سياسة

المطالبة بإعادة هيكلة المعارضة -مقالات مختارة-

مبادرة من مركز (حرمون) لإعادة النظر في التشكيلات السياسية السورية المعارضة

كشف مركز (حرمون) للدراسات المعاصرة، عن “مبادرة” ضمن برنامج المبادرات السياسية التي يعمل عليها المركز، موجّهة إلى التشكيلات السياسية السورية، وقال إنها قُدّمت إلى ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية في حزيران/ يونيو 2016، ولم تُنشر في حينها، وأعلن عنها للسوريين في هذه الفترة بسبب وجود دعوات عديدة لإعادة النظر في الائتلاف والتشكيلات السياسية السورية المعارضة الأخرى.

في مطلعها، أكّد المركز على أنه “لا بديل من الاستقواء بالسوريين: بناء مركز سياسي وطني حقيقي هو الخطوة الضرورية الأولى في مواجهة التحديات الراهنة”.

وفيما يلي نصّها الكامل:

* * *

أولًا: المعطيات الواقعية

تنطلق المبادرة من الإقرار بالمعطيات الواقعية التالية، على المستويين الدولي والإقليمي:

1– الولايات المتحدة الأميركية ليست في موقع الحليف للشعب السوري، وتطلعه نحو الحرية والكرامة، وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية المستقلة؛ و غير مهتمة بإيجاد حلٍّ جذري للقضية السورية.

2– لا تستطيع أوروبا -بجميع دولها- أن تخرج على المسار الأميركي، في ما يتعلق بالقضية السورية.

3– القضايا الأساسية التي تشكل هاجسًا مقلقًا، للأميركيين والأوروبيين، هي قضية اللاجئين، وقضية التطرف والإرهاب.

4– لا تستطيع الدول، التي ادّعت الوقوف إلى جانب الشعب السوري، أن تقدم حلولًا إنقاذية، كما لا تستطيع تجاوز الإدارة الأميركية.

5– روسيا وإيران داعمتان للنظام السوري، ولا يُتوقّع حدوث تغيير جدّي في موقفيهما.

وتنطلق أيضًا من المعطيات التالية على المستوى الذاتي:

1– صرفت القوى التي تصنِّف نفسها تحت اسم “المعارضة” وقتًا طويلًا، وجهدًا كبيرًا، في إطار مناشدة الدول؛ لكنها بنت -في الحصيلة- علاقات دولية هشة، وساذجة، على أسس فردية وذاتية.

2– لم تتوجه هذه القوى إلى السوريين لتنظيمهم، ووضعت البيض -كله- في سلة الاعتماد على الخارج.

3– معظم أعضاء الائتلاف الوطني ينتقدون الائتلاف الوطني، ويدركون فوضويّته وعجزه.

4– الصراع المسلح طريقه مسدود، ولا يوجد إمكان، في ظلّ المعطيات الحالية؛ لبناء جيش وطني سوري، يكون أساسًا راسخًا لدولة سورية وطنية.

5– لم يشكِّل الائتلاف الوطني، ولا التشكيلات السياسية الأخرى، مرتكزًا وطنيًا للسوريين، عقلانيًا ورزينًا.

6– لم تقدِّم الفوضى الإعلامية، التي شارك فيها معظم التشكيلات والشخصيات السورية، أي بوصلة واضحة ومحترمة للسوريين.

7– كل نظرة تستند إلى تصنيف السوريين إلى طوائف وأعراق، هي نظرة ساذجة وواهمة، على المستوى العقلي، وهدّامة ومخرِّبة على المستوى الواقعي.

ثانيًا: محور المبادرة وهدفها

لا بديل من الاستقواء بالسوريين: بناء مركز سياسي وطني حقيقي (مؤسسة وطنية سورية منظمة) هو الخطوة الضرورية الأولى لمواجهة التحديات الراهنة، وتحقيق مصلحة الشعب السوري، ولتغيير مواقف الإقليم والعالم.

ثالثًا: المبادئ الأساسية الحاكمة للمبادرة

1– استقلال سورية ووحدتها أرضًا وشعبًا.

2– بناء دولة محايدة، دولة وطنية ديمقراطية حديثة، ونظام حكم لامركزي موسّع.

3– المواطنة المتساوية، بصرف النظر عن الدين أو الطائقة أو العرق أو الأيديولوجية أو الجنس.

4– علاقات إقليمية ودولية متوازنة، أساسها المصلحة الوطنية السورية.

5– الإيمان بحلٍّ سياسيٍّ، لا مكان فيه للأسد وحلقته الضيّقة.

رابعًا: التوجّه المطلوب من الائتلاف الوطني، والتشكيلات الأخرى

1– لا يحتاج الائتلاف الوطني السوري، أو غيره من التشكيلات، إلى إصلاح، أو إعادة هيكلة، بل إلى إعادة بناء مدروسة؛ والنقطة الوحيدة التي يمكن الحفاظ عليها -سلفًا- هي اسمه.

2– إعادة بناء الائتلاف الوطني، أو إصلاحه من داخله، غير ممكنة.

3– التخلي عن مصطلح “المعارضة”، واستبداله بتعبير “القوى السياسية الوطنية”.

4– إقرار الهيئة العامة للائتلاف الوطني السوري، وتشكيلات سياسية أخرى، بتكليف مجموعة من الشخصيات السورية المستقلة، من خارجه (مجموعة مختارة لا يتجاوز عددها 155 شخصية)؛ من أجل إعادة بناء “الائتلاف الوطني” على أسس جديدة ودقيقة.

يجري اختيار أعضاء هذه المجموعة المختارة، استنادًا إلى المعايير التالية:

أ- الوطنية السورية، الاستقلالية وعدم الارتباط بأي دولة، النزاهة، المعرفة والخبرة في الشؤون السياسية والتنظيمية.

ب- الإقرار بعدم الترشح لعضوية الائتلاف الوطني الجديد، بعد إعادة بنائه، وعدم الترشح لأي موقع، خلال المرحلة الانتقالية.

ج- مدة عمل هذه المجموعة المختارة شهر واحد فقط، وتنتهي صلاحياتها بعد ذلك.

د- قرارات هذه المجموعة ملزمة للجميع، ولا تحتاج إلى تعديل، أو تغيير، من أي جهة.

خامسًا: مهمات مجموعة الشخصيات المختارة

1– وضع رؤية سياسية، وبرنامج سياسي، ومحدِّدات أساسية للخطاب السياسي والإعلامي، ومحدِّدات للعلاقات الإقليمية والدولية.

2– وضع تصوّر لهيكل تنظيمي، ونظام داخلي جديد، يتوافر فيه مجموعة من السمات: الدقة والوضوح، آلية واضحة لاتخاذ القرارات، وضوح العلاقة بين هيئاته، مهمات مكاتبه الإعلامية، والعلاقات الخارجية، آلية التحكيم في حال حدوث خلافات، حقوق العضوية وواجباتها، وآليات تجميدها، أو إنهائها، رشاقة القيادة في اتخاذ القرار، الحالات والقضايا التي تحتاج إلى اجتماع هيئته العامة (اجتماع جميع الأعضاء)؛ للبتّ فيها، واتخاذ القرارات في شأنها.

3– وضع تصور عام ومحدِّدات أساسية لخطة عمل، ممكنة التطبيق، في ظل المعطيات السياسية والميدانية الحالية.

4– تحديد عدد أعضاء الائتلاف الجديد، وتحديد نسبة وعدد الشخصيات المستقلة فيه.

5– وضع معايير موضوعية؛ لاختيار الشخصيات المستقلة (المعرفة والخبرة والنزاهة… إلخ)، وتحديد الأسماء المختارة.

6– وضع معايير موضوعية؛ لاختيار التنظيمات السياسية التي يحق لها اختيار ممثلين عنها في الائتلاف الجديد: التزام المبادئ الأساسية الحاكمة المذكورة سابقًا، الوجود الفعلي للتنظيم السياسي (عدد الأعضاء)، برنامجه السياسي ونظامه الداخلي… إلخ، ويمكن للقوى العسكرية أن تشارك في الائتلاف الوطني الجديد عبر ممثلين سياسيين لها، شريطة التزام المبادئ الأساسية المذكورة.

7– تقديم أسماء شخصيات الائتلاف الوطني الجديد وفق ما سبق، بعد التواصل معها ومع “القوى السياسية”، ودعوتها إلى عقد الاجتماع الأول.

سادسًا: التزامات “برنامج المبادرات السياسية” في مركز حرمون للدراسات المعاصرة تجاه المبادرة

يلتزم “برنامج المبادرات السياسية” في مركز حرمون للدراسات المعاصرة بتقديم كل ما من شأنه إنجاح المبادرة، خصوصًا من ناحية تقديم الدعم اللازم لمجموعة الشخصيات المختارة، وليس من الضروري أن يشارك المركز، أو إدارته، في لقاءات هذه المجموعة:

يمكن لمركز حرمون أن يقدِّم ما يلي:

1– تقديم أوراق سياسية مقترحة.

2– تقديم تصورات تنظيمية، وخطط عمل ممكنة.

3– توفير الدعم اللوجستي، ومستلزمات اللقاءات المتعدِّدة لمجموعة الشخصيات المختارة، طوال فترة عملها.

تحتاج هذه المبادرة حقًا إلى من يتبناها من الشخصيات والقوى السياسية المختلفة الموجودة في الائتلاف الوطني السوري وغيره من التشكيلات، للعمل من أجل تحقيقها، كما تحتاج إلى دعم جميع قوى المجتمع السوري وناشطيه في الحيزات كافة، المدنية والثقافية والإعلامية، لممارسة ضغوط حقيقية منتجة لتحويل المبادرة إلى واقع.

في الحصيلة، هذه المبادرة لنقول إن طريق الإصلاح والتغيير والبناء بيِّن،

وطريق الاستمرار بالتفسّخ والعجز والهامشية بيِّن،

وما على السوريين إلا الاختيار بينهما..

—————————–

مبادرة مركز حرمون لإعادة بناء الائتلاف/ حسن النيفي

تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي خلال الأسبوع الجاري مضمون (وثيقة – ورقة ) قام بإنتاجها وصياغتها مركز حرمون للدراسات المعاصرة، وتتضمن الورقة مبادرة لإعادة النظر في التشكيلات السياسية السورية المعارضة، ولعلّ المعني بهذه التشكيلات على وجه الحصر هو ( الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة). ووفقاً لمصادر نُسبت إلى مركز حرمون، إذ أفادت بأن المبادرة لم تكن وليدة الوقت الراهن، بل يعود تاريخ صياغتها إلى العام 2016، وقد قدّم مركز حرمون إلى الائتلاف نسخة منها في شهر حزيران من العام المذكور، إلّا أن الائتلاف لم يبد حيالها أيّ اهتمام، فما الذي دعا إلى طرحها من جديد في الظروف الراهنة؟

لسنا بحاجة إلى مزيد من التفاصيل في الحديث عن الأزمة المزمنة التي يعاني منها الائتلاف، بل ربما أصبحت – بفعل تفاقمها وتراكمها – أزمة مركَّبة، فهو أولاً – الائتلاف – يعاني من مشكلة ذات صلة ببنيته التنظيمية والإدارية، تلك المشكلة التي ولدت مع نشأته عام 2012، وتنامت مع استمراره إلى الوقت الحاضر، وقد أدّى استفحال هذه المشكلة إلى شلل النواظم المؤسساتية والتنظيمية، وترسيخ سلوك قائم على حيازة مواقع النفوذ والصراع على اقتسام مفاصل القرار، وفقاً لما يحوزه كل طرف من أوراق قوّة، مُستمدَّة في غالب الأحيان من ولاءات لجهات إقليمية، أو من اعتبارات ما دون وطنية، ما أدّى إلى إحداث فجوة كبيرة بين جمهور الثورة والائتلاف الذي بات من العسير عليه – ضمن المعطيات الراهنة – أن ينهض بعبء ردم تلك الفجوة أو تجسيرها، وبطبيعة الحال لا يمكن إنكار أو تغييب عوامل أخرى في غاية الأهمية، لعلّ أبرزها انحسار عوامل القوّة من مفاصل الثورة – عسكرياً وسياسياً – بفعل الدعم المطلق من حلفاء النظام وقدرتهم على تحصين نظام الأسد من أي مساءلة دولية يمكن أن تطوله جرّاء جرائمه بحق السوريين، وكذلك حمايته من أي عقاب أو رادع جرّاء عدم امتثاله للقرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية، ومماطلته والتفافه، بل وازدرائه بمجمل معطيات العملية السياسية ونواظمها الأممية، الأمر الذي جعل موقف أنصار الثورة من الائتلاف مزيجاً يتراوح بين السخط العاطفي نتيجة الإحباط واستمرار المأساة وتجذّرها، وبين الموقف العقلاني الناقد الذي يطالب بإعادة إنتاج كيان الائتلاف وفقاً للمستجدات الراهنة.

تكتسي مبادرة مركز حرمون بعضاً من أهميتها لجملة من الأسباب، لعل أهمها التوقيت الذي تظهر فيه من جديد، ونعني بذلك تعدد المحاولات التي تقوم بها بعض القوى والتشكيلات الحزبية السورية من إنشاء مؤتمرات وندوات وحوارات صاخبة بهدف إيجاد كيان أو كيانات جديدة، قد تكون بديلاً أو كياناً موازياً للائتلاف، ربما يجد فيه البعض حلّاً مناسباً لمشكلة التمثيل السياسي لما تبقى من ثورة السوريين، وبعيداً عن التكهّن بنجاح هذه المحاولات أو عدمه، فإنه يمكن التأكيد على أن ثمّة انقساماً واضحاً في الرأي ضمن تلك القوى والتشكيلات ذاتها، فثمة من يرى ألّا جدوى من أي محاولة لإصلاح الائتلاف، بل الواجب نسفه أو تجاوزه، نظراً لفداحة العطب الكامن في بنيته وسلوكه معاً، إلّا أن فئة أخرى ترى أن المصلحة الوطنية في الوقت الراهن لا تستدعي التفريط بالائتلاف ككيان عام، ذلك أن الحالة السورية لا تحتمل مزيدا من التجريب أو المغامرة، بل الأولى والأجدى إعادة بنائه من جديد، ليكون عمله موازياً لأعباء ومتطلبات المرحلة الراهنة، شريطة أن تكون إعادة بنائه تطول جذوره التنظيمية ومسلكه السياسي معاً، وليست حالة ترقيعية كما هو الحال في المرات السابقة. ولعل هذا الرأي هو الأوسع قبولاً لدى قطاع واسع من القوى والجماعات والأفراد، وهذا ما يتماهى مع مسعى مبادرة حرمون التي تهدف إلى إعادة البناء الجذري مع الحفاظ فقط على اسم الائتلاف. أضف إلى ذلك، أن ما يجعل هذه المبادرة أكثر قبولاً ومصداقية هو كونها صادرة من مركز بحثي مستقل، منحاز – وطنياً – إلى الثورة السورية، ولكنه غير منحاز – سياسياً وإيديولوجياً – إلى أي جهة سورية معارضة، ما يجعل ردّات الفعل الأخرى على طروحاته أقلّ حساسية، وذلك نظراً لشيوع للمناخات المشحونة والمليئة بالنزعات والتجاذبات ذات النزعة الشخصية في أوساط المعارضة السورية.

ثمة ما يعفينا من الحديث المفصّل عما جاء في المبادرة، ذلك أنها باتت منشورة في أكثر من موقع أو صحيفة، ومن المتاح قراءة تفاصيلها لمن يشاء، وما هو متاح لنا في هذا الحيّز المحدود من هذه المقالة، هو الوقوف عند نقطتين اثنتين وردتا في تضاعيفها، تكمن الأولى في إحدى (المعطيات) التي تم تصنيفها ضمن (المستوى الذاتي)، وهي التي تحمل الرقم ( 7 ) والتي تقول: (كل نظرة تستند إلى تصنيف السوريين إلى طوائف وأعراق، هي نظرة ساذجة وواهمة، على المستوى العقلي، وهدّامة ومخرِّبة، على المستوى الواقعي).

ولعل مضمون  المقبوس السابق يحيل إلى ردّ مباشر على ما حاولت، وما تزال، بعض الأطراف الدولية، وفي طليعتها روسيا، إظهار الحرب الدائرة في سوريا على أنها ذات منشأ عرقي أو طائفي، وأن سبب انفجار الشارع السوري لا يعدو كونه صراعاً بين أقوام وطوائف ، قد تحوّل إلى حرب طاحنة، ولهذا أطلق الروس مصطلح – مؤتمر الشعوب السورية  – على مؤتمر سوتشي في كانون الثاني 2018، غداة انعقاده، وقد قوبلت تلك التسمية آنذاك برفض كبير. ولا داعي للتأكيد على أن هذا المسعى يعمل على تغييب جوهر قضية السوريين التي تتمثل بوجود نظام الاستبداد الأسدي (أصل المشكلة)، هذا لا ينفي – بالطبع – حاجة السوريين إلى إعادة النظر والبحث الجدي في العديد من المسائل ذات الصلة بحقوق كل المكوّنات وصياغة مفهوم للوطنية السورية، وإنجاز عقد اجتماعي جديد، ولكن هذا كلّه لا يمكن تحقيقه إلّا في مناخ ديمقراطي لا يمكن حصوله في ظل دولة الاستبداد والتوحّش. فضلاً عن ذلك، فإن المقبوس السابق ينفي أيضاً إمكانية التمثيل السياسي للسوريين وفقاً لمبدأ المحاصصة العرقية أو الطائفية التي تحرص بعض الكيانات الرسمية على التمسّك بها، فقط إرضاءً لإملاءات خارجية، بعيداً عن الحاجات الوطنية.

كما تشير المبادرة في إحدى فقراتها التي تتحدث عن الإجراءات العملية لإعادة بناء الائتلاف، بناءً على التمثيل الحزبي (وضع معايير موضوعية لاختيار التنظيمات السياسية التي يحق لها اختيار ممثلين لها في الائتلاف)، ولا نعلم كيف ستكون عبارة (معايير موضوعية) مجدية أو ذات فاعلية، ضمن شروط  تكاد تكون لا موضوعية أحاطت بتشكيل أو تأسيس المئات، إن لم تكن الآلاف من الأحزاب والجماعات والتشكيلات السياسية التي نشأ معظمها بعد آذار 2011، فضلاً عن أن معظمها، بل أغلبها الساحق قد تشكل خارج الأرض السورية، وهي في مجملها لا نملك لها أي ملمح حسّي سوى ما يُكتب على وسائل التواصل الاجتماعي، فما هي السبل أو الآليات التي يمكن من خلالها التحقق من ماهيّة هذه الأحزاب أو القوى؟ هل من خلال مطالبتها ببيانات عددية عن أعضائها؟ وهل من العسير تقديم قوائم بآلاف الأسماء الوهمية لمن يشاء؟ أم هل يمكن الركون إلى كل حزب أو تيار لا يتجاوز عدد أعضائه أصابع اليد، وكل واحد منهم يقيم في قارة، وما يجمعهم صفحة فيسبوك أو موقع إلكتروني فقط؟ بالتأكيد هذا الاعتراض لا ينفي ضرورة التمثيل الحزبي في أي كيان وطني جامع للسوريين، ولكن شريطة أن تتوفر البيئة المناسبة التي تتيح التحقق من ماهية الأحزاب وحقيقة وجودها وفاعليتها وقدرتها على تجسيد تطلعات السوريين والتعبير عن آرائهم وتوجهاتهم بمزيد من الشفافية والواقعية، وهذا ما لا تتيحه الظروف الحالية للسوريين الذين تناهبتهم بلدان اللجوء والمنافي.

يبقى القول: إن مركز حرمون للدراسات المعاصرة، إذ يؤكّد أنه هو من أنتج تلك المبادرة منذ سنوات ثلاث، إلّا أنه يؤكّد أيضاً – على لسان أحد مسؤوليه – أن المركز إذ ينشر هذه الورقة، فإنه لا يدّعي طرحها من جديد على أحد، ولا يتبنّى حالياً أيّ مبادرة سياسية، وربما كان هذا التأكيد مخالفاً لرغبات كثير من السوريين الذين ينتظرون انخراطاً أكبر لمراكز البحوث والدراسات في المساهمة الفعالة في الشأن الوطني العام، ليس من خلال الميدان البحثي المعرفي فحسب، بل من خلال الميدان السياسي المباشر أيضاً، فما يمتلكه مركز حرمون من خبرات إدارية وتنظيمية، فضلاً عن امتلاكه قدرات لوجستية تمكّنه من المساهمة في مواجهة الأزمة الراهنة التي تواجه كيانات المعارضة، سواء الرسمية أو سواها.

تلفزيون سوريا

————————-

سورية .. بدائل وخيارات/ ميشيل كيلو

ملاحظات تمهيدية:

أولاً، تخطينا في سورية، منذ فترة غير قصيرة دور الحلول الجزئية في إصلاح أوضاع ما نسميها الثورة التي نتحمّل جميعنا، وإن بأقدار جد متفاوتة، المسؤولية عمّا آلت إليه من أحوال كارثية، يزيد من فداحتها التخبط والافتقار إلى الأفكار والأدوات والوسائل الضرورية لإخراجنا مما وصلنا إليه، ولامتلاك القدرة على تقرير ما يجب أن يرتبط بإرادتنا من شؤوننا الخاصة، سواء كنا أعضاء في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، أم لم نكن، علما أن الذين يعلنون، منذ فترة، الرغبة في إصلاحه يقصرون جهودهم على جوانب تقنية، لا تطال مشكلاتنا ومشكلاته الحقيقية، بل تتجاهلها، وتقفز عنها.

وتخطينا، كذلك، زمن الحلول الترقيعية، وتلك التي تريد سدّ نواقص هنا وإزالة عيوب هناك، لاعتقاد أصحابها أن العمل الوطني السوري يعاني من شوائب وحسب، ولا يواجه أزمةً بنيويةً عميقة ومستفحلة تخترق تعبيراته وتمثيلاته كافة. هذه المحاولات الترقيعية هي جزء من عجزنا الفاضح والكارثي ومن أزمتنا، على الرغم مما قد يكمن وراءها من رغبةٍ في تحسين أداء “مؤسسات المعارضة”، ومن شعورٍ بخطورة واقعها الذي ينحدر بها يوميا من سيء إلى أسوأ. ومع أن هذه المحاولات العبثية تكرّرت غير مرة خلال الاعوام الخمسة الماضية، فإن الفشل كان دوما بانتظارها، بما أنها سعت إلى إصلاح مؤسسة تمثيلية تقاوم بنيتها، وآليات اشتغالها، ويتناقض وجود ودور بعض أصحاب القرار فيها مع تغييرها بإصلاحها، بعد أن هيمنت الأمة عليها، بجهودهم بالدرجة الأولى، خلال قرابة عقد، حتي خال معظم من فيها أن وضعها الطبيعي، وأن ربطها بممارساتٍ وأهدافٍ تتناقض مع الوطنية السورية وهدف الحرية، يغنيانها عن وضع برامج وخطط واستراتيجياتٍ تعبر عن هويتهما الجامعة، فلا عجب أن بقيت الثورة من دون مرجعية تحظى باعترافٍ داخلي وخارجي، وينضبط بالقيادة التي تتولى تطبيقها حقل ثوري موحد سياسيا وفي إطار مقاومة الأسدية، كرّس غيابه غربة العمل المعارض عن ما يفترض أنه حامله المجتمعي، وتعبيره المطابق الذي يلتزم بمواقفه وخياراته، وأدّى غيابه إلى تبعية “الائتلاف” والمعارضة، تبعية تزايدت باضطراد لجهاتٍ وعلاقاتٍ أبعدتها أكثر فأكثر عن وظيفتها الوطنية، وقيدت حركتها.

ثانياً، على الإصلاح الجدّي الانطلاق من واقعنا الراهن، الذي يتعين بعاملٍ غير مسبوق في علاقات الحكام بالحاكمين خلال تاريخنا الطويل، عاملٍ نوعي يطرح علينا تحدّياتٍ لم نعرفها من قبل، ولا خبرة لدينا في التعاطي معها، هو استهداف الأسدية مجتمعنا وتدميره بطريقةٍ تتخطّى السياسة إلى وجوده، بدعم من روسيا وإيران، ونجاحها، بالتعاون مع تيارات الأسلمة المتطرّفة، في تقويض وحدته وهويته كمجتمع انهارت علاقاته الداخلية، وحكمتها تناقضاتٌ فئويةٌ داميةٌ وثأرية. هذا المآل المرعب يحدّد ما علينا القيام به للتصدّي لنتائج هذا الاستهداف التي تتخطّى أي تنظيم سياسي، أو تيار حزبي أو ديني، سلمي أو مسلح، وتطوي صفحة سورية الوطن ومجتمعها، وينوء شعبنا بمختلف فئاته، وعلى جانبي الصراع، تحت وطأة ما نجح في إنتاجه من كوارث حلّت بها جميعها، وستحول دون عودتها إلى ما كان لها من أوضاع طبيعية، بسبب ما تعرّضت له من تهتك عميق وتدمير مدروس، هنا وهناك، عند المعارضة والسلطة.

لما تقدّم، لا بد من القول: إن ما يخرجنا مما نحن فيه لا يمكن أن يكون خطوةً جزئيةً أو ترقيعية، وأن يقتصر على فئة من السوريين دون غيرها. ويلزمنا بابتداع أدوات عملٍ عام لحقل سياسي تختلف ويختلف عمّا سبق لنا أن عرفناه منهما، فيه وعي ضرورتهما وبرمجة دوريهما وحدهما تجاوز كارثةً لن ننجح إن اقتصر تصدّينا لها على وضعها الراهن، ولم نواجه كذلك احتمالاتها المستقبلية التي تتراوح بين تكريس نتائج التدمير الراهن عبر رفض روسيا السماح ببلوغ حل سياسي، لتعارضه مع الوضع الراهن لما كان مجتمعا سوريا، وبتسويةٍ سياسيةٍ من غير المعقول أن تكون “المعارضة” طرفا فيها، بعد أن غيّب من كان يُفترض أنها تمثله من سوريين، وغدت جهةٌ قليلة الشأن في تناحر فئاتٍ لم يعد يجمعها جامع وطني. باستحالة الحل الذي ينطلق من أبعاد عابرة للأزمة الراهنة، تتصل بتكوين مجتمعٍ ودولةٍ يراهن الروس والأسد على جعل عودتهما إلى وجودهما السابق ضربا من الاستحالة، واستحالة تسويةٍ تعبر عن تطلعات السوريين وحريتهم، يبقى الحل القائم على استمرار النظام في ظل الاحتلال الخارجي الذي يحمي إنجازه الرئيس “تدمير مجتمعه”. ويضمن دوام سلطته في إطار محاصصاتٍ دوليةٍ وإقليمية كانت خياره الدائم منذ بدأت الثورة، وأنقذته عامي 2012 و2015، وشاركته في تدمير المجتمع السوري، والقضاء على وطنه، ويريد لاحتلالهم أن يدوم إلى زمنٍ تقول اتفاقاته مع روسيا إنه سيغطّي نصف القرن المقبل، في أقل تقدير، بينما سيكون نصيبنا، في أي خيار قادم، بقاؤنا تحت ركام ما كان مجتمعنا، بعد أن فشلت جميع أحزابنا وتنظيماتنا وتياراتنا السياسية والمدنية، ومؤسساتنا المدنية في إقامة وضع يؤسس، أول الأمر، شيئا من التوازن بيننا وبين أعدائنا، ومن القدرة على إقناع العالم بضرورة تغيير مواقفه من قضيتنا، بما أن مصالحه لن تتحقّق إلا بقدر ما يعترف بحقوقنا وحريتنا، فإذا نحن عجزنا عن بناء ذاتنا بما يمكّننا من مبارحة وضعنا الحالي، تلاشى القليل الباقي من دورنا، واكتمل ارتهاننا لقوى إقليمية ودولية تفيد من ضعفنا، وترى فينا أداةً ستتخلى عنها متى وجدت أنه لا نفع لها فيها.

إذا تأملنا ما حدث خلال الأعوام القليلة الماضية من تقاسم طال بلادنا بين واشنطن وموسكو، وأنقرة وطهران وتل أبيب، وحال دون التوصل إلى الحل الذي تحدث عنه بيان جنيف 1، وقرارا مجلس الأمن 2118 و2254، كان علينا الاعتراف بأننا أمام خطر الاستسلام من دون قيد أو شرط لأعدائنا الداخليين وللغزاة الروس والإيرانيين، وللأمر الدولي والاقليمي الذي لا نستطيع تحدّيه أو تغييره بوضعنا الذاتي الراهن، وبما نمارسه من سياسات، ونمتلكه من علاقات وقدرات. تُرى، ماذا يبقى لنا، من الآن فصاعدا، غير إعادة نظر جدّية، شاملة وعملية، في أوضاعنا، بما هي الخيار الوحيد الباقي لنا، على الرغم مما فيه من تعقيد، ويتطلبه من تخطٍّ لحال الشلل والتشتت، ولدورها الخطير في ما آلت إليه إحدى أعظم ثورات التاريخ، ثورة الحرية التي نهض بها شعبنا، وضحّى بكل شيء من أجلها.

ثالثاً، لا خيار لنا غير بديل إنقاذي يستهدف وضعنا الذاتي، على أن يبدأ بالتمثيلات الحزبية والمدنية والمقاومة .. إلخ، ويفعلها في أطرٍ جديدة، ويُلزمها بأسسٍ توحيديةٍ تتعيّن بدلالة الصراع بيننا وبين الأسدية على مجتمعنا الذي لا يجوز أن يكون لدينا أي هدف يسمو على إعادة وحدته وتحصينه ضد سياسات الأسدية والغزاة الأجانب، والعمل لتحويله إلى قوة حسمٍ في صراعنا من أجل حريتنا ودولتها، على أن يكون مدخلنا إليها بناء ميزان قوى بما لدينا من قدراتٍ معطّلة وتحتاج إلى تفعيل، يسمح تفعيلها ببلوغ تسويةٍ سياسيةٍ تكبح خطط الأسدية والروس والإيرانيين، المبنية على الإمعان في تحطيم ما بقي من مجتمع سوري، بما على البناء الذاتي توفيره من مرجعيةٍ ترى نفسها بدلالة الوطنية السورية وأسسها الجامعة، ولا ترى وطنها ومجتمعها بدلالاتها التنظيمية والأيديولوجية الجزئية والضيقة، وتغلّب تناقضها العدائي مع الأسدية الذي لا يحل بغير تغلب، على ما كان بينها من خلافاتٍ بينيةٍ لطالما حوّلتها إلى تناقضاتٍ عدائية، في حين حوّلت تناقضها مع الأسدية إلى خلافٍ مجمد أو مؤجل الحل. لن تخاطب هذه المرجعية السوريين، جميع السوريين، بغير صفتهم الحقيقية شعبا واحدا، وليس طوائف وفرقا ومزقا متناحرة مقتتلة. ولن تتعامل معهم بغير منطلق الالتزام المطلق والمعلن بحقوقهم وبالدفاع عنهم وعنها. وستمد يديها لهم بوصفهم مواطنين يتساوون في حقوقهم وواجباتهم، لكل واحدٍ منهم ما لغيره وعليه ما عليه، فلا تمييز ولا إقصاء ولا أحكام مسبقة ولا فئوية ولا مذهبية، ولا خدمات مذهبية مجانية للأسد، لأنه من دون إعادة الشعب السوري إلى موقعه حاملا للصراع من أجل حريته، لن يكون بناء ميزان القوى المطلوب ممكنا، ولن يعيد داعمو الأسدية النظر في مواقفهم، ولن يُحسب حساب الثورة في أي حل أو تسوية، بعد أن أخذ جميع المتدخلين حصصهم من بلادنا، حتى ليمكن القول إنه لن يبقى لنا منها شيء، إن نحن فشلنا في تغيير وضعنا الذاتي بتثويره، على جميع مستوياته القيادية والقاعدية.

رابعا، إذا ما قرّر المتصارعون الدوليون والإقليميون تكريس حصصهم عبر حل، فإننا سنواجه وضعا انتقاليا معاكسا لما أقره بيان جنيف والقرار 2118 من “انتقال ديمقراطي”، وسنشهد في أفضل الأحوال نمطين من الانتقال لصالح الأسدية وحماتها الغزاة، يقوم كلاهما على العائد الاستراتيجي الذي يترتب على تدمير المجتمع وشطبه من حسابات وعلاقات القوى والسياسة، وما سينتجه ذلك من أوضاعٍ لا محلّ ولا دور فيها للأفراد والجماعات، إلا بما ينسجم مع استقرار الأسدية واستمرارها في طورها الجديد: جهة تهيمن بمفردها هيمنة مطلقة على بلادنا ومن يعيشون كعبيد فيها. ومن يودّ معرفة الاسدية في طورها الجديد، فليراقب ما تفعله في مناطق “الهدن والمصالحات الوطنية”، حيث للقتل والإخفاء القسري والموت تحت التعذيب ضحايا يوميون، فإن كان هناك تسوية تنطلق من موازين القوى الراهنة، لهذا السبب الدولي أو ذاك، فإن جهود الأسد وداعميه ستدفع بها نحو ما أسميتها “الأسدية في طورها النوعي الجديد”، حيث هي السلطة والدولة والمجتمع والمجال العام… إلخ، بينما يجب أن يكون هدفنا تحسين وضعنا الذاتي إلى الحد الذي يجعل الاحتمال الأول صعبا، والثاني فرصة تمكنّنا من مواصلة نضالنا من أجل حريتنا، وصولا، ذات يوم لا ندري متى يأتي، إلى ما اعترفت لنا القرارات الدولية به من حقوق، كالحق في إقامة نظام ديمقراطي لن نراه إذا فشلنا في بناء وضع ذاتي يعجز الآخرون عن تخطّيه، لأنه سيواجه من جديد مجتمعا يمتلك خططا تكفلت بإعادة ترميمه وتوحيده، وإحضاره موحدّا إلى ساحة الصراع.

المقترحات. .. البديل الأول:

أولا، لا حاجة لبراهين على واقعة أننا نفتقر إلى قوة ديمقراطية أو إسلامية أو قومية أو مدنية أو مستقلة، تستطيع إسقاط الأسدية بجهودها المنفردة: اليوم أو في أي يوم. هذه الحقيقة تقول أمرين: أن تمثيلاتنا السياسية لم تخدم ثورتنا، بسبب أوضاعها الذاتية التي أثبتت عجزها عن خدمتها، وأن واقعها هذا لا يترك لنا خيارا غير الخروج من الفشل بابتكار صيغة أو صيغ تنظيمية وسياسية تمكننا من حشد قدرات شعبنا وتوحيدها بطرق غير مسبوقة أو مجرّبة، يمليها علينا الانتماء الوطني من جهة، والتصميم على إسقاط الاستبداد من جهة أخرى. قلت في فقرة سابقة إن هناك احتمالين مستقبليين علينا مواجهتهما، يتطلب كل منهما إعادة نظر جذرية سبل تعبئة وتنظيم قدراتنا السياسية التي يجب أن تنجم عن قرار تتخذه أحزابنا بتجميد أنشطتها محض الحزبية والضيقة، التي عجزت عجزا فاضحا عن تحدّي الأسدية، وفشلت، على الرغم من الثورة المجتمعية الهائلة، في إنتاج ما كان مطلوبا منها من برامج وخطط ضرورية لبناء هيكلية سياسية، موحدة واندماجية في علاقاتها الداخلية ومواقفها المضادّة للأسدية التي يجب أن تتخطّى العمل الجبهوي، وتنتج عكس ما أنتجته متفرقة عشرة أعوام مضت، وتدرأ عن السوريين ما سيأتي به حل سيبنى على أنقاض مجتمعهم، بينما كان على الذين مثلوهم وادّعوا قيادتهم إعادة إنتاج أدواتهم الحزبية والسياسية انطلاقا من الوضع الذي كان يعد بكسر قيود الأسدية التي لطالما شلّت قدراتهم.

بصراحة: أحزابنا وتنظيماتنا، التي لا ينكر منصفٌ نياتها الوطنية وعداءها للاستبداد، لن تنجح في تحقيق ما تعد به، إن بقيت محكومةً بتبعثرها وعجزها، وهي ستزول تماما، إنْ بقي عملها السياسي فئويا، ولعله لفت نظرها أن تصاعد النشاط الشعبي لم يعزّز أوضاعها بل همشها. لذلك، لن يكون تجميد نشاطها الحزبي الضيق، واندماجها في كيانية وطنية تتجاوز أوضاعها الراهنة، تخليا عنها كأدوات صراع فاعلة، بل سيكون تخلّيا عن أدوات عاجزة وفي طور التلاشي، تتربص بها كارثة لن تنجح في صدّها إن حافظت على حالتها الراهنة، ولم تنتقل إلى حالٍ تتجاوز نفسها من خلالها، تجمعها على هدفٍ واحد، هو انتقالها إلى تنظيم تشاركي وديمقراطي، قيامه شرط تجاوز المجتمع السوري واقعه الراهن لأول مرة في تاريخه، عبر تنظيم وطني تعدّدي، لكنه، في الوقت نفسه، اندماجي، أسوة بالأحزاب التي حملت رسم “المؤتمر الوطني”، وقادت نضال شعبها من أجل الاستقلال وطردت الاستعمار من بلدانها، على أن يتم اختيار قيادته الموحدة وأمينه العام بالتناوب، من صف شبابٍ يتمتعون بالمعرفة، تزوّدهم جهاتٌ استشاريةٌ بما يكفي من خبرةٍ في حقول السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة، ويضم كل معادٍ للاستبداد وعامل للخلاص منه، بعيدا عن أيديولوجيته ومذهبه وانتمائه السياسي، فردا كان أو تجمعا، ليبدأ بذلك العمل من أجل البديل، وتبرز الجهة التي ستقوده، بطابعها الوطني القادر على إخراج “المعارضة” من تيهها الشامل، ولإدراج مجمل أوجه وجوانب العمل العام في برامجها، وصولا إلى:

أولا، توحيد النخب التي نشأت قبل الثورة وبعدها، وبدل أن تتّحد حول نقاط ثقل سياسية وبرنامجية، تفرقت أيدي سبأ، وخلت أكثر فأكثر من نقاط استقطاب وتفاعل تتمحور حولها، وتتكفل بتفعيلها، وها هي تتناحر حول كل كبيرة وصغيرة، وتلتقي اليوم لتتباعد غدا، وتحل ما توجهه من مشكلات بالكلام، وتثقل على الشعب المضحي بما تنخرط فيه من بؤس، مع أنها قد تكون إحدى أكبر قوى الثورة وأكثرها تأثيرا وفاعلية.

ثانيا، بناء ساحة خارجية للثورة تستكمل ساحتها الداخلية المتجدّدة، وما تشهده من تطورات إيجابية تتيح لها النشاط في إطار دوائر إعلامية وسياسية وقانونية ومالية وثقاقية، لكل دائرة منها مكاتب تغطي بلدان انتشار السوريين، ومندوبين في التشكيل السياسي الموحد ودوائره القيادية والتوجيهية.

 ثالثا، توحيد تنظيمات المجتمع المدني، الناشطة في الداخل خصوصا، ويتسم عملها بالجدّية والقبول الشعبي، لاتصالها بالناس خدميا ووطنيا. هذه التنظيمات يمكن أن تتسع لتضم تشكيلات نخبوية عديدة وفئات متعلمة ومثقفة تلعب دورا وازنا في إحياء الحراك السلمي والمدني في بلدان اللجوء أيضا، وفي الداخل السوري بجميع مواقعه: من البحر إلى حدود العراق، ومن حدود الأردن إلى حدود تركيا.

هذا التحول في وضع الثورة الذاتي سيدمج ويوحد أول مرة في تاريخنا تمثيلات سياسية ومدنية متنوعة، وسيلزمها بعمل دلالته الوحيدة حاضنته المجتمعية الموحدة وطنيا، التي سيعظم قدراتها التكامل بين ساحتي الثورة المنظمة والعفوية، الداخلية والخارجية، القيادية والقاعدية، السياسية والمقاومة، وسيبقي شعلتها وهاجة، ومطالبها راهنة وضاغطة.

البديل الثاني: إن كان البديل الأول مستبعدا، لأسباب منها الأنانية الحزبية، والافتقار التاريخي إلى الخبرة الضرورية للعمل الثوري في سياقه العام، فإنه سيكون باستطاعة الأطراف الحزبية والسياسية والمدنية إقامة “جبهة وطنية” تجافظ على تنظيماتها، لكن قيادتها المتوافق عليها تنسق أعمالها وتوحد خططها، لتحقيق هدفين استراتيجيين: مواصلة المعركة ضد الاستبداد، بغض النظر عن حل الصراع الراهن أو تسويته، والدفاع عن جميع فئات الشعب من دون أي تمييز بينها، وعن حقها في إقامة نظام ديمقراطي بديل للأسدية، التزاما بالخطوات الجبهوية التالية:

أولا: إجراء حوار معمق ومخلص حول أسس خطط تحدّ من الخلافات السياسية القائمة بين الأحزاب، وتبني قراءات مشتركة لاستراتيجية العمل في المرحلة الراهنة، تحول دون بروز اجتهاداتٍ لدي أي منها، تسهم في تفريق ما بقي لدينا من حاضنة مجتمعية، والإبقاء على تناقضاتها وخلافاتها في الحقل السياسي الخاص بها والعام. بتخطي الفرقة والخلافات في مرحلة أولى، وبإزالة ما يترتب عليها من تباين في القراءات والمواقف حيال القضايا السورية، ومن أحكام مسبقة تعمّق الهوة القائمة منذ زمن طويل بين التيارين، الديمقراطي والإسلامي، وأثبتت حقبة ما بعد الثورة أن أحدا لم يفد منها غير الأسدية، لكونها لم تساعد أيا منهما على إحداث تحوّل، مهما كان بسيطا في ميزان القوى مع السلطة، أو لوقف تدهور الثورة، وكبح ما شهدته من تراجع حثيث في أوضاعهما وقدراتها.

ثانيا: الانتقال من طور الخلافات والتباينات العبثية الراهن، الذي يجب أن تزول بفضل التوافق على العمل الجبهوي وأسسه، إلى مرحلة ثانية ينضبط العمل خلالها بقرارات هيئاته القيادية المشتركة، التي ستقود المرحلة التوافقية بحد أدنى من تباين حسابات الأطراف الجبهوية وخياراتها، بالاستناد إلى ما تمت بلورته من برامج وخطط جبهوية على الصعيدين، النظري والتنفيذي، تنظم شراكتها وتلزم تنظيماتها بما بينها من أعمال موحدة، وتزيل نقاط ضعفها التي لطالما جعلتها لقمة سائغة للأسدية، وعزلتها بعضها عن بعض، وعزّزت مآزقها، وغلبت دوما تمسكها بانتماءاتها الذاتية محض الحزبية، قليلة الفاعلية بالنسبة لانتمائها الوطني الذي كان عليها رؤية نفسها بدلالته، بدل رؤيته بدلالة وضعها الخاص، الضيق والجزئي، الذي قيد مقاومتها للاستبداد قبل الثورة، وأضرّ جدا بحاملها المجتمعي بعدها، وكرّس رهانين متعارضين لها، قال أحدهما بالحرية والديمقراطية، والآخر بالدولة الدينية، فكان من الحتمي أن يلعبا دورا خطيرا في ما آل حالها إليه من مآزق، وأن يسهما في تنافسهما على السلطة، بدل تركيز جهودهما على تعبئة قدرات الشعب الثورية وتقنينها، واستخدامها لمواجهة ما اعترض سبيلها من عقباتٍ فشلت في تخطيها. هذه المرحلة، الثانية من البناء الجبهوي، يجب أن تتأسّس على أعظم قدر من الوحدة ضد الأسدية، والإرهاب والتطرّف، وأن تتعين بتوافقات سياسية وتنظيمية لا رجعة عنها، بغضّ النظر عن نهاية الصراع في سورية، فإن كان لصالح الأسدية حافظت أطراف الجبهة عليها وبقيت موحدة، وواصلت نضالها من أجل هدفيها الاستراتيجيين السابق ذكرهما. أما إذا جاءت التسوية متوازنة، كان عليها توطيد نضالها الموحد من أجل النظام الديمقراطي الذي ستدخل بعد قيامه في مرحلة ثالثة، ستلي تغيير النظام، وستمكّنها من استعادة وضعها الحزبي الخاص، إن كان ذلك لا يُفضي إلى تهديد النظام الجديد. عندئذ، سيكون باستطاعتها التقدّم منفردةً إلى الانتخابات البرلمانية، والانفراد بتشكيل الحكومة، من دون التخلى عن التزامها لأي سبب وتحت أي ظرف بالأسس التي نهضت عليها رؤيتها الجبهوية الوطنية في المرحلة الأولى، وضبطت نضالاتها المشتركة في المرحلة الثانية، بالنظر إلى أن استقرار الدولة وشرعيتها سينضبط بهذه الأسس التي ستغدو أسسا ما فوق حزبية للدولة، وستبقى فوق تباينات الساحة السياسية وخلافاتها، وما ستشهده من قراءاتٍ حزبيةٍ متنوعة، وربما متباينة، لها، وما قد يترتّب عليها من خلافاتٍ محتملة لا يجوز أن تتخطى الإطار الحزبي وتبلغ الصعيد الدولوي، ما فوق الحزبي، الذي سيتكفل بضبط قراءاتها المختلفة باختلاف البرامج الحكومية والحزبية.

لا داعي للقول إن إقامة حكومة تحافظ على علاقات الحقل السياسي الجبهوية يبقى الخيار الأفضل بعد قيام النظام الديمقراطي الذي تجب حمايته من تناقضات وصراعات خطيرة، يرجّح أن تعرفها فترة الانتقال إليه.

أخيرا: في ظل ما أراه من تدمير مجتمعنا هدفا رئيسا للأسدية وداعميها، أعتقد أن رفض دمج وتوحيد ما لدينا من تنظيمات وتيارات سياسية ومدنية طوال حقبة الصراع مع الأسدية سيكون وخيم العواقب. وأن عدم الأخذ به يعني أننا لم نفهم ما وقع حقا في الحقبة التي نعيشها، وفاتنا وعي مراميها وأبعادها، وعالجنا بوسائل عاجزة وناقصة مأزقا لا تصلح لمعالجته، كما أعتقد أن رفض العمل الجبهوي سيكون خدمة ثمينة جدا للأسد الذي لعبت أخطاؤنا دورا لا يستهان به إطلاقا في انقاذه.

البديل الثالث: هناك بديل ثالث يقوم على محافظة الأطراف السياسية على أوضاعها التنظيمية والسياسية الراهنة، والحدّ مما يلازمها من تبايناتٍ وخلافاتٍ وتوجس وشكوك. يقترح هذا البديل قيام التيارات المختلفة وتنظيماتها بجهدٍ يصحّح ما شاب مساراتها من أخطاء وعيوب، وهو كثير جدا وخطير، وببلورة رؤى وخطط تقرّبها من الحاضنة المجتمعية، وتجدّد التزامها بالحرية ومحاربة الاستبداد بمختلف أشكاله وأنواعه إلى أن يتم التخلص منه، وبالدفاع عن الشعب السوري: هدف أعدائه الأسديين الطائفيين، والمذهبيين المتطرّفين، الرئيس، على أن يطال الإصلاح قيادات التنظيمات والأحزاب وبناها، وخططها، وأولوياتها، وأساليب اشتغالها، وممارساتها، وعلاقاتها ببعضها وبالمجتمع السوري، وتعد نفسها لملاقاة مرحلة ما بعد العمل المسلح التي ستكون مرحلة انتقالية، إما إلى أسديةٍ من دون مجتمع، أو إلى مسارٍ يحمل من الممكنات المتنوعة بقدر ما يتوفر ميزان قوى يرغمها على التراجع، مهما كان محدودا وجزئيا، عن الخيار البديل الأول، في مرحلةٍ سيملي أخذها بجدّية مهاما نوعية وجديدة على أحزاب الطرف المواجه للأسدية وتياراته وتنظيماته، الأسدية التي ستجد نفسها أمام تحدٍّ لا قبل لها في أوضاعها الراهنة بمواجهته وتخطيه، يتمثل في ظروفٍ جديدة لا تقارن مصاعبها بالمصاعب التي همّشتها، على الرغم من الفرص التي أتاجتها لها للرافعة الشعبية الثورية، وأغرقتها في العجز عن القيام بواجبها في ترقية التمرّد الثوري المجتمعي إلى ثورة، وبلورة ما كان هذا الارتقاء يتطلبه من برامج وخطط ضرورية لتوحيد الحراك وتنظيمه، ولبناء قيادة ومرجعة له، مؤهلة للإمساك بأعنّة الحدث، وقيادته إلى نهاية ظافرة.

يقف مجتمعنا، وتقف دولتنا، أمام تحوّل مفصلي، فإما أن يذهبا إلى وضع يقلعا فيه عن الوجود، حتى بالصيغة الاستبدادية التي عرفناها قبل الثورة، أو أن يتولى السوريون إنقاذهما من الأسدية والاحتلال الاستعماري. بما أن شروط الاحتمال الأول تكاد تكون مكتملة النضج، فإنه لا يبقى من خيار للوطنيين غير الشروع في عمل إنقاذي، ينجيهم من الهلاك مواطنين في شعب، ومن التشرّد في أربع أصقاع الأرض، قبل أن ينقذها هي من مصيرٍ يكاد يصبح واقعهم وواقعها.

العربي الجديد

—————————

الدكتور رياض حجاب والمطالبة بإعادة هيكلة المعارضة.. لماذا الصمت؟/ أحمد اليوسف

حين طالب السوريون بتصحيح وضع مؤسسات الثورة والمعارضة لم يكونوا على خطأ، فهذه المؤسسات لا تعمل ككلٍ متسق، وليس لها مرجعية قرار واحد، ولهذا تأتي قراراتها وكأنها تلبية لحاجات أشخاص أو قيادات فيها، وهذا ما يجعلها تلهث وراء الحدث محاولة الإمساك بتلابيبه، كي لا تظهر بمظهر غير الفاعل وغير المهتم بالحدث وتفاصيله.

ولعل أهم المطالبين السوريين بإعادة هيكلة المعارضة هو الدكتور رياض حجاب، رئيس الوزراء السوري السابق المنشق عن نظام بشار الأسد، حيث قال حجاب في محاضرة ألقاها في مركز السياسات الدولية بالعاصمة الأمريكية واشنطن: “إن الاهتمام تراجع بالملف السوري بشكلٍ كبيرٍ، كما تراجع معه دعم المعارضة على خلفية التنافس الكبير من قبل الداعمين والممولين، ما أدى لتفريق الصفوف، وتشتت المعارضة، وحصول انقسامات فيما بينها”.

وأوضح حجاب على أن أحد الحلول يتمثّل بإعادة هيكلة الائتلاف الوطني والمعارضة، وهيئة التفاوض وتوسيع تمثيلها، وتقوية علاقاتها بشكلٍ أكبر من الوضع الحالي، وأن تكون بعيدةً كل البعد عن الخلافات الدولية والإقليمية، وأن تبني علاقاتها مع جميع الأطراف بشكل متناسبٍ وعلى نفس المسافة”.

حديث حجاب ولقاؤه مع جويل رايبورن في واشنطن، ليسا بلا هدف سياسي يعرف شروطه وأبعاده السيد حجاب، ولكن بعد مرور قرابة خمسة أشهر على الحدثين، لا يزال الغموض والصمت يلف موقف رئيس الوزراء السوري المنشق، الذي ترأس الهيئة العليا للمفاوضات المنبثقة عن مؤتمر الرياض1.

فما الذي يعرفه حجاب، ويخفيه عن الحاضنة الثورية وعن السوريين، ولم يحن وقت التصريح به؟. وهل ما تقع به مؤسسات المعارضة من أخطاء ذاتية له علاقة بما يعرفه السيد حجاب؟.

لقد حدّد حجاب أحد الحلول بقوله: “أحد الحلول يتمثل بإعادة هيكلة الائتلاف الوطني والمعارضة وهيئة التفاوض”. ولكن إعادة الهيكلة لم تتم بعد، فالاستعراض الإعلامي الذي قامت به إدارة الائتلاف في ظل رئيسها نصر الحريري، لا يدل على توجه حقيقي لتفعيل وتطوير عمل هذه المؤسسة، بل كانت الغاية شدّ الانتباه إلى أن الرئيس الجديد لديه رغبة في الظهور بأنه يضع برنامج تغيير لم يحدث بعد، وعلى ما يبدو أنه لن يحدث.

إن بقاء انقسام هيئة التفاوض يضرّ بالقضية السورية وبثورتها ومصالح شعبها، وهذا الانقسام يخفي خلفه تنازعات منها ولاءات إقليمية، وهو ما يجعل الثقة بين الطرفين المنقسمين في حالة انتظار ريثما تتم عمليات التقارب بين السعوديين والمصريين من جهة، وبين الأتراك من جهة أخرى.

إن اتهام هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديمقراطي للطرف الآخر الذي يقوده أنس العبدة، بأنهم يتبعون أجندة ذات بعد أيديولوجي، غايته تبرير موقفهم، الذي لا ينبغي أن يبقى بلا تحمل مسؤولية وطنية، فهؤلاء جميعاً، لم يستطيعوا إعادة هيكلة هيئتهم، على قاعدة وحدة وهدف التفاوض مع النظام السوري، وهو الهدف المحدد بالقرارات الدولية التي تنص على أولوية الانتقال السياسي، ثم الاتفاق على نص وثيقة دستورية تخضع للاستفتاء في ظل شروط آمنة وحقيقية ودون تدخل، ثم إجراء انتخابات على مستوى البلاد تتضمن انتخاب برلمان ورئاسة حكومة ورئاسة بلاد.

إن صمت الدكتور رياض حجاب وهو الخبير الأكبر بوضع المعارضة يجب أن ينتهي، وأن يظهر حجاب على الملأ الوطني عبر وسائل الإعلام، فيقول ما لديه، وما يعرفه، بما يخصّ حالة المعارضة بصورتها الحالية، وحالة التفاوض، وإلى اين تتجه الأمور في ظل عبث دولي صريح.

رياض حجاب يتحمّل مسؤولية تسمية الأشياء بأسمائها، حتى لو أغضب كلامه جهات إقليمية أو دولية تشتغل على الصراع السوري، خدمة لغير أهداف السوريين بالانتقال السياسي.

فهل يخرج الدكتور حجاب من شرنقة صمته، ويشرح للسوريين ما الذي يحدث؟ أم أنه يؤثر سلامته الشخصية على حساب الشعب السوري وقضيته؟. لقد بلغ صمت السيد حجاب درجة الريبة لدى قطاعات واسعة من السوريين الذين جهروا بضرورة أن يظهر حجاب ويقول الحقيقة للناس.

خروج حجاب عن صمته، سيلعب دوراً في تفعيل مؤسسات المعارضة، رغماً عن معطلي فعاليتها، فهو معني اليوم بقيادة حملة التصدي للمشروع الروسي الباطل لإعادة إنتاج نظام بشار الأسد، فالمطلوب قلب الطاولة على المشروع الروسي الذي يعني استمرار الكارثة الوطنية السورية.

إن قلب الطاولة على المشروع الروسي كان جزءاً من صلب محادثات رياض حجاب مع جويل رايبورن، فلماذا الصمت حتى اللحظة؟، في وقت المطلوب فيه هزيمة الخيار الروسي المتصف بالسوء، ومنع تمرير الهزلية الروسية.

فهل سيطلّ حجاب على السوريين ويخبرهم بما يجب أن يعرفوه عما يحاك ضدهم؟، أم أن الصمت ثلثا راحة البال لديه وخير الكلام هو الصمت؟

أسئلة بحاجة أجوبة من الدكتور رياض حجاب. والناس في انتظار.

نينار برس

———————-

في ضرورة إعادة تعبيد طريق السوريين إلى الديمقراطية/ رشيد الحاج صالح

على الرغم من الثقة الكبيرة التي كان يكنّها السوريون للديمقراطية، عندما انتفضوا عام 2011، كطريق اختاروه لتغيير أوضاعهم، والتخلص من نظام الأسد؛ فإنّ مسار الأحداث خيّب أملهم، وفرض عليهم تغريبه التهجير والنزوح والموت، التي يبدو أن لا حلَّ قريبًا لها. ولكن كيف يعيد السوريون تعبيد طريقهم نحو الديمقراطية، بعد أن حُرموا منها مدة تزيد عن نصف قرن من الزمان؟ وكيف يقرّبون أنفسهم منها، كأفراد وجماعات؟ وهل عملوا ما عليهم أن يقوموا به؟

ينتمي المجتمع السوري -كحال المجتمعات التي عانت الاستبداد سنوات طويلة- إلى ثقافةٍ لا تحمل تقديرًا للنقد الذاتي، ولا تُحمّل المجتمعَ جزأ أساسيًا من المسؤولية عن المشكلات، على الرغم من وحشية النظام الأسدي وهمجيته. وقد دفعهم هذا الوضع إلى التركيز على مقاومة نظام الأسد، سياسيًا وعسكريًا، من دون أن يُولوا لمهمة مقاومته، ثقافيًا وديمقراطيًا، الأهمية التي تستحقها.

ولعلّ هذا ما أدى -كما تبيّنَ- إلى ظهور نُخب من المعارضة في الخارج، وقيادات للمعارضة في الداخل، لا تؤمن بديمقراطيته السوريين التي ينشدون؛ إذ تريد المعارضة أن تحلّ محلّ نظام الأسد، بأي طريقة. ولأن تلك المعارضة كانت منشغلة بذلك الهدف، فقد نسيت مطلب السوريين الأساس، وتفرغت لمطالبها. وهكذا استمدت المعارضة الخارجية قوتها من المحافل الدولية، مثلما استقوت المعارضة الداخلية بقوة السلاح. أما السوريون فتُركوا وحدهم يواجهون المجهول.

أصحاب القلوب الضعيفة من السوريين طلّقوا السياسة، وبعضهم عاد إلى مجموعته الدينية أو العرقية أو المناطقية، التي بقيت تحت الرماد بفعل سياسات النظام الأسدي التمييزية. وبعضهم دخل في نوبة مظلومية عارمة، محتميًا بنظرية المؤامرة المعكوسة، وكثيرٌ منهم فقد ثقته بالجميع حتى بالسوريين الآخرين. ولكن الأكثرية لا تريد إعادة رسم الخريطة، والقيام بنقد عقلاني يعطي للسوري دورًا في التأسيس لنفسه ومستقبل بلده!

نقد السوريين لطرق تفكيرهم في السياسة أمرٌ في غاية الأهمية في هذه المرحلة؛ لأنه يساعد في توضيح الأسباب التي أوصلتهم إلى هذه الحال، ويسهّل الطريق لجمعهم من جديد، على أسس يقبلها الغالبية منهم على الأقل؛ إذ لا يمكن الجمع ين السوريين، بمختلف قومياتهم وطوائفهم ومناطقهم وتوجهاتهم السياسية، إلا عبر الديمقراطية، ولا يمكن أن تعود الثقة بين السوريين إلا عبر الديمقراطية. في الغرب يقولون إن أي عمل يحتاج إلى بيئة إيجابية، من دونها لن يكتب للعمل النجاح، وهذا ينطبق على تفكير السوريين بقضايا السياسة، فمن دون بيئة ديمقراطية بناءة، لن يكون للسياسة أي معنًى في سورية.  

القضية تتعلق بمدى إيمان السوريين بأولوية قيم الديمقراطية؛ ذلك أن تهاونهم بهذه القيم هو الذي يمكّن الآخرين، سواء كانوا النظام الأسدي أو المعارضة التي لا تؤمن بالديمقراطية، من تجاوزهم والتعدي على حقوقهم. ومن الأخطاء الكبرى في تاريخ البشر أن يؤجل الهدف الأساس، من أجل تحقيق أهداف مرحلية. وهذا يعني أنْ ليس من الحكمة أن نضحّي بمطلب الديمقراطية، من أجل إسقاط النظام الأسدي على يد قوًى لا تؤمن بأولوية الديمقراطية؛ لأن القضية الأساسية ستضيع، وسنصل إلى وضع يشبه من يستبدل سلطة استبدادية بسلطة استبدادية أخرى.

قيم الديمقراطية، القائمة على المساواة الكاملة واحترام الحقوق وحرية الأفراد وتأسيس حياة الناس على العدالة، هي في النهاية خيار إستراتيجي وطريقة في التفكير، وقاعدة للبناء الكلي، وليست أي شيء آخر أقلّ من ذلك. والإيمان بها شرطٌ سابقٌ على الثورة أو أيّ عمل سياسي، ومن دون تدريب الذات على الالتزام بهذا الشرط وفرضه على الآخرين؛ سيبقى باب التنازلات مفتوحًا على مصراعيه. الديمقراطية بالنسبة إلى السوريين هي، بلغة المشتغلين بالدساتير، “مبدأ ما فوق دستوري”، وبلغة أهل المنطق هي “بديهية”، تنطلق منها أي عملية تفكير، أي إنها المبدأ الذي يجب أن تُؤسس عليها كلّ خياراتنا الوطنية وتصوراتنا السياسية وانتماءاتنا القومية، وهي المرجع الذي نعود إليه لإقامة علاقتنا بالحياة والمجتمع والأديان.

غير أن الإيمان بالديمقراطية ليس بالأمر السهل، ويستدعي إعادة تنظيم فكرنا السياسي، في كثير من القضايا. وهذا يعني أن علينا التنازل عن كل أحلامنا السياسية، والتوقف عن الانسياق وراء النزعات الشعبوية في السياسة، وتقديم مصالح السوريين الأفراد على الأيديولوجيات، والتخلي عن المزاودات القومية الجوفاء، كما يعني تقديم مطلب تحرير الإنسان على تحرير الأرض، لأن الإنسان أهم من الأرض. الديمقراطية تعني أن نبوح لبعضنا بمخاوفنا من بعضنا البعض، وأن يتملك كلّ طرف جرأة التحدث عن عيوبه وأخطائه.

طبعًا، بعد عشر سنوات من مسار الثورة السورية المعقد، بات واضحًا أن ليس هناك طرق مختصرة للديمقراطية، وأن لا ديمقراطية من دون شعوب تؤمن بها كأولوية ومبدأ وتبني عليها كل تفكيرها في السياسة. لقد كان مطلب تأجيل الديمقراطية اللعبة المحببة لدى حافظ الأسد وجمال عبد الناصر، وبقية دزينة الحكام العرب، وإن أي تأجيل لها أو تهاون مع من لا يؤمن بأولويتها يعني العودة إلى مربع الصفر، المربع الذي جهد النظام الأسدي على إبقاء السوريين فيه، بكلّ ما أوتي من قوة.

يمكن للسوري اليوم أن يتبنى ما يشاء من الخيارات السياسية أو الأيديولوجية، كأن يكون قوميًا أو غير قومي، إسلاميًا أو غير إسلامي، مع المركزية أو ضدها، ولكن لا يمكنه أن يبني أي موقف، من دون أن يحدد الأولوية الديمقراطية لكل مواقفه السابقة، فمن دون الديمقراطية لا يوجد أساس يمكن أن تبنى عليه السياسة في سورية.

لقد بينت عشر سنوات من الانتفاضة أن كل سوري لا يؤمن بالديمقراطية لا يمكن أن يكون مع انتفاضة السوريين ومطالبهم؛ لأنه لا يؤمن بالسوريين أصلًا، فكيف سيؤمن بحقوقهم وكرامتهم. أما هؤلاء الذي يقولون إنهم يؤمنون بالديمقراطية، ويضيفون كلمة “ولكن”، فهم الفئات الأخطر على السوريين، لأن كلمة ” ولكن” ليست أكثر من ذرّ رماد في العيون، أو كمن يدخل الديمقراطية من الباب، ويُخرجها من الشباك.

مركز حرمون

——————————–

النظام السوري والمعارضة: مراوحة في المكان/ حسين عبد العزيز

أن يعلن وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد أن “الانتخابات الرئاسية” المقبلة (المقرر إجراؤها منتصف 2021) ستجري في موعدها، بغضّ النظر عن أي شيء آخر، سواء أكان ما يتعلق بالقرار 2254 أم بمسار اللجنة الدستورية؛ فهذا موقفٌ ليس بجديد من حيث المضمون، لأنه يعبّر عن الموقف الحقيقي للنظام الرافض أي تسوية تؤدي إلى تنازلات سياسية، مهما كانت بسيطة. لكن تصريح المقداد حمل دلالات عدة، من حيث الزمان والمكان:

1 – اختار النظام السوري، ممثلًا بالمقداد، موسكو ليطلق هذه التصريحات، ولم يختر طهران التي كانت محطته الخارجية الأولى له بعد تسلّمه مهام وزير الخارجية.

لا يتعلق الأمر في كون موسكو هي المعنية بالمستوى السياسي فحسب، بقدر ما يتعلق بتوجيه رسالة إلى روسيا، من داخل عاصمتها، مفادها أن المسار السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة شيء، وما يجري على الأرض في سورية شيء آخر تمامًا. بتعبير آخر: لن يقدّم النظام تنازلات سياسية مهما كانت، ولن يقبل بتقاسم للسلطة مع أي طرف آخر، وعلى روسيا أن تصحح مسار بوصلتها السياسية، في الشأن السوري، وأن تنهي فكرة ممارسة ضغوط على دمشق للقبول بتسويات سياسية.

تتقاطع تصريحات المقداد مع ما سرّبته الصحفية اللبنانية راغدة درغام، إذ كتبت في صحيفة (النهار)، نقلًا عن مصادر موثوقة من روسيا، أن المقداد أبلغ المسؤولين الروس بأن الأسد ليس راغبًا ولا جاهزًا للرحيل، وأنه مستمرٌ في موقعه مهما كانت الظروف والنتائج. ويشير ذلك إلى أن النظام يعمل على دفع موسكو إلى العمل في سياقات أخرى غير السياق السياسي، ويمكن للنظام أن يقدّم للروس تنازلات فيها، مثل العلاقة مع إيران وفق شروط معينة، والعلاقة مع إسرائيل، والعلاقة مع تركيا (إدلب)، والعلاقة مع الأكراد (شرق الفرات).

2 – حملت تصريحات المقداد رفضًا واضحًا للقرار الدولي 2254 الذي ما يزال يشكّل المرجعية القانونية-السياسية للحل في سورية.

وقد جاءت عبارته حول القرار الدولي 2254 مقحمةً في سياق حديث المقداد عن “الانتخابات” المقبلة، للتأكيد أن النظام السوري يرفض نصّ هذا القرار الذي جاء انعكاسًا لواقع لم يعد موجودًا الآن، وبالتالي فإن النظام في حِلّ من هذا القرار، دون أن يقول ذلك بشكل مباشر ورسمي.

3 – عدم ربط “الانتخابات الرئاسية” المقبلة بنجاح اللجنة الدستورية يعني، بالتحديد، عدم وجود ربط بين مسار جنيف من جهة، والعملية السياسية التي يجريها النظام منفردًا من جهة ثانية.

لم يربط المقداد بين “الانتخابات” وعمل اللجنة الدستورية، وإنما ربط بين “الانتخابات” وبين نجاح اللجنة الدستورية، أي أن الواقع السياسي على الأرض لن يكون انعكاسًا لنتائج اللجنة الدستورية، وإنْ نجحت في التوصل إلى صيغة دستورية جديدة. واللافت للانتباه أن أول تصريح يؤكد عدم وجود ربط بين “الانتخابات الرئاسية” في النظام السوري وبين اللجنة الدستورية، جاء على لسان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في أثناء زيارته لدمشق في مطلع أيلول/ سبتمبر الماضي.

4 – حالة الارتياح السياسي التي يعيشها النظام الآن مقارنة بـ “الانتخابات الرئاسية” التي جرت منتصف عام 2014، حيث جرت “الانتخابات” السابقة، في وقت كان المجتمع الدولي متفقًا على صيغة بيان “جنيف 1” الذي دعا إلى تشكيل هيئة حكم ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، أما “الانتخابات” المقبلة، فهي تأتي بعد انزياحات سياسية دولية، تجاوزت فعليًا نصّ بيان “جنيف 1″، لتستقر على الصيغة التي جاءت في الفقرة الرابعة من القرار الدولي 2254: “عملية سياسية بقيادة سورية تيسّرها الأمم المتحدة وتقيم، في غضون ستة أشهر، حكمًا ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية”.

تأتي “الانتخابات” المقبلة، في ظل غياب الضغط العسكري على النظام، مقارنة بعام 2014، وفي ظل تراجع عدد من الدول العربية عن معارضتها للنظام. بعبارة أخرى: إن الواقع القانوني-السياسي الدولي الآن هو أكثر ارتياحًا للنظام، مقارنة بعام 2014. وليس معروفًا إلى الآن ما ستؤدي إليه العقوبات الاقتصادية الأميركية خلال الأشهر المقبلة، بالرغم من أن المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية جويل ريبرون قال، في حديث خاص إلى صحيفة (العربي الجديد)، إنه “لا يجب التقليل من أهمية قوة الضغط الاقتصادي المقترن بالعزلة السياسية، إذ يمكن أن يكون لذلك تأثير شديد جدًا مع مرور الوقت”. ولم يكتف ريبرون بذلك، إذ تحدث عن “بعض الأدوات الأخرى التي يمكن للولايات المتحدة استخدامها، والتي تنوي استخدامها، على سبيل المثال يتم اتخاذ بعض إجراءات إنفاذ القانون الآن، وكذلك بعض إجراءات العدالة الجنائية”.

المراوحة في المكان

في ظل اقتصار الضغوط الدولية على الجانب السياسي والاقتصادي، منذ نحو عامين؛ أصبح المسار التفاوضي محصورًا في مسار اللجنة الدستورية، وهو مسار يصبّ في مصلحة النظام، إذ لا توجد سقوف زمنية للوصول إلى صيغة نهائية للدستور أو إلى إعلان دستوري.

ويترتب على ذلك أمران: الأول أن المعارضة أصبحت أسيرة لعمل اللجنة الدستورية، بعدما خسرت كثيرًا من الأوراق، سواء على المستوى العسكري الميداني، أم على المستوى القانوني السياسي، بعدما تجاوزت تطورات الأوضاع في سورية نص القرار الدولي 2254 الذي طالب بوضع جدول زمني لصياغة دستور جديد. ويُخشى في هذا الإطار أن تنزلق المعارضة دون أن تدري إلى تقديم تنازلات سياسية تدريجية، تنتهي إلى إفراغ اللجنة الدستورية من محتواها، كما جرى خلال الجولة الأخيرة، حين جاء في الورقة التي قدّمها وفد المعارضة: “يقرر الشعب السوري وحده مستقبل بلده، عن طريق صناديق الاقتراع، بدون تدخل خارجي”. والأمر الثاني امتلاك وفد النظام القدرة على تعطيل عمل اللجنة، بإضافة مبادئ وفقرات متنوعة تخضع للنقاش، مثل ورقة اللاجئين، ومن ثم إدخال الأمم المتحدة ووفد المعارضة في متاهات لا سبيل إلى حصرها. هكذا، اختزل الصراع التفاوضي في اللجنة الدستورية وحدها، لكن بينما تفتقر المعارضة إلى أدوات الضغط، يستغل النظام غياب الأسقف الزمنية للحل من أجل تثبيت نفوذه على الأرض، وهكذا أصبح الطرفان (المعارضة، النظام) يعولان على المراحل الزمنية، على أمل أن تحدث متغيرات تصبّ في مصلحة كلّ طرف.

======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى