المحيطة بالقصير تمهيداً للهجوم على المدينة نفسها. وحققت قوات الجيش السوري وحزب الله النجاح الأولي بالاستيلاء على تل النبي مندو، على بعد أربعة أميال ونصف شمال غرب القصير. وقد اتاحت التلة الصغيرة للجيش العربي السوري وحزب الله أخذ لمحة عامة عن التضاريس المسطحة المحيطة.

وكثيرا ما كانت التقارير عن انحسار القتال وتدفقه في الأسابيع التالية مربكة ومتناقضة. مع ذلك، فقد كسب الجيش العربي السوري وحزب الله الأرض ببطء، واستولوا على القرى الى الغرب والجنوب الغربي من مدينة القصير..» ويضيف «قبل منتصف شهر مايو/ أيار عام 2013، كان الجيش العربي السوري وحزب الله قد سيطروا على معظم التضاريس المحيطة بالقصير باستثناء ممر يمتد من الشمال يشمل قاعدة الضبعة الجوية العسكرية المهجورة، والتي كانت وقعت تحت سيطرة المتمردين».

استعدادات الهجوم

يشرح الكاتب في هذا المحور تفاصيل عن الاستعدادات الدفاعية للمسلحين بعدما تم حصرهم في مدينة القصير، كما يتطرق للخطط الهجومية التي وضعها الجيش السوري وحزب الله:

تم سحب المدافعين عن القصير من مجموعة واسعة من وحدات المتمردين، وكثير منهم كان من قرى محلية- أو كيانات قائمة في بلدات كانت جزءا من كتائب الفاروق، أكبر الفصائل والوحيدة العاملة في القصير. وكتائب الفاروق هي احدى أكبر وحدات المتمردين في سوريا، وتمثل عنصراً أساسياً في الجبهة الإسلامية لتحرير سوريا، وهو تحالف من الفصائل المتمردة. وقد ظهرت في حمص كوحدة فرعية من كتائب خالد بن الوليد ولكنها توسعت منذ ذلك الحين في جميع أنحاء سوريا.

إن عدد الوحدات والمقاتلين المتمردين الذين قاتلوا في القصير غير واضح. وقد وضعت بعض التقديرات عدد الوحدات بنحو 15 وحدة، وكان عدد المقاتلين الاجمالي أقل من بضعة آلاف ربما. أما احدى التقديرات التي اعطيت للكاتب من قبل المقاتلين المتمردين من القصير فكانت بين 11000 و 12000، وتبدو الارقام مبالغاً فيها. وهناك رقم آخر يذكره أحد المقاتلين وهو 2000 مقاتل يرجح أن يكون أكثر دقة. وقد جمع مجلس القصير العسكري، برئاسة المقدم محيي الدين الزين (المعروف أيضا باسم أبو عرب)، كافة الفصائل في القصير تحت قيادة واحدة. وبدت سلسلة القيادة مربكة ومختلطة حيث ان المسلحين المتمردين الذين قاتلوا في المعركة لاحقاً أعطوا أسماء مختلفة عندما طلب منهم تحديد القائد العام لقوات المتمردين في القصير. وكانت هناك تقارير تفيد بأن أعضاء من جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة يعملون في القصير، على الرغم من أن هذه التقارير لا يمكن تأكيدها. إذ ادعى المقاتلون المتمردون أنه لم يكن هناك أفراداً من جبهة النصرة في المدينة.

يبدو أن المتمردين كانوا مجهزين تجهيزاً جيداً من حيث الأسلحة والذخائر في بداية المعركة من أجل القصير. وتم تعزيزمخزونهم من الأسلحة عن طريق الاستيلاء على قاعدة الضبعة الجوية وعلى أسلحة وذخيرة للجيش العربي السوري. كان المقاتلون مسلحين بمجموعة متنوعة من البنادق، أكثرها شيوعا بدائل سلاح AK- 47، قذائف RPG – 7S، ورشاشات بي كي سي الخفيفة، مدافع ذات الماسورة المزدوجة المضادة للطائرات من عيار 23 ملم، ومجموعة متنوعة من الصواريخ وقذائف الهاون والمدفعية من عيار صغير ( 107ملم و122ملم ).

شرع المقاتلون المتمردون باستعدادات دفاعية واسعة لعلمهم أن المدينة سوف تتعرض لهجوم من قبل القوات الحكومية في مرحلة ما. تم تقسيم المدينة إلى قطاعات وخصصت وحدات مختلفة للدفاع عنها. وحفر المتمردون الأنفاق والمخابئ تحت الأرض، واقيمت الحواجز عبر الشوارع، كما تم تفخيخ المباني وتلغيم الشوارع. وقاموا بصنع متفجرات محلية الصنع تحولت إلى الغام من ” شحنات منفوخة” – مؤلفة من عشرات الأرطال من المتفجرات المدفونة تحت الشوارع والمتفجرة بواسطة سلك قيادة- لتدمير الآليات المدرعة للجيش العربي السوري.

شملت خطط المعركة لحزب الله تقسيم المدينة إلى 16 قطاعاً عملياتياً وتخصيص أرقام مشفرة لأهداف ومواقع مختلفة. إن تعيين أرقام الكود هو ممارسة نموذجية لحزب الله يعتمد فيها المقاتلون على نظام الكود اللفظي للاستخدام عبر الاتصالات اللاسلكية غير المشفرة، وكانت قوة حزب الله ما بين 1200 و 1700 مقاتل، معظمهم من المحاربين القدامى من كبار السن وأفراد وحدات القوات الخاصة للحزب. وقال أحد التقارير أن حزب الله قسم قواته الى 17 وحدة كل وحدة منها مؤلفة من 100 رجل. مع ذلك، وخلال العمليات القتالية، انقسمت الوحدات إلى فرق قتالية نموذجية من ثلاثة إلى خمسة رجال لكل فرقة.

في البداية، خدم كل مقاتل مدة سبعة أيام على خط المواجهة، ولكن مع طول أمد المعركة مُددت الفترة الى 20 يوماً. وأجري استطلاع دقيق قبل الهجوم ونظف المهندسون القتاليون في حزب الله المباني من الأفخاخ الخداعية.

الهجوم

بدأ الهجوم في 19 مايو/ أيار عام 2013، مع قصف للمدفعية الثقيلة وضربات جوية لمدينة القصير في الساعات الأولى. أعقب ذلك تقدم مقاتلي حزب الله من الجنوب والشرق والغرب تدعمهم قوات الجيش العربي السوري. وحققت القوات المهاجمة مكاسب سريعة في الطرف الجنوبي من المدينة، وصولاً إلى قاعة البلدة. وقال ناشط من المعارضة السورية أنه بحلول نهاية اليوم الأول، كانت قوات الجيش العربي السوري وحزب الله قد استولت على نحو 60٪ من المدينة.

كان حزب الله يتوقع نصراً سريعاً في القصير، لكن على الرغم من المكاسب في الساعات الأولى، فقد طالت المعركة أكثر ما أن أعد المتمردون دفاعاً شجاعاً وتكبد حزب الله خسائر كبيرة بشكل غير متوقع في 19 مايو/ أيار، وهو اليوم الأول من الهجوم، إذ قتل حوالي عشرين من مقاتلي حزب الله في كمين نصبه المتمردون. وتباطأت وتيرة هجوم الجيش السوري وحزب الله، وأصبحت أكثر منهجية لضمان السيطرة على كل هدف قبل التقدم أبعد من ذلك. وقال احد مقاتلي حزب الله أنهم لم يكونوا يقاتلون متراً بمتر، وانما “سنتيمتر بسنتيمتر”. وكانت قذائف المورتر للمتمردين مشكلة خطيرة بالنسبة للقوة المهاجمة. ومضت وحدات القتال الصغيرة لحزب الله قدماً للاقتراب أكثر قدر الامكان من خطوط المتمردين على أمل أن تتوقف قذائف الهاون من جانب المتمردين خوفاً من أن ينالهم الضرب. على الرغم من أن فرق الهندسة في حزب الله عملت على تفكيك الأفخاخ المموهة والعبوات الناسفة، فقد تجنب مقاتلو حزب الله المداخل والنوافذ وفجروا بدلاً من ذلك جدران المباني لفتح ثقوب فيها لأجل التنقل بينها. إن بعض العبوات الناسفة التي يستخدمها المتمردون تحمل أوجه تشابه مع تلك التي كان حزب الله قد علم حركة حماس الفلسطينية كيفية صنعها.

اعترف المدافعون المتمردون بالبراعة القتالية لأعدائهم في حزب الله. “لقد كانوا مقاتلين شرسين للغاية. إذ تقوم باطلاق النار عليهم ولكنهم يتابعون تقدمهم. لقك كانوا يضعون عصبات على رؤوسهم مكتوب عليها ” يا حسين” “، قال أحد مقاتلي التمرد من القصير. وأشار المتمردون كيف كان مقاتلو حزب الله يحاولون التقدم باستمرار، حتى في ظل إطلاق النار الكثيف عليهم، وتطويق مواقعهم.

تم دعم الوحدات القتالية لحزب الله عن طريق سلاح الجو والمدفعية للجيش العربي السوري، ووظفت الجماعة اللبنانية قذائف الـ RPG – 7S والقناصة المجهزين ببنادق دراغونوف من عيار 7.62 ملم للاماكن القريبة من القتال. مع ذلك كان هناك أيضاً في متناول حزب الله نظام صواريخ قصيرة المدى والذي بامكانه تسديد ضربات أقوى من الـ RPG -7 مع الحفاظ على دقة أكبر من سلاح المدفعية المنتشر خارج المدينة. وتحدث مقاتلو التمرد عن قدرة حزب الله على تدمير مباني محددة أو متاريس شوارع بأكملها بصاروخ واحد. واتضح لاحقاً أن حزب الله استخدم ذخائر بمساعدة صواريخ بدائية ( IRAMs ) تتكون من عبوة ناسفة كبيرة من منشأ غير محدد مدعومة بصاروخ كاتيوشا عيار 107ملم.

ما أن انجلى غبار المعركة، حتى تكشف عن دفع المتمردين تدريجياً مجدداً إلى المنطقة الشمالية من القصير. وبدأت مخزوناتهم من الذخيرة تتناقص وكذلك الغذاء والماء ومعها الروح المعنوية لقوة الدفاع. وكان المتمردون قد تلقوا بعض التعزيزات في اليوم الثاني من المعركة عندما وصلت مجموعة من بلدة باب عمرو في حمص. وفي 2 يونيو/حزيران، وصلت مجموعة كبيرة من المقاتلين المتمردين في القصير بعد أن انتقلوا من مدينة دير الزور في شرق البلاد وحلب في الشمال. وكان قائد المتمردين في حلب العقيد عبد الجابر محمد العكيدي، رئيس مجلس حلب العسكري. وبرغم ذلك لم تتمكن التعزيزات الإضافية، عدا توفير الرفع المؤقت للروح المعنوية في البلدة، من تغيير مسار المعركة.

في 3 يونيو/ حزيران، عقد 17 قائداً من قادة التمرد اجتماعاً وصوت 14 منهم لصالح الانسحاب من القصير. وعلى الرغم من أنه كان يبدو بأنه قد تم إقناعهم لتغيير تفكيرهم، فإن روحهم المعنوية انخفضت بشكل كبير وأدرك الثوار أنه لا يمكن الامساك بالمدينة مدة أطول من ذلك. وقد دُفع المتمردون الى منطقة صغيرة في شمال القصير – ” 10000 شخص في مساحة لا تزيد عن 500 متر مربع،” كما أوضح أحد مقاتلي التمرد. وقال أحد مقاتلي حزب الله من الذين حاربوا في القصير، ” لقد سحقناهم ونفيناهم الى الجزء الشمالي من البلدة ثم سمرناهم هناك بنيران القناصة”.

بالإضافة إلى نقص الذخيرة وتدهور الروح المعنوية، لم يعد بامكان المتمردين التعامل مع الأعداد الكبيرة للجرحى ومع نقص الغذاء والماء. وقد وصف المقاتلون المتمردون مشاهد الأطفال الذين يجبرون على شرب مياه الصرف الصحي، والناس وهم يأكلون أوراق الشجر، والجروح المتعفنة بسبب نقص الدواء.

انتهت المعركة في وقت مبكر يوم 5 يونيو/ حزيران عندما شن الجيش العربي السوري وحزب الله قصفاً مكثفاً على آخر جيب في القصير كان يسيطر عليه المتمردون، والذي وصفه أحد مقاتلي التمرد بانه كان أشد قصف على امتداد المعركة. وبدأ المتمردون والمدنيون والجرحى يتدفقون شمالا من القصير نحو قرية الضبعة ومن ثم الى البويضة الشرقية.

تجنب معظم المتمردين والمدنيين الفارين الطرق وانتقلوا سيراً على الأقدام وصولاً الى الركن الشمالي الشرقي من لبنان، إلى منطقة آسيا على الطريق السريع بين دمشق وحمص قبل الانحدار صوب لبنان. وانتهى المئات، وربما الآلاف، في بلدة عرسال، وهي بلدة مأهولة بالسكان السنة في شمال شرق لبنان عملت كمركز لوجستي للجماعات المتمردة السورية في حمص والقصير إلى الشمال وللمناطق التي يسيطر عليها المتمردون على الجانب الشرقي من الحدود.

القصير: حالة اختبار للتكتيكات الهجومية المتطورة لحزب الله

استغرقت معركة القصير التي دامت 17 يوماً وقتاً أطول مما كان متوقعا بالنسبة لحزب الله وتسببت في سقوط عدد كبير نسبياً من الضحايا. لم يصدر حزب الله حصراً لخسائره، ولكن التقديرات تتراوح بين 70 و 120 قتيلا مع اصابة عشرات آخرين بجروح. ونشر المتمردون أسماء 431 مقاتل قالوا أنهم قتلوا في المعركة، ولكن الرقم الحقيقي ربما يكون أعلى.

في كل الأحوال، كانت النتيجة حتمية، نظراً إلى الموارد اللوجستية الموجودة بتصرف نظام الأسد مقارنة مع أولئك المدافعين المتمردين عن المدينة. وقد جعلت عزلة القصير النسبية عن معاقل المتمردين الأخرى تقديم الدعم المادي واللوجستي أمراً صعباً، وجعلت هذه الأسباب مدينة القصير حالة اختبار مناسبة لحزب الله لوضع مهاراته المكتسبة حديثاً في حرب المدن قيد الممارسة الفعلية مع توفير الجيش العربي السوري الدعم الجوي والمدفعي الرئيس.

منذ عام 2006، ضم حزب الله مهارات حرب المدن لتكون مشمولة في برنامجه التدريبي في العمليات العسكرية في مخيمات التضاريس الحضرية (MOUT) في لبنان وإيران. ففي الثمانينات والتسعينات، واصل حزب الله القيام بتكتيكات الكر والفر على غرار حرب العصابات في بيئة ريفية ضد القوات الاسرائيلية التي كانت آنذاك تحتل جنوب لبنان. وخاضت الجماعة الحرب في المناطق الحضرية خلال الحرب التي استمرت شهراً مع اسرائيل في عام 2006، انما بقدرة دفاعية أساساً وليس بقدرة هجومية. ويُعتقد بأن التدريب على حرب المدن ما بعد عام 2006، والذي تضمن تكتيكات هجومية ودفاعية، معد لاحتمالات القيام بغزوات على غرار فرق الكوماندوز داخل إسرائيل في حال نشوب حرب أخرى مع هذا البلد.

اتاحت القصير لحزب الله اكتساب الخبرة في استخدام هذه المهارات الجديدة. فضلاً عن ذلك، وعلى الرغم من أنه يبدو بأن الجزء الأكبر من مقاتلي حزب الله في سوريا هم من المحاربين القدامى الكبار في السن، فقد تم نشر جيل من المجندين الأصغر سناً ما بعد 2006 في المعارك. إن التجربة المتراكمة في القتال وحرب المدن ينبغي أن تجعل المنظمة أكثر تحدياً وبشكل هائل في أي حرب مقبلة ضد إسرائيل، وهو التقييم الذي تم الاعتراف به من قبل الجيش الإسرائيلي.

*كاتب في مركز وموقع «Combating Terrorism Center»

«المتخصص بتدريب القادة المستقبليين في الولايات المتحدة على تهديدات الإرهاب» بحسب تعريف الموقع نفسه.

 ترجمة إيمان سويد

سلاب نيوز

——————————–

أي علاقات أمس واليوم بين حزب الله وسورية؟/ مهنّد الحاج علي

 07 أيار/مايو 2019

مقدّمة

الإسلام السياسي

مع بدء انحسار وتيرة الصراع في سورية، تتجه الأنظار مجدداً صوب الأطراف السياسية التي ضمنت بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة، وفي مقدمها إيران وحزب الله اللبناني الموالي لها. هذان الطرفان مارسا دوراً حاسماً في لعبة البقاء هذه، ما يعزّز وجهة النظر التي تستبعد احتمال إقدام النظام السوري على تحدّي الأجندة السياسية الإيرانية. لكن، إذا كانت أحداث الماضي مفتاحاً لفهم وقائع الحاضر، سيكون في وسعنا القول إن مثل هذا الاستنتاج ليس مؤكداً البتة. إذ، على الرغم من أن الطلاق السوري مع إيران وحلفائها ليس وارداً، إلا أن العلاقات معهم أكثر تعقيداً مما يبدو على السطح. ففي مراحل سابقة مختلفة، كان الطرفان لايثقان ببعضهما البعض، ولديهما تضارب في الأهداف. كان الإحساس العميق بديناميكيات القوة وموازينها هو في الواقع الذي يحرّك توجّهاتهما. كما أن سلوكهما كان يتحدّد أساساً بالمصالح السياسية، حتى حين لا تتداخل هذه المصالح.

والصلات بين سورية وحزب الله تكمن في جوهر العلاقات السورية – الإيرانية. فطيلة زهاء أربعة عقود، كانت الروابط بين سورية وحزب الله تجسّد أيما تجسيد طبيعة الديناميكيات بين دمشق وطهران. والتوترات كانت تندلع حين تشعر سورية أو حزب الله أن أحدهما يتعدّى على سلطة الآخر.

وهكذا، في ثمانينيات القرن الماضي، إبّان الحرب الأهلية اللبنانية، انغمس الطرفان في لجج النزاعات، حين تحدى حزب الله حلفاء سورية وأهدافها. وحالما وضعت الحرب أوزارها في العام 1990، قَبِلَ حزب الله واقع التفوّق السوري، ووازن ببراغماتية بين المصالح السورية والإيرانية، على رغم الاضطراب الذي شاب علاقته مع دمشق حين كان أحدهما يعتقد أن الآخر يتجاوز خطوطه الحمر. كانت إيران وحزب الله تشعران بالقلق من احتمال أن يهدّد نجاح المفاوضات السورية- الإسرائيلية مصالحهما في لبنان، فيما كانت دمشق غير مستعدة للاعتراف بهذه المشاغل، حتى حين كانت تستخدم قدرات حزب الله كورقة ضغط ضد إسرائيل.

صحيح أن نظام الرئيس بشار الأسد رحّب بتدخل حزب الله في سورية العام 2012، لكن لم يفعل ذلك عن طيب خاطر. والحال أن إيران وحزب الله أرسيا قواعد نفوذ في سورية باستقلالية عن مؤسسات الدولة، خاصة في أوساط الأقلية الشيعية في البلاد، وفي قطاعات محدودة من الطائفتين السنّية والعلوية، الأمر الذي اعتبره نظام الأسد تعدّياً على سلطته وسيادته. لقد أدرك النظام السوري أن إيران وحزب الله يسعيان، من خلال حمايته، إلى الحفاظ على مصالحهما الخاصة في سورية ولبنان. بيد أن الوضع في سورية تبدّل. فالتدخل الروسي في العام 2015 غيّر كيفية تعاطي النظام السوري مع حزب الله وإيران، بعدما شعر هذا الأخير أن ثمة فرصة كي يعيد توكيد سلطته. والحصيلة المحتملة لذلك هي العودة إلى العلاقات التي كانت قائمة قبل الحرب، بدلاً من احتمال بروز تحوّلات جذرية في العلاقات بين سورية وحزب الله.

حزب الله وسورية من 1982 إلى 2011

خلال العقود الثلاثة التي سبقت تموضع قوات حزب الله في سورية، كانت علاقات الحزب مع سورية انعكاساً لمراحل الصعود والهبوط في تحالف دمشق وطهران. وفي حقبة الثمانينيات، تطوّرت روابط سورية وحزب الله، فيما كانت إيران تحاول تصدير ثورتها الإسلامية.1 خلال أوقات متباينة، كانت أجندات سورية وحزب الله تتناقض، ما أسفر عن فترات قصيرة من العنف. لكن، في نهاية الحرب الأهلية اللبنانية العام 1990، تبدّلت الأحوال. فقد قَبِل حزب الله الدور المُهيمن لسورية في لبنان وحوّل تركيزه، اتّساقاً مع تفضيلات دمشق، نحو منازلة الاحتلال العسكري الإسرائيلي لجنوب لبنان. وفي العام 2005، حين انسحبت القوات السورية من لبنان، كان حزب الله يحمي مصالح دمشق في البلاد، في الوقت نفسه الذي كان يُحسّن فيه إلى درجة كبيرة نفوذه هناك.

حقبة الثمانينيات المضطربة

كانت مرحلة الثمانينيات عرضاً من أعراض الطبيعة المنفعية التبادلية التي لطالما ميّزت العلاقات بين سورية وإيران. فالبلدان أقاما علاقات دبلوماسية العام 1947، على رغم أن عاهل إيران آنذاك، الشاه محمد رضا بهلوي حليف الولايات المتحدة، كان على طرفي نقيض مع الحكومات الوطنية المتعاقبة الموالية للسوفييت في دمشق.2 وقد تحسّنت العلاقات السورية – الإيرانية غداة صعود الرئيس حافظ الأسد إلى السلطة في العام 1970 وتحرّكه نحو ترقية علاقاته مع إيران، بسبب تنافسه مع العراق وحاجته إلى التأقلم مع تقارب الرئيس المصري أنور السادات مع إسرائيل بعد حرب تشرين/أكتوبر 1973.3 تمخضت هذه التبادلات عن زيارة قام بها الأسد إلى طهران في كانون الأول/ديسمبر 1975. لكن، لأن الدولتين اختلفتا حول مفاوضات مصر مع إسرائيل، لم يكن لتزايد الاتصالات بينهما سوى تأثير ضئيل على التحالفات الإقليمية. مع ذلك، سمح هذا للأسد بموازنة منافس سورية الرئيس: العراق.4 كانت سورية والعراق بقيادة نظامين بعثيين متنافسين، يتسابقان على النفوذ وتزعّم القضايا العربية الأوسع،5 وكان يريد من شاه إيران إقناع واشنطن بتبنّي مقاربة أكثر توازناً إزاء الصراع العربي- الإسرائيلي.6

في الوقت نفسه، وفي سياق براغماتيته الحادة والنموذجية، كان الأسد يدعم المعارضة الإسلامية الإيرانية.7 فهو منح قادة بارزين في المعارضة الإيرانية جوازات سفر سورية، فيما كان يطلب من حلفائه في لبنان توفير التدريب العسكري لهم. وفي أواخر السبعينيات، أقامت سورية علاقات متينة مع شخصيات معارضة من خلال الزعيم الشيعي اللبناني- الإيراني الصاعد موسى الصدر.8 وفي بيروت، سعى الصدر إلى مؤازرة حلفاء إقليميين له لدعم حركته المؤسّسة حديثا “أمل”، ووفّرت له علاقاته الوثيقة مع نظام الأسد مثل هذه المساندة.

عمدت الثورة الإسلامية في إيران إلى تطوير روابط طهران مع دمشق. كانت سورية، التي استخدمت رصيد روابطها السابقة مع المعارضة الإيرانية، أول دولة عربية تهنّىء قيادة مابعد الثورة. وفي حين كان العديد من الدول العربية يخشى من محاولة إيران تصدير الثورة إلى السكان الشيعة العرب، إلا أن نظام الأسد لم يشاطرهم مثل هذه المخاوف. كان الأسد، المُتحدّر من الأقلية العلوية، خائف أكثر من جماعة الإخوان المسلمين السنّية. وحين شنّت هذه الجماعة حملة هجمات ضد نظام الأسد عامي 1981 و1982، تخلّت عنها طهران.9

هذه الروابط السورية- الإيرانية، مهّدت الطريق أمام صعود نجم حزب الله في لبنان، حيث كان ينتشر آلاف الجنود السوريين منذ العام 1976 للمساعدة على إطفاء حريق الحرب الأهلية. وفي العام 1982، وبعد فترة وجيزة من الغزو الإسرائيلي للبنان لطرد الفصائل الفلسطينية في حزيران/يونيو، سمح الأسد لمئات من عناصر الحرس الثوري الإيراني بالدخول إلى سهل البقاع للمساهمة في تأسيس حزب الله.10 ولاحقاً، وصف نعيم قاسم، نائب الأمين العام للحزب، الجهود الإيرانية بأنها “أنشأت معسكرات التدريب في منطقة البقاع اللبناني لتدريب الراغبين بذلك، واكتشف الناس نموذجاً راقياً في التربية والإعداد والأخلاقية والإيمان”.11

أدى الغزو الإسرائيلي إلى الحد مؤقتاً من النفوذ السوري في لبنان، وعزّز التعاون بين نظام الأسد وإيران. وقد حاولت القوات الغربية متعددة الجنسيات، التي انتشرت في لبنان في أعقاب الغزو، تأمين انسحاب سورية من البلاد، فيما كان الجيش الإسرائيلي ينشط أساساً في جنوب بيروت كما في جنوب لبنان. حينها، بدأت الخلايا الأولى لحزب الله بمهاجمة القوات الإسرائيلية والغربية، ما سمح لهذا الحزب المتبرعم بتوسيع رقعة نفوذه وانتشاره. لكن الحزب لم يتطور سوى لاحقاً ليكون تنظيماً أكثر اتساقاً. وهذا حدث في العام 1985، حين أصدر الحزب وثيقة علنية حدّد فيها برنامجه السياسي، مدشّناً بذلك حقبة جديدة من السياسات الثورية الشيعية.12

في النصف الثاني من الثمانينيات، خدمت نشاطات حزب الله الأهداف السورية في لبنان وتحدّتها في آن، ما أسفر عن أولى علائم التوتر بين الطرفين. فقد بدأ الحزب يخطف مواطنين غربيين في بيروت،13 على نمط السياسات الثورية لإيران آنذاك. وقتها، أفادت سورية من اعتبارها قوة استقرار مُحتملة في لبنان، على عكس حزب الله، لكن كانت هناك أيضاً مضاعفات سلبية في سلوكيات الحزب العنيفة هذه. ففيما كان النظام السوري يحاول إعادة توكيد هيمنته على البلاد، تعيّن عليه منع إيران من فرض أجندتها الخاصة. كذلك، فيما كان حزب الله يسعى إلى قيادة المقاومة ضد إسرائيل، كانت دمشق تشعر بالقلق من انها قد تخسر سطوتها على شيعة لبنان. لذلك، كان السوريون حذرين من مساندة جماعة تدعمها إيران كي تكون ممثّل الطائفة الشيعية كأمر واقع، فيما حليفها الشيعي الأول هو حركة أمل.

هذا التنافس المتفاقم أدى إلى تصاعد التوترات، وفي خاتمة المطاف إلى اشتباكات مسلّحة بين حركة أمل وحزب الله. كان الجيش السوري يتدخّل بين الفينة والأخرى ضد حزب الله لصالح حليفته أمل. ويصف عقل حمية، أحد مسؤولي أمل الذي لعب دوراً أساسياً في النزاع مع حزب الله، المناخ الذي ساد حينها كالآتي:

“حاولنا التحدث مع الإيرانيين، وأبلغناهم بأننا لا نريد توتراً بيننا. لكن حزب الله صار أكثر عناداً في بعلبك والقرى المحيطة بها. والإيرانيون قالوا لنا إن بإمكاننا المقاومة سوية، لكن التطورات على الأرض ذهبت في منحى آخر. كان للإيرانيين أجندتهم الخاصة، ويعملون لمشروع جديد”.14

في أيار/مايو 1986، خلّف القتال بين الطرفين ثلاثة قتلى من حزب الله وجنديين سوريين إثنين.15 وحين خطف حزب الله ضابطين سوريين، رد الجيش السوري باعتقال العديد من أعضاء الحزب.16 وفي شباط/فبراير 1987، قتلت القوات السورية عناصر من حزب الله في ثكنة فتح الله، مقر الحزب في غرب بيروت.17 هؤلاء الضحايا لم يشاركوا سابقاً في القتال بين الحزبين، ما دفع العديدين إلى التكهن بأنهم أعدموا كرسالة تحذير لحزب الله. وقد اتهم صبحي الطفيلي، الأمين العام للحزب آنذاك، سورية بـ”التآمر مع إسرائيل”،18 لكن الحزب امتنع عن الرد. وبعدها بسنوات عدة، سيكتب نعيم قاسم أن “الحسرة” على وقوع هذا الحدث باقية.19

في أعقاب مذبحة فتح الله، توسّع نطاق القتال بين أمل وحزب الله، وامتد حتى العام 1988، إلى أن نشر السوريون قواتهم في الضاحية الجنوبية ذات الغالبية الشيعية للفصل بين المتحاربين. وكتب قاسم لاحقاً أن قادة حزب الله طلبوا الاجتماع مع حافظ الأسد لمناقشة مسألة الانتشار هذه، فشهد هذا الاجتماع “نقاشاً إيديولوجياً وسياسيا” كان له عميق الأثر على مواقف الرئيس السوري من حزب الله.20 بيد أن صراع أمل وحزب الله تتابع فصولاً، إلى أن توصّلت سورية وإيران إلى اتفاق في تشرين الثاني/نوفمبر 1990 وضع حداً للقتال.21

في هذه الأثناء، كانت تحوّلات عالمية كبرى تترك بصماتها العميقة على لبنان. ففي أواخر الثمانينيات، بات انهيار الاتحاد السوفياتي وشيكاً. وهذا أجبر دمشق على الانخراط في عملية تقارب مع الولايات المتحدة بهدف التعويض عن خسارتها لداعم دولي رئيس. ثم تتوّج هذا المسعى بمشاركة سورية في الإئتلاف الدولي لتحرير الكويت، ما وفّر لنظام الأسد فرصة لانهاء النزاع في لبنان وفرض سيطرته العسكرية على كل البلاد في تشرين الأول/أكتوبر 1990. وفي سياق تقاربها مع الولايات المتحدة، عملت سورية أيضاً لإطلاق سراح الرهائن الغربيين الذين كانوا لازالوا في حوزة حزب الله.

لم يلائم هذا التقارب المصالح الإيرانية، في ضوء العداوت بين طهران والعديد من القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة. بيد أن موازين القوى في لبنان مالت بقوة لصالح سورية، ما أجبر حزب الله على التأقلم مع الظروف الجديدة. وهو اختار التركيز على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان بالتنسيق مع دمشق، ماسمح له بالبقاء جزءاً من المقاومة المسلحة. كما وفّرت عمليات الحزب ضد إسرائيل نفوذاً لدمشق ضد تل أبيب، حين بدأ الطرفان مفاوضات مباشرة في الأشهر التي تلت مؤتمر مدريد للسلام العربي- الإسرائيلي في تشرين الأول/أكتوبر 1990 .

التعاون في خضم أجندات متنافسة في التسعينيات

على رغم أن حقبة مابعد الحرب الأهلية في لبنان شهدت تعزيز علاقات حزب الله مع سورية، إلا أنها ألقت أيضاً أضواء على الطبيعة المتناقضة لهذه العلاقات. في البداية، فاقمت محادثات السلام السورية مع إسرائيل تباعد أهداف الطرفين. ففيما ادعى حافظ الأسد أنه يخوض معركة “سلام الشجعان”، أدرك حزب الله وإيران أن مثل هذه المحصلة قد تهدد مصالحهما في لبنان، لا بل وجود حزب الله نفسه في الواقع. بيد أن الوضعية الهيمنة لسورية، ضمنت ضبط حزب الله لتجنّب مجابهة أخرى مع دمشق.

مثل هذا الضبط تجلى بوضوح في أيلول/سبتمبر 1993، حين تظاهر مئات من عناصر حزب لله في بيروت ضد اتفاقات أوسلو التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل.22 آنذاك، أطلق الجيش اللبناني، الذي كان عملياً تحت السيطرة السورية، النار على المتظاهرين العُزّل وقتل تسعة منهم. وعلى رغم أن هذا أثار احتجاجات جديدة، إلا أنه تم احتواء الوضع. هذا الحادث، الذي قد يكون وقع من دون موافقة سورية ضمنية، فاقم التوترات بين سورية وإيران وحزب الله. وفي الوقت نفسه، فُسّر هذا الحادث على أنه مؤشر على أن انتقاد مشاركة سورية في المحادثات مع إسرائيل غير مسموح، حتى حين كان الأسد، وهو ملك الرسائل المُزدوجة، يسعى إلى توجيه رسالة أنه قادر على ضبط حزب الله بعد أي صفقة سلام.

ويبدو أن هذه الرسالة وصلت بالفعل إلى واشنطن، ولخّص فحواها على نحو جيّد أنطوني ليك، مستشار الأمن القومي الأميركي آنذاك، في محاضرة ألقاها في أيار/مايو 1994. فهو علّق على الطريقة التي أثارت فيها مقاربة الأسد لمحادثات السلام مع إسرائيل قلق حزب الله وإيران، فلاحظ أن الرئيس السوري أعلن أنه يعتبر السلام خياراً استراتيجياً:

“… وحينها شعر حلفاء بلاده السابقون المتطرفون بالتوتر الشديد.. فقادة حزب الله كانوا يبحثون عن الطريقة المُثلى لانتهاج أجندة متطرفة في مرحلة السلام اللبناني- الإسرائيلي. والمسؤولون الإيرانيون سارعوا إلى زيارة دمشق، لكنهم خرجوا على مايبدو بخُفّي حنين. وحين عادوا إلى بلادهم، بدأ رجال الدين الإيرانيون بانتقاد القيادة لفشلها في منع وقوع بلادهم في إسار العزلة”.23

في خاتمة المطاف، ضَمِنَ فشل المفاوضات السورية- الإسرائيلية والانسحاب الإسرائيلي المُنفرد من لبنان في أيار/مايو 2000، ألّا تفترق سورية عن حزب الله وإيران بسبب محادثات السلام. وحين توفي حافظ الأسد في أوائل حزيران/يونيو 2000، اقترب ابنه ووريثه بشار الأسد من حزب الله أكثر. لقد وجدت سورية وسائل أخرى لتبرير العمل العسكري ضد إسرائيل بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان، عبر الادعاء بأن أجزاء من الأراضي اللبنانية لاتزال محتلة. وهذا خدم حزب الله أيضاً، لأنه برّر استمرار مقاومته المسلّحة. ومُذاك، اعتبرت سورية وحزب الله أن مصالحهما الاستراتيجية متطابقة.

سورية تنسحب وحزب الله يمسك الزمام

مرة أخرى، تركت الديناميكيات الإقليمية المتحوّلة، التي أعقبت الغزو الأميركي للعراق العام 2003، بصماتها على علاقة سورية مع حزب الله. ففي شباط/فبراير 2005، جرى اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري في بيروت، وكان يعتقد على نطاق واسع أن النظام السوري متورّط في هذه العملية. وغداة تحقيقات الأمم المتحدة حول الجريمة، وُجّهت التهمة أيضاً إلى عناصر من حزب الله. كان الحريري وحلفاؤه ينوون الوقوف في وجه المرشحين الموالين لسورية في الانتخابات البرلمانية التالية، واعتقدوا أنهم سيضمنون الفوز بغالبية المقاعد،24 ما قد يقوّض النظام الذي تفرضه سورية في لبنان ويُضعف كلاً من حزب الله وسورية. وقد أجبرت التظاهرات المناهضة لسورية، جنباً إلى جنب مع الضغط الخارجي، الأسد على سحب قواته من لبنان في نيسان/أبريل، ماجعل حزب الله صانع القرار الرئيس على الأرض باسم تحالف سورية- حزب الله- إيران.

مع هذا التغيّر في ديناميكيات القوة، تبدّلت كذلك أولويات هذا التحالف الثلاثي، التي باتت الآن في عهدة حزب الله. فالاهتمام الأساسي لحزب الله لم يكن عودة الجيش السوري إلى لبنان، بل حماية سلاحه، وضمان دور قيادي لنفسه في السياسات الوطنية اللبنانية، وصون المصالح السورية والإيرانية في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها.25 نتيجة لذلك، نقحّ الحزب مقاربته مع سورية، فبدلاً من التشديد على التاريخ المشترك لسورية ولبنان، دافع الحزب عن علاقته مع دمشق عبر تصويرها بأنها “حليف المقاومة”. بدوره، سمح سعي الطرفين المشترك لانتهاج درب المقاومة لحزب الله الاحتفاظ بسلاحه.

غداة الانسحاب السوري، لعب حزب الله دوراً رئيساً في العمل على تحييد خصوم سورية اللبنانيين سياسياً، فيما كان يحشد في الوقت نفسه حلفاء دمشق اللبنانيين. وهكذا، دشّن الحزب مرحلة جديدة في علاقته مع النظام السوري، لم يعد هو فيها الطرف الثانوي. لقد وضع الانسحاب خاتمة لسيطرة سورية المُطلقة على لبنان، فسعى حزب الله لملء الفراغ الذي خلّفه ذلك، بفضل النفوذ السياسي الذي وفّرتها له إمكاناته العسكرية وقدرته على تعبئة الطائفة الشيعية.

في العام 2005، انضم حزب الله إلى الحكومة اللبنانية للمرة الأولى.26 وبالتعاون مع حركة أمل- التي أصبحت حليفه الرئيس ضد تحالف 14 آذار، سمّى الحزب وزيرين أحدهما عضو في الحزب. وقد أوضح نعيم قاسم أن الحزب استنتج أن مشاركته في الحكومة أمر ضروري لأن الحكومة الجديدة قد تكون لها سلطة فعلية، على عكس سابقاتها تحت السيطرة السورية. كتب: “ستمارس (الحكومة) دوراً نشطاً في تحديد توجّه البلاد، بدلاً من مجرد التمتّع بصفة تنفيذية كما فعلت في الماضي”.27 بكلمات أخرى، كان الحزب جاهزاً تماماً للمساعدة على تحديد وجهة مسار البلاد في المستقبل.

بات حزب الله الآن يتمتع باستقلالية ذاتية في عملية صنع قراراته، مع الاحتفاظ بتحالفه مع النظام السوري. والواقع أنه مرّت أوقات كانت سورية هي التي تحذو حذو سياسات الحزب. وهذا اتّضح في صيف 2006، حين انخرط حزب الله وإسرائيل في حرب دامت 34 يوماً. خلال هذه الحرب، فتح النظام السوري ترساناته الخاصة لتزويد الحزب بأسلحة للمرة الأولى، بما في ذلك صواريخ من عيار 220 و302 ملليمتراً. 28 كان هذا مفاجئاً لإسرائيل.29 كانت سورية تأمل ألا يتداعى حزب الله جراء هذا النزاع، مُعززة بذلك ثوابت علاقتها معه: وهي أن الحفاظ على قوة أحد الطرفين، تتطلّب ضمان ألا تنال منه عوامل الضعف والوهن.

في الفترة بين 2006 و2011، توسّعت سطوة حزب الله. وفي الوقت نفسه، طبّعت سورية علاقاتها مع الدول الأوروبية، خاصة فرنسا في عهد الرئيس نيقولاس ساركوزي، مُنهية بذلك عزلة علقت في شباكها بعد اغتيال الحريري. وفي العام 2009، حدثت مصالحة برعاية السعودية بين نظام الأسد وبين السياسيين اللبنانيين المعارضين لدمشق،30 ثم تلتها بعد أشهر زيارة الأسد لبيروت في تموز/يوليو 2010. بيد أن هذا الوئام المؤقّت سرعان ما انهار في أوائل 2011، حين أسقط حزب الله وسورية حكومة الوحدة الوطنية في بيروت برئاسة سعد الحريري. وحين اندلعت الانتفاضة السورية في آذار/مارس 2011، تغيّرت مجدداً العلاقات بين النظام السوري وحزب الله.

تدخّل حزب الله في النزاع السوري

بات نظام الأسد، بعد اندلاع الانتفاضة، معتمداً على حزب الله وإيران للحفاظ على البقاء، ما حوّل ميزان القوى أكثر لصالحهما. كان رد الفعل العنيف للنظام على احتجاجات آذار/مارس 2011 قد أدى إلى عزلته إقليمياً ودولياً. وحين بدأ يخسر مساحات شاسعة من الأراضي العام 2012، قرر حلفاؤه التدخل عسكرياً، وقيل هنا أن حزب الله لعب دوراً كبيراً في قرار إيران دعم الأسد.31 بيد أن دور الحزب لم يتمحور أساساً حول إعادة بناء وتعزير قدرات قوات النظام، بل المساعدة على إقامة مؤسسات موازية على غرار الميليشيات المؤيّدة للنظام. وهذا كان استنساخاً لما فعله الحزب في لبنان، أي بناء قوات مسلّحة مستقلة في أحشاء دولة ضعيفة. في ذلك الحين، دخل التحالف بين حزب الله وسورية مرحلة جديدة لم يكن فيها الحزب يملي شروط العلاقة وحسب بل كان لديه أيضاً فرصة توسيع نفوذه الإيديولوجي والعسكري والسياسي داخل سورية نفسها.

في البداية، حصر حزب الله تدخّله في سورية في هدف حماية المواطنين من ذوي الجنسية المزدوجة اللبنانية- السورية الذين يقطنون على الضفة السورية من الحدود،32 ولم يؤكّد إلا لاحقاً التزامه بالدفاع عما يُسمّى محور المقاومة. وفي 11 تشرين الأول/أكتوبر 2012، وبعد مصرع عضو من حزب الله في سورية، اعترف حسن نصر الله، الأمين العام للحزب، بانخراط هذا الأخير في مجابهة محدودة وبـ”الصدفة”، حين كان يساعد القوات الحكومية على الدفاع عن 23 قرية حول بلدة القصير، قرب الحدود اللبنانية.33 وعلى رغم أن هذه القرى موجودة داخل الأراضي السورية، إلا أن نصر الله قال أنه يقطنها نحو 30 ألف مواطن لبناني من الطوائف كافة.

قبل نهاية 2012، كان نصر الله يضع أسس تبرير جديد يُشدّد على البون الشاسع بين طموحات إيران وحزب الله في سورية وبين طموحات أركان نظام الأسد.34 ففي خطاب ألقاه في 9 أيار/مايو، لاحظ الأمين العام أن الانتقادات وجهت إلى سورية بسبب عدم تحرّكها عسكرياً لمقاومة إحتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان، على عكس ماتفعل في لبنان. وتابع أن التحرّك في لبنان ممكن بفعل ضعف الدولة اللبنانية، على عكس سورية حيث توجد دولة قوية. بيد أن النزاع السوري غيّر الوضع وخلق “فرصة” لتدشين مقاومة مسلّحة في الجولان. بكلمات أخرى، أبرز نصر الله المزايا المُحتملة لوجود دولة سورية ضعيفة، مُبرزاً كيف يمكن لهذا أن يسمح لحزب الله بانتهاج استراتيجية المقاومة ضد إسرائيل. بيد أن استعداد الحزب وإيران للإفادة من ضعف سورية، كان أمراً مؤلماً ومريراً بالنسبة إلى نظام الأسد.

مع تصاعد الخسائر في الأرواح في صفوف الحزب، والتي كانت يُجسدها عدد الجنازات، أضحى من الصعب على نحو متزايد تبرير المشاركة في القتال بالحديث عن اشتباكات محدودة. وفي 19 أيار/مايو 2013، شنت قوات من حزب الله وسورية هجوماً كبيراً لاستعادة بلدة القصير دام نحو 20 يوماً، سقط فيها للحزب عدد كبير من القتلى.35 وبعدها، غيّر نصر الله المسار وطرح في 25 أيار/مايو 2013 محاججة مفصّلة حول أسباب الانخراط الاستراتيجي للحزب في الحرب السورية، مُلمحاً بذلك إلى فترة بقاء طويلة هناك. قال نصر الله أن الوضع في سورية لم يعد يتعلّق بـ” شعب يشارك في ثورة ضد النظام، أو مسألة إصلاحات”.36 بل على العكس بات انتشار الجماعات المسلحة في سورية يفرض أخطاراً على لبنان، وحزب الله تدخّل لحماية مصالح البلاد.37 كما تحدّث عن تهديد وجودي، ليس فقط لحزب الله وللسكان الشيعة في لبنان بل لكل البلاد، بمن فيهم السنّة، مضيفاً “لدي أدلة تُبت ذلك”.38 وإذا ما سمح حزب الله بانهيار النظام السوري، فستقع المقاومة في شباك الحصار:

“سورية هي ظهر المقاومة وسندها والمقاومة لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي أو يكشف ظهرها أو يكسر سندها ولا نكون أغبياء والغبي هو من يتفرج على المؤامرة تزحف إليه ولا يتحرك، إذا سقطت سورية في يد الأميركي والتكفيري ستحاصر المقاومة وسوف تدخل “اسرائيل” الى لبنان لتفرض شروطها عليه وسيعاد إدخال لبنان إلى العصر الاسرائيلي، وإذا سقطت سورية ضاعت القدس وشعوب منطقتنا مقبلة على عصر قاسي وسيء ومظلم ونحن الآن أمام طرفين في الصراع الأول هو المحور الغربي والأميركي والذي يتوسل في الميدان الجماعات التكفيرية التي تدمر الحاضر والماضي والمستقبل، وفي الطرف الآخر دولة لها موقف من المقاومة وتدعو الى الحوار، وحزب الله لا يمكن أن يكون في جبهة فيها أميركا واسرائيل”.39

مع توسّع انخراط حزب الله في النزاع على نحو واسع، مُتمدداً إلى الأجزاء الشمالية لسورية، خاصة حلب والأرياف الشاسعة، بات من المُحتّم أن يقوم الحزب بالمساعدة على تكوين ميليشيات خارجية وقوات مسلحة سورية غير نظامية لمساندة قواته.

اتخذ توجّه إيران وحزب الله لتشكيل الميليشيات شكلين: تجنيد مقاتلين من بلدان كالعراق وأفغانستان وباكستان، وفي الوقت نفسه استنفار وتنظيم الطائفة الشيعية السورية.40 هذه الجهود كانت لها أكلاف باهظة على إيران، إذ قدّر ستيفان دي ميستورا، المبعوث الخاص آنذاك للأمم المتحدة، ما دفعته إيران العام 2015 بنحو 6 مليارات دولار سنوياً في شكل مساعدات مالية وعسكرية لدعم نظام الأسد.41 كما تعيّن على إيران أيضاً دفع رواتب آلاف المقاتلين الأجانب الذين جلبتهم إلى سورية.42

كان القتال في سورية بالنسبة إلى حزب الله وإيران فرصة ليس فقط لزرع موطء قدم في ذلك البلد عبر الميليشيات الشيعية المحلية، بل أيضاً لتسهيل أي تدخل إيراني مستقبلي في الشرق الأوسط، من خلال تدريب ميليشيات غير سورية موالية لإيران. وقد كشف محمد علي فلكي، الذي كان جنرالاً في الحرس الثوري، الدوافع المُضمرة لطهران، حين أبلغ وكالة أنباء إيرانية أن إيران أقامت “جيش تحرير في جبهات تشمل سورية واليمن والعراق”.43 حزب الله كان في قلب هذا الجهد: فمع التثقيف العقائدي، والانتظام، والخبرة، تسنّم الحزب دوراً قيادياً في المعارك الكبرى.

وفقاً لحلفاء سورية في لبنان، أقلق هذا التحدي لسلطة الدولة السورية نظام الأسد، الذي لم يعتَدْ السماح بوجود جماعات مسلحة خارج سيطرته.44 وقد اتخذ رد فعله أشكالاً مختلفة كتقييد حرية حركة الميليشيات داخل منطقة دمشق أو الحد من الاحتفالات الشيعية العامة.45 وهذا يذكّر بالتوترات السابقة في علاقة دمشق مع إيران وحزب الله، حين كانت الأولى تُطل على الأمور من منظور سلطة النظام وخطوطه الحمراء الراسخة. كان القلق الرئيس للنظام يدور حول تعبئة حزب الله وإيران للطائفة الشيعية السورية أكثر من انشغاله بالميليشيات الأجنبية.46 إذ تحاول إيران وحزب الله تكوين إطار مؤسسي (بما في ذلك تأسيس شبكة دينيةـ وميليشات عقائدية وحشد عناصر طائفية داعمة، وكل ذلك خارج إطار سيطرة الدولة ونفوذها) يحل مكان المجتمع السوري نفسه، واضعَين بذلك أسس جهود التعبئة المستقبلية.

مثل هذه الجهود تتمدّد إلى الدين نفسه. ففي العام 2012، تم تأسيس المجلس الإسلامي الجعفري الأعلى، وهو أول هيئة تمثيلية شيعية مستقلة في سورية.47 هذه الهيئة هي رجع صدى للمجلس الإسلامي الشيعي الاعلى في لبنان، الذي أسّسه موسى الصدر العام 1967 لتمثيل السكان الشيعة ولوضع أسس مشاركة سياسية أوسع لهم. وفي حين أن الدولة السورية أسّست هذه الهيئة بمرسوم، إلا أنها (الهيئة) تعمل فعلياً كامتداد لحزب الله وإيران، وترعى وتدعم أتباع حزب الله في سورية. وقد نظّم رجال الدين في الهيئة جنازات لمقاتلين شيعة سقطوا في المعارك، وشاركوا في احتفالات الثورة الإسلامية في إيران.48

مع نهاية العام 2013، أصبحت الجماعات المسلحة الشيعية السورية أكثر ظهوراً، فباتت صور نصر الله وحزب الله حاضرة غالباً في يافطاتها وشرائطها المصوّرة. أصبحت قوات الرضا، وهي أبرز ميليشيا في محافظة حمص، تجسيداً واضحاً للتوترات بين حزب الله والنظام السوري. فهي تجنّد عناصر من مدينة حمص والقرى المحيطة بها، وساعدت على كسر الحصار عن بلدتين شيعيتين في محافظة حلب، هما نبل والزهراء.49 وفي هذه الأثناء، كان النظام يحاول الحد من نفوذ حزب الله عبر فرض سلطة الدولة السورية على قوات الرضا.

مع استعادة نظام الأسد ثقته بنفسه ونفوذه العام 2017، أي بعد سنتين من التدخّل العسكري الروسي، بدأ في إعادة توكيد سيطرته على الميليشيات السورية، بما في ذلك الميليشيات الشيعية. ووفقاً لمسؤول في حزب الله، أعرب ضباط ومسؤولون سوريون عن قلقهم من تغلغل الحزب في النسيج المجتمعي السوري.50 ذلك أن وجود ميليشيات طائفية شيعية يتحدّى الطابع العلماني الرسمي للدولة السورية. علاوة على ذلك، انتقد عناصر الميليشيات الشيعية السورية أجهزة أمن الدولة السورية على صفحات وسائط التواصل الاجتماعي، واتهموها بانعدام الكفاءة، ما مثّل تحدياً فاقعاً لنظام يسعى لأن يُحكِم سيطرته على كل شيء.51 وبالتالي، قررت الحكومة السورية دمج قوات الرضا في وحداتها المسلحة. ومن خلال بدء دفع رواتب أعضاء الميليشيات، زاد النظام من وتيرة نفوذه بينهم وقوّض هيمنة حزب الله.

كشف تحقيق داخلي أجرته لجنة في قوات الرضا، سُرِّب إلى موقع إلكتروني لبناني في نيسان/أبريل 2017، النقاب عن العقبات التي تُواجه إيران في خضم محاولاتها لتحويل سورية إلى أرض اختبار لأجندتها الإقليمية.52 سلطّت هذه الوثيقة الضوء على الخلافات بين السوريين الأعضاء في هذه القوات وبين القيادة اللبنانية، وأشارت إلى تظلمات السوريين لأنهم يتقاضون رواتب أقل من المقاتلين اللبنانيين، ورغبتهم في قيادة سورية لهم. مثل هذه التوترات ناجمة ليس فقط عن حساسيات وطنية، بل أيضاً عن فشل “حزب الله” في التثقيف العقائدي، وأيضاً في تحويل هذه الأقلية المتناثرة جغرافياً الى كتلة سياسية وتعبوية صلبة.

والحال أن الطائفة الشيعية السورية لم تكن متماسكة وموحّدة، ما عرقل تشكيل منظمة شيعية واسعة تمتد إلى كل أنحاء سورية. ثم أن الشيعة يمثلون أقلية ضئيلة من إجمالي السكان السوريين، أي 1-2 في المئة موزعين في كل أنحاء البلاد، ما حدّ من التهديد الذي قد يفرضونه على النظام. وقد تمكّن النظام السوري في نهاية المطاف من فرض سيطرته على الجماعات الشيعية التي باتت تعرض الآن في منافذها الإعلامية صور حافظ وبشار الأسد.

لكن، كان ثمة شيء أكثر عمقاً يحدث طراً بعد العام 2015: فروسيا تدخّلت في أيلول/سبتمبر 2015 دفاعاً عن النظام والدولة السورية، لكن جهودها لإعادة بناء قدرات الدولة اصطدمت مع مساعي إيران لخلق مؤسسات يمكن أن تقفز فوق سلطة الدولة. ثم أن الروس، بتعزيزهم النظام وتمكينه من إعادة الأراضي، سمحوا للقيادة السورية بأن تُحيي بالتدريج سلطته المُحتضرة.53 وهكذا، وبعد سنوات عدة من التبعية، بات في إمكان السوريين أخيراً إعادة التوازن إلى العلاقة مع إيران وحلفائها. وبفضل روسيا، حاز نظام الأسد على فرصة لضمان ألا تقطف إيران ثمار نقاط الضعف السورية.

هذه الديناميكيات المُلتهبة برزت بوضوح على وجه الخصوص في جنوب غرب سورية، قرب مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل. فإيران وحزب الله اغتنما فرصة الضعف السوري، وبدءا في بناء بنى تحتية في المنطقة لدعم مجابهة مُستدامة مع إسرائيل. شكّل هذا تحدياً للتفاهم الضمني القائم منذ أمد بعيد مع إسرائيل حول الحفاظ على هدوء جبهة الجولان، وفقاً لاتفاقية الهدنة العام 1974. وقتها، سارعت إسرائيل إلى الإعلان بأنها لن تسمح لإيران وحزب الله ببناء قدرات عسكرية في سورية، وبدأت بالإغارة على هذه المواقع. في المقابل، لم تقم روسيا بنشر أجهزة الدفاع الجوي، ما فسّره الكثيرون على أنه رسالة بأن موسكو تعارض توسيع إيران وحزب الله وجودهما قرب الجولان، جزئياً لأن الكرملين خشي أن يقوّض النزاع المحتمل اللاحق جهوده لتوفير الاستقرار لحكم الأسد.54

في هذه الأثناء، برزت مؤشرات على الأرض عن وجود احتكاكات بين روسيا وحزب الله. إذ أدى أحياناً نشر الشرطة العسكرية الروسية على الحدود اللبنانية – السورية وعلى الجانب السوري من خطوط الهدنة في مرتفعات الجولان إلى مفاقمة التوترات مع حزب الله. وقد جرى تسوية مجابهة نادرة في ضواحي القصير بين قوات حزب الله والقوات الروسية في حزيران/يونيو 2018، حين انسحبت القوات الروسية وحلّت مكانها، على ما قيل، قوات سورية.55 قبل شهر من هذا الحادث، كانت موسكو تدعو كل القوات الأجنبية إلى مغادرة سورية، وهذا بدا أنه يشمل قوات إيران وحزب الله.56

كذلك، لم تكن دمشق مُحايدة كلياً في مثل هذه المواجهات بين روسيا وإيران. فحين أعلن علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الأعلى الإيراني للشؤون الخارجية، أن تدخل إيران في سورية منع انهيار نظام الأسد، تلقى توبيخاً من صحيفة “الوطن” السورية شبه الرسمية التي يملكها ابن خال الأسد،57 لا بل وصلت تفاعلات هذه النزاعات إلى طهران. فقد حذّر بهروز بونيادي، النائب في البرلمان الإيراني، من أن تحالف الأسد مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمكن أن يضحّي” بإيران لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل. قال: “بشار الأسد يتقرّب بصفاقة كاملة من بوتين”، مضيفاً: “روسيا لن تكون صديقاً موثوقاً لنا”.58

صحيح أن روسيا وإيران لديهما أولويات متناقضة في سورية، لكن من غير المحتمل أن يغيّر ذلك على نحو جذري علاقات دمشق مع طهران وحزب الله. فنظام الأسد سيواصل استخدام الوجود الروسي لإحياء سلطته عبر مؤسسات الدولة، خاصة منها الأجهزة العسكرية والأمنية، ولإعادة التوازن في علاقاته مع إيران. كما أن النظام السوري وحزب الله، لطالما أظهرا، في إطار العلاقات السورية- الإيرانية، قدرة على مصالحة أولوياتهما في خضم الديناميكيات المتغيّرة للتحالف. والميل نحو الاسقرار ساعد كلا الجانبين على التغلّب على التوترات في علاقتهما.

وفيما تواصل روسيا تعزيز نفوذها في مؤسسات الدولة السورية، وفي البلاد ككل، قد يشهد نفوذ حزب الله تراجعا. لكن لا الأسد، ولا حتى روسيا إلى حد ما، يرغبان في قطيعة مع حزب الله. فتواصل العلاقة بين النظام والحزب ليس حجر الزاوية في علاقات دمشق مع إيران وحسب، بل من المحتمل أيضاً أن يوفّر الحزب ورقة ضغط قيّمة في أي مفاوضات مستقبلية مع الولايات المتحدة والدول العربية ذات الأغلبية السنّية، أو مع إسرائيل. وطالما تحافظ سورية على علائقها مع حزب الله، سيكون ثمة مبرر للتعاطي مع نظام الأسد بكونه كفة توازن محتملة مع حزب الله وداعميه الإيرانيين.

أما بالنسبة إلى النظام السوري، ستعني العودة إلى علاقات ماقبل الحرب مع إيران وحزب الله فصل مرتفعات الجولان عن الصراعات الإقليمية بالواسطة، ومنع فتح جبهة جديدة مع إسرائيل من خلال الأراضي السورية. وفي حين أنه من غير الواضح كيف ستتفاعل إيران وحزب الله مع هذا التوجّه، إلا أن عليهما أن تدركا بأن تمكين الأسد من إستعادة السلطة، ستعني أن النظام سيعود إلى سلوكياته السابقة. وهنا، قد يكون من المفيد التذكير بأن نظامي حافظ وبشار الأسد سعيا باستمرار إلى الحفاظ على استقلاليتهما في مجال العمل بمرونة، وفي انتهاج محصلات سياسية لا تتطابق بالضرورة دوماً مع مصالح الحلفاء.

سيهدف الأسد أيضاً، بدعم روسي، إلى مواصلة تمديد سلطة الدولة على الميليشيات السورية، فيحل بعضها أو ربما يدمج عناصرها في القوات المسلحة النظامية. قد يسعى النظام كذلك إلى التقارب مع دول الخليج (منافسي إيران الإقلمييين الرئيسيين) لمحاولة ترسيخ سلطته، وربما أيضاً للسيطرة (وإن ليس لاستئصال) على النفوذ الإيراني. وهذا قد يسمح له بأن يلعب مجدداً ورقتي الدول العربية وإيران ضد بعضهما البعض لصالحه. بيد أن مدى نجاح هذا الجهد سيعتمد في نهاية المطاف على مدى قدرته على تعزيز ما هو الآن دولة ضعيفة، إذ لايملك النظام حالياً سوى قدرات ضئيلة لمنع القوى الإقليمية من خوض صراعات بالواسطة داخل الحدود السورية.

خلاصة

لعقود عدة، كانت العلاقة بين النظام السوري وحزب الله تتحدد بالمرونة في خضم ديناميكيات القوة المتحوّلة، وهذا أمر لن يتغيّر في المستقبل المنظور. فالقدرات الكامنة في هذه العلاقات تنبع من حقيقة أنهما، وعلى رغم إدراكهما بوضوح لطموحات كل منهما، قادران على تحديد متى تكون لأي منهما اليد العليا. على سبيل المثال، تأقلم حزب الله مع الهيمنة السورية على لبنان بعد العام 1990، تماماً كما لم يكن لدى نظام الأسد من خيار سوى القبول حين شكّلت إيران وحزب الله ميليشيات شيعية مستقلة عن النظام بعد العام 2012، لمحاولة تحويل مرتفعات الجولان إلى جبهة جديدة ضد إسرائيل.

أدخل التدخل العسكري الروسي في العام 2015 متغيّراً جديداً على المعادلة. فتشديد موسكو على إعادة بناء قدرات الدولة لمساعدة النظام على استعادة مناطق واسعة من الأراض السورية، بدأ يُنهي تهميش نظام الأسد في الداخل. والدولة السورية باشرت إعادة توكيد سيطرتها على الميايشيات الموالية لها، بما في ذلك الميليشيات الشيعية وثيقة الصلة بحزب الله وإيران. وفي هذه الأثناء، اصطدمت طموحات إيران في مرتفعات الجولان بالجهود الإسرائيلية لمنعها من بناء بنى تحتية عسكرية في سورية. وحقيقة أن روسيا لم تفعل شيئاً لكبح جماح الغارات الجوية الإسرائيلية على مواقع حزب الله وإيران، لم يفعل شيئاً سوى التوضيح بأن موسكو أيضاً ليست مستعدة لتحويل سورية إلى حلبة جديدة لصراع إيران مع إسرائيل. صحيح أن قرار الولايات المتحدة الاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان يخدم أجندة حزب الله وإيران في جنوب سورية، إلا أن سجل النظام السوري حول تجنّب المجابهة المباشرة مع إسرائيل، يشي بأن دمشق ستدفع في الغالب باتجاه استمرار الهدوء على خطوط جبهة مرتفعات الجولان.

الآن، لايبدو وارداً أن يُجبَر الأسد على الإختيار بين إيران وروسيا. فهذه الأطراف كلها تتوحّد وفق سياسات مرنة وضد منافسين مشتركين لهما، مايعطي كلاً منهما مجالاً لاتخاذ قرارات تتطابق مع مصالحه الخاصة. وبالتالي، لاروسيا ولا إيران ستحاولان إستئصال وجود الآخر في سورية، إذ ان حكومتي هذين البلدين تعترفان بأن هذا لن يكون ممكناً من دون التسبّب بأضرار فادحة. كما تُدرك كلٌ من سورية وروسيا وإيران أن أي شريك يتعرض إلى الضعف، يمكن أن يقود إلى خسارتهم هم أنفسهم للسلطة. وفي هذا السياق، ستتواصل روابط حزب الله مع دمشق وفق الديناميكيات نفسها التي انبثقت في السابق.

هوامش

1 Jubin Goodarzi, Syria and Iran: Diplomatic Alliance and Power Politics in the Middle East (London: I.B. Taurus, 2009), 87–88.

2 Nadia von Maltzahn, The Syria-Iran Axis: Cultural Diplomacy and International Relations in the Middle East (London: I.B. Tauris, 2015), 19.

3 المصدر السابق، ص. 21.

4 هذه الزاوية من البراغماتية في التحالفات الإقليمية تشرح بشكل أفضل الفوارق الدقيقة في العلاقات الإيرانية- السورية خلال عهد الرئيس حافظ الأسد. انظر: Husayn Agha and Ahmad S. Khalidi, Syria and Iran: Rivalry and Cooperation (London: Pinter Pub Ltd, 1995), 2.

5 ساعد نظام صدام حسين في تدريب جماعة الإخوان المسلمين السورية، العدو الرئيس للأسد، في حين أصبحت دمشق موطناً جديداً للمعارضة الشيعية العراقية.

6 Von Maltzahn, The Syria-Iran Axis, 21.

7 المصدر السابق، ص. 23.

8 المصدر السابق.

9 Mark L. Haas, The Clash of Ideologies: Middle Eastern Politics and American Security (Oxford: Oxford University Press, 2012)

10 John L. Esposito, The Islamic Threat: Myth or Reality? (New York: Oxford University Press, 1999), 155.

11 نعيم قاسم، “حزب الله: المنهج-التجربة-المستقبل”، بيروت: دار الهادي، 2009، ص.27.

12 Filippo Dionigi, Hezbollah, Islamist Politics, and International Society (New York: Palgrave, 2014), 161.

13 Magnus Ranstorp, Hizb’Allah in Lebanon: The Politics of the Western Hostage Crisis (Basingstoke: Macmillan Press, 1997), 60–62.

14 Nicholas Blanford, Warriors of God: Inside Hezbollah’s Thirty-Year Struggle Against Israel (New York: Random House, 2011), 48–49.

15 Abbas William Samii, “A Stable Structure on Shifting Sands: Assessing the Hezbollah-Iran-Syria Relationship,” Middle East Journal 62, no. 1 (Winter 2008): 32–53.

16 المصدر السابق، ص. 39.

17 يُعرف الحي الأكبر أيضاً باسم البسطة الفوقا، أو البسطة العليا، وهي منطقة مختلطة من الطبقة العاملة السنية – الشيعية في غرب بيروت. انظر: Goodarzi, Syria and Iran, 202.

18 المصدر السابق، ص. 202.

19 قاسم، “حزب الله: المنهج-التجربة-المستقبل”، ص.413.

20 المصدر السابق، ص. 241.

21 Blanford, Warriors of God, 92.,

22 Anoushiravan Ehteshami and Raymond A. Hinnebusch, Syria and Iran: Middle Powers in a Penetrated Regional System (London and New York, NY: Routledge, 1997), 146.

23 Itamar Rabinovich, The Brink of Peace: The Israeli-Syrian Negotiations (Princeton: Princeton University Press, 2009), 145.

24 Michael Young, The Ghosts of Martyrs Square: An Eyewitness Account of Lebanon’s Life Struggle (New York: Simon and Schuster, 2010), 26.

25 مقابلة مع مسؤول سابق في حزب الله، بيروت، أيلول/سبتمبر 2018.

26 Hezbollah Joins Lebanon Cabinet for First Time,” ABC News, July 20, 2005, https://www.abc.net.au/news/2005-07-20/hezbollah-joins-lebanon-cabinet-for-first-time/2062306.

27 المصدر السابق.

28 Anthony H. Cordesman with George Sullivan and William D. Sullivan, Lessons of the 2006 Israeli-Hezbollah War (Washington, DC: Center for Strategic and International Studies, 2007), https://csis-prod.s3.amazonaws.com/s3fs-public/legacy_files/files/publication/120720_Cordesman_LessonsIsraeliHezbollah.pdf.

29 المصدر السابق.

30 Young, The Ghosts of Martyrs Square, 233–34.

31 علي هاشم، “رحلة حزب الله من ساحات الحرب في سورية إلى حقل الألغام السياسي في لبنان”، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 28 آذار/مارس 2018، https://carnegie-mec.org/2018/09/12/ar-pub-77229

32 “نص كلمة السيد نصرالله حول طائرة الاستطلاع أيوب وقضايا أخرى عبر تلفزيون المنار”، قناة المنار، 12 تشرين الثاني/أكتوبر 2012، http://archive.almanar.com.lb/article.php?id=324599

33 المصدر السابق.

34 “النص الكامل لكلمة السيد نصر الله في احتفال اذاعة النور”، قناة المنار، 10 أيار/مايو 2013، http://archive.almanar.com.lb/article.php?id=487259

35 Nicholas Blanford, “The Battle for Qusayr: How the Syrian Regime and Hizb Allah Tipped the Balance,” Combating Terrorism Center, August 2013, https://ctc.usma.edu/the-battle-for-qusayr-how-the-syrian-regime-and-hizb-allah-tipped-the-balance/.

36 “السيد نصر الله لشعب المقاومة: كما كنت أعدكم بالنصر دائما أعدكم بالنصر مجدداً”، قناة المنار، 25 أيار/مايو 2013، http://archive.almanar.com.lb/article.php?id=498289

37 المصدر السابق.

38 إيهاب العقدي، “حزب الله يشيع قتلاه في القصير”، سكاي نيوز عربية، 19 أيار/مايو 2013،

http://goo.gl/YkaFwx

39 “السيد نصر الله لشعب المقاومة: كما كنت أعدكم بالنصر دائما أعدكم بالنصر مجدداً”، قناة المنار، 25 أيار/مايو 2013، http://archive.almanar.com.lb/article.php?id=498289

40 Babak Dehghanpisheh, “Iran Recruits Pakistani Shi’ites for Combat in Syria,” Reuters, December 10, 2015, https://www.reuters.com/article/us-mideast-crisis-syria-pakistan-iran/iran-recruits-pakistani-shiites-for-combat-in-syria-idUSKBN0TT22S20151210.

41 Eli Lake, “Iran Spends Billions to Prop Up Assad,” Bloomberg, June 9, 2015, https://www.bloomberg.com/view/articles/2015-06-09/iran-spends-billions-to-prop-up-assad.

42 مهنّد الحاج علي، “معركة “السيدة زينب”: بوابة الجحيم الطائفي”، Now Lebanon، 8 نيسان/أبريل 2013، http://goo.gl/rtS8XO

43 Tallha Abdulrazaq, “Iran’s ‘Shia Liberation Army’ Is Par for the Course,” Al-Jazeera, August 21, 2016, https://www.aljazeera.com/indepth/opinion/2016/08/iran-shia-liberation-army-par-160821091935110.html.

44 مقابلة مع حليف للنظام السوري، قاد ميليشيا موالية للنظام في النزاع السوري، بيروت، 21 نيسان/أبريل 2018. ومقابلة مع سياسي لبناني له صلات أمنية بالنظام السوري، بيروت، 26 أيار/مايو 2018.

45 انظر مصطفى محمد، “ما حقيقة منع النظام السوري “اللطميات” في الأماكن العامة؟”، عربي 21، 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، https://arabi21.com/story/1051236/ما-حقيقة-منع-النظام-السوري-اللطميات-في-الأماكن-العامة

46 “صراع خفي بين جيش نظام الأسد وميليشيا “الدفاع الوطني” في حمص”، السورية نت، 4 كانون الثاني/يناير 2016، www.alsouria.net/content/صراع-خفي-بين-جيش-نظام-الأسد-وميليشيا-الدفاع-الوطني-في-حمص

47 مهنّد الحاج علي، “انبعاث الشيعة”، مدونة ديوان، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 4 أيار/مايو 2017، https://carnegie-mec.org/diwan/69855

48 المصدر السابق.

49 “معظمهم من “حمص” و”الفوعة”.. 32 قتيلاً من الميليشيات الشيعية خلال 72 ساعة”، زمان الوصل، 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، https://www.zamanalwsl.net/news/article/82712

50 مقابلة أجراها المؤلّف مع عضو من حزب الله، بيروت، 28 آذار/مارس 2014.

51 في بوست على فايسبوك، اشتكت قوات الرضا من تصوير عناصرها على أنه غير وطنيين”، وأضافوا “اسٲلوا أطفالنا اليتامى اسألوا زوجاتنا وأمهاتنا الثكالة” عن “تضحيات” الميليشيا في سورية. انظر: https://www.facebook.com/groups/833026056780920/permalink/1407865422630311/

52 “مليشيا الرضا: الحساسية المزدوجة من النظام و”حزب الله””، المدن، 22 نيسان/أبريل 2017، https://www.almodon.com/arabworld/2017/4/22/مليشيا-الرضا-الحساسية-المزدوجة-من-النظام-و-حزب-الله

53 Jamie Seidel, “Syrian Conflict: ‘Putin’s Won,’ Concedes U.S. Army Assessment,” News.com.au, April 3, 2018, https://www.news.com.au/world/syrian-conflict-putins-won-concedes-us-army-assessment/news-story/a3be7d489b81e6d2022d91f759bcdcbc

54 Anshel Pfeffer, “Putin’s Syrian Dilemma: Back Israel or Iran?,” Haaretz, February 19, 2018, https://www.haaretz.com/israel-news/.premium-putin-s-syrian-dilemma-back-israel-or-iran-1.5828014

55 Bassem Mroue, “Rare Tensions Between Assad’s Backers As Syria’s War Unwinds,” Associated Press, June 9, 2018, https://apnews.com/bebd6b8568ac44b0b568b3ceca4c6c24.

56 “Russia Calls for Foreign Troop Pullout From Syria Including Iran, Hezbollah,” Al-Arabiya English, May 19, 2018, https://english.alarabiya.net/en/News/middle-east/2018/05/19/Russia-calls-for-foreign-troops-pullout-from-Syria-including-Iran-Hezbollah-.html.

57 فراس عزيز ديب، “عذراً علي أكبر ولايتي.. كان ليَسقط العالم وسورية لن تسقط”، الوطن، 15 تموز/يوليو 2015، http://alwatan.sy/archives/158590

58 “Iran MP Unleashes Harsh Attack On Putin, Assad and Regime Policies,” Radio Farda, June 28, 2018, https://en.radiofarda.com/a/iran-mo-bonyadi-attacks-putin-assad-policies/29325152.html.

مهنّد الحاج علي مدير الاتصالات والإعلام وباحث مقيم في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت.

مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط

—————————————

معركة القصير: نقطة التحوّل

الإثنين 20 أيار 2013

ما يجري في القصير اليوم جزء من المشهد الكلّي الذي يرسمه النظام في سوريا، والذي وضع له سقفاً زمنياً ينتهي بنهاية العام الحالي. يمكن تأريخ بداية المشهد السوري الحالي بمعركة طريق المطار، في اليوم الأخير من تشرين الثاني الماضي، والأيام الأولى من كانون الأول عام 2012. بدأ نشاط الجيش السوري في الميدان يأخذ منحى تصاعدياً. كانت العاصمة دمشق مهدّدة بشكل جدي من مسلحي المعارضة المنتشرين على كل المحاور. وفي المنطقة الوسطى، كان المعارضون يتقدمون في ريف القصير، ساعين إلى تعويض تراجعهم داخل مدينة حمص، وفتح طريق يربط مدينة القصير بمنطقة عكار اللبنانية. بدأ الجيش السوري عملياته في ريف دمشق، وفي ريف حمص، قبل الانتقال إلى ريف إدلب، ومدينة حلب وريفها. وابتداءً من بداية العام الجاري، بدأ بتحقيق تقدم في المناطق الوسطى والشمالية. وبعد فتح جبهة الجنوب ضده، وتراجعه بشكل حاد في درعا والجولان، عاد إلى تعزيز مواقعه هناك خلال الأسابيع الأخيرة، واستعادة عدد من المواقع التي سبق أن سيطرت عليها المعارضة.

وصل مسار عمليات الجيش السوري إلى نقطة تحوّل بارزة في السابع من نيسان الماضي، عندما تمكّن من تطويق الغوطة الشرقية، وبدأ التوغل فيها، لمنع المسلحين المعارضين من مهاجمة العاصمة. إلى حد بعيد، تراجع الخطر عن دمشق، بعد تقدّم الجيش أيضاً على جبهة الضواحي الجنوبية والجنوبية الغربية لدمشق. تزامن ذلك مع تراجع المعارضة في ريف حمص الجنوبي، وصولاً إلى محاصرة الجيش السوري لمدينة القصير.

لماذا القصير؟

لطالما اعتُبِرَت مدينة القصير المعقل الأكثر تحصيناً للمعارضة في المنطقة الوسطى. هي من أوائل المدن خروجاً عن سلطة الدولة، رغم بقاء حيّ صغير فيها بيد الأمن السوري، بوجود مركز محصّن للاستخبارات فيه. فهي محاطة بمنطقة زراعية شاسعة، تمتد إلى لبنان (عكار، والهرمل وعرسال)، وإلى تخوم مدينة حمص. ويتصّل ريفها الجنوبي بمنطقة جبلية تشكل امتداداً للريف الشمالي والغربي لدمشق. وكان يُحكى، قبل بدء المعارك، عن وجود أكثر من 6 آلاف مقاتل في المساحة المترامية المحيطة بالقصير، والذين يستفيدون من الطبيعة الزراعية لأماكن انتشارهم.

هي إذاً واسطة العقد في المنطقة الوسطى. ومن دون السيطرة عليها، لا يمكن الجيش السوري حسم معركته في حمص، ولا تأمين المنطقة الريفية الممتدة بين دمشق وحمص. وفي حال تمكّن الجيش من استعادتها، فسيكون في مرحلة لاحقة قادراً على تحصين المنطقة الوسطى، من خلال قطع طرق الإمداد الرئيسية للمسلحين من لبنان. كذلك سيكون باستطاعة الجيش السوري نقل جزء كبير من القوى القتالية التي تقود الهجوم في هذه المنطقة إلى مواقع أخرى لا تقل أهمية عن حمص وريفها الجنوبي، كريفها الشمالي (الرستن وتلبيسة)، أو كمدينة حلب وجزء من ريفها، أو بعض مدن ريف إدلب، وخصوصاً تلك المنتشرة على الطريق المؤدية إلى حلب.

خلاصة القول إنّ ما يقوم به الجيش السوري في القصير حالياً، يرمي، بحسب مسؤولين سوريين، إلى إحداث تحوّل في المعركة، بهدف الوصول إلى تأمين المدن الرئيسية في سوريا (دمشق وحلب ودرعا وحمص وحماه وطرطوس واللاذقية وإدلب…)، والسيطرة على الطرق التي تربط في ما بينها، وتوسيع الرقعة الآمنة حول كل منها.

وذكرت وكالة «فرانس برس» عن «مصدر مقرب» من حزب الله، أمس، أن أربعة مقاتلين من الحزب على الأقل قتلوا في مدينة القصير. وأضاف المصدر أن المقاتلين من منطقة البقاع، ويرجح أن يكونوا قتلوا ليلة السبت – الأحد، فيما أهعلنت «تنسيقية» القصير عن مقتل 52 شخصاً في المدينة.

ومن القصير إلى ريف دمشق، حيث نفذ الجيش السوري سلسلة من العمليات ضد عناصر المعارضة المسلحة في حيّ برزة البلد، محقّقاً سلسلة من المكاسب بعدما «تمت إعادة الأمن إلى معظم منطقة المسطاح».

وفي الغوطة الشرقية، واصل الجيش عملياته في المزارع المحيطة ببلدات القاسمية، والجربا، والبحارية أوقع خلالها عدداً من القتلى والجرحى في صفوف المعارضين المسلحين. وفي حماه، تمكّن الجيش، بعد معارك عنيفة، من إعلان سيطرته التامة على حلفايا في ريف المدينة الشمالي. وطلب مصدر عسكري من أهالي حلفايا العودة إلى منازلهم اعتباراً من صباح يوم غد.

إلى ذلك، ذكرت «تنسيقيات» معارضة أنّ مقاتلي عدة كتائب سيطروا بشكل كامل على قرى الطليسية والزغبة والشعتة وبليل الواقعة في ريف حماه الشرقي، في وقت فجّر فيه «انتحاريان سيارتين مفخختين قرب معمل الحرامات على طريق المشرفة حمص، وعند سوق الغنم على طريق حمص _ السلمية، ما أدى إلى وقوع عدد من الشهداء والجرحى بين المواطنين»، بحسب وكالة «سانا»، فيما ارتفع عدد ضحايا انفجار السيارة المفخخة في حيّ ركن الدين في مدينة دمشق إلى 8 قتلى و10 جرحى، ونقلت وكالة «فرانس برس» عن جهات معارضة أنّ التفجير استهدف عدداً من السيارات التابعة للقوات الحكومية في المنطقة.

كذلك أكد مصدر سوري حكومي لوكالة «فرانس برس» أنّ مسلحين خطفوا والد نائب وزير الخارجية فيصل المقداد في قريته غصم في محافظة درعا.

الاخبار

—————————–

حوار مع نعوم تشومسكي حول الثورة السورية

محمد العطار

في زيارته القصيرة لبيروت، كان لنعوم تشومسكي، المفكر والفيلسوف الأميركي الغني عن التعريف، لقاء مع بعض الأفراد السوريين المستقلين، من ناشطين إعلاميين وعاملين في مجال الإغاثة ومشتغلين في الحقل الثقافي والاقتصادي. وقد صارح تشومسكي المجتمعين بأنه جاء ليصغي إليهم، وليستمع إلى وجهات نظرهم المختلفة حول الأوضاع الراهنة في سوريا.

بعد هذا اللقاء، تشرفت بإجراء الحوار التالي معه. ورغم إني فاتحته في بداية الحوار أن حافزي هو دفعه ليكاشف السوريين ويتحدث إليهم مباشرة حول مقاربته للوضع في بلدهم، بعد سلسلة مقابلات معه في بيروت أجرتها صحف لبنانية تقارب الوضع السوري بحسب اهتمامها وانحيازها السياسي. إلا أن المفكر الثمانيني أصرّ بدماثة أنه في موقع التعرف على الوضع عن كثب، أكثر من كونه في موقع إعطاء الاستنتاجات الناجزة. تطرق الحوار إلى مواقف كان تشومسكي قد سجلها في مقابلات سابقة حول رؤيته للوضع المعقد في سوريا، وتدخل حزب الله هناك، وطبيعة الموقفين الأميركي والإسرائيلي من سوريا الثورة، وقضايا أخرى ذات صلة.

عن تدخل حزب الله والسياسات الإيرانية

ما هو رأيك بتدخل حزب الله الصريح على خط الصراع في سوريا دعماً لقوات النظام؟ هناك تصريحات لك تفيد أنك تتفهم هذا التدخل.

هنك فرق بين فهم دوافع التدخل وتبريره. لنكن واضحين، لا شيء يبرر تدخل حزب الله. إذا سألتني ماذا يعتقدون، فسأجاوب عن رأيي فيما يعتقدون هم. ولكن إن سألتني ما هو رأيي بقرارهم، فرأيي البسيط والواضح أنه لم يكن عليهم التدخل. لكني لست أباهم الروحي وهم لم يطلبوا نصيحتي.

بالعودة إلى رأيي فيما يعتقدون هم: إن لم يتدخلوا في القصير، فإنها كانت ستبقى في يد مقاتلي المعارضة، وهذا بالطبع يجسد انحداراً في قوة النظام السوري، وبالتالي حصار الإمدادات الواصلة إليهم من إيران، وبالتالي ضعف قوتهم العسكرية تدريجياً في وجه إسرائيل، وهي ذريعتهم الأساسية للاحتفاظ بالسلاح. مجدداً فإن خياري، والذي من الواضح أنه ليس خيارهم، كان بعدم التدخل في سوريا والعمل على تعزيز دورهم كقوة اقتصادية واجتماعية داخل لبنان، ومقاربة مفهوم قوة الردع بطريقة أخرى، المفهوم الذي برأيي لم يعد قائماً بنفس الطريقة التي يظنها البعض. بصراحة لا يتم الانتباه هنا إلى ما يدور داخل إسرائيل في هذا الصدد، وهذا خطأ كبير. هناك أحاديث أن الإسرائيليين تعلموا من حرب 2006 أن أي حرب قادمة في لبنان لن تقوم على مبدأ خوض معركة برية طويلة مع حزب الله، الذي يملك ترسانة صاروخية كبيرة، وإنما ستكون حرباً خاطفة وسريعة تسعى للتدمير الشامل، ربما تدمير لبنان خلال يومين. وقوة الردع عند حزب الله لن تمنعهم.

هل تعتقد باحتمال حدوث تغيرات ملحوظة على سياسة إيران الخارجية بعد انتخاب السيد روحاني؟

لروحاني خيارات محدودة بسبب سلطة الولي الفقيه. لكن يتوجب القول أن هناك تنويعات حصلت على السياسية الخارجية الإيرانية عبر السنوات الماضية. خلال حقبة خاتمي، كان هناك فرصة للتقارب مع الغرب لو وافق هذا الأخير. بالمناسبة فإن اتفاقاً مماثلاً حول الملف النووي كان ممكناً تحقيقه في العام 2010، لولا رفض الولايات المُتحدة في اللحظات الأخيرة، رغم أن إيران وافقت على اقتراح قدمه أوباما بنفسه ورعته كل من البرازيل وتركيا نصّ على تخزين اليورانيوم الإيراني ضعيف التخصيب في تركيا، مقابل حصولها على وقود نووي عالي التخصيب من أوروبا، مما دفع البرازيل إلى الغضب في حينه. بالعموم أرى أن هناك طرقاً لتخفيف حدة المواجهة بين إيران والغرب، ولكنها دوماً مرهونة بشرطين: موافقة السلطات الروحية في إيران، وموافقة الولايات المُتحدة.

هل تستخدم إيران الوضع السوري كورقة في مفاوضاتها مع الغرب حول الملف النووي؟

لا أعتقد ذلك. أعتقد بالفعل أن الأزمة السورية عبء عليهم. طبعاً هم لا يريدون للنظام أن يسقط، فهو حليفهم الأخير في المنطقة. وللأسف فالمنطقة تتجه نحو مزيد من الاستقطاب الحاد بين الشيعة والسنة، ولذا فإن المرجح أن تستمر إيران بدعم النظام السوري حتى النهاية.

إسرائيل والولايات المتحدة والمواقف من الثورة السورية

ما هو برأيك الموقف الإسرائيلي الحقيقي من الثورة السورية؟

إسرائيل لم تتصرف بأي طريقة تنم أنها تسعى لإسقاط نظام الأسد. هناك اليوم أحاديث متزايدة عن نية الغرب لتزويد المعارضة بالأسلحة، أعتقد أن هذه حقائق مُضللة. في حقيقة الأمر لو كانت الولايات المتحدة ومعها إسرائيل مهتمة بإسقاط النظام السوري، لكان هناك جملة من الإجراءات التي أمكن القيام بها قبل الوصول إلى خيار التسليح، وهي جملة خيارات مُتاحة. منها مثلاً أن تدفع أميركا إسرائيل لحشد قواتها على الجبهة الشمالية وهو أمر لن يترتب عليه أي اعتراض دولي، وكان سيجبر النظام على سحب بعض قواته والتخفيف عن قوات المعارضة في عدد من الجبهات. لكن هذا لم يحدث، ولن يحدث طالما الموقف الأميركي والإسرائيلي غير راغب في رؤية النظام يسقط حقاً. ربما لا يحبون النظام، لكنه نظام اعتاد أن يكون مرناً في الاستجابة لمتطلباتهم، وأي بديل يجهلونه قد يكون أسوأ في هذا الصدد. الأفضل إذن مراقبة السوريين يقتتلون ويدمرون بعضهم البعض.

لديك هذا الخطاب الواضح حول عدم رغبة أميركا وإسرائيل بسقوط النظام السوري، وأن هذه القوى تتحرك على قاعدة «الشر الذي تعرفه خير من الشر الذي تجهله». كيف تفسر رواج خطاب مغاير بين مُحللين ومثقفين، وخاصة في الأوساط اليسارية في أوروبا والولايات المتحدة والعالم العربي، يبني أسسه على فرضية المؤامرة الأميركية / الإسرائيلية / الإمبريالية؟ بالنسبة للبعض، كانت الثورة في سوريا منذ البداية مؤامرة من هذا النوع. بالنسبة لآخرين فقد تم اختطافها لاحقاً لصالح مثل هذه المؤامرة.

لوقت طويل وُجد في العالم العربي، وأماكن أخرى، قصص وأوهام حول القوة الخارقة للولايات المتحدة، عبر التحكم بكل شيء عبر مؤامرات معقدة. وفي هذا السياق كانت كل الأمور تفسر تبعاً لمؤامرات إمبريالية. هذا خطأ. الولايات المتحدة ما زالت قوة عظمى بدون شك، وهي قادرة على التأثير بالأحداث، لكنها ليست دوماً قادرة على تحريك الأمور عبر حبك مؤمرات مُعقدة، هذا حقاً أكبر من طاقتهم. لا شك أنهم يحاولون أحياناً، لكنهم أيضاً يفشلون. ما حدث في سوريا ليس عصياً على التفسير: لقد بدأت حركة احتجاجية شعبية وديمقراطية طالبت بإصلاحات ديمقراطية، لكن، بدل الاستجابة لها بإيجابية بنّاءة، جابهها الأسد بقمع عنيف. وما يتلو هذا عادةً إما النجاح في سحق الاحتجاج، وإما أن يتطور الاحتجاج ويلجأ للتسلح، وهذا ما حدث في سوريا. وعندما تدخل الحركة الاحتجاجية هذه المرحلة، نشهد ديناميكيات جديدة، عادةً ما تفرز تقدم أكثر المكونات تشدداً وضراوة إلى الصفوف الأمامية.

بين خيار تسليح المعارضة وخيار المفاوضات

لديك موقف متحفظ حول ما أثير أخيراً عن نية غربية لتزويد مقاتلي المعارضة بالأسلحة. لماذا؟

يتعلق الأمر بالنظر إلى النتائج. مرة أخرى أرى أن هناك أموراً أبسط يمكن للغرب القيام بها قبل الانتقال للدعم العسكري، منها ما ذكرته سابقاً، ومنها أيضاً تقديم مزيد من المساعدات على المستوى الإنساني. إن كنا جديين يجب علينا النظر إلى نتائج مثل هذا الفعل. ماهي النتائج المترتبة على ذلك على الصعيد الإنساني؟ سؤالي هنا عملي وليس أخلاقياً. جوابي سيكون قريباً من جواب مراقبين آخرين متابعين للوضع السوري عن كثب، مثل باتريك كوبرن الذي قال أن مثل هذه الخطوة ستصعّد المواجهة العسكرية، مع الإبقاء على نفس التوازن العسكري. فحلفاء النظام من روسيا وإيران والعراق سيستمرون في القيام بما يفعلونه أصلاً، وسيدعمون النظام بأسلحة أكثر تطوراً.

هذا التحليل يستند عادةً إلى فرضية تقول أن روسيا ستقوم بتزويد النظام السوري بأسلحة متطورة من شأنها قلب التوازن الحالي –المسكوت عنه– مع إسرائيل. ألا تعتقد أن روسيا وإن كانت داعمة للنظام السوري لكنها لن تقدم على خطوات من شأنها تهديد أمن إسرائيل؟

يمكنهم أن يزودوا النظام بأسلحة متطورة دون أن يصلوا إلى الحد الذي يهدد إسرائيل حقاً. ولا ننسى أن النظام قد يستخدم السلاح الكيماوي، حتى الآن هناك تشويش حول هذا الأمر، ولكنه احتمال لا يمكن نفيه بالمستقبل.

تسجل تحفظك على قرار تسليح المعارضة، بوصف ذلك خطوة ستطيل أمد الصراع الدموي. وترى في المفاوضات المترافقة مع ممارسة ضغوط سياسية ودبلوماسية الوسيلة الأفضل لدفع النظام إلى تقديم التنازلات. لكن هناك اعتقاد رائج لدى السوريين أن نظامهم لن يقدم تنازلات جدية ولن يتفاوض مع المعارضة حتى لو وصل الثوار إلى أبواب القصر الرئاسي، لنا في القذافي مثال من الأمس القريب.

ربما أتفق معك في هذا. ولكن لتجبر النظام على التفاوض، عليك أن تغير الظروف لتدفعه إلى القبول. وإحدى الطرق لتفعل ذلك يكون عبر توفير الظروف لجنيف، عبر توافق بين الدول الكبرى يدفع النظام أو بالأحرى يُجبر النظام -وهم قادرون على ذلك إن أرادوا حقاً-  على الذهاب والقبول بتسوية تقوم على وجود فترة انتقالية تمهّد لرحيل الأسد بشكل نهائي.

لكن هناك خشية من أن الاستمرار في عدم تسليح المعارضة بشكل منظم وبأطر واضحة سيعني استمرار تحكم بعض الأفراد والمرجعيات الدينية في الخليج وخارجه في تزويد السلاح بشكل محدود لفرق معينة في صفوف المعارضة المسلحة، تمثل الوجه الأكثر تشدداً. وبذلك يستمر تهميش القطاعات المعتدلة من مقاتلي المعارضة.

سؤالك هنا يحمل خيارات تكتيكة ضيقة جداً. كلنا نريد أن نجبر الأسد على التفاوض ومن ثم التنحي، ولكن السؤال كيف نفعل ذلك؟ الطريقة الأولى لفعل ذلك هي عبر تزويد المعارضة بالسلاح، وهي خطوة ستؤدي على الأرجح إلى تصعيد المواجهة العسكرية وتفتح الباب نحو مزيد من الإمداد العسكري المتطور للنظام، سيؤدي هذا إلى تفاقم الدمار والمراوحة في المكان. الطريقة الثانية هي في الذهاب إلى جنيف بتوافق بين القوى الكبرى، ومن ضمنها روسيا، ودفع النظام إلى قبول التسوية. هذه هي الخيارات التي نملك!

ولكن هل تعتقد أنه بالاعتماد على خيار التفاوض يمكنك دفع النظام إلى قبول التغيير؟

بصراحة وبموضوعية، أعتقد أن لكلا الخيارين فرصة ضعيفة بالنجاح. لكن عليك أن تتخذ خياراً. في أيهما تمضي؟ الخياران ليسا مثاليين، ولكن مرة أخرى عليك أن تفكر بما لديك. في الحقيقة أعتقد أنه يمكنك المضي أولاً في خيار التفاوض، وإذا واجهت الفشل، فسيكون انتقالك إلى الخيار الثاني مقبولاً أكثر.

لكن الوقت يقاس بأرواح السوريين.. نتحدث عن الذهاب إلى جنيف في ظل الوضع الراهن والدخول في مسيرة مفاوضات طويلة.

والفرضية المعاكسة تقول أيضاً أن أرواح سوريين كثر ستزهق أيضاً باتباع الخيار الآخر!

هناك معضلة تتمثل في إقناع قطاعات واسعة من السوريين الذين اضطروا لحمل السلاح، بأن التزود بالسلاح من الخارج سيزيد الأمور سوءاً، في حين يتلقى النظام دعماً سخياً ومتواصلاً من حلفائه. ألا تعتقد أن التحدي الحقيقي لا يكمن في استقبال السلاح، وإنما في تحصين الداخل أمام فرض المزودين بالسلاح لأجنداتهم مقابل الدعم؟

مجدداً، السؤال الذي يقلقني هو ما نتائج هذه الخطوة؟ لا يتعلق الأمر فقط بالحديث عن مزيد من الضحايا والتدمير، وإنما ترسيخ نفس التوازن العسكري الموجود في سوريا اليوم وإنما مع أسلحة أكثر، مع كل ما سيجلبه ذلك على سوريا. أما سؤالك حول الأجندات، فهذا بالطبع شأن آخر. ماذا يمكن التوقع من دولة مثل السعودية مثلاً؟

السلمية والعسكرة، والتضامن العالمي مع السوريين المنتفضين

مازال السوريون اليوم يسمعون بعض اللوم بسبب تصدر المقاومة المُسلحة لمشهد الثورة، بعد أن كانت الاحتجاجات سلمية وبقيت كذلك طوال الشهور الأولى. هل تعتقد أن السوريين امتلكوا خيارات أخرى وفوتوها على أنفسهم؟

لا أعتقد أن السوريين صنعوا الخيار في المقام الأول. حدث هذا بعد الرد القمعي من النظام السوري. كان أمام السوريين إما الاستسلام أو الاتجاه نحو السلاح. اللوم هنا كالقول بأن الفيتناميين أخطئوا باللجوء إلى السلاح عندما قامت الحكومة المدعومة أميركياً بارتكاب المجازر. نعم لقد اختار الفيتناميون الرد المسلح، لكن البديل الآخر كان بالقبول باستمرار المجازر. هذا ليس نقداً جدياً.

هناك شعور بالمرارة لدى السوريين لغياب تضامن فعّال مع حراكهم. لا أتحدث هنا عن الحكومات والسياسيين، أقصد مواطنين عاديين وناشطين ومنظمات مجتمع مدني. لا يتعلق الأمر باليوم فقط، وإنما يعود إلى الفترة الأولى حين كانت الاحتجاجات سلمية بالكامل واستمرت كذلك للشهور العشرة الأولى تقريباً. كيف تفسر هذا؟  

في الواقع هذا مخالف لانطباعي، وأنا موجود وسط تحركات الناشطين من الغرب. أعتقد أنه كان هناك تضامن جيد مع السوريين. لكن كيف يتحول التضامن إلى فعل؟ هذا شيء آخر. لنفترض أنك ناشط تعيش في نيويورك، كيف تظهر تضامنك على العلن؟ ماذا تفعل؟

ربما تنظم مظاهرات أسبوعية..

كان هناك مظاهرات، ربما كانت قليلة. لكن المظاهرات في نهاية الأمر لها فعالية محدودة. 

لكننا وخلال أيام فقط من الحراك الشعبي في ميدان تقسيم في تركيا، رغم أننا نتحدث عن سياق مختلف تماماً، شهدنا تظاهرات متضامنة حول العالم مع الحراك هناك، كنا في سوريا نتوق لرؤية مثلها.

يعود الأمر برأيي لقدرة الجاليات التركية في الغرب على الحشد والتحرك، وهي قدرة على حد علمي غير متوفرة لجاليات سورية مماثلة.  لكني أكرر اعتقادي أن سوريا أيضاً حظيت بتضامن كما حظيت به تونس ومصر من قبل.

بالحديث عن مصر، كان هناك تضامن واسع، مفهوم الدوافع بالطبع، مع محتجي ميدان التحرير. يأتي إحساس السوريين بالمرارة من الشعور بأنهم كانوا مطالبين بإعادة إنتاج ميدان تحرير آخر كي يحظوا بنفس التقدير، علماً أنهم لم يوفروا جهداً في سبيل ذلك، وقد أُزهقت أرواح كثيرة في سبيل هذا الهدف.

نعم فقد منعوا عبر استخدام القوة المفرطة. أتفق معك أن ميدان التحرير حظي باهتمام ملحوظ، يعود ذلك في جزء منه إلى مجموعات من الناشطين عملت بدأب على ربطه بالعالم، فمثلاً تضامن متظاهري التحرير مع نظراء لهم في ويسكونسن الأميركية ترك أثراً كبيراً في الجمهور الأميركي. عموماً فإن التأخر في إظهار التضامن والدعم حدث في كثير من المرات. كينيدي غزا جنوب فيتنام في العام 1961، بدأت طائراته بالقصف في حينه، واستغرق الأمر خمس سنوات لتحدث أول مظاهرة منظمة ضد هذه التدخل.

لكننا نتحدث عن عصر الميديا الجديدة، ووسائل التواصل الحديثة، وتدفق الصور المتاح للجميع.

كان هناك مراسلون وتقارير تصلنا من فيتنام، برأيي لم تكن هذه هي العقبة الأساسية. الأساس أنه لم يكن هناك مزاج شعبي ناضج لهذا الدعم بعد. موضوع الدعم والتضامن الفعّال يتطلب وقتاً وجهداً وتنسيقاً، ربما يكون النقص على هذا الصعيد. انظر إلى فلسطين: لدينا مأساة مستمرة منذ عقود، ولا أعتقد أن حجم التضامن كافٍ. ربما تحسنت الأمور في الآونة الأخيرة وبدأنا نشهد فعالية أكبر في هذا السياق، لكني حتى سنوات خلت كنتُ بحاجة لحماية الشرطة عندما أدعو أو أنظم مبادرة تضامنية مع فلسطين.

مصير بشار الأسد ومستقبل سوريا 

ماهو مصير بشار الأسد برأيك؟

مصيره بأن يسقط بطريقة أو بأخرى. لكن لا أخفيك، فإني أرى أن نتائج الأوضاع الراهنة قد تكون بشعة. قد تتفكك سوريا. الأكراد قد يستقلون في بعض مناطقهم عبر علاقة ما مع كردستان العراق، وبالتنسيق مع تركيا ربما. فيما تنقسم بقية الأراضي السورية إلى قسمين، بحيث يسيطر الأسد على جزء فقط. هذا رهيب ومؤلم للشعب السوري ولسوريا، لكن للأسف هذا ما تتجه إليه الأمور الآن.

ولكن هل تعتقد أن دول الجوار سترضى بمثل هذه الخارطة، إن صح التعبير، مع ما قد ينتج عن ذلك من عدم استقرار على حدودها؟

ربما لن يحبذوا ذلك، لكن هل لديهم خيارات أفضل؟ عليك أن تفاضل بين الخيارات التي تملك، وليس التي تتمنى. هذه هي الحقيقة. الولايات المتحدة قد تقبل بذلك، وإسرائيل ستكون سعيدة بذلك أيضاً، فسوريا ستكون مفككة ومشتتة، كما بقية العالم العربي.

ماذا عن هاجس أمن حدودها الشمالية؟

لا تغييرات كبيرة ستحصل. سيبقى الأسد مسيطراً على هذا الجزء. عموماً لن يكون هناك تهديد جدي لأمن إسرائيل، فهي تمتلك تفوقاً عسكرياً كبير على كل جيرانها، أياً كانت الاحتمالات. وهناك تضخيم أحياناً في أولوية الأمن عند إسرائيل. لقد رفضت إسرائيل عروضاً كثيرة لضمان أمنها في مقابل معاهدات سلام مستندة إلى قرارات الأمم المتحدة، لكنها فضلت دوماً التوسع على الأمن، هذه هي سياستها.

هناك ملاحظة مدهشة متعلقة بالثورة السورية. يناصبها العداء أفراد وتيارات تنتمي لأقصى اليسار في أوروبا والمنطقة العربية والعالم عموماً بوصفها جزءاً من مؤامرة أميركية وإمبريالية، وكذلك تفعل تيارات وأحزاب من أقصى اليمين، ترى فيها تهديداً متطرفاً لوجود الأقليات والمسيحيين بشكل خاص. سمعنا تصريحات من اليمين المتطرف في فرنسا، ونيك غريفين –زعيم الحزب القومي اليمني المتطرف في بريطانيا– زار دمشق وهو يدافع عن بشار الأسد… كيف تقرأ هذه الظاهرة؟

 تجاهلهم، فهم ليسوا مهمين. هم مجموعات لا يمكننا بصراحة الوصول إليها والتواصل معها، ولا يجب القلق كثيراً حول عدم قدرتك على إقناع مجموعات طرفية من الصعب الوصول إليها أصلاً. هناك أولويات للوصول إلى مجموعات أهم وأكثر حضوراً وتأثيراً في صناعة القرارات. 

في الحديث الذي سجلته في الشهور الأولى للثورة، مع الشهيد باسل شحادة، قلتَ في حينها بأنك لا تملك نصائح أو وصفات جاهزة لتقدمها للشعب السوري في مخاضه الصعب، هل تغير الوضع الآن؟

في الحقيقة لم يتغير. السوريون يواجهون ظروفاً صعبة ومعقدة، وبالتأكيد هم يعرفون ما عليهم فعله أكثر مني بكثير. لم أعط نصائح في السابق لمن طلب مني ذلك، لا في فيتنام ولا في نيكاراغوا ولا في أي مكان آخر. لكن ربما أقول أن على السوريين تقييم الخيارات الموجودة بين أيديهم وتقصي النتائج المترتبة عليها. عليهم فعل ذلك عبر قراءة الواقع الموضوعي، وليس البقاء في عالم من صنع مخيلتهم، والقول لا أريد هذا وأرفض ذاك.

جميع الحركات الناجحة التي نشدت التغيير قدمت تنازلات محددة في لحظات محددة، بناء على قراءة الواقع وتقييم ما هي الخيارات الأخرى. حتى الحركة الصهيونية ساومت بقبول تقرير لجنة بيل 37، كأفضل الحلول في حينها. ومن ثم تابعوا من هناك. قبل الفيتناميون مقررات اتفاق جنيف 1954. عملياً قبلوا التقسيم، والبديل كان ربما استخدام السلاح الذري ضدهم أو سحقهم عسكرياً، قبلوا بذلك ليستطيعوا الاستمرار لاحقاً، وبرأيي فقد فعلوا خيراً بقبولهم.

من الصعب التحرك في العالم الحقيقي بدون تقديم تنازلات. لا أملك نصائح، فقط لا تجعلوا أمانيكم تغطي الواقع بالكامل، انتبهوا للحقائق. نعيش في عالم حقيقي بكل بشاعته وعلينا التعامل معه واتخاذ قراراتنا ضمنه.

هل تعتقد أن المساومة قد تصل إلى حد قبول وجود الأسد في سوريا المقبلة، أياً كان الحل؟

الأمل البسيط (وإن كان ضعيفاً) يتمحور في سياق المفاوضات، حيث يقوم داعمو الأسد، روسيا بشكل خاص، بما يقولون أنهم سيفعلونه: أن يدفعوا الأسد للقبول أن يكون جزءاً من حكومة مؤقتة بصلاحيات محدودة، تمهيداً لرحيله. هذا أمل ضعيف ولكنه ليس مستحيلاً. إن سألتني عن احتمالات نجاحه، لا أملك إجابة، لكنه لا يبدو احتمالاً مستحيلاً بالمرة.

[جدلية تعيد نشر المقابلة بالإتفاق مع الكاتب]

***

[*أُجري اللقاء في 16/ 6/2013، في بيروت، لصالح موقع الجمهورية للدراسات، وجريدة لجان التنسيق المحلية «طلعنا على الحرية»، ومؤسسة هاينريش بول. الشكر الجزيل للدكتور فواز طرابلسي على تسهيل هذا اللقاء.]

——————————–

معركة القصير بحمص وحكاية السقوط الكاملة

تمهيد:

شكل سقوط مدينة القصير في محافظة حمص بأيدي قوات نظام الأسد في سورية، وميليشيا حزب الله اللبناني، منعطفاً استراتيجيا في تاريخ الثورة السورية ، التي واجهت أولى إخفاقاتها الفعلية أمام قوات النظام وحلفائه، بعد انتقالها من مرحلة السلمية إلى التسليح.

وتأتي أهمية مدينة القصير بالنسبة للنظام وحلفائه من اعتبارها نقطة ربط بين مركز محافظة حمص ومدن الساحل السوري من جهة، و بين سورية ومناطق حليفه الاستراتيجي ((ميليشيا حزب الله )) في لبنان خصوصا مع بدء خسارة النظام للمنافذ البرية تباعا في الشمال(تركيا)، والجنوب ( الأردن).

وكما كشفت معركة القصير عن بعض  الأخطاء الكبيرة للثوار(العقلية الفصائلية والمناطقية المحدودة ، سوء التنظيم والتخطيط وسهولة الاختراق)، فإنّها أظهرت البعد الطائفي للنظام في سورية، وزيف شعارات المقاومة والممانعة التي رفعها في وجه إسرائيل على مدار أربعين عاماً ،وبدء سيطرة إيران على قرار النظام في سورية .

وفوق كلّ ذلك أزالت الغشاوة عن هشاشة مواقف دول ما اُصطلح تسميتها ( أصدقاء الشعب السوري)، والتي ساندت الثورة السورية منذ انطلاقها ؛ وفي مقدمتها أمريكا وبريطانية وفرنسا ودولا أخرى عربية. 

ـ تاريخ المعركة: 19/ 5 / 2013 واستمرت 18 يوماً

ـ مكان المعركة:مدينة القصير التابعة لمحافظة حمص والمتاخمة للحدود اللبنانية ونقطة وصل بين دمشق والساحل

وصف المعركة : في يوم 19 أيار، وبعد يومين من الهدوء وفي الساعات الأولى  من صباح  هذا اليوم بدأ (جيش النظام في سورية) بقصف القصير بالطائرات والمدفعية وقذائف الهاون مما أسفر عن مقتل 20 شخصا بينهم 11 من الثوار .

وفي وقت لاحق من نفس اليوم بدأ الجيش السوري المدعوم من قبل  مئات العناصر من حزب الله اقتحام المدينة من عدة اتجاهات في حين تم الإبلاغ عن اشتباكات في تسع نقاط في القصير وحولها خلال النهار ، على أن قيادة العمليات وحسب المقاطع السرية لاجقا ً كانت لحزب الله وتقدم حزب الله كان من الجنوب ومن الغرب وجيش النظام من الشمال ومن الشرق.

وقد كانت قيادة العمليات – وحسب المقاطع المسربة لاحقا- لميليشيا حزب الله ، وكان تقدم حزب الله من جنوب وغرب مدينة القصير ، وتقدم جيش النظام من شمال وشرق المدينة.

 وفي نفس اليوم صرح مصدر عسكري في (جيش النظام في سورية)  إنّ القوات السورية دخلت إلى وسط المدينة وتم الاستيلاء على الميدان الرئيسي في المدينة ومبنى بلديتها.

وذكر مصدر ثوري  أن مبنى البلدية قد تم تدميره بالفعل قبل ستة أشهر، وأفاد أيضا أنّ 17 منزلا دمرت خلال القصف في الصباح.

وفي 27  أيار ، قتلت يارا عباس، مراسلة مع الجيش السوري  بنيران الثوار أثناء تغطيتها القتال في مطار الضبعة العسكري، شمال مدينة القصير، واستولت قوات الجيش وميليشيا حزب الله على بلدة الحميدية شمال القصير بعد اشتباكات عنيفة.

وتحول القتال  إلى قرية حارة التركمان حيث كان يحاول جيش النظام السوري وضع القصير تحت “حصار تام، ووفقاً لحكومة النظام فقد قتل من الثوار ( 1257) وأصيب (1192). (1)

في حين قالت مصادر ثورية أنّ ميليشيا حزب الله تكبدت في هذه المعركة (110) قتلى ، في حين لم يعترف الحزب إلا بـ(13) قتيلاً وذلك على لسان أمينه العام حسن نصر الله.

في حين لم ترد معلومات موثقة عن قتلى جيش النظام، وهي قليلة بشكل عام،  وذلك بسبب تركيز مشاركته على  القصف من بعيد عبر سلاحي المدفعية والطيران، وقد تحدثت تقارير عن مقتل نحو عشرين عنصرا فقط من قوات النظام.

و حسب مصادر ثورية محلية أيضاً ، فإنّه نتيجة للقصف الشديد على مدينة القصير من قبل قوات النظام  واستهدافهما للمشفى الميداني الوحيد وللكوادر الطبية العاملة في القصير، إضافة إلى نقص المواد الطبية والغذائية الحاد  نتيجة الحصار البري شبه الكامل للمدينة ، من قبل قوات النظام وميليشيا حزب الله اللبنانية الشيعية فقد اضطر المحاصرون من ثوار وأهالي في المدينة  للخروج منها تحت القصف العنيف ما أدى إلى سقوط الكثير بين قتيل وجريح .(2)

ـ أطراف الصراع في المعركة:

1ـ الجيش السوري النظامي  وميليشيا حزب الله اللبناني من جهة .

2ـ ثوار مدينة القصير وما حولها وخذه أهمها : لواء فجر الإسلام ـ بشائر النصر ـ هيئة حماية المدنيين ـ المغاوير ـ كتائب الفاروق ـ  لواء القصير (أبو عرب) ـ أحرار الشام ـ جبهة النصرة ـ أهل الأثر. (3)

ـ السلاح المستخدم في المعركة :

ـ جيش النظام السوري: استخدم النظام السوري كافة أنواع الأسلحة ضد الثوار في القصير وأهما؛ الطيران الحربي والمروحي ، ويعتبر أقوى سلاح بيد جيش النظام ضد الثوار، وذلك لعدم امتلاك الثوار لمضادات الطيران، المحظورة دوليا على الثوار  بحجة الخوف من أن تقع في الأيد الخطأ.

كما استخدم جيش النظام المدرعات الثقيلى  بمختلف أشكالها مثل  (ت 55 وت 72) وعربات الشيلكا و الـ ( ب م ب)، إضافة للمدافع الثقيلة ومدفع الـ  57 المضاد للطيران ،  وصواريخ أرض أرض و جو أرض وصواريخ محمولة على الكتف  وصواريخ فراغية وحرارية .

وقام أيضاً باستخدام السلاح الكيماوي (الفوسفور) والأسلحة الفردية مثل القواذف  والقناصات والكلاشنكوف، وكل هذا السلاح الذي يملكه النظام هو روسي الصنع .

ـ  ميليشيا حزب الله اللبناني:  يعد حزب الله اللبناني الذي يملك جناحاً عسكرياً من الأحزاب المسلحة تسليحاً عسكرياً قوياً؛ كالسلاح الذي تمتلكه الدول، ولديه أسلحة ثقيلة كالمدرعات والمدافع والعربات المدرعة ، وأنواع عديدة من الصواريخ التي لها أثر فاعل في حسم المعارك.

ومن أنواع الأسلحة التي استخدمها  صواريخ  “كورنيت” روسية الصنع مضادة للدروع من طراز (AT-14)، و كان له أكبر الأثر في حسم معركة القصير والذي حصد أرواح أكثر القادة الميدانيين.

ولم يكن هذا النوع من الصواريخ ( كورنيت ) معروفاً في معارك الثورة السورية التي سبقت معركة القصير ، كما استخدمت ميليشيا حزب الله صاروخاً محلي الصنع (بركان) وأنواعاً مختلفة لمدافع ثقيلة كان يتم إطلاقها من داخل الأراضي اللبنانية، فضلاً عن الأسلحة الفردية مثل القناصات و البندقية الروسية (كلاشنكوف). (4)

ـ سلاح ثوار القصير: لم تكن المعارضة تمتلك السلاح النوعي ولا الكمي القادر على كسب المعركة ،  حيث كان لديها فقط عدد من صواريخ الغراد ، كما امتلك الثوار لبعض مدافع مضادات الدروع التقليدية أيضاً مثل  مدفع الـ (ب10) ومدفع الـ (ب9 ) ومدفع ( 57 )  ومدفع فوزليكا واحد )، إضافة إلى قواذف ( RBG ) و الهاون محلية الصنع ـ ولم يكن هناك كمية كافية، فضلاً عن الأسلحة الفردية الخفيفة  مثل القناصات والبنادق الروسية كلاشنكوف. (معلومات خاصة من أحد المقاتلين)

ـ أسباب تدخل ميليشيا حزب الله اللبناني في سوريا 

1- البعد الطائفي:

قال حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني :” أنتم لا تفهمون هذه المقاومة ثلاثين سنة مضت لم تفهموها ولن تفهموها، والمقدمات الخاطئة تؤدي إلى نتائج خاطئة؛ مرحلة جديدة  بالكامل بدأت الآن”.

ثمّ أضاف” إنّ هذه المرحلة هي  مرحلة  تحصين المقاومة وحماية ظهرها وتحصين لبنان وحماية ظهره وهذه هي مسؤولية الجميع.

وذكر أنّه لا يطالب أحد أن يشاركه المسؤولية، ولكن على الكل أن يتحمل المسؤولية.

وقال أيضاً :” لا نريد أن نتكئ على أحد وهذه المعركة نحن أهلها ونحن صناعها ورجالها  وصناع انتصاراتها وأعدكم بالنصر كما وعدتكم سابقا بالنصر في حرب تموز 2006 (وهي معركة دفاعية مع إسرائيل)، وسنتحمل كل التضحيات والتبعات المتوقفة على هذه المسؤولية”.

وتؤكد صرخات جنود الحزب في أرض المعركة على أهمية هذا البعد الطائفي واستعدادهم لتقديم التضحيات في سبيل انتصار طائفتهم، ومن هذه الصرخات والشعارات:” (مثل لبيك يا زينب، و يا علي، و يا حسين، والله يلعنكن يا بني أمية، ويقصدون بذلك أهل الشام لأنهم أحفاد معاوية الذي حكم الدولة الأموية من دمشق).(5)

2- البعد السياسي:

 يسعى حزب الله من وراء دعمه للأسد إلى تحقيق ثلاثة أهداف كبرى

أولا: الحفاظ على أحد  أطراف المحور الذى تقوده إيران، بحشد القدرات العسكرية لنظام الأسد وذلك عن طريق تقديم التدريب والمساعدة، ومؤخرا عبر التدخل المباشر في المعركة.

 ثانيا: الحفاظ على الممر الاستراتيجي والوحيد لمرور الدعم الإيراني، عبر تأمين مسارات وخطوط اتصالات تصل بين دمشق ولبنان، وتحصينها ضد اختراقات الثوار .

 ثالثا: الحيلولة دون ظهور نظام تهيمن عليه أو تشارك فيه جماعات متطرفة، في سوريا في حال سقوط  الأسد .  (6ـ7)

رابعاً : كثف نظام الأسد في سورية وميليشيا حزب الله اللبنانية جهودهما لكسب المعركة قبيل مفاوضات جنيف2 ، الذي عقد بتاريخ 22/1/2014 ، لاستخدام الانتصار فيها ورقة ضغط في التفاوض.

الأهمية الاستراتيجية  للمعركة :

اعتبرت المعركة في القصير حاسمة من كلا الجانبين في الصراع ، بالنسبة للنظام في سورية ولميليشيا حزب الله فإن السيطرة عليها سيسمح لنظام الأسد إعادة ربط  حمص ودمشق مع بعضهما من جهة ومع الساحل حيث الحاضنة الشعبية من جهة أخرى المنفذ البحري المهم إلى الخارج، خصوصا مع خسارة النظام للمنافذ البرية تباعا خاصة في الشمال (تركيا)، والجنوب (الأردن).

وأما حزب الله فيعتبر مدينة القصير ظهراً له وللبنان، ولابد من السيطرة عليها من أجل حماية مؤيديه في لبنان من هجمات المعارضة ، فضلاً أنّ القصير تعد طريق مهم للإمدادات الرئيسية من لبنان إلى سورية وبالعكس .( 8-1)

فيما ترجع أهمية القصير بالنسبة للثوار إلى أربعة أمور:

1- غالبية الثوار هم من مدينة القصير وفيها بيوتهم وأطفالهم وأراضيهم وممتلكاتهم.

2- كانت القصير منفذاً للثوار وعائلاتهم إلى لبنان للهروب من بطش قوات النظام خاصة في بداية الثورة ، عندما كان العمل سلميا ، وكان النظام يطارد السلميين ويعتقلهم في كل مكان في حمص والقصير وكامل الأرض السورية.

3- تعد القصير منفذا معاكسا لبعض المتعاطفين من أهل لبنان مع الثورة السورية والمجيء من لبنان إلى قتال النظام في سورية.

4- كانت القصير بعد سقوط بابا عمرو وأحياء من حمص موئلا لكل الكتائب التي انسحبت من بابا عمرو وباقي أحياء حمص.

ـ نتائج المعركة :

1 ـ على المستوى العسكري :

أ – كانت بداية للتدخل العسكري الخارجي الواضح في سورية لمصلحة النظام عبر ميليشيا حزب الله الشيعية ، ثمّ تتالت  التدخلات الخارجية في الثورة السورية من قبل الميليشيات الشيعية الطائفية كالحرس الثوري الإيراني ، وأبو الفضل العباس العراقي وغيرهم .

وقد أعلن حزب الله ولأول مرة عن تدخله الصريح  في سوريا لمصلحة النظام السوري بحجة الدفاع عن محور المقاومة والممانعة ، متذرعين بأنّ الثوار خونة وعملاء لإسرائيل .

ب ـ  ظهور حزب الله في لبنان كدولة داخل الدولة ، وذلك بضربه لقرارات الحكومة اللبنانية الداعية إلى عدم التدخل في الشأن السوري من قبل جميع مكونات الشعب اللبناني.

ج ـ  سقوط مدينة القصير بيد ميليشيا حزب الله ، الذي حول المدينة إلى معسكر لتجميع وتدريب عناصره مواصلة لقتاله إلى جانب قوات نظام الأسد ضد مقاتلي الثوار في سورية.

د – جر لبنان إلى مستنقع الصراع في سورية الأمر الذي قد يشعل لاحقاً  فتيل الحرب الأهلية في لبنان من جديد ، خاصة وأنّ الحكومة اللبنانية بقيادة نجيب ميقاتي (السني) قد أعلنت وقتها سياسة النأي بالنفس وعدم التدخل في الشؤون السورية.( 9-10- 5)

2 ـ المستوى السياسي :

أ – شكل سقوط القصير نقطة قوة سياسية كبيرة للنظام وحلفائه في المحافل الدولية ، وخاصة في مؤتمر جنيف 2 الذي عقد بسويسرا في 22 كانون الثاني من عام 2014، حيث جلس النظام على طاولة المفاوضات بصفة المنتصر القادر على فرض شروطه السياسية على الطرف الآخر .

ب –  ظهور الثوار مقسمين وضعفاء بشكل يفيد النظام لتعزيز موقفه السياسي الدولي، بأنّه قادر على  إجهاض الثورة والسيطرة على البلاد من جديد.

ج –  سكوت المجتمع الدولي ممثلاً بمجلس الأمن وغضه النظر عن اختراق حزب الله للقانون الدولي وتدخله المباشر في أراضي دولة عضو في مجلس الأمن وذات سيادة .

د – كشف زيف وادعاء دول ما يسمى بأصدقاء الشعب السوري وعلى رأسهم أمريكا وفرنسا، حيث لم يقدموا أي دعم يذكر للثوار في القصير سواء سياسيا أو عسكريا، في حين قدمت روسيا وإيران كل الدعم المطلوب لحليفها نظام بشار الأسد.(11)

3- على المستوى الإنساني :

أ – خلف سقوط مدينة القصير في محافظة حمص في يد ميليشيا حزب الله كارثة إنسانية كبيرة تمثلت بسقوط  نحو (500) قتيل وألف جريح حسب مصادر الثوار ، وحسب مصادر النظام قتل من المعارضة (1257) وجرح (1192).

 فيما ذكرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أنّ القصف أودى بحياة 273 شخصا ، وأكثر من 2400  جريح ، أكثر من 1800 منهم من المدنيين، بينهم 230 طفلا ، و 170 امرأة منذ انطلاق العمليات وحتى الاقتحام.

ب –  دمار المدينة بشكل شبه كامل ، مع معالمها الأثرية والتاريخية نتيجة القصف المكثف عليها قبل المعركة وأثنائها من قبل قوات النظام وميليشيا حزب الله اللبناني فقدرت بعض الإحصائيات أنّ المدينة كانت تتلقى في ذروة المعركة 60 قذيفة مختلفة في الدقيقة الواحدة .

ج – تهجير جميع سكان القصير تقريبا، الأمر الذي يمكن تسميته تطهيرا طائفيا  قوبل بصمت دولي مطبق ، حيث خرج من المدينة وفق إحصائيات محلية وأطراف محايدة نحو /25/ ألف مواطن ومواطنة سورية (12) ، ولم يسمح لهم بالعودة بعد انتهاء المعارك و تم إدارة المدينة من قبل حزب الله وميليشيات الدفاع الوطني التابعة له .

– الموقف الدولي من معركة القصير وسقوطها

اكتفت معظم دول ما سمي (أصدقاء الشعب السوري) وعلى رأسهم أمريكا وفرنسا بإدانة النظام وتدخل ميليشيا حزب الله ودعته للانسحاب ، دونما أي إجراء فعلي على الأرض.

وعبر المتحدث باسم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية  لؤي صافي عن استيائه بشكل عام من موقف دول أصدقاء الشعب السوري وخاصة الموقف الأميركي، وقال للجزيرة نت:” الموقف الأميركي “ضعيف جدا” في مواجهة الموقف الروسي، وتساءل عن أسباب هذا “اللين الأميركي بمواجهة التصلب الروسي؟”.

وأوضح أن هناك تسويفاً ووعوداً “واهية” في الموقف الأميركي الذي يُخيم عليه أمن إسرائيل، لا مصلحة الشعب السوري، وقال :”نحن تحركنا على أكثر من صعيد لوضع العالم أمام مسؤولياته والضغط في اتجاه تسليح الشعب السوري”..(13)

كما اكتفت  الجامعة العربية بالإدانة على لسان نائب أمينها العام أحمد بن حلي وقال:” إنّ الجامعة العربية تدين بشدة الأحداث الدامية في مدينة القصير السورية القريبة من الحدود مع لبنان”، داعيا إلى وقف العنف فوراً. (14)

فيما أبدى عموم مجلس التعاون الخليجي ، وفي مقدمتهم البحرين والسعودية والكويت تخوفهم من سقوط القصير بيد ميليشيا حزب الله ، لدرجة أن وزير الخارجية البحريني الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة وصف قائد ميليشيا حزب الله حسن نصر الله على موقعه الشخصي في التويتر “بالإرهابي” الذي يعلن الحرب على أمته ، وطالب بإيقافه وإنقاذ لبنان من براثنه، معتبراً ذلك واجباً قوميا ودينياً.(15)

ومن جهة ثانية لم تصدر تصريحات من دول داعمة للنظام وميليشيا حزب الله (روسيا – إيران)، لكن هذه الدول قدمت أفعالاً على الأرض من سلاح (روسيا) وخبراء( إيران)..

أسباب سقوط القصير                                                       

وتقسم الأسباب إلى خارجية وداخلية :

– الأسباب الخارجية

1- إحكام الحصار على المدينة من جهتي سورية ولبنان، وذلك عبر مشاركة ميليشيا حزب الله بكامل قوتها في المعركة إلى جانب قوات جيش النظام السوري، وقدرتها بالتالي كميليشيا على استخدام إسلوب العصابات في المعركة الذي كان يتبعه الثوار في مواجهة جيش الأسد .

2- عدم مساندة ثوار القصير بالشكل الكافي من قبل فصائل ثورية أخرى في سورية ، إما لعدم القدرة على ذلك بسبب قطع الطرقات، وإما بسبب ضعف الحال في باقي مناطق الثورة.

3- استخدام قوات (النظام وميليشيا حزب الله) سياسة الأرض المحروقة في المعركة واستخدام مختلف أنواع الأسلحة المتطورة، بما فيها السلاح الكيماوي المحرم دولياً ، ممثلاً بالفوسفور.

4- عدم تسليح الثوار من قبل ما يسمى دول أصدقاء سورية( أمريكا ، فرنسا ؛ بريطانية ..الخ)  بالسلاح الكافي والموازي لسلاح النظام وحزب الله اللبناني في المعركة.(16 17)

– الأسباب الداخلية

1- طبيعة تضاريس منطقة القصير السهلية الخالية من الجبال والأودية ، الأمر الذي ساعد قوات جيش النظام السوري وميليشيا حزب الله ، على كشف نقاط تمركز الثوار ومن ثم استهدافهم بكافة أنواع الأسلحة.

2- ـ انعدام الثقة بين المقاتلين وقادتهم في أخر أيام المعركة وعدم نضوج عقيدة قتالية صلبة لدى الثوار – الذين خاضوا سلمية الثورة، ولم يحسبوا حسابا لعسكرتها .

3- لعب الإعلام الثوري دورا محبطا في المعركة لجهة إظهار ضخامة قوة (نظام الأسد وميليشيا الحزب اللبناني) بشكل تجاوز الحد، الأمر الذي أثر سلبا على معنويات أهل القصير من جهة ، وكذلك باقي الثوار في المناطق السورية الأخرى، لجهة إظهار عدم الجدوى من مساندة القصير. (18 17)

على هامش معركة القصير

قال العقيد المنشق عن صفوف قوات النظام والملتحق بالثورة عبد الجبار العقيدي قائد المجلس العسكري للجيش السوري الحر في مدينة حلب:” عندما وصلت مع عبد القادر الصالح( قائد لواء التوحيد )، من أجل فك الحصار عن  القصير إلى القلمون ، لم نجد هناك ثوار ولكن مهربين وحاولوا منعنا من الدخول”.

وأضاف العقيدي:” وعندما أصرينا على الدخول أرسلوا معنا أدلاء أضعناهم في الطريق وانفجرت  فينا ثلاث سيارات بألغام أرضية، قتلت منا 13 مقاتل ، وقد كان القادة قبل وصولنا قد قرروا الانسحاب من القصير ، لكن وصولنا إليهم أجبرهم على البقاء، ولكن بعد عدة أيام انهارت معنوياتهم وبدؤوا بالانسحاب  وبدون سلاح، مما كاد يعرضنا لمجزرة كبرى.

وتابع : “لم يكن من الممكن الصمود في معركة القصير، في ظل انعدام الثقة شبه الكاملة بين المقاتلين والقادة والانفصال التام بينهم فلم يكن القادة يتابعون المقاتلين على الجبهات وقاموا أيضاً بتهميش بعض الضباط المنشقين عن النظام”

وذكر العقيدي أيضاً : أن القادة كانوا معذورين بقرار الانسحاب لكثرة الجرحى وعدم وجود المواد الطبية لعلاجهم، وسياسة الأرض المحروقة التي اتبعها النظام وميليشيا حزب الله، ونوع السلاح الذي كان يهدم تحصينات الثوار، حيث كانوا يتحصنون في الأبنية التي كان النظام يدكها عن بكرة أبيها .(4 فيديو)

 أفشل الثوار محاولة لحزب الله لاقتحام المدينة، وقتل 45 عنصراً منهم وجرح أخرين، وارتكب حزب الله مجزرة راح ضحيتها 31 شهيداً  بينهم نساء وأطفال جراء القصف الهستيري على المدينة، وقد حاولوا  اقتحام المدينة من جهة المربع الأمني ومن جهة الشمال والشرق ومن جهة قرية الحميدية والضبعة .

تسلم حزب الله  معركة القصير بشكل كامل، وتجاوز القصف 60 قذيفة في الدقيقة حيث دمرت أحياء  بالكامل، وأصبحت أغلب المنازل غير قابلة للسكن، حيث تم صنع ملاجئ بسيطة ولكنها لا توفر الحماية للمدنيين، فقد استخدم الحزب سياسة الأرض المحروقة .(19)

نفذ الطيران الحربي غارات على القصير وريفها،  ولا زالت المعارك مستمرة منذ سبعة أيام، ولم تهدأ، ولكن ما يميز هذا اليوم شدة المعارك، واشتباكات على تسع جبهات، وست غارات على القصير ومطار الضبعة المحرر.

 وتابع : استهداف قرية الحميدية أدى إلى سقوط قتلى وجرحى ، وكثرة الجرحى ينبئ بكارثة إنسانية بسبب قطع قوات النظام كل الطرق المؤدية إلى القصير ومنع دخول أي شيء إليها سواء منظمات حقوقية إنسانية أو حكومية .

وأضاف: هناك 700 جريح لا يمكن إخراجهم، وهنا أشخاص بحاجة إلى عمليات جراحية عاجلة، وتدمير المشفى الميداني من قبل قوات النظام والكادر الطبي الموجود في القصير لا يستطيع تحمل الأعداد الكبيرة من الجرحى  ونقص المواد الطبية الحاد .(20)

______________________________________________

مراجع البحث المعتمدة:

1-  وصف عام لمعركة القصير

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%83%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%B1_2013

2- السيطرة على مدينة القصر تغير ديناميات النزاع في سورية (بي بي سي العربية)

http://www.bbc.com/arabic/worldnews/2013/06/130606_syria_qusair_marcus

نهاية غير متوقعة لمعركة القصير (ايلاف)

http://elaph.com/Web/news/2013/6/816728.html

3- وقائع معركة القصر في سورية ( موقع البوابة الإخباري)

http://www.albawaba.com/ar/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/%D9%88%D9%82%D8%A7%D8%A6%D8%B9-%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-497326

4 حزب الله استعمل صواريخ روسية ساعدته على حسم المعركة(( تويت بوك))

http://www.twitt-book.com/%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B9%D9%85%D9%84-%D8%B5%D9%88%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%B3%D8%A7%D8%B9%D8%AF%D8%AA%D9%87-%D8%B9%D9%84/

5 رجال الله حزب الله يحررون القصير ((فيديو))           https://www.youtube.com/watch?v=-QkEvgRVOxk

6 حزب الله من دعم الأسد إلى قيادة معركة بقائه 

http://araa.sa/index.php?view=article&id=3443:2015-08-03-12-25-37&Itemid=172&option=com_content

7 – المستقبل اللبناني بعد تورط حزب الله في سورية ( الإسلام اليوم) http://www.islamtoday.net/bohooth/services/saveart-13-189125.htm

8- التداعيات السياسية لنتائج معركة القصير( الجزيرة نت)http://www.aljazeera.net/programs/behindthenews/2013/6/8/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%A6%D8%AC-%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%B1 

9- الجيش الحر ايرانيون الى جانب حزب الله في القصير http://www.aljazeera.net/programs/behindthenews/2013/6/8/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%A6%D8%AC-%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%B1

10 – حكومة النأي بالنفس في لبنان

https://www.facebook.com/DrasatAlthwrtAlswryt/posts/485442774861681:0

 ______________________________________________

11- تأثير سقوط القصير على الأحداث

http://www.rcinet.ca/ar/2013/06/06/5674/

______________________________________________

12- الوضع الانساني في القصير يزداد سوءا مع استمرار المعارك

http://www.alarabiya.net/ar/arab-and-world/syria/2013/06/03/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B6%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%B1-%D9%8A%D8%B2%D8%AF%D8%A7%D8%AF-%D8%B3%D9%88%D8%A1%D8%A7%D9%8B-%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D9%83.html

تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان حول ضحايا القصير

http://sn4hr.org/arabic/2013/07/04/%D8%B3%D9%82%D9%88%D8%B7-273-%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B7%D9%86%D8%A7%D9%8B-%D9%85%D9%86- %D8%A3%D9%87%D8%A7%D9%84%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%B1-%D9%88%D8%A3%D9%83%D8%AB%D8%B1-%D9%85%D9%86-240/

____________________________________________

13-  لماذا سمح الغرب بسقوط القصير

http://www.aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2013/6/6/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%B3%D9%85%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D8%A8%D8%B3%D9%82%D9%88%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%B1

______________________________________________

14-بن حلي جامعة الدول العربية تدين بشدة أحداث القصير

http://arabic.rt.com/news/616120-%D8%A8%D9%86_%D8%AD%D9%84%D9%89_%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9_%D8%AA%D8%AF%D9%8A%D9%86_%D8%A8%D8%B4%D8%AF%D8%A9_%D8%A3%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AB_%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%B1_%D9%88%D8%AA%D8%AF%D8%B9%D9%88_%D8%AF%D9%85%D8%B4%D9%82_%D8%A7%D9%84%D9%89_%D9%88%D9%82%D9%81_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D9%81/

______________________________________________

15 – حرب القصير تضع حزب الله في مرمى نيران دول الخليج (العرب)

http://www.alarab.co.uk/?p=41030

______________________________________________

16-  قائد في الجيش الحر يكشف أسباب سقوط القصير http://www.almadenahnews.com/article/228243-%D9%82%D8%A7%D8%A6%D8%AF-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1-%D9%8A%D8%B4%D8%B1%D8%AD-%D8%A3%D8%B3%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D8%B3%D9%82%D9%88%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%B1

18- تفاصيل هامة وأسرار يكشفه العقيد عبد الجبار العقيدي

https://www.youtube.com/watch?v=j5o7dT5ByGk

17 –  صفوت الزيات :أسباب سقوط القصير (فيديو الجزيرة)

https://www.youtube.com/watch?v=w2f90PGLd74

____________________________________________

19- أحمد القصير الناطق الإعلامي من داخل القصير 3 6  2013

https://www.youtube.com/watch?v=1cxmmVqrViM

____________________________________________

20 جلال أبو سلمان الناطق باسم شبكة سورية مباشر

http://asharqalarabi.org.uk/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B7%D9%88%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-8-6-2013_ad-id!2369.ks#.VfrsVt-qqkp

_____________________________________________________

مراجع الفيديو الخاصة بمعركة القصير                           

1- رسالة عبد الجبار العقيدي من قلب القصير 2 6 2013

https://www.youtube.com/watch?v=d8QDEf7r34Q

______________________________________________

2-  مقاتل من حزب الله يروي مايحصل في القصير

https://www.youtube.com/watch?v=BjVB2GZGDf8

______________________________________________

3- القصير القصف الأشرس على المدينة من كافة المحاور 3 6 2013

https://www.youtube.com/watch?v=xXSCzWKLGfo

______________________________________________

4- تفاصيل هامة وأسرار يكشفه العقيد عبد الجبار العقيدي

https://www.youtube.com/watch?v=j5o7dT5ByGk

______________________________________________

5- العقيد عبد الحميد زكريا وتفاصيل هامة عن القصير

_____________________________________________

6- لقاء مع العقيد عبد الجبار العقيدي والقادة الميدانيين في القصير

https://www.youtube.com/watch?v=Y99GIOrwURA

______________________________________________

7- الدكتور قاسم الزين يشرح الوضع الانساني في القصير

https://www.youtube.com/watch?v=n7cAwksgFmA

8- فيديو عن قتلى حزب الله في القصير (العربية)

https://www.youtube.com/watch?v=Fqyn5kwk7BM

—————————————————————————————

الحقوق الفكرية محفوظة لصالح المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام @ 2015

———————————-

معركة القصير وأخواتها: خوض المعركة الثورية بالأدوات الأيديولوجية للثورة المضادة وتحالفاتها

ندوة اجريت بتارخ   29 / 6 / 2013

عزيز تبسي

مدخل

جرى من زمن، إختزال الإنتفاضة الشعبية الثورية في مرحلتيها المتعاقبتين: السلمية/العسكرية، وأسبابها العميقة(الإقتصادية- الإجتماعية –السياسية…)إلى صراع أدواتهاالتنظيمية،وخطابها الأيديولوجي.وسعت كذلك من الأيام الأولى للإحتجاجات العديد من الجماعات السياسية الرجعية( الطغمة العسكرية ومعارضوها من الإسلاميين وبقايا إعلان دمشق) بمنهجية صارمة، على وسمها بالطائفية العميقة، ولكل من مواقعه وأسبابه ووظائف خطابه الأيديولوجي، وبرز منهم من الطرف الفاشي قطعان المندسين في التظاهرات الذين سوقوا شعار “العلوي في التابوت والمسيحي على بيروت” وتبني الدعوات إلى الجهاد……ومن الطرف الاخر الناطق بإسم إعلان دمشق-قسم الخارج والشيخ عدنان عرعور وعلي البيانوني وبسام جعارة وسواهم، في متتالية من تصريحاتهم على تأكيد وجود قوات لحزب الله والحرس الثوري تقود أو تشارك تجريدات القمع في محافظة درعا، والجامع العمري.وساندت هذه التصريحات، حزمة واسعة من القنوات الفضائية والمواقع الإعلامية التي تسيطر عليها جماعات الإسلام السياسي في تنويعاته الدعاوية والتبشيرية والتكفيرية، وكان هذا هو الحقل التي تسعى وتخطط له الطغمة العسكرية من الأيام الأولى للإحتجاجات بدفعها المنهجي نحو خشبة المسرح الذي تتقن العمل عليه بحرفية عميقة: الطائفية والعسكرة…..مع الأخذ بالإعتبار الحدود التعبوية والتنظيمية والوظيفية بين هذين المشروعين الطائفيين، لكنهما عملا على سحق القيم التي تحركت عليها الإنتفاضة الشعبية الثورية.. ودفعها عنوة نحو الخيارات الطائفية-الفاشية،أي الخيارات التي تدفع الإنتفاضة الشعبية الثورية إلى حتفها.وبخيار تاريخي عميق ووحيد للطغمة العسكرية، وهي التعبير السياسي-الحربي عن الإحتكارية الرأسمالية الطفيلية التبعية، تفعّل و تعمّق في سيرورة حتمية سياسية-عسكرية، مرسخاً عجزها عن إجتراح أي مشروع إصلاحي يلاقي الشعب المنتفض في أي مرحلة من الطريق الثوري ، وزاد تعقيد لوحة الإصطفافات السياسية-الطبقية، توضعها على جغرافيا تحمل السمات العميقة للمصالح الإمبريالية: منابع البترول وإحتياطاته/الكيان الصهيوني/الأنظمة العربية التبعية، ومعارضة سياسية لها من المشتركات مع الطغمة العسكرية أكثر بكثير مما يجمعها مع الكتلة الشعبية المنتفضة/والدور الرجعي لجماعات الإسلام السياسي التي تمكنت من تصدر المواقع البيروقراطية الإنتهازية لتمثيل الحركة الشعبية….-1-تقع بلدة القصير في الريف الجنوبي الغربي التابع لمحافظة حمص، يبلغ عدد سكانها 42ألف نسمة ويتبعها إدارياً، اكثر من أربعين قرية، وتعد المنطقة مختلطة دينياً وطائفياً. يتركز المسلمون/السنة والمسيحيون في المدينة ومحيطها القريب، وتحيط بهما مجموعة قرى شيعية(البرهانية-العقربية-النزارية….الخ)ومجموعة قرى علوية(الحيدرية-العبودية….الخ)وتعتبر من أوائل البلدات التي إلتحقت بالإحتجاجات، حيث شارك أهلها بعد أقل من شهر في جمعة الشهداء نيسان 2011،وعملت المجموعات الثورية على إستمرار هذه المشاركة وإستكمال تعميقها وتأطيرها..في هذا الشرط الإجتماعي المعقد دينياً وطائفياً ومذهبياً، لا يمكن التعويل إلا على خطاب موحّد للإنتفاضة الشعبية الثورية يظهر قيمها الوطنية في الحرية والعدالة والمساواة ويؤكد على جوهر خطابها الأخلاقي في رفع المظالم والتهميش ورد الحقوق، لكنه أظهر من البداية قلة وعيه وإنعدام صبره ، وفرض نفسه كبديل عنه، أو إستعيض عنه بخطاب إسلامي-سني، ذا منحى تكفيري، ساهم في صنعه التواصل بين المجموعات المتضامنة في طرفي الحدود بين طرابلس والقصير ،وإمدادات الإسلام السياسي اللبناني وتحالف 14آذار. أشغل هذا الخطاب نفسه وكما هو منهجه التاريخي وسيرورته الأيديولوجية الرجعية، على إظهار الإختلافات وتثبيتها وتعميقها، لا على التعالي عليها ومحاولة ردمها وتجاوزها بفعل ثوري نحو المشتركات الشعبية، التي توفرت لها ممكنات الشروط الموضوعية والتاريخية المناسبة.وهذا ما فسر الهجرات الكبيرة التي خرجت من مسحيي البلدة وقراها منذ أكثر من عام، والحصارات المستمرة للقرى العلوية والشيعية، وقصف قرى شيعية في سهل البقاع، وإستقدام رجلات دين سنة إلى البلدة وقراها(أحمد الأسير)لتعميق صبغ الصراع والمعركة بالصبغة الأيديولوجية-الطائفية وتسويده على ماسواه، مما أرسى الممكنات الوجودية لصعود خطاب تكفيري-إقصائي، وعمقه إستغلال قوى طائفية-رجعية للإنتفاضة ولأوضاعها الصعبة في عمليتي التمويل والتسليح المشروطين بتبني هذا الخطاب وتسويده على ماعداه. وهذا ما يؤكد مرة تلو الأخرى، وبشكل حاسم عجز الإسلام السياسي عن قيادة إنتفاضة شعبية ثورية.-2-بعد الإنتقال في مسارات الإنتفاضة الشعبية نحو المقاومة العسكرية، وتوضعها في احياء حمص القديمة(الخالدية-البياضة-…) ووصولها التدريجي إلى حي باب عمرو، الذي شهد عملية حربية فاشية في شباط 2012،إنتهت بتدميره وإرتكاب مجازر وحشية على أطرافه (كرم الزيتون..)إنتقل معظم المقاتلين والضباط المنشقين منه إلى مدينة القصير، ليساهموا بعدها في إخراجها التام عن سيطرة الطغمة العسكرية. وأظهرت الوقائع أنهم يملكون أسلحة ثقيلة ومتوسطة قادرة على موازاة قوات الطغمة وردعها….مما شكل المقدمة العسكرية للإستعانة بقوات النخبة 1200 مقاتل، من حزب الله في القتال إلى جانبها. بإعتراف الأمين العام للحزب في خطاب الأول من أيار 2013 بمشاركة مقاتلي الحزب في القتال: “أصدقاء سورية لن يسمحوا بسقوطها في أيدي أمريكا وإسرائيل والتكفيريين”…لتسارع بعدها قمة لافروف-كيري6أيار 2013 في تعزيز الخيار الفاشي نحو الحسم العسكري بأي ثمن، في سعي للطغمة العسكرية لتحقيق مكاسب عسكرية على الأرض، قبل أي مفاوضات يمكن فرضها عليها، أو إحراجها بها. لتبقى في النهاية معركة القصير هي عينها معركة حمص، هدفها عزل جغرافيا الثورة عن بعضها، وتوفير طرق إمداد آمنة بين دمشق-حمص-حماة-.-3-وتتكرر الواقعة، في بلدتي الزهراء ونبل الشيعيتين في ريف حلب الشمالي، اللذين جرى حصارهما من الكتائب المقاتلة، منذ ستة اشهر لموقفهما الموالي للسلطة ولإستقبالهما العديد من شبيحة القرى المجاورة وعائلاتهم، وتجري على طرفي الخندقين تعبئة طائفية متبادلة، ويدخل على الخط ذاته المليشيات الكردية، الإتحاد الديموقراطي الكردستاني-صالح مسلم- في منطقة عفرين، بعد دخول الكتائب المقاتلة إلى حيي “الشيخ مقصود” و “الأشرفية” وتسببهما في هجرة سكانهما وقسم كبير منهما من الفئات الشعبية الكردية. ويتزامن معهما حصار الكتائب المقاتلة لمخيم النيرب أكبر مخيم للشعب الفلسطيني شمال سورية وإفراغ مخيم حندرات من سكانه وهم من الفلسطينيين والنازحين للعمل في المدينة من الأرياف المجاورة، بالذريعة عينها “وجود شبيحة، والطلب من الأهالي العزل تسليمهم ثمن لفك الحصار”……تطرح هذه المسائل التي باتت تستنزف الإنتفاضة وتخرجها تدريجياً من سياقها الثوري، لتضعها في نسق صراع أهلي أعمى، تكون قيم الإنتفاضة الشعبية الثورية وصيغها الأخلاقية أول ذبائحها، حزمة من النقاط، التي بغير تدراكها الثوري الحاسم والعاجل لن تقوى على الإستمرار يوماً واحداً تحت الهدف الثوري الذي إنطلق في فجر 18 آذار2011: وحدة الأداة والخطة العسكرية الثورية/ وحدة خطابها الوطني الثوري/وحدة ووضوح أهدافها.

 منير شحود: توصيف موضوعي. يعبِّر العنوان بطريقة رائعة عن الموضوع ..

أماثل ياغي: أتفق مع الدكتور منير أن العنوان يعبر بطريقة رائعة عن جوهر المسألة. منذ أن سلكت الثورة المسار العسكري، كان أمامها تحد كبير وهو عملية خلق قيادة عسكرية لها تخضع لقرار قيادة سياسية تكون أمينة على أهداف الثورة.. ليس فقط لم تتشكل الأولى، وبقي الجسد العسكري غير موحد، وغير منسجم، بل مبعثر ويتشكل من كتائب مقاتلة تتصارع حتى بين بعضها البعض، ولا تخضع لأي قرار سياسي، بل أن معظمها كان خاضعا لأجندات خارجية وتمويل قوي، وفي المناطق التي كانت تحقق انتصارات وسيطرة، تخسر جماهير الثورة المؤمنة بأهدافها ، وأيضا تخسر العامة الذين لاناقة لهم ولا جمل، وبالتالي خسرت السند الشعبي، بطريقة حكمها وأدائها والهيئات الشرعية مثالا، فرضت على الناس موقفا سلبيا ان لم يكن معاديا لها.. السؤال يطرح نفسه مجددا وبحزم كبير وعليه ربما يتوقف مصير الثورة، هل يمكن توحيد قيادة الجيش الحر والمقاتلين المنضويين تحت لوائه، وطرد كافة الجهاديين السلفيين الذي ارسلتهم بعض الدول لتنظف بلدانها منهم أولا ولتضرب روح الثورة ثانيا.. ومن نافل القول أن النظام بكل جبروته وقوتهه واجرامه والدعم الذي تلقاه من الدول الصديقة له، لم يكن ليقدر على جني هذه النتيجة لولا استيعاب وتقبل المكون العسكري لكتائب جهادية سوداء كالنصرة وغيرها، والاعتراف بأنها جزء من الثورة

عزيز تبسي:

عن إمكانية توحيد الكتائب المقاتلة:بداية هذا شرط لابد منه لتحقيق أي تقدم في المسار العسكري،ولكن لتوحيد الكتائب المقاتلة حزمة من الشروط اولها وحدة الهدف الثوري وثانيها وحدة جهة التمويل…وحتى لانقع في الرومانسية الثورية هذان الشرطان غير متوفران..بالمناسبة لاأميل إلى إطلاق التسمية الإفتراضية:الجيش الحر…التي لاأراها تعبر عن حالة ملموسة،تعبير الكتائب المقاتلة اكثر دقة.

 الفرس يقضمون حمص ليفاوضوا على دمشق: .Ismail Waw..

يمكن الدخول في التفاصيل بعد وضع استراتيجية عسكرية واضحة للثورة… النظام يعمل وفق استراتيجية واضحة، يريد اخراج حمص عن طاولة المفاوضات.

عزيز تبسي:

لاأعتقد ان النظام يريد إخراج حمص عن طاولة المفاوضات فحسب،النظام يريد إخراج الإنتفاضة برمتها عن أي إحتمالية للمفاوضا ت وهذا مستحيل،لكن يضيق يعمل بدأب على حصار الإنتفاضة والتضييق على شروطها ونزع إنتصارها كلها أو بعضها…

ابو علي صالح:  حزمة من الامور يجب تداركها قبل ان تكون اخلاق الثورة اول ذبائحها ماهي هذه الامور هذا اولا وهل يمكن تداركها ثانيا.

عزيز تبسي:

 عن الأمور الواجب تداركها والتي قد تكون اخلاق الثورة اول ذبائحها:لنتذكر أن الإنتفاضة الشعبية الثورية حملت حزمة من الأهداف اولها الحرية وثانيها الكرامة وتوسعت الأهداف في السياق الثوري لتشمل العدالة…والمواطنة المتساوية..وحين نتابع عن قرب مايحصل في الجغرافيا المحررة،نجد وبوضوح قوى فاعلة ووازنة عسكرياً وإعلامياً تعمل بدأب على الإطاحة بهذه المبادئ التي تشكل بعمومها الراية الكفاحية للإنتفاضة…ثانياً لاثورة دون اخلاق ثورية وحين بدأت تسود في تلك المناطق السرقات للأملاك العامة والخاصة والسجون ومهرجانات القتل وفق الشريعة الطالبانية…وكأن الثورة تنحرف عن مسارها ولابد من تصويب هذا بأسرع وقت وبوضوح في الرؤية ودون مجاملة لأي قوة.

 أماثل ياغي:

الصديق عزيز، تقول: وكأن الثورة تنحرف عن مسارها ولا بد من تصويب هذا بأسرع وقت! لكن كيف؟ أنا سؤالي الجوهري حول امكانية فرز الكتائب، وتطهيرها من أولئك الذين اغتالوا روح الثورة، هل هذا ممكن أم أن الأوان فات ؟

عزيز تبسي:

حتى يتحول فرز الكتائب، بين التي تعبر عن الثورة وسواها من التي تعبر عن الثورة المضادة او عن لصوص ومرتزقة من أمراء الحروب،من شعار إلى واقع ملموس يتطلب مواجهة عسكرية حاسمة معها اولاً ويتطلب إستراتيجية إعلامية ثورية ملازمة لذلك تكشف زيف إدعاءاتها وخيانتها،نحن بالطبع نتحدث عن كتائب مقاتلة مسلحة،وقع مثل هذا الصدام بشكل محدود،للغاية التي أشرت إليها وتبين عجز الكتائب الملتزمة في الخد الثوري العام على الحسم…

الإستراتيجية الواضحة للثورة لاتعني سوى إلتزام الكتائب المقاتلة بأهداف الثورة وإجتراح الخطط العملية العقلانية ،والأقل مجازفة لتحقيقها،أي جعلها واقعاً ملموساً

كاظم الزهوري:

يبدو لي ان هزيمة كتائب الجيش الحر في معركة القصير ثم طريقة الانسحاب منها شكلت صدمة كبيرة لمقاتليها واظهرت مشاكل بنيوية في تشكيلاتها و طرق عملها و بالتأكيد في الخطاب الايديولوجي ا الذي تبناه بعض قادتها بهدف جر اموال المساعدات الخارجية.

إذا وضعنا جانبا الجانب العسكري لهذه المعركة و التي كانت محسومة قبل بدئها تبدو هذه الهزيمة فرصة لإعادة التفكير في تجربة الثورة في هذه البلدة {اشعل الثورة فيها ثلة من شبابها و شيبها منذ يوم الجمعة 25 اذار 2011 } و التي كان يقوم جزء مهم من اقتصادها و حركة راس المال فيها على علاقاتها مع البلدات و القرى التي تحيط بها وخاصة في الجانب اللبناني من الحدود.

 نقولا الزهر:

أهم نقطة ضعف في الثورة أنها لم تستطع تكوين قيادة سياسية لها في الداخل يتبع لها في الخارج بعض الممثلين للقيام بالسياسة الخارجية مع الدول والقيادة السياسية مهمتها توحيد الفصائل المقاتلة.قيادة الثورة سياسياً من الخارج مهمة شبه مستحيلة إن لم نقل مستحيلة.

بسام شاغوري:

 كلما حاولنا رسم تصور عن الوضع في المناطق المتمردة، تجابهنا مشكلة المعرفة الموضوعية لما يجري فيها. وكشخص بعيد عن الأرض، أشعر بتناقض غريب : بقدر ما أملك من المعارف عن مناطق النظام، بقدر ما تنقصني هذه المعارف في المناطق الخارجة عن سيطرته. أولى الأسباب لهذا الوضع، هو غياب الاعلام المحايد في هذه المناطق، وبنفس الوقت تنوع الأوضاع فيها، والسبب الثاني هو احتدام الصراع العسكري الذي له أولوياته بما فيها الاعلامية، وأخيرا العامل النفسي الذي يدفع بالمعارض إلى التخفيف من السلبيات في الثورة ، مثلما يفعل الموالين تجاه أفعال النظام. في هذا النص الذي أشكر السيد عزيز عليه، قرأت لاول مرة بدون مواربة ومن طرف معارض، تصورات كنت أخشي وجودها في الثورة، لكن دون أن أملك المعارف الموضوعية الكافية للتأكد منها ومعرفة مدى عمق انتشارها وتجذرها.وارجو أن يكون الكاتب متأكد منها.

وهذا يجرنا إلى ضرورة إعادة الاعتبار إلى المعارف الموضوعية قبل أي تحليل أو موقف. وقد يكون مفيدا في هذا الأطار أن يكرس محرري أغورا يوما في كل أسبوع، للمعلومات والوثائق والدراسات حول الواقع الموضوعي في سوريا وخاصة في المناطق المتمردة، والنقاش عليها، وذلك لتخفيف من ألرغبوية و من التصورات النفسية أو الأيديولوجية بهذا الاتجاه أو ذاك

عزيز تبسي:

الأصدقاء الأعزاء ،ربما لاتعلمون حجم المعاناة السياسية والأخلاقية،حين نقدم على معاينة الإنتفاضة الشعبية الثورية ونقد أخطائها وإختناقاتها التي يمكن أن تجهز عليها،والتاريخ ممتلئ بمقابر الثورات الفاشلة.الشعب وضع كل ثقله الأخلاقي والسياسي وحتى النفسي خلف هذاالفعل الثوري،وقدم تضحيات في زمن قصير تعجز عنها امم كبيرة.لكن في النهاية ليس حجم التضحيات والبطولات على اهميتهماودورهما من يدفع الثورة لتحقيق أهدافها،عوامل متعددة ومتشابكة ،تتداخل كجديلة في حسم النتيجة الثورية،يتجاهل الكثيرون والكثيرات العامل الجنائي الذي لعبت به الطغمة العسكرية بحذاقة تامة،وتأسس على سلسلة معلنة من مراسيم العفو عن المجرمين وسلسلة أخرى منها غير معلنة،إضافة إلى كف البحث عن المطلوبين بجرائم وجنايات….يضاف إلى ذلك مسألة تمويل العمل العسكري بعد أن صار الأداة الكفاحية الوحيدة لتحقيق الأهداف الثورية،القوى التي تمول أو التي تعد بالتمويل تضع شروطاً منها يعلن على وسائل الإعلام ومنها لا يعلن..وهي بعمومها شروط تأخذ الفعل الثوري إلى مقبرته….وهناك عامل آخر يتأسس على الإنفصال بين بيروقراطية-إمتيازية توضعت نشاطاتهاخارج البلاد،وبين الكتلة الشعبية المنتفضة التي لاتجد من يقف معها إعلامياً وسياسياً ومالياًوطبياً…وإغاثياً…فضلاً عن الجماعات التكفيرية التي باتت لها كلمة عليا في الكتائب المقاتلة،وهي لاتشكو مما تشكو منه الكتائب الأخرى عنيت:التمويل والتسليح….الخ.

 منير شحود:

شكرا أخ عزيز.. وكما قال صديقنا بسام لا يمكن البناء إلا على معطيات موضوعية.

ابو علي صالح:  الصديق عزيز قلت مايجب تداركه ولكن كيف وهل من الممكن ذلك فعلا؟

 عزيز تبسي:

عندما أكتب في نقد الثورة،أرتبك وكأني أكتب عن أسرار عائلتي وإخوتي وأمي لكن في النهاية يجب أن نكتب لأننا نريد للإنتفاضة أن تبصر يقينها وتقبض على مصيرها.

 الحقيقة ياأبوعلي ،هناك شعور بالإحباط ،نحاول أن نتداركه،بمصول التفاؤل التاريخي،المشكلة أننا لم نقف على المأزق من بدايته،وأعاق الكثيرون هذه التصويبات الضرورية،وتستر الكثيرون على أخطاء واضحة لالبس فيها،هناك من عمل ليل نها على تسمية جمعة لدعم جبهة النصرة،وهي تشكيل عسكري له شبهات أمنية وبرامج على النقيض من أهداف الإنتفاضة….الإنتفاضة باتت رهينة نتائج الحتمية العسكرية،هذه حقيقة لاأستطيع المداورة عليها…نعمل على تخفيف نتائجها الكارثة وعقلنة الفعل العسكري.

 هناك من تغزل بجبهة النصرة بأكثر مما تغزل جميل ببثينة،واليوم يستنجد بضرورة الحد من نفوذها بل العمل على تصفيتها…وكأننا رهن لفكر سياسي مخمور،ولكن يجب أن نعترف أن صوته هو الأقوى والأكثر حضوراً..

أماثل ياغي:

 جميل لم يتزوج بثينة، لكن النصرة تزوجها كثيرون وفرخت كل هذه البلايا!

 ثائر ديب:

 في سوريا السلاح لن ينفع، بأي شكل كان. قبل ادراك ذلك، لا فائدة من النقاش. هذا رأيي. واذا ما كان صحيحاً، وهو بالنسبة إلي صحيح، فإن الخطوة الجريئة الأولى هي نبذه. بالمرة . وإدراجه -قبل ان يدرج البلد في الهزيمة الماحقة- في اطار مقاومة مدنية ودفاع عن النفس بوصفه عنصرا تابعا وثانويا جدا. تكفي سنتان ونصف من تجربة السلاح المأجور والتابع.

Ram Abedأشكر الاستاذ عزيز على هذه المقالة ولكن هل يمكن حقا توحيد الكتائب المسلحة وخاصة أنها في معظمها ممولة من الخارج ولاهداف بعيدة كل البعد عن اهداف الثورة ..وانا هنا اتحدث عن المنهج والتفكير والتمويل وليس عن العناصر المقاتلة والذين في اغلبهم سوريين. إضافة إلى انتشار العصابات الاجرامية التي تهدف إلى السرقة والخطف بهدف الاثراء وليس من منطلقات ثورية وهذا امر شائع في الدول التي تعاني من النزاعات الاهلية المسلحة حيث أن أسباب الانضمام إلى هذه العصابات يشابه أسباب الانضمام إلى الكتائب الثورية (بطالة فقر وظلم ومعتقدات) ومن هنا أؤكد على الفكرة التي طرحها الاستاذ ثائر فوقف العنف والنزاع المسلح ومحاصرته هو بداية الحل . ان سنتين وأكثر من الكفاح المسلح اثبت فشله وأدى إلى كوارث انسانية وأخلاقية واقتصادية واجتماعية ولا ينذر بأي انفراج ..

عزيز تبسي:

 الصديقن ثائر ورام. لايمكن التأسيس على موقف اخلاقي من السلاح،والتعويل على حصاد نتائج سياسية منه،العسكرة شقت طريقها إلى الإنتفاضة الشعبية الثورية،وباتت لمئات الأسباب الشكل الوحيد للصراع السياسي وأداته الأكثر صلابة وعماء في آن..الرغبة الإرادوية في إعادة الإنتفاضة إلى ماقبل العسكرة،ضرب من بلاغة إرادوية،لن تتحقق فعلياًإلا بغلبة أحد طرفي الصراع،وهو بدوره امر معقد،أو وصولهما إلى الإفناء المتبادل ،وفي طريقهما سيتنزف المجتمع وماتبقى من قوته الحية والفاعلة بعد عامان ونصف من الصراع،الصراع بات رهين هذا الشكل وليس منه مخرجاً واضح الملامح،يمكن ان ينبأ بالعودة إلى الأهداف المركزية للإنتفاضة الشعبية.

Ram Abedاستاذ عزيز ..أنت تؤكد الفكرة ولا تنفيها …لابد من وقف العنف ..وأنا أتفق عك أن الرجوع الى الانتفاضة الشعبية كما كانت أمر صعب جدا إن لم يكن مستحيل..ولان الحل العسكر أثبت فشله .. أضا لا بد من العمل على وقف العنف …وربما ننجح في جولة أخرى

 ثائر ديب:

ليس موقفنا أخلاقي بالمعنى الذي تشير اليه استاذنا العزيز. قد يكون موقفا نظريا الان، بمعنى أنه مجرد احتمال يمكن استنتاجه نظريا من دون وجود حوامل له وفاعلين بما يكفي. وانت، حين تصف الوضع تدفع الى مثل هذا الاستنتاج النظري. الشيء الثاني هو أن عقم السلاح وتهافته في المناطق المحررة سيدفع بهذا الاتجاه. ويصعب بالمقابل تصور قبول الكتلة الغالبة من الشعب السوري هذا النظام القاتل. فما الاحتمالات؟ في ذهني 3 احتمالات: الاول هو ما ندعو اليه من التحول الى ثورة محورها اشكال النضال السلمي وعدم استخدام السلاح الا دفاعا عن النفس وفي اطار المقاومة المدنية بما يعيد الثورة الى ننصابها ويجعل السلاح والمسلحين امرا تابعا لاستراتيجية الثورة التي لا تخشى الدخول في تفاوض او في عملية سياسية (وبالطبع اعلم صعوبة كل هذا ونحن امام معارضة كسيحة في قسم منها وماجورة في قسم آخر … الخ). الاحتمال الثاني هو استمرار الطحن الحالي للبلد الى اجل غير منظور مع ما يرافق ذلك من خراب وتعفن وانقسام اهلي ربما يتم تقسيم البلد أو اعادة صياغته على اساسه (دولة طائفية)، الثالث هو عملية سياسية بضغط دولي وضعف وتضعضع سوريين مع اتجاه هذه العملية نحو اعادة صياغة البلد وبنيته طائفيا.

Emil Jaabary “المشكلة أننا لم نقف على المأزق من بدايته،وأعاق الكثيرون هذه التصويبات الضرورية،وتستر الكثيرون على أخطاء واضحة لالبس فيها،هناك من عمل ليل نها على تسمية جمعة لدعم جبهة النصرة،”

إن الإصرار على دور السلاح واعتبار العسكرة الشكل الوحيد للصراع السياسي وأداته دليل على استمرار المشكلة وتفاقمها حتى تصلون دعاةَ أو مبرريأو قارئي حتمية العسكرة إلى استنتاجات لاحقة متأخرة جداً مشابهة لاستنتاج ..أننا لم نقف على المأزق منذ بدايته..مع العلم أن هناك الكثيرين الذين وقفوا على المأزق منذ البداية, لكن تأثيرهم كان ولا يزال محدوداً أمام طغيان المال والإعلام والتاريخ الاستبدادي الإسلامي ,لا بل تم (ولا يزال) تكفير معظمهم على منابر المقدس الثوري الإسلامي الليبرالي

 عزيز تبسي:

مامن أي إشارة ياصديقي إميل لأهمية الدور العسكري-الحربي للإنتفاضة،تحدثت عن الحتمية العسكرية وهي منتوج العدوان اليومي والقتل والمجازر بحق الكفاح الشعبي السلمي،وقد بدأت بنوع من الدفاع الذاتي على العائلة والقرية والأملاك الخاصة…للتحول إلى مقاومةشعبية مسلحة،قبل أن تتحول مابات يعرف”إستراتيجية التحرير”…نعم اتفق معك ياصديقي ثائر في الإحتمال الثالث،الإنتفاضة الآن على مشارف الإحتمال الثالث ،تدخل سياسي إمبريالي في سياقها الحربي ،بعد عجز كلا طرفي الصراع على الحسم العسكري،تدخل قد يستغرق وقتاً طويلاً،والإنتفاضة ومقولاتها السياسية والأخلاقية ستكون رهينة هذا التدخل..

 عزيز تبسي:

في حوار مع الصديقة آماثل ياغي،قبل ايام،قلت لها هناك مفردات وتعابير،منفصلة عن الواقع والوقائع،لكننا مضطرين لإستخدامها،تحت تهديد الإتهامات الرائجة،وهذه التعابير قدباتت من زمن لاتعبر عن أي شيء يتفاعل في الواقع أو يفصح عما سينتج عنه…ونحتاج وقت من الرواق لنتمكن من إطلاقها..

Emil Jaabary “..العسكرة شقت طريقها إلى الإنتفاضة الشعبية الثورية،وباتت لمئات الأسباب الشكل الوحيد للصراع السياسي وأداته الأكثر صلابة وعماء في آن..”

أستاذ عزيز هذا حرفيا ما ورد في تعليقك السابق ,

اما الاستنتاج أن الحتمية العسكرية هي منتوج العدوان اليومي والقتل والمجازر بحق الكفاح الشعبي السلمي فهو أمر يجب أن يخضع للتساؤل والنقاش على مستويين :

الأول نفسي اجتماعي(أنثروبولوجي) ألخصه بسؤال إذا قُتِل ابنك الأول هل ترسل الثاني إلى الموت؟ وبطريقة أخرى ماهو سلوك الأفراد والجماعات حيال الخطر المهدد لحياتها وبقائها؟

..

الثاني سياسي من الذي سلّح على هذا المستوى ؟ ولماذا ؟ لم لم يتحول الحراك اليمني إلى حراك مسلح؟

ومن الذي رفع وبرر شعارات التسلح ؟

ومن الذي حمل السلاح؟

 عزيز تبسي :

بداية حجم العدوانية الفاشية الذي خضع له الكفاح الشعبي البطولي،لأيؤسس عليه في أي تجربة عربية-في الربيع العربي-لا في اليمن ولا في سواها،في الصراعات السياسية لايمكن إستعمال كلمة-لو-،ولو وجب إستعمالها للتوضيح سأقول لوكان موقف المؤسسة العسكرية في سوريا منحازاً للإنتفاضة جزئياً لكان لنا حديث آخر….شكلت الإنتفاضة ساحة مفتوحة لتدخلات متعددة،تستثمر فيها في السطح او العمق،وعملت العديد من القوى الإقليمية والداخليةمن الأسابيع الأولى على موضوعة:عدم جدوى الكفاح السلمي.ولكن لم يؤخذ بها…العسكرة بقيت منتوج عضوي للإنتفاضة الشعبية الثورية.

عزيز تبسي:

الأصدقاء الأعزاء كنا نأمل أن نخوض الإنتفاضة الشعبية وفق مواكب مهرجانات الفرح في -ريو دي جانيرو-،تعثرت خطانا،وحوصرنا بمئات من الأحابيل،منهاقوة حربية فاشية لاتبقي ولاتذر،و معارضة سياسية لها من المشتركات مع الطغمة العسكريةأكثر بكثير مما يجمعها مع الكفاح الشعبي الصبور،والجغرافيا السياسيةحيث أكبر إحتياطي نفطي عالمي والكيان الصهيوني،وحركات إسلام سياسي لاتعنيها كل أهداف الإنتفاضة ومقولاتها الأخلاقية…………تحياتي لكم جميعاً. آمل أن نلتقي.

———————————

 الرواية غير المعلنة لـ«واقعة القصير»/ رضوان مرتضى

الخميس 6 حزيران 2013

لم تُشبه ليلة سقوط مدينة القصير غيرها. سكن الليل فانقطعت أخبار نُشطاء المعارضة ومسلّحوها في معقل المعارضة الأخير في محافظة حمص. غابوا دفعة واحدة عن «السكايب» و«الفايسبوك». تواروا من دون علم وخبر مسبقين. قبل ذلك بساعات، كان حديثهم يضجّ بحكايات «الثبات والرباط والمعنويات المرتفعة». قصص «الصمود وبطولات المجاهدين الذين يُلحقون أقسى الخسائر في صفوف القوى المهاجمة». هكذا، فجأة انقلبت المعادلة.

استيقظ الجميع على خبر سقوط «معقل المعارضة السورية» في القصير على أيدي جنود الجيش السوري ومقاتلي «حزب الله». أمّا مُسلّحو المعارضة المتحصّنون فيها، فتوزع مصيرهم بين قتلى وجرحى وأسرى وهاربين تركوا أرض المعركة باتجاه قريتي الضبعة والبويضة الشرقية. هنا بعضٌ من وقائع المعركة من ألفها إلى يائها.

لم يُمح الالتباس الذي تحمله معركة القصير في طيّاتها. في هذه الساعات، يستعيد كثيرون وقائع اليوم الأوّل لبدء الهجوم. وقتذاك بلغت النشوة حدّاً غير مسبوق عند من منّى النفس بنصر سريع في غضون أيام قليلة، لكن الآمال خابت عندما انجلى غبار اليوم الأول عن سقوط ٢٤ شهيداً في صفوف حزب الله. «الحرب خُدعة»، عبارة لهجت بها ألسن المعارضين المنتشين: «نجحنا في استدراج مقاتلي الحزب إلى داخل المصيدة». حصيلة المعركة في اليومين الأولين كانت قاسية على حزب الله، لكنّ إطلاق النار لم يتوقف. أُعيدت الحسابات وخُلطت الأوراق لتُرسم خطة جديدة. أوقف الهجوم البري لوحدات «الكوماندوس» للحدّ من الخسائر في صفوفها، لكن القوات المهاجمة قرّرت اعتماد سياسة التركيز على القصف المدفعي والغارات الجوية، تارة لإنهاك المسلّحين المتحصنين وتارة أُخرى للتخلّص من الكمّ الهائل من الألغام والعبوات الناسفة المنصوبة. في موازاة ذلك، حرص على إطباق الحصار على المدينة والتثبّت من إغلاق كافة المنافذ للحؤول دون وصول مدد لوجستي وبشري. ورويداً رويداً صار يعتمد عمليات القضم البطيء لأحياء مدينة القصير التي ترافقت مع عمليات ميدانية محددة ومضمونة. ورغم كل ذلك، لم تنقطع الاتصالات والمفاوضات مع المسلّحين لحظة.

هذا في الشكل. أمّا مسألة «الفخ الذي وقع فيه مقاتلو الحزب في البداية»، فيسرد المعارضون عنها روايتين. الأولى تنطلق من شكل استراتيجية الهجوم وسوء تقدير قوّة الخصم ومهارات المسلّحين القتالية. إذ تقرّر، في الشق الأول، الدخول من ثلاثة محاور بشكل طولي سريع وصولاً إلى قلب المدينة، وتقسيمها إلى ستة مربعات. يترافق ذلك مع غزارة في النيران وإسناد مدفعي كثيف. كان تقدير المهاجمين يشير إلى أنّ ذلك سيُضعضع المقاتلين المتحصنين في المدينة، وصولاً إلى انهيارهم تحت قوّة الصدمة الأولى، لكنّ ذلك لم يحدث. أما الشق الثاني، فيتعلّق بالقدرات القتالية للمسلّحين، إذ فوجئ مقاتلو الحزب بمهارات قتالية عالية يتمتع بها المسلّحون، وخصوصاً ذوي الخبرات في «ميادين الجهاد العالمية»، وقدرتهم المميزة في التفخيخ والتخفّي والمواجهة. لم يشبه مقاتلو القصير زملاءهم الذين سلّموا سلاحهم أو فرّوا في معارك حوض العاصي (غربي القصير).

أما الرواية الثانية، فتسلك مساراً آخر. تتبنّى مقولة «الخداع والمصيدة»، مستندة إلى المفاوضات التي أجراها ممثّلون عن الحزب مع المسلّحين، بوساطة قام بها أحد وجهاء العائلات، أثناء بدء محاصرة المدينة. وتُشير إلى أنّ المسلّحين «سايروا الحزب لإخراج عائلاتهم والمدنيين من المدينة، وأوهموهم بأنّهم سيُسلّمون أنفسهم فور بدء المعركة»، لكنهم اشترطوا حصول بعض المواجهات «الشكلية»، كي «لا يخرج المسلّحون بهيئة الخونة ما يُحلّل قتلهم على أيدي المعارضين أنفسهم في ما بعد»، على ذمة معارضين سوريين. وتضيف الرواية: «بالفعل، تحقق ذلك. فقد كانت الأمور تسير وفق المخطط. نفّذ المسلّحون تعهّداتهم لقيادة الحزب. نفّذوا عدداً من الانسحابات المتّفق عليها. فبدت الأمور سهلة لدى المهاجمين إلى أن فوجئ مقاتلو الحزب بأنهم وقعوا في المصيدة؛ إذ نفّذ المسلّحون نصف المتّفق عليه ثم انقلبوا عليه. أوهموا الحزب بالتزامهم الاتفاق ثم استدرجوه إلى الكمين. وبالتالي، هذا ما يُبرّر أعداد الشهداء المرتفعة لدى الحزب في أوّل أيّام المعركة».

وسط كل ذلك، استمرّت المعارك لنحو ١٦ يوماً. سُجّل الهجوم الأخير فيها عند ساعات الفجر الأولى من يوم أمس. نشرت تنسيقيات المعارضة السورية صوراً وأسماء لـ431 مسلحاً معارضاً قُتِلوا خلال المواجهات، فضلاً عن تلك الجثث التي لم يستطيعوا سحبها، والمسلّحين الغرباء الذين قُتلوا لكن لم يُكشف عنهم بعد. أمّا الأعداد الحقيقية للقتلى، بحسب مصادر المعارضة الموثوقة، فتُشير إلى أنّهم تجاوزوا ١٢٠٠ قتيل، فيما ناهزت أعداد الجرحى الألف. وعلمت «الأخبار» أنّ هناك نحو ١٠٠٠ مسلّح تمكن مقاتلو الحزب والجيش السوري من أسرهم، بينهم عدد من «الغرباء»، أي المسلّحين الأجانب الذين قدموا لنُصرة المسلّحين في القصير. وأشارت المعلومات إلى أنّ بين هؤلاء أسرى من الجنسية الأوسترالية، إضافة إلى فتيات عدة من الجنسية الشيشانية، كانت مهمتهن استخدام القنّاصات. هذا في ما يتعلّق بمسلّحي المعارضة. أما الشهداء في صفوف مقاتلي حزب الله، فلم يتجاوزوا المئة (93 شهيداً)، فضلاً عن أعداد الجرحى الذين عادوا بالعشرات.

لم تُكشف خبايا سقوط القصير بعد. المؤكد أنّ دقائق ليلة السقوط تزخر بالكثير من التفاصيل. لكن المعلومات الأولى تشير إلى أنّ المفاوضات التي جرت تحت النار عجّلت بالسقوط. تكشف المعلومات أنّ مجموعات المسلّحين انقسمت في ما بينهم، متحدثة عن وقوع عدد من الاشتباكات بين مسلّحي المجموعات المسلّحة أنفسهم على خلفية تبادل تُهم الخيانة. وتُشير المعلومات إلى أنّ هناك عدداً من المسلّحين ألقوا السلاح وسلّموا أنفسهم من دون قتال، بعدما حصلوا على الأمان من حزب الله بحفظ حياته. وتلفت المعلومات إلى أنّ الجيش السوري وحزب الله، بعد المفاوضات، فتحا ممرات باتجاه بلدتي الضبعة والبويضة الشرقية (شمالي القصير)، ففوجئ المسلّحون بزملائهم يفرّون باتجاهها من دون تنسيق مسبق، إضافة إلى آخرين، انسحبوا باتجاه جرود عرسال تحت وطأة الهجوم.

الاخبار

—————————-

القصير «ستالينغراد السورية» أهمية إستراتيجية مستحقة أم تضخيم إعلامي؟

الأربعاء 2013/6/5

المصدر : الأنباء

لم تكتسب أي معركة في سورية ومنذ اندلاع الحرب قبل عامين أهمية استراتيجية ومعنوية ونفسية مثل المعركة الدائرة في القصير منذ ثلاثة أسابيع، الى درجة أنها اعتبرت المعركة الفصل بين النظام والمعارضة ونقطة التحول في مسار الحرب، من وجهة نظر خبراء عسكريين فإن لمعركة القصير أهمية جغرافية كبيرة فيما يتعلق بالطريق الجنوبي الذي يربط مدينة حمص بالساحل السوري، كما انها تفرض التحكم بالمداخل الجنوبية لمدينة حمص، ونجاح عملية القصير سيمكن الجيش من تأمين محافظة حمص بشكل عام وتأمين طريق الساحل السوري والحفاظ على خط التواصل الطارئ مع العاصمة دمشق، والمعركة لها أهمية عسكرية وسياسية بالنسبة للنظام لأنها تزيد من اللحمة المعنوية حول الدولة في حين تؤدي الى مزيد من التفكك في صفوف المعارضة ومن تبادل الشكوك والاتهامات حول أسباب الهزيمة، كما انها تقدم تجربة عسكرية جديدة من خلالها يكرس الجيش السوري مجموعة من قواعد الاشتباك التي يمكن تسميتها «قواعد القصير» وهي تشكل منطلقا لكيفية ادارة العمليات العسكرية مستقبلا في مختلف أنحاء سورية، ومن الممكن القول بان المزيج من القوات النظامية وغير النظامية والحلفاء المدعومين من قوات جوية ومدفعية تحول الى «وصفة» النظام لإدارة المعارك.

ووفق هؤلاء الخبراء فإن الجيش السوري أحرز تقدما حاسما في المدينة بالرغم من بطء سير المعارك وبات سقوطها بالكامل مسألة وقت، فالجيش السوري مدعوما بوحدات النخبة من حزب الله يمتلك القوة النارية وخطوط الإمداد الخلفية في حين ينتشر مقاتلو المعارضة في منطقة منبسطة عموما وتخلو من التضاريس الجغرافية التي تساعد على خوض حرب عصابات طويلة، وكل هذه العوامل ترجح سير المعركة لمصلحة النظام بصرف النظر عن الكلفة التي ستكون باهظة على الطرفين.

في المقابل، يرى محللون عسكريون أن القصير فاجأت النظام بقدر ما فاجأت حزب الله اللبناني خاصة أن تمكن مقاتلي المعارضة من صد القوات المهاجمة لأكثر من 3 اسابيع شكلت ضربة للقوات المهاجمة التي وعدت بـ «تحريرها» خلال 72 ساعة، وقال الخبراء ان هذه المعركة لن تكون نزهة سهلة للنظام في حين انها اغرقت حزب الله في الرمال السورية المتحركة. ويرى هؤلاء ان ذلك مرده الى ان الجيش الحر يستخدم نفس اسلوب حزب الله في المعارك، مشيرين الى ان تحت القصير مدينة أخرى من الانفاق والدهاليز. ودلل هؤلاء على رأيهم بتمكن اكثر من الف مقاتل من الجيش الحر من دخولها بأسلحتهم رغم ما يقوله النظام انه يطبق على المدينة من جميع الجهات.

وهناك ثمة من يرى عند خبراء السياسة والإعلام ان معركة القصير أعطيت حجما استراتيجيا أكبر من حجمها الواقعي ولم تكن المدينة تعطى كل هذه المكانة الاستراتيجية والإعلامية عندما كانت في يد المعارضة، وأما الأهمية التي أعطيت لمعركة القصير والحجم الكبير الذي أخذته فمرده الى الأسباب التالية:

1 ـ تم تغليب الاعتبارات الاستراتيجية التي تخص حزب الله على تلك التي تخص الثورة، فخط الامدادات من الساحل السوري الى حزب الله في لبنان حيوي بالنسبة اليه وكذلك تواصله جغرافيا مع سورية عبر منطقة الهرمل ـ القصير، اضافة الى قطع خط الإمداد اللبناني للمعارضة المسلحة والسيطرة على الحدود اللبنانية ـ السورية.

2 ـ النظام يحتاج الى «انتصار معنوي» لم يستطع أن يحققه في حلب، وهو يعطي معركة القصير أهمية فائقة ويصور الانتصار فيها مقدمة لاسترداد زمام المبادرة العسكرية وتدشين واقع جديد على الأرض، والمعارضة من جهتها تنخرط في عملية التضخيم والتهويل لاستجلاب الدعم والتعاطف من أعداء حزب الله وإيران والنظام السوري.

3 ـ هناك صلة بين معركة القصير والحل السياسي المتمثل فيما بات يعرف بـ «جنيف 2»، ايران مهتمة جدا بهذه المعركة ليس فقط بهدف تأمين الطريق لنظام الأسد الى الساحل السوري وإلى «خطة ب» إذا فرضت عليه (التقسيم)، وإنما لهدف آخر يتمثل في وضع «القصير» على مائدة الأسد في مؤتمر «جنيف 2» لتعزيز موقعه التفاوضي، وإذا كانت معركة القصير هي الهدية الإيرانية عبر حزب الله للنظام السوري في المؤتمر الدولي فإن هذه «الهدية» تؤشر الى وجهة التفاوض الاقليمي في هذا المؤتمر وترمز القصير فيما ترمز اليه الى ان الطريق من دمشق الى الساحل سيكون أحد خطوط المفاوضة.

وفي إطار «جنيف 2» أيضا تبدو معركة القصير نوعا من الضغوط على المعارضة لاجبارها على الدخول في الحل السياسي من دون شروط مسبقة (تنحي الأسد وعدم حضور ايران)، خصوصا ان الموقف الغربي الداعم للمعارضة السورية نظريا ما زال غير واضح، فهناك عدم استعداد اميركي للحل العسكري وخيار تسليح المعارضة، ليس خيارا جديا، وتحريك هذه الورقة حاليا يشكل نوعا من الورقة التفاوضية للضغط على النظام قبل مؤتمر جنيف، وبالتالي فإن رفع حظر السلاح الأوروبي عن المعارضة قيمته معنوية أكثر مما هي عملية، وحتى الخلافات التي تعصف بالائتلاف فإنها انعكاس للتباينات الحاصلة في المعسكر الدولي ـ الإقليمي المؤيد للمعارضة السورية، ومن غير المستبعد ان تكون مفتعلة من الأميركيين وغيرهم للاتخاذ من تشرذم المعارضة وعدم جهوزيتها ذريعة لعدم التدخل وعدم التسليح وحتى لعدم التعجيل في الحل السياسي.

4 ـ الأهمية المعطاة لمعركة القصير تعود في جزء أساسي منها الى مشاركة حزب الله في هذه المعركة، مشاركة مباشرة فاعلة ومؤثرة ساهمت الى حد كبير في تعديل مسار الأمور على الأرض وشكلت إحدى أبرز مفاجآت الحرب في سورية واستدعت ردود فعل قوية على كل المستويات الدولية والاقليمية واللبنانية لأن حزب الله بانخراطه في القتال في سورية يساهم في تغيير مسار الصراع وقواعد اللعبة ويخترق «خطوطا حمراء»، ولذلك فإن الأنظار تتجه الى حزب الله وما ستؤول اليه تجربته في القصير التي لا تخلو من مخاطرة ومغامرة مادام ان المعركة تنطوي على احتمال ان تتحول الى «حرب استنزاف طويلة» اضافة الى الوقوف على كيفية تعاطي حزب الله وتصرفه بعد انتهاء معركة القصير: هل يعلن انتهاء عملياته العسكرية المباشرة في سورية وتكون لحظة الانسحاب المتاحة على خلفية انتصار القصير؟! ام انه يكمل الى «ما بعد القصير» ويتوغل اكثر في العمق السوري وينغمس اكثر في الحرب ليصبح طرفا ثابتا فيها؟ وبحسب جهات ديبلوماسية أوروبية في بيروت فإن حزب الله بتدخله العسكري في القصير ارتكب خطأ ودخل في مغامرة غير مضمونة النتائج، ولكن انسحابه وخروجه مازال متاحا وممكنا اذا توقف تدخله عند هذا الحد، وتدخله يمكن ان يكون مبررا بالاعتبارات اللبنانية الحدودية والجغرافية والأمنية والديموغرافية، ولكن ذهابه الى أبعد وإلى أكثر من «القصير» سيكون وخيم العواقب.

يرى محللون سياسيون في لبنان انه لم تعد مجدية حال الذهول التي خلفها اعلان حزب الله مشاركته في الحرب في سورية، يجب البدء في البحث عن نتائج هذه المشاركة، في سورية ستبقى الارتدادات محدودة بنتائجها الطائفية، ذاك ان الحزب لا يستطيع ان يتمدد على طول الخريطة، وفي المدن الرئيسية لن يخترق أكثر من حدود مدينة حمص، أما في لبنان فالارتدادات الطائفية والمذهبية بدأت، والشارع يكتظ بمزيد من مشاعر الضغينة، وحزب الله اذ يتولى في بيئته ضخ الدلالات الطائفية لمشاركته في الحرب في القصير يتولى أيضا استدراج الجماعات المذهبية الأخرى للغة طائفية موازية، وإذا كان الوضع في مدينة طرابلس عينة عن نتائج مشاركة الحزب في القصير فإن ما جرى في مدينة صيدا هو نموذج اكثر كثافة وان كان أقل عنفا.

ويرى هؤلاء انه ليس سرا ان لبنان بات يعيش على وقع انخراط حزب الله في الحرب السورية وتداعياته الداخلية، واذا كان دوره مفهوما في ضوء موقعه في «حلف الممانعة» وما يعنيه الجسر السوري لمستقبله، فإن دعوة أمينه العام حسن نصرالله خصومه اللبنانيين الى تحييد بلدهم وملاقاته في الساحة السورية لا يغيب مخاوف بعض الدوائر اللبنانية من اختلال التركيبة الديموغرافية للطوائف والمذاهب وموازينها الدقيقة، في ضوء الأعداد الكبيرة للاجئين السوريين، فضلا عن تبدل المزاج في المخيمات الفلسطينية، ولا يستبعد هؤلاء احتمال انتقال حرب القصير الى الشمال بذريعة الدفاع عن جبل محسن وأهله، ولن تتأخر طرابلس والشمال عموما في استدعاء المدد، ألم تكن حدود الانتداب الفرنسي لسورية قبل قيام لبنان الكبير تشمل طرابلس وحمص وحلب، والموصل التي كانت قبل ذلك أيضا نقطة صراع دائم بين العثمانيين والصفويين؟

—————————-

مراحل تطور الثورة السورية/ إياد جبر

11/11/2015 .

شهدت الثورة السورية منعرجات ومراحل فارقة كان لكل منها طبيعة خاصة تميزها عن غيرها، فقد بدأت ثورة شعبية سلمية تعرض خلالها الشعب السوري لكل أساليب القمع والتنكيل، ولم ينجح الثوار حينها في توحيد صفوفهم برغم الحاضنة الشعبية التي كانت داعمًا لهم منذ بدء ثورتهم.

فرضت المواجهة المسلحة نفسها على الثورة في العام الثاني، حينما تمكن الثوار من الحصول على الأسلحة الخفيفة بفعل الانقسامات داخل الجيش السوري، ولجوء الكثير من قياداته إلى صفوف المعارضة، والتي استطاعت أن تشكل كيانًا ثوريًّا عُرف باسم «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» الذي جاء بديلًا عن المجلس الوطني بعد فشله خلال العام الأول في جمع قوى المعارضة.

برغم الانتصارات التي حققتها المعارضة على حساب النظام وتحريرها للكثير من المدن، إلا أن النظام غير من إستراتيجيته وخططه هربًا من الاستنزاف، مركزًا سيطرته على المدن الإستراتيجية ذات الأهمية، لكن دخول حزب الله اللبناني والمليشيات الشيعية مع بداية عام 2013م وما صاحبه من ولادة تنظيم الدولة (داعش) شكل عبئًا مضاعفًا على قوى المعارضة، التي تراجعت بفعل المواجهة في عدة جبهات؛ ما خلط الأوراق وجعل المشهد يبدو ضبابيًّا.

باتت الفرصة مهيأة للتدخل الدولي الذي استفاد من ضبابية المشهد السياسي، فاختلفت أهداف تلك القوى الخارجية وفقًا لمصالحها، فتحول نظام بشار الذي قتل مئات الآلاف وهجّر الملايين من شعبه بعد أشهر قليلة من نظام إرهابي إلى نظام شرعي يستوجب حمايته، وهو ما شجع روسيا على التدخل العسكري مستغلة الاعتراف الدولي بالوجود الإيراني في سوريا والمنطقة عمومًا، وعدم قدرة قوى المعارضة السنية على إسقاط النظام العلوي الذي استفاد من الدعم الإيراني وتعدد القوى المسلحة على الساحة السورية.

المرحلة الأولى:

 ثورة شعبية ومقاطعة دولية وعربية

جاءت جمعة الكرامة في 18 مارس 2011م بمثابة الشرارة الأولى والأهم للثورة السورية التي شهدت مظاهرات عارمة قوبلت برد فعل عنيف من جيش النظام السوري الذي ارتكب خلال العام الأول للثورة عشرات المجازر راح ضحيتها نحو 8500 من أبناء الشعب السوري.

كانت محافظة درعا أول من انتفض في وجه النظام الذي واجه الثورة الشعبية بالقمع، لكن بطشه لم يثبط معنويات الشعب السوري الذي انتفض على النظام في محافظات أخرى أهمها بانياس واللاذقية وحمص وحماة وحلب ودمشق وريفها، واتخذت الاحتجاجات والمظاهرات طريقها تباعًا نحو المدن الساحلية في اللاذقية وجبلة، برغم إعلان الأسد إلغاء قانون الطوارئ ومحكمة أمن الدولة وسن قانون التظاهر السلمي وإطلاق سراح بعض المعتقلين وتشكيل حكومة جديدة ومنح الجنسية لعشرات الآلاف من الأكراد، بالإضافة إلى إقالة محافظ حمص.

هذه الإجراءات السياسية التي اتبعها النظام لم تصل إلى الحد الأدنى لمطالب الثوار، خاصة أن الوضع في الشارع كان مختلفًا عما يقال في وسائل الإعلام، لأن مواجهة المتظاهرين من قبل الجيش أوقعت الآلاف من القتلى كما أشرنا سلفًا، لأن الجيش أجرى حملات مختلفة على بعض المحافظات والمدن أشهرها حي بابا عمرو في حمص، كما أن حديث النظام عن الإصلاحات السياسية الهزلية، لاسيما الاستفتاء على الدستور لإيقاف هيمنة حزب البعث كما كان يقال في الإعلام السوري، جاء بالتوازي مع الحملات العسكرية الدامية في حماة وأخرى في حمص وإدلب.

الواضح إذن أن النظام السوري كان يستخدم مصطلح الإصلاحات السياسية للتغطية على قمع الثورة خلال عامها الأول، فإعلانه عن إجراء انتخابات برلمانية في مايو 2011م جاء بالتزامن مع حملة عسكرية على مدينة إدلب من أجل قمع الثورة.

في هذه الأثناء ظهرت أولى التصدعات على الجيش السوري، حينما أقدمت مجموعة من الضباط على الانشقاق، بقيادة المقدم حسين هرموش، الذي أسس حركة الضباط الأحرار، وقد أعقب هذه الخطوة النوعية تشكيل الجيش السوري الحر في يوليو من العام نفسه، برئاسة العقيد رياض الأسعد، ومنذ ذلك الحين اتخذت الثورة منحى أكثر خطورة لأن المواجهات مع النظام اتخذت طابعًا عسكريًّا بحتًا، وبدأ الجيش الحر يشن هجماته على الكثير من المباني الحكومة، أهمها مقر المخابرات في ريف دمشق. ومع اتساع تلك المواجهات تزايد عدد الضباط المنشقين عن صفوف الجيش، وبدأت صفوف الجيش الحر في تزايد، ووصلت مع نهاية العام الأول للثورة إلى حوالي عشرين ألفًا.

المعارضة العسكرية للنظام العلوي خلال العام الأول للثورة صاحبها تشكيل معارضة سياسية عُرفت بـ«المجلس الوطني الانتقالي» في أغسطس 2011م برئاسة برهان غليون، ثم جاء الإعلان عن تشكيل المجلس الوطني السوري في أكتوبر برئاسة برهان غليون أيضًا، لكن الخلافات بين أعضائه وعدم انسجام أفكارهم ومطالبهم مع مطالب الشارع الثوري جعلته تجمعًا ثوريًّا هشًّا فجاء الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة بديلًا عنه.

على الجانب الآخر، شهد العام الأول للثورة تحركات دبلوماسية دولية، أهمها عقوبات أمريكية جديدة على النظام السوري، كما اتخذ الاتحاد الأوربي قرارات عقابية في مايو 2011م ضد النظام، لكن الجانبين الأمريكي والأوربي عجزا عن تمرير قرارات عبر مجلس الأمن بسبب الفيتو الروسي الصيني، الذي وقف بالمرصاد للمحاولات الأمريكية الأوربية في أكتوبر 2011م وفبراير 2012م.

بدورها تحركت جامعة الدول العربية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر إرسال مراقبين في ديسمبر 2011م، دون أن يحققوا أي نتائج تُذكر، وقد تم تعليق عضوية سوريا في الجامعة، لكن الأخيرة أرسلت بالتوافق مع الأمم المتحدة مبعوثًا مشتركًا هو الأمين العام السابق للأمم المتحدة «كوفي عنان» مبعوثًا للنظام السوري، وقد سلم النظام مقترحات تمثل مخرجًا للأزمة لكن استمرار الأزمة وتصاعدها حال دون أي نجاح للمساعي الدولية والعربية، الأمر الذي دفع معظم الدول العربية وفي مقدمتها بعض دول مجلس التعاون الخليجي لإنهاء أي علاقة دبلوماسية تربطها بالنظام السوري.

المرحلة الثانية:

تحولات مهمة على مسار الثورة

مع دخول الثورة عامها الثاني بدت احتمالات التوصل إلى أي حلول غير ممكنة لأن مجازر النظام السوري فاقت التوقعات، فبحسب الأرقام التقديرية التي رصدتها جهات محلية سورية فإن النظام أنهى العام الثاني للثورة بقتل نحو 80 ألف مواطن سوري، وأكثر من 5 ملايين نازح ومهجر ومشرد، وخراب شامل ودمار ممنهج؛ الأمر الذي استدعى دخول أطراف جديدة على مسار الأزمة تمكنت من تحرير بعض المدن السورية من النظام الذي بدأ يذهب باتجاه توظيف النزاعات الطائفية، ومن ثم دخول أطراف إقليمية لاسيما التدخل الإيراني عبر المليشيات الشيعية المختلفة.

1- إنجازات مهمة للمعارضة المسلحة وفشل المعارضة السياسية:

إلى جانب الجيش الحر وما تفرع عنه من ألوية، كلواء شهداء سوريا الذي قدرت أعداد مقاتليه بـ7 آلاف مقاتل، ولواء صقور الشام 35 ألف مقاتل، ظهرت في العام الثاني للثورة جبهة تحرير سوريا الإسلامية التي تضم نحو عشرين مجموعة منها «لواء التوحيد 10 آلاف مقاتل، ولواء الفتح، ولواء الفاروق 14 ألف مقاتل، ولواء الإسلام ٩ آلاف مقاتل، وغيرها»، لكن هذه الجبهة الإسلامية المعتدلة ظلت تعترف بالإطار القيادي للجيش الحر، هذا فضلًا عن الفصائل الإسلامية والجهادية التي ظهرت خلال هذه المرحلة المهمة من الثورة.

تعداد المقاتلين الكبير في صفوف المعارضة السورية بكافة أطيافها، وخصوصًا بعد انشقاق نحو 150 ألف عنصر من الجيش وانضمامهم لصفوف المعارضة، وكميات السلاح الكبيرة التي تمكنوا من الحصول عليها عن طريق الدعم الخارجي، أو من خلال السيطرة على العديد من مخازن الأسلحة التابعة للنظام؛ كل ذلك مكنهم من تحقيق إنجازات مهمة في المحافظات السورية الرئيسية، فأصبح لها حضور كبير ومواقع عسكرية وسيطرت على أجزاء كبيرة من محافظات ومدن ريف دمشق وحلب وإدلب والرقة ودير الزور والحسكة وحماة واللاذقية وحمص والرستن وغيرها.

وبالتزامن مع تطور المعارضة المسلحة وما حققته من إنجازات ميدانية قبيل نهاية عام 2012م تم الإعلان عن الجسم السياسي الجديد للثورة السورية وهو «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة»، وحصل حينها على اعتراف بعض الدول العربية ممثلًا للشعب السوري لكنه لم ينجح في تحقيق الانسجام مع الجسم الثوري والعسكري في الداخل، مما استدعى عقد عدة مؤتمرات أهمها في القاهرة في يوليو من العام نفسه تحت رعاية الجامعة العربية، وقد صدرت عن هذا المؤتمر وثيقتا «المرحلة الانتقالية» و«العهد الوطني» أو ما صار يُعرف لاحقًا باسم «وثائق القاهرة» على سبيل الاختصار.

أقرت الوثيقة الأولى «إسقاط الأسد ورموز السلطة» كهدف أسمى للثورة، لكن ذلك كان محل اعتراض ورفض شعبي، لأن هذه الصياغة الملتبسة قد يُفهم منها السعي إلى إسقاط مجموعة من رموز النظام فقط وليس إسقاطه كاملًا بكل رموزه وأركانه ومؤسساته، كما لم تسلم الوثيقة الثانية «العهد الوطني» من انتقادات واسعة بسبب محاولتها طرح رؤية استباقية أحادية لمستقبل سوريا بعد التحرير، وهي رؤية تتسم بقصور كبير في تحقيق هوية سوريا الإسلامية.

من جانبها، كانت الجامعة العربية قد طرحت مبادرة في يناير عام 2012م اقترحت تنازل بشار الأسد عن كامل صلاحياته لنائبه وتشكيل حكومة وطنية توافقية بين المعارضة والنظام، لكنها قوبلت برفض النظام العلوي الذي استغل حالة الانقسام الدولي حول مستقبل سوريا، فكان مصير الرؤية الدولية المشتركة التي طُرحت دوليًا والتي عُرفت بـ«بجنيف1» أشبه بمصير المبادرة العربية المشار إليها أعلاه، لذلك ظلت المحاولات الإقليمية والدولية دون أي نتائج تذكر.

2- توظيف النزاعات الطائفية:

خلال العام الثاني للثورة بدأ النظام السوري يتجه نحو إذكاء وتوظيف البعد الطائفي لتحويل مسار الثورة، وبرغم أن ثلاثة أرباع الشعب السوري البالغ 22 مليون نسمة هم من السنة إلا أن النظام حاول استغلال ذلك التنوع الطائفي عبر ممارسات متنوعة، خاصةً أن معظم المعارضين للنظام هم من أهل السنة الذين دفعوا ضريبة المعارضة إما بالموت تحت نيران طائرات النظام أو بالهجرة خارج البلاد أو بالنزوح إلى مناطق أخرى أكثر أمنًا أو الزج بالآلاف منهم داخل سجون النظام.

الملاحظة الجديرة بالاهتمام في هذا المقام أن آلاف المصابين والجرحى كانوا يخشون الذهاب إلى المستشفيات الحكومية خشية تعرضهم للقتل والتعذيب أو الزج بهم في سجون النظام، وبحسب الكثير من التقارير الصحفية والحقوقية فإن النظام قد بدأ يتعامل مع المواطنين وفقًا لانتماءاتهم الطائفية، مما عرض آلاف الجرحى للموت بسبب خوفهم من تلقي العلاج في مستشفيات الدولة.

لم يقتصر توظيف الطائفية على السني والعلوي فحسب، لأن النظام استغل الظروف الاجتماعية الصعبة للكثير من الأسر المسيحية واستدرج 1500 شخص مسيحي وضمهم للجيش بعد دخول الثورة عامها الثاني، وحوّل مدينة «محردة» ذات الأغلبية المسيحية في شمال ريف حماة إلى ثكنة عسكرية مستغلًا بعض الكنائس والأديرة كدير «محردة» كمواقع عسكرية، ووضع أكثر من 15 حاجزًا عسكريًّا على مداخل المدينة، التي أصبحت رأس حربة للنظام يستخدمها لقصف المدن المجاورة، مما أثار حفيظة تجمعات الجيش الحر وجبهة النصرة فبدآ بالرد على قصف مواقع النظام في هذه المدينة مما جعل الطائفة المسيحية في مواجهة مباشرة مع قوى المعارضة، ولا شك أن حرف بوصلة الثورة السورية نحو الحرب الطائفية قد مهد الطريق لدخول إيران وحزب الله اللبناني إلى الأراضي السورية لدعم نظام بشار.

المرحلة الثالثة:

 التدخل الإيراني وظهور تنظيم داعش على حساب المعارضة

التحولات الجذرية التي طرأت على الأزمة السورية خلال عام 2012م بسبب دخول أطراف جديدة رفعت حجم الخسائر في الأرواح والممتلكات، ففي منتصف عام 2013م قُدر عدد الضحايا بحوالي بحوالي 90 ألفًا أغلبهم من المدنيين والمعارضة ونحو 10 آلاف من قوات النظام، لكن مع اتساع نطاق المواجهات كان عدد الضحايا قد تجاوز 120 ألفًا مع نهاية عام 2013م، الأمر الذي كان كفيلًا بتحول المشهد السوري من مرحلة الأزمة إلى مرحلة الصراع.

استغل نظام بشار هذا الوضع الجديد وبدأ في استخدام أكثر الأسلحة فتكًا تجاه المدن التي تم تحريرها على يد المعارضة، فوصل الأمر في أغسطس 2013م إلى استخدامه للسلاح الكيماوي في غوطة دمشق الشرقية والغربية وزملكا وغيرها، ما أدى إلى سقوط نحو 755 من الضحايا أغلبهم من المدنيين.

ومع نهاية عام 2013م كان عدد اللاجئين والنازحين قد ارتفع بشكل غير مسبوق، فكان العدد بداية هذا العام نحو مليون لاجئ ونازح لكنه بلغ حوالي 7 ملايين، ومع نهاية عام 2014م بلغت أعداد النازحين واللاجئين داخل سوريا وخارجها أكثر من ١٢ مليونًا، أي أن نصف سكانها تحولوا إلى مشردين.

1-حزب الله والمليشيات الشيعية:

بدأت المشاركة العلنية لحزب الله في القتال إلى جانب النظام بداية عام 2013م بحجة إفشال مؤامرة دولية ضد سوريا، فكان واضحًا أن الصراع الدائر في سوريا صراعًا وجوديًا بالنسبة إلى حزب الله، فسقوط النظام السوري هو بداية نهاية هذا الحزب والهيمنة الإيرانية في المنطقة، فكانت معركة القصير في مايو 2013م أهم المعارك التي خاضها الحزب ضد المعارضة السورية، حيث قُدر عدد مقاتليه بنحو 14 ألف، ووفقًا لشهادة الناطق باسم القيادة المشتركة للجيش الحر فإن عدد القتلى في صفوف قوات حزب الله اللبناني قد بلغ نحو 1100 قتيل سقطوا في عدة مواجهات.

لكن العدد الإجمالي للمقاتلين الشيعة الذين دخلوا الأراضي السورية خلال عام 2013م كان قد تجاوز 60 ألف مقاتل من جنسيات عراقية وإيرانية ولبنانية وأخرى يمنية، وذلك بحسب تقديرات هيثم المالح مسؤول المكتب القانوني في ائتلاف قوى الثورة.

تلك الأعداد الكبيرة التي دخلت سوريا عبر البوابة العراقية أو اللبنانية جعلت وزير الخارجية العراقي «هوشيار زيباري» حينها يقر بوجود مقاتلين شيعة في سوريا يقاتلون إلى جانب قوات النظام، لكنه شدد على أن ذلك لا يتم من خلال سياسة حكومية عراقية، كما أشارت مصادر يمنية إلى توجه مئات المقاتلين الحوثيين للقتال إلى جانب النظام، وأشارت إلى أنهم باتوا ينظرون إلى القتال في سوريا على أنه جهاد مقدس، وأن هؤلاء المقاتلين تطوعوا للقتال لأسباب عقائدية ومالية وبتشجيع من إيران، وأوضحت أنهم يذهبون إلى معسكرات تتبع حزب الله في لبنان قبل أن يتم نقلهم إلى الجبهة السورية.

2- ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش):

ردًّا على الهجوم الكبير لمليشيات حزب الله والمليشيات الشيعية المختلفة في القصير وسقوطها إلى جانب بعض القرى المجاورة، ومعارك الاستنزاف التي خاضها النظام على المدن السورية المحررة، وفي إطار تحول الصراع من حالته الثورية إلى حالته الطائفية، بدأ الكثير من المجاهدين العرب ينجذبون إلى سوريا لتلبية الواجب الديني والدفاع عن إخوانهم من السنة، فخلال عام 2013م قُدرت أعداد المقاتلين السنة من العرب وغيرهم الذين دخلوا سوريا بنحو 10 آلاف مقاتل، الأمر الذي مهد الفرصة لدخول تنظيم القاعدة والكثير من الجماعات الجهادية.

لكن التطور الأسوأ في عام 2013م والكارثة الأكبر في تاريخ الثورة السورية جاء حينما تم الإعلان عن ولادة تنظيم «داعش» في أبريل من العام نفسه، ثم تمدده خلال الشهور الأربعة الأخيرة منه في المناطق المحررة على حساب الكتائب المحلية والفصائل الإسلامية، حيث استطاع السيطرة على مساحات واسعة في محافظات حلب وإدلب والرقة والحسكة ودير الزور بعد تحريرها بشكل كامل في عام 2012م.

كان عام 2014م على موعد مع تمدد غير متوقع لتنظيم «داعش» فتمكن من طرد عناصر الجيش الحر في يناير 2014م من محافظة الرقة التي أعلنها عاصمة للخلافة المزعومة، كما سيطر بشكل شبه كامل على محافظة دير الزور النفطية، واستولى على عدة حقول نفطية وغازية في محافظة الحسكة شمال شرق البلاد وعلى مقربة من الحدود مع تركيا والعراق، فضلًا عن سيطرته على مدينة البغدادي قرب قاعدة الأسد الجوية.

وحتى منتصف عام 2014م أصبح تنظيم داعش يسيطر على نحو 35% من الأراضي السورية بمساحة متصلة جغرافيًّا، ممتدة من بادية حمص إلى الهول على الحدود السورية العراقية جنوب شرق محافظة الحسكة، وصولًا إلى بلدة الراعي على الحدود السورية – التركية، وعلى قرية شامر بالقرب من المدخل الشمالي الشرقي لمدينة حلب، وذلك وفقًا لتقرير المرصد السوري، لكن أغلب المدن والقرى التي وقعت تحت سيطرة تنظيم داعش كانت فصائل المعارضة قد تمكنت من تحريرها من النظام السوري خلال ثلاث سنوات مضت من عمر الثورة.

3-تراجع قوى المعارضة:

خلال عامي 2013م و2014م فقدت الثورة الجزء الأكبر من مكتسباتها الميدانية التي حققتها خلال مرحلة الصعود والانتصارات، بحيث صارت سوريا موزعةً بين خمس قوى رئيسية، هي:

• النظام الذي نجح في إعادة احتلال مواقع إستراتيجية مهمة كان الثوار قد حرروها في وقت سابق، وبات يسيطر على 23% مساحة سوريا، وهي المساحة الأهم التي يضم العاصمة وبعض المدن الكبرى (حمص وحماة وإدلب) وتشمل غرب سوريا بأكمله تقريبًا.

• حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (المتحالف مع النظام) سيطر بالتعاون مع قوات النظام السوري على النصف الشمالي من محافظة الحسكة، وينفرد بالسيطرة التامة على منطقة عفرين في أقصى الشمال الغربي.

• أما تنظيم داعش الذي احتل ثلاثة أرباع المناطق التي حررها الثوار في حربهم مع النظام، بات يسيطر على نصف سوريا الشرقي كله، باستثناء الجزء الخاضع لسيطرة الأكراد في محافظة الحسكة.

• بينما القوى الثورية المستقلة أو ما يسمى اصطلاحًا الفصائل الإسلامية وكتائب الجيش الحر فقد انحسرت المساحات التي تسيطر عليها بحيث صارت تقتصر على نحو 15% من مساحة سوريا، وتضم: الجزء الجنوبي من محافظة حوران، ومحافظة القنيطرة، وأجزاء من محافظتي دمشق وريفها (المناطق المحاصرة في الغوطتين الشرقية والغربية وجنوب دمشق والقلمون) ومن ريف حمص الشمالي وريف حماة الشمالي، وجبل الأكراد، وريف إدلب، وقسمًا من مدينة حلب، بالإضافة إلى ريف حلب الغربي، وتشترك جبهة النصرة مع قوى الثورة في السيطرة على تلك المناطق المذكورة.

في هذا السياق استمرت حالة الشلل المؤسسي على المعارضة السياسية (الائتلاف الوطني) بسبب طبيعته القائمة على الكتل والمحاصصات، وبلغ التدخل الخارجي والصراع على النفوذ ذروته مع «فرض» الكتلة الليبرالية الجديدة على الائتلاف في مايو 2013م، وتسبب صراع النفوذ في عرقلة وتعطيل أهم المؤسسات الثورية السياسية التي يُنتظر من الائتلاف إنجازها، وهي «الحكومة الوطنية الانتقالية»، حيث أُعلن عن تشكيل الحكومة الأولى في مارس وتم إلغاؤها في يوليو، ثم شُكلت الحكومة الثانية في نوفمبر من عام 2013م. ولم تستطع أي من الحكومتين القيام بدورها السياسي والخدمي الحقيقي بسبب الصراعات والتناقضات الداخلية، التي أنهكت الائتلاف وتسببت في تعطيله وعزله عن الثورة.

المرحلة الرابعة:

التدخل الدولي واحتمالات تقسيم سوريا

لم يشفع للقوى الثورية المستقلة نجاحها في نوفمبر 2014م في الاجتماع تحت مظلة واحدة هي «مجلس قيادة الثورة» الذي أُعلن عن تشكيله في وقت متأخر جدًّا، لأن تمدد تنظيم الدولة على نصف مساحة سوريا أعطى مبررًا لتدخل الغرب عسكريًّا في سوريا بعد فشلة في توجيه ضربة عسكرية لنظام بشار الذي استفاد أيضًا من قوة الموقف الروسي وتراجع الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، حينها أعطى تنظيم الدولة مبررًا كافيًا للتدخل العسكري الغربي ومن ثم الروسي.

من ناحية أخرى، تؤكد إحصائيات حديثة أن عدد ضحايا الصراع السوري قد اقترب من ربع مليون، كما أن عدد اللاجئين السوريين في دول الجوار وصل إلى ٤٫٢ مليون بحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، هذا بالإضافة إلى نحو ربع مليون لاجئ سوري في أوربا بحسب إحصائيات شهر يوليو 2015م، علاوة على 7.6 مليون نازح داخل سوريا، وبرغم ذلك لم تفلح التدخلات الدولية في إنقاذ الشعب السوري.

1- فشل التحالف الدولي:

بدأ التحالف الدولي المكون من 60 دولة أولى غاراته على الإرهاب مطلع أغسطس 2014م، واستمرت ضربات قوى التحالف على مدار عام كامل، تم خلالها توجيه أكثر من خمسة آلاف ضربة جوية وتدمير آلاف الأهداف، إلا أن ذلك لم يوقف تمدد «داعش» على خريطة الاشتباك في سوريا مما يلقي بظلال من الشك على الهدف الحقيقي من الغارات.

وبرغم هذا العدد الكبير من الضربات العسكرية إلا أن تنظيم داعش قد حافظ على مناطق نفوذه في سوريا، بل ونجح في التمدد إلى مناطق وسط البلاد حين سيطر على مدينة تدمر بعد تراجع قوات النظام السوري، كما أن خسارة التنظيم لبعض المدن لاسيما «كوباني» الكردية في شمال سوريا لم تكن ثمرة الحملة الجوية حصرًا، بل بسبب اقتران الضربات الجوية بالمعارك البرية التي خاضتها قوات كردية.

لذلك كان لفشل التحالف الدولي عدة عوامل كانت كفيلة بإعاقة حملته العسكرية، أهمها:

أ- استحالة التعاون مع القوات الحكومية التي تفتقد للشرعية بالنسبة لمعظم الدول، خاصة أن النظام السوري متهم بالتواطؤ مع تنظيم «داعش» أو في أحسن الأحوال عدم جديته في محاربته.

ب- ضعف وتشرذم المعارضة المسلحة واختلاف أهدافها وتعدد ولاءاتها.

ج- تخوف بعض القوى الإقليمية لاسيما تركيا من التواطؤ والدعم الغربي الصهيوني للأكراد في شمال سوريا بهدف عزل تركيا عن محيطها الإسلامي، الأمر الذي جعلها أقل دعمًا للتحالف الدولي حتى وإن كانت قد شاركت في بعض العمليات العسكرية ضد الإرهاب في سوريا، لذلك كانت متهمة بشيء من التساهل على حدودها الطويلة مع سوريا. د- فشل العمليات العسكرية الجوية كان يحتاج لعمليات برية إلا أن واشنطن كانت قد أبدت وعدة دول غربية عدم نيتها خوض أي معركة برية.

2- التدخل الروسي:

إذا كان التحالف الدولي قد رفض إعطاء أي شرعية لنظام بشار أثناء حربه على الإرهاب في سوريا فإن التدخل العسكري الروسي في سوريا مطلع أكتوبر 2015م جاء أصلًا لدعم وإنقاذ النظام السوري، لكن أغلب التوقعات تشير إلى أن التدخل العسكري الروسي لم يأت إلى سوريا للقضاء على تنظيم «داعش» كما هو معلن، بل من أجل التخلص من فصائل المعارضة السورية التي تشكل خطرًا حقيقيًّا على نظام بشار.

وبعد مرور أكثر من أسبوعين على الضربات الجوية الروسية لأهداف مختلفة في سوريا أظهرت بعض النتائج الأولية أن تركيز تلك الضربات يستهدف مدن وقرى تلبيسة والرستن في ريف اللطمانة في ريف حماة، وهي مناطق لا تخضع لسيطرة «داعش»، كما تبين أن أول ضحايا القصف كانوا من المدنيين، فضلًا عن أن الإعلان الروسي المتكرر لقصف محافظة «إدلب» وحماة يؤكد بما لا يقبل التأويل أن فصائل المعارضة السورية هي المستهدف الأول، بينما يتم استخدام تنظيم «داعش» لتبرير الوجود العسكري الروسي فقط.

في الوقت نفسه، استغل النظام السوري قصف الطيران الروسي لمواقع الثوار وبدا أكثر تحفزًا نحو استعادة بعض المناطق في ريف حماة وسهل الغاب، لكن صمود الثوار حال دون نجاح قوات النظام في إحراز أي تقدم مهم، لكن حتى الآن لم يحقق النظام العلوي أي نجاح يذكر في هذا الشأن، لكن نجاحه الوحيد كان بفضل تنظيم داعش الذي تنازل طوعًا في يونيو 2015م عن بعض القرى في ريف حلب لقوات النظام السوري، ليؤكد تحالف كل الأطراف المحلية والدولية على الثورة السورية.

3- احتمالات تقسيم سوريا:

يبقى احتمال تقسيم سوريا وارد بقوة لأن النظام السوري قد أنجز الجزء الأكبر من المهمة، كما أن التدخلات الدولية ساعدت على ذلك بشكل كبير، خاصة أن مسألة الإعلان عن دولة كردية في الشمال السوري أصبحت قاب قوسين أو أدنى بفعل الدعم الغربي، كما أن سيطرة تنظيم الدولة على نحو نصف الخريطة السورية لم يعد يزعج المجتمع الدولي الذي يقف متفرجًا على التدخل الروسي الساعي إلى تفريق قوى المعارضة السورية فقط دون أي اكتراث لتمدد تنظيم الدولة، والواضح أن الهدف الأهم للتدخل الروسي يكمن في مساعيها القديمة في وضع موطئ قدم في منطقة الشرق الأوسط.

:: مجلة البيان العدد  342 صـفــر 1437هـ، نوفمبر  2015م.

————————-

مقال مترجم من الرابط التالي

https://www.harmoon.org/wp-content/uploads/2020/07/%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7-3%D9%85%D8%AF%D9%82%D9%82-%D9%88%D9%85%D8%B5%D8%AD%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%94%D8%B1%D8%B6-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%83%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D9%84%D8%A7%D9%84-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AF%D9%85%D9%8A%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%86%D8%B7%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D8%AD%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7.pdf

———————

معركة القصير/ ياسين السويحة

٥ حزيران ٢٠١٣

وسط الظروف الحاليّة، بين تشرذم مُعارض سياسي وعسكري وخذلان دولي على شكل منع تسلّح، كان سقوط القصير في أيدي جيش النظام وحلفائه اللبنانيين مسألة وقت، لا أكثر. هذا ﻻ يعني، بطبيعة الأحوال، انتقاصاً من قيمة الصمود المذهل الذي أبداه الثوار طوال هذه الأسابيع أمام جيش مدجّج بالسلاح، يمتلك وحده سلاح الجو ويتفوّق في القوّة المدفعيّة والصاروخيّة بشكل ساحق، مدعوماً من ميليشيا حزب الله المُسلّحة والمُدرّبة بسخاء. بل على العكس: هو تثمين للمقاومة الأسطوريّة بقدر ما هو إدانة لتخاذل المُقصّرين عن دعم مقاومة القصير، وهو كذلك غضبٌ تجاه من انشغل بشجارات كواليسيّة حول محاصصاتٍ سياسيّة وإيديولوجيّة بخسة تستمدّ قيمتها الرخيصة، بطريقة طفيليّة بحتة، من إنجازات الثوار على الأرض!

مع ذلك، ليس غريباً أن نرى النظام وحزب الله يحتفلان بهذا «النصر العظيم»، وليس صدفةً أن تكون القيادة الإيرانيّة أول المهنئين المنضمّين لرقصة المُحتفلين. انتصار القصير هو إنجاز مشترك لمحور إيران-النظام السوري-حزب الله، لكن قيمته السياسيّة الكبرى تقع لصالح إيران، حيث علانيّة اشتراك حزب الله في «الانتصار»، باستخدام وجهه ولغته الأكثر مذهبيّة، تمنحه تذكرة الذهاب إلى جنيف كشريكٍ إقليمي واجب الموافقة على أيّ عمليّة سياسيّة يمكن أن تخرج من اجتماعات المحفل الإقليمي-الدولي. حزب الله مُنتصراً في القصير ليس إﻻ تكليلاً لاستكمال أَقلَمة الصراع في سوريا عبر تطييفه.

قبل يومٍ واحد من «انتصار» القصير، ظهر مقطع فيديو مُسرّب يصوّر اجتماعاً لمسؤولين حكوميين وأمنيين (بينهم محافظ حلب) مع رجال بلدة «نُبّل» في ريف حلب،

ذات الأغلبيّة المذهبيّة الشيعيّة والموصوفة في الإعلام بـ«الموالية» للنظام. في ذلك الاجتماع، يَعد المسؤولون الحكوميّون رجال البلدة بوظائف مستقبليّة في مؤسسات الدولة في حال انضمامهم للميليشيات المُسلّحة الموالية للنظام السوري، كما يعدونهم بحلّ مشكلات البلدة كلّها وتحويلها، عبر تنميتها ودعمها، إلى عاصمة ريف حلب بامتياز، واختلطت هذه الوعود بإطلاق شعاراتٍ دينيّة شيعيّة رافقتها هتافات «بالروح بالدم نفديك يا بشار» المعتادة. يستحق هذا الفيديو وقفة مطوّلة، بغض النظر إن كان قد سُرّب عمداً أم لا، وذلك لكونه مثالاً على الطور الجديد في سلوك النظام وخطابه. ليست الهتافات الشيعيّة بحد ذاتها مسألة تستحق الوقوف عندها، فهي بالنهاية تعبيرٌ عن ثقافةٍ جمعيّة في مجتمع مشدود الوتر يرى أن كلّ خطوط تماسه مع الجوار هي جبهة معركة حياةٍ أو موت، بل إن اللافت للنظر هو طغيان هذه الهتافات خلال لقاء أهلي مع السلطة من طراز اللقاءات التي ﻻ تعبّر فيها المجتمعات الأهليّة في سوريا عن ثقافتها، بل تظهر مدى ولائها للسلطة وعشقها للقائد مقابل الحصول على فتاتٍ من واجبات الدولة يشبه ما يعد به المسؤولون خلال هذا الاجتماع. هنا يُعبّر الجمهور عن «شيعيّته» ليس ﻷنه شيعيّ فخور بذلك، بل كتعبيرٍ عن تماهٍ هو أكثر من الولاء للسلطة الآتية للقائهم: أنتم جماعتنا، ونحن جماعتكم. تُرى هل يمكن ترجمة ذلك على نحو: «سنحارب معكم، وسيموت كثيرٌ منّا من أجلكم، لكن ﻻ تتروكنا إن هُزمتم»؟

في هذا النوع من «اللقاءات» ﻻ تختار المجتمعات الأهليّة مفردات الولاء للسلطة، فهذا امتيازٌ سلطوي يتم إيصاله للمجتمع بطرق ووسائل شتّى، أغلبها غير مباشر.

يُظهر هذا الفيديو أيضاً طوراً جديداً من علاقة النظام بالمسألة الطائفيّة في سوريا، فهي المرّة الأولى التي تظهر فيها الشعارات المذهبية كجزء من طقوس تواصل السلطة مع «مجتمعها» (هناك في اللحظات الأولى للفيديو رجلٌ بقميص أبيض يهزّ قبضته بنفس الصورة البعثيّة الرتيبة التي كان المسؤولون الحزبيون يتحركون بها على وقع شعار «حافظ… أسد… رمز الأمة العربيّة»)، فقبل ذلك كان الفعل الطائفي للسلطة يتم بالمداورة والإيحاء، أو، في حالات قصوى، عبر وكلاء إعلاميين لبنانيين تشكّل اللغة الطائفية جزءاً من حياتهم الاعتياديّة. وعلى عكس الادّعاء الوقح بطهرانيّة لغة النظام من الطائفيّة، لم يكن لدى النظام مشكلة في أن يتماهى في العُرف الشعبي مع الطائفة العلويّة. لم يحدث هذا خلال الثورة فقط، وخلالها سمح بشعارات وﻻفتات تمنح حلفاء النظام ألقاباً من اللغة المجتمعيّة العلويّة (بوعلي «بو تين»، على سبيل المثال)، بل قبل ذلك أيضاً: لماذا، مثلاً، تسامح مقصّ الرقيب مع ربط اللهجات الساحليّة بشخصيّة رجل الأمن أو المُهرّب أو «الشبّيح» في الدراما التلفزيونيّة السوريّة، ﻻ سيما الكوميديّة منها؟ هل كان ضرباً من تطبيع للمسألة؟

فيديو «نُبّل» هو حلقة كبيرة في سلسلة إضافة الرمز الفاقع على ما هو بنيوي في سلوك النظام السوري. بدأ ذلك مع ظهور ميليشيات ﻻ تخفي لونها الطائفي بحجّة «الدفاع عن الأماكن المُقدّسة» في السيّدة زينب بدمشق، ورغم أن إعلام النظام وحلفائه (بما فيه «روسيا اليوم») سوّقت في البداية «وطنيّة» هذه الكتائب بحجّة تنوّع طوائف مقاتليها، إﻻ أن هذه المحاولات مُسحت مع التدفّق الكبير في علنية وجود مُقاتلين غير سوريين، عراقيّين ولبنانيين خصوصاً، وإن ظهرت حالات من جنسيات خليجيّة وآسيوية أيضاً، ﻻ يُمكن تبرير قتالهم في سوريا إلا بالدافع المذهبي، وﻻ يمكن فهم تسامُح وتبرير بعض الأطراف لوجودهم في حين تُركّز بكثافة على وجود «مجاهدين» أجانب في صفوف المناهضين للسلطة، وأتى إعلان الأمين العام لحزب الله عن مشاركة ميليشياته في القتال في سوريا تكريساً لهذه العلنيّة المذهبيّة، ﻻ سيما حين ﻻ يبخل في استدعاء رموز من تاريخ الصراع السُنّي-الشيعي لتبرير دخوله إلى سوريا.

ما يُسمّى «الإنجاز العسكري» للنظام في عقدة استراتيجيّة كالقصير ليس فقط كذلك، بل هو أيضاً، بفضل مُشاركة حزب الله في «اﻻنتصار»، ترسيخٌ لصورة النظام السوري كجزء من حلف إقليمي-طائفي يأخذ الآن شكلاً صريحاً أيضاً بعد أن كان مضموناً مُحافظاً على صورة علنية معيّنة، ككتلة موحّدة: ينتصر، يُهزم، يحارب، يُفاوض. هذه الكتلة الإقليميّة-الطائفيّة تحارب لفرض نفسها كمُفاوض في صراع سُنّي-شيعي شامل يبحث عن رعاية أممية لتسوية ما، وليس نظاماً استبدادياً يواجه شعباً ثائراً وﻻ يجلب لحلفائه وأصدقائه إلا الحرج.

بالإمكان، إزاء هذا المشهد، الدخول في جدل بيزنطي حول تطييف المسألة السوريّة، نقاشٌ قد يدوم 14 قرناً وﻻ ينتهي: الحديث حول مصلحة النظام في تحويل ما يحدث في سوريا إلى صراع طائفي كان لازمةً في تصريحات كلّ الجهات المُعارضة منذ اللحظة الأولى، فهل كان يمكن أن تتفادى الانجرار وراء ما كانت تحذّر منه قولاً؟ إلى أيّ مدى يصحّ لوم اللوامين في تهوّر أهل الثورة تجاه هذه المسألة حين نرى الآن أن حلف النظام الطائفي هو الأكثر تماسكاً والأعلى لهفة لصراعٍ من هذا النمط، على عكس حلفاء الثورة الإقليميين في انقسامهم فيما بينهم والتردد العام في سلوكهم تجاه دعم الثورة. ﻻ رغبة في الدخول في هذا الجدل، ما ﻻ يعني عدم اﻻستياء من كثرة لوّامي الثورة في هذا المجال، خصوصاً وأن جلّهم يتجاهل منجزات «الحركة التصحيحيّة» في وضع الألغام عند خطوط التماس الطائفي في سوريا، منجزاتٍ تُقطف ثمارها اليوم على شكل عناقيد موتٍ للسوريين.

موقع الجمهورية

————————

جنيف في القصير/ ياسين السويحة

٢٩ أيار ٢٠١٣

كما في كلّ منعطفٍ ولحظة مفصليّة مرّت بها الثورة السوريّة، كان الرأي العام السوري، والعالم أجمع، على موعدٍ متجدّد مع علامات مراهقة المعارضة السياسيّة السوريّة واكتفائها بالبؤس، بل وإعجابها بنفسها وهي تجسّده. في الميدان تتلاقى كلّ الخطوط البيانيّة وغير البيانيّة عند معركة القصير؛ وفي السياسة تتداعى القوى الإقليميّة والدوليّة إلى مؤتمر جنيف؛ وفي المناطق الشماليّة المحرّرة تتكاثر مصاعب الحياة اليوميّة لمن تبقى من سكانها، بين عوزٍ كبير في كلّ الاحتياجات الضروريّة وانفلاتٍ مخزٍ لعدد كبير من الكتائب المُسلّحة المُتسابقة على السلب والنهب وإعادة إحياء موبقات النظام وجرائمه… وفي هذه الأثناء تنشغل المعارضة السوريّة بمناقشة توسعة الائتلاف الوطني بطريقة مُخجلة ﻻ تختلف بشيء عن الطرق التي نوقشت بها توسعات المجلس الوطني قبلها. اتهامات متبادلة بالتبعيّة، تهديدات بـ«فضح المستور» تجيب عليها مزايداتٌ وصراخٌ يرفع منسوب الفضيحة إلى درجات أعلى فأعلى.

كيف يمكن أن ننتظر من هؤﻻء موقفاً متماسكاً بالحدّ الأدنى، وهم الذين لم يتفقوا حتى على اﻻمتناع عن رفد إعلام النظام السوري وحلفائه، الشامت والفرح، بأدلّة متجددة باستمرار عن بؤسهم وقلّة أفقهم؟ كيف يمكن أن نشمئز من كلام سيرغي ﻻفروف المقيت عن المعارضة السوريّة، دون أن نتألم ﻷن أول حليفٍ لكلام وزير الخارجيّة الروسي ليس إﻻ سلوك المعارضة السوريّة نفسها؟ أليس استمرار تحمّل هذه المعارضة السياسيّة على أمل تغيّر سلوكهم دليلٌ على «تفاؤل ثوري» أخرق ﻻ يرى الجدران الفولاذيّة المنتصبة أمامه على شكل غرورٍ شخصيّ متفجّر، ومصالح حزبيّة وفئوية رخيصة، وضيق أفق سياسي وأخلاقي كبيرين؟ لماذا تفجّرت الثورة السوريّة إبداعاً في كلّ المجالات، من التعبير الفنّي وحتّى اختراع أنماط مقاومة مسلّحة وغير مسلّحة، مُذهلة في روحها الابتكاريّة، في حين بقيت عقيمة سياسيّاً؟ إنها أسئلة متأخرة دون شك، لكن الإجابة عليها ممرّ إجباري ﻻ مهرب منه.

جنيف اليوم في القصير، حيث يشنّ جيش النظام السوري، مدعوماً بمقاتلي حزب الله، حرباً يريدها قلباً للطاولة فوق رؤوس الجميع. إنها جوهرة تاج الهجمة التي يشنّها منذ أسابيع طويلة في مناطق عدّة من البلاد، وأدّت لتقدّمات عديدة على عدّة محاور، ﻻ سيما في ريفي حلب ودمشق. مقابل ذلك، شحّ في السلاح بسبب الحظر على توريده (مستمرّ حتى أوائل آب المقبل على الأقل، حسب ما أعلنه الاتحاد الأوروبي أمس) وعجزٌ عن التصدّي لتفوّق النظام جوّاً، لكن أيضاً حالة تخبّط ميداني، بين نماذج مقاومة أسطوريّة كتلك التي تقدّم في القصير وبين كتائب متفرّغة بالكامل للنهب والسلب في مناطق محررة تبعد عشرات بل ومئات الكيلومترات عن أقرب نقطة لجيش النظام السوري. بين اتهامات للإخوان المسلمين بتخزين السلاح والامتناع عن إرساله للمناطق المُحتاجة وردودٌ على هذه اﻻتهامات تشبهها كثيراً.. وسط هذا التحالف من العدوانيّة والبؤس، ﻻ يمكن للمرء إﻻ أن يستغرب الملحمة الأسطوريّة المتمثلة بالمقاومة التي ما زالت، رغم كلّ الصعوبات، صامدة.

جنيف اليوم في القصير ليست سوريّة فحسب، فدعوة حسن نصرالله، الأمين العام لحزب الله، خصومه المحليين لتحييد لبنان والذهاب للتعارك معه في سوريا ليست فقط مثالاً يكاد يُبكي في هزليته عن تحوّل سوريا إلى ساحة تصفية حسابات بين خصوم لبنان، الساحة الإقليمية والدولية الأبرز على مدى عقود؛ بل هو أيضاً طريق إيران لفرض نفسها ﻻعباً أساسياً في جنيف، باعتبارها ليست فقط حليفاً استراتيجياً للنظام الفاشيّ في دمشق، بل أيضاً بوصفها أمّ التشكيل الميليشياوي الذي وَجد في معركة القصير فرصة فرض نفسه رقماً في المعادلة السوريّة المليئة بالمجاهيل.

جنيف لن تكون حلّاً، ويستغرب المرء كيف يمكن للبعض أن يُبالغ بالاحتفاء بـ«التفاهم» الروسي-الأمريكي، وكأن الثورة السوريّة إنما قامت بسبب اختلاف الأمريكان والروس. ليست حلّاً، لكنها استحقاق مُهم، على الأقل من جهة تبلور موقف دولي أكثر وضوحاً في سوريا، واستفهام إن كان الغرب فعلاً بات يرجّح إمكانيّة المُسايسة مع بشار الأسد، مباشرةً أو لا، على دعم هُلامٍ غير واضح المعالم على شكل معارضة سياسيّة بائسة ومُتعاركة وقوى مُسلّحة ﻻ مركزيّة بالكامل في قرارها وتسلّحها وإيديولوجيتها ومنطلقاتها. يُضاف إلى المشهد تواجد قوى متطرّفة دينياً، كجبهة النصرة، تنفع كفزّاعة يتقن أصدقاء النظام السوري اللعب بما تسببه من رعب. ما نُشر حتى الآن من بنودٍ تمهيديّة ﻻ يُبشّر حتى بالحد الأدنى من متطلبات السوريين أمام نظامٍ مجرمٍ قاتل، وهل نتأمل من المتعاركين في اسطنبول تغيير هذا الميزان السياسي؟ كيف؟ ربما يُعد ترفاً في غير محلّه أن نأمل –فقط!– أﻻ يتعاركوا فيما بينهم أمام العالم أجمع.

جنيف اليوم في القصير، وأخوات القصير. ليس اليوم فقط: غداً، بعد أسبوع، بعد شهر، أو بعد ستة أشهر أيضاً.

لا نستطيع حلّ مشكلة التمثيل السياسي للمعارضة السوريّة في أسبوعٍ أو شهر، لكننا نحتاج، لو كان فقط كطريقة لـ«فش الخلق»، أن نعبّر عن الغضب تجاه شرذمة تجمعات، بعضُها حقيقيّ ووهميّ أغلبها، ﻻ تستحق شرف تمثيل أسطورة الثورة السوريّة ضد نظام الطاغية الفاشي، وليس قاسياً بتاتاً القول بأنهم عبء على السوريين وثورتهم منذ اللحظات الأولى. ﻻ حلّ سحري للمأزق السياسي اليوم، كما ﻻ حلّ سريع لذلك… وهنا المأساة: الوقت لم يعد يجري لمصلحة الثورة، وعلى السوريين، فوق كلّ ما يعانونه من إجرام النظام وصعوبة الحياة في البلد، أن يضيفوا معارك الهزل المؤتمِر في اسطنبول إلى قائمة همومهم التي ﻻ تنتهي.

موقع الجمهورية

——————————-

«مشهدية القصير»، رسائل إلى الحروب القادمة/ صادق عبد الرحمن

١٨ تشرين الثاني ٢٠١٦

«العرض العسكري في القصير هو رسالة واضحة وصريحة للجميع، ولا تحتاج لتوضيحات وتفسيرات، لأن أي تفسير سيؤدي إلى إنهاء دلالاتها، وعلى كل جهة أن تقرأها كما هي». هذا ما قاله نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله، تعليقاً على العرض العسكري الذي نفّذه الحزب في مدينة القصير السوريّة مؤخراً. ولعله مصيبٌ تماماً في قوله هذا، لأن البحث عن تفسيرات أشياء تفسّر نفسها بنفسها، يؤدي إلى طمس دلالاتها في كثيرٍ من الأحيان.

ومع ذلك، فقد بالَغَت صحافة محور الممانعة في التوضيحات والتفسيرات والتحليلات، وكانت جميعها تقول شيئاً واحداً في نهاية المطاف، وهو أن العرض كان في المقام الأول «رسالةً قويةً لإسرائيل»، ثم لـ «التكفيريين» في سوريا أيضاً. ورغم أن اختيار القصير تحديداً جاء «لأنها تحمل رمزية تتعلق بكونها أولى المناطق التي انطلق منها «حزب الله» للانخراط الواسع في المعركة على أرض سوريا في عام 2013» وفق تعبير «المحرر السياسي» في صحيفة السفير، فإن المُستهدَفَ الأساسي من العرض العسكري يبقى قوة الردع الإسرائيلية وفق تحليله.

لم يعد ثمة معنىً عميقٌ للسجّال مع منظري الممانعة حول مسائل كهذه، خاصةً عندما يأتي السجال على قاعدة القول إن حزب الله لا يشكل تهديداً لإسرائيل أصلاً، لأن السجال سيكون عندها مجرد مناكفة، أو ممانعة معكوسة في عمقها. واقع الحال أن حزب الله يشكل تهديداً لقوة الردع الإسرائيلية، ولهذا استهدفت طائراتُها الحربية مواقعه وأرتاله في سوريا مراراً، ولهذا أيضاً كان من بين أوراق إيران في مفاوضاتها النووية.

ما أعتقدُ أنه يسترعي الاهتمام في تلك «المشهدية»، هو تجديدُها طرحَ أسئلةٍ تتعلق بالهوية والكيانات السياسية في هذه المنطقة من العالم، ولعل هذا من الأشياء القليلة التي قد يكون لمساجلة كُتّاب ومنظري الممانعة فيها فائدةٌ ما، فائدةٌ على صعيد محاولة تصويب النقاش بعيداً عن الشعارات، وفائدةٌ في نقاش الجميع مع الجميع، بين المحاور المختلفة، وفي داخل كل محور.

لندع التفسير والتوضيح جانباً عملاً بنصيحة نعيم قاسم، ولنذهب إلى الدلالات فوراً. عرضٌ عسكريٌ ينفذه حزبٌ لبنانيٌ على أرض سوريّة بعد إفراغها من سكانها، والحزب شيعيٌ بتحالفاته وشعاراته وجميع مقاتليه، والسكان المطرودون سنّيون. وهو العرض العسكري الأضخم في تاريخ هذا الحزب الذي يقاتل منذ نحو 33 عاماً، قضى أغلبَها في قتال إسرائيل، لكن معاركه الأشرس كانت في سوريا، ضد سوريين، ومعهم مقاتلون غير سوريين، جهاديون جاؤوا لنصرة من يصفونهم بـ «أهل السنّة في بلاد الشام».

الدلالة واضحة بصرف النظر عن أي تفسيرات تتعلق بالزمان والمكان والأهداف البعيدة والقريبة، يعرفها منظّرو محور الممانعة كما يعرفها غيرهم، فاستعراض حزب الله الأكبر في تاريخه جاء في وسط سوريا، خارج لبنان وبعيداً عن إسرائيل ومجالها الحيوي، في سياق حربٍ أغلبُ شعاراتها مذهبية، والاصطفافُ الأساسي فيها بات طائفياً ويزداد عمقاً يوماً بعد يوم، تتخللها أعمال تهجير مستمرة، ويحتل فيها الصراع مع إسرائيل موقعاً هامشيّاً جداً، بصرف النظر عن توصيفات «المشهدية المرعبة لإسرائيل»، التي يتم تحميلها للاستعراض العسكري إياه.

ما تقدّمَ ليس تفسيراً ولا تحليلاً، بل هو سردٌ لوقائع لا يملك أحدٌ إنكارها. لم يعد حزب الله حزباً لبنانياً بأي معنىً من المعاني، ولا يستطيع أحدٌ أن يطرح عودته إلى لبنان على طاولة البحث، وهو قادرٌ، عبر فائض قوته داخل لبنان وخارجه -وخارجه قبل داخله- على فرض إرادته على المعادلات السياسية اللبنانية. بل إنه يفرضها دون أن يحوز على أي موقعٍ مميزٍ في المؤسسات الرسميّة اللبنانية، أي أنه يفرض هيمنته على مؤسسات الدولة من خارجها إذا صحَّ القول.

لقد باتت الدول الثلاثة، العراق وسوريا ولبنان، مجرد هياكل فارغةٍ تماماً، لا تستوفي أيٌ منها شروط الدولة. لا تحوز أيٌ منها سيادة كاملةً على رقعة أرضٍ معلومة، والجماعات الفاعلة فيها لا تنحصر فعاليتها على ما يُفترَضُ أنها أرضها فقط، ولا تحتكر أيٌّ منها السلاح والحق الشرعي في ممارسة العنف، وليس لأيٍ منها دستورٌ معتبرٌ نافذٌ على جميع ما يُفترض أنها أراضيها ومن يُفترض أنهم سكانها.

ما سبقَ نتاجُ تطبيق الوقائع على تعريف الدولة، وليس فيه أي تحليلٍ مبنيٍ على رؤية إيديولوجية. هو من الدلالات المباشرة لواقعة الاستعراض العسكري إياه، ولغيرِها من الوقائع المشابهة على امتداد أرض العراق والشام أيضاً، التي يمكن القول إن هذه «المشهدية» تكثيفٌ لها، يحاكي تكثيفاً سابقاً قامت به داعش في العراق وسوريا، وتشاء «الصدفة» أن في «المشهديتين» بعضٌ من عتاد «الشيطان الأكبر».

لكن الدولَ الثلاثة إياها راسخةٌ بهياكلها حتى اللحظة، وهي ستبقى كذلك، ألعوبةً بيد الدلالات «الخفيّة» التي لا يعلنها حزب الله وأشباهه، حتى تتبلور بدائل وطروحاتٌ تُبنى عليها دولٌ جديدة، أو بدائل وطروحاتٌ تبعث الحياة في الهياكل المتداعية. وإذ يبدو أن الخياران بعيدان بسبب الرفض العنيد للاعتراف بـ «الوقائع ودلالاتها» والتوازنات الدولية المتوافقة مع هذا الرفض، فإنه يبقى خيارٌ ثالثٌ فقط على المدى المنظور، وهو خيار أصحاب «الجهاد حتى قيام الساعة».

منذ رفعَ حزب الله رايات أبي عبد الله الحسين على مآذن القصير قبل نحو ثلاثة أعوام، أوقدَ نار حربٍ لا يمكن إطفاؤها بسهولة، وهي غير حرب النظام السوري على خصومه، وإن تقاطعت معها إلى حدٍّ يقترب من التطابق. ثم يعود اليوم لينكأ أحد أعمق جراحها عامداً باستعراضه العسكري في القصير، مؤكداً أنه ليس بصدد إنهائها مطلقاً، وأنه ذاهبٌ فيها إلى نهاياتها، النهايات التي تعتقد إيران أنها قادرةٌ على التحكم بها.

ولكن خلافاً لما يقول به أصحاب «الجهاد حتى القيام الساعة»، فإنه ليس ثمة حرب تستمر إلى الأبد. وخلافاً لما يظنه الناس في عهود السلم، فإنه ليس ثمة سلم يستمر إلى الأبد. والحال هذه، فإن الحرب ستنتهي ذات يوم، وستثقلُ جراحُ القصير وأخواتُها كاهل السلم الذي سيليها، وتزرعُ فيه بذور حروبٍ جديدة. وإذا كان حزب الله وأشباهه على الضفة الأخرى يعرفون هذا جيداً، ولا يهتمون بتجنبه لأن «الجهاد ماضٍ حتى قيام الساعة»، فما الذي يفكّر به أولئك «الوطنيون» الذين لا يهتمون بالدلالات الواضحة التي لا تحتاج تفسيراً، ويقفزون فوقها إلى القول إن إسرائيل ترتعد خوفاً من مدرعات حزب الله، التي لم تدهس جنازيرُها شيئاً سوى تراب القصير، وقلوب أبنائها المبعثرين في جهات الأرض.

موقع الجمهورية

———————

أن تعيش الحرب، شهادة عن القصير

١٩ أيلول ٢٠١٧

ويندي بيرلمان

ترجمة:  سارة ليلى

هذه ترجمة الفصل السادس من كتاب ويندي بيرلمان «عبرنا جسراً وقد اهتز» (We Crossed The Bridge and It Trembled)، الذي يتضمن شهادات نساء ورجال يقدمون مروياتهم في إطار القصة السورية الكبيرة. تُنشر الترجمة بالاتفاق مع كوستم هاوس-ويليام مورو، مِن هاربركولينز للنشر.

أبو فراس، مقاتل (ريف إدلب)

منذ وقت طويل لم أسمع بشخص توفي وفاة طبيعية، في البدء كان يُقتَل في اليوم شخص أو شخصان، ثم ارتفع العدد إلى عشرين، ولاحقاً خمسين، إلى أن بات الأمر عادياً. أصبحنا نشكر الله حين نخسر خمسين فقط!

لم أعد أستطيع النوم بلا أصوات القصف والرصاص، بدونها كأن شيئاً ما ينقصنا. أذكر أنهم قصفوا أحد دكاكين البلدة في عيد الفطر الماضي فَفرَّ الناس، وبعد نصف ساعة عادوا للبيع والشراء وكأن شيئاً لم يكن.

رنا، أُمّ (حلب)

هو كابوس بكل معنى الكلمة، أو فيلم رعب تحول إلى حقيقة. لا يمكن أن أصف شعور الخوف الذي كان ينتابني، كما أصبت بأمراض جسدية بسبب التوتر والضغط، وأعاني حتى اليوم من شتى أمراض الهضم.

كان القصف شتاءً. تحطمت حينها نوافذ المنزل، وبدأت شفاه ابني تزرقُّ من البرد، كان علينا في نهاية المطاف أن نهرب من منزلنا بما علينا من ثياب وحسب. قضينا ثمانية أشهر نتنقل من مكان إلى آخر. أحياناً نجد مكاناً نستأجره وأحياناً لا نجد. كان شيئاً يشبه العطلة، لكنها عطلة تحت القصف! حتى طفلي ذا السنوات الثلاث يستطيع اليوم التفريق بين أنواع القذائف والصواريخ.

مرَّت ستة أشهر لم أرَ فيها عائلتي التي تعيش في الريف، وعندما استطعتُ زيارتهم أخيراً قصفوا مناطقهم أيضاً. نام الأطفال في المدخل مع أننا لم نستطع الإغفاء طوال الليل، فإثرَ كل قذيفة كانت الأبواب تتراقص وتهتز، ويصبح لون السماء بنياً من الغبار والأتربة التي تملأ الجو.

عدنا إلى منزلنا لكن القصف استمرّ. كنتُ أسألُ والدتي عبر الهاتف: «هل قُصفتم أم ليس بعد؟!».

أمين، معالج فيزيائي (حلب)

بعض المناطق في سورية-مخيمات النزوح مثلاً-كانت في أمسِّ الحاجة إلى خبرتي كمعالج فيزيائي. وجدتُ نفسي أعملُ في أحدها لقناعتي حينها أن مهمتي هي مساعدة الناس، لكنْ، بعد ثلاث سنوات من الثورة، أصبحتُ أشعر أن الناس لم تَعُد مهتمة أصلاً. نتوجّه إلى المريض قائلين: «نريد أن نعالجك لتمشي مجدداً»، فيردّ: «لقد انتهيت، كل ما أرغب فيه هو الموت»، أو نقول لطفل مصاب: «عليك أن تشفى لتذهب إلى المدرسة وعليك أن…»، فيردّ: «لا أريد أنْ أُجرَّ بكرسي متحرك من جديد ويسخر مني الأطفال». أحدهم كان مصاباً بشلل الأطفال، وكان كثيراً ما يقول خلال حديثه معي: «عندما كنت طفلاً، كان كذا» وهو ما يزال في العاشرة من العمر فحسب!

عندما كان يموت أحدهم كنا نقول: علينا أن نكمل، علينا أن نستمرّ… لكن ما الذي علينا أن نكمله؟ أمامنا طريق مسدود. رأيت العديد من أصدقائي يموتون أمامي، بعضهم مات في الثورة، والبعض الآخر حين كنتُ ما أزال في الخدمة الإلزامية. جميعهم في ريعان شبابهم. أحدهم كنتُ أتحدث إليه، وكان حلمه الوحيد حينها أن يسمع صوت أمه مجدداً. لم تكن لدينا أي وسيلة للاتصال، ومات قبل أن يحدثها.

شاب آخر اتصل بحبيبته وقال لها: «لم يعد لديّ رصيدٌ كافٍ في هاتفي، سأعاود الاتصال بك من هاتف صديقي أمين». بعد برهة اتصلَت بي تسأل عنه فأخبرتُها أنه قُتِل. بكت كثيراً، ولامني أصدقائي لأنني أبلغتُها الخبر، فأجبت: «ذلك ما حصل بالفعل، لقد مات!».

هذا ما يحصل عندما تفقد إنسانيتك. كنتُ أفتحُ جهات الاتصال المسجلة في هاتفي وأتأمل الأسماء، واحدٌ أو اثنان ما يزالان على قيد الحياة. قيل لنا: «إذا مات أحدهم لا تمسح رقمه، فقط غيّر اسمه إلى «شهيد». فإن وصلتك رسالة من رقمه ستعرف أن أحداً ما أخذ رقمه، ويحاول خداعك والإيقاع بك». قائمة الأسماء في هاتفي عبارة عن: شهيد، شهيد، شهيد…

جلال، مصوّر (حلب)

في الأيام الأولى كنا نصور المظاهرات بالهواتف المحمولة. بعدها أصبح في إمكاننا إحضار كاميرات أكثر تطوراً تعلّمْنا بأنفسنا كيف نستخدمها. وعندما بدأ المصورون من خارج سوريا بالتوافد عملتُ معهم مرافقاً، وراقبتُ كيف يتعاملون مع الصور. وفي عام 2013 أصبحتُ مصوراً مستقلاً أعمل مع وكالات الأخبار.

يملكُ البعض موهبة جيدة بصور المعارك، وآخرون يبرعون في تصوير الحياة اليومية للناس، أما أنا فأحبّ صور الأمل، الأمل الكامن تحت ركام الموت. مثلاً التقطت عدستي صورة عربة برتقال يجرها صاحبها ليلاً، كانت الخلفية بناءً منهاراً بالكامل، وضوء خافت على البرتقال أًظْهره نظيفاً يلمع. لا شك أن ذلك البائع كان شاهداً على موت كثيرين، ورغم ذلك كان يقف خلف عربته يبيع فاكهته اللذيذة. عندما ترى تلك الصورة تقول: «هذه هي الحياة».

بالنسبة لي، أستطيع أن أتفهم أي شيء يمكن أن يفعله هؤلاء الناس، فالنظام كان يفتك بنا قائلاً إنه يقاتل وحوشاً، حتى أصبحنا وحوشاً حقاً. تفكَّكَ المجتمع السوري لأن العائلات تفرّقت. اجمع أي عائلة الآن على طاولة واحدة، وستجد حتماً أربعة أو خمسة كراسٍ فارغة.

التقطت مرةً صورةً لبرميل قتل ثلاثة أطفال، كنتُ أصوّرُ أباهم المفجوع وهو يردد: «تركتهم ساعة واحدة فقط أبحث لهم عن مكان آمن، ورجعت فوجدتهم قد راحوا!».

عندي أربعة أطفال، وضمان مستقبلهم هو كل همي في الحياة. لذا أستطيعُ أن أشعر بما يحسّه هذا الرجل الذي ودّع لتوِّه كل معنىً لحياته، ومن ثَمَّ فإني أستطيع تفهُّمَه لو تحوّل إلى وحش.

في النهاية، حتى الوحش يملك أملاً في أن يعودَ إلى إنسانيته مرة أخرى، ويعيشَ كغيره من البشر.

كريم، طبيب (حمص)

غرفة العمليات مشغولة على مدار الساعة، وكان علينا أَنْ نأخذَ صورة أشعةٍ لكلِّ عملية. صحيح أن الصورة تأخذ جزءً من الثّانية لكننا كنا نأخذ كثيراً منها، وحين أحصينا تبيّن أننا نتعرض للإشعاع عشرين دقيقة في الأسبوع تقريباً. في إحدى المرات جاء شاب مصاب برصاصة قناص، وكان في حاجة إلى أحد جراحي الأوعية ليجري له العملية، لكن أياً منهم لم يستطع الوصول إلى المستشفى بسبب الحصار، فاضطررنا إلى إجراء العملية بناء على تعليمات أحدهم عبر الهاتف.

في إحدى الليالي التي قضيتُها في المستشفى استيقظت على صوت إطلاق نار كثيف. كان يوم أحد، وكان النظام يحتل المنطقة ويقصف حيَّ بابا عمرو.

كنا سبعة أشخاص. هربنا واختبأنا في القبو. كنا نسمع أصوات الدبابات تقترب، كما سمعنا مجموعة من العناصر تقتحم المستشفى. بدأوا بإطلاق الرصاص وحطموا الزجاج. شعرنا لوهلة أنه قضي علينا، فالنظام ينظر إلى الأطباء على أنهم شركاء المسلحين. حتى لو عالجتَ أخاً لأحد المتظاهرين فكلاكما سيُعاقَب.

انتظرنا في القبو كالأضحية التي تنتظر ذبحها إلى أن خطرت لنا فكرة. أحدنا كان يملك ما يكفي من الشجاعة لينادي: «أين أنتم؟ نحن هنا في الأسفل». أردنا من ذلك أن نريهم أننا مجرد مدنيين لا علاقة لنا بالاقتتال الحاصل، فنادَونا. كانوا ثمانية مدججين بالسلاح، قائدهم كان شبيحاً يضع صفاً من السكاكين حول حزامه، وتحدَّثَ معنا باللهجة العلوية. أما الباقون فكانوا مجردَ فتيةٍ مجندين في الجيش، لا يعرفون لماذا هم هنا، وما الذي يفعلونه!

أمرَنا الشبيح بالعودة إلى القبو مجدداً، وظننا أنه سيلقي قنبلة ويقضي علينا، لكنّ المفاجأة أنهم ذهبوا وعاد المستشفى هادئاً. بعد نصف ساعة جاءت مجموعة أخرى وقاموا أيضاً بفتح النار وتحطيم ما استطاعوا من الأشياء. جرّبنا الخطة نفسها، ونجحت من جديد، أمرونا أيضاً بالبقاء داخل القبو. انتظرنا نزولهم لقتلنا لكنهم لم يفعلوا.

تسرّبت رائحة حريق قوية إلى القبو حيث نحن حتى شعرتُ أنني سأختنق، فصعدتُ إلى الأعلى، ووجدتُ أنهم اقتحموا مكتب الإدارة وسرقوا كل ما وجدوه من نقود، وذلك -على الأرجح- هو ما دفعهم إلى نسيان أمرنا، أما الحريق فقاموا به ليخفوا سرقتهم.

حاولنا إخماد الحريق لكننا لم نستطع التنفس بسبب الدخان، ولم يكن بإمكاننا الخروج من الباب الأمامي لأن مصيرنا عندها سيكون القتل حتماً لوجود دبابة عند المدخل الرئيسي للمستشفى.

لم يبقَ أمامنا سوى محاولة تسلق السُّور الخلفي واللجوء إلى أحد الأبنية السكنية في الجهة المقابلة. قمنا بذلك فعلاً، حتى أن ممرضة تزن أكثر من تسعين كيلو، كان رعبها كفيلاً بأن يحملها فوق السور! كان الجيش قد داهم المبنى السكنيّ وغادر لتوه، ولو كنا قد تسلقنا إليه قبل دقائق قليلة لقُضيَ علينا.

أمضينا سبعة أيام عند الجيران في الظلام دون كهرباء، نأكل الرز والخبز المتعفن. وكان قد بقي مريضان في المستشفى، واحدة في العناية المشددة تتنفس عن طريق جهاز تنفس صناعي، وبقيت معها ممرضة وأحد حراس المستشفى، وعندما نفد الأوكسجين توفيت وانضم إلينا الحارس والممرضة. أما المريض الثاني فكان مصاباً بطلقة في الفص الأمامي للدماغ. بقي في المستشفى برفقة ابنه ذي الأحد عشر عاماً تقريباً. كان الصبي يخرج ليلاً يطرق الأبواب ليطلب المساعدة ثم يعود إلى والده. في اليوم الثالث دخل الجيش المستشفى وقتلهما معاً. رأيناهم وهم يخرجون جثتيهما.

أول مرة استخدم فيها جيش النظام صواريخ الأرض-أرض والراجمات والطيران كانت في الهجوم على حيّ بابا عمرو. المجتمع الدولي لم يقل شيئاً حيال الأمر، فاستمرّ في استخدامها.

في نهاية المطاف أعلنوا عن اتفاق يسمح للمدنيين بالخروج. لم أسمع به حينها لأنني كنت أعيش صدمة دامت خمسة أيام، فكرتُ كثيراً: «ما الذي حصل؟ كيف نجوت؟ لماذا لم أمت؟».

عدتُ إلى منزلي فوجدته غارقاً بالمياه والديزل. ووجدت قطة شارع فيه. عرفتُ أن الجيش قد أقام هنا فسرق معظم الأثاث وأتلف ما لم يسرقه. انتهكوا حرمة المنزل، خصوصياتي وخصوصيات زوجتي، وكتبوا على الحائط: «هي هية الحرية»1.

1. عبارة باللهجة السورية، يستخدمها الشبيحة عند ارتكاب جرائمهم للسخرية من المطالبين بالحرية (المترجمة).

تخيل أن ترى حيّك كمدينة هيروشيما، دمارٌ في كل مكان، أبنيةٌ سوّيت بكاملها بالأرض، هدوء غريب كأنك في مسرح، لا شيء يكسر الصمت سوى صوت الطيور.

هبة، طالبة سابقاً (القلمون)

كنتُ أدرسُ الصيدلة في دمشق. تأزَّمَ الوضع في منطقتنا وأصبح الوصول إلى الجامعة مسألة صعبة بسبب حواجز التفتيش، لذا أجلّتُ الفصل الدراسي وعدتُ مع عائلتي إلى منزلنا في القلمون.

كان والدي يعمل في مجلس إدارة إحدى الجمعيات الخيرية، وانضممتُ إلى العمل فيها لمساعدة من فرّوا من مختلف المناطق السورية المشتعلة واعتبرناهم ضيوفاً لدينا. قمنا ببعض النشاطات أيضاً. كان الأطفال يضجرون بسبب عدم قدرتهم على اللعب في الخارج، فعملنا على إقامة عرض موسيقي راقص لهم.

بسبب قرب القلمون من الحدود اللبنانية كانت المعارك تنشب من وقت إلى آخر. عادة ما كانت تتبع القصفَ غاراتٌ جوية وبعدها يعود كل شيء طبيعياً، لكن في أحد أيام شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2013 بدأت الغارات الجوية واستمرت خمسة وعشرين يوماً، كانت تلك معركة القلمون.

اختبأنا في القبو لكن والدي وأخي رفضا البقاء معنا. قضيا أياماً يعملان في الجمعية إذ كان المصابون يُنقلون إليها. في أحد الأيام جاء والدي إلى المنزل وكان واضحاً أنه يخفي أمراً، قبل أن يخبرنا أخيراً أن أخي استشهد برصاصة في عنقه. كان قد بقي على قيد الحياة لمدة لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء له، لعدم توافر الأدوات الكفيلة بإنقاذه. لاحقاً حاولوا نقله إلى المقبرة لدفنه لكنهم عادوا به لأن إطلاق النار كان شديداً.

ساءت حالة والدتي النفسية بعد الحادثة، فألحَّ والدي علينا بالعودة إلى دمشق لترتاح قليلاً، أما هو فرفض أن يترك بلدته، فضلاً عن أعمال بقيت له فيها.

ذهبتُ أنا وأمي وبقي هو. بعدها سيطر النظام على المنطقة وبدأ بحملات اعتقال، واستهدفوا أعضاء مجلس إدارة الجمعية للاشتباه في تعاونهم مع الجيش الحر.

في أحد الأيام اتصلنا بأبي مساءً لكن هاتفه كان مغلقاً. عاودنا الاتصال مرات ومرات دون فائدة. بعد خمسة عشر يوماً تلقينا رسالة هاتفية من رقمه تقول: «لقد هربتُ بعيداً»، هرب بعيداً!؟ أوجست خيفة فأرسلت له: «اتصل بنا على رقم زوجتك». كان والدي يحفظ رقم هاتف والدتي دون أن يسجله في هاتفه. انتظرنا ليتصل على رقم والدتي لكنه لم يفعل، فعرفنا أنه ليس من أرسل تلك الرسالة.

سألنا عنه في الأفرع الأمنية، وتواصلنا مع كل معارفنا، ودفعنا كل ما طلبوه في سبيل معرفة مكانه، إلا أننا لم نأخذ سوى وعود من قبيل: «في الشهر القادم» أو «راجعونا بعد فترة».

مضت شهور قبل أن نتلقى اتصالاً مفاجئاً من رجل يقول إنه خرج من السجن مؤخراً وإنه كان مع والدي فيه. قال لنا: «لقد خسر بعض الوزن لكنه قوي وهمه الوحيد هو أنتم، وليس قلقاً إلّا عليكم». سألتُه إن كان ثمة طريقة لإرسال رسالة له، أردتُ أن أخبره فيها أننا بخير وأنني رزقتُ بطفلة، وأن أختي تزوجت، ردّ الرجل أنه سيحاول أن يجد سبيلاً لذلك.

يمكن مع الوقت أن تعتادي على حقيقة وفاة أخيك. أقول لنفسي: هذا حال الجميع في بلدي، لسنا وحدنا من يعيش هذه المأساة، إنه القدر الذي كتبه الله علينا. لكن الأقسى هو الشعور بأن والدي ينتظر منا أن نفعل شيئاً لإخراجه. ألوم نفسي. صحيح أني فعلت كل ما في وسعي، لكن ربما هناك -بطريقة أو بأخرى- ما يمكن فعله أكثر.

قد يُنسيكِ روتين الحياة اليومية لوهلة، لكن شيئاً تافهاً قد يحدث فيذكركِ بكل شيء مجدداً. هذا ما حدث في السنة الماضية، مثلاً، حين هبت عاصفتان ثلجيتان. تغطيت بلحافين، وأول ما خطر في بالي حينها: «يا إلهي، كيف سيتدفأ والدي الآن؟».

أسامة، طالب (القصير)

أول مرة دخل فيها الجيش إلى مدينة القصير اعتقلوا الكثيرين، وضربوا العديدين في الشوارع. وفي المرة الثانية والثالثة أطلقوا النار على الناس مباشرة. بعد ذلك بدأ الشباب بحمل السلاح. أصبحت القصير مدينة خطرة جداً. كانت تحت القصف كباقي المدن. اتخذ أحد قناصي النظام من مبنى عالٍ مطلٍ على الشارع الرئيسي مكاناً له، وبدأ بقنص المارّة. كان أبي يملك حافلة، وكان يقطع ذلك الشارع بالناس كي لا يتأذوا، فأصبح مطلوباً لدى النظام وبعدها اعتقلوه.

بدأ الناس بشراء السلاح، وكبرت المجموعات المسلحة. كنتُ أمضي كل وقتي خارج المنزل وأطرح كثيراً من الأسئلة. كنتُ لا أزال في الصف التاسع، وخافت أسرتي على سلامتي. في أحد الأيام أخبرتني والدتي أنه علينا الذهاب إلى الأردن لزيارة جدي، لأنه مريض، وسنعود بعدها إلى القصير. غضبت جداً حين اكتشفت أنهم خدعوني، لأننا ذهبنا إلى الأردن ولم نعد أبداً.

في ذلك الوقت كان حزب الله اللبناني يدخل سوريا لمساعدة النظام. ولأن القصير تقع على الحدود اللبنانية، كانت طريقهم الوحيد للعبور. بدأ الجيش الحر باستهداف عناصر حزب الله، وأخذ النظام بقصف المدينة غير آبه بما يقتله من مدنيين، كان همه الأول أن يسيطر عليها ليستطيع حلفاؤه العبور بأمان. وقامت قوات حزب الله وإيران وروسيا بتطويق المدينة بالكامل.

صمد أهل القصير ثلاثة أشهر، برأيي كان صمودهم كل تلك المدة أمراً بطولياً. أصبحت المدينة معروفة في كل العالم، وكنا نسمع في الأخبار عبارات «القصير الجريحة، المدينة دُمِرت…». وبدأ الناس خارج سوريا بإرسال التبرعات، لكن بعض قادة الكتائب في الجيش الحر كانوا يستولون عليها لأنفسهم. يأخذون التبرعات لجيوبهم بينما الشباب يقدمون أرواحهم. لم أستطع أن أفهم لمَ كل تلك الرغبة في جمع المال بينما قد يموتون في أي لحظة؟!

بقي الجيش يصبُّ تركيزه على القصير إلى أن سيطر عليها، ويعتقد كثيرون أن تلك كانت نقطة تحول في الثورة. دخل حزب الله المدينة بينما خرج كل سكانها، عدا أولئك الفقراء الذين لم تتوافر لديهم وسيلة للخروج. ولأنها مدينتي شعرتُ حينها أن الثورة فشلت. تلاشت آمالي، وتوقفتُ عن سماع الأخبار ومتابعة الأحداث. لم أشعر أنني أصبحت لاجئاً بالفعل إلا عندما سقطت مدينتي، القصير.

رامي، خريج جامعي (مخيم اليرموك)

كبرتُ في مخيم اليرموك للاجئين. كان مكاناً مميزاً كعاصمة للشتات الفلسطيني. كان يُسمّى مخيماً لكنه أبعد ما يكون عن ذلك، فهو منطقة متمدنة جنوب دمشق.

البلدات المحيطة بالمخيم كانت قد دخلت دوامة المعارك، فكان الناس يلجؤون منها إلى المخيم. كان ثمةَ شبه اتفاق بين الجماعات المسلحة يُبقي المخيم منطقة محايدة.

لاحقاً، في يوليو/ تموز عام 2012، تم تفجير مقرّ المخابرات السورية في دمشق في عملية عُرفت بتفجير خلية الأزمة. قتل في العملية وزيران واضطربت كل الأجهزة الأمنية. هنا دخلت الحياة في دمشق مرحلة جديدة. سحب النظام حينها قوات من الساحل ونشرها على حواجز أمنية أقيمت داخل العاصمة وخارجها.

في الوقت الذي استمرت فيه المعارك الدائرة حول مخيم اليرموك بالاشتداد، استطاعت الجماعات المسلحة طرد قوات الأمن من بعض مناطق ريف دمشق. لكن النظام أحاط بهم وحاصرهم فاحتاجوا إلى الإمدادات، ولأسباب لوجستية كان المخيم منفذهم الوحيد. بعدها تم تسليح فصائل فلسطينية، بالاتفاق مع النظام، لمنع المجموعات المسلحة من الدخول إلى المخيم. ولذا صارت المجموعات المسلحة المعارضة ترى أن تلك الفصائل تدافع عن الأسد. حدثت اشتباكات واستطاع بعض مسلحي المعارضة الدخول إلى المخيم والتجول فيه وتصوير فيديوهات عبر هواتفهم يقولون فيها إنهم حرروه.

في ذلك اليوم، وبشكل مفاجئ، بدأ قصفٌ بمختلف الأسلحة استهدفَ مسجداً وإحدى المدارس. كانت أصوات القصف والضحايا مرعبة. هنا أدرك السكان أنهم سقطوا في أتون الحرب الدائرة. كانت هناك صدمة وذعر وخوف. وفي الساعات الأولى من صباح اليوم التالي بدأت موجة نزوح جماعي. معظم المئة وخمسين ألف فلسطيني الذين كانوا يعيشون في المخيم حملوا حقائبهم ورحلوا، وكنتُ واحداً منهم.

كانت تلك نهاية المخيم كما كنا نعهده. «النكبة الثانية»، هكذا أطلق الناس على تلك المرحلة، نكبة اليرموك. بقي في المخيم حوالي عشرين ألفاً كانوا طبعاً من الأكثر ضعفاً.

استمر القصف أسبوعين، لو حاولت فيهما المغادرة سيقتلك رصاص قناصي النظام. تمت محاصرة المخيم بالتدريج إلى أن حوصر بالكامل، وأغلق المدخل الرئيسي بأكياس الرمل والإسمنت. كان عقاباً جماعياً وكأن النظام يقول لنا: «هذا جزاؤكم لأنكم سمحتم للمسلحين بدخول المخيم». وعندما لم يبقَ للمجموعات المسلحة في المخيم من يقاتلونه، بدأوا بالاقتتال فيما بينهم.

أم ناجي، أُمّ (مخيم اليرموك)

كان علينا أن نغادر المخيم في البداية، عندما لم يكن الحصار قد أُحكِمَ بعد، لكننا لم نتوقع أن نصبح محاصرين بالكامل. في البدء كان الحاجز الأمني يغلق المنطقة يوماً ويفتحها في اليوم التالي. لاحقاً أغلق المنطقة نهائياً، فعلِق جميع من كان داخل المخيم، ومن كان خارجه لم يعد يستطيع الدخول مجدداً.

تسعة أشهر عشتها تحت الحصار. كان لدينا طعام مخزن في المنزل لكنه نفد مع مرور الأيام. المسلحون وعناصر النظام داهموا المحلات، ولم يتبقَ شيءٌ للمدنيين. لدينا المال لكن ليس هناك ما يمكن أن نشتريه. جمع زوجي العشب وأوراق الشجر لنقليها بزيت الزيتون. وفي وقت لاحق، لم نعد نجد حتى العشب.

نقصت أوزان أطفالي الأربعة، وأصبحوا يتمددون على الأرض من الوهن، ليست لديهم طاقة حتى للكلام. كانوا يموتون من الجوع أمامي دون أن أستطيع فعل شيء.

استخدم عمي كل صِلاته لإخراجنا. حاول كثيراً حتى استطاع أخذ موافقات من عدة فروع مخابرات لأتمكن من المرور مع أطفالي من الحاجز، أمّا زوجي فكان عليه أن يبقى. وصلتُ إلى الحاجز الأمني فرفضوا إخراجنا في البداية، وبعد أن انتظرنا يوماً كاملاً سمحوا لنا بالخروج.

يوسف، طالب سابق (ريف الحسكة)

اعتقلتُ في سنتي الثانية في كلية الطب. أمضيتُ في السجن خمسة شهور. وحين دخلَت داعش البلدة كنت لا أزال في المنزل أستعيد قواي.

منطقتنا في شرق سوريا ذات أهمية بالغة، وداعش تعي قيمتها تماماً، فالنفط السوري يقع هناك. سيطروا على قريتنا ثم زحفوا نحو دير الزور حيث يقع أكبر مخزون للنفط، بدعم طيران النظام الذي كان يقصف مسلحي الجيش الحر والمدنيين بدلاً من قصف داعش. الآن سيطرت داعش على النفط وعلى الأسلحة وعلى القمح، أصبح لديها كل شيء في المنطقة.

ليسوا عملاء كما يصفهم البعض. داعش أناس طبيعيون. هم تنظيم مثل أي تنظيم آخر. كان العديد من الرجال مستعدين لمحاربتهم، والنساء أيضاً. كنا نستطيع القضاء عليهم لكن لم يكن لدينا سلاح كاف. لم يدعمنا أحد. بل على العكس بدأ التحالف الدولي بقيادة أميركا بقصفنا. قبل شهرين قتل طيران التحالف سبعة وعشرين شخصاً كانوا ينتظرون دورهم لشراء الخبز.

الضربات الجوية دمرت البلد. الطيران ألحق الضرر الأكبر، وداعش لا تمتلك طيراناً.

حَكَم، مهندس وصيدلي (دير الزور)

كان الجيش الحر قد سيطر على منطقتنا في دير الزور، لكن كل المستشفيات كانت في الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام. لذا حوّل العديد من أصدقائي منازلهم إلى مستشفيات ميدانية، ولأنني صيدلي تطوعت معهم. في إحدى المرات كنت أساعد في إجراء عملية لشابٍ مصاب بطلقةٍ قرب قلبه، وكان علينا انتزاعها على ضوء هواتفنا النقالة لأن الكهرباء كانت مقطوعة. أما الطبيب الذي أجرى العملية فقد كان بيطرياً!

عندما كان الجيش الحر وجبهة النصرة يسيطران على منطقتنا كان الناس يشتكون من الفوضى وانعدام الأمن. ادّعت داعش أنها ستنشر الأمن ولن تسمح لأحد بخرق القانون. دخلوا منطقتنا بالأسلحة الثقيلة وسيارات الهامر والدبابات، كانوا أقوياء كدولة حقيقية. لم يكن لدى الجيش الحر وجبهة النصرة السلاح الكافي لمواجهتهم، فهرب معظم عناصرهم.

عشت سنة ونصف السنة تحت حكم داعش. أجبرونا على الخروج لرؤيتهم وهم يقطعون رؤوس الناس. كان الأمر مرعباً للأطفال في البداية، لكنهم اعتادوه مع مرور الوقت. أصبحت رؤية الجثث معلقة في الميادين الرئيسية، أو رؤية جثة بلا رأس معلقة على الشجرة، أمراً عادياً. كانوا يبقون الجثة في الطريق ليومين أو لثلاثة ثم يلقونها بعيداً في مكان ما. سيطرت داعش على مصافي النفط، وبات واضحاً أنه أصبح ملكهم. فرضوا الضرائب، ورغم فقر الكثيرين إلا أنهم كانوا مضطرين إلى دفعها ليسلموا من العقاب.

كنتُ في دير الزور حين بدأت الهجمات الروسية وهجمات التحالف الدولي. أستطيعُ أن أعطيكِ قائمة بأسماء من قتلوا حينها، لسببٍ ما قمت بتدوين أسمائهم جميعاً.

تاليا، مراسلة تلفزيون (حلب)

«معبر الموت»، هكذا كان يسمى المعبر الفاصل بين أحياء حلب المحررة والأحياء الخاضعة لسيطرة النظام. كان شارعاً يطلّ عليه أربعة قناصين تابعين للنظام يقتلون الناس عشوائياً. كان يعبر من ذلك الشارع يومياً خمسة عشر ألف شخص، يُقتَل منهم عشرون.

كنتُ أعيش في الجزء المحرر من حلب، وكانت ابنتي في حاجة إلى مراجعة طبيب عيون، لذا كان علينا الذهاب إلى المنطقة الخاضعة للنظام. كان إطلاق الرصاص يزداد قبيل إغلاق المعبر في الساعة الرابعة. وصلتُ مع ابنتي إلى المعبر حوالي الثالثة وخمس وأربعين دقيقة. بدأت مجموعة منا بالعبور، وحين أخذوا بإطلاق الرصاص انبطحنا جميعاً، وضممنا بعضنا أنا وابنتي. الرجل الذي كان بجانبنا لم ينهض لأنه أُصيب، فبدأت بالبكاء وبدأت ابنتي بتلاوة القرآن. استغرق عبورنا إلى الجهة الأخرى نصف ساعة.

وقتها كان زوجي في تركيا وكنت مسؤولة عن والدتي وأطفالي. لم تكن لدينا كهرباء بشكل دائم، كنا ننتظر دورنا فيها فقط لنشعل الضوء أو التلفاز، كما لم يكن هناك ماء فحفر الناس الآبار وكانوا يملؤون الماء في عبوات يومياً، وكأن كل الحي أصبح عائلة واحدة. لم تكن لدينا وسائل تدفئة فكنا نحرق نوعاً من الوقود كان يستخدم في وسائل النقل القديمة. كانت رائحته كريهة سبّبت لابني الربو، إلى جانب دخان القذائف وحرق الحاويات.

أتذكر أول مرة ألقوا فيها برميلاً متفجراً. اهتزَّ المنزل وتحطمت كل نوافذه. نزل البرميل بالقرب من مدرسة ابنتي. تركتُ ابني عند الجيران وركضتُ لأحضرها. كنتُ أشعرُ أنها أطول مسافة قطعتها في حياتي. في تلك الأثناء خطرت في رأسي كل الاحتمالات، ربما سأراها ميتة أو أجدها وقد أصبحت قطعاً مبعثرة، أو ربما ستكون تحت الركام والأنقاض. عندما وصلتُ ووجدتها سليمة قررتُ ألا أرسلها إلى المدرسة مجدداً. بعد تلك الحادثة بأسبوعين فقط قُصِفَت مدرستها، وقتل ستة عشر طفلاً.

مرسيل، ناشطة (حلب)

نشأت في عائلة من الطبقة الوسطى، وحين انتقلت إلى الأحياء المحررة من حلب اكتشفت وجود عائلات فقيرة في سورية. كنتُ امرأة غير محجبة تعيش وحدها، في منطقة لا توجد فيها أي امرأة دون حجاب أو تعيش وحدها. كان الناس يتساءلون: «ماذا تفعل هذه هنا؟ لماذا لا تذهب إلى أوروبا حيث يذهب الجميع».

كانت سنة التحديات في حياتي. كنتُ أعتقدُ أنني سأموت، لأن ذلك ما يعنيه الانتقال للعيش في هذه المناطق. تقبُّل فكرة الموت يغيّركِ كثيراً ويؤثر على طريقة تفكيرك وخياراتك. تسألين نفسك دائماً إن كانت لديك القدرة على القتل، ودائماً تقابلين أناساً يسألون أنفسهم السؤال ذاته. الأمهات مثلاً يقلن: «إذا اقتربوا من طفلي، فسوف أفعل».

جربنا العيش تحت القصف ومشاهدة أشلاء الموتى متناثرة. ليس على الناس مشاهدة كل ذلك الموت. برميل متفجر واحد كفيل بإسقاط مبنى بأكمله كعلبة كرتون. تقابلين أناساً خسروا كل شيء ولم يتبق لهم أي شيء ليبدؤوا من جديد، وهنا يصيبكِ الشعور بالذنب. تسألين نفسك: «هل كان علينا أن نقوم بالثورة بطريقة أخرى؟ أو هل كان علينا القيام بها من الأساس؟».

كانت سنة قاسية جداً، خاصة فيما يتعلق بقضايا المرأة. فلم يقتصر الأمر على الخروج لساعتين في مظاهرة، بل أصبح أسلوب حياة كامل؛ كأنْ أتشاجر مع أصدقائي حين يطلبون مني عدم الخروج إلى الشارع وحدي، ولأني مناصرة لحقوق المرأة كنتُ أردّ: «بالله عليك هل أنا بحاجة إلى من يرافقني لشراء كيلو من البطاطا؟»، فيقولون: «نحن في حالة حرب»، وكنتُ أجيب: «لا، إنها ثورة وليست حرباً».

حين كانت المجموعات المسلحة تدعو إلى اجتماع ثوري كنتُ المرأة الوحيدة التي تحضر، وسط ذهولهم. كان لسان حالهم يقول: «حين قلنا اجتماع ثوار لم نكن نتوقع أن تحضر هذه»، وأود لو أجيب: «نحن سواسية وعلينا التحدث معاً».

ظهرت داعش، وفي البداية لم يكن أحد يعلم ماهيّة هذا التنظيم. أول ما جعلني أُدرك وجود مشكلة كان حين جمع مقاتل أردني الأطفال في الشارع وعرض دولاراً على كل من يرميني بحجر، لأنني لا أرتدي الحجاب وأمشي مع رجال ليسوا من محارمي. في تلك الفترة لم يكن ثمة الكثير من أمثاله، ولم تكن لديهم السلطة الكافية لاعتقالي فوراً.

لم يقم أيُّ طفل بما طلبه الرجل، لكن والدَي أحد الأطفال جاءا إلى منزلي وأخبراني بما جرى. قال لي الأب: لا أريد أن تخافي، ولكن هذا ما حدث. نحن واثقون من أن أبناءنا لن يقوموا بهذا أبداً، لكن ماذا عن الآخرين. الوضع لم يعد آمناً.

غيّرتُ، أنا وأصدقائي، المنزل مرات عدة. أصبح الأمر شبه روتين دائم. تنقلت بين المنازل عشرات المرات، لا أكاد أستقرّ في منزل حتى أعود لتوضيب حقائبي وأهرب، بل يحدث أحياناً ألّا أستطيع توضيب الحقائب، كنتُ أهرب من المنزل تاركةً أغراضي.

مرة أخرى أوقفني أحد رجال داعش في الشارع وقال لي مستنكراً: «لا يمكنكِ أن تلبسي هكذا هنا». كان ما قاله مضحكاً بالنسبة لي لأنه كان بلجيكياً، قطع كل تلك المسافة ليعلمني ما عليّ ارتداؤه هنا في بلدي. وأكمل قائلاً: «هذه دولة الإسلام»، فرددت عليه: «لا، إنها سوريا».

بدأ الحديث يحتدّ وبدأتُ بالصراخ، فتدخل مقاتلو الجيش الحر وقالوا له: «ماذا تريد من ابنتنا؟»، وانتهى الأمر إثر تدخلهم.

بعدها أوقفوني مرة ثانية، وفي الثالثة لاحقوني بسيارات الفان. في تلك الفترة كانت داعش قد اختطفت ستة من أصدقائي وكانوا سيختطفونني أيضاً، ولو انتظرت حدوث ذلك فلن تكون تلك شجاعةً بل مجرد غباء، ففكرت أن أغادر البلد مدة وأرى ماذا سيحدث. وذلك ما حصل فعلاً. ذهبتُ الى تركيا، وكنت أبكي كالطفلة حينها.

حنين، خريجة جامعية (داريا)

عشتُ أول مجزرة في رمضان. كنتُ حينها في منزل شقيقتي، وكانت العودة إلى المنزل خطيرة جداً بسبب انتشار القناصة على الأبنية. كان أحدهم قرب منزلنا، لذا فإن أي أحد يمرّ مُعرّضٌ للقتل.

مضت الأيام وقررنا الرجوع إلى المنزل عن طريق الحارات الضيقة كي لا يرانا القنّاص. مشينا بمحاذاة الجدران مسرعين ننتقل من حائط إلى آخر، وحين وصلنا كانت الصواريخ والقذائف قد بدأت بالانهمار. كان علينا البحث عن مكان آمن لنختبئ فيه، فخرجنا مجدداً إلى ملجأ تحت الأرض. كان من السهل على القناص رؤيتنا في حال كنا مجموعة، لذا عَبَرَ كلٌّ منا على حدة.

كان المكان الذي لجأنا إليه قبواً له شبابيك صغيرة على مستوى الشارع، فتمكنا من رؤية قوات الأمن حين أتوا تتبعهم الدبابات. من داخل القبو كنا نسمع صراخ الناس. وبطريقة ما وصلتنا أخبار يتناقلونها، مفادها أنهم قبضوا على أناس كانوا مختبئين تحت الأرض مثلنا.

أُصبنا بذعر شديد وقلنا لأنفسنا: ما هو مقدّر لنا سيحصل، لكن الموت فوق الأرض أفضل من الموت تحتها. فانتظرنا حلول الليل ثم خرجنا هاربين مجدداً إلى المنزل بأسرع ما يمكن. في البيت كان كل الطعام قد فسد بسبب الحرارة، كنا في فصل الصيف ولم تكن هناك كهرباء، فلم يكن لنا بدٌّ من تناول الخبز المتعفن. قمنا بدفن كل الأشياء القيّمة، كالهواتف والمجوهرات والصور، في أماكن مختلفة قدَّرنا أنه لن يخطر لقوات الأمن البحث فيها.

وصلت قوات الأمن إلى شارعنا وأعدمت ستة شبان. كنا في حالة ذعر. بعدها ذهبوا إلى حيّ آخر ولم نعرف إن كانوا سيرجعون إلى حيّنا، ومتى.

التزمنا البيت أياماً. وحان يوم امتحاني في الجامعة فذهبتُ لإجرائه وأنا خائفةٌ من أن يوقفني أحد رجال الأمن في الطريق. حقاً لا أعرف لمَ ذهبت إلى ذلك الامتحان، ما أعرفه أنه كان علينا الاستمرار في حياتنا.

المجزرة الثانية كانت الهجمة بالأسلحة الكيماوية. قبلها كان الوضع قد بدأ يسوء من جديد، وخافت أختي على أطفالها فقررت مغادرة الحي، وذهبنا معها. كنا نفكر أن نبتعد ليومين أو ثلاثة.

في اليوم التالي ضرب النظام داريا بالأسلحة الكيماوية. كانت الضربة قريبة جداً من منزلنا، وقُتِلَ فيها عمي وأحد أبناء عمومتي. كأن سُمّاً أحرق أجسادهم من الداخل. حينها لم يدرك أحدٌ أنه سلاح كيماوي. لم تكن ثمة علامات لندوب أو جروح، لا يوجد شيء إطلاقاً، لقد ماتوا وحسب.

شام، عاملة إغاثة (دوما)

كانت القذائف تنهمر فوق دوما، واحدة تسقط في الشارع، وأخرى على مبنى، وثالثة على متجر. عايشت أموراً عديدة؛ كتهاوي مبانٍ أمام عيني، أو رؤية الجثث. رأيت أطفالاً تناثرت أجسادهم مليون قطعة جراء قذيفة. قمنا مراتٍ بالتقاط أشلاء الضحايا بأيدينا. لم تكن توجد جثث كاملة، بل مجرد قطع، كَيَدٍ أو قدم أو رأس.

كنا ضمن فريق طوارئ الهلال الأحمر، نرتدي لباسهم الموحد، ونقود سيارات الإسعاف. لذا كان من المفترض ألا يزعجنا جيش النظام، لكنهم كانوا يخيفوننا أحياناً بأسلحتهم، أو يفتحون باب السيارة ليأخذوا المصاب، ولم نكن نجرؤ حتى على فتح أفواهنا أمامهم.

احتجزوا مرة فريق صديقي. أوقفوهم صفاً ووجوههم باتجاه الحائط، وأطلقوا الرصاص على رأس صديقي. أسعفناه إلى المستشفى، وانتظرنا في الخارج، بعدها خرج شخص وأخبرنا أنه فارق الحياة. غبتُ عن الوعي حينها، فحملني أحد أصدقائي وعالجني صديق آخر. كلاهما قُتِلَ لاحقاً أيضاً. نعم، كما أخبرك تماماً، لقد قُتِلَ جميع أصدقائي.

عندما جاء عناصر المخابرات واعتقلوا زوجي منير، للمرة الثالثة، توسلت إليهم باكية: «الله يخليك لا تأخذه، فأنا تعبت جداً ولن أستطيع تحمل المزيد». ردّ الضابط بأن كل شيء سيكون على ما يرام، وأنهم سيحتجزونه لساعة فقط.

امتدت تلك الساعة سنة وشهراً. في الأشهر الخمسة الأول لم أكن أعلم إن كان حياً أم ميتاً، كأنه، كما يقولون، «ذهب مع الريح»، اختفى كمن يختفون فوق مثلث برمودا. كل المحامين الذين تواصلت معهم للبحث عنه كانوا يبيعونني وعوداً كاذبة، ويقولون: سنخرجه، لا تقلقي. فقط لأستمر بالدفع لهم.

وفي أواخر شهر مايو/ أيار رنَّ هاتفي. كانت مكالمة من رقم غير معروف، وكنتُ في حالة نفسية بائسة منعتني حتى من التحدث عبر الهاتف، فطلبتُ من أخي أن يجيب. بعدها سمعته يقول «منير»، حينها فقدت عقلي وخطفت الهاتف منه. كان زوجي، وقد استطاع الاتصال بي بعد أن نُقِلَ إلى فرعٍ آخر.

حدثت الهجمة بالسلاح الكيماوي في أغسطس/ آب. من عاش ذلك اليوم سيخبرك أنه نسخة عن يوم القيامة. ترين الناس متجمدين في الشارع بسياراتهم ومخنوقين حتى الموت. أخبرني زملائي أنها كانت المرة الأولى التي يجمعون فيها جثثاً بلا دم. يومها سمعت أن الغاز انتشر ووصل إلى السجن. كنت خائفة أن يحصل مكروه لمنير، حينها سأموت حتماً. لاحقاً عرفتُ أن رائحة الغاز وصلت بالفعل إلى السجن، وبدأ المسجونون بالسعال، دون أن يعلموا ما الذي كان يحدث في الخارج.

أطلق أوباما تصريحه بشأن «الخط الأحمر»، وفرح الناس لأنهم ظنوا أنها ستكون نهاية النظام. «أخيراً سيسقط»، هكذا ظننا متحمسين جداً، قبل أن يخيب أملنا من جديد.

في تلك الفترة أخبرني أحد من لهم صلة بالنظام أنه في حال دفعتُ المال الكافي فإنه يستطيع أن يُخرج منير من السجن، لكن بشرط أن نغادر البلد فوراً بعد ذلك. وفعلاً خرج منير وغادرنا البلد بعد شهر ونصف.

كان ما عايشناه كفيلاً بقتلنا. هذا ما زال على قيد الحياة وذاك قتل، هكذا كنا نراقب أخبارهم كل ثانية. صدقيني ما كنا لنصل إلى هذه المرحلة لو أن العالم ساعدنا منذ البداية. اعتقدَ البعض أننا متعصبون دينياً، لكن أحداً لم يجبرني قطّ على الصيام في رمضان مثلاً. ها أنا أدخن الآن، بينما زوجي منير صائم، وعندما يستيقظ صباحاً يحضّر لي قهوتي. أقسم إنه في سورية لم نعتد أن يسأل أحدنا الآخر إن كان مسلماً أم مسيحياً، لم تكن لدينا أدنى فكرة عن ديانة أصدقائنا.

كل ذلك لم يعد يهم الآن، ولن أكترث لو متُّ في هذه اللحظة، لأنني وصلتُ إلى مرحلة في حياتي كرهتُ فيها كل شيء، أصبحتُ مشمئزة من البشرية. نحن الأحياء الأموات حقاً. أحياناً أمازحُ منير وأقولُ له: يجب على أحد ما جمع كل السوريين في مكان واحد وقتلهم جميعاً، هكذا نحل المشكلة، وبعدها ننتقل إلى الجنة، ونترك سوريا فارغة ليحكمها بشار الأسد.

موقع الجمهورية

——————————-

خريطة النفوذ الإيراني في سوريا

١٥ تمّوز ٢٠١٩

يشكّل الضغط الأميركي المتزايد على الوجود الإيراني، في الآونة الأخيرة، أحد أهم عناصر إدارة الصراع الإقليمي والدولي في سوريا، إذ تدخل في هذا الإطار عمليات عسكرية واستخباراتية تقوم بها إسرائيل والولايات المتحدة، وتحركات دبلوماسية تقودها واشنطن مع موسكو، للوصول إلى صيغة اتفاق بين الطرفين لإنهاء وجود طهران العسكري في البلاد، أو ربما الحدّ منه على الأقل.

ويعود بدء التوسع الهائل للوجود العسكري الإيراني إلى مطلع العام 2012، عندما بدأت ميليشيات مدعومة من إيران بدعم قوات النظام في مواجهاتها مع الفصائل والمجموعات التي تشكلت في المدن والبلدات السورية لمقاومة أعمال القمع، وعندما بدأ ضباط من الحرس الثوري الإيراني بمساعدة النظام ودعمه وتقديم المشورة له. ومنذ ذلك الوقت، احتفظت القوات والميليشيات الإيرانية بحضور كبير داخل الأراضي السورية، وسيطرت على مواقع عسكرية ومدنية، واحتكرت إدارة بعض الأحياء والبلدات من الناحية الأمنية، كما تجذرت ضمن أجهزة النظام الأمنية والعسكرية، لتصبح بذلك أحد القوى الرئيسية المسيطرة على البلاد، وإن كان ذلك باسم نظام بشار الأسد.

ويتخذ النفوذ العسكري الإيراني المباشر في سوريا أشكالاً ومستويات مختلفة؛ فقد يتمثل بالسيطرة الإيرانية المباشرة على قواعد عسكرية في البلاد، أو بالمشاركة بشكل مباشر في المعارك، وغالباً ما يكون ذلك عبر قوات تابعة للحرس الثوري، وتحديداً فيلق القدس الذي يدير قائده قاسم سليماني ملف الدعم العسكري للنظام السوري بشكل مباشر، إلا أن عدة حالات سجلت انخراط قوات عسكرية تابعة للجيش الإيراني نفسه في معارك على الأرض السورية، مثل معارك ريف حلب الجنوبي في عام 2017 التي شاركت فيها قوات خاصة تابعة للجيش الإيراني تعرف باسم أصحاب القبعات الخضراء (اللواء 65).

وتسيطر إيران اليوم على عدد من القواعد العسكرية، أهمها مطار دمشق الدولي، حيث يدير الحرس الثوري جزءاً منه لاستقبال المقاتلين وتنسيق الدعم اللوجستي للميليشيات الإيرانية المتواجدة في سوريا، بالإضافة إلى نقل الأسلحة المتطورة تقنياً مثل الصواريخ دقيقة التوجيه من إيران إلى ميليشيا حزب الله عبر سوريا. وتعرّضَ المطار نتيجة ذلك إلى عدة ضربات إسرائيلية، وقد نقل تقرير نشره موقع المدن معلومات تفيد بأن الروس وصلوا إلى اتفاق مع الإيرانيين لوقف إرسال الأسلحة المتطورة إلى ميليشيا حزب الله عبر المطار، والانتقال تدريجياً إلى استخدام مواقع أخرى متفرقة لتخزين هذه الأسلحة وتنظيم عملية نقلها، واستخدام مطار شراعي في منطقة الديماس غرب دمشق إلى حين تطوير مطار خاص بالإيرانيين في سوريا.

الموقع الثاني الذي يسيطر الإيرانيون عليه بشكل مباشر، هو مطار T4 أو «التيفور»، الذي يحمل رسمياً اسم «قاعدة التياس الجوية». ويقع هذا المطار وسط سوريا شمال مدينة تدمر، ويضم وحدات من الحرس الثوري تدير عمليات الطائرات من دون طيار الإيرانية في سوريا، كما أن هذا المطار يعد موقعاً متقدماً للإيرانيين في البادية السورية، خاصةً مع سيطرة موسكو شبه المطلقة على مدينة تدمر صاحبة الموقع الاستراتيجي. وتعرّض هذا المطار لعدة ضربات إسرائيلية، فيما وجّهت حكومة نتنياهو خلال العام الماضي اتهامات تفيد بأن طائرات من دون طيار استهدفت مواقع في الجولان المحتل، وتمّ التحكم بها من ذاك المطار.

بالإضافة إلى تلك المواقع، يمتلك ضباط الحرس الثوري حضوراً بارزاً في أغلب القواعد العسكرية الكبرى للنظام، مثل مطار حماة العسكري ومطار النيرب في حلب وجبل عزّان بريف حلب الجنوبي، بالإضافة إلى قواعد منطقة الكسوة العسكرية جنوب دمشق، التي تضم مستودعات أسلحة تعد جزءاً من عملية نقل الأسلحة إلى حزب الله في لبنان، والتي تحوي أيضاً مقرات قيادة وتحكم تدير العمليات وانتشار الميليشيات في جنوب سوريا.

كما أن هناك وجوداً واسعاً للمستشارين الإيرانيين في غرف العمليات الرئيسية بمدينة دمشق، والتي تنسق عمليات القوات التابعة للنظام في عموم سوريا، مثل غرفة العمليات الرئيسية في هيئة الأركان، وغرفة عمليات الميليشيات العراقية في حي الشاغور، التي بقيت على الرغم من التراجع في الوجود الظاهري لتلك الميليشيات في مدينة دمشق، وفي ذاك الحي تحديداً.

المستوى الثاني للوجود العسكري الإيراني في سوريا، يظهر من خلال حضور الميليشيات الأجنبية، التي استقدمتها طهران إلى البلاد للمشاركة في القتال إلى جانب قوات النظام. وتم تشكيل أول ميليشيا عراقية في سوريا عام 2012 تحت اسم لواء أبو الفضل العباس بحجة حماية المراقد المقدسة في البلاد، ولاحقاً انضمت أعداد كبيرة من الميليشيات العراقية التي تشكّلت بعد تأسيس الحشد الشعبي في العراق، وأخرى كانت تمتلك حضوراً هاماً في العراق قبل ذلك، مثل ميليشيات حركة النجباء وعصائب أهل الحق. وإذا كانت الميليشيات العراقية هي الأسرع نمواً، إلا أنها لم تكن الوحيدة، فقد تم توثيق مشاركة ميليشيا حزب الله اللبناني في مساعدة النظام على اقتحام المدن والبلدات منذ بداية 2012، ليتحول هذا الوجود إلى العلن في العام التالي، ويتسلم حزب الله قيادة عمليات عسكرية كبيرة في البلاد مثل الحملة على مدينة القصير جنوب غرب حمص، والعمليات العسكرية التي استهدفت منطقة القلمون على الحدود مع لبنان. وخلال الأعوام التالية، خاصةً مع ارتفاع التوتر حول حلب، برزت جماعات مسلحة شكلّها الحرس الثوري الإيراني من اللاجئين الأفغان في إيران، الذين تم تحويلهم إلى ميليشيا تحمل اسم «فاطميون».

للميليشيات العراقية حضور مهم حول مدينة دمشق وضمنها، وكانت قد أخلت خلال الأشهر الماضية منطقة فنادق حي البحصة في قلب العاصمة، إلا أنها تحتفظ بوجود كبير حول مقام السيدة رقية في دمشق القديمة، كما تُعد بلدة السيدة زينب جنوب شرق العاصمة مركزاً رئيسياً لها. كذلك تسيطر ميليشيات عراقية ومختلطة (تضم سوريين وأجانب)، على أحياء كبيرة شرق مدينة حلب، أبرزها لواء الباقر، الذي ينخرط إلى جانب حركة النجباء وتشكيلات أخرى تدعمها إيران، في منافسة ضارية تتصاعد إلى عمليات قتالية في كثير من الأحيان، مع الميليشيات والقوات المدعومة من موسكو في المدينة.

ويمتلك حزب الله سيطرة شبه تامة على مناطق بعينها مثل القصير ومحيطها غرب مدينة حمص بالقرب من الحدود مع لبنان، بالإضافة إلى سيطرته على المناطق التي احتلها في القلمون الغربي، ورغم تراجع حضوره في المدن والبلدات خاصةً بعد انسحابه من أحياء في مدينة يبرود في القلمون، إلا أنه لا يزال يسيطر على المواقع الاستراتيجية في المنطقة مثل طلعة موسى أعلى قمة في سوريا بعد جبل الشيخ، ومنطقة الجرود التي تفصل سوريا عن لبنان.

كما أن حزب الله بدأ يدير في الآونة الأخيرة، عدة مواقع عسكرية كانت تابعة لقوات النظام في الجنوب السوري، تحديداً في المنطقة الفاصلة بين محافظة السويداء ومحافظة درعا، من بينها مطار الثعلة العسكري، وكتيبة الدفاع الجوي في السويداء، وتعد هذه المواقع أحد أبرز القواعد المتقدمة التي تسيطر عليها إيران من خلال حزب الله، بالقرب من الحدود مع الجولان المحتل.

وأشارت عدة تقارير إلى تراجع أعداد الميليشيات المرتبطة بإيران نتيجة تراجع الحاجة لها مع انحصار المعارك في مناطق محدودة جغرافياً، لا تتطلب الأعداد الكبيرة التي يترتب عليها أعباء مادية ضخمة، إلا أن التقديرات كانت تقول إن أعداد الميليشيات الأجنبية التي استقدمتها إيران إلى سوريا وصل خلال الأوقات التي شهدت ذروة المعارك إلى حدود الستين ألف عنصر.

المستوى الثالث من النفوذ العسكري لطهران في البلاد، يتمثل في الميليشيات المحلية التي تم تشكيلها بدعم وتمويل إيراني، التي وإن تراجعت أعدادها خلال السنة الأخيرة، إلا أنها لا تزال تمتلك حضوراً هاماً في مناطق مثل بلدتي نبّل والزهراء شمال حلب. كما يبرز مثال ميليشيا الفهود في مدينة حمص، التي يديرها الأمن العسكري بدعم إيراني. وبينما تراجع هذا النوع من الميليشيات في مناطق الجنوب السوري بعد حل اللواء 313، لتحتفظ إيران بوجودها هناك عبر حضور حزب الله فقط تقريباً، إلا أن طهران لا تزال تحتفظ بشبكات علاقات واسعة على الأرض بنتها خلال سنوات الحرب، ستمكنها من حشد أعداد كبيرة من المقاتلين المرتزقة والموالين لها في أي وقت.

بالإضافة إلى ذلك، فإن إيران تمتلك نفوذاً واسعاً جداً في مناطق أخرى، يعتمد على التواجد المختلط للميليشيات الأجنبية التابعة لها والحرس الثوري المتمثل بفيلق القدس وميليشيات محلية وقوات أمنية أو عسكرية تابعة للنظام لكنها تقع ضمن دائرة الوصاية والإشراف الإيراني، ومن أبرز تلك المناطق مدينة البوكمال على الحدود السورية العراقية أقصى شرق محافظة دير الزور، التي أصبحت بعد انسحاب القوات الروسية منها خلال شهر أيار الماضي تحت السيطرة الإيرانية المباشرة والتامة. وقد أفادت التقارير الصحفية وشهادات الأهالي من هناك عن إشراف الإيرانيين على كافة مجالات الحياة المدنية والأمنية والعسكرية في المدينة، التي تعتبر الممر البري الأساسي للميليشيات التابعة لإيران من العراق نحو سوريا عبر البادية. كما تمتلك إيران وجوداً عسكرياً ونفوذاً واسعاً في باقي مدن دير الزور الأساسية وريفها في المنطقة الواقعة جنوب وشرق نهر الفرات، إلا أن هذا النفوذ متداخل في كثير من الحالات مع الوجود العسكري الروسي الذي حافظ على قوته في مدينة دير الزور تحديداً.

أما في محافظة حلب، فبالإضافة إلى نفوذها داخل المدينة، تمتلك الميليشيات المختلطة وجوداً كبيراً في محيطها، وتحديداً في منطقة الريف الجنوبي الذي حاولت إيران السيطرة عليه مراراً من قبضة فصائل المعارضة، إلى أن سيطرت على معظمه خلال العامين الماضيين. وبوجود الميليشيات المحلية والإيرانية جنوب حلب، بالقرب من نقاط المراقبة التي يتواجد فيها عناصر وضباط من الجيش الإيراني، والتي تم نشرها بعد اتفاق خفض التصعيد في أستانا، فإن هذه المنطقة باتت تعد أحد أبرز مناطق النفوذ الإيراني المختلط في سوريا.

اليوم، وعلى الرغم من تعرض الحضور العسكري الإيراني لضغوط أميركية شديدة وضربات إسرائيلية متكررة، إلا أن النفوذ الذي يُظهر تجذراً في بنية وهيكلية النظام ، بالإضافة إلى حجم القوات الكبير، سيمنع من تغيير هذا الواقع بسهولة. وتساهم العقوبات الأميركية في تقليص قدرة طهران على توسيع نفوذها العسكري نتيجة تراجع وارداتها المالية، إلا أن إيران تظهر قدرةً عالية حتى الآن على الحفاظ على مواقعها الرئيسية في البلاد، ولا يبدو أن أي شيء سيغير ذلك على المدى المنظور. لكن مع ذلك، فإن استمرار الضغوط السياسية والعقوبات قد يأتي بنتائج أوسع على المدى الأبعد، ما قد يجبر طهران على المساومة على مدى وكيفية حضورها الاستراتيجي في سوريا.

موقع الجمهورية

———————

سورية والتحول الأجنبي/ ياسين الحاج صالح

١٤ تمّوز ٢٠١٨

لم يعنِ الانهيار المتسارع للإطار الوطني للصراع السوري منذ تموز 2012 دخولاً متزايداً لأجانب على خط الصراع، جهاديين سنيين من عشرات البلدان، وقوات إيرانية وميليشيات شيعية متنوعة إلى جانب النظام، ومقاتلين من حزب العمال الكردستاني من تركيا، لم يعنِ ذلك فحسب، لكنه عنى أكثر من ذلك تحولاً أجنبياً واسع النطاق للاعبين سوريين محليين، ما آل بسورية في المحصلة إلى أن تصير عالماً مقلوباً، عالماً بلا داخل أو عالم الأجنبية القصوى.

ست سنوات على تموز 2012

تزامنت في تموز 2012 أربعة حوادث صانعة للتاريخ إن جاز التعبير، يُرجَّحُ أن نعيش مع ما ولّدته من أوضاع ومعطيات ووقائع لوقت طويل.

أولها تفاهم النظام مع حزب العمال الكردستاني على الانسحاب لصالحه من مناطق الكثافة الكردية في حلب والجزيرة، وانطلاق الحركة المعاكسة لما كان يجري خلال ثلاثين عاماً من ذهاب كرد سوريين إلى القتال مع التنظيم ضد القوات التركية، أعني دخول مقاتلين كرد من كردستان تركيا إلى سورية (انظر من أجل ذلك تقرير المجموعة الدولية لتناول الأزمات: The PKK fateful Choice in Northern Syria). من المحتمل أن ذلك جرى بمبادرة وترتيب إيرانيَين، وأن النظام وراعيه الإيراني كانا يعوّلان من وراء هذه المبادرة على فصل البيئات الكردية السورية عن الثورة، وتفرّغ النظام بالمقابل لمواجهة ما كانت تصير أكثر وأكثر بؤراً سنية للثورة، وأن يتولى السيطرة في المناطق الكردية طرفٌ واحدٌ متمرّسٌ عسكرياً، ولم يكن يوماً عدواً سياسياً للنظام، ولم يسبق لأجندته أن كانت سوريّة.

الحدث الثاني اغتيال ضباط «خلية الأزمة» في دمشق يوم 18 تموز 2012، فيما يُرجّحُ أن يكون تصفية داخلية، أُريدَ منها توحيد مراتب النظام في معركة مصيرية، والتخلص من تعددية أصوات محتملة داخله، لعلها تمثلت في رجال لا ينظرون باحترام كبير إلى ماهر الأسد وأخيه بشار، مثل آصف شوكت وربما هشام الاختيار. هذا الحدث جانَس النظام داخلياً أكثر من أي وقت سبق، وساعده على أن يتصرف بطريقة موحدة، وأن يتخلص مما يمكن أن يكون في مراتبه بالذات احتياطياً يمكن لقوى غربية أن تراهن عليه: «الداماد» آصف شوكت بخاصة.

وتمثّلَ الحدث الثالث في التوسع في استخدام سلاح الطيران، وأول استخدام للبراميل المتفجرة التي صارت رمزاً للنهج الإبادي الأسدي، الذي يمكن التأريخ لبدايته الفعلية في ذلك الوقت تحديداً. البراميل سلاحٌ رخيص الثمن، لا يقتل على نطاق واسع فقط، وإنما كذلك يدمر العمران وبيئات الحياة والمرافق العامة، فيدفع إلى الهجرة. وبمفاعيلها، هذه البراميل سلاحُ تدمير شامل بالمعنى الحرفي للتعبير، وهي جديرة بأن توصف فوق ذلك بأنها سلاح كراهية، سلاح اخترعته الكراهية، واستُخدم حصراً ضد البيئات الأهلية التي تخلص الدولة الباطنة الأسدية الكره لها. في ذلك الوقت بدأ أيضاً قصف طوابير منتظري دورهم أمام أفران الخبز، ومجزرة حلفايا وقعت بعد أسابيع قليلة، في آب 2012. تواترُ قصف طوابير الخبز، يحيل بدوره إلى الكراهية والأجنبية ونازع القتل الجماعي أو الإبادة. وبعد أسابيع إضافية بدأ استخدام السلاح الكيماوي، والأرجح أن أوباما تكلم على خطه الأحمر لأنه أخذت تصله تقارير عن استخدام النظام للسلاح الكيماوي على نطاقات ضيقة.

الحدث الرابع هو توقف المظاهرات السلمية التي كانت مستمرة حتى ذلك الوقت وفي مئات البؤر في البلد، وذلك رغم تعسكر الثورة المتصاعد منذ خريف 2011. انتهاء المظاهرات السلمية عنى عملياً خروج الداخل المدني السوري من معادلة الصراع، وتحوّل الثورة كلياً إلى حرب كانت صفتها السورية تتراجع أكثر فأكثر. الحرب الأهلية السورية انتهت في وقت ما بين تموز 2012 ونيسان 2013، حين اكتمل تداعي الإطار الوطني للصراع. تواقُتُ واقعتي ظهور داعش والمجاهرة بمشاركة حزب الله في معركة القصير في نيسان 2013 يصلح موعداً لاكتمال نهاية حربنا الأهلية. الحزب الشيعي التابع لإيران يجاهد في سورية علناً منذ أكثر من خمس سنوات.

وبِدءاً من ذلك الوقت طوَّرَ النظامُ الذي لم يعرض أي تسوية سياسية على معارضيه طابعاً أجنبياً جداً، فصار مركزُ التفكير والقيادة فيه إيرانياً، وصار يتصرف كقوة قتل لا يجمعها جامعٌ بالمقتولين. البراميل وقصف طوابير الخبز وبِدءُ استخدام السلاح الكيماوي، مؤشراتٌ على قفزة في الكراهية من قبل مركز التفكير والتقرير الجديد، قفزة في «الأجنبية» كذلك.

وتوسعت باطراد مراتب الجهاديين السنيين الذي صاروا يدخلون عبر الحدود التركية، بعد أن كانوا يدخلون البلد في البداية من العراق أساساً، ليصل عددهم إلى ما بين عشرين وثلاثين ألفاً، انضمَّ أكثرهم إلى داعش منذ ظهورها في ربيع 2013، لكن كان منهم ولا يزال «مجاهدون» في جبهة النصرة، وهناك تشكيل أجنبي واحد مستقل، الحزب التركستاني الإسلامي.

في الوقت نفسه دانَ مركز القيادة في البيئة الكردية السورية لقيادة حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، المعروفة بروابط قديمة مع كل من النظامين الأسدي والإيراني. هذا بينما هُمِّشَت الأحزاب الكردية الأخرى، الأكثر سوريّة، لكن غير المُقاتلة.

التحول الأجنبي

بيد أن هذا الانتشار الأجنبي المتسِعَ ليس غير وجه واحد من أوجه نزع الصفة الوطنية للصراع وتحول سورية إلى أرض لأجانب، يعيش فيها المحليون في غربة متزايدة. الوجه الثاني والأهم هو تحول قطاعات من المحليين إلى أجانب، يتبعون أجانب مقررين، ويحملون مشروعات بالغة الغرابة والأجنبية على البيئة السورية وتطوراتها المتوقعة حتى في ظروف الحرب الأهلية، ويتعاملون مع البيئات المحلية التي تحكّموا بها بوحشية قصوى، رمزية وفيزيائية، مما يتوقعه المرء من محتلين أجانب معادين فقط. العقيدة السلفية التي كانت من قبل محدودة الانتشار في سورية تعبيرٌ عن هذه الأجنبية، وعقيدةٌ أنسب لتعزيزها، ومؤشرٌ في الوقت نفسه على المنابع الخليجية لهذه الأجنبية.

ما أخذ يحدث أكثر وأكثر هو أن مشروعات الفاعلين، حتى إن قام عليها محليون حصراً مثل جيش الإسلام في دوما والغوطة الشرقية، أخذت تعرض وجهاً أجنبياً على البيئة المحلية، يجمع بين التجريد والكراهية والقسوة المتطرفة. منذ عام 2013 أخذ جيش الإسلام يتعامل مع دوما والغوطة الشرقية كقوة احتلال، تعتقل وتعذب وتغتال، وتخطف وتُغيّب، وتفكر في نفسها كإمارة مستقلة، تريد أن تتسع، لكنها تولي جهوداً كبيرة لتحصين سلطتها والقضاء على أي منافسين في عاصمتها، دوما. جرى التعامل مع الدوامنة بالذات بقسوة لم تعرف مثلها المدينة في تاريخها، كأنهم مجتمع غريب. جبهة النصرة تجمع بدورها بين أجنبية المشروع وبين اجتذابها أجانب متنوعين. المشروع السلفي الجهادي أممي التكوين أصلاً، أجنبي أو غريب في كل مكان دون أن تكون لديه أي مشكلة مع هذه الغربة. ارتباط السياسة بمجتمع محدد ومشكلاته وممكناته ليس مما ينتمي إلى عالم الجهاديين الفكري.

الأجنبية القصوى من حق داعش، هنا المشروع بالغ الانفصال عن أي مجتمع، وجذاب لأجانب تعاملوا مع المحليين بعنجهية وقسوة بالغة. داعش تصرفت كقوة احتلال واستولت على أراض وموارد، وفكرت في نفسها كدولة توسعية صراحةً.

في كل حال، الأجنبيةُ هي غربة مشروع من جهة، وقسوةٌ متطرفةٌ في التعامل مع المحليين من جهة أخرى، بما يضعف فُرص التماهي أو وحدة الحال.

على جبهة النظام ظهرت تحولات مماثلة. سيطر الحزب الإيراني منذ مطلع النصف الثاني لعام 2012، واقترنت سيطرته بتصعيد هائل في الوحشية، رمزت له البراميل المتفجرة كما تقدم. من هذا المدخل بالذات، الوحشية، عَرضَ الحكم الأسدي على الدوام استعداداً أجنبياً قوياً، أعني معاملة المحكومين بقسوة تدوس على الرابطة الوطنية المفترضة. لكن أثناء الثورة تفوقَ النظام على نفسه، على نحو يتجسد بخاصة في صناعة التعذيب المنظمة في المقرات الأمنية، مثلما كشف عنها ملف سيزار، وتقارير مركز توثيق الانتهاكات ومنظمات حقوق سورية ودولية. ويتلاقى وفود أجانب من إيران ولبنان والعراق وأفغانستان وغيرهم، مع تنامي أجنبية المحليين بالذات: أعني أجنبية المشروع، تحويل الجمهورية إلى حكم سلطاني محدث، يدوم «إلى الأبد» على نحو يقتضي استعباد عموم السوريين سياسياً. قاد هذا التلاقي إلى وضع لا نعرف نظائر له في عالم اليوم، تحويل سورية إلى محمية أجنبية، إيرانية روسية، مع الإسفار عن وجه طائفي بالغ الفجور. تصريحات الروس المتكررة، بما في ذلك على لسان وزير الخارجية لافروف، عن رفض قيام حكم سني في سورية (لم يُعترض عليها قط لا من قبل النظام، ولا من قبل مثقفي الدولة الباطنة العضويين و«معارضي المعارضة»)، واكتسحت الرمزيات الشيعية الفضاء العام في دمشق (الشيعة في سورية نحو نصف بالمئة من السكان)، بما في ذلك طقوس اللطم في سوق الحميدية، وصولاً إلى أغانٍ تهين الرموز الدينية السنّية. العراقي الذي توعد في أيار من هذا العام بـ «حرق الشام» مستخدماً رمزيات كلامية وطقوسية شيعية تصرف كممثل لقوة احتلال، ربما متجاوزاً حدود ما يناسب أن يُقال علناً، لكن ليس فيما قاله ما يتجاوز منطق احتلال أجنبي على معرفة بتكوين العميل المحلي وهواه.

وفي هذا الوقت أيضاً أخذ يظهر على حين غرة وجه اجتماعي وإيديولوجي مفرط في حداثيته للتنظيم الكردي المسيطر، حزب الاتحاد الديموقراطي، الذي هو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وصار يسوّق نفسه في العالم كطليعة متحررة ولا سلطوية ومساواتية في الشرق الأوسط وفي العالم. أرجّحُ أن في جذر هذا البزوغ المفاجئ والمكتمل مزيجٌ من نقل خبرة تنظيم العمال الكردستاني من تركيا ومن جهد مُنسق لتسويق النفس دولياً كشاغل للنقطة الأبعد في التقابل مع داعش والجهادية السنية، التي صار يقال إن بيئات الثورة السورية «حاضنة اجتماعية» لها، مع التطلع إلى وحدة حال مع نموذج الطبقة الوسطى في الغرب. لم يكن السطوع «الحداثي» المبهر لتنظيم الاتحاد الديموقراطي منفصلاً عن المعطيات السورية، الكردية وغير الكردية، بل هو منقطع كذلك عن دينامياتها الذاتية، وبخاصة ما تطور لمصلحته بسرعة خاطفة من خطاب استعلاء عنصري يستعيد عناصر الخطاب الحداثي الاستعماري حيال المحليين.

وفي خلفية الحالات الثلاثة: الإبادية الأسدية، التوحش السلفي والحداثية الكردية التمييزية، هناك تحول نوعي، جرى بين تموز 1012 وربيع 2013، هو ما أسميه التحول الأجنبي. أعنى بذلك تصاعد نفوذ أجانب وتقريرهم، ثم تبعية محليين لهم، وكذلك خارجية المشاريع وغربتها عن الواقع والمتوقَّع السوري. إثبات هذه الفرضية يقتضي اطلاعاً أوسع على الأرشيف مما قد لا يُتاح قبل عقود، لكن أعتقد أن ما لدينا من مؤشرات يشجّعُ كفاية على التفكير في هذا الاتجاه.

من الأجنبية إلى التبعية

اكتمل انهيار الإطار الوطني للصراع السوري وتحوّلُ محليين إلى أجانب عام 2013. المجزرة الكيماوية في الغوطة الشرقية أظهرت قوة الاستعداد الإبادي في مراتب النظام، وبطلها هو ماهر الأسد، المقرب أكثر من غيره من إيران في نظام لم يبق فيه غير مقربين منها. الصفقة الكيماوية التي تلت أظهرت انكشافاً سورياً تاماً. إلهام الصفقة إسرائيلي، والتعاقد روسي أميركي، والبقاء أسدي، والجهادية السنية بلغت ذروة أجنبيتها. الثورة استُبيحت من تحول أجنبي داخلي ومن خارج أجنبي عدائي. بعد عام تدخل الأميركيون في البلد المستباح (أيلول 2014)، وبعد عام آخر تدخلت روسيا (أيلول 2015)، وبعد عام ثالث تدخلت تركيا (آب 2016). ومن المحتمل أن تساهلَ تركيا في دخول جهاديين إلى سورية في النصف الثاني من 2012 كان يراهن على استخدامهم ضد ميليشيا حزب العمال الكردستاني، وهو ما جرى فعلاً بالهجوم على رأس العين ذات الأغلبية الكردية قبل نهاية عام 2012، الهجوم الذي عزَّزَ انهيار الإطار الوطني للصراع وتفاقم الأجنبية.

وفي مسار السنوات المنقضية قادت ديناميكية الأجنبية بصورة ثابتة إلى الارتباط المباشر، التبعي، بأجانب أقوياء. الفرع السوري للعمال الكردستاني أدرج نفسه في الاستراتيجية الأميركية ضد داعش، وفي وقت سابق مدَّ حبالاً مع الروس لتثقيل وزنه، وهو اليوم ليس العنصر المقرر في شأن مستقبل المناطق التي يسيطر عليها، ومستقبله بالذات (عفرين، منبج، والرقة على الطريق فيما يبدو). ولم تعد دولة السلالة الأسدية متحكمة بإعادة إنتاج نفسها. هي محميةٌ اليوم من قبل الروس والإيرانيين، وقرار بقاء الحُماة في سورية ليس في يد المحمية. من أجل ألا تتغير ولو قليلاً لمصلحة السوريين، وجدت الدولة الأسدية نفسها مضطرة لأن تتغير كثيراً لمصلحة الإيرانيين والروس. أما الإسلامية المسلحة غير القاعدية فهي تابعة اليوم لتركيا، ومثلها الإسلامية السياسية من الصنف الإخواني. ولعله هنا يكمن خطأ من يتصورون أن سحق الثورة سيقود إلى مزيد من التطرف الإسلامي السني يتجاوز حتى القاعدة وداعش. لن يحدث ذلك في تصوري، وما يرجح حدوثه هو الانحلال التبعي بعد استنفاد طاقة التطرف في أجنبية عدوانية أثارت نفوراً واسعاً في مناطق سيطرتها. ما يبدو أنه يجري منذ الآن هو التحول من أجنبية المشروع المشفوعة بأجنبية التخطيط والتفكير والقيادة، إلى انحلال المشروع، والتبعية المباشرة لقوة أجنبية.

وفي الأصل لم يكن ظهور القاعدة وداعش، وحتى جيش الإسلام وأحرار الشام، نتاج ديناميكيات ذاتية للصراع إلا جزئياً. لا ريب أن سد المخارج المعتدلة للصراع في سورية، والتكوين الاحتلالي الأجنبي للدولة الأسدية، رفعا الطلب على التشدد الديني المسلح في سورية، لكن قفزة الأجنبية المتمثلة في التشكيلات المذكورة تدين في تصوري لتطورات فكرية وسياسية ومالية تقاطرت من خارج بعد انهيار الإطار الوطني للصراع. مما نعرف، وهناك الكثير مما لا نعرف، أنه كانت هناك خميرة قاعدية في العراق بتسهيل من النظام، وأن النظام كان يسهّلُ حركة الجهاديين حيناً ويحبسهم حيناً ويستخدمهم في العراق ولبنان («فتح الإسلام» في مخيم نهر البارد) حيناً، وأن بعض قادة السلفية الجهادية في سورية كانوا في «أكاديمية صيدنايا»، وبُدئ بإطلاق سراحهم في حزيران 2011، وهذا لأنهم تعهدوا للنظام بأنهم ضد المظاهرات السلمية («بدعة» في نظرهم) وضد «الخروج على الحاكم» (لكنهم ليسوا ضد «الجهاد» حين يأذن به مفتوهم). وفي هذا الشأن الإفتائي هناك دور كبير لشبكات سلفية خليجية تغذى منها التحول الأجنبي، السلفي، في عام 2012 وما بعد. ومثل ذلك في الشأن المالي، ولكن هنا تضاف إلى الشبكات السلفية الخليجية، من الكويت والسعودية بخاصة، قطر كدولة. والقصد المجمل، بانتظار أبحاث أوسع اطلاعاً على السجل، أن التطرف السلفي ملعوبٌ به بقدر كبير وليس محض تولّدٍ ذاتي. وعموماً يلزم التمييز بين أسلمة محلية تولدت عن ديناميكية العنف والتمييز والتجذر، وبين أسلمة أجنبية برزت في طور ثان من الصراع السوري، عام 2013 وما بعد. العنف المهول وانهيار الإطار السوري للصراع أضعف المحلي لحساب الأجنبي إلى درجة تُقارِبُ الاحتلال الأجنبي الكامل للإسلام السني السوري. والأرجح أن تكون لهذا المعطى عواقب طويلة الأمد، يتعذر تقديرها اليوم.

النبضة والدورة

نلاحظ نسقاً مطرداً للأجنبية يعاكس من حيث الاتجاه والحركة ما كان يصطلح عليه باسم الدور الإقليمي لسورية. منذ سنواته الباكرة تدخل الحكم الأسدي في لبنان وظل هناك لنحو ثلاثة عقود، في عملية انتداب مرعية دولياً اكتمل في ظلها نزع الصفة الوطنية للدولة السورية وتحويل البلد إلى إقليم أسدي مندرج في تحالف طائفي إقليمي. وبعد أقل من عقد كان النظام يتساهل مع ذهاب شبان كرد سوريين للقتال إلى جانب تنظيم حزب العمال الكردستاني بقيادة عبد الله أوجلان الذي كان قد لجأ لتوّه إلى سورية من لبنان (كانت معسكرات تنظيمه في كنف منظمة التحرير الفلسطينية) بعد الاحتلال الإسرائيلي في عام 1982، وعاش في كنف النظام وأجهزة مخابراته تحديداً نحو 16 عاماً. ومنذ الاحتلال الأميركي للعراق سلك «الجهاد» طريق دمشق بغداد. ما رأيناه بعد عام ونيف من الثورة السورية هو الحركة المعاكسة: حزب الله يدخل من لبنان (قبل أن ترمي إيران علناً بثقلها)، مقاتلو العمال الكردستاني يدخلون من تركيا (قبل أن تدخل تركيا نفسها لاحقاً)، وقبل أن يدخل الجهاديون السنيون عبر الحدود التركية كان أول دخولهم من حدود العراق (الجهادية الشيعية بالمقابل، العراقية منها والإيرانية والأفغانية دخلت من العراق).

ماذا تقول هذه النبضة التاريخية، أعني ضخ العنف إلى خارج «قلب العروبة النابض»، ثم تدفقه عائداً إلى الداخل؟ بداية، تذكر حركة الانقباض- الانبساط هذه بتعاقبٍ وسمَ تاريخ سورية بعد استقلالها من كونها موضع صراع إقليمي ودولي يجد تمفصلاته مع حياة سياسية داخلية مضطربة، إلى تحولها هي ذاتها إلى «دولة خارجية» أو إلى لاعب إقليمي يغلق الملعب السياسي الداخلي ويطرد السوريين منه (رصد هذا التعاقب باتريك سيل في كتابين مهمين: الصراع على سورية والأسد والصراع على الشرق الأوسط، لكنه عرض في ثانيهما انحيازاً غير مشرّف للطاغية المحلي، حافظ الأسد)، وهذا قبل أن تدور الدورة وتعود سورية بؤرة صراع إقليمي ودولي في شروط مغايرة لم تُدرَس بعد. تقول الحركتان النابضة والدورية أشياء عن ضعف التشكل الوطني لسورية، فاقمَهُ تحويل البلد إلى مركز لحكم سلالي منذ ما يقارب نصف قرن (الكيان السوري الراهن عمره قرن واحد فقط). تقولان أيضاً إن صراع سورية المزعوم على الشرق الأوسط ليس نقيضاً للصراع على سورية، كما تظهر السنوات الستة المنقضية على انهيار الإطار الوطني للصراع السوري، بل هو طور من أطوار دورة حياته. يشهد على ذلك أن المُصارِعَ المفترض على الشرق الأوسط، حكمُ السلالة الأسدية بالذات، هو من بادر إلى دعوة أجانب لحمايته، في مؤشر حاسم على نزع وطنية الدولة وأجهزتها، وانقلابها إلى ركيزة محلية للتدخلات الخارجية (الشي ذاته الذي كان يؤخذ على أحزاب سورية قبل الانقلاب البعثي). نزعُ وطنية الدولة أو خصخصتها هو الشكل الأول للأجنبية، وهو الذي سيتوَّجُ بعد الثورة بشكلها الثاني، اللجوء العلني لحُماة أجانب.

طرحُ الأمر في هذه الصورة يرتب تصوراً للحل يتمثل في نزع الأجنبية، بمعنى خروج كل القوات الأجنبية من البلد، وبمعنى نزع الملكية الخاصة للدولة وتحويلها إلى ملك سوري عام، وتوفير الشروط لحياة سياسية متسعة القاعدة.

ثم إن الحركتين النبضية والدورية تقولان أشياء عن الشرق الأوسط وترابط صراعاته، السياسية والجغرافية السياسية والدينية السياسية، وهو ما يعني أن فُرص سورية في معاكسة التحول الأجنبي تكون أكبر بقدر التقدم في معالجة مشكلات الشرق الأوسط الأخرى، الفلسطينية، والكردية، والمشكلات الدينية السياسية، السنية والشيعية، والمشكلة الغربية الإسرائيلية. تستفيد كل قوى التعفن في الإقليم والعالم، ومنها دولة الأسديين، من بقاء هذه المشكلات وغيرها غير مُعالجة وغير محلولة.

موقع الجمهورية

———————-

شهادات من تغريبة أهالي القصير السورية

شهادة الطبيب قاسم الزين

كانت المدينة تحوي خمسة عشر ألف مواطن، بينهم ألف ومئتا جريح، وكان عدد المقاومين ثلاثمئة مسلّح، كلهم من أهل المدينة، نعرف أسماءهم وبيوتهم، وكل الشهداء موثّقونما حصل في القصير مأساة حقيقية يجب أن توثّق للتاريخ. في الأيام الأخيرة قبل الهجرة، كانت المدينة تحوي خمسة عشر ألف مواطن، بينهم ألف ومئتا جريح، وكان عدد المقاومين ثلاثمئة مسلّح، كلهم من أهل المدينة، نعرف أسماءهم وبيوتهم، وكل الشهداء موثّقون. كلهم من أهل المدينة. لم يكن هناك حتى أعضاء من الجيش الحرّ من خارج المدينة. حاول بعض المقاتلين من حلب أن يدخلوا إلى القصير، ولكنهم لم يستطيعوا. الظلم الذي عانيناه كنا نتمنى أن يأتينا من إسرائيل، لا من دولتنا بمعاونة حزب الله. مقابل ثلاثمئة مقاوم في المدينة، كان هناك آلاف المقاتلين من النظام ومن حزب الله. وقد اشترك الحزب بكل أنواع الأسلحة.

الهجوم الأخير

تعرضت المدينة لنحو ٢٥ طلعة طيران في الساعة. القذائف تنهال علينا بالثواني. معظم الشهداء من المدنيين. كثير منهم قضَوا تحت الأنقاض؛ لأنّنا لم نستطع أن نصل إليهم من شدة القصف، أو لأنه لم تكن هناك آليات لرفع الأنقاض.

آخر أيام الحصار… عندما لم يستطع النظام ومقاتلو حزب الله الدخول برّاً، بالرغم من تفوقهم في العدد والأسلحة، قرّروا تدمير المدينة. عندها، أصبح البقاء في القصير ضرباً من الانتحار، فقرر المقاومون مع أهل المدينة الانسحاب. حمل المقاومون بواريد، وتجمّع أهل المدينة للرحيل. كان يوماً مؤلماً جداً؛ لأنه لا أحد يترك بلده وأرضه طوعاً. الكثير من المقاومين وبعض من الأهالي قرروا البقاء، لكن كنّا نعلم أنّ من سيبقى سيُقتل، وكانت البياضة التي علمنا بأحداثها مثلاً أمامنا. ما حصل في البياضة كان أكثر من نكبة. لا يستطيع الإنسان تصوّر القتل بهذه الطريقة. في البداية، حاولنا إخراج المدنيين قبل الانسحاب، ولكنهم كانوا يعتقلونهم على الحواجز وتجري تصفية الرجال مباشرة، وهذا ما دفع الكثير من المدنيين إلى البقاء. استنجدنا بالمنظّمات الدولية ومنظّمات حقوق الإنسان، ولكن لا جدوى. كنّا نريد فقط إخراج الجرحى.

سقوط القصير هو عنوان لسقوط الإنسانية. لم نعد نؤمن بالمنظمات الدولية، ولا بهراء حقوق الإنسان. لم نرَ من هؤلاء إلا الصمت أمام كل ما حصل للمدينة.

التهجير بعد التدمير

عندما بدأ تدمير المدينة بالكامل، قرّرنا الهجرة. ولمّا كان التدمير من جهة الجنوب، قررنا الانسحاب من الشمال. كان هناك ألف ومئتا جريح، ثلاثمئة منهم كانوا بحاجة للحَمل على الأكتافعندما بدأ تدمير المدينة بالكامل، قرّرنا الهجرة. ولمّا كان التدمير من جهة الجنوب، قررنا الانسحاب من الشمال. اتصلتُ بطبيب أعرفه مقرب من «الحزب» لكي يؤمّن لنا طريقاً للانسحاب ويُعين الجرحى، وقلت له: «نحن جماعة الحسين والمظلومون، ويجب أن تتعاطف معنا». وذكرت أنه كان هناك ألف ومئتا جريح، ثلاثمئة منهم كانوا بحاجة للحَمل على الأكتاف. وعد الدكتور بأنّ المهاجرين لن يتعرضوا للقصف، فتمّ تبليغ «الحزب» والدولة السورية بطريق الهجرة، لكننا فوجئنا بهم يخلفون الاتفاق ويقصفون المهاجرين. بدأنا بالهجرة ليلة ٥/٦ حزيران/يونيو، وهي ليلة النكبة. في البداية انتقلنا إلى البويضة، لكننا لم نتحرك إلا مساءً بعد حلول الظلام. بالرغم من وعدنا بممرّ آمن، تعرضنا للقصف الجوي من الليلة الأولى؛ فقد قصف الجيش البويضة واستشهد اثنان من المهاجرين المدنيين، واحد من الجرحى والآخر كان بجانب المستشفى الميداني.

مساء ٦ حزيران/يونيو اجتمعنا في طريق واحد بين طريق حمص – القصير وقرية الصالحية، وأُعدّت خطة للمشي ليلاً بين الحواجز. في الساعة السابعة، بدأنا رحلة الهجرة، وكان الترتيب أن يُحمَل ثلاثمئة جريح على الأكتاف. لم نجلب معنا إلا بعض الأغراض الشخصية التي اضطررنا إلى أن نترك معظمها على الطريق. كان على بعضنا أن يُسند نفسَه بالعكازات، والبعض الآخر امتطى الموتوسيكلات وساعد في حمل الأغراض للمهاجرين. الذين تركوا المدينة كان عددهم خمسة عشر ألفاً. كل من بقي في المدينة بعد أن أخلاها المقاومون، جرت تصفيته أو اعتُقل؛ إذ اعتُبر كل من بقي في القصير عدواً. فمثلاً، بيت إدريس بقوا على أساس أنهم مع النظام وآمنون، ولكن تمّت تصفية بعضهم واعتُقل الآخرون.

كان المشي ليلاً، وعند بزوغ النهار نرتاح في البساتين بين الأشجار لكي لا يرانا جيش النظام. بعد مشي ثلاثين كيلومتراً ليل السادس من حزيران، وصلنا إلى «الحمرا» عند الرابعة صباحاً. كنا نحاول الوصول إلى طريق دمشق لنقل الجرحى قبل أن يطلع الضوء. فقبل الهجرة الأخيرة، كنا نحاول إخراج الجرحى لتلقّي العلاج، ولكنهم كانوا يتعرضون للقتل. في نهاية شهر أيّار جرت محاولة إنقاذ خمسين شهيداً تعرضوا للقصف على طريق دمشق، عاد منهم ثلاثة عشر شهيداً، ومن حينها، رفض الجرحى الخروج على أساس تفضيل الموت في الدار على الموت على الحواجز.

قبل أن يموت قال لي: «أنا أعرف أنني مرحوم، ولكن أرجوك أعطني نقطة ماء». للأسف لم يكن لدينا ماء لنعطيهنحو السادسة مساءً وصلنا إلى قرب «الحسينية» من جهة الغرب، ولكنّ الجيش بدأ القصف علينا. استشهد عشرة منا. بدأنا نهرب عائدين إلى البساتين. رجعنا نحو أربعة كيلومترات إلى الوراء. بالإضافة إلى أهالي القصير، انضم إلى الهجرة أهالي البياضة، ومن كان قد هرب من حمص إلى البياضة أيضاً، فأصبح عددنا هائلاً وكنا مكشوفين على الطيران. عند نحو الساعة السابعة والنصف وقع الهجوم علينا بالدبابات بينما كنا نختبئ في البساتين. حاول المقاومون الصدّ بالبواريد وسقط سبعة عشر شهيداً بالقصف المدفعي. لم يكن لدينا ماء ولا دواء، والكثير ممن استشهدوا كان من الممكن إنقاذهم، ولكن لم تكن لدينا الإسعافات الكافية. من الجرحى الذين كان يمكن إنقاذهم أسامة جبنة، ابن الخمسة عشر ربيعاً الذي أصيب في صدره وفي بطنه. بقيتُ إلى جانبه نحو أربع ساعات أراه ينزف حتى استشهد، وكنت عاجزاً عن فعل أي شيء له. قبل أن يموت قال لي: «أنا أعرف أنني مرحوم، ولكن أرجوك أعطني نقطة ماء». للأسف لم يكن لدينا ماء لنعطيه. لم يكن لدينا أيضاً أدوات لدفن الموتى. بعض الأهالي حفروا بأيديهم وبالحجارة فقط لمجرد أن يغطوا الجثث، والبعض وضعوا حفنة من التراب على الموتى.

بالإضافة إلى السبعة عشر شهيداً جراء القصف المدفعي، قضى سبعة من جرحانا أيضاً بسبب الجفاف والقصور الكلوي، وكان قسمٌ من الجرحى قد استُشهد خلال رحلة الليل. للأسف، كان الشباب الذين يحملون الجرحى على الأكتاف يشعرون بالفرح؛ لأنّهم لن يضطرّوا لحملهم. رُميَت الجثث على أطراف الطرق وفي البساتين. بعد تعرّضنا للقصف في اللّيلة الأولى لم يبق لدينا أمل بالحياة ولا أيّ أمل بشيء. بقينا حيث نحن حتّى حلّ الظلام. قرر كثير من الأهالي تسليم أنفسهم لحاجز الحسينيّة على أساس «أنّهم ميتون ميتون»؛ فالأفضل أن نموت وندفن، على أن نموت وُنترك في العراء. بعضهم أيضاً اعتقد أنّ الجيش سيعتقلهم فيبقى على قيد الحياة. ولكن كل من سلّم نفسه للحاجز في ذلك اليوم، جرت تصفيته. فقدت أربعة من أقربائي قتلاً على الحاجز.

«مدينة الأحلام» مهجورة

ليلة ٦/٧ أو ليلة ٧/٨ تجمّعنا، وكان علينا محاولة تخطّي حاجزَي شمسين والديبة، وبين والواحد والآخر كيلومتران اثنان. بدأنا نمشي على غير هدى. وصلنا قريباً من الحاجز، فبدأ القصف علينا. عُدنا أدراجنا واختبأنا حتى حلول الظلام. الساعة التاسعة مساءً عدنا إلى البساتين. بعضنا سلّم نفسه للحاجز، وبعضٌ آخر قرر مواصلة السير، وشنّ المقاومون هجوماً على الحاجز وأطلقوا النار حتى يمرّ الأهالي. كنا نمشي تحت القصف وكل واحد يفكر في نفسه، ومن يُصَب لا يجد أحداً ينظر إليه. أم عمّار، ممرّضة في المشفى الميداني، قُصفت هي وابنتها وصهرها. تركناها على الطريق ولم نستطع حتى دفنها. ممرضٌ آخر اسمه فارس الدايخ كان مصاباً في عينيه واستُشهد على «الفتحة».

مقابل «الفتحة» مجموعة عقارية تدعى «مدينة الأحلام». المدينة مهجورة، وحُلمنا الوصول إليها، ومن المفترض أنّ هناك سيّارات تنتظرنا لتقلّنا مسافة ثلاثين كيلومتراً إلى قرية «الديبة»، ومنها إلى «حسيا». عند «مدينة الأحلام» لم يكن هناك الكثير من السيّارات. المحظوظ يلاقي سيّارة تقلّنا بعضاً فوق بعض. الباص الذي يقل ثلاثين يستقبل مئة راكب. ومن لم يكن محظوظاً بسيارة أو باص، تابع سيراً على الأقدام. بعض الأهالي وصل إلى قرية «الديبة» وبقي فيها، وبعض آخر تابع إلى «حسيا» وبقي فيها.

تابعنا السير رغم القصف. لم يكن لدينا حلّ آخر. كانت رحلة ألم. تسقط القذائف، يسقط رفاق أو أقارب لك إلى جانبك، لكنك تتابع السير. لا تنظر إلى الوراء. لا تتوقف تريد أن تصل إلى برّ الأمان. وصلنا إلى «مدينة الأحلام»، وكان الهدف العبور إلى شرق الطريق؛ لأنّ الجهة الشرقية ليست تحت سيطرة الجيش، ويعرف المقاومون الالتفاف حول الحواجز هناك. منذ بداية الثورة وهم ينقلون الجرحى إلى يبرود، ومنها إلى عرسال، لذلك أصبحوا يعرفون الطريق.

مساء ٩/٦ كان بين «مدينة الأحلام» و«الديبة» خط متواصل من البشر على امتداد نحو ثلاثة كيلومترات. من «الديبة» إلى «حسيا» مسافة ١٢ كيلومتراً. صباح ٩/٦ وصلنا إلى «حسيا». آخرون وصلوا في الثالثة صباحاً، وهؤلاء كانوا محظوظين؛ لأنهم تابعوا السير ليلاً حتى وصلوا إلى «قارة». في ليلة ١٠/٦ في حسيا تمّ تأمين سيارات لنقل المهاجرين حتّى «قارة»، فبقي قسمٌ في قارة، وأكمل قسمٌ ثانٍ إلى «الديبة». ومن «قارة» توزَّعَ المهاجرون، فانتقل قسم إلى يبرود، وقسمٌ أكمل إلى عرسال في لبنان. كان الهدف الأساسي إيصال الناس إلى «قارة»، وبعدها يقرر كل واحد ما يريد أن يفعل.

«تغريبة القصير» ومزاعم «المنار»

كانت «قارة» آمنة وليست تحت سيطرة الجيش السوري. ولم يفكّر أحد في ما قد يفعله بعد الوصول إلى برِّ الأمان خلال الرحلة. الهدف الوحيد كان الوصول. لم يكن لدينا أمل في أن نحيا. في «قارة» مجموعة من أصدقائنا الأطبّاء زملاء الدراسة. والصليب الأحمر نصحني بضرورة ترك البلد؛ لأنّني كنت أتحدّث مع الإعلام. ونُصِحتُ بالذهاب إلى عرسال؛ لأنّ أحداً لن يحميني في سورية.

في هذه الأثناء، كان ثلاثمئة مهاجر واثنان وثلاثون جريحاً يفشلون في اجتياز «الفتحة»، فعادوا أدراجهم إلى البويضة حيث تعرّضوا للقصف. وهؤلاء هم من نقل مقاتلو «حزب الله» صورهم على أنّهم أسعفوهم مع الصليب الأحمر وهم اثنان وثلاثون جريحاً، وذلك كدليل على أنّهم إنسانيون ولم يقتلوا الأبرياء. غضبنا كثيراً لرؤية البثّ التلفزيوني، لهذه البطولة والشهامة من «حزب الله».

الحقيقة أنّ خمسة أطبّاء عادوا أدراجهم إلى البيّاضة وتواصلنا معهم وطلبتُ من الطبيب علي زعيتر أن يتواصل مع «الحزب» لنقل الجرحى، فما كان من «الحزب» إلّا أن استغلّ ذلك إعلاميّاً لمصلحته، في حين أنّهم منعونا من النّوم طوال ثلاثة أيّام، حيث لم يكن لدينا ماء ولا طعام. أذكر في اليوم الأول حين وصلنا إلى بستان اللّوز، أننا بدأنا نبحث عن أي مصدر للمياه، ولكننا لم نجد أيّ شيء. وجدنا بعض اللّوز لا يزال على الشجر، فبدأ الأهالي يقطفونه ليحصلوا على الماء، وكانت الأفضليّة للجرحى. في الليلة التالية وجدنا كرم عنب، فأكلنا أوراق العنب لأّنّها تحتوي على المياه. وكذلك فعلنا بالبطاطا النيئة التي اقتلعها الأهالي وقشّروها وأعطوها للمرضى من أجل الحصول على بعض الماء. ولم نحصل على الماء حتّى وصلنا إلى «مدينة الأحلام». كنّا نعتقد أننا سنروي عطشنا. للأسف كان هنالك بعض الماء في بعض الحمّامات.

«إنّها فعلاً كـ«التغريبة الفلسطينيّة»، وعندما نتحدّث عن «تغريبة القصير»، «التغريبة الفلسطينيّة» ما بتيجي شي حدها». أنا درستُ الطب في روسيا، وقرأتُ الكثير عن الحرب العالميّة الثانية، وحتّى أنّني زرتُ لينينغراد وتكلّمتُ مع أهلها وكنتُ أسألهم كيف عايشوا الحرب. كانوا يقولون إن القصف العنيف من الطيران كان يتوقّف عند سقوط عدد كثير من الجرحى. فكانوا يضعون موسيقى في الكنائس ليتوقّف القصف، فيذهب الأهالي ليشتروا ما يحتاجون إليه من مياه وطعام وعلاج للجرحى. هؤلاء الألمان النازيّون في «القصير» عندما كانوا يسمعون المناداة في الجامع كانوا يقصفون الجامع. لا يوجد مثيل لما حصل في «القصير». الحروب هي بين جيوش، ونحن قرأنا عن حرب تشرين وحروب إسرائيل، ولكنّنا لم نقرأ عن إجرام بهذه الطريقة.

خلال شهر ونصف من الحصار لم نستطع أن نُدخِل طحيناً ولا أي مواد غذائية أخرى. إدخال الدواء كان جريمة كبرى. كان الحصول على الدواء جريمة يعاقَب عليها بالتصفية الجسدية. في المشفى الميداني كان «الجيش الحر ـ الكتيبة ٢٠» ينقل بعض الدواء، ولكنّهم قتلوا جميعاً. أتاك تلفزيون «المنار» بعد «تحرير القصير» ليبثّ صوراً من المشفى الميداني، ويدّعي أنه كانت لدينا معدّات حديثة، وأننا كنّا نستعدّ للحرب كذلك، وأنّ «الإرهابيين» هم من أتوا بالمعدّات إلينا. حصلنا على بعض المعدّات من نداءات كنت أقوم بها؛ فالمشفى الحكومي بالقصير أقفل في شهر ١١/٢٠١١ وحوّلوه إلى مركز تعذيب وقتل.

فتحنا المشفى الميداني، وكنّا نعالج جرحى التظاهرات في البداية. كل الأطبّاء كانوا من القصير، لم يكن معنا أيّ طبيب «إرهابي». كنّا ثمانين طبيباً وممرّضة، كلّنا من أهالي القصير. بقينا إلى آخر لحظة في المدينة، وهاجرنا مع أهلها. لم نستطع ترك الأهالي، وكنّا المشفى الوحيد الموجود. كنتُ أعمل في النهار وأستجدي أصدقائي في أنحاء العالم كي يرسلوا لنا مساعداتٍ طبّية. اضطررنا إلى نقل المشفى إلى عدّة أحياء بسبب تعرّضه المستمر للقصف. المكان الأخير كان في الرابطة الفلّاحيّة، وقد قُصف، ومن ثم انتقلنا إلى مبنى آخر إلى حين «الهجرة».

شهادة خلود عبدالله خلف

أنا كنت أسكن مع زوجي، أو بالأحرى عريسي مهنّد محمّد مهدي حمرك، وقد تزوّجنا أخيراً في الجادّة القبليّة من القصير. أتى مهنّد خلال النهار الذي آتّخذنا فيه قرار الرحيل، وطلب منّي أن أحضر بعض الملابس لي وله. كنّا نعتقد أننا سنذهب بالسيّارات. لم نكن نعلم مكان التجمّع، فبدأنا نركض من ناحية لناحية. في البداية، ذهبنا إلى «الصالحيّة،» لكنّهم قالوا إنّ التجمّع عند المشفى الميداني، فذهبنا إلى هناك. لم نكن نعلم أنّ الرحلة ستكون على الأقدام. حين بدأنا المسير تركتُ الحقيبة وأخذت فقط قطعة غيار لي وقطعة غيار أخرى لمهنّد. لم نأتِ بأي طعام أو ماء.

الماء من حبات اللوز

الفوضى عند التجمّع كبيرة، والناس ضيّعوا بعضهم. مشيت أنا مع أمي، وكانت ممرّضة في المشفى، بالإضافة إلى زوجي مهنّد وأبناء عمي وأهل زوجي. لكننا بعد عدّة ساعات أضعنا بعضنا. عندما وصلنا إلى بستان اللوز، بدأنا نبحث عن أهلنا. وجدت أهلي، ولكننا لم نجد أهل زوجي. البستان مليء بالبشر، وأنا كنت أبحث عن بيت عمي حين بدأ القصف علينا وسقط جرحى وشهداء. لم يكن لدينا أيّ ماء لإسعاف الجرحى الجدد والجرحى الذين أتوا من القصير. رأيت بعض الأهالي يحاولون سحب بعض نقاط الماء من داخل «نبريج»، وبعض هؤلاء حاول أيضاً استخراج الماء من حبّات اللوز.

بدأت أصرخ: «أرجوك أسعفه. أنا متزوجة حديثاً، ساعدني». حاولت أن أحمل زوجي، لكني لم أستطع. صرخت بالطبيب: «لماذا تقول له أن يتشهّد؟ سيعيش»عند حلول المساء قيل لنا إننا سنبدأ بالمشي. كنا نمشي معاً، ولكن يبدو أنّ قسماً منا ضلّ الطريق. حاولنا الرجوع، فضللنا الطريق نحن أيضاً. كنا نحو مئة شخص. كنت أمشي مع أمي وزوجي. كانت أمي تعبة جداً؛ فهي ممرضة في المشفى الميداني، ولم تذق النوم منذ شهر. وقعتْ أرضاً مرتين، وكنت أنا وزوجي نسندها لكي تتابع المسير. فجأة، فيما كنا نبحث عن الآخرين، انهمرت علينا القذائف و«ضَرْب الرصاص»، وكنا قد جلسنا لنرتاح قبل المتابعة. لم نُصب. طلبنا المساعدة؛ لأننا ضللنا الطريق، فأتى خمسة أشخاص ليصطحبونا، وقبل أن يصلوا إلينا بنحو مئة متر، سقطت قذيفة علينا. في البداية، شعرت بأنني متّ، ولكن بعد قليل تحسست نفسي وأردت أن أعرف ماذا حصل لي ولزوجي. كانت الدنيا مظلمة، وبدأت أتحسّس جسد أمّي. كانت جثّة هامدة، وبقيت أتحسّس جسدها حتى وصلت إلى رأسها، وعلمت أنها أصيبت في الرأس وقد توفيت فوراً. زوجي كان بعيداً عني بخطوتين. اقتربت منه وكان أحد الطباء بجانبه، وهو لا يزال على قيد الحياة. طلب ماءً، ولكن الطبيب قال له: «تشهّد». بدأت أصرخ: «أرجوك أسعفه. أنا متزوجة حديثاً، ساعدني». حاولت أن أحمل زوجي، لكني لم أستطع. صرخت بالطبيب: «لماذا تقول له أن يتشهّد؟ سيعيش». لكن الطبيب أعلمني أنه سيتابع السير، فطلب مني زوجي أن أمشي معهم وأن أتركه. رفضت في البداية، ولكنه قال لي: «اتركيني، حاجي تعذبيني». قلت له إنني سأعود لأحمله. مشيت قليلاً وندمت لأنني تركته. طلبت من الدكتور والآخرين العودة معي، ولكنّ أحداً لم يقبل. وجرّوني جرّاً لمتابعة المسير. لم أكن أستطيع سماع أي شيء من جراء القذيفة. وصلنا إلى «مدينة الأحلام»، وكنت مُنهكة غير قادرة على الكلام، ولكنني استجديت أن يعود معي أحدهم حتى ندفن زوجي وأمي على الأقل، ولكنهم وضعوني في سيارة، ووصلت إلى حيث كان إخوتي وأبي وأخبرتهم بما جرى. بعدها أتينا بسيارة إلى «عرسال».

أن أدفن أمي وزوجي على الأقل

في عرسال، بدأتُ أسائل الأهالي عن قصصهم. كنت أودّ أن أعرف ما إذا كان أحدهم قد وجد أمي وزوجي. لكن الكلّ كانوا قد أخذوا طريقاً آخر. أعتقد أنهما لم يُدفَنا. بقيا على الطريق. المشهد الأخير بعد سقوط القذيفة لا يفارق مخيلتي. أتذكّر كيف وعيت ووجدتهما حولي، وكيف استجديت الطبيب الذي غضبت منه لأنه لم يساعد زوجي. كنت متأملة رغم معرفتي أنّه لن يعيش… إنّني أشعر بالمسؤولية. كان من المفروض أن أبقى معهما وأموت معهما، لا أن أتركهما. أو ربما كان يجب أن أعود إليهما بأي طريقة، أو على الأقل كان يجب أن أدفنهما. لكنّ عقلي كان «مسكّر»، وما كنت أفكر في شيء… هو لم يكن يريد أن يترك القصير. قال لي: «طلعي إنت وأنا بضلّ»، لكن من خوفه عليّ قرّر الهجرة. لا أعرف كيف تركته يموت على الطريق. كان يعمل سائقَ سيارة إسعاف في المستشفى الأهلي، وقد أخرج جرحى إلى «عرسال» في بداية الحصار، وأُوقف وقال للجيش إنّ «المجموعات الإرهابية أجبرته على أخذ الجرحى». عملنا واسطة لكي يطلع من السجن، ولكنه فقد وظيفته ورفضوا أن يعطوه ورقة «لا حكم عليه». ولكن كان لدينا أمل في أن تتحسن الأوضاع ويجد عملاً. الآن لم أعد آمل شيئاً. لا أريد سوى العودة إلى «القصير.»

لا أعرف ما الذي دفعني إلى أن أتركه، ولكني أذكر كلماته الأخيرة بأن أُريحَ له ضميره وآخذ الأمانة التي أرسلها أحد أهالي القصير إلى أهله. قال لي: أودّ أن أموت وضميري مرتاح. يجب أن توصلي الأمانة. أعطاني ظرفاً فيه بعض المال ودفعني إلى تركه لكي لا يتحمل ذنب عدم توصيل الأمانة. لا أعرف إن كنت قد تركته لأنني أودّ إراحة ضميره أم لأنني كنت خائفة على نفسي؟ كل ما أعرفه هو أنني أتمنى لو كنت مكانه.

شهادة المدرّس أحمد رحمة

استشهد مئتان من الجرحى على الطريق، ونحو ثلاثمئة من المهاجرين. عدد شهداء الهجرة بلغ نحو خمسمئة، وهناك ألف مفقود لم نعرف أين ذهبوا.

«بِعْنا ذهباتنا لنشتري بواريد للثوار»

بالتأكيد أنّ الجيش السوري لم يكن ليستطيع دخول القصير لولا مساعدة «حزب الله»يبدأ الرجل حديثه بالتأكيد أنّ الجيش السوري لم يكن ليستطيع دخول القصير لولا مساعدة «حزب الله». كان عدد الثوار قليلاً في القصير. نحو خمسمئة رجل، ولم يستطع النظام أن يدخل المدينة. يضيف أن «الجيش السوري كان سينهار لولا مساعدة «حزب الله» الذي أرسل كلّ قواته لقتل الشعب السوري، فأصبح هذا الأخير يحارب نظامه وإيران و«حزب الله» وكل العالم… السعودية وقطر وكل العالم الباقي أرسلوا لنا فقط كلام… كلام… كلام… في حين أنّ النظام حصل على المساعدات العسكرية من إيران وروسيا بالإضافة إلى ترسانته… السعودية تركت المليارات والأسلحة على الحدود؛ لأنّ أميركا وإسرائيل وكلّ العالم مع النظام. حزب الله» احتلّ المدينة… اكتبي هذا أرجوك… هو والنظام قوات احتلال».

تقاطعه زوجته فاطمة: «لم نرَ أسلحة من أحد. لم يدخل القصير أيّ مساعدات عسكرية من أيّ طرف كان، وما كان فيها رجال بتقاتل من برا القصير. بدك تعرفي كيف حصلنا على الأسلحة؟ بعنا ذهباتنا لنشتري أسلحة- بواريد يعني للثوار – خلص الذهب من القصير، والكل أعطى لولاده ليشتروا بواريد ويدافعوا عن المدينة».

ويكمل أحمد قائلاً: «قبل الحصار الأخير ومنذ بداية الثورة، استعمل الثوار البواريد فقط، وكان الجيش النظامي يطلق النار على الحواجز. معظم الوقت كان إطلاق النار من النظام في الهواء هدفه الترهيب فقط وإدخال الرعب. مقابل ذلك، كان شبّان المدينة يمنعون أيّاً من عناصر الجيش من النزول إلى الشوارع. كنا في المستوى نفسه: الجيش يحارب بالبواريد، ونحن نحارب بالبواريد أيضاً. هكذا كانت الحال خلال السنتين الأوليين للثورة. أحياناً كان يحصل ضرب (قصف) على أحياء معيّنة تجابهه مقاومة. يرحل الأهالي إلى أحياء أخرى من المدينة ثم يعودون إلى بيوتهم. كان هناك توازن رعب بين النظام والمقاومين. لم يستطع النظام أن يدخل أيّ حيّ من أحياء المدينة حتى أول شهر حزيران عندما استعان بالإيرانيين و«حزب الله». عند دخول قوات «حزب الله» المعركة بدأنا نشعر بالفارق. في ٢ حزيران أصبح القصف كثيفاً، فتركنا البيت وسكنّا مع بنات أخي في الحيّ الوسط للمدينة (من الحيّ الجنوبي حيث نسكن)، وأخذنا «غياراً» واحداً لأننا كنّا نأمل أن نعود بعد هدوء القصف. كنا خمسة وعشرين شخصاً في غرفتين. ما كان فيه مازوت ولا كهرباء وبالتالي لم يكن فيه ماء، والقصير كانت تعتمد في الفترة الأخيرة على مياه الآبار؛ لأنّ النظام قطع المياه عنّا. لحقنا الضرب إلى الحيّ الوسط. تركناه وانتقلنا إلى بيت لابنتي كان لا يزال قيد الإنشاء، سكنّا فيه ثلاثة أيام، ومن ثمّ لحقنا الضرب إلى هناك.

بقينا على هذه الحال إلى أن اتخذ الثوار قرار الرحيل. بدأنا المشي ليلاً. أنا عمري خمس وسبعون سنة، وكنت أمشي مع مجموعات من البشر ليس لدي أي رابط معهم. كلّهم أصغر مني سنّاً. لم يكن معنا ماء ولا طعام. كان النوم نهاراً تحت فَيء الشجر، والمشي خلال الليل. أكلت بطاطا وورق عنب. لم أشعر بأّنني متمسك بالحياة كما شعرت ذلك اليوم. كان معنا شاب وأبوه. ترك أباه وغادر. وقال لي: إذا كنت إلى جانبه وأُصيب فلن أقدر على حمله، وإذا تركته سأُحس بالذنب، فتركته يمشي وحده. خلال عبور «الفتحة» ما حدا تطلّع بحدا. الناس تمشي كأنها منوّمة مغناطيسياً. عند سقوط القذائف بعض الناس تستلقي على الأرض والبعض الآخر يتابع المسير. الحياة والموت يتساويان بشكل مطلق عند «الفتحة» قبل الوصول إلى «مدينة الأحلام». بعد الوصول إلى مدينة الأحلام ذهبنا إلى «شتشاء» ثم «شمسين»، ومن بعدها «حسيا»، ثم إلى يبرود فعرسال. واستقررنا في «العين» حيث كان ابني وعائلته قد سبقونا إليها منذ عام».

تضيف الزوجة: «كان هناك حماس عام لدى الشباب، لكن إجوا «الحزب» وقلبوا كل موازين الرعب. كلنا بالحي بعنا الذهب لنعطيه للشباب المتحمس ليشتري بواريد. فقدتُ ابني وابن بنتي ولم أرَ أحفادي منذ تسعة أشهر. الحمد لله هناك تليفونات وعرفنا أنهم في طرابلس لأنهم حكوا مع إبني اللي صار صلة الوصل مع كل اللي وصلوا على بيروت.»

بعد انسحاب المقاومين أتى الشبيحة وسرقوا البيوت، وما لم يستطيعوا سرقته أحرقوه. قاموا بحرق البساتين وقطع الأشجار كأنهم يقولون لنا إنّه لا عودة لكم بعد الآن. لقد فعلوا كما فعل اليهوديكمل أحمد: «بعد انسحاب المقاومين أتى الشبيحة وسرقوا البيوت، وما لم يستطيعوا سرقته أحرقوه. قالت لنا ابنتي التي حاولت زيارة بيتها إنّها وجدت حتى قنينة الغاز محطّمة. لقد قاموا بحرق البساتين وقطع الأشجار كأنهم يقولون لنا إنّه لا عودة لكم بعد الآن. لقد فعلوا كما فعل اليهود. أنا حزين لأنني لم أكتب شيئاً في مذكّراتي؛ فأنا أستاذ تاريخ وعلّمت في ثانوية «القصير»، وكنت أحتفظ بيومياتي منذ ثلاثين عاماً عن كل ما تغيّر حولي في القصير، من توسيع للمدينة يوماً بعد يوم، إلى ارتفاع أسعار الخضار والمواد الغذائية، إلى كل ما كان يدخل المدينة من مواد جديدة… لدي نحو ٢٨ مجلداً لا تحتاج إلا إلى تبويب. كلّ عمري راح مع تلك الأوراق. إنّه الاستعمار بثياب جديدة».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى