أبحاث

دراسات ومقالات مختارة تناولت الوضع في سورية وتطوراته وسيناريوهات الحل هناك

سيناريوهات الحلّ في سورية في موازين كتّاب ومحلّلين سوريّين

مركز حرمون للدراسات المعاصرة

فراس علاوي: السيناريو العراقي الأقرب إلى الحلّ في سورية

بعد اندلاع الثورة السوريّة -في آذار/ مارس 2011- التي طالبت برحيل بشار الأسد وأركان نظامه الاستبدادي الطائفي الفاسد، دفع أحرار سورية وحرائرها -على مدار السنوات العشر الماضية- أثمانًا باهظة على درب الجلجلة نحو الحرّيّة والديمقراطية وبناء دولة القانون المواطنة.

أثمانٌ وثّقتها (الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان) في تقريرها الصادر بمناسبة الذكرى العاشرة لانطلاق الثورة الذي وثق مقتل 227413 مدنيًا بينهم 14506 بسبب التعذيب، واعتقال/ إخفاء قسري 149361 شخصًا، وتشريد نحو 13 مليون سوري، وأكثر من 12 مليون يكابدون المشقات لتأمين قوتهم اليومي، وعيش أكثر من مليوني إنسان في فقر مدقع، وغير ذلك من المآسي والخسائر البشرية والاقتصادية ودمار نسبة كبيرة من العمران والبنيّة التحتيّة التي خلفها الإرهاب الأسدي – الروسي – الإيراني.

ومع تزايد التعقيدات في الملفّ السوريّ في ظلّ غياب الحلّ السياسي وتواصل الصراع العسكري على امتداد الجغرافيا السوريّة الممزّقة، وبعد أن صارت البلاد مسرحًا لموسكو لاستعراض القوّة طمعًا في استعادة دورها الدولي بوصفها قطبًا عالميًا، واستخدام الأرض السوريّة وما عليها حقل تجارب لتحسين أداء أسلحتها الفتاكة وجعلها معرضًا دائمًا لبيع أسلحتها الجديدة، فضلًا عن انسداد أفق الحلّ السياسي وتكاثر الدول المتدخلة في الشأن الداخلي السوريّ، إذ يقبع رأس النظام تحت الحماية الروسيّة والإيرانيّة، وتتبع المعارضة السوريّة، بل المعارضات لحكومات إقليميّة دوليّة، ما يؤكّد عجزها عن اتّخاذ قرار سياسي موحّد بلا وصاية خارجيّة، بالتزامن مع عدم تحقيق اللجنة الدستوريّة أي تقدّم ملموس على الأرض، وإبقاء القرار الأممي 2254، القاضي بتشكيل هيئة حكم انتقاليّة في سورية (صدر عن مجلس الأمن الدولي في 2015)، مجمّدًا بفعل التدخلات الخارجيّة، والتلاعب الأسدي الروسي في المحافل الدوليّة، وكذلك انتشار أنباء عن تشكيل (مجلس عسكري انتقالي) مشترك بين النظام والمعارضة بوصفه حلًا بديلًا، وأمام غياب خريطة طريق وبرنامج تنفيذي وآليّات واضحة، وضمانات دوليّة ملزمة للوصول إلى حلّ يقبل به الشعب السوري الثائر، تفشّت في صفوف السوريّين حالةً من اليأس الشعبي العامّ من إمكانية إصلاح النظام، والتخلّص من الاستبداد والفساد عن طريق التغيير السلمي الديمقراطي المتدرّج، مع هذا كله يفتح مركز حرمون للدراسات المعاصرة، مع دخول الثورة عامها الحادي عشر، ملفًا خاصًّا حول سيناريوهات الحلّ في سورية، في ظلّ فشل العمليّة السياسيّة والتحضير للانتخابات الرئاسيّة التي يحضر لها الروس ورأس النظام في دمشق، فكان أن استضفنا نخبة من الكتّاب والمحلّلين السياسيّين السوريّين المنتشرين في أصقاع الأرض بعد أن شتّتهم الإرهاب الأسدي المتحالف مع الاستبداد الديني، وذلك للوقوف على طروحاتهم ورؤاهم للحلّ الذي ينتظره السوريّون الذين ذاقوا مرارة الحرب ووحشيّة نظام البراميل وحلفائه، طلبًا للخلاص من آل الأسد، ونيل الحرّيّة والكرامة، ونقل بلدهم من بلد يحكمه الاستبداد إلى بلد ديمقراطي تعدّدي.

حسام ميرو: الحامل السوري الديمقراطي

في ضوء معطيات مركّبة ومعقّدة مثل أوضاع الوطن السوريّ، يبدو سؤال الحلّ الإستراتيجي للأزمة السوريّة سؤالًا إشكاليًا من جميع جوانبه، وإذا كان مفهومًا من الصيغة العامّة للسؤال أنّ المقصود هو الحلّ السياسي لهذه الأزمة، إلّا أنّ مفهوم الحلّ السياسي في الحالة السوريّة يحتاج إلى تفكيك، فنحن بداية لسنا أمام أزمة فشل حكومة محددة، أو فشل ائتلاف حاكم، كما في الدول الديمقراطيّة، بل أمام أزمة وجودية عصفت بالكيان السوريّ نفسه، وهي تطرح منذ سنوات أسئلة كثيرة حول مستقبل هذا الكيان كما عرفه السوريّون بعد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي في 1946.

منذ صدور بيان (جنيف1) في 30 حزيران/ يونيو 2012، ذهبت المسألة السوريّة (من المفيد لنا في إطار البحث عن حلّ إستراتيجي التمسّك بمفهوم المسألة السوريّة) نحو التدويل، خصوصًا مع التفسيرين المتضاربين لنصّ البيان من جهة واشنطن وموسكو، وهو الأمر الذي سيترك تداعياته على مجمل مسار التدخل الخارجي في المسألة الوطنيّة، بكونها صراعًا لم يعد محليًا خالصًا، بل إقليميًا ودوليًا.

البحث عن حلّ سياسي مرّ بمراحل عدة، لكنّها بالمجمل اختزلت، بشكلٍ أو بآخر، في مسألة السلطة، في الوقت الذي كان فيه الواقع السوريّ يتحرك بسيولة كبيرة، ويطرح مسائله الكثيرة، ونحن اليوم، بعد عقد كامل من الحدث السوريّ التاريخي نجد أنفسنا أمام أسئلة تتعلق بالدولة، ونظام الحكم، والهويّة الوطنيّة، ودور الجيش والأمن، ومنزلة الجماعات والأفراد في الدستور، إضافة إلى كلّ هذه الأسئلة، ثمّة واقع يتضمّن ملفّات وطنيّة وإنسانيّة واقتصاديّة، لا يمكن القفز من فوقها، فأي حلّ سياسي مقبل لن يكون ناجعًا ومستدامًا من دون أخذ الأسئلة والملفّات الرئيسية الكبرى بالحسبان.

على سبيل المثال: كيف يمكن لنا أن نتصوّر حلًّا سياسيًّا لا يأخذ بالحسبان واقع النقد السوريّ، وعدم وجود احتياطات نقدية، وحالة التضخم الاقتصادي والمالي الناجمة عن عقد كامل من الصراع؟

ملفّ اللاجئين والنازحين من الملفّات التي تحتاج إلى تصوّر إستراتيجي متكامل، إذ لا يمكن تصوّر أي حلّ سياسي لا يفتح الباب أمام عودة اللاجئين والنازحين، وتكلفة هذا الملفّ، من النواحي القانونية والمالية واللوجستية، تحتاج إلى تمويلات دوليّة كبيرة، وضمانات من جميع الأطراف، وليس واضحًا بعد إذا كان بالإمكان، ضمن أي حلّ، ومهما كان نوعه، أن تُؤَمَّن تلك التمويلات.

 بالنظر إلى تجارب كثيرة، فإنّ الحلول السياسيّة في حال توافرها قد لا تكون حلولًا تقدّميّة، بمعنى أنّها قد تكون مقدّمة لتثبيت وقائع التشظي الجغرافي والديموغرافي، بكلّ حمولاته ما دون الوطنيّة، وتلك الحلول هي من قبيل (سلام ما بعده سلام) على الطريقتين اللبنانية والعراقية، لكن مفهوم الحلّ الإستراتيجي ينبغي أن يقوم على تأمين تنمية مستدامة لجميع مقوّمات المجتمع والدولة، والمقصود الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة.

إنّ فشل المسارات السياسيّة والعسكريّة من آستانا وسوتشي واللجنة الدستوريّة، وعمل روسيا على إعادة تعويم النظام، كلّها تؤكّد أنّنا ما زلنا بعيدين عن إنتاج حلّ سياسي إستراتيجي، فحلول كهذه لا بدّ لها من حوامل موضوعية وذاتية. فمن الجانب الموضوعي، ما تزال القوى الإقليميّة والدوليّة المنخرطة في الصراع السوريّ -وعلى الرغم من وجود القرار الأممي 2234- بعيدة عن التوصل إلى تفاهمات حول الحلّ السياسي، فأجندة هذه الدول، بما فيها الدول الضامنة الثلاث، روسيا، وتركيا، وإيران، غير متطابقة، بل متناقضة إلى حدٍّ بعيد.

الحوامل السوريّة في اللحظة الراهنة ضعيفة، فـ(المعارضة السوريّة) بصيغتها الرسميّة، أصبحت تعبيرات عن إرادات الدول الداعمة لها، من حيث الشرعيّة والوجود، وبالعودة إلى ظروف تشكيلها والقوى المنضوية فيها وتمويلها وممارساتها، فهي أقلّ من ناحية الممكنات الموضوعية من أن تكون فاعلة في إنتاج حلّ سياسي إستراتيجي، أمّا المعارضات الديمقراطيّة، من أحزاب وتيارات وحتى تكتلات، فهي في أوضاع لا تسمح لها، أن تكون مؤثّرة في إنتاج حلّ من هذا النوع.

الأمل في إنضاج حلّ سياسي إستراتيجي يتوقف، بشكلٍ من الأشكال، على إنضاج حامل سوريّ ديمقراطي، وهو ما يتطلب من هذه القوى إعادة بناء نفسها من كلّ النواحي للعمل وفق برامج إستراتيجيّة، ليس من أجل خوض انتخابات أو الدخول في مؤسّسات تفاوضية، بل من أجل بناء تيار ديمقراطي شعبي، يستعيد في أثناء عمله وحركته أهمّية الحامل السوريّ الوطني في إنتاج الحلّ السياسي، بوصفه عملية انتقال من الجمهورية الثانية التي انتهت في 2011 إلى الجمهورية الثالثة التي طال انتظارها.

د. سمير التقي: في سيناريوهات الحلّ السوريّ

في بضع مئات من الكلمات، أنت تكتب كلامًا عموميًا يختزل الحقيقة بالضرورة، ويصبح الكلام أحيانًا فجًا وفاحشًا.

طالما كانت سورية الجغرافيا جسرًا، أفقر من أن تحتل وأهمّ من أن تترك لشأنها في إقليم يتداعى بحدِّ ذاته. بل غالبًا ما كانت تابعة، لا خاضعة، لحضارات غنية.

حين كانت تضعف بلاد الشام كانت تنقسم بين غساسنة ومناذرة، وحين تقوى تحاول أن تكون عاصمة للعواصم، وكان أهل الشام كقوم سياسي من طراز فريد، يجترحون نهضة تعيد بناء ثقافة الإقليم وسياسته، بل العالم. فكانت الديانات وكانت الحركات القومية. بذلك أصبحت بلادنا أس الأيديولوجيا.

سورية، في أصل تكونها الجغرافي – الاقتصادي، هي وحدة واحدة بطبيعتها. لكن لكونها جسر عبور، قسمها أقوامها بحسب العصبيات.

الأصل في الدولة أن تكون أمة لذاتها، وبالفعل نشأت على هذه الجغرافيا السوريّة بعد الاستقلال محاولة لتشكيل دولة/ أمة سوريّة من بشر طامحين في الحياة المشتركة. وبدل بناء سورية الدولة/ الأمة الناشئة، سرعان ما قفز الطامحون لتحميل مشروعنا الوطني عبء العالم بأسره. وكما في كلّ مرّة، تتجاوز سورية ذاتها لتحمل أحمال الإقليم كله، كانت سورية تنكسر. فما بين حلم (وحدة العرب) من الخليج إلى المحيط وإحياء (خلافة المسلمين)، وتحرير (المغتصبات)، تفكّكت سورية وتذرت.

في التاريخ؛ نادرًا ما استتب نظام عالمي. والنظام الراهن مؤقت وطارئ يتداعى ويعاد تشكيله بعد سبعين عامًا، وتتداعى معه كلّ الحقوق. حيث صارت سورية ثقبًا أسود يشكّل أضعف حلقاته. انهارت مقوّمات اتّفاقات (يالطا)، وقبلها (فرساي) و(سايكس – بيكو) و(سيفر). في حين ما تزال المسألة الشرقية الناجمة عن الانهيار المحتوم للإمبراطورية العثمانية حيّة، وانهارت معها أربع إمبراطوريات أخرى بعد الحرب العالميّة الأولى.

السوريّون من جهتهم يناشدون ويطالبون ويدينون ولا من مجيب في نظام عالمي منكفئ، تتراجع فيه كلّ الحقوق. على جانب آخر وفي غفلة من السوريّين، جرى في سوتشي إقرار جملة مبادئ لـ(سايكس – بيكو) الجديد يتضمّن تقسيم سورية. أشعر برغبة جامحة في أن أهز السوريّين فردًا فردًا بغض النظر عن ولاءاتهم لأقول: إنّ (سايكس – بيكو) الجديد قد طبق، ولسذاجة كثيرين ما يزالون يشترون وعود وحدة الأراضي السوريّة. ليس تقسيم سورية محتمًا، وبالمقابل لن يأتي يوم يتدخل فيه أحد في هذا الكون لتوحيدنا. ولا أحد يهتم. وفي أحسن الأحوال قد يقررون تفويض عسكري أو رجل دين ليجمعنا على الاستبداد. أهمّ ما في الأمر أنّه في إطار صراع البقاء لم يعد لدى كثير من السوريّين سوى تأجير بنادقهم للمحتلّين، فيصفق (وطن)” سوريّ لطائرات تقصف هنا ويشجب الطائرات ذاتها حين تقصف هناك.

لأجل كلّ ذلك أقول: إذا استبعدنا حربًا إقليميّة تعاقب الأشرار وتنصر الأخيار، وإن استبعدنا انسحاب المستعمِرين المختلفين، وإذا فهمنا انهيار منظومة الحقوق؛ ندرك أنّه غالبًا ما تذهب الحقوق حتّى لو بقي المطالبون، أقول ليس لنا خيار إلّا المصالحة، أمّا الإيمانات بالحتميات التاريخية ونظريات المؤامرة فمثواها الجنة وليس في سورية الآن. من دروس التاريخ ندرك أنّ ستالين انتصر في الحرب وخسر كلّ روسيا في السلام، وكان العكس في ألمانيا واليابان. وإذ تنتهي الحروب الأهلية بجلوس الملوثة أيديهم لإنتاج حلّ ما، يحسمه عاملان: ميزان القوى، وأفق استدامة الحلّ. انتصر النظام عسكريًّا ثلاثة أرباع انتصار، وهزمت المعارضة عسكريًّا ثلاثة أرباع هزيمة. لكن أيًا منها لم ينتصر ولا ربع انتصار في الحوكمة واستدامة السلام.أمّا عن الديمقراطيّة فلقد وعاها العالم منذ ألفي عام، وعلى الرغم من التبشير بها لم تبدأ في التحقق إلّا حين صارت ضرورية للتطور البشري. وهي لم تصبح كذلك إلّا في نموذج الدولة الليبرالي حيث أقلّ ما يمكن من الدولة وأكثر ما يمكن من الحرّيّة. أمّا مشكلة الهويّات العرقية – الطائفية، فلقد حلّها التاريخ إمّا بالاستبداد والدم، أو بالديمقراطيّة. السلم الأهلي لا يتحقّق من دون اعتراف ومشاركة طوعية تامّة للهويّات. لا حلّ مع الديمقراطيّة إلّا بالوحدة الطوعية وأي قسر أو قمع للهويّات يعني عودة الاستبداد بأسوأ أشكاله.

في هذه الظروف، وبغض النظر عن مظالمها، الأكثرية هي صاحبة المصلحة يجب أن تضحي من أجل الحفاظ وحدة البلاد. ليس ثمّة حلّ سياسي دولي في سورية. لا أحد يهتم بعد أن أصبحنا مصرفًا لكلّ نتن الصراعات الإقليميّة. أمّا بشار الأسد فلقد صار غير ذي أهمية، لو غاب لن تتوقف الحرب وإن بقي فهو غير قادر على شيء، ولكلّ هذه الأسباب أرى سيناريوهات الحلّ في سورية احتمالًا بين ثلاث: أولها، سيناريو أن تستمر الأمور على عواهنها. ويستقر مزيد من عفن أمراء الحرب. والسيناريو الثاني أن تحتاج إحدى دول الإقليم (بما في ذلك روسيا) إلى إغلاق الجرح السوريّ، فتجلب بسطارًا ما لإدارة حلقة جديدة من عذابات الحرب الأهلية وخرابها لتنفجر في كلّ حين. وأمّا الثالث، فهو المصالحة. الثورات، نمط خاصّ من الحروب الأهلية يفترض فيها أصلًا الانتصار الصفري، فإن لم يتحقّق تصبح المصالحة في الحرب الأهلية توافقية بين العسكر الملطخة أيديهم بالدم. لم يقدم التاريخ أي مخرج آخر. بل إنّ من الوهم أن نتصوّر أن تقوم أي قوّة إقليميّة بتسهيل المصالحة. كلّهم سعداء بخمود النار واستمرار الخراب في حين غاب صوت السوريّين.

في ظلّ الطموح الديمقراطي، لن تحدث المصالحة إلّا طوعيًا ضمن شروط بين كلّ المكوّنات الإثنو- طائفية للشعب السوريّ وخارج منطق الحرب الأهلية ومنطق الفوز والخسارة. أمّا الحلول فلن تكون عادلة، ومنصفة، بل تستند إلى ضرورة طمأنة الجميع في ظلّ شرخ عميق.

المصالحة مجتمعية طوعية أولًا بين مكوّنات كلّ الشعب السوريّ على أساس الاعتراف المتبادل بالمصالح وإدراك صعوبة بناء الثقة على مدى عقود. الحديث عن الدستور وسوى ذلك محض مضغ للهواء، بل إنّ جل ما يمكن إنجازه الآن هو وثيقة ما فوق دستوريّة بمنزلة عقد اجتماعي يصوغها المتحاربون. وإلّا فالخراب.

إبراهيم العلوش: سياسة تجفيف المستنقعات

كلّ الحروب الداخليّة في المنطقة جرى امتصاصها بسياسة التجفيف طويل الأمد مثل لبنان والعراق والسودان. وسورية لن تكون استثناءً، ودورنا نحن السوريّين، خلال مسيرة التجفيف هذه، هو الذي سيحدّد ما نكسبه من نقاط وحلول خلال المرحلة القادمة.

من الواضح أنّ الجهات الدوليّة تجفف المستنقع السوريّ، وهي تنتزع انتصارات النظام العسكريّة بتطبيق قانون (قيصر)، وتُفاجئ الشبيحة وهم ينزلون من دباباتهم ليجدوا أنفسهم وقد كسبوا بلدًا جائعًا ومدمّرًا ومحاصرًا بعد انهيار البنية التحتية وهرب الكفاءات، إضافة إلى انتزاع القوى الأخرى سيادة القرار من نظام الأسد، فالروس والإيرانيون والأميركيون والأتراك يهيمنون على قرارات إدارة البلاد، ولم يعد أمام المنتصرين من شبيحة الأسد إلّا أنّ يختاروا بين التبعية للروس أو للإيرانيين، وهم المحتلّون الذين اختارهم الأسد في مقابل المحتلّين الآخرين.

تعيد الجهات الأوروبيّة تأهيل إدلب وتعمل على انتزاع مخالب التنظيمات المتطرّفة وأنيابها هناك، ويدير الأميركيون الجزيرة والفرات بتفويض للقوّات الكرديّة التي تتصدّر المشهد، بينما تدير تركيا المناطق التي تقع تحت سيطرتها من اعزاز حتّى رأس العين، وروسيا تركض لاهثة من درعا إلى الحسكة من أجل الإمساك بملفّات تمكّنها من إعادة تأهيل نفسها بديلًا من إيران.

لقد انتهت الحرب كما صرح النظام ورجالاته وعادت السياسة إلى احتلال الاهتمام الأكبر في الملفّ السوريّ، وانحسر دور الميليشيات الطائفية التي ساعدت النظام في أعمال التدمير والتخريب وبدأت تنخر جسد النظام نفسه، وحان دور السياسة واللعب الدولي، فهل تستطيع الجبهة الوطنيّة التقدّميّة احتلال مكانها في القرارات الداخليّة؟ وهل يستطيع حزب البعث إعادة نفسه إلى الحياة السياسيّة بعدما كان صامتًا أمام أعمال التخريب والتعذيب والتهجير الطائفي؟ وهل البنية السياسيّة والثقافية للنظام قادرة على القيام بدور الدفاع السياسي عن النظام بعدما أصبحت كسيحة في مقابل الشبيحة، وفي مقابل الاحتلال الإيراني وميلشياته الطائفية، وفي مقابل الهيمنة المتعاظمة لمستعمرة (حميميم) على القرارات السوريّة؟

استيقظت النخب المساندة لنظام الأسد عارية وغير قادرة على فعل شيء، ولم تعد قادرة على إصدار مواقف مقنعة للناس الجائعين ولا لأهالي المعتقلين ولا لضحايا الحرب وأيتامها، وليست قادرة على تبرير الصلاحيات المطلقة للإيرانيين والروس، فقد باع العسكر والمخابرات البلاد بأبخس الأثمان.

من هنا، تكون أهمّية دور السوريّين في الحلول القادمة، فمليون سوريّ في أوروبا وملايين أخرى في تركيا وفي لبنان يجب أن تتحرك اليوم مدافعة عن نفسها وتستطيع أن تتظاهر أمام السفارات الروسيّة والإيرانيّة وأن تطالب بالمعتقلين وتطالب بمحاكمة المجرمين من نظام الأسد، وما محاكمة (كوبلنز) الألمانية إلّا خطوة أولى ضمن خطوات كثيرة واعدة ضدّ نظام الأسد الذي يحرص السوريّون جميعًا على عدم إفلات مسؤوليه من العقاب.

البدائل المطروحة لنا نحن السوريّين للحلّ هي الاستفادة من الزمن المخصّص للتجفيف، والاستفادة من الضغوطات الدوليّة بمضاعفتها عبر صنع رأي عامّ ضاغط على المحتلّين، يطيل تخبطهم، ويجعل إعادة تأهيل نظام الأسد شبه مستحيلة، وإن حصل فيجب أن نجعلهم يدفعون ثمنًا غاليًا مقابله، بجعل المطالبات السوريّة تتدفق بشكلٍ دائم عبر التظاهرات والميديا والمؤتمرات واللجوء إلى المنظمات الإنسانيّة العالميّة التي لها باع طويل في مساعدة السوريّين على توثيق جرائم النظام.

نستطيع الانتصار على النظام بالجهد الإنساني والسياسي في مرحلة التجفيف المقبلة بسبب ضعف مكوّناته السياسيّة، ونستطيع تقليل عدد الناجين من العقاب ضمن صفوف نخبة الأسد، ونستطيع إحباط المناورات التي يتلاعب بها، مثل محاولة النظام الفاشلة في ترشيح أسماء الأسد بدلًا من بشار متّخذًا من سياسة بوتين في تبادل الرئاسة مع رئيس وزرائه، مثالًا يحتذى في التلاعب بالناس وبالقوانين التي مارسها في روسيا. لقد فاز أمراء الحرب في لبنان وكرّس انتصارهم استيلاءهم على اتّفاق الطائف، وها هم يقودون بلدهم اليوم إلى حرب أهلية جديدة، ويجب ألّا نسمح بفوز أمراء الحرب في سورية بالاستيلاء على مباحثات جنيف أو غيرها، على الأقلّ كي لا يقودوا الأجيال القادمة إلى حروب أهلية ستطال الجميع.

عقاب يحيى: الخيارات البديلة

نحن على أبواب الذكرى العاشرة للثورة وما تزال الأزمة السوريّة موصدة الطرق في وجه أي حلّ يحقّق الحدّ الأدنى لطموحات الشعب السوريّ ومطالبه بعد أن قدّم التضحيات الغالية ثمنًا للحرّيّة وإقامة نظام تعدّدي، مدني، ديمقراطي بديل لنظام الاستبداد والفئوية والفساد.

ـ الأسباب كثيرة يتداخل فيها الذاتي بالعامّ. الداخلي بالخارجي، ويظهر الدور الخارجي ثقيل الوطأة وكبير الأثر إن كان عبر تدويل (المسالة السوريّة)، أو من خلال الاحتلالات الأجنبية، أو عدم وجود اتّفاق، أو قرار دولي يلزم النظام بالانصياع لقرارات الشرعيّة الدوليّة، وبخاصّة دور الولايات المتّحدة الأميركيّة وقرارها الذي ما يزال بعيدًا عن الحسم، أو الاقتناع بوجوب إنهاء النزيف السوريّ بإيجاد حلّ سياسي يستجيب لإرادة معظم السوريّين من جهة ولمجموعة القرارات المتّخذة في الهيئة الدوليّة بدءًا من بيان (جنيف 1) ووقوفًا عند القرار الأممي 2254.

الأسباب المتداخلة كثيرة سنحاول إيجازها بما يأتي:

1-عند انطلاق ثورات الربيع العربي جاءت التدخلات الخارجيّة عاملًا حاسمًا في إنهاء عدد من الأنظمة الاستبدادية، وكانت الحالة الليبية نموذجًا صارخًا لها، دفعت السوريّين إلى الرهان على مثلها، وتجلّى ذلك في خطوات المجلس الوطني ورهاناته، ما كان له كثير التداعيات، وأهمّها وضع ذلك الرهان بديلًا من الحاضنة الشعبيّة وبناء علاقات طبيعية معها وللعامل الذاتي، فكانت الفجوة التي اتّسعت مع انتشار العَسكرة، وتحوّلاتها السريعة التي أنتجت ظواهر سلبية منها التهميش السياسي، والإسلامويّة المتنوّعة وعلى رأسها بروز تنظيمات متشدّدة كـ(القاعدة) و(داعش) وتلوينات مختلفة دخلت على الخط وفتحت الأبواب واسعة لشتّى التدخلات الإقليميّة والخارجيّة التي كان من أهمّ نتائجها: سحب الملفّ السوريّ من أيدي أصحابه ووضعه في يد القوى المموّلة والفاعلة، ومنع توحيد تلك الفصائل التي انتشرت كالفطر وإتباعها للقيادة السياسيّة، وإنشاء ما يعرف بغرفتي (الموك) و(المول) اللتان تحكّمتا في القرار والدور.

2-الجميع يعرف طبيعة النظام الأقلوية، العنفية، واعتماده نهج الحلّ الأمني-العسكري، وهو ما مارسه منذ الأيام الأولى للثورة حينما كانت سلمية، وبما يعني أنّه لن يقبل بأي حلّ سياسي ولو كان خطوات صغيرة ويراه بداية النهاية له، وأنّه لن يوافق على القرارات الدوليّة إلّا مجبورًا ومنصاعًا وهو الأمر الذي لم يحدث.

3-على العكس من ذلك، حين كانت فصائل الجيش السوريّ الحرّ تسيطر على أكثر من 70% من الأرض السوريّة، وحين كان النظام على شفير هاوية الانهيار في نهاية 2012 و2013 كان التدخل الإيراني حاسمًا لمنع السقوط، ثمّ الاحتلال الروسي الذي لا بدّ أنّه جاء بضوء أخضر أميركي وغيّر موازين القوى بشكلٍ ساحق على الأرض لمصلحة النظام، وفرض وقائع ما يعرف بمناطق خفض التصعيد التي التهمها وأعاد معظمها إلى النظام وفرض ما يعرف بالمصالحات وإنهاء وجود عدد من الفصائل المسلحة.

4-بعد تلك التطورات توضّح الموقف الدولي المعلن بأنّ الحلّ العسكري ممنوع، وأنّ صيغة (لا غالب ولا مغلوب) هي المتّفق عليها، وأنّه لا سبيل سوى الحلّ السياسي.

-لقد وافق الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وبعد تباينات كبيرة داخله، على الدخول في مفاوضات جنيف برعاية الأمم المتّحدة وظهر جلّيًا رفض النظام لأي استجابة، وتطبيق ما أعلنه وزير خارجيته بإغراق المعارضة بالتفاصيل، واستهلاك الوقت من دون تحقيق أي خطوة إيجابية.

-من جهة أخرى حدثت دحرجات متتالية على صعيد القرارات الدوليّة ومضمون بيان (جنيف 1). فقد مورست ضغوط متعدّدة تحت شعار (توسيع تمثيل المعارضة) لمنع بقاء الائتلاف الطرف الرئيس في المعارضة لتمسّكه الشديد بثوابت الثورة، فكان مؤتمر (رياض 1)، ثمّ (رياض 2) الذي أدخل منصّات عدة كالقاهرة وموسكو، وأضعف تمثيل الائتلاف، وكان الأهمّ من ذلك تلك الزحزحة لجوهر بيان (جنيف 1) القاضي بتشكيل هيئة الحكم الانتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة، وتحديد مرحلة العمليّة الانتقاليّة التي تكون فيها القضايا الدستوريّة والانتخابات ترجمة ونتيجة لها لا مقدّمة.

-المبعوث الدولي الخاصّ إلى سورية السابق، ستيفان ديمستورا، ولتحريك وضع المفاوضات، وربّما لاستمراره في مهمّته خرج بما يعرف بالسلال الأربع، ثمّ اختصرت بسلّة واحدة هي اللجنة الدستوريّة ببصمة روسيّة واضحة، بينما غاب الأهمّ الخاصّ المتعلّق بهيئة الحكم الانتقالي والاستعاضة عنها بتصريحات غير رسميّة، أو غير معتمدة عن (البيئة الآمنة).

-المفاوضات في اللجنة الدستوريّة، وبعد عام من المماحكات والصراعات لتشكيلها -وهي للمناسبة من مخرجات (مؤتمر سوتشي)- استمرّت أربع جولات كانت نتيجتها عبثية تدور في الفراغ واستهلاك الوقت نتيجة مواقف النظام الرافضة لأي تجاوب مع جدول الأعمال، والدخول في صلب الموضوع. ما يطرح سؤالًا مهمًّا عن الجدوى ومبرر الاستمرار، وأقلّه طرح نقاط كشروط لأي جولة قادمة.

الخيارات البديلة، أو المساندة:

الأساس في أي مفاوضات هو ميزان القوى لدى كلّ طرف لأنّه العامل الفاعل في النتائج.

-على صعيد ميزان القوى يبدو النظام راجحًا، نتيجة قراره الواحد ومؤسّساته المتعاضدة، والأهمّ من ذلك وجود حلفاء مساندين له بقوّة وعلى رأسهم روسيا، بينما حالة المعارضة خلاف ذلك إن كان لجهة وضعها غير الموحّد في الموقف والقرار، أو لموقعها على الأرض وما لديها من أوراق، أو لجهة تحالفاتها وعلاقاتها، وبعد الخسائر التي منيّت بها الفصائل العسكريّة بات وضعها أكثر ضعفًا، فضلًا عن افتقارها إلى تحالفات قوية، فعلاقاتها الخاصّة بالحكومة التركيّة قائمة على توافقات رئيسة، وبقية العلاقات، وبخاصّة مع الولايات المتّحدة الأميركيّة وتأثيرها في بقية دول العالم المحسوبة على أنّها أصدقاء الشعب السوريّ فإنّها لا ترتقي إلى مستوى الدعم المطلوب، وما زالت لا تخرج عن إدارة هامشية للملفّ السوريّ بينما تولي اهتمامها الرئيس لقضايا عالميّة وإقليميّة أخرى في مقدّمها العلاقة مع إيران.

-إنّ الإشكال الرئيس عند المعارضة السوريّة لا يكمن فقط في تشتّتها واختلاف الرؤى والمواقف في ما بينها وحسب، بل في علاقاتها بالحاضنة الشعبيّة من جهة، وبالدول ذات الفاعليّة من جهة أخرى.

-إنّ الأساس والسبيل في تغيير هذا الوضع، وامتلاك أوراق فاعلة تكمن في بناء علاقات طبيعية مع الحاضنة الشعبيّة للثورة وجميع الفعاليّات والقوى السياسيّة وإقامة أوطد العلاقات الدائمة معها ضمن ما يعرف بـ(الاصطفاف الوطني) الذي يسعى إلى التوافقات العامّة ووضع الجهد في المنحى العامّ لمواجهة الأخطار والتحدّيات التي يعيشها الوطن، وتأمين مستلزمات الوصول إلى التغيير المنشود، وذلك من خلال مجموعة من الخطوات التي يجب أن يتضمّنها ويضمن تحقيقها برنامج عمل واقعي، وفي مقدّمها:

1-تجديد الخطاب الوطني باتّجاه التوجّه إلى كافّة أطياف الشعب السوريّ ومكوّناته بما يتجاوز الجهات المحسوبة على الثورة والمعارضة إلى تلك (الكتلة الرمادية)، وحتّى المحسوبة على النظام سوى من تلوثت أيديهم بدم الشعب، والاهتمام، أيضًا، بفئات شعبنا تحت سيطرة سلطات الأمر الواقع (قسد وهيئة تحرير الشام) والتوجّه إليها بخطاب المصالحة والتسامح والسلم الأهلي، والاهتمام بمعاناتها وأوضاعها المعيشية والحياتية، وصولًا إلى مساهمتها في بناء مستقبل بلادنا.

2-العمل لإقامة أوسع التحالفات مع القوى السياسيّة السوريّة المحسوبة على المعارضة، والفعاليّات الثوريّة لتجسيد التشاركية، وفتح المجال للحوار الوطني الأوسع الذي يهدف ليس إلى التوافقات حول القضايا الرئيسة وحسب، بل إلى عقد مؤتمر تشاوري وطني يناقش أوضاع الثورة والمخارج، ويعزز السلم الأهلي، ويعالج هيئات المعارضة، بما فيها -بل أساسها- الائتلاف الوطني.

3-الانتقال من حالة المعارضة إلى مفهوم الدولة خاصّة للمناطق المحرّرة بتكريس منظومة الحكم الرشيد، وتمكين الحكومة السوريّة المؤقتة من ممارسة دورها التنفيذي المأمول، وبناء الجيش الوطني المهني، وتعزيز دور المجالس المحليّة، والفعاليّات السياسيّة والشعبيّة.

4-تعزيز الشرعيّة والمشروعيّة عبر تلك العلاقات مع الحاضنة الشعبيّة، والعمل في الوقت نفسه على نزع شرعيّة النظام ورفض الانتخابات التي قد يجريها هذا العام، والعمل على منع إعادة تأهيله، والسعي إلى تقديم كلّ ما يلزم لتحويل رأس النظام وكبار رموزه إلى محكمة الجنايات الدوليّة.

5-إنّ أسبابًا عدة تدعو إلى الاستمرار في المفاوضات في جنيف، لكن يجب العمل على تغيير الشكل والمجرى عبر الإلحاح على وضع هيئة الحكم الانتقالي على جدول المفاوضات كبند رئيس، وتعيين مدّة زمنية لعمل اللجنة الدستوريّة ونهج المفاوضات وآلية التعامل.

6-العمل الحثيث لتغيير الموقف الدولي باتّجاه فرض الحلّ السياسي، وبخاصّة مع الطرف الأميركي، لاتّخاذ القرار الواضح بإلزام النظام بالانصياع للقرارات الدوليّة، وتطوير العلاقات مع الدول العربيّة، وبخاصّة تلك التي تقف مع ثورة الشعب السوريّ، ومع الحكومة التركيّة لما لها من حيثية خاصّة كدولة جوار، وكأكبر دولة تحتضن اللاجئين السوريّين، ودورها في المناطق المحرّرة.

7-وإذا كان أمر الحسم العسكري مبعدًا فإنّ دوره لن يلغى ويجب أن يكون حاضرًا بقوّة في ميزان القوّة وفي معركة التغيير ضمن إطار المقاومة متعدّدة الأشكال التي تأتي في مقدّمتها حركات الاحتجاج والتظاهر، وسياسات النظام بالتجويع والحرمان والقمع وملاحقة المعارضين، بكلّ الوسائل السلمية التي يبدعها الشعب السوريّ.

8-إنّ التفكير بإمكانية إجراء انتخابات برلمانية للسوريّين في المناطق المحرّرة وأماكن اللجوء أمر يجب بحثه ووضعه على سلم الاحتمالات بكلّ ما يقتضيه ذلك من تفاهمات بين السوريّين المعنيين، ومع الجهات الإقليميّة والدوليّة.

9-إنّ استعادة القرار الوطني وتغيير ميزان القوى لمصلحة الثورة هو تحصيل مدى الإنجاز في هذه النقاط التي طرحت، وقد أولى الائتلاف -وبخاصّة في دورته الحالية- الاهتمام الكبير لتجسيد البديل عبر وضع برنامج شامل يتناول الاستناد إلى الداخل السوريّ والوجود في المناطق المحرّرة وفتح عدد من المقرات، وإنجاز وثيقة تجديد الخطاب الوطني، وتشكيل لجنة خاصّة بالحوار الوطني قامت بجهد ولقاءات مستمرّة مع عدد مهم من الفعاليّات السوريّة، وإنجاز الرؤية السياسيّة، ووثيقة الحقوق والحرّيّات، والاهتمام بمنطقة الجزيرة والفرات عبر لجنة خاصّة، وكذا في لجنة الجنوب التي تضمّ كلًّا من محافظات درعا والسويداء والقنيطرة، والإعداد لمؤتمر اللقاء التشاوري الوطني وتقديم ورقة المشروع الوطني في زمن منظور، والتقدّم خطوات مهمّة في إعداد وثائق الحوكمة الرشيدة والانتقال إلى المأسسة الدوليّة، وكذا المطالبة بتغيير نهج اللجنة الدستوريّة وطريقة عملها، والتركيز على بند هيئة الحكم الانتقالي واعتماد وضعها في رأس جدول عمل المفاوضات.

-إنّ السعي الحثيث لتغيير الموقف الأميركي باتّجاه وضع ثقل الإدارة الأميركيّة في الملفّ السوريّ يمثّل اليوم هدفًا مهمًّا يجب الوصول إليه مع الإدارة الجديدة التي لم تفصح -حتّى الآن- عن توجّهاتها التفصيلية في الشأن السوريّ، وتقوم ممثّلية الائتلاف إلى جانب المؤسّسات السوريّة واللجان الفاعلة بدور متواصل للتوصل إلى نتائج إيجابية للموقف الأميركي، وهو ما يتطلب أيضًا تكاتف جميع السوريّين المعنيين للضغط على مراكز التأثير والقرار في أميركا وصولًا إلى موقف فاعل سيكون له أثره في الدول الأوروبيّة وبقية دول العالم، من شأنه منع روسيا من السيطرة على الملفّ السوريّ والتفرد به، وإيقاف المدّ الإيراني والمشروع الخطر الذي يجري تطبيقه في بلادنا.

د. مضر الدبس: مقاربة المسألة السوريّة ومآلاتها المستقبليّة

تعلمنا صيرورة الثورة وتحوّلاتها الابتعاد عن الوصفات الجاهزة وخرائط الطريق الناجزة حين التفكير في حلّ المشكلة السوريّة، وهذا بتقديرنا واحدٌ من أكثر دروس الثورة السياسيّة أهمّيةً؛ فهذا النوع من الصيرورات متعرّج ومتغيّر ومتحوّل، ولا يُقابل بالتنظير المسبق أو المقولب، ولا بالإسهاب في تحليل الأخبار، وفي النبوءة بالسيناريوهات، وتبادل التسجيلات الصوتية والمرئية في غرف التواصل الاجتماعي، ولا يقتصر العمل فيه على توقّع سلوك الدول والتحليل المسهب لجمل سفرائها ووزراء خارجياتها وكلماتهم، بل تقابل هذه الصيرورة التاريخية في تقديرنا بدءًا من التدريب على الشعور بالمسؤولية شعورًا عقلانيًا ووطنيًا، بمسؤولية الكلمة والفعل، الخطاب والسلوك، الكلام والصمت، إلى ما هنالك، وتقابل أيضًا بالفكر السياسي الذي يرتكز على الإبداع والابتكار.

إنّ منهجية الدوران في أفق المجتمع الدولي والإقليمي، والاستناد إليه في مقاربة المسألة السوريّة ومآلاتها المستقبليّة، منهجيةٌ أثبت فشلها مليون مرّة. وبطبيعة الحال هذا الكلام لا يقلل من أهمّية الوضع الدولي والإقليمي وتأثيره في المشهد السوريّ، ولكنّه بالضرورة كلامٌ يعلي من شأن ما تقلل هذه الطريقة عادةً من شأنه وأهمّيته ولا توليه أهمّيةً، وهو ما يمكن أن نسمّيه مشروع بناء مجتمع سياسي سوريّ حقيقي وصونه بأيادٍ سوريّة، بعد كلّ هذا الإخفاق والابتذال.

لا مجال للحديث عن إمكانية التفكير الإستراتيجي من دون بناء هذا المجتمع السياسي السوريّ، وبناء مؤسّسات متماسكة ومتناغمة تمثّله وتعمل بتفويضٍ منه، ولذلك يكون السؤال عن حلول إستراتيجيّة للمشكلة السوريّة هو نفسه السؤال عن آفاق بناء هذا المجتمع السياسي وإمكانيته، والجواب عن هذا الأخير هو في الوقت نفسه جوابٌ عن كلّ تساؤل يدور في فلك ما العمل؟ وما الحلّ؟

كثيرةٌ هي الأفكار التي يمكن للمرء أن يقولها اليوم في بناء مجتمع سياسي سوريّ، ولكن أكثرها أهمّيةً في هذه العجالة فكرة إطلاق حوار عمومي سوريّ يضم السوريّين كلّهم باستثناء الطغمة الحاكمة ومن تلطخت أيديهم بدماء السوريّين. وأن يتكوّن رأس مالٍ اجتماعي سوريّ ينتج من إعادة ثقة السوريّين في بعضهم وإعادة ثقتهم في قدرة السياسة على تغيير أحوالنا الخانقة وحلّ مشكلاتنا الكبيرة والمستعصية. يومها لن تكون أهمّيةٌ تذكر لمحاولات حلفاء الطغمة في إعادة إنتاجها، بل يومها يمكن بناء مقاربة قوية لعلاقات سورية الخارجيّة على أسس ومعايير جديدة مختلفة ترتكز على المصلحة الوطنيّة السوريّة وفنّ تحقيقها.

أميل إلى التوقف قليلًا عند سؤالكم عن مكان أميركا من كلّ ما يجري، ويبدو لنا في هذا السياق أنّ ملخص السياسة الأميركيّة (أوباما / ترامب) يمكن رؤيتها في مستويين: مستوى الصراع على سورية حيث تبنت رؤية تقوم على حماية الحلفاء واستنزاف الأعداء، وفي مستوى الصراع في سورية أظهرت دائمًا تردّدًا وارتباكًا ولم يكن إسقاط النظام أولويةً لديها. يعني يمكن أن نقول إنّ ما كان يعرف بـ(مبدأ أوباما) قد وسمّ السياسة الخارجيّة الأميركيّة في سورية بمجملها، وهو مبدأ انتشر منذ أن كان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عضوًا في مجلس الشيوخ، إذ تبنى في آرائه حول السياسة الخارجيّة، ما بات يعرف بـ(مبدأ أوباما) الذي يميل إلى عدم توريط الولايات المتّحدة في معارك خارجيّة، وأنّ أميركا ليست مضطّرة إلى الدخول في حروب استنزاف جديدة في المناطق العربيّة والإسلاميّة، ويمكن التعامل مع التحدّيات كافّة من خلال دعم الحلفاء بالسلاح والتدريب. للمرء أن يلاحظ أنّ هذا المبدأ قد ألحق الخسارة بالمصالح القومية الخارجيّة الأميركيّة ذاتها أكثر ممّا حقّقه من فوائد، زاد التدخل السلبي الإيراني في المنطقة كلّها وتمدّدت قوتها ونفوذها وأدوات الضغط الإقليمي لديها وخصوصًا في العراق، وفي اليمن، وارتكبت جرائم في سورية، وأعمالًا تخريبية في البحرين، وتمدّد حزب الله وتمادى في تعطيل الدولة اللبنانية وتدخل عسكريًّا في سورية، ودخلت ليبيا في متاهة الفوضى، وعاد العسكر إلى حكم مصر بعد بوادر ولادة مشروع دولة ديمقراطيّة، اضطّربت الأوضاع في أوكرانيا ولم تعد المدن الغربية بمنأى عن الإرهاب، توسّع نفوذ التنظيمات الإسلاميّة الراديكالية وسيطرتها، وعُزز الدور الروسي في العالم، إلى آخر ما هنالك من تغيّرات يمكن تصنيفها في المجمل بأنّها خسارة للمصلحة القومية الأميركيّة في المنطقة. لذلك يمكن القول إنّ الأميركيين شركاؤنا في الخسارة والإخفاق هذا المرّة، والأوروبيين أيضًا. ومن المبكر الحكم على مستقبل هذا الإخفاق مع الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن ولكن المؤشرات الأولية لا تبُشر بخلاف ذلك.

أسامة العاشور: الواقع والتوقّع

    – سورية مقسمة واقعيًا إلى ثلاث مناطق نفوذ: أميركي في شرق الفرات بمساحة 25%، وتركي في الشمال بمساحة 11%، وروسي – إيراني في غرب سورية ووسطها بمساحة 64%، وتفاقمت الأزمة الاقتصاديّة والتحدّيات التي تواجه صدقية النظام أو بقاءه حتّى في أوساط الموالين له.

    – استمرار تناقضات القوى المتدخلة في سورية وخلافاتها؛ بين موسكو الراغبة في تقويض هيمنة أميركا على الصراع السوريّ ومخرجاته واحتلال دور إقليمي ودولي مؤثّر، وواشنطن التي منعت روسيا من تحويل التقدّم العسكري الذي حقّقته إلى نصر سياسي، إضافة إلى التناقضات الناتجة من طموحات الأمن القومي التركي وأطماع إيران الطائفية وأمن إسرائيل، وكلّها لا علاقة لسورية وثورتها بها.

    – تعطيل روسيا والنظام المفاوضات بأشكالها ومساراتها كافّة، والعمل على تأهيل النظام عبر الضغط لعودته إلى الجامعة العربيّة ووساطة لإبرام اتّفاق سلام مع إسرائيل، وإجراء انتخابات رئاسيّة، وجمع الأموال لإعادة الاعمار من دون إشراف الامم المتّحدة.

    – استمرار مطالبة الولايات المتّحدة وبعض الدول الأوروبيّة بتثبيت وقف إطلاق النار في شمال سورية، وتقديم الدعم لمشروع (الإدارة الذاتية)، وممارسة الضغوط الدبلوماسية والاقتصاديّة على النظام وحلفائه ورفض المشاركة في إعادة الإعمار إلى حين إنجاز الحلّ السياسي.

المتغيّرات في عهد الإدارة الأميركيّة الجديدة:

لا تمثّل القضيّة السوريّة للإدارة الأميركيّة الحالية أولوية إستراتيجيّة ولا تهديدًا حيويًا، وما تخشى منه واشنطن في سورية هو التمدّد التركي والنفوذ الإيراني والتأثير الروسي، وتتعامل مع هذه الخشية عبر تفعيل الحلول الدبلوماسية والحوار ومن المرجّح أن تسمح لإيران بالاستمرار في الحفاظ على مناطق تمدّد نفوذها الإقليمي، مقابل التخلّي عن البرنامج النووي وعدم التعرّض لـ(أمن إسرائيل)، والحفاظ على وجود قوّات عسكريّة أميركيّة محدودة في شرق الفرات للضغط على تركيا وحماية مناطق سيطرة قوّات سوريا الديمقراطيّة (قسد)، ومحاربة تنظيم الدولة (داعش)، بالتوازي مع استمرار عقوبات قانون (قيصر)، للضغط على روسيا والنظام لقبول الحلّ السياسي.

السيناريوهات المتوقّعة

    استمرار الوضع الراهن وتعطيل الوصول إلى حلّ سياسي لاعتقاد الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين أنّ اللعب على الوقت من مصلحتهم، وأنّ أميركا وأوروبا في نهاية المطاف سيقبلون ببقاء نظام الأسد والتفاوض معه كما فعلوا مع كوريا الشمالية وطالبان، وهذا يعني تحوّل سورية إلى دولة معزولة عن الاقتصاد العالمي ومنبوذة في المستوى السياسي والدبلوماسي، وازدياد المعاناة المعيشية للشعب السوريّ وعدم عودة اللاجئين، وبقاء سورية مقسّمة إلى مناطق نفوذ.

    ازدياد الصراع بين القوى المتدخلة ووكلائهم المحلّيين -الذين لا يحمل أي منهم مقوّمات الاستمرار- وداخل كلّ منطقة نفوذ وانتشار العوز والمجاعة، وفقدان الأمن، وتحوّل سورية إلى دولة فاشلة تشكّل كارثة لحقوق الإنسان وأرضًا خصبة للمتطرّفين وعدم الاستقرار الإقليمي.

    اتّفاق اللاعبين الدوليين على سورية دولة موحّدة دستوريًا، ولكنّها مكوّنة من ثلاث فدراليات جغرافية منطقة إدلب، ومنطقة شرق الفرات، ومنطقة غرب سورية ووسطها، تحتفظ كلّ منها بصلاحيات واسعة في شؤونها الداخليّة. ويحظى هذا الخيار بقبول ضمني روسي – أميركي بعد حلّ القضايا العالقة بينهما وموافقة إيرانيّة بشرط ضمان الاتصال الجغرافي بين العراق وسورية ولبنان ورفض حزام تركي.

    اتّفاق دولي على تطبيق القرار الأممي 2254 وفق القراءة الروسيّة وأطراف مؤتمر آستانا يتضمّن عملية انتقال سياسيّة تحافظ على النظام، مع مشاركة أجزاء من المعارضة في الحكم، الأمر الذي لا يتوافق مع إعادة البناء والتمهيد لعودة اللاجئين على نطاق واسع، وسيكون غالبًا بالضدّ من رغبة الولايات المتّحدة الأميركيّة.

    اتّفاق دولي على تطبيق الحلّ السياسي بموجب ما نصّ عليه القرار 2254 وفق التسلسل الذي ورد فيه بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتّحدة، يُنهي حكم الأسد ويستبدل به نظامًا ديمقراطيًا تعدّديًا عبر تشكيل هيئة حكم انتقالي، ثمّ دستور، ثمّ انتخابات من دون الأسد ومجرمي الحرب، ويفتح الأفق لحلّ مشكلة اللاجئين والتغير الديموغرافي والفقر وإنهاء الجماعات المسلحة والخروج تدريجي للوجود العسكري الأجنبي من سورية، وهو أصعب الخيارات وأعقدها لتعارض مخطّطات القوى العالميّة والإقليميّة وتعددها، والأهمّ من ذلك كلّه تفرّق القوى الحاملة للمشروع الوطني السوريّ ولافاعليتها، ولكن ما يدفع إلى هذا الخيار أنّه لا استقرار ولا عملية بناء شاملة، من دون انتقال سياسي حقيقي متوافق عليه، دوليًا وإقليميًا وسوريًّا.

حسن النيفي: القضيّة السوريّة في ضوء المآلات الراهنة

 جسّدت نهاية 2016 ، وبداية 2017 ، مفصلًا ربّما يكون الأكثر أهمّيةً في سيرورة أحداث الثورة السوريّة، وأعني بذلك استعادة سيطرة النظام على حلب الشرقية، وترحيل ما يقارب 200.000 مواطن من سكانها بالباصات الخضراء، ومن ثمّ بداية مسار آستانا، وكان هذا المفصل إيذانًا بمرحلة جديدة من المواجهة بين قوى الثورة ونظام الأسد، كان من أبرز سماتها بدء التقهقر العسكري للفصائل العسكريّة، بالتوازي مع استعادة النظام معظم المناطق التي كانت خارج سيطرته، بخاصّة ما سُمّيَ بمناطق خفض التصعيد (حمص – الغوطة الشرقية – درعا – القلمون)، ومن ثمّ تمكّن النظام لاحقًا –وبدعم مطلق من حليفيه الروسي والإيراني- من الإجهاز على معظم البلدات الإستراتيجيّة حول إدلب (خان شيخون، سراقب، معرة النعمان، كفرنبل)، فيما حالت المصالح المتشابكة بين موسكو وأنقرة دون اجتياح مدينة إدلب. في حين لم تكن التداعيات السياسيّة أقلّ فداحةً، ذلك أنّ مسار آستانا لم يعد مختصًّا بالقضايا الميدانية والإنسانيّة كما ادّعى القائمون عليه منذ البداية، بل أصبح –كما أراده الروس– المسار البديل من جنيف، وقد عُزّز هذا المسار بقبول فكرة ديمستورا حول السلال الأربع في لقاء جنيف الرابع في 23 شباط/ فبراير 2017 ، ليصبح القرار 2254، بعد القفز من فوق بنوده الإنسانيّة المُلزِمة، وبخاصّة (12 و13 و 14) هو المرجعية الأكثر تداولًا، ربّما لكونه أكثر استيعابًا للتفسيرات والتأويلات المختلفة، ولكن على الرغم من ذلك، فإنّ القيمة الفعليّة للقرار المذكور قد تلاشت حيال مخرجات لقاء سوتشي الأول (30 كانون الثاني/ يناير 2018) الذي اختزل العمليّة السياسيّة بتشكيل لجنة لكتابة الدستور أو تعديله.

يعزو كثيرون الاستعصاء الحاصل في عمل اللجنة الدستوريّة إلى عدم جدّية نظام الأسد في تفاعله مع العمليّة السياسيّة، ومحاولاته الرامية إلى المماطلة واستثمار الوقت، بموازاة تمسّكه واستمراره في الحلّ الأمني. ربّما يعكس هذا التفسير فهمًا عامًا، مبعثه سلوك النظام حيال عملية المفاوضات، ولكنّه لا يعكس بالضرورة الفهم العميق لبنية نظام الأسد وماهيّته، ذلك أنّ مماطلة النظام وعدم تفاعله مع القرارات الأممية واستمراره في نهج القتل والاستئصال إنّما هو نتيجة سبب، تعود جذوره إلى أنّ السوريّين لم يكونوا في مواجهة نظام مستبدّ فاسد كما في بلدان ثورات الربيع العربي الأخرى فحسب، بل هم في الأصل في مواجهة استبداد مُركَّب (سياسي وطائفي) ساهم في تحويل السلطة من (نظام حكم ذي طابع مؤسّساتي)، إلى (طغمة أو عصابة) ولكنّها عصابة أقوى تماسكًا وأشدّ صلابةً من نظام الحكم، من جهة أنّها لا تقبل التفكيك بالوسائل الليّنة أو السياسيّة، فهي إمّا أن تنشطر أو تنفجر فتتهاوى كلّيًّا، أو تبقى قائمة. وفي ضوء هذا الفهم، لا يبدو مُستغربًا هذا الانسداد الذي تواجهه العمليّة السياسيّة، ولا يبدو مُستغربًا أيضًا أن يستنجد كثيرون بالسؤال: أين هو الدور الأميركي حيال المآلات الراهنة للمسار السياسي السوريّ؟ وما الذي يجب على قوى الثورة فعلُه؟

لا جديد في القول: إنّ القضيّة السوريّة منذ إدارة أوباما، مرورًا بإدارة ترامب، وحتّى إدارة بايدن، لم تكن أولوية لواشنطن، ولعله من الصحيح أيضًا أنّ التفرّد الروسي بالملفّ السوريّ إنّما كان نتيجة النأي الأميركي، ولكن ما لا يمكن نكرانه أيضًا، هو أنّ الحضور الأميركي كان -وما يزال- قائمًا، إذ تكفي الإشارة إلى بعض المواقف:

1 – الموقف الأميركي، ومن خلفه الموقف الأوروبي، هو العثرة الأساسيّة أمام رغبة الروس في تحويل منجزهم العسكري إلى مُنجز اقتصادي وسياسي، من خلال رفض واشنطن وأوروبا دعم أي عملية إعادة إعمار من دون الوصول إلى حلّ سياسي وفقًا للقرارات الأممية.

2 – واشنطن كانت هي الكابح الحقيقي أمام عودة نظام الأسد إلى الجامعة العربيّة، ذلك أنّ الرسالة التي وجّهتها الإدارة الأميركيّة إلى الخارجيّة المصريّة في أواخر 2019 كانت صارمة بهذا الخصوص.

3 – إقرار قانون (قيصر) وجملة العقوبات الاقتصاديّة التي تضيق الخناق على نظام الأسد، إنّما هي أميركيّة بامتياز.

ولعل هذا التأرجح في الموقف الأميركي، بين النأي عن التدخل المباشر من جهة، والاستمرار في فرض العقوبات الاقتصاديّة والضغط الإعلامي من جهة أخرى، إنّما مبعثه الحقيقي هو أنّ حضور القضيّة السوريّة في الأجندة الأميركيّة ليس حضورًا مُستهدفًا بذاته، بل هو مُلحَقٌ بالموقف من إيران، ذلك الموقف الذي اتّسم –تاريخيًا– بكثير من التعقيدات والمتناقضات، وما يزال حتّى الوقت الراهن مفتوحًا على احتمالات عدّة. أضف إلى ذلك، أنّ النأي الأميركي -في جزء كبير منه- ذو صلة بمسعى الإدارة الأميركيّة إلى استنزاف الموقف الروسي، أو إغراق موسكو في جحيم المقتلة السوريّة، وعدم تمكين بوتين من الحصول على ما يريده من سورية -إستراتيجيًّا واقتصاديًّا- بالسهولة التي يتخيلها.

لعل حالة الانسداد أمام أي تقدّم في المسار التفاوضي بين النظام والمعارضة، إنّما تجسّد استمرار صراع المصالح بين الدول النافذة على مسرح الجغرافيا السوريّة، بل ليس ثمّة ما يشير إلى اقتراب هذا الصراع إلى الحسم، وفي موازاة ذلك، يتساءل كثير من السوريّين: هل ثمّة جدوى من التعويل على عملية سياسيّة قد أُفرِغتْ من محتواها الجوهري، وما بقي منها (لجنة الدستور) ليست سوى وسيلة يستثمرها النظام لكسب الوقت وتمرير حلوله الأمنيّة وإعادة تعويمه من جديد؟ وهل يمكن التعويل على ما سيسفر عنه صراع المصالح الدوليّة والإقليميّة، مع العلم التامّ بأنّ المصلحة السوريّة هي طرف غائب في أولويّات مصالح الدول المتصارعة؟ وعلى الرغم من تباين الأجوبة المتوقّعة عن الأسئلة السالفة، فإنّه يمكن القول: ثمّة مساحة أخرى للمواجهة، يمكن أن يخوضها السوريّون، وهي المساحة المتبقية التي لا يملك النظام وحلفاؤه فيها أوراق قوّة، ولا يمسكون بزمام المبادرة، وأعني بذلك المواجهة الحقوقية والإنسانيّة، ذلك أنّ السقوط الأخلاقي لنظام الأسد بسبب سلوكه الموغل في التوحّش، قد أتاح المجال للعالم أجمع أن يقف على مئات الآلاف من الأدلّة والوثائق التي تكفي لبدء مواجهات عنيفة يخوضها السوريّون أمام جميع المحاكم المعنية في العالم، ولئن بدت تلك المواجهات ذات الطابع الحقوقي والإنساني ذات مردود غير مباشر يرقى إلى مستوى معاناة السوريّين، إلّا أنّها –بلا شك – تعود بمردود تراكمي منبثقٍ من تضحيات السوريّين ونضالاتهم، وغير خاضع للوصاية والاستثمار الدوليين.

إنّ تحوّل النشاط الحقوقي لعدد من الكفاءات السوريّة من حقول النشاط الفردي إلى العمل المؤطّر والقائم على التنسيق بين الأفراد والمنظمات الحقوقية، بغية الوصول إلى أصحاب القرار والمرجعيات القضائية الدوليّة والتأثير فيهم، لهو من الأولويّات الراهنة، ليس لأنّه سيكون بديلًا من سبل أخرى للمواجهة، بل لأنّه -على الأقلّ- يساهم في بقاء القضيّة السوريّة حيّةً في الضمائر والأذهان.

غسان المفلح: لا حلّ في الأفق

في الواقع هنالك مغالطة تحمل تشويهًا وتضليلًا وتبريرًا للجريمة. هذه المغالطة تستند إلى حيثية تقول الآتي: إنّ ما حدث في سورية، يتحمّله الشعب السوريّ والمعارضة السوريّة.

يستند هذا الرأي إلى أنّ العالم القوي غير متدخل في الشأن السوريّ. أو أنّ هذا العالم القوي الذي تمثّله دول مجلس الأمن قانونيًا، وتمثّله أيضًا دول الاتّحاد الأوروبي بالتحالف مع أميركا التي هي واجهة القوّة في العالم، لم يجد بديلًا للأسد، أو لم يجد بديلًا سياسيًّا يؤمّن مصالحه في سورية غير الأسد، من جهة أخرى تتردّد عبارة لهؤلاء تقول: “كلّ شيء نرميه على إسرائيل” أو أنّ “سببه إسرائيل”. في عبارة ذات طابع استنكاري بالطبع، في الإقليم السيادة الكبرى لأميركا والصغرى لإسرائيل أقلّه فيما يُسمّى دول الطوق. سلطات غاشمة مع دول فاشلة. هذه إستراتيجيّة قديمة جديدة وتتجدّد، وفي كلّ مرحلة يلبسونها رداءً جديدًا. ليس أدل على ذلك من أنّ روسيا وإيران لا تستطيعان الرد على إسرائيل في غاراتها شبه اليومية على سورية. فلمن تكون السيادة في الأجواء السوريّة إذًا؟ في المقابل نلاحظ أنّ الطيران التركي لا يستطيع اختراق المجال الجوي للمناطق الخاضعة لسيطرة الأسد. بينما يقصف الطيران الروسي في المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا. النتيجة عندما تقول إسرائيل هذا يعني نسبيًا أميركا أيضًا.

قبل أن نحاول استيضاح هذه القضيّة، لا بدّ لي من القول، إنّه منذ 2005 -العام الذي بدأ فيه احتكاكي المتواضع مع السياسة الأميركيّة- كان كلّ عام يمضي أجد أنّ أي رهان إنساني على السياسة الأميركيّة هو محض هراء. لكن في المقابل لا فكاك من هذا الأخطبوط العالمي. ما يجعلك تطرح على نفسك السؤال الأهمّ في معادلتنا السوريّة بخاصّة والشرق أوسطيّة بعامّة: كيف يمكننا التعامل مع هذا الأخطبوط؟ كيف يمكن التعامل من قبل المعارضة السوريّة مع هذه الأميركا؟

وجدت بعد انطلاق الربيع العربي، والثورة السوريّة بخاصّة، أنّ هذا السؤال يحتوي على جانب عبثي، قبل معرفة الإجابة عن سؤال: ماهي علاقة أميركا بالنظام السوريّ وسورية والشرق الأوسط؟

هذا السؤال هو ما شغلني كثيرًا في الحقيقة وما يزال. لأنّني حاولت مرارًا وتكرارًا الهرب من عنوان طالما واجهني وأنا أبحث في هذا الحقل، وهو (أميركا تدير الشرق الأوسط، بشركاء أم من دون بحسب كلّ ملفّ). نعم أميركا تدير الشرق الأوسط.

أميركا متدخلة بشكلٍ كثيف في كلّ دوله ومجتمعاته. هذا الأمر لم يعد يحتاج إلى كثير من الشرح والتفصيل. ما تعيشه شعوب المنطقة منذ عقود هو نتاج لهذا التدخل. ولا بدّ لنا من التأكيد أنّ كلّ القوى المتدخلة في سورية لاحتلال ثورتها، كلّ القوى من دون استثناء -وعلى رأسها روسيا- تدخلت للحفاظ على الأسد أميركيًا من خلال تشاركها مع أميركا الذي يبدو في لحظات تنافسيًا أو صراعًا.

هذه القوى متشاركة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر في الإستراتيجيّة الأميركيّة. الإستراتيجيّة الأميركيّة التي تقوم في أحد ركائزها على أنّ القضيّة التي لا تريد أميركا حلّها، أو تريد تزمينها وتعفين وضعها حتّى، ترميها إلى أروقة الأمم المتّحدة. حيث لا حلّ حتّى الآن أو في الأفق. إذا حدث تأهيل الأسد، ماذا يعني أولًا تأهيل الأسد؟ هل يعني عودة كلّ سورية المحتلّة إلى سيطرة الأسد؟ أم هي إجراء انتخابات شكلانية بحماية روسيا وإيران وإبقاء الوضع الحالي كما هو؟ ثلاث سيادات: أميركيّة في شرق الفرات، وتركيّة في غربه خارج الخريطة الأسدية من جهة، وأسدية إيرانيّة روسيّة مشتركة من جهة أخرى.

تركت أميركا أسدية هزيلة؛ قصر الشعب في دمشق ومقعدًا في الأمم المتّحدة، والشعب السوريّ ضرر جانبي. أمّا سياديًا فأسدية ما قبل الثورة لم تعد موجودة ولن تعود.

أميركا من القوّة في الشرق الاوسط، أنّها لا تحتاج إلى جحافل جيوشها، كي تأتي إليه لتغيير نظام سياسي، أو لفرض أجندة سياسيّة ما. ما هو موجود من جيوش أكثر من كافٍ. ها هي جربت في سورية بـ 900 جندي فقط احتلّت 60.000 كم2 وهي المنطقة الأغنى في سورية. على الرغم من أنف بقية الحبايب. حتّى إنّها لا تحتاج إليهم. يكفي أن تُبقي العلم الأميركي مرفوعًا فوق منطقة تحدّدها. هذه القوّة تراكمت عبر سبعين عامًا وأكثر. هي من حوّلت روسيا وإيران وتركيا في سورية إلى قوى تخريبية لا أكثر ولا تستطيع هذه الدول وبقية دول الملفّ السوريّ، فرض حلّ سياسي من دون أميركا. ما علاقة أميركا إذًا بأنظمة المنطقة؟ لماذا لا تهتمّ بقتل شعوب المنطقة سواءً من أنظمتها أو من أنظمة أخرى بما فيها أميركا؟ الشعب السوريّ ليس استثناء. في الحصيلة لن يكون هنالك حلّ عبر الأمم المتّحدة، وليس هنالك حلّ في الأفق الأميركي. خطورة هذا الوضع ببساطة إبقاء ثلاث مناطق أمنيّة عسكريّة، إلى زمن لا أحد يتكهن بنهايته. ما يعني حالة شبيهة بما جرى في الجولان المحتلّ. لا حرب ولا سلم منذ أكثر من خمسة عقود، والموت بالتقادم لقضية الجولان. ما يعني بشكلٍ أو بآخر إنتاج وضع تقسيمي غير “مدستر” وغير معلن إلى ما شاء الله. هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا بالنسبة إلي، وأتمنى أن أكون خاطئًا.

مهند الكاطع: العمليّة السياسيّة لم تبدأ حتّى نعلن فشلها

لا يخفى على أحد بأنّ العمليّة السياسيّة في سورية تعاني جمودًا كبيرًا وشللًا شبه تامّ في كافّة المستويات والأطر التنظيميّة ومنذ سنوات طويلة، بل لم تعد المعارضة السوريّة اليوم تحظى بأي دعم دولي حقيقي، وعشرات الدول التي كانت تُسمّي نفسها بـ (أصدقاء الشعب السوريّ) أحجمت عن تقديم أي دعم حقيقي للشعب السوريّ في ثورته ضدّ نظام الاستبداد في وقت باكر ومنذ 2013 ولأسباب عدة يطول شرحها، لكنّها لا تخرج عن دائرة المخاوف الغربية من نتائج ثورات الربيع العربي التي ربّما لا تنسجم مع سياسات المجتمع الغربي تّجاه الشعوب العربيّة، وجاءت مسألة الجماعات الإرهابية الراديكالية مثل (داعش) و(النصرة)، شماعة تبرّر للمجتمع الدولي تقاعسه عن مساندة الشعب السوريّ في ثورته العادلة. فلم تعد المسألة السوريّة مدرجة على قائمة اهتمام المجتمع الدولي وبشكلٍ خاصّ الولايات المتّحدة الأميركيّة التي لا يبدو أنّها تستعجل الخطوات للعمل على حلّ جذري (حلّ سياسي) يسمح بإنهاء معاناة الشعب السوريّ، بل على العكس تمامًا، لم تزد الخطوات التي قامت بها الولايات المتّحدة منذ عهد أوباما ومرورًا بعهد ترامب الأمور إلّا تعقيدًا، وبخاصّة مع اتّخاذ أميركا خطوات قضت بفرض حظر على وصول الأسلحة النوعية إلى معارضي النظام، وقامت تحت شعار (الحرب على الإرهاب) بدعم الميليشيات الانفصالية التابعة لـ(حزب العمال الكردستاني) التي كانت حتّى نهاية 2015 متحالفة عسكريًّا بالكامل مع النظام، بل حمتها من النظام بعد توتر العلاقة بين الطرفين، وذلك بفرض حظر طيران على مناطق شرق الفرات، في الوقت الذي بقيت طائرات النظام ومدفعيته تقصف الشعب السوريّ والمعارضة في باقي المناطق السوريّة. 

على أي حال، لم تعد الحلول العسكريّة مطروحة اليوم مع كلّ هذا التعقيد في المشهد العسكري على الساحة السوريّة، وكلّ الآمال كانت معقودة على أن يتحمّل المجتمع الدولي مسؤولياته لتنفيذ قرارات الأمم المتّحدة الخاصّة بسورية (2118 و 2254) التي تتطلب تضافر جميع الدول الفاعلة للبدء بدعم خطوة الانتقال السياسي الذي يمثّل الخطوة (السلّة) الأولى من خطوات الحلّ في سورية، وبدلًا من ذلك، فقد حصل التفاف على جميع خطوات الحلّ السياسي، وجرى التركيز على مسارات جانبية لم تزد الطين إلّا بلّة، كمسار آستانا أو مسار اللجنة الدستوريّة التي أدخلت السوريّين في متاهات مضيعة للوقت، قبل البدء بمفاوضات ماراثونية مع النظام المماطل حول (شكل الدستور) كما لو كانت هذه أساس معضلة السوريّين، فالمجتمع الدولي كان يعرف أنّ النظام غير جاد، ولم يكن أحد يتوقّع أي توصل إلى نتائج إيجابية من هذه الخطوة العكسية تفتح بوابة أمل لبحث باقي الملفّات، ولم يجنِ السوريّون من كلّ هذا سوى إطالة أمد معاناتهم وتردي واقعهم الاقتصادي والمعيشي بشكلٍ كارثي وفظيع ينذر بكارثة تهدّد حياة من تبقى من الشعب السوريّ ومستقبلهم.

لا أظن أن العمليّة السياسيّة بدأت حتّى نعلن فشلها، والنظام -في رأيي- هو محض واجهة للتعطيل، أمّا من يقف خلف حالة الجمود والتعطيل في الحلّ السياسي فهو القوى الدوليّة والإقليميّة الفاعلة في الشأن السوريّ، وبشكلٍ خاصّ أميركا، وروسيا، وتركيا، وإيران، وبعض الدول الأوروبيّة التي ما تزال مصالحها متضاربة ولم تصل إلى تسوية حقيقية تسمح لها بدفع العمليّة السياسيّة في سورية إلى الأمام وإنجاز حلّ سياسي منسجم مع قرار الأمم المتّحدة 2254 ليتحقّق انتقال سياسي وإطلاق سراح المعتقلين والكشف عن مصير المغيبين، وإنجاز باقي القضايا والبدء بطي مسيرة مؤلمة يعيشها الشعب السوريّ منذ عشر سنوات.

بالنسبة إلى الروس، شكّلت سلسلة الاتّفاقيات التي عُقدت مع النظام السوريّ المتهالك، الورقة التي استند إليها الروس في تحقيق مصالحهم، وتعزيز وجودهم العسكري وموقفهم السياسي في الساحة السوريّة، حتى لم يعد للنظام أي دور يذكر وفقد كثيرًا من نقاط التحكم والقرار والسيطرة لمصلحة الروس، لذلك في ظلّ عملية الجمود السياسي -التي قلنا إنّها بسبب تضارب مصالح دوليّة وإقليميّة في سورية بالدرجة الأولى- سيسعى الروس إلى الاستمرار في مسرحية تنصيب بشار الأسد رئيسًا من دون قرار لسورية. أمّا بالنسبة إلى الأميركيين وحتّى المجتمع الدولي، فوجود بشار الأسد في السلطة غير مرتبط بتاتًا بمسألة الانتخابات الرئاسيّة في سورية، وفي حال كانت هناك نية أو توافق للشروع في عملية سياسيّة حقيقية، ستُدعم عملية انتقال سياسي للسلطة، حتّى لو كان ذلك بعد تنصيب بشار الأسد بيوم واحد.

بهنان يامين: سورية الثورة الى أين في نهاية عامها العاشر؟

تطوي الثورة السوريّة -وقد يسمّيها بعض حراكًا ثوريًّا أو فورة، لا تهمّ التسمية- عامها العاشر لتخطو نحو العام الحادي عشر، فإلى أين تتّجه سورية؟ هل هناك آمال بأن يوجد حلّ، فالمستعمِر الروسي يحاول أن يلمع صورة النظام حينًا بإجراء انتخابات رئاسيّة، ويطرح المجلس العسكري تارةً أخرى بديلًا من النظام القائم، وطورًا آخر يدعو إلى اجتماعات اللجنة الدستوريّة، التي ولدت مخصية سواء بكامل هيئتها أم بهيئتها المصغّرة.

الحقيقة المرّة والمبكية في الآن ذاته، ألا حلّ في الأفق للمسألة السوريّة، فالنظام يسعى إلى لعبة الانتخابات الرئاسيّة، والكلّ يعرف بأنّ مثل هذه الانتخابات غير شرعيّة، والمعارضة تتقبل أحيانًا الطرح الروسي بالمشاركة في الانتخابات الرئاسيّة، وكذلك المجلس العسكري الذي قد يكون مناف طلاس رئيسًا له، ولقد دخلت (الإدارة الذاتية) على الخط الروسي لتتقبل المساهمة في المجلس العسكري.

كلّ هذه الحلول هي حلول خارجة عن قرارات الأمم المتّحدة التي دعت إلى سلطة انتقاليّة، تؤسّس لدولة وطنيّة ديمقراطيّة، بقي النظام والمستعمِر الروسي والإيراني والتركي والأميركي، يحاول منع قيام مثلها، ولقد نجحوا إلى حدٍّ ما في إجهاض هذه الخطوة التي لم يتقبلها النظام المستبدّ، والكلّ يكذب على الشعب السوريّ، وبخاصّة على قواه الوطنيّة الديمقراطيّة التي تسعى بصدق إلى نقل سورية من دولة فاشلة إلى دولة فعليّة، تعتمد الإرادة الشعبيّة في تكوين دستورها.

هل الانتخابات الرئاسيّة السوريّة شرعيّة؟ طبعًا ليست كذلك؛ لأنّ الشرعيّة يجب أن تستمدّ شرعيّتها من دستور سوريّ شرعي، فدستور 2012 الذي جاء مسخًا ونسخة مشوّهة عن دستور 1973، دستور حافظ الأسد، فمن وضع هذا الدستور، والدستور الذي قبله، ليسوا من ذوي الاختصاص بالقانون الدستوري، بل هم مجموعة شكّلتها الأجهزة الأمنيّة لكي تؤكّد دكتاتوريّة الجالس في قصر قاسيون، سواء أكان بشار أم مناف أم أم.. إلخ.

من هنا فإنّ أي انتخابات في كافّة المستويات، من أسفل الهرم إلى قمته، هي انتخابات غير شرعيّة، وبالطبع إن جرت فإنّ نتيجتها معروفة، ألّا وهي إعادة انتخاب بشار الأسد، فترة رئاسية جديدة، أي سبع سنوات أخرى من المخاتلة، والاحتيال، والقتل، والتشريد، والتدمير، واستمرار هذا الحكم سيوصل بالطبع إلى مزيد من التأكل في الجسد السوريّ.

هل يستطيع المجلس العسكري المطروح، أن يشكّل حلًّا للسلطة السياسيّة في سورية؟ قطعًا لا لأنّ أي دارس للأوضاع السياسيّة، ليس في سورية فحسب، بل في كلّ المنطقة، يصل إلى نتيجة حتميّة، بأنّ سبب هذا البلاء هو العسكر، وما ينتجه العسكر من أجهزة أمنيّة. من هنا فإنّ مثل هذا المجلس ليس بشرعي لأنّه لا يمثّل تطلعات الشعب السوريّ، فهم لم يثوروا من أجل استبدال عسكر بعسكر، فالعسكر مكانهم الثكنات لا السياسة، ويجب أن يخضعوا للسياسي وليس العكس، وإن أراد العسكر أدوارًا سياسيةً، فعليهم الاستقالة من مناصبهم العسكريّة، ويكون ما بين استقالة أحدهم ومشاركته في السلطة السياسيّة مدة زمنية مقبولة لكي يتأهل إلى دخول المعترك السياسي، والابتعاد عن الجيش، وإلّا سنكون أمام نموذج (ميانمار) حيث ينقلب فيها العسكر على السلطة كما يحلو لهم ذلك.

هناك من يقول إنّ (الإدارة الذاتية) الكرديّة -أقول الكرديّة لأنّ باقي المكوّنات السوريّة لا وجود لها في هذه الإدارة، وإن وجد بعض منهم فهم (ديكورات)- هي نموذج ناجح بديل للسلطة السياسيّة في دمشق، وهذا القول باطل لأنّ هذه الإدارة خاضعة لـ(حزب العمال الكردستاني) التركي، المتمركز في وادي قنديل، وممارستها هي ممارسة شبيهة بممارسات النظام، ولنا مثال في تصرفاتها في محافظات الرقة، ودير الزور، والحسكة، أي في منطقة الجزيرة السوريّة، فضلًا عن خضوعها للسياسة الأميركيّة، ولدكتاتوريّة عبد الله أوجلان. إنّ سياسة (تكريد) محافظات الجزيرة أوصلت إلى التدخل العسكري التركي ما بين رأس العين وتل أبيض وهي منطقة عشائر عربيّة، لا أكراد فيها وإن وجدوا فهم أقلّيّة ضئيلة.

كلّ هذه الطروحات، وغيرها، لا تشكّل حلًّا للمسألة السوريّة، كونها طروحات استعمارية ومرفوضة من القوى الديمقراطيّة السوريّة، الطامحة إلى قيام دولة المواطنة الديمقراطيّة قائمة على أسس دستوريّة تفصل ما بين الدين والدولة، وترسي دولة عصريّة تدخل سورية إلى الحداثة.

فراس علاوي: السيناريو العراقي الأقرب إلى الحلّ في سورية

عقد كامل مضى على انطلاق الثورة السوريّة شهد فشلًا كاملًا للمجتمع الدولي في الوصول إلى حلّ يرضي السوريّين، ولعل أبرز أسباب هذا الفشل هو الانقسام الدولي وتضارب المشروعات الدوليّة في سورية، ما أنتج عددًا من الصراعات الثانويّة السياسيّة والعسكريّة على الأرض السوريّة، فعلى الرغم من التوافق الدولي على القرار 225‪4 إلّا أنّ الاختلاف على تفسيره وفق مصالح الدول المتدخلة أدى إلى زيادة هذا الخلاف، وازدياد حدّة الانقسام أدى إلى نشوء مسارات سياسيّة أخرى، وتسبب في انقسامات في أجسام المعارضة التي بدأت تخضع لتوافقات دوليّة وإقليميّة، أبرز تلك المسارات مساري آستانا وسوتشي التي أنتجت ما سُمّيَ اللجنة الدستوريّة، في قفز على تراتبيّة القرار 225‪4 الذي يقرّ بيئة آمنة، ثمّ هيئة حكم انتقالي، ثمّ دستور، ويلي ذلك الانتخابات.

مسار اللجنة الدستوريّة بشكلٍه الحالي يتناسب مع الرؤية الروسيّة التي عملت مع النظام على تكتيكات تفاوض من شأنها إغراق اللجنة بالتفاصيل والابتعاد عن بحث دستور وفق رؤية السوريّين، ومن ثم الوصول إلى الانتخابات المزمع القيام بها في منتصف العام الحالي 202‪1. إذ يرغب الروس من خلالها دعم انتخاب بشار الأسد بحسب دستور 201‪2. وما الدعم الروسي والإيراني المقدّم للأسد -لا يختلف اثنان على أنّه المرشح أو الفائز الوحيد في هذه الانتخابات الشكليّة، إلّا لتثبيت أقدامهم من خلال إعادة تعويم النظام واستخدام هذا التعويم ورقة ضغط في التنافس مع الأميركان في سورية.

هذا الدعم يتزامن مع تراجع الاهتمام الأميركي -ومن ثم الأوروبي- بالملفّ السوريّ وإلحاقه بملفّات أخرى أبرزها الصراع الأميركي – الإيراني في المنطقة، وهذا التراجع الواضح يفسر ذهاب الروس بعيدًا في فرض حلولهم في سورية وإن كانت حلولًا مرحليّة لكنّها تؤثّر في الوضع الراهن. هذا الاستعصاء في الوضع السوريّ يجعل استشراف أي حلول من الصعوبة بمكان، وبخاصّة مع إدارة بايدن التي تشبه نوعًا ما في إستراتيجيّتها بالتعاطي مع الملفّ السوريّ ما ذهبت إليه إدارة أوباما التي رهنت الملفّ السوريّ بمباحثات الاتّفاق النووي مع إيران، ومن ثم الابتعاد عن سياسة الضغط الأقصى التي اتبعها ترامب. ليدخل الصراع مرحلة التنافس في سورية على الرغم من الامتعاض الإسرائيلي سيكون الذهاب بعيدًا في إعطاء إيران حيّزًا أكبر من التمدّد في محيطها الجغرافي أحد المشكلات الأساسيّة التي تهدّد أي حلّ في سورية.

الاستعصاء الحاصل في الملفّ السوريّ مردّه الأساسي لرؤى ومصالح سياسيّة واقتصاديّة متعلّقة بالدول المتدخلة، وأيضًا لتجارب سبقت الملفّ السوريّ في العلاقة بين الدول المتدخلة، كما حصل في العراق حين استفرد الأميركان بالحلّ، ما أثار في حينها امتعاض الروس، وكذلك كما حصل في الملفّ الليبي حيث أقصِيت روسيا من الحلّ هناك ما جعلها تعود لاحقًا عبر عمليات عرقلة وتعطيل أي حلّ. وهناك صراعات جزئيّة لا يمكن الوصول إلى الحلّ في سورية من دون المرور عبرها وإيجاد حلول لها، فمن أجل الوصول إلى حلّ شامل في سورية لا بدّ من إنهاء حالة التنازع والتنافس على الجغرافيا السوريّة، وبناء إستراتيجيّة تقوم على إنهاء النزاعات المحليّة وصولًا إلى حلّ سياسي شامل يضمن مصالح الدول المتدخلة، ولعل أبرز هذه الصراعات هي:

1 – الصراع التركي – الكردي (حزب العمال الكردستاني/pkk)، حيث أصبح شمال وشمال شرق سورية مسرحًا له إذ تسعى تركيا إلى منع قيام كيان كردي في وقت تحاول فيه بعض الأحزاب الكرديّة استغلال الوضع السوريّ لإقامته، ومن ثم إبعاد خطر (pkk) عن الداخل التركي للحفاظ على أمنها القومي، وأي انخراط في عملية سياسيّة تضمن من خلالها تركيا تحقيق أهدافها ستساهم في الاقتراب من حلّ شامل في سورية، ولعل تطوير اتّفاق أضنة 199‪8 بين تركيا وسورية قد يعد محفزًا لقبول تركي بالحلّ السياسي المرتقب.

2 – الصراع الثاني هو الأميركي – الإيراني، وهو صراع متشعب ومتغيّر بحسب الإدارات الأميركيّة، لذا فازدياد حدّة الصراع أو التوصل إلى اتّفاق سيؤدي إلى اقتراب الحلّ في سورية، لكن لكلّ حلّ تأثيره المختلف ونتائجه المختلفة. من هنا نستطيع تقييم الموقف الأميركي من خلال التصعيد الإسرائيلي أو تراجع مستوى التصعيد كما حدث في إدارة أوباما، إذ يلعب دورًا أساسيًّا في التوصل إلى اتّفاق أميركي – إيراني.

المشكلة الأساس المتعلّقة بهذا الملفّ هي تحوّل الملفّ السوريّ إلى ملفّ ملحق وليس ملفًّا أساسيًّا في الحلّ بالمنطقة، لذلك فإنّ إدارة الصراع في سورية من هذا المنطلق تعتمد بشكلٍ كبير على مدى اشتراطات كل من إيران وإسرائيل ومدى تحقيق التوافق بينهما أميركيًا من حيث الوصول إلى اتّفاق شامل مع إيران يعيد إحياء الاتّفاق النووي، لكن بشروط جديدة وفق رؤية إدارة بايدن. من جهتها فإنّ السلطة في إيران تلقفت الرغبة الأميركيّة في عدم الذهاب إلى تصعيد جديد والابتعاد عن ممارسة سياسة الضغط الأقصى لتبدأ برفع عتبة شروطها والعمل على استخدام الورقة السوريّة ورقة ضغط واضحة على ملفّ الصراع ما يعني تعقيدًا آخر في الحلّ السوريّ.

3 – الصراع الثالث هو الصراع الأميركي – الروسي، إذ اختارت روسيا بعد خساراتها في العراق وليبيا الساحة السوريّة لخوض صراع من نوع آخر مع الأميركان من خلال التدخل المباشر في سورية، وقد استفاد الروس من التراجع أو عدم الاهتمام الأميركي للتدخل ومحاولة فرض رؤية وشكل للحلّ يعتمد على إعادة سيطرة نظام الأسد عسكريًّا من خلال ما سُمّيَ بمناطق خفض التصعيد (وهو ما لاقى رضى أميركيًا)، ومحاولة فرض رؤية روسيّة للحلّ السياسي من خلال إعادة تعويم النظام، وهذا الأمر يلقى حتّى الآن رفضًا أميركيًّا. وازدياد حدّة هذا الصراع قد يسرّع الوصول إلى حلٍّ، وكذلك التوصل إلى توافقات في ملفّات أخرى في القرم وأوكرانيا من شأته أن يسرع الحلّ في سورية، ومن دون هذه الحدّة سيبقى الحلّ يراوح مكانه بين الطرفين.

 العامل المشترك لجميع التدخلات الدوليّة في الملفّ السوريّ هو (مكافحة الإرهاب) وتنظيم (داعش) بصورة خاصّة، فنشاط التنظيم وصعوده مجددًا -على الرغم من إعلان القضاء عليه سابقًا- سيلعب دورًا في طبيعة الحلّ السوريّ وشكله. لذلك فإنّ إستراتيجيّة الحلّ تبدو معقدة ومتشابكة الخيوط ومن الصعب تفكيكها إلّا من خلال تفكيك جزئياتها ويعتمد ذلك على الرغبة الأميركيّة في الحلّ بصورة خاصّة. فيما تراجع إدارة بايدن إستراتيجيّتها المتعلّقة بالشرق الأوسط لا يبدو الملفّ السوريّ أولوية للأميركيين. وسيبقى الحلّ في سورية مرتبطًا بملفّات أخرى أكثر تعقيدًا ما لم تصل التدخلات الدوليّة إلى حدّة كافية تهدّد بتغيير قواعد الاشتباك، حينها فقط ستذهب الدول نحو الحلّ تجنبًا للتصعيد العسكري، إذ لا تملك تلك الدول بما فيها الولايات المتّحدة وروسيا الرغبة في الذهاب بعيدًا في حرب مفتوحة من أجل سورية.

لذلك فإنّ جميع سيناريوهات الحلّ المتوقّعة تعتمد بشكلٍ رئيس على إنهاء هذه الصراعات من جهة، وإيجاد نوع من التوافق حول مسائل إعادة الإعمار إذ سيكون لمتعهدي عملية الإعمار حصّة من الحلّ.

ولعل السيناريو العراقي يبدو الأقرب إلى الحلّ في سورية على الرغم من مساوئه إلّا أنّ الحلول التوافقيّة غالبًا ما تكون نتائجها أقرب إلى المحاصصة والتقسيم من أجل إرضاء جميع الأطراف الفاعلة وإعطائها حصّة من كعكة الحلّ في سورية. وهذا الحلّ لن يحقّق طموحات الشعب السوريّ لكنّه ربّما سيوقف ولو جزئيًّا دوامة العنف السوريّة التي تعدّدت ملفّاتها بما فيها ملفّ اللاجئين في دول العالم، وملفّ معتقلي تنظيم (داعش) في سورية، وكذلك ملفّي العدالة الانتقاليّة وإعادة الإعمار وغيرها من ملفّات.

فاروق حجّي مصطفى: مقبلون على التغيير من رحم القرار الأممي لا غير

بعد اندلاع الثورة السوريّة، في آذار/ مارس 2011، التي طالبت برحيل بشار الأسد وأركان نظامه الاستبدادي الطائفي الفاسد؛ دفع أحرار سورية وحرائرها -على مدار السنوات العشر الماضية- أثمانًا باهظة، على درب الآلام والجُلجُلة نحو الحرّيّة والديمقراطيّة وبناء دولة القانون والمواطنة، وثّقتها (الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان) في تقريرها الصادر بمناسبة الذكرى العاشرة لانطلاق الثورة، الذي بيّنَ مقتل 227.413 مدنيًّا، بينهم 14.506 بسبب التعذيب، واعتقال/ إخفاء قسري 149.361 شخصًا، وتشريد نحو 13 مليون سوري، فضلًا عن وجود أكثر من 12 مليون يكابدون المشقات لتأمين قوتهم اليومي، وعيش أكثر من مليوني إنسان في فقر مدقع، وغير ذلك من المآسي والخسائر البشريّة والاقتصاديّة، ودمار نسبة كبيرة من العمران والبنية التحتيّة التي خلّفها الإرهاب الأسدي – الروسي – الإيراني.

ومع تزايد التعقيدات في الملفّ السوري، في ظلّ غياب الحلّ السياسي وتواصل الصراع العسكري على امتداد الجغرافيا السوريّة الممزّقة، وبعد أن صارت البلاد مسرحًا لموسكو لاستعراض القوّة طمعًا في استعادة دورها الدولي بوصفها قطبًا عالميًا، واستخدام الأرض السوريّة وما عليها حقل تجارب لتحسين أداء أسلحتها الفتاكة، وجعلها معرضًا دائمًا لبيع أسلحتها الجديدة، فضلًا عن انسداد أفق الحلّ السياسي وتكاثر الدول المتداخلة في الشأن الداخلي السوريّ، إذ يقبع رأس النظام تحت الحماية الروسيّة والإيرانيّة، وتتبع المعارضة السوريّة، بل المعارضات، لحكومات إقليميّة دوليّة، ما يؤكّد عجزها عن اتّخاذ قرار سياسي موحّد بلا وصاية خارجيّة، بالتزامن مع عدم تحقيق اللجنة الدستوريّة أيّ تقدّم ملموس على الأرض، وإبقاء القرار الأممي 2254، القاضي بتشكيل هيئة حكم انتقاليّة في سورية (صدر عن مجلس الأمن الدولي في 2015)، مجمّدًا بفعل التدخّلات الخارجيّة، والتلاعب الأسدي الروسي في المحافل الدوليّة، وكذلك انتشار أنباء عن تشكيل (مجلس عسكري انتقالي) مشترك بين النظام والمعارضة، بوصفه حلًا بديلًا، وأمام غياب خريطة طريق وبرنامج تنفيذي وآليّات واضحة، وضمانات دوليّة ملزمة للوصول إلى حلّ يقبل به الشعب السوري الثائر؛ تفشّت في صفوف السوريّين حالة من اليأس الشعبي العامّ، من إمكانيّة إصلاح النظام، والتخلّص من الاستبداد والفساد عن طريق التغيير السلمي الديمقراطي المتدرّج، ومع هذا كلّه، يواصل مركز حرمون للدراسات المعاصرة، والثورة دخلت عامها الحادي عشر، الملفّ الخاصّ بسيناريوهات الحلّ في سورية، في ظلّ فشل العمليّة السياسيّة والتحضير للانتخابات الرئاسيّة التي يحضر لها الروس ورأس النظام في دمشق، فكان أن استضفنا في هذا الجزء عددًا من القيادات والناشطات والناشطين السياسيّين والخبراء الإستراتيجيّين والكتّاب والكاتبات، من مختلف الأجيال والمكوّنات السوريّة، بعد أن كنّا استضفنا في الجزء الأوّل نخبة من الكتّاب والمحلّلين السياسيّين السوريّين المنتشرين في أصقاع الأرض، بعد أن شتّتهم الإرهاب الأسدي المتحالف مع الاستبداد الديني، وذلك للوقوف على طروحاتهم ورؤاهم للحلّ الذي ينتظره السوريّون الذين ذاقوا مرارة الحرب ووحشيّة نظام البراميل وحلفائه، طلبًا للخلاص من آل الأسد، ونيل الحرّيّة والكرامة، ونقل بلدهم من بلد يحكمه الاستبداد إلى بلد ديمقراطي تعدّدي.

هادي البحرة: الإستراتيجيّات المطروحة تصبّ في غير المصالح الوطنيّة السوريّة

عندما نريد استشراف المستقبل بصورة علميّة مقبولة، لا بدّ من قراءة الواقع كما هو وتثبيت بعض النقاط الأساسيّة، من المؤكّد أنّ كلّ الأسباب التي دعت الشعب السوري للثورة ما زالت قائمة، لا بل ازدادت عمقًا وتنوّعًا وشدّة، حيث باتت آثارها تشمل الغالبيّة العظمى من أطياف الشعب السوري، وتعمّقت العلاقة العضويّة الوجوديّة بين أطراف التحالف السري لقوى الاستبداد والفساد والإرهاب، الأوّل يبرّر وجوده واستبداده بالثالث الذي صنعه وغذّاه، والثالث يبرّر وجوده باستمرار وجود واستبداد الأوّل، أمّا الحبل السري بينهما فهو الفساد الذي بات يموّل استمراريّة كلّ منهما، على حساب قوت الشعب ومستقبله ومعاناته.

لقد افترض النظام الاستبدادي أنّ بإمكانه تغييب الثورة السوريّة وقواها الوطنيّة وتطلّعات الشعب المشروعة للكرامة والحرّيّة والعدالة والديمقراطيّة، عبر تشتيت قوى الثورة والمعارضة، وطمسها بالسواد والتطرّف، وتجريدها من الاعتراف الدولي بها كممثّل للشعب السوري، مقابل النظام، في العمليّة السياسيّة التي تيسرها الأمم المتّحدة في جنيف، فهذه القرارات الأمميّة والعمليّة السياسيّة الناتجة عنها هي ما تبقي الصراع حيًا بصيغته الحقيقة، ثورة شعب يناضل من أجل استرداد حقوقه الإنسانيّة والسياسيّة والدستوريّة والقانونيّة، من نظام حكم مستبدّ ودكتاتوري، أجرم بحقِّ شعبه، ولا يمكن تغيير هذه الصيغة إلّا عبر إعاقة وتعطيل العمليّة السياسيّة، مع إفقاد الشعب للتمثيل السياسي، وصولًا إلى إعلان وفاتها للتهرّب الكامل من تنفيذ قرارات مجلس الأمن.

من هذا المنطلق، عمل النظام وداعموه على محاولة خلق الظروف لتحقيق انطباع يحدُّ من خيارات المجتمع الدولي، بين شيطان الإرهاب وشيطان الاستبداد، وهم على يقين بأنّه سيختار الثاني، عملًا بالمثل القائل بأنّ “الشيطان الذي تعرفه أفضل من الذي لا تعرفه”. إلّا أنّ هذه الجهود، وإن حقّقت بعض النجاح في الماضي، ممّا أدّى إلى تبدل السياسات الدوليّة من دعم الحراك العسكري إلى توازع النفوذ والتدخل العسكري الدولي والإقليمي المباشر والعلني، وبات الملفّ العسكري وقرار السلم والحرب خارج سيطرة الأطراف السوريّة من قوى الثورة ومن النظام؛ فإنّها حتّى اللحظة لم تتمكّن من إنهاء الثورة ولا تغييب مطالب الشعب وتطلّعاته، ولا من الاستفراد بالعمليّة السياسيّة وتحويرها وفق رؤيتهم.

على الصعيد العسكري، لا توجد اتّفاقية وقف إطلاق نار شامل ومستدام في سورية، فكلّ التفاهمات الموقّعة هي مؤقّتة، ولذلك لا يوجد استقرار، وكلّ تلك التفاهمات عرضة للانهيار في أيّ وقت. وجميع الأطراف تترقّب التوجّهات الأميركيّة الجديدة: هل ستستمرّ في توجّهات الإدارة السابقة، بما يلغي أيّ احتمال لتحقيق أيّ حسم عسكري لصالح أيّ طرف كان، وهذا يزيد فرص التوصّل إلى اتّفاق لتحقيق وقف إطلاق نار شامل، أم أنها ستتّجه نحو تخفيض الوجود العسكري المباشر أو الانسحاب، ممّا سيفتح المجال لكلّ طرف من الأطراف الأجنبيّة بأن يحاول تنسيق ذلك الانسحاب مع الطرف الأميركي لملء الفراغ لصالحه، ومن المستبعد قيام الولايات المتّحدة بالانسحاب عسكريًّا، دون اتّفاق وترتيب وضمانات مع تركيا أو مع روسيا أو مع كليهما، بما يضمن عدم استفراد إحداها بالنفوذ في شمال وشرق سورية، ولا بالإمساك بكامل مفاتيح الحلّ السياسي وتجاوز مصالحها ومصالح حلفائها.

إنّ كلّ القوى العسكريّة الأجنبيّة الموجودة داخل سورية تتخوّف من تحوّل الأوضاع في سورية إلى مستنقع يغرقها في صراع غير محسوب النتائج، أو يعرّضها لصدام عسكري مباشر فيما بينها، وكلّ منها يحرص على عدم حدوث ذلك. نستطيع تلخيص إستراتيجيّة القوّتين الدوليّتين الكبريين في سورية بالتالي: بالنسبة إلى الولايات المتّحدة فهي تعتبر أنّ ما وصلت إليه الأمور في سورية هو نتيجة السياسات الروسيّة، ولذلك على روسيا تحمّل عبء إيجاد الحلّ من منطلق المثل الأميركي “You brook it،you own it”، وترجمته هي “أنت كسرتها، أنت تملكها”، أي ليس من واجب الولايات المتّحدة الأميركيّة إيجاد الحلول والمخارج لروسيا، إنّما على الأخيرة أن تبادر نحو إيجاد الظروف اللازمة لتحقيق الحلّ السياسي، بما يؤدّي إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254(2015)، وفق التفسير والمفهوم الدولي له، فالولايات المتّحدة لا ترى أنّها تحت ضغط من أيّ نوع أو وجود مصالح مباشرة لها في سورية، لترفع من مستوى تدخلها العسكري، فهي تكتفي حاليًّا بوجودها العسكري المباشر الصغير والمحدود، مع قدراتها الجوية والصاروخية من بضعة قواعد لها في المنطقة، ومن أسطولها البحري، والاستمرار في سياسة العقوبات الاقتصاديّة، وضمان عدم إعادة تدوير النظام دبلوماسيًّا، وتفعيل وسائل دوليّة للمساءلة والمحاسبة عن جرائم الحرب التي ارتُكبت في سورية وعدم السماح بأيّ تمويل لعمليّات إعادة الإعمار، وهذا يعوق أي جهد لفرض حلّ سياسي وفق المقاسات الروسيّة الداعمة لاستمرار النظام، ويجعل الإبقاء على الأوضاع الحاليّة في سورية مجمّدة بتكلفة اقتصاديّة باهظة لن ترغب روسيا في تحمّلها، ولن يكون بالإمكان تحقيق الأمن والاستقرار المستدامين.

روسيا ترغب في حلٍّ سياسي يُبقي النظام، بحدّ أدنى من التنازلات التجميليّة بأسرع وقت ممكن، فبذلت جهودها بأقصى ما تملك من إمكانات لإعادة تدوير النظام دبلوماسيًّا، ودفع الدول للمساهمة في تمويل عمليّات إعادة الإعمار عبر استغلال قضيّة عودة النازحين واللاجئين إلى أماكن سكنهم الأصليّة، ومنحت النظام التغطية السياسيّة اللازمة في مجلس الأمن في موافقتها الضمنيّة على تعطيله للعمليّة السياسيّة في جنيف، ودعمها لإجراء الانتخابات الرئاسيّة اللاشرعيّة والمخالفة لقرار مجلس الأمن رقم 2254(2015)، هذه الانتخابات إن تمّت فستكون كسابقتها التي جرت في العام 2014 التي أودت بسورية إلى الأوضاع الحاليّة.

إنّ كلّ هذه الجهود لم تحرز أيّ تقدّم ذي قيمة، فالرسائل التي صدرت عن جلسات مجلس الأمن الأخيرة وعن مؤتمر بروكسل، كانت جليّة وعادت بروسيا إلى المربع الأوّل الذي يصطدم بمطالبة المجتمع الدولي بضرورة التقدّم الفعلي في العمليّة السياسيّة، واشتراطه بدء تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015) قبل رفع العقوبات أو الانخراط بتمويل أعمال إعادة الإعمار.

مجدّدًا، يستخدم النظام سياسات منهجية لمضاعفة معاناة الشعب، وتقوم روسيا  بإنذار المجتمع الدولي  بقرب انهيار مؤسّسات الدولة السوريّة، وحدوث الفوضى وخروج الأمور عن السيطرة، ممّا سيخلق موجات من اللاجئين باتّجاه دول الإقليم وأوروبا، إن لم ترفع العقوبات عن النظام، وحمّلوا المجتمع الدولي تلك المسؤوليّة، بينما يرى المجتمع الدولي أنّ روسيا تملك أكبر قوّة عسكريّة في سورية يقع على كاهلها مسؤوليّة ضمان الوصول المستمرّ للمساعدات الإنسانيّة الدوليّة التي تقدّر قيمتها ببلايين الدولارات دون عوائق إلى كلّ السوريّين وفي المناطق كافّة، دون إملاءات حكومة النظام على منظمات المجتمع المدني التي تؤدّي إلى حرمان قسم كبير من الشعب منها، كما أنّ انهيار مؤسّسات الدولة والفوضى التي يهدّدون بحدوثها ستكون روسيا هي أوّل من سيتأثّر بها، ومن سيترتب عليها حمل الأعباء المترتبة عنها. بالتالي سياسة شفير الهاوية التي اتبعت سابقًا باستخدام الإرهاب، وتُتبع الآن باستخدام العقوبات للتخويف من الانهيار، لن تعطي أكلها ولن تؤدّي إلى تبدل السياسات الدوليّة، فكلّ ما سينتج عنها هو المزيد من تعطيل العمليّة السياسيّة وإطالة أمد معاناة الشعب السوري وتعريض ما تبقى من كيان الدولة للتآكل، وسيضع ذلك روسيا في موقع لم ترغب في أن تجد نفسها فيه. 

لطالما لعب النظام على عامل الزمن للخروج من أزماته، إلّا أنّ الزمن هذه المرّة لا يخدم مصالحه، وإنّ إعاقة العمليّة السياسيّة وإطالة أمدها لتمرير الانتخابات الرئاسيّة اللاشرعيّة المزعومة سيزيد أزمته تأزمًا، وتأمله بجني مكاسب محتملة من المفاوضات الخاصّة بإعادة تفعيل الاتّفاق النووي الإيراني هو أمل ضعيف، إن لم نقل هو معدوم، في ظلّ الموقفين التفاوضيّين الأميركي والإيراني، والذي يرجّح عدم إعادة التفاوض على بنود الاتّفاق بقدر التركيز على إعادة تجديده كما كان. وإن أخذنا في الاعتبار توتّر العلاقات الروسيّة – الأميركيّة، والصينيّة – الأميركيّة، فليس من مصلحة كليهما (روسيا والصين) إبقاء نقاط توتّر ثانويّة، لا سيّما إن كانت هذه النقاط تحمل مخاطر تورّط إحداهما في أعباء تستنزف مواردها سنوات طويلة، بينما لا تؤثّر على الطرف الأميركي ولا تشكّل عبئًا عليه، ولأن عنوان السياسات الصينيّة والروسيّة هو اعتماد الأمم المتّحدة وميثاقها وقراراتها كمرجعيّة دوليّة وعدم الانسياق لقبول السياسات الأميركيّة، كما يقولون، فالمخرج الوحيد الممكن في سورية هو عبر تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254(2015) الذي وافقت عليه الدول دائمة العضويّة في مجلس الأمن، نصًّا وروحًا وفق تراتبيّته، ليس وفق القراءات التي تحرف نصّه، كما سمعناها خلال الأيّام القليلة الماضية.

في ظلّ هذه القراءة، لا يمكن للشعب السوري ولقوى الثورة والمعارضة أن تقف موقف المنتظر لحين تبلور السياسات الدوليّة، فهناك كثير من المهمّات الواجب إتمامها للمساهمة في بلورة التفاهمات الدوليّة والإقليميّة بما يخدم مصالحنا الوطنيّة، وفي تسريع التوصّل إلى تلك التفاهمات، يجب البقاء في دائرة الفاعلين لا المنفعلين، والقدرة على الفعل ترتبط بمدى بنائنا لقوانا الذاتيّة، ويجب التركيز على إصلاح الأخطاء التي تسببت في كثير منها سياسات النظام، وهذا يقتضي السير بعكس سياسات النظام التي اتّبعها ضدّ الشعب والثورة التي كانت تنطلق من مفهوم “فرّق تسُد”، فعمل على زرع الكراهية والحقد والشكّ بين السوريّين لجعل بعضهم عدوًا لبعض، وقام بتوظيف أكبر الموارد لترسيخها، ويجب الخروج من هذا الفخ الذي رسمه وخطّط له النظام، كما يجب الانتقال نحو العمل المنظّم الذي يعتمد على توزيع المهامّ والأعباء والتنسيق في الأعمال بما يؤدّي إلى تكاملها بين التنظيمات والأحزاب السياسيّة ومنظمات المجتمع المدني والحقوقيّة، داخل سورية وخارجها، كلٌّ في مجاله واختصاصه وبحجم موارده وقدراته، لتصبّ نتائج عمل الجميع في صالح إنجاز الكمّ الأكبر من هذه المهامّ لتحقيق الأهداف التي قامت الثورة من أجلها، لتحقيقها بأسرع وقت ممكن، ويجب نسيان وهم الحزب الواحد أو الجسم الواحد، وهدر جهود الجميع لمحاولة تشكيله، فهو سراب لا وجود له، يجب الاعتراف بتنوّع القوى الثوريّة والسياسيّة والمجتمعيّة، فهذا التنوّع هو ما يميّزها عن نظام اللون الواحد والفرد القائد الملهم، وهو أهمّ مصادر قوّتها إن تحوّلت من سياسة الإلغاء والإقصاء والتنافر والانغلاق، إلى سياسة الانفتاح والتنسيق والتكامل، ليتحوّل تركيزها من هدم ما أنجزه الآخر وتدميره، إلى التكامل معه، وهنا يأتي دور الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوريّة، ليقوم بدور المنسق بين هذه القوى الثوريّة والتنظيمات السياسيّة والمجتمعيّة وليس البديل عنها، وهذا يقتضي تحوّل هيكليّته التنظيميّة من هيكليّة هرميّة إلى هيكليّة شبكيّة، تتّسع لمساهمة الجميع في تحمّل الأعباء وإنجاز المهامّ وتحقيق الأهداف، وفق خطّة عمل مشتركة تساهم كلّ من هذه القوى والتنظيمات بوضع جزء منها، وبالرغم من الخلافات الأيدولوجيّة فإنّ الجميع متّفق على ضرورة تحقيق الانتقال السياسي، من نظام الاستبداد والإجرام والفساد، إلى نظام ديمقراطي قائم على التعدّدية السياسيّة والتداول السلمي للسلطة، والفصل المتوازن بين السلطات واستقلال القضاء وسيادة القانون، الجميع يريد تحقيق العدالة، ودولة المواطنة المتساوية، هناك الكثير ممّا يجمع السوريّين والقليل من النقاط الخلافيّة التي لن يعجزوا عن التوافق عليها. إنّ تحديد الإطار الأوسع من التفاهمات يؤدّي إلى تحديد أدقّ للمهامّ الواجب إنجازها وتوزيعها على القوى والتنظيمات والمؤسّسات التي تكون سندًا لبعضها البعض. إلّا أنّ تحقيق كلّ ذلك يقتضي إعادة صياغة الصراع، ليكون بين الشعب ونظام الإجرام والاستبداد الدكتاتوري، وهذا يتطلّب صياغة سليمة وواضحة للخطاب الإعلامي، وإعادة توجيهه لجميع السوريّين والسوريّات وللمجتمع الدولي بالتركيز على رؤيتنا وما نسعى لتحقيقه من تطلّعات مشروعة، وليس مبنيًا على المظلوميّة التي بات القاصي والداني يعلم بها، لكنّه يعلم القليل أو يملك رؤية ضبابيّة عن من نحن وما نريد تحقيقه، خطاب يطمئن السوريّين، ويبني الجسور بين مكوّنات وأطياف الشعب السوري التي باتت تعاني جميعها نتائج سياسات النظام، ليكون كلّ طيف من أطياف ومكوّنات الشعب السوري لبنة أساسيّة لا يكتمل دونه بناء سورية المستقبل، هذا الخطاب الجامع الذي من الممكن أن يجتمع عليه السوريّين بغالبيّتهم العظمى، هو الخطاب الذي يطمئن المجتمع الدولي حول توجّهات الشعب السوري لدولته المستقبليّة.

أما على الصعيد السياسي، عربيًّا، فيجب ألّا نهمّش الدور العربي فهو محيطنا الطبيعي، وعلينا العمل على تعزيزه وضمان مصالحه التي تتلاقى مع مصالحنا الوطنيّة، والعمل على بناء الجسور لا تعميق الهوّة، علينا أن نطمئنهم بأنّ مصالحهم الوطنيّة هي في أمان وضمن رؤيتنا وتوجّهاتنا، كما نعتقد أن تكون مكانة مصالحنا الوطنيّة لديهم. إقليميًّا، يجب أن نضمن المصالح الوطنيّة لدول الإقليم، لا سيّما الدول الداعمة لتطلّعات شعبنا، وأهمّها تركيا، بما يتلاقى مع مصالحنا الوطنيّة، وأن نزيل مخاوفها الأمنيّة ونقدّم الضمانات في سبيل ذلك، وننسج أفضل العلاقات معها. دوليًّا، يجب العمل على تعزيز شراكاتنا مع الدول التي تتلاقى مصالحنا الوطنيّة مع مصالحها بالحدِّ الأقصى. وكمبدأ عامّ السعي بأقصى جهد لتحييد الملفّ السوري عن الملفّات الخلافيّة بين الدول، وجعله في المنطقة الرماديّة التي يتلاقوا فيها على دعم تطلّعات الشعب السوري. ويجب علينا أن نعلم أنّ في السياسة لا يوجد صديق بالمطلق ولا عدو بالمطلق، وإنّما هناك تصنيف نسبي لكليهما، فمن كانت مواقفه معادية لتطلّعاتنا ومواقفنا بنسبة ثمانين بالمئة، واستطعنا تغييرها لتتوافق مع تطلّعاتنا ومواقفنا بنسبة خمسين بالمئة، فهذا يعدّ مكسبًا لنا، ومن هو صديق لنا بنسبة سبعين بالمئة، واستطعنا رفع نسبة صداقته إلى ثمانين بالمئة، فهذا ترسيخ للصداقة. بالتالي يجب السعي الدائم للتواصل مع الدول وعلى أوسع نطاق ممكن، لحشد التأييد لتطلّعات الشعب السوري.

في ما يخصّ العمليّة السياسيّة، وفي ظلّ تباطؤ المجتمع الدولي لا سيّما الدول ذات العلاقة بالمأساة السوريّة للوصول إلى توافقات لتحقيق الحلّ السياسي، الذي يسعى النظام بكلّ ما يملك للتهرّب منه والقضاء عليه، ليحوّل المفاوضات إلى عمليّة تفاوضيّة أمنيّة وعسكريّة بينه وبين الدول، لا بدّ من إبقاء العمليّة السياسيّة حيّة، كونها هي ما يُبقي قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015) حيًّا، فهو ضمان إبقاء المطالب الإنسانيّة والدستوريّة والقانونيّة والسياسيّة للشعب حيّة، وهو ما يثبت أنّه لا شرعيّة لهذا النظام، ويضع خارطة طريق للحلّ السياسي. لقد مضى الكثير وبقي القليل، ولكنّه الأشق والأخطر، يجب على السوريّين الثبات وشقّ طريقهم باستمرار نضالهم السلمي ضدّ الاستبداد والفساد والإرهاب ولتحقيق الاستقلال واسترداد سيادتهم على كامل أراضي دولتهم.

د. سميرة مبيض: سورية المستقبل: الانطلاق من الواقع السوري نحو بناء سورية الحديثة

لا بدّ بداية من الإشارة إلى ما قد يغيب عن أذهاننا في قراءة المشهد السوري، وفي الحديث عن سيناريوهات الحلّ، وهو وضع هذا المشهد في سياق التغيّرات الإقليميّة، ومن ثمّ في سياق الديناميكيّة الزمنيّة والتغييرات العالميّة الآخذة بالتسارع اليوم، حيث حُدّدت ملامح منطقة الشرق الأوسط، منذ قرن من الزمن تقريبًا، بناء على نتاج الحروب العالميّة، وطوال هذه الفترة الزمنيّة، لم تصل المنطقة إلى حالة من الاستقرار المستدام في ظلّ الأطر التي وضعت ضمنها، بل لبثت في صراعات داخلية، بالرغم من الغطاء الخارجي الذي أظهرته النظم المركزيّة والشموليّة المتحكّمة في المنطقة بمقدرتها على (حفظ الأمن) لكن واقع المجتمعات داخليًّا كان في تقهقر مستمرّ، وكان مولّدًا لتفكّك متزايد، ومُنشئًا لتيارات راديكاليّة على محاور عدّة فرضتها القوالب السياسيّة المؤطّرة للمجتمع.

من الحتمي أن يفرض التغيير نفسه في مثل هذه النظم، كجزء من مسار تطوّر الإنسانيّة عمومًا، ومع تراكم الأهوال التي أصابت المجتمعات في هذه المناطق، وتناقضها الهائل مع ما تتقدّم به وإليه البشريّة كلّ يوم، وبالرغم من صعوبة مسار التغيير الناجمة بدورها عن طول فترة الجمود والتراكمات المجتمعيّة السلبيّة، فإنّه مسار انطلق ووجد أرضيّة خصبة لاستقباله في دول المنطقة ومنها سورية. وعلى الرغم من المتاهة الطويلة التي دارت بها الثورة السوريّة على مدى عقد من الزمن، فإنّ هناك مفاتيح عديدة فرضت نفسها كجزء إلزامي من سيناريوهات الحلّ المستقبلي، ومن أهمّها:

    – بناء الدولة السوريّة الحديثة وفق عقد اجتماعي تأسيسي أصيل وغير مشتقّ من الحالة السابقة. 

    – بناء الهويّة السوريّة وفق أسس معرفيّة سليمة، بالانطلاق من واقع الشعب السوري، هويّة تعدّدية القوميّات والمذاهب والثقافات والإثنيّات ذات ارتباط تاريخي وجغرافي بحضارات عديدة، وهو ما سعت لتغييبه الحالة الشموليّة السابقة.

    – بناء نظام حكم جديد قائم على أسس اللامركزيّة ذات الصلاحيّات الواسعة في سورية، تحدّد وفق أسس جغرافيّة، وتضمن التناغم الاجتماعي والقدرة على العيش المشترك بين مختلف البنى المجتمعيّة في سورية.

    – بناء حالة مدنيّة حياديّة تجاه الأديان والقوميّات والأيديولوجيّات، تكون قادرة على تحقيق التنمية والتقدّم والعدالة الاجتماعيّة على كل الصعد، وتضمن إنهاء وعدم إعادة إنتاج أيّ سلطة قمعيّة تحت أيّ مسمّى.

    – إعادة تعريف العلاقة بين سورية والعالم، وفق أسس من الانفتاح والقدرة على بناء السلام العادل والاستفادة منه.

ترسم هذه النقاط السابقة المسار الزمني المتوسط المدى للمشهد السوري، في حين يتّسم الوضع الراهن بفشل العمليّة السياسيّة وبسعي الأسد لإجراء انتخابات رئاسيّة صوريّة، لإعادة تأهيل نفسه، بالتواطؤ مع التيارات التي دعمته في قمع الثورة السوريّة، وهو واقع يفضي إلى انقسام سياسي واضح وشبه نهائي بين مختلف المناطق السوريّة، بين مناطق خاضعة لسيطرة الأسد وماضية في موالاته، ومناطق خارجة عن سيطرته ورافضة لاستمراريّته، سواء في الشمال أو في الجنوب السوري، والواقعة تحت سيطرة قوى نفوذ مختلفة أخرى. يقود ذلك إلى غياب الشرعيّة لأيِّ انتخابات قد يجريها نظام الأسد خارج المناطق التي يسيطر عليها، وإلى انقطاع بين العمليّة السياسيّة التي تجري برعاية دوليّة، والتي يعتبر نظام الأسد جزءًا منها وبين مجريات الأرض ممّا يفسر الجزء الأكبر من جمود العمليّة السياسيّة اليوم.

من البديهي والمتوقّع أن ينتهي الواقع بفرض نفسه على العمليّة السياسيّة، وأن تحلّ مسارات قائمة على إيجاد حلول تستند إلى متطلّبات كلّ من المناطق السوريّة في المرحلة الحاليّة، وبشكلٍ خاصّ يمكننا تمييز ثلاث مناطق: منطقة شمال سورية، المنطقة الوسطى، والمنطقة الجنوبيّة. حيث تتّسم هذه المناطق بوجود قوى نفوذ مختلفة، وبوجود تيارات سياسيّة سوريّة تتبنى رؤى مختلفة في كلّ من هذه المناطق وبوجود بنى مجتمعيّة متمايزة ترتبط بكلّ من هذه المناطق.

في ظلّ هذه الأوضاع، يمكننا الحديث عن سيناريوهات حلول في سورية، وفق مرحلتين زمنتين ووفق مستويين جغرافيّين: المرحلة الأولى في المدى الزمني القريب تعتمد على إيجاد حلول ضمن القطاعات الجغرافيّة المختلفة على الأراضي السوريّة، ووفق خصوصيّة الأوضاع السياسيّة والعسكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في كلّ منها. والمرحلة الثانية في المدى الزمني المتوسط، وتعتمد على إعادة بناء الدولة السوريّة الحديثة بما يتوافق مع واقع الشعب السوري ومع احتياجاته، ليُحقّق النهوض والتقدّم المطلوب، ومع ما يُحقّق العدالة والمواطنة المتساوية بالمطلق بين جميع السوريّين في إطار سورية كدولة واحدة ووطن نهائي لجميع أبنائها.

د. سمير العبد الله: الجمود هو السيناريو المتوقّع في المدى القريب

هناك كثير من السيناريوهات التي يتمّ طرحها لتكون حلًّا في سورية، لكن حتّى الآن لم تثبت فاعليّة وإمكانيّة نجاح أيّ منها، فالقوى الفاعلة في الملفّ السوري حاليًّا هي التي تحدّد مسارات الحلّ السياسي كجنيف وآستانا وسوتشي، وحتّى مسار اللجنة الدستوريّة، التي لم ينتج عنها أيّ شيء ملموس.

وكانت أهمّ الأسباب لفشل الحلول السياسيّة التي تمّ طرحها، تعنّت النظام السوري، ومشكلة اللاجئين والمهجّرين والمعتقلين والتغيير الديموغرافي، والوجود العسكري الأجنبي في سورية، ومشكلة الفصائل المسلّحة، وفوضى السلاح على المستوى المحلّي، كذلك أمن إسرائيل والأطماع الإيرانيّة، وسياسات أميركا وبعض الدول الأوروبيّة الداعمة لبعض الجماعات الانفصاليّة، والسيطرة على المناطق الغنيّة بسورية. وكانت المعضلة الأكبر أنّ النظام وروسيا يعاملون كلّ شخص معارض وفصائل المعارضة كتنظيمات “إرهابيّة”، وأنّه يجب القضاء على تلك التنظيمات، وأن على المعارضين إجراء مصالحة مع النظام، وإعادة سيطرة النظام على كلّ سورية، هذا في ظلّ رفض تلك الفصائل المعارضة التعامل مع النظام السوري أو أن تكون شريكة معه بأيّ حلّ سياسي، في ظلّ بقاء رأس النظام السوري والمقربين منه بمناصبهم.

من تلك السيناريوهات المطروحة للحلّ السياسي حاليًّا:

 سيناريو يطرحه النظام السوري وحليفاه الروسي والإيراني، ويقوم على بقاء رأس النظام، وإجراء انتخابات في الأشهر المقبلة، وهي التي تسعى روسيا لتسويقها ونيل اعتراف بها، وهذا ما تمّ أثناء زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لبعض دول الخليج، وعقب إجراء تلك الانتخابات، سيفوز بشار الأسد بالتأكيد، في ظلّ الأوضاع الحاليّة، ثمّ ربّما يتمّ تعديل بعض المواد الدستوريّة، ويقوم رأس النظام بإصدار عفو عن المطلوبين، والسعي بعد ذلك لإعادة تطبيع علاقات النظام مع المجتمع الدولي، والبدء بإعادة الإعمار، التي تسعى روسيا لأن تسهم فيها الدول الخليجيّة بشكلٍ كبير، لكن هذا السيناريو يجابه برفض دولي كبير، لأنّه لا يتمّ وفق القرارات الدوليّة، ولن يشكّل حلًّا للأزمة السوريّة، ولن يؤدّي إلى عودة اللاجئين واستقرار الوضع بسورية، ولن يقبل به السوريّون المعارضون والدول المؤيدة للمعارضة السوريّة. فالنظام يريد الهرب إلى الأمام من محاولة تغييره أو منعه من الترشح، في حال تمكّن اللجنة الدستوريّة من وضع دستور جديد ربّما يحرمه من الترشح لمنصب الرئاسة، وهذا سيناريو يتوقعه النظام في ظلّ المفاوضات الروسيّة العربيّة، أو الوصول إلى توافق روسي أميركيّ حول سورية. أمّا السيناريو الذي تطرحه المعارضة الممثّلة بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوريّة، وهو أحد مكوّنات المعارضة السوريّة، فهو يقوم على إسقاط النظام، وتطبيق القرار الأممي 2254، على الرغم من تماهي الائتلاف الوطني مع روسيا، واشتراكه في المسارات التي أنشأتها (آستانا وسوتشي) لتكون بديلًا عن مسار جنيف.

وهناك سعي في الفترة الأخيرة لخلق مسارات جديدة، وإن لم تتّضح طبيعتها حتّى الآن، مع وجود رغبة في أن يكون هناك دور عربيّ أكثر فاعليّة، ومنها مسار الدوحة الذي شاركت فيه كلّ من تركيا وقطر وروسيا، والذي أكّد مجموعة من القضايا، منها وحدة سورية ومحاربة الأجندة الانفصاليّة، وزيادة المساعدات الإنسانيّة للشعب السوري، وسيتبيّن لنا مدى جدّيّة روسيا في هذا المسار، في جلسة اللجنة الدستوريّة القادمة، وعند انتهاء القرار الدولي الحالي الذي يسمح بعبور المساعدات الإنسانيّة عبر معبر واحد إلى مناطق المعارضة، وهذا ما دفع روسيا إلى السعي لفتح المعابر بين مناطق النظام ومناطق سيطرة المعارضة، حتّى تدّعي بعد ذلك أن لا حاجة إلى معابر مع مناطق المعارضة، وأن تمرّ المساعدات عبر مناطق سيطرة النظام، والمهمّ في هذا المسار هو استبعاد إيران كدولة ضامنة وشريكة بالحلّ السياسي في سورية. وظهرت كذلك سيناريوهات يتمّ طرحها إعلاميًّا، حتّى الآن، كالمجلس العسكري الانتقالي، أو مجلس عسكري/ مدني، لكن هذه السيناريوهات ما زالت إعلاميّة فقط، وفي حال توفر إجماع دولي عليها ربّما تكون فرصة لتجاوز الجمود الذي يعيشه المسار السياسي، وربّما يمكن تطبيق السيناريو الليبي، أي أن تسمّي الدول صاحبة النفوذ ممثّلين عن المناطق التي تحت نفوذها، ويتشكّل من خلالها مجلس حكم انتقالي بقرار من مجلس الأمن يشكّل فرصة للحلّ.

في ظلّ تلك السيناريوهات المتعدّدة، أعتقد أنّ الحلّ الأممي الذي يقوم على القرار 2254 ما زال هو الحلّ الأفضل، والحلّ القابل للتطبيق، حيث يقوم على انتقال سياسي برعاية الأمم المتّحدة، استنادًا إلى “بيان جنيف” و”بيانات فيينا”، لكن في عهد المبعوث الدولي السابق ستيفان ديمستورا، تمّ تقسيم القرار الأممي إلى أربع سلال سنة 2017، وكان ديمستورا أقرب للرؤية الروسيّة، وعمل على حرف مسار القرار، فأصر على البدء بالسلة الثانية، التي تقوم على وضع دستور جديد لسورية، وأن تكون مسارًا منفصلًا عن بقية السلال، وعدم تقييد العمل بأيّ جدول زمني، وقد شارك ديمستورا في مسارات تفاوضيّة منفصلة عن مسار جنيف في آستانا وسوتشي، حيث حاولت روسيا إفراغ “بيان جنيف” من مضمونه، لكنّها فشلت حتّى الآن، على الرغم من اشتراك بعض فئات المعارضة بتلك المسارات. ومع كلّ ذلك، ما زال مسار جنيف هو المفضل من طرف أغلب المعارضين السوريّين، وخاصّة أنّه تحت إشراف الأمم المتّحدة وتشارك به العديد من الدول المؤيدة للثورة السوريّة، بخلاف مساري آستانا وسوتشي التي بها تركيا وحيدة، ومازالت روسيا تدرك أنّ أيّ تسوية سياسيّة يجب أن تنال موافقة الأمم المتّحدة والمجتمع الدولي في النهاية، لذلك ترغب بأن تحصل على أكبر دعم دولي قبل تطبيق أيّ سيناريو، وهذا الذي مازالت تعوّل عليه مؤسّسات المعارضة.

أما بالنسبة للموقف الأميركي، فبعد الانتخابات الأميركيّة وفوز جو بايدن؛ هناك حاليًّا شبه جمود بالتحركات السياسيّة لإيجاد حلول لقضايا المنطقة، بانتظار موقف واضح للإدارة الأميركيّة الجديدة من قضايا المنطقة، ومنها القضيّة السوريّة، والموقف من إيران، وطبيعة الإجراءات التي ستتخذها من الملفّ النووي الإيراني التي ستنعكس بصورة مباشرة على سياسات إيران بالمنطقة، ومنها سورية، وهذا ما دفع بعض الدول العربيّة التي حاولت روسيا إقناعها بتطبيع علاقاتها مع النظام السوري، إلى رفض المطالب الروسيّة. ومن المحتمل أن تكون هناك مؤتمرات عديدة في الفترات القادمة، للعمل على إيجاد حلول للأزمة السوريّة، وذلك في حال جدّيّة الإدارة الأميركيّة الجديدة بإيجاد حلّ، لكن ما يبدو حتّى الآن أنّ السياسة الأميركيّة لن تتغيّر بشكلٍ كبير تجاه سورية، وستكون امتدادًا للسياسات السابقة، وخاصّة في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، بالرغم من كلّ ما يبديه المسؤولون الأميركيّون الجدد من تعاطف مع السوريّين، لكن ذلك لم يتعدّ نطاق التعاطف، وليس هناك خطوات جدّيّة حتّى الآن.

كلّ هذا في ظلّ الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي تعيشها مناطق النظام، والسيطرة على قرار النظام من طرف الدول الداعمة له (إيران وروسيا)، وفشل المعارضة ومؤسّساتها في كسب تأييد شعبي كبير لها، وظهور كثير من المنصّات والتجمّعات التي ترفض احتكار مؤسّسة الائتلاف لقرار المعارضة. فالحرب والأزمة لن تستمرّ في سورية إلى ما لا نهاية، لكن الجمود ربّما هو السيناريو المتوقّع في المدى القريب، لكن لا مهرب من الحلّ السياسي، واستمرار التدخّلات الدوليّة والإقليميّة المتصارعة في سورية، وانسياق الأطراف السوريّة نحو إدامة الصراع هو ما يعقّد الوصول إلى تسوية سياسيّة، وعلى كلّ الأطراف السوريّة العمل ضمن إطار يتناول كلّ خيارات الحلّ السياسي لمستقبل سورية، والتعامل بطريقة واقعيّة وموضوعيّة، ليتجاوز الشعب السوري ما يعيشه من مأساة.

صباح الحلّاق: إستراتيجيّة بعيون نسويّة سوريّة أساسها العدالة للجميع

منذ أن واجه النظام السوري التظاهرات المدنيّة السلميّة، بكلّ آليّات القمع التي يملكها تاريخيًّا والتي استوردها من دول داعمة له مثل إيران، تغيّر مسار الثورة نحو التسليح والأسلمة، وبات تدخل الدول الإقليميّة واضحًا للعيان، وقد حرف ذلك ثورتنا عن أهدافها التي انطلقت من حناجر عشرات الآلاف من السوريّين والسوريّات في التظاهرات التي امتدّت إلى غالبيّة المدن والقرى السوريّة.

وتمّ تدخّل دول عظمى بالملفّ السوري تدخّلًا سافرًا مستخدمة حججًا لتغطية هذا التدخّل، ومنها حماية الحدود من الإرهاب، كتركيا، أو حماية الأكراد من قبل الولايات المتّحدة الأميركيّة وحماية إسرائيل في المنطقة الجنوبيّة، أو حماية المصالح الإستراتيجيّة والتوسّع في منطقتنا، كإيران، أو استعادة روسيا لمكانتها في العالم كدولة عظمى لديها امتدادات عسكريّة واقتصاديّة في سورية، إضافة إلى ميليشيات متنوّعة من دول عديدة وصولًا إلى وجود خمسة جيوش على أراضي سورية. وعلى ذلك؛ لم تبق أيّ إرادة لمعظم السوريّين والسوريّات في الوصول إلى حلّ سياسي عادل مبني على قرارات دوليّة، ويلبي مطامح الناس في الانتقال السياسي نحو دولة ديمقراطيّة يتمتع فيها الإنسان بحرّيّته وكرامته، بعد أكثر من خمسين عامًا من الاستبداد والدكتاتورية التي أدّت إلى كم الأفواه والتغييب والقتل والتشريد لملايين السوريّين والسوريّات.

ما العمل؟ هذا هو الهمّ الأساسي والرئيس لدى غالبيّة العاملين/ات بالشأن السياسي والمدني، عبر طرح أسئلة مفصليّة مبنيّة على دراسة واقع ما وصلنا إليه “بقلب حار وعقل بارد”، بعد عشر سنوات من انطلاقة الثورة متمسّكين بأحلامنا للأجيال قادمة. ونتساءل: هل نفقد الأمل في إمكانيّة استمرار النضال من أجل انتقال سورية لدولة المواطنة؟ إنّ الوضع المتردّي على المستوى السياسي الوطني والإقليمي والدولي، حيث باتت سوريّتنا أربع سوريّات جغرافيًّا، وتحت احتلالات أربعة وسلطات الأمر الواقع، يفقدنا الأمل في إمكانيّة استمرار النضال من أجل سيادة ووحدة سورية، إضافة إلى توسّع دائرة التعصّب الطائفي والقومي والمناطقي؛ وتراجع الحكومات المدّعية تمسّكها بحقوق الإنسان في الدفاع عن حقوقنا؛ وتحكم حكومات في أجندات معظم أطراف النزاع من النظام إلى المعارضة السياسيّة؛ وجمود المحادثات السياسيّة السوريّة بين أطراف النزاع لسنوات خلت؛ واستمرار النظام السوري في اللعب بالوقت في العمليّة الدستوريّة؛ وتراجع الأمم المتّحدة في مهامها بالملفّات الإنسانيّة وأوّلها ملف المعتقلين/ات والمفقودين/ات والمختطفين/ات وتركه بيد أمراء الحرب في آستانا؛ وتغيير في سياسات الدول العظمى تجاه قضيتنا، إذ لم تعد من أولويّاتها مثل السياسة الأميركيّة وبعض دول الاتّحاد الأوروبي؛ وازدياد حالات النزوح واللجوء نتيجة استمرار العمليّات العسكريّة وسوء الأوضاع الاقتصاديّة واستمرار السياسات الأمنيّة في معظم الجغرافيّات السوريّة، وليس لدى النظام فقط..

نعم، اللوحة سوداء من جميع الجوانب، وهذا يجعلنا أقرب إلى فقدان الأمل، لكننا بمراجعة تاريخيّة لتجارب دول عدّة مرّت بنزاعات مسلّحة وأهليّة واحتلالات، نجد أنّ الوضع في سورية، على قتامة المشهد، ليس بعيدًا عن هذه التجارب التي خاضتها شعوب هذه البلدان، ومن هنا تبدأ عقولنا بالعمل على وضع إستراتيجيات قصيرة وطويلة الأمد. إستراتيجيّات قصيرة المدى ذات بعد إستراتيجي طويل المدى، وهي حقّ السوريّين والسوريّات بالمشاركة في رسم خريطة التغيير المنشود، وذلك عبر عقد مؤتمرات وندوات وجلسات نقاش مستفيدين من إمكانيّة الوصول لمعظم السوريّين/ات عبر التقنيّات الإلكترونيّة، بحيث يتمّ لم شمل جميع المكوّنات السوريّة دون إقصاء أحد، كما جرى في تشكيل اللجنة الدستوريّة، وهذه الإستراتيجيّة تعزّز المبدأ المواطني في حقّ المشاركة.. إستراتيجيّة مصالح على المستوى الدولي، وهي حملات الضغط على صناع القرار بالملفّ السوري، وذلك بالاستفادة من كلّ المحافل الدوليّة، ووصول صوت السوريّين والسوريّات المطالب بالحلّ السياسي وفق القرارات الدوليّة، وتغيير الخطاب باتّجاه مصالح هذه الدول. حتمًا هناك من يقول إنّنا لم نقصّر في ذلك، وأنا أعلم، لكن قطرات الماء المتتالية تحفر الصخر، ونحن نعلم أنّ كلّ دولة متدخّلة بملفّنا لها مصالح مختلفة عن غيرها، ولذلك الخطاب سوف يتغيّر معها، وهذا بالطبع ليس تنازلًا عن مبادئنا، وإنّما تفاوضًا محرجًا مع الخصم، وفق ادّعاءاته بدعم سورية وأهلها.

ختامًا؛ هناك إستراتيجيّة بعيون نسويّة سوريّة أساسها العدالة للجميع، وهذه الإستراتيجيّة ترى أنّ لغة الدفاع عن حقوق وحرّيّات الإنسان يجب أن تكون شاملة لكلّ السوريّين والسوريّات، بغض النظر عن المواقف السياسيّة والأيديولوجيّة والقوميّة والمناطقيّة والدينيّة والمذهبيّة والجنس… بحيث تكون الرسالة أنّ هذه الحقوق والحرّيّات هي من حقّ ومصلحة الجميع دون استثناء، وبذلك يكون هذا الخطاب مقبولًا، ومثالنا هنا هو العدالة للجميع. برؤية موضوعيّة للحال الذي وصلنا إليه اليوم، نحن أمام جدار يشبه جدار برلين يعوق أيّ حلّ لقضيتنا، والحلّ مرهون بيد الدول ذات العلاقة بالملفّ السوري، وما أكثرها! لا كما تدّعي هذه الدول والأمم المتّحدة بأنّ هذا شأن سوري، والسوريّون/ات هم من يقرّر! ولن نستيقظ ذات يوم قريب ونرى اتّفاق هذه القوى لمصلحة السوريّين والسوريّات، إذ إن اقتسام الكعكة بينهم لم يكتمل بعد، وربّما سيأخذ وقتًا طويلًا تزداد فيه قتامة المشهد. ولكن هل ثمّة بقعة ضوء لإنهاء المأساة السوريّة على جميع أهل سورية؟ لا بدّ من ذلك، ولو بحلول لا تصل إلى طموحنا في المستقبل القريب. فقد هُدم جدار برلين.

خلدون النبواني: خطر ضياع سورية كدولة هو السيناريو الأقرب لنا

بواقعيّة، والواقع أسود، مع الأسف، إنّ السوريّين على اختلاف مواقعهم: مع الثورة، مع النظام، رماديّين، إلخ، هم جميعهم خارج اللعبة السياسيّة الحاليّة. المسألة السوريّة اليوم لا شيء سوريًا فيها سوى الاسم والضحايا، وأوّل الضحايا هو البلد. هناك قوى إقليميّة ودوليّة منخرطة بقوّة في الصراع على سورية، واستثمرت كثيرًا في هذه الحرب، التي لن تنتهي إلّا بتوافق هذه القوى أو بتصفية بعضها لبعضها الآخر. إذن لا يشي الواقع بمستقبل قريب للأزمة السوريّة حتّى ولو بدأت منذ الغد ملامح حلّ سياسي ترتسم في الأفق. ولكن هذه الرؤية المغرقة في سوداويّتها تكتفي بمراقبة الحاضر، بينما هذا الشلل السوري سيتعافى في المستقبل البعيد. ما أقصده أنّ ملامح الحلّ السوري ستكون بضمان القوى الخارجيّة المنخرطة في الصراع على سورية بمصالحها ومناطق نفوذها وتحكمها، ومن ثم ستعيش سورية من دون سيادة فعليّة حتّى بعد رحيل الأسد وسقوط نظامه بشكلٍ جزئي. على السوريّين أن يبدؤوا التحاور منذ اليوم، والانفتاح على بعضهم البعض، والتخلّص من عقيدة قتل الآخر وتكفيره دينيًّا أو سياسيًّا، فما هكذا يكون العقد الاجتماعي، عندما تكون هناك إرادة مشتركة للتعاون وتوازن في محصّلة القوى السياسيّة. على مثل هذا التوافق، يتوقّف مستقبل سورية والسوريّين، فإمّا الاستقلال والنهوض والبناء وإمّا استمرار الاقتتال السوري – السوري، وتقسيم سورية، إن لم يكن بحدود وفدراليّات، فبطوائف وتحزّبات تحصنها أبراج الكراهية والإقصاء.

بعد الحرب، ستكون سورية، بل هي منذ الآن، كحال ألمانيا بعد الحرب العالميّة الثانية، وأسوأ من حال لبنان بعد الحرب الأهليّة، أو حال العراق بعد دخول القوّات الأميركيّة. تتوقّف ردّة فعل السوريّين على النتيجة، فإمّا يحتذون -وفق ظروفهم وشروطهم- المسار الذي مشت به ألمانيا التي نفضت عبر سنوات طويلة آثار الحرب ثمّ توحّدت، وهي الآن القوّة الاقتصاديّة الأولى أوروبيًّا، وصارت مثالًا سياسيًّا ناجحًا تحسده معظم دول العالم المتقدّم، وإما أن يسيروا في طريق التدمير الذاتي الذي لم ينجح في الخروج من متاهته لبنان والعراق. ولأنّ حال العراق ولبنان أقرب لنا من حال ألمانيا، فإنّ خطر ضياع سورية كدولة وخطر ضياع حلم تأسيس نظام ديمقراطي مدني عادل هو السيناريو الأقرب لنا. ومن هنا تظهر خطورة الأمر، وبخاصّة أنّ الصراع السوري – السوري يؤكّد أنّنا إلى حدّ الآن -كسوريّين مشتّتين ومقسّمين وضائعين- نفتقر إلى الخبرة السياسيّة المتعلّقة بالإدارة والحكم وقبول الديمقراطيّة، ولا نملك الوعي القانوني والاجتماعي والقيمي للعيش كمواطني بلد واحد. لا شكّ في أنّ ذلك يعود إلى إخراج كلّ السوريّين من حقل الممارسة السياسيّة ومسح عقولهم بشكلٍ منهجي من قبل النظام الأسدي، على مدى خمسين عامًا، ولكنّ سنوات الثورة كشفت عن أُميِّة سياسيّة وعدم وجود قيادة قادرة على توحيد السوريّين.

قناعتي الشخصيّة أنّ مصالح القوى المتصارعة متّفقة -بالرغم من كلّ صراعاتها- على ضرورة بقاء الدولة السوريّة، وهذا شيء إيجابيّ جدًا بنظري، وسط كلّ هذا الركام. لكن علينا هنا أن نعيد لمفهوم الدولة معناه الإيجابي، بعد إزالة كلّ ذلك الصدأ الأسديّ الذي تراكم عليه. الدولة هي حجر الزاوية الذي تُبنى عليه سياسة بلد ما، وبدونه ينهار كلّ شيء. الدولة هي مؤسّسات وقوانين ممؤسّسة وليست نظامًا أو حكومة. الدولة نظام حكم قابل للتغيّر شعبيًّا ودستوريًّا، لكن لا يختزله نظام، وإنّما سلطات يتمّ تداولها سلميًّا في عمليّة يحكمها الدستور الذي يجب أن يقوم فعليًّا على إرادة الشعب مصدر شرعيّة السلطة أيّ سلطة وصاحب السيادة الحقيقيّة.

تاريخيًّا، الدولة كانت دائمًا موجودة، ولم يوجد عمليًّا مجتمع دون دولة إلّا في التنظيرات الطوباويّة لنظريّات الفوضويّين السياسيّين، وبعض التأويلات الماركسيّة التي انتهى تطبيقها إلى دول شموليّة قمعيّة. لكن قوّة الدولة تتناسب عكسًا مع وجود المجتمع المدني والفضاء العامّ، وفي الدكتاتوريّات تنتهي الدولة بالقضاء على المجتمع وغلق الفضاء العامّ بشكلٍ كلّي، وتحوّل الحكم إلى ملكيّة عائليّة، كما هو حال السلطات العربيّة.

ما الحلّ إذن؟ لا بدّ -برأيي- من الإبقاء على الدولة، وأن تكون الدولة قويّة بما يكفي بعد استبدال نظام الأسد، لتستطيع حماية القانون، الذي يجب أن يراعي مبادئ المواطنة والديمقراطيّة والعلمانيّة، ومن دونها لا يمكن إقامة ديمقراطيّة حقيقيّة في مجتمع متعدّد الأديان وغيبي، كالمجتمع السوريّ. لكن إذا كانت الدولة القويّة تنتهي إلى الاستبداد، فلا بدّ للشعب -ممثّلًا بالمجتمع المدني والتمثيل الديمقراطي- أن ينظم نفسه وينظم صفوفه ويفرض نفسه كقوّة حقيقيّة، تنافس مصالح الدولة كلّما انحرفت نحو الشموليّة والاستبداد. هنا يأتي دور السوريّين في تنظيم أنفسهم والتوافق على عقد اجتماعي والقبول بقواعد اللعبة الديمقراطيّة. بعد جيل أو جيلين، يصبح المجتمع المدني قادرًا على أن يضمن استمرار سيرورة العمل الديمقراطي، فيصبح التوازن بين الدولة والمجتمع المدني تحصيل حاصل، ويدرك الشعب أنّ مصلحته تتجسّد في دولة قويّة ونظام حكم جمهوري أو ديمقراطيّ فعلي، يضمن العدالة والمساواة. إذن على السوريّين تربية أنفسهم، منذ الآن، على الانفتاح على بعضهم البعض وقبول نتائج الديمقراطيّة، ويدرك أنّ العلمانيّة هي شرط استمرار الديمقراطيّة في بلدنا. عندما ينجح الشعب في حماية الديمقراطيّة وقيم المواطنة يُصبح هو الحاكم الفعلي، ويصبح هو الضامن للدولة وليس العكس. عندها فقط يستقلّ البلد فعليًّا ويتحرّر من هيمنة قوى الخارج على مُقَدّرات البلد، ويقرّر هو مصيره بنفسه. لكي يتحقّق ذلك لا بدّ للسوريّين أن يعوا أنّ ما يحتاج إليه البلد لكي ينهض أن يعملوا أيضًا على التنمية والإصلاح الاقتصادي والاستثمار بالعلم والثقافة والفنّ، والتخلّي عن وهم التسلّح والحرب التي لم تقم إلّا ضدّ السوريّين وعليهم. هكذا أحلم في سورية المستقبل، وأخشى عليها من كابوس لبنان والعراق الذي قطع البلاد بين طوائف وإثنيّات وملوك طوائف يمثّلون مصالح الخارج فقط ضد الوطن.

واحة الراهب: استعادة اللحمة الداخليّة لبناء عقد اجتماعي جديد

يجدر بنا الاعتراف بداية بتعثر مسار الثورة السوريّة، وعدم تمكّنها إلى الآن من تحقيق أهدافها وشعاراتها الأولى: حرّيّة، كرامة، ديمقراطيّة، الشعب السوري واحد، تخوين الطائفيّة، والشعار الأهمّ المرتبط حكمًا بالشعارات السابقة هو تحقيق السيادة والاستقلال، كشرط لا مناص منه لتحقيق شعاري الحرّيّة والكرامة. وكان قد رهنهما النظام بيد قوى الاستعمار القديم والحديث، ليضمن بقاء هيمنته عبر إجهاض حقّ شعبه بتحقيق تلك الشعارات ذاتها. وبالرغم من تمكّن قوى الثورة في البداية من السيطرة على سبعين بالمئة من الأراضي السوريّة، وبالرغم من أنّها كادت أن تنتصر لو أنّ شرط السيادة واستقلال القرار الثوري كان محقّقًا آنذاك، فإن عدم تجذّر الموقف الثوري تجاه هذا الشرط منع تقدّمها في دمشق وفي جبهة الساحل، وهما الجبهتان اللتان كانتا كفيلتين بحسم المعركة، لولا الارتهان لقرارات الخارج. وهذا ما كشف منذ بداية الثورة أنّ التفريط بثوابتها هو ما أدّى بها إلى انتكاسات متوالية؛ إذ تمّ اختراق الثورة عبر تسليحها القسري الناتج عن السماح باستفحال جرائم النظام بحقّ المتظاهرين العزل والسلميين، على مرأى ومسمع العالم أجمع المدّعي صداقته للشعب السوري، وإلى سيطرة الإرادة الخارجيّة المموّلة للتسليح، وتحكّمها في أطراف الصراع المتعدّدة ومصادرة قرارها السيادي، والعمل على تصعيد التطرّف الديني بعد عسكرة الثورة، ودفع الساحة إلى الانقسامات الداخليّة والارتهانات والتجاذبات للأطراف الخارجيّة أكثر. وقد برهنت جميعها أنّها غير معنيّة بانتصار ثورتنا.. بل على العكس من ذلك، إذ حتّى من اِدّعى صداقته للشعب السوري زيفًا، كالحليف الأميركي، غضّ الطرف عن استخدام النظام للسلاح الكيمياوي لإبادة شعبه، كخط أحمر ادّعاه الرئيس الأسبق باراك أوباما آنذاك لا يمكن للنظام تجاوزه! وعمل لتفريغ الثورة من محتواها المبدئي أيضًا، كما عمل على شرذمتها وتضييع بوصلتها عبر شراء الذمم، وعبر تسليح المتطرّفين على حساب الجيش الحرّ وأبناء الثورة الحقيقيّة، وعلى إدخال المال السياسي في لعبة فرز القيادات والممثّلين المزيّفين لقوى الثورة.

أظن أنّ سيناريوهات الحلّ المفترضة باتت تحتاج إلى العمل بنفس طويل وجهود أكثف، لرأب التصدعات المتعدّدة التي حصلت، في ظلّ فشل العمليّة السياسيّة والتحضير للانتخابات الرئاسيّة، ومحاولات الروس -بل العالم أجمع- تعويم نظام الأسد وإعادة تدويره، كما سبق لهم تعويم أمراء وزعماء الحرب الأهليّة في لبنان ليحكموه إلى يومنا هذا، بالرغم من تلطخ أيديهم بدماء شعبهم، وكاد هذا السيناريو أن يصبح حقيقة وهدفًا للقوى المتحكّمة بلعبة الصراع على سورية، لولا تجذّر الإيمان بثورتنا عند أغلب أبناء شعبنا من الثائرين الحقيقيّين، على الرغم من كلّ ما تعرّضوا له من تجويع، وتهجير، واضطهاد، وإبادة.

 ولتحقيق أيّ مكسب جديد على الأرض، ليس هناك من مندوحة عن استعادة القرار السيادي بعيدًا عن لعبة التجاذبات التي أدّت إلى الارتهان للخارج.. مهما طال أمد النصر، واعتماد الحلّ السلمي واستعادة فاعليّة التظاهرات السلميّة، بعيدًا عن التسلّح الذي يفرض علينا قسرًا الارتهان للجهة الداعمة للتسليح، وهو أمر لم يكن متكافئًا في ظلّ امتلاك النظام لسلاح الطيران والسلاح الكيمياوي، وفي ظلّ دعم قوى العالم وحمايتهم له. ولن يكون كذلك إلّا عبر عمليّات خاطفة لما يشبه حرب العصابات، تستنزف العدو بتكتم دون الاضطّرار إلى المواجهة غير المتكافئة معه، إن كان لا بدّ من العمل العسكري لزعزعة أمن النظام.

وهنا لا مناص من استعادة التكاتف واللحمة الداخليّة لبناء عقد اجتماعي جديد، يفرض بالضرورة تصحيح الخطاب الثوري الذي ابتعد به المغرضون عن كونه جامعًا موحّدًا، يساوي بين أبناء الوطن الواحد في دولة المواطنة القانونيّة الديمقراطيّة، والحياديّة العادلة تجاه جميع أبناء الوطن الواحد، مهما اختلف رأيهم أو دينهم أو طائفتهم أو عرقهم أو جنسهم، وإيجاد حلّ عادل للمشكلة الكرديّة ضمن إطار سيادة سورية ووحدة أراضيها، ونبذ كلّ المشاريع التقسيميّة التي تضعفنا ولا تقوينا، سواء أكانت إدارات ذاتيّة أو فدراليّة أو غيرها من المشاريع، إن كانت تقوم على تقسيم البلد الواحد، المقسّم أصلًا في السابق بحكم اتّفاقيات كـ (سايكس بيكو) وغيرها من الاتّفاقيات الاستعمارية التي أضعفتنا وشرذمتنا ليسهل التحكّم فينا عبر عملاء لهم نُصِّبوا رؤساء، دون الحاجة إلى استعمارنا مباشرة كما حدث سابقًا، لأن تلك المشاريع ليست قائمة على توحيد دول وولايات كبيرة ضمن كيان واحد يقوّيها أكثر ممّا يضعفها، كما في الولايات المتّحدة الأميركيّة والاتّحاد السوفيتي سابقًا.

علينا أن نكون متبصرين لكلّ ما يُخطّط لنا ويحاك لشعوبنا في الخفاء وفي العلن، بوعي كامل بمسؤوليّتنا عمّا يحدث لنا، فأيّ مخطّط -مهما كان خبثه وخفاؤه- قد لا يجد له موطئ قدم عند الشعوب المسؤولة الموحّدة الواعية، التي تستبصر مصيرها وتتهيأ لكلّ الخطوات القادمة قبل وقوعها، عبر تكاتف أبنائها وتعادلهم في الوقوف على أرض صلبة تطلق طاقاتهم بحرّيّة ومساواة، وعبر دعم وجود مراكز للبحوث والدراسات الإستراتيجيّة والترجمات.

وكذلك يجدر العمل الحثيث على خلق منبر إعلامي حقيقي، يوصل صوت الثورة وأهدافها الحقيقيّة، لا ما يُصَدّر لنا من الخارج ليوسموا بها ثورتنا زيفًا وبهتانًا. منبر كهذا كان له أن يمنع تشويه أهداف ثورتنا ويحافظ على جوهرها، وكان له أن يُحقّق إجماعًا علنيًّا مضادًا للتجييش الإعلامي الممهد لإجراء الانتخابات المزيّفة للنظام وفضح انعزاليّته، بدلًا من أن يعزلنا هو بامتلاكه في منابر إعلاميّة محلّيّة وعالميّة عدة تروّج له وتدعمه. كما يجدر بنا استغلال كلّ المنابر الإعلاميّة ووسائل التواصل الاجتماعي المتاحة، لتحقيق مقاطعة حقيقيّة لانتخابات النظام المزيّفة على كلّ الأصعدة، ولمقاطعة أيّ انتخابات أو حلول خارج أولوية الانتقال السياسي، والعمل على فرض الالتزام بقرارات “بيان جنيف” (2012) والقرار 2254 (2015) الملزمة بإنهاء الاستبداد، وإنهاء حكم بشار الأسد والنظام القائم، وتشكيل هيئة حكم انتقاليّة كاملة الصلاحيّات، تعمل لبناء دولة المواطنة القانونيّة الحياديّة العادلة، ينتج عنها لجنة لدراسة دستور جديد يُستفتى عليه بظلّ حكومة منتخبة، قبل أيّ إجراء آخر يضيع الهدف والبوصلة، كما حدث بتسبيق سلة الدستور واللجنة الدستوريّة على الانتقال السياسي، ما أدّى إلى ضياع الوقت والانحراف عن مسار الثورة الحقيقي. فأيّ دستور يمكن له أن يتحقّق في ظلّ وجود بضعة احتلالات لسورية تتحكّم فيها وبمصيرها، وفي ظلّ عدم وجود انتخابات أو حكومة انتقاليّة منتخبة من الشعب، تستفتى على هذا الدستور بعيدًا عن إشراف دول الاحتلال، التي لا يمكن لها إلّا أنّ تصنع دستورًا على مقاس مصالحها، المضادّة لمصالح الشعوب والمجهضة لحلمهم بنيل حرّيّتهم. كما يجب العمل على سحب البساط من تحت أقدام كلّ المنتفعين من استمراريّة الحرب، من الفصائل المسلّحة والمرتزقة، داخليًّا وخارجيًّا، عبر فضحهم وكشف مدى ارتزاقهم والجهات المموّلة لهم، وإعادة هيكلة الجيش وقوى الأمن، لتلتزم بحدود واجباتها المنوطة بها قانونيًّا، بعيدًا عن الانتماء السياسي. أظن أنّ الاختبار الحقيقي لعودة الحراك السلمي لقوى الثورة، باتّجاه التغيّر الجذري، سيثبت مصداقيّته على محك العمل على ملف المعتقلين والمفقودين الذين لا صوت لهم، بالرغم من أنّهم يفتدوننا بحياتهم وبتضحياتهم الجسيمة، وعلى إعادة المهجّرين وتحقيق العدالة الانتقاليّة.

في النهاية، على الرغم من الإحباطات المتتالية وتعثر تحقيق النصر إلى الآن، وتشرذم القوى على الساحة الوطنيّة وبعثرتها، باتّجاه البحث عن قيادة ذات كاريزما لا تغني ولا تشبع شعبًا قادرًا على خلق أعظم القيادات، حين يتوفّر له المناخ الحرّ الديمقراطي المساوي بين جميع الأبناء والبنات.. كما بان ذلك جليًّا مع بدايات الثورة؛ فإنّنا كشعب لم نستسلم حتّى الآن، ولن نستسلم لحكم الطغاة، ما دمنا نمتلك الأمل بتحقيق نصرنا، الأمل وحده قيد التحقّق الدائم في حياتنا كلّ لحظة رغمًا عن أيّ يأس. ولم يتمكّن تحالف العالم أجمع طوال عشر سنوات من الإطاحة بأملنا وبحلمنا هذا.. بالرغم من دعمهم غير المسبوق لنظام القتل والإبادة، وبالرغم من محاولتهم إعادة تدويره وفرضه بالقوّة علينا، وستفشل كل محاولات تسعى لانتزاع حلمنا بالنصر، إذ ما زال شعبنا إلى الآن يهتف لثورة الحرّيّة والكرامة، ويتنفسها بملء رئتيه إيمانًا وأملًا متجدّدين لا يهمدان. إن لم يكن لثورة كهذه أيّ مأثرة عظيمة، وما أكثرها بثورتنا! يكفيها شرفًا أنّها كسرت حاجز الخوف الذي استحكم النظام من خلاله شعبنا، وحوّل الناس إلى عبيد يعجزون حتّى بأحلامهم عن الانعتاق من عبوديتهم. ويكفينا شرفًا انتمائنا إليها بكونها ثورتنا على ذاتنا وعلى خوفنا أوّلًا وقبل كلّ شيء. كما هي ثورة لنيل الحرّيّة مستمرّة، مهما طال الزمن، ستبقى حيّة متوقدة كفكرة، تشعلنا كلّما خبا لهيبنا، والفكرة لا تموت والأمل بها لا ينطفئ إلّا مع انطفاء الحياة.

عز الدين الملا: الحلول النهائيّة ليست بيد السوريّين

تحوّلت الأزمة السوريّة خلال سنواتها العشر إلى مستنقع راكد، كلّما امتدّت سنواتها زادت روائحها النتنة، نتيجة هذا الكمّ الهائل من الميليشيات والفصائل والتنظيمات الموجودة فيها، إلى جانب عدد وحجم الدول المتداخلة في الشأن السوري. أمّا الشعب المنهك، اقتصاديًّا ومعيشيًّا وأمنيًّا، فلم يبقَ له دور أو مكان في كلّ ما يجري، بعد أن كانت له اليد الطولى في الشرارة الأولى لثورة حقيقيّة ضدّ نظام دكتاتوري مجرم حوّل سورية إلى مزرعة خاصّة.

الأزمة السوريّة زادت تعقيداتها ومتاهاتها بتدخّل وتشابك مصالح وأجندات دول إقليميّة ودوليّة، فمنذ البداية حتّى الآن، تمّ تغيير أربعة مبعوثين خاصّين من الأمم المتّحدة، وكلّ مبعوث يعتذر بعد أن يصل من جراء تقاطعات مصالح الدول المتداخلة في الوضع السوري إلى طريق مسدود، وذلك بسبب عدم وجود إرادة دوليّة للحلّ، وهذا الاستعصاء أدّى إلى خلق مناخ جليدي داخل مجلس الأمن الدولي، لذلك كانت خطوط المواجهة بين هذه الدول تتغيّر بين فترة وأخرى. أمّا خطوط المواجهة بين الدول المتداخلة بشكلٍ مباشر، فإنها لم تتغيّر خاصّة خلال السنة الماضية، حيث كانت سياسة كيل الاتّهامات هي المسيطرة على المشهد العامّ، وهذا مؤشر إيجابي للبدء بالخطوة الأولى نحو الحلّ السياسي.

عندما اشتعلت الأزمة السوريّة، بدأت بثورة قام بها السوريّون لرغبتهم في الخروج من تلك السنوات الرهيبة التي عاشوها تحت رحمة جلادي النظام الدكتاتوري المجرم، وسرعان ما تحوّلت تلك الثورة إلى حركة احتجاجات واسعة شملت جميع الأراضي السوريّة، فتدخّلت الدول العربيّة من خلال الجامعة العربيّة لحلحلة الوضع السوري، ولكن تعنّت النظام وعدم استجابته للمطالب الشعبيّة أدّى إلى فشل الوساطة العربيّة. وكان أن تمّ تدول الملفّ السوري بعد “بيان جنيف” في 2012، الذي نصّ على تأسيس هيئة حكم انتقاليّة كاملة الصلاحيّات، وبقي هذا البيان الأساس في أيّ حلّ سياسي للأوضاع في سورية. ودُعمّ البيان في عام 2015 بالقرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن، الذي نصّ على أربع سلال للحلّ السياسي في سورية، غير أنّ النظام تحجج بمحاربة الإرهاب وجعله أولوية، ومن ثمّ توالت جولات المفاوضات في جنيف دون الوصول إلى أيّ تسوية، فبدأ بموازاة هذه المفاوضات مؤتمر آستانا الذي رعته روسيا، وهذا أيضًا تلاحقت سلسلته حتّى وصل إلى إعلان ترحيل جميع أوراق آستانا إلى جنيف، لدعم الحلّ السوري، وبالرغم من ذلك استمرّت الأزمة دون ظهور لأيّ بوادر الحلّ في الأفق.

كلّما طال أمد الأزمة السوريّة، زادت التدخّلات والتعقيدات، لذلك أعتقد أنّ ما وصلنا إليه ليس صدفة، بل هو مدروس ومخطّط له من أطراف دوليّة، هنا نسأل سؤالًا جوهريًّا: ما دمنا كمعارضة نتفاوض مع النظام منذ فترة طويلة، فلماذا يستمرّ كل هذا الدمار والخراب، بعد أن خرج السوريّون في آذار/ مارس 2011 مطالبين بالحرّيّة وإسقاط نظام الأسد؟

وهنا، أؤكّد أنّ الدول الكبرى استغلّت مطالب السوريّين بالحرّيّة والكرامة لمآربها ومصالحها، وهم المسؤولون الرئيسيّون عن كلّ ما حصل ويحصل. لذلك -كما قلنا في بداية حديثنا- إنّ الدول المتداخلة بالملفّ حقّقت اليوم ما كانت تصبو إليه، وفي مقدّمته تدمير البنية التحتيّة لسورية، وهذا يعطي هذه الدول دفعًا نحو المطالبة باستثمارات اقتصاديّة وتنمويّة، يُدرُّ عليهم مليارات الدولارات. ومن ثمّ فتح الطريق أمام الهجرة نحو أوروبا ما يتيح لهذه الدول تجديد شبابها من خلال أطفال سورية. وستجعل تلك الدول الكبرى من سورية سوقًا لتصريف منتجاتها مستقبلًا. أخيرًا، وهو الأهمّ، إنّ هذه القوى التي صارت محتلّة لأراضي سورية بعد أن جلبها النظام لمؤازرته شدّدت قبضتها على خيرات البلاد الاقتصاديّة والبشريّة. ولا يفوتنا ذكر أنّه في السنوات العشر الماضية من العمليّات العسكريّة، دخل الأراضي السوريّة فصائل وميليشيات إرهابيّة تحت مسمّيات كثيرة، أحرقت الأخضر واليابس، ودمّرت البشر والحجر، وشوّهت الأخلاق والدين والأسلوب، وحاربت الشرفاء والوطنيّين والمناضلين ودافعت عن اللصوص والعملاء، كما شوّهت الحقائق، وجعلت من المواطن السوري في نظر العالم مرتزقًا ومنبوذًا بعد أن كان السوري مضرب مثل في العالم في الغيرة والأخلاق والتسامح وحب الآخرين، كلّ هذا التشويه قام به النظام والعالم أجمع.

إنّ العمليّة السياسيّة فشلت فشلًا ذريعًا، أمام عدم وجود إرادة دوليّة للحلّ السياسي، وروسيا التي تدخّلت في الشأن السوري عسكريًّا عام 2015، إلى جانب إيران، يقلقها اليوم بشكلٍ كبير التمدّد الإيراني في سورية والمنطقة، وباتت تراه يهدّد مصالحها في شرق المتوسط، بعد أن حافظت على بقاء نظام الأسد ومنعته من السقوط، دافعة بكامل قوّتها لإضعاف المعارضة الوطنيّة، وهو ما نجحت فيه بعد أن حالت دون أن يكون نظام الأسد ضمن التسويّات المستقبليّة لسورية، وهي الآن تعمل على إضفاء الشرعيّة عليه، من خلال إجراء الانتخابات في موعدها المحدّد، لكن الضغط الأميركي والأوروبي قد يحول دون إجرائها في موعدها، وقد تبحث روسيا والنظام عن حجّة لتأجيلها، إن زادت الضغوط بخاصّة من طرف إسرائيل. أمّا الولايات المتّحدة الأميركيّة، فإنّها خلال فترة ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب كانت تتخبّط في سياساتها الدوليّة، وأزعجت العديد من دول العالم وخاصّة حلفاءها، أمّا الآن، بعد تولي جو بايدن رئاسة الأميركيّة، فهناك بعض الأريحية للجميع، والمعروف عن بايدن خبرته الطويلة في مضمار السياسة العالميّة ومعرفته بمفاتيح العديد من الأمور، وقد تشهد فترة رئاسته تطوّرات إيجابيّة على مستوى الشرق الأوسط. وهناك أولويّات أميركيّة في السياسة الخارجيّة، مثل الملفّ النووي الإيراني والملفّ الأفغاني والخليجي، ومن الملاحظ أنّ أميركا ستقوم بترتيبات وتكتيكات جديدة، ومن الممكن أن يصبح الملفّ السوري من الملفّات الإستراتيجيّة في الخطّط الأميركيّة القادمة، ويظهر ذلك جليًّا في بقاء قوّاتها في سورية وتصريحات مسؤوليها بأنّ للإدارة الأميركيّة توجّهات جديدة في الشأن السوري.

وفي النهاية، يمكننا التأكيد أنّ الوضع السوري، بعد عقد من الزمن، لم يبقَ يتحمّل المماطلة والتأجيل، خاصّة أنّ الوضع الاقتصادي في تدهور كبير، وقد تنهار جميع مؤسّسات الدولة إن استمرّت الحال على هي عليه، وإن لم يتّجه الملفّ السوري نحو الحلحلة، بعد أن أنهكت الأزمة الجميع. باعتقادي الحلول النهائيّة ليست بيد السوريّين لا المعارضة ولا النظام، فهما أصبحا أجندات للخارج، وهذا ما أرادته الدول الكبرى، بحيث تتنازل الأطراف السوريّة عن مطالبها ويبقى رسم سياسة ونظام حكم جديد لسورية حسب رؤية هذه الدول بخاصّة أميركا وحلفائها وكذلك روسيا ومن خلفهم إسرائيل.

بسام طبلية: سيناريوهات للخروج من هذا الاستعصاء

بعد استمرار اغتصاب نظام آل الأسد للسلطة في سورية، وممارسة سياسيّة التصحّر الفكري والسياسي والاقتصادي، واعتبار سورية مزرعة لهم، وبعد كلّ هذا الفقر والجوع؛ كان لا بدّ لثورة الحرّيّة والكرامة أن ترى النور في آذار/ مارس 2011، فكانت الجماهير الغفيرة تشارك في التظاهرات، حيث خرج الناس في المدن وشاركوا وساندوا هذه التظاهرات، ولكن سرعان ما بدأ القمع والقتل بالرصاص الحي، لإسكات المتظاهرين وتكميم الأفواه، وكان القتل سيدَ الموقف لأشهر معدودة، بحصيلة يوميّة لا تقلّ عن مئة شهيد يوميًّا، وعندما أدرك الأسد أنّ نظام حكمه ساقط لا محالة؛ عمد مباشرة إلى نشر السلاح بيد المدنيّين وافتعال الجرائم وإخافة الأقلّيّات بوساطة عناصر مؤيدين له، وبافتعال التفجيرات والتصريحات الطائفيّة، إضافة إلى استقدام الإسلاميّين من دول عربيّة، مثل تونس وليبيا وغيرها (ذلك تمّ توثيقه من قبلنا) ومصادرة جوازات سفرهم واعتقالهم من على الحدود، عندما استقدمهم هو بنفسه، لكي يُظهر للعالم أنّه يحارب الإسلاميّين الإرهابيّين، إضافة إلى الاعتقال غير القانوني والإخفاء القسري لعشرات الآلاف من السوريّين، وفي ظلّ هذا الوضع، بدأ نظام الأسد بخسارة الأرض، وخسارة كثير من الرماديّين الخائفين على مصيرهم ومصير أولادهم، بسبب آلة البطش والقمع. لكن مع تدخّل روسيا عسكريًّا واتباعها سياسة الأرض المحروقة، ومع دعم الميليشيات الشيعيّة بشكلٍ أكبر، بدأت موازين القوى العسكريّة تتغيّر لمصلحة النظام، فبعد أن كان النظام آيلًا للسقوط خلال أسبوعين، كما ذكرت التصريحات الروسيّة والإيرانيّة، وبعد أن كانت المعارضة تسيطر على أكثر من 70% من الأراضي السوريّة، بدأ التفوق العسكري الروسي – الإيراني يتّجه لمصلحتهم وليس لمصلحة النظام، ما جعل الأخير يبدو في موقف التابع للإملاءات الروسيّة الإيرانيّة من دون أن يحاول تقديم تنازلات سياسيّة لشعبه، حيث آثر تقديم هذه التنازلات لمصلحة الجيوش الأجنبيّة بدلًا من تقديمها لشعبه، وفي ظلّ هذا الوضع المستعصي، مع وجود الجيشين الأميركي الداعم لقوّات سوريا الديمقراطيّة، وكذلك وجود الجيش التركي الداعم للجيش الوطني الحرّ، يبقى الأمر مستعصيًّا على الحلّ، وتبقى المقترحات التالية هي بعض الحلول الإستراتيجيّة للخروج من هذا الاستعصاء للثورة/ الأزمة السوريّة.

الورقة القانونيّة: العمل على تفعيل الورقة القانونيّة، ومن ضمن ذلك إقامة الدعاوى القانونيّة بمواجهة الأسد ونظامه بما اقترفت أيديهم من جرائم، وإظهار أنّه قد اقترف جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة، بحيث يصبح التعامل مع الأسد وكلّ من يتعامل معه ضمنيًّا يقع ضمن دائرة أنّه إرهابي أو أنّه يدعم الإرهاب، ومن ثم العمل بشكلٍ حثيث على عدم تعويمه أو إعطائه أيّ شرعيّة.

الإعلام: تفعيل الماكينة الإعلاميّة للترويج بأنّ بشار الأسد غير شرعي، وأنّه مجرم حرب ويجب محاكمته. وتأييد الشعب والمطالب الشعبيّة بإعلان أنّ الشعب السوري قال كلمته، بأنّ الأسد غير شرعي ومغتصب للسلطة في نظر السواد الأعظم من الشعب السوري، وأنّ من هم في الداخل السوري من أبناء الشعب ليسوا أحرارًا برأيهم، وهم تحت طائلة الاعتقال وقمع أيّ تحرك شعبي، وقد شاهدنا ذلك أخيرًا من خلال منع الجبهة الوطنيّة التقدّمية (جود)، وهي التي تعدّ الأكثر تراخيًّا في صفوف المعارضة نظرًا لوجودها في الداخل، من إتمام انعقاد مؤتمرها التأسيسي، ومنع ممارسة أبسط الحقوق الشعبيّة في التعبير عن الرأي الذي صانه الدستور السوري كما الدساتير الدوليّة. كذلك على الماكينة الإعلاميّة المعارضة إظهار الوجه الأسود والحقيقي للأسد، خاصّة بعد معاناة الشعب والسرقات التي قام بها هو وأركان نظامه، وفضح هذه السرقات، ومنها المساعدات الإغاثيّة الأمميّة التي تبيّن أنّه يُجيّرها لمصلحة جيشه وميليشيّاته. والتأكيد أنّ الانتخابات إذا ما قام بها الأسد فإنّها ستكون غير شفافة، وبيان أنّ الناخب غير محدّد وغير معروف، خاصّة بعد منح الجنسيّة السوريّة بشكلٍ التفافي لعدد كبير من عناصر الميليشيات الشيعيّة التي كانت تقاتل إلى جانب نظام الأسد، وكذلك لعدم إمكانيّة عقد الانتخابات في جو سليم وصحي، خاصّة أنّ كثيرًا من السوريّين، إمّا بلغوا سنّ 18 سنة وليس لديهم وثائق ثبوتيّة، وإما أنّ مئات الآلاف منهم معتقلون أو متوفون.

لوبي معارض: العمل على تشكيل لوبي يمثّل قوى المعارضة بشكلٍ حقيقي، ليمثّل مصالح الشعب ويتفهم المصالح الدوليّة ومخاوف الدول الأخرى.

جسم واحد ممثّل شرعي للشعب: دعم قوى المعارضة ودفعها إلى تشكيل جسم سياسي جديد يتمّ الاعتراف به كممثّل شرعي جامع لكلّ السوريين. ومن ثمّ دعم شخصيّة غير جدليّة متوافق علها من المعارضة لقيادة المرحلة.

هيئة حكم انتقالي: الإعلان عن تشكيل هيئة الحكم الانتقالي ذات صلاحيّات تنفيذيّة كاملة، تقوم بإعلان دستوري يمكّنها من تولّي شؤون الحكم خلال المرحلة الانتقاليّة، وتعمل على تأمين البيئة الآمنة والمحايدة من أجل سلامة عمليّة الانتقال السياسي. والعمل على تهيئة وخلق البيئة الآمنة التي نصّ عليها القرار الأممي 2254. كذلك العمل على تهيئة وتدريب نظام قضائي جديد (وكذلك شرطة قضائيّة)، يتميّز بالشفافيّة والحياديّة للتخفيف من معاناة الناس من جراء الفوضى التي لحقت بهم.

 تنفيذ القرارات الأمميّة: العمل بشكلٍ منهجي وقانوني على تطبيق القرارات الأمميّة، بما فيها بيان “جنيف1” والقرار 2254.

العدالة الانتقاليّة: العمل على تفعيل مفهوم العدالة الانتقاليّة ومحاسبة المجرمين من كلا الطرفين.

ويبقى الباب مفتوحًا للعديد من الاقتراحات والحلول، باعتبار الظروف السياسيّة غير مستقرّة ومتغيّرة. ولأنّ الشعب هو من يدفع الثمن الأكبر في هذه الظروف، تبقى الولايات المتّحدة هي الدافع الحقيقي لأيّ حلّ تريده، ذلك أنّ كثيرًا من دول العالم تقف جنبًا إلى جنب مع أيّ حلّ تقترحه الإدارة الأميركية. ويبقى على أهلنا في الداخل أن يقفوا اليوم موقف الرجل الواحد، ضدّ هذا النظام الذي هرّب الأموال إلى روسيا وغيرها من الدول، تاركًا الشعب يَئِنُّ من الجوع والفقر، حيث وصل أكثر من 85 % من الشعب السوري إلى دون خط الفقر. فالموقف الثوري والشعبي والدعم الأميركي هو الحلّ الأمثل لإنهاء هذه المأساة الإنسانيّة التي لم يشهد العالم مثيلًا لها منذ الحرب العالميّة الثانية.

مرح البقاعي: علينا كسوريّين أفرادًا ومؤسّسات تكثيف التواصل مع الإدارة الأميركيّة

أرغب بداية في الإجابة على سؤالك بطريقة غير تقليديّة، بأن أسأل من جديد: ما هي جاهزيّة السوريّين، بقواهم السياسيّة والمدنيّة الفاعلة التي تتصدّر واجهة الحراك الآن، لمواجهة الاستحقاقات السياسيّة التي تقف وراء الأبواب والحؤول دون تكرار المشهد الهزلي للانتخابات الرئاسيّة التي جرت في العام 2014 ودفعنا ثمنها غاليًا ست سنوات أضيفت إلى ما قبلها من عجاف، لتدخل الثورة الشعبيّة السوريّة الماجدة في عامها الحادي عشر دون التقدّم بجدّيّة نحو انتقال سياسي حقيقي بإرادة سوريّة تدعمها القرارات الأمميّة النافذة؟!

سأترك الإجابة عن هذا السؤال لكلّ سوري أسهم في الثورة بقطرة دم أو حبر، لأرسم من جديد خارطة طريق للانتقال السياسي في سورية باتّجاه دولته الجديدة المنشودة، الدولة الديمقراطيّة المدنيّة التعدّدية، دولة القانون والمواطنة المتساوية؛ بينما سأحاول أن أضع آليّات لتكون الخارطة أقرب إلى التطبيق منها إلى حلم طوباوي طال على السوريّين وصار من الحتمي أن يتحوّل إلى واقع.

علينا أن نعترف أنّ الدفة الدوليّة، الإقليميّة منها، لا تسير بما تشتهي إرادة السوريّين وطموحاتهم. فالخلافات البينيّة بين دول الخليج الداعمة بكُلّيّتها للثورة السوريّة أصابت المسار السوري بالوهن، وجزّأت المجزّأ أصلًا من المواقف في صفوف المعارضة السياسيّة التي اضطّرّت إلى أن تصطف في بعض الأحيان بما يتماشى الجهة الداعمة بعينها ومراعاة أجنداتها السياسيّة؛ وقد كانت قمة (العلا) في المملكة العربيّة السعوديّة، التي رأبت الصدع الخليجي بصورة مقبولة، فرصةً للمعارضة السوريّة لتستعيد وحدة كلمتها، ولا أعرف في الحقيقة كم تمكّنت تلك المؤسّسات السوريّة الثوريّة من قراءة المشهد الخليجي التصالحي والإفادة منه بعد طول انقسام.

أما على المستوى الأميركي الذي يلتحق به الأوروبي، فموقف الولايات المتّحدة لم يتغيّر من دعم غير مشروط للتغيير السياسي في سورية بيد أبنائها، وظلّ يحتفظ بآليّاته في الدعم الإنساني والسياسي على اختلاف الإدارات التي واكبت سنوات الثورة السوريّة العشر. في شهر نيسان/ أبريل الجاري، تترأس الولايات المتّحدة مجلس الأمن، وعلى جميع السوريّين المنخرطين في العمليّة السياسيّة، أفرادًا ومؤسّسات، أن يكثفوا التواصل مع الإدارة الأميركيّة من أجل دفع عجلة تنفيذ القرار الأممي رقم 2254 الذي طال انتظار تنفيذه، من خلال موقعها الرئاسي في المجلس، الذي يمتدّ على ثلاثين يومًا هي كافية للعمل على تنفيذ قرار اتّخذه المجلس بالإجماع منذ أعوام. ولا بدّ من تشجيع الولايات المتّحدة على المضي في رسم توافقات مع الدولة الروسيّة، من أجل التأسيس لثوابت الانتقال السياسي الذي ليس مرفوضًا في جوهره كلّيًّا من موسكو. وهذه فرصة لحث الدولتين الكبريين الفاعلتين على الأرض السوريّة وفي المحافل الدوليّة من أجل الدفع بالعجلة السياسيّة قدمًا نحو سورية ما بعد الاستبداد.

ولن ننسى في هذا المقام ارتباط العقوبات الاقتصاديّة التي أقرّتها الولايات المتّحدة وتنفيذ واشنطن لها بحزم على الحكومتين في آن في موسكو وحكومة الأسد في دمشق، وأنّ إعادة بناء الاقتصاد السوري المنهار وفتح الطريق لعمليّة إعادة الإعمار في سورية (وستكون من أوسع العمليّات وأعلاها تكلفة ما بعد الحرب منذ الحرب العالميّة الثانية) لن تتمّ إلّا بعد وصول هيئة حكم انتقالي تحمل دستورًا جديدًا للبلاد، يؤسّس لبناء دولة مدنيّة دستوريّة تقوم على مبدأ المواطنة والديمقراطيّة وسيادة القانون. وهذا قرار أميركي وأوروبي لا تراجع عنه البتّة.

خارطة طريق السوريّين واضحة، والوثائق التي أنتجوها منذ انطلاقهم في ثورتهم تعدّ بالمئات، وكلّها تجتمع في حزم متقاربة تحدّد محاور الانتقال السياسي. أمّا تنفيذ خارطة الطريق لسورية فهو مهمّة لا تقوى عليها حكومة، ولا قوّة سياسيّة منفردة، بل إنّه واجب وفرض عين يجب أن يتحمّله الجميع.  والتغيير القادم سيستهدف بناء الإنسان السوري الذي يمتلك مقوّمات وأدوات الفعل والإبداع كافّة، وقد أثبت ريادته وتميّزه في دول الانتشار بعد أن تمّ تهجيره قسرًا إلى أصقاع الأرض. من هنا، لن يكون الانتقال السياسي وإعادة بناء سورية الجديدة بمنأى عن عودة اللاجئين للإسهام في إحياء روح وجسد بلدهم الذي مزّقته الحرب والأطماع. وهذا الأمر يندرج ضمن ثوابت الأمم المتّحدة في حقّ اللاجئين بالعودة المشروطة بـ “الآمنة والطوعيّة والكريمة”، إلى مسقط رأسهم. أما العدالة والمساواة فهي حقوق أصيلة لكلّ مواطن، وهي منح من الله، وليست من الأمم والبشر، ولا تمييز في هذه الحقوق بسبب المعتقد أو الجنس أو اللون، على ألّا تجور حرّيّة الفرد على حقّ من حقوق الآخرين أو حقوق المجتمع ككلّ.

إنّ تحقيق العدل والمساواة هو الهدف النهائي للديمقراطيّة في النظام السياسي الجديد المرتجى لسورية، وهو أمرٌ يتطلّب مساءلة ومحاسبة كلّ من ارتكب جرمًا بحقّ الشعب السوري، وأهدر الحقّ السوري العامّ، أو ألحق الضرر بالمدنيّين في حياتهم واستقرارهم ومنشآتهم الحيويّة. وهذا الأمرُ يتطلّب المثابرة على جمع الوثائق التي تدين كلّ من تلطخت يداه بالدم السوري أو بالفساد المالي، استعدادًا لإحالته إلى هيئات قضاء عادلة ومراقبة. فدون تحقيق العدالة ومحاسبة المعتدين لن يكون هناك سلم أهليّ مستدام في سورية، ولن تكون سورية دولة مستقرّة تؤمن عيشًا آمنًا لأبنائها، يشجّعهم على العودة من مواقع اللجوء والمغتربات إلى وطنهم الأمّ.

وممّا لا شكّ فيه أنّ وقوع سورية في براثن الاحتلالات الأجنبيّة العسكريّة لقوّات نظاميّة أو ميليشياويّة خارجة عن القانون، يؤخّر التوصّل إلى إصلاح ذات البين بين السوريّين أوّلًا، ويعقّد المساعي الدوليّة للإسراع في إخراج سورية والسوريّين من هذا النفق المظلم، بسبب تضارب مصالح المحتلّ التي ساحتها سورية. هذه الاحتلالات (ويتقدّمها احتلال أجهزة الأمن والقمع التي تشكّل بنيان دولة الاستبداد في سورية، والتي تكاد تنافس في عداوتها للشعب السوري الاحتلالات الأجنبيّة مجتمعة) هي من يعرقل كلّ محاولة للتقدّم نحو التغيير السياسي والدستوري الحقيقي الذي يشكّل نقطة الانطلاق للتغيير الأشمل ولتمكين الحياة الديمقراطيّة جوهر الإصلاح السياسي، والسبيل الأقصر والأضمن لتحقيق المصلحة الشعبيّة العامّة، حتّى لا يستبد فرد أو فئة بالتصرف في الأمور العامّة التي تتأثر بها مصالح السوريّين العليا. ومن نافلة القول أنّ القوى المتداخلة في سورية تمنع، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، إطلاق المشروع الوطني السياسي والدستوري، وتحاول أن تفرض نموذجًا سياسيًّا بديلًا لا يراعي خصوصيّة المجتمع السوري، ولا يقيم وزنًا لتاريخه السياسي ونضاله الوطني والديمقراطي. ومن هنا يأتي دور النخب السياسيّة من أبناء الثورة لقيادة مشروع مضادّ لانتهازيّات الدول وتناحرها، بهدف إحباط كلّ ما يشكّل تهديدًا على مصالحها البعيدة المدى على الأرض السوريّة.

 أومن بقوّة أنّ بذور الثورة التي نثرها شبابها وشابّاتها في آذار/ مارس 2011، على تربتها الندية والمخضبة بدماء من سقطوا منهم برصاص صنّاع الغدر والموت في أجهزة النظام السوري، لا بدّ من أن تنبت، ولو استعصت عليها الأرض لحين. وأنّ الانتقال السياسي إلى دولة سوريّة تشبه حضاراتها التي عاشتها على مدى آلاف السنين ليس بالبعيد ولو تأخر. ليست كلماتي بمسكّن آلام مؤقّت، ولا حالة من الوهم أو الهروب أو العمى عن الواقع المعاش، بل هو حقيقة نسجها الشعب السوري بأصابعه المغمّسة بالنار، وصوته المبحوح بالغصّة، وهدير مراكبه تجنح في بحار العالم بحثًا عن ملاذ لا يسقط فيه سقف بيت على رأسه، ولا يساق إلى غياهب المعتقلات، لأنّه طالب بحقٍّ إنساني أساسي تكفله كلّ الشرائع السماويّة والقوانين الوضعيّة: الحرّيّة والكرامة والعدالة الإنسانيّة. وإنّ غدًا لناظره قريب.

د. محمد الأحمد: لا طريق أمام السوريّين الثوريّين إلّا خلق عصبة وطنيّة قويّة جديدة

بلادنا مفتوحة على مجموعة احتمالات في الحقيقة، فالمعادلة السوريّة صارت (معادلة المركز والأطراف)، وهي تعني أنّ مصدر الأزمات الأوّل (النظام) يولّد مصادر أزمات أخرى، وهي الأطراف (سورية الشماليّة الشرقيّة) و(سورية الشماليّة الغربيّة) وربّما (سورية الجنوبيّة)، فكلّما تأخر الحلّ والتغيير السياسي في دمشق، تأخر لا أمر الأطراف وتعقّد، وإذا طال الزمن فقد تصبح الكيانات التي عدّدناها مستقلّةً عن دمشق أو مرتبطة بها اسمّيًا فقط.

من الواضح أنّ معسكر النظام وإيران و”حزب الله” اتّخذ قراره، بعدم التخلّي عن الممرّ العسكري (طهران – بيروت) لكنّه لا يملك الثمن المالي لهذه الرغبة، إلّا أنّنا، من هذه الجزئيّة بالتحديد، نرى الطلاق القادم، الذي سيعلن بين الروس والإيرانيّين في سورية، فللروس حسابات مختلفة، ممّا يفسر زيارات سيرغي لافروف للخليج، والإعلان عن مسارات تعاون جديدة تستبدل آستانا، فروسيا لا يهمّها الممرّ العسكري، بل هي تعمل للتخلّص منه، ولكن بالنفس الطويل. بالنسبة إلى العمليّة الداخليّة، لا نرى أنّ الروس سيقبلون باستمرار “الستاتيكو” (الوضع القائم) الداخلي كما هو، لأنّ الأمر مكلف لهم! مكلف ماليًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا. حيث يحتاج النظام، لكي يستمرّ، إلى خمسين مليون دولار كلّ أسبوع. بعض الأصدقاء من الوزراء السابقين ممّن يعرف بواطن الأمور قال: النظام يحتاج إلى مئة مليون دولار في الأسبوع، إن أراد أن يعيد جزءًا بسيطًا من عمل الدولة الإنتاجي والمرفقي والحكومي، وإبقاء سعر معقول لليرة. ومن هنا، يجب التفكير، فحتّى لو حصلت المسرحيّة الانتخابيّة، فإنّ استمرار “الستاتيكو” مستحيل. لذلك يحاول الروس إحداث زواج خصوم في سورية -لكسر “الستاتيكو”- ولكنّنا لا نعرف عروسًا -عليها القيمة- في الضفة الثوريّة تقبل بالنظام كزوج. إلّا أنّ هناك أطرافًا عربيّة تريد هذا التعويم، خوفًا من الإخوان المسلمين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهي لا تقبل أن يُحقّق الطرف الإخواني أيّ انتصار قرب حدودها، وبما أنّ الإخوان المسلمين لا يريدون فهم المعادلة القديمة الجديدة، التي تقول إنّ حربهم من أجل السلطة في سورية ساعدت إلى حدّ كبير في دعم بشار الأسد. ومن ناحية أخرى أساسيّة لا طريق أمام السوريّين الثوريّين إلّا خلق عصبة وطنيّة قويّة جديدة، وانتخاب قيادات قادرة، والتعلّم من أخطاء الماضي، وهذا سيغيّر الكثير.  

جوان يوسف: السيناريو المفقود وأطراف الحلّ في سورية

على الرغم من مرور عقد من الزمن على الأزمة السوريّة، فإنّ أطراف الحلّ الحقيقيّين ما زالوا مجهوليّ الهويّة، تعدّدت المسارات وتغيّرت الأطراف وتجدّدت التحالفات؛ ولكن حتّى الآن لا يبدو واضحًا من هي أطراف الحلّ السياسي، أهي مجموعة سوتشي وآستانا، أم أطراف المعارضة والنظام، أم مسار جنيف، أم الأميركان؟ الكلّ له دور وشأن مهمّ في مسار الحلّ السوري، ولكن لا أحد يستطيع التكهّن حتّى الآن من الذي يسعى إلى حلّ جدّي يرضي الأطراف، ومن يريد أن يستمرّ الوضع على ما هو عليه، في حالة اللَّا حلّ، بالرغم من أنّ الجميع اتفقوا وتوافقوا منذ زمن أنّ الحلّ في سورية هو حلّ سياسي.

إذن، يمكن القول إنّ هناك ثلاثة أطراف رئيسة تتحكّم في المشهد السوري: الأوّل يريد إطالة أمد الحرب في سورية إلى أن تتحقّق مصالحه، تلك الموزعة بين مصالح اقتصاديّة وجيوسياسيّة؛ والثاني جعل من سورية ملعبًا لتصفية الحسابات مع خصومه، ولا ننسى ذاك الطرف الذي يدير الأزمة لأهداف إستراتيجيّة موجودة على جدول أعماله، لكنّها لم تنضج وما تزال بعيدة المنال.

أيًّا يكن، فإنّ النهاية ما زالت بعيدة، وظروف الحرب ما تزال مرجّحة -وإن كانت أقلّ عنفًا- على شروط الحلّ السياسي الذي يبدو حتّى الآن ترفًا يوميًّا لجميع الأطراف، بالطبع باستثناء المواطن السوري صاحب المصلحة، وهذا الاستنتاج ليس اختراعًا ولا إبداعًا من وحي الخيال، وإنّما من واقع وجود مصالح لأطراف متعدّدة ومتداخلة في الأزمة السوريّة، لم تحقّق أيّ منها أهدافها حتّى الآن، بل إنّ مصالحها حتّى هذه اللحظة محل تكهّنات، باستثناء أطراف الصراع الأساسيّة، على الأقلّ شكلًا، المعارضة والنظام الذي يبدو واضحًا أنّ المسألة بينهما مسألة وجود، وبالتالي لا تدخل في سياق الحلّ السياسي. في ظلّ هذه التعقيدات، سؤال الحلّ يستتبع جملة من التساؤلات: هل سيستمرّ الوضع في سورية إلى ما لا نهاية في حالة اللَّا حلّ؟ غالبًا لا، لكنّ التاريخ يخبرنا أيضًا أنّ الحروب الأهليّة استمرّت عقودًا طويلة، ومنها الحرب الأهليّة في السودان التي استمرّت خمسين عامًا، قبل أن تنتهي باستقلال جنوب السودان عام 2011، صحيح أنّ أمر السودان مختلف قليلًا عن سورية، لكنّها تحمل التركة نفسها، صراعات طائفيّة وقوميّة وإقليميّة وسلطويّة هي ذاتها التي حكمت الحرب الأهليّة في السودان نصف قرن. وبالعودة إلى السؤال الرئيسي المطروح حول الحلول الإستراتيجيّة، بعد فشل العمليّة السياسيّة والقفز على القرارات الدوليّة، نجد أن المتابع لا يحتاج إلى كثير من الذكاء والحصافة ليقول: إنّ حوامل جنيف وسوتشي وآستانا لا تحمل أيّ مقوّمات للحلّ السياسي في سورية، لأنّ أيّ حلّ سياسي أو حتّى تسوية يجب أن تتمثّل فيها مصالح الأطراف كلّها، وتكون الأطراف الفاعلة مشاركة في هندستها، وإلّا أصبح الأمر عبثًا أو في أحسن الأحوال سوف يؤدّي إلى تجديد الصراع بتحالفات وقوى جديدة، والكلّ يعلم أنّ الحوامل السابقة ينقصها أهمّ ثالث مكوّن عسكري وسياسي في سورية، وهي الإدارة الذاتيّة وقوّات سوريا الديمقراطيّة.

في مشهد الصراع:

لا شكّ في أنّ روسيا لن ترضى بالبعد الإسلامي  للنظام القادم، ولن تقبل بنظام لا يضمن مصالحها، وخاصّة في ما يتعلّق بحمولة الحرب التي تحمّلتها، وأنّ تركيا لن تقبل بنفوذ كردي -ولو كان على شكل لامركزيّة إداريّة- ضمن مناطق تواجدها، وإيران لن تقبل بنظام يقطع خطوط إمدادها مع “حزب الله” أو يقطع عليها طريق ثورتها الشيعيّة، والسعوديّة لن تقبل بنظام موال لتركيا، فهي تخشى من تضخم وزن تركيا على حساب مركزها ومرجعيّتها في قيادة السنّة، والسنّة لن يقبلوا بنظام يقوده العلويّة (على حدِّ تعبيرهم) والنظام (العلوي) لن يقبل بالتخلّي عن الحقوق المكتسبة خلال نصف قرن، وتركيا الأكثر فاعليّة بالملفّ السوري لن تتخلّى عن حلمها بإعادة ولاية حلب إلى جغرافيّتها، أو على الأقلّ بنظام يكون خارج عباءتها الأيديولوجيّة والسياسيّة، وهو الأخطر من ضمن كلّ المشاريع السابقة.

تبقى أميركا التي أعلنت مرارًا أنّ جهودها تتركّز على أمرين: الأول مواجهة النفوذ الإيراني وتعطيل ممرّها البرّي الذي يربط بين إيران ولبنان؛ والثاني منع عودة ظهور التنظيمات المتطرّفة مثل الدولة الإسلاميّة (داعش) والقاعدة، وأعتقد أنّ ذلك ما هو معلن من الإستراتيجيّة الأميركيّة، أمّا ما هو مستتر وغير معلن، فإنّها تريد لها قاعدة ثابتة في سورية والعراق اللتين كانتا حتّى وقت قريب مناطق نفوذ روسيّة، وأهمّ مستوردي السلاح منها، وأهمّ خصمين إستراتيجيّين من حيث الإمكانات البشريّة والجغرافيّة لإسرائيل، لذلك لن تسمح لروسيا باستعادة موقعها مجدّدًا. أمام كلّ هذه التناقضات، يبدو أنّ الخيار الأفضل وبشكلٍ خاصّ للولايات المتّحدة الأميركيّة، على المدى المنظور، أن يبقى الوضع معلقًا، إلى أن يستوي الجميع وبشكلٍ خاصّ تركيا، عندها يصبح الحلّ مستندًا إلى قرار مجلس الأمن 2254، بوجود كلّ أطراف الصراع الداخليّة، مع تعديلات تسمح بوجود ثلاثة أقاليم مع شرعنة أمميّة للوجود الروسي والتركي والأميركي، كلٌّ في منطقة نفوذه الحاليّة.

خالد قنوت: استمرار المدّ الشعبي الثوري بعد عشر سنوات من عمر الثورة

بالتدقيق في صيغة الأسئلة المطروحة، ولتقديم إجابات علميّة واقعيّة كحلول إستراتيجيّة للأزمة السوريّة، أعتقد أنّنا أمام تحديد صورة شاملة للوضع العامّ دون الخوض في التفاصيل، وهي لا تقلّ أهمّيّة في رسم الإستراتيجيّات:

في الجانب المظلم من الصورة:

1- سورية مقسّمة بين خمس دول، وتحت سطوة قوّة نظامٍ لم يفقد كلّ أوراقه بعد، ووجود ميليشيات حليفة للنظام وأخرى معادية له، كلّ تلك القوى تشكّل حاميًا ظرفيًا لبعض المكوّنات السوريّة بشكلٍ أو بآخر، ولكن جميعها بالمحصّلة معادٍ لكامل الشعب السوري ولكينونة الدولة الوطنيّة السوريّة.

2- انهيار اقتصادي عامّ وشامل، حتّى في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، قد يتّجه بالبلد نحو المجاعة. وما التحوّلات الديموغرافيّة التي ترافق الارتباطات الاقتصاديّة في ظلّ غياب الدولة الوطنيّة، إلّا إسقاط عامّ لسياسة (الجوع أو الركوع) التي تمارسها كلّ القوى العسكريّة القائمة على المكوّنات السوريّة التي تعيش تحت سطوتها، اليوم.

3- ظهور مشاريع لا وطنيّة على مساحات متفاوتة على الأرض السوريّة، كمشاريع انفصاليّة أو تابعيّة بالعقيدة الدينيّة أو المذهبيّة لدول إقليميّة ذات إستراتيجيّات عابرة لحدودها وجميعها يتحدّث بوحدة الوطن السوري.

4- بقاء النظام بالشكل وبالوظيفة والمحافظة عليه، دوليًّا، كنوع من تشريع لوجود الاحتلالات.

5- تأجيل طرح إستراتيجيّة أميركيّة سياسيّة وعسكريّة من قبل إدارة الرئيس جو بايدن الجديدة، بسبب عوامل داخليّة، وأخرى تتعلّق بتنفيذ أو تحديث لسياسة الرئيس الأسبق باراك أوباما في سورية والمنطقة في ظلّ التوازنات الجديدة التي لم تكن بعيدة عن تحكّم الإدارة الأميركيّة بها وبمساراتها.

في الجانب المشرق من الصورة:

1- قناعة وطنيّة تدرجيّة وشبه عامّة بحتميّة تجاوز محنة انحسار الحراك الشعبي الوطني، ودراسة أسباب فشله والإيمان العامّ بضرورة التفكير ثمّ القيام بعمل ما تجاه سورية كوطن، بالرغم من الشعور العامّ بالعجز وبتواضع حجم التأثير في ميزان القوى السياسيّة على الأرض السوريّة.

2- تصوّر عامّ بمحدوديّة أيّ طرح سياسي غير وطني للحلّ في سورية، بعد سقوط أو إسقاط أو استبعاد للنظام، كطرح أيديولوجيّات دينيّة أو قومجيّة أو يساريّة أثبتت فشلها على مستوى العالم، والبحث عن طرح وطني فوق الأيديولوجيّات نحو بناء الدولة الوطنيّة.

3- استمرار المدّ الشعبي الثوري بعد عشر سنوات من عمر الثورة الشعبيّة، والتأكيد على وحدة الشعب السوري وانتماء مكوّناته المتعدّدة إلى قضيّة وطنيّة جامعة، وعلى استعادة شعارات السنوات الأولى التي كانت مددًا كبيرًا على امتداد الوطن حتّى في مواقع النظام الحصينة.

في السياق، يمكننا أن نحدّد موقفًا من التحضير للانتخابات الرئاسيّة السوريّة التي لم يُقِم لها المواطن السوري -على صعيد فردي- منذ خمسين سنة من حكم الأسديّة أيّ قيمة، حيث كانت استفتاءات شكليّة تترافق مع حالة قسريّة تجاه المواطن المسلوب الإرادة، في ظلّ قبضة أمنيّة وحشيّة لا طاقة للمواطن الفرد لرفضها. أما على الصعيد الدولي، فقد كانت الانتخابات طوال عقود تأكيدًا لشرعيّة النظام، كنظام خدماتي يقوم تحت ستار الشعارات القوميّة بتحقيق ما لا تريد الدول الفاعلة تحقيقه بوسائلها، كالتدخّل في لبنان، والقضاء على الوجود الفلسطيني في مواجهة إسرائيل، وكذلك في تدمير العراق، وفي استبعاد دور مصري في قضايا عربيّة مصيريّة وغيرها، وهو ما أفضى بتلك القوى إلى الاعتراف بوراثة رأس النظام الحالي لا بل قدّمت له الدعم بكلّ أشكاله، وقتها.

في الوقت الحالي، ربّما قد تغيّرت الصورة، ولم يعد العالم يقبل بهذا النوع من الصورة النمطيّة للدكتاتور الدموي في العالم، فأعربت بعض الدول عن عدم اعترافها رسميًّا بالانتخابات الرئاسيّة السوريّة القادمة إلّا ضمن شروط ضبابيّة بعض الشيء، مع الاقتناع الكامل أنّ المنظومة الدوليّة ستقبل بتغيير في رأس النظام، ولكنّها لا تريد تغيير شكل النظام وهيكليّته الأساسيّة كنظام خدماتي في مراحل مستقبليّة. وما القرارات الدوليّة مثل 2254 إلّا قرارات حمّالة أوجه وتفسيرات متعلّقة بالتسويّات النهائيّة وبثقل كلّ طرف من أطراف النزاع على سورية.

إنّ للإصرار الروسي والإيراني على قيام الانتخابات الرئاسيّة السوريّة، والروسي تحديدًا، أسبابه الجيوسياسيّة والاقتصاديّة: الجيوسياسيّة تتمثّل في توفير غطاء سياسي شرعي للتواجد العسكري لقوّات البلدين، ولنتذكّر أنّ الانتخابات السابقة لم يكن رأس النظام يحتاج إليها، لأنّ الدستور السوري يمنح البرلمان (المدجّن) حقّ التجديد أو تأجيل الانتخابات في حالة الحرب، لكنّ الإدارة الروسيّة هي من أصرّت على قيامها، لتقدّم للعالم صكّ تدخّلها العسكري ثمّ سيطرتها على سورية؛ والاقتصاديّة، بحكم أنّهما قد استثمرتا في سورية الكثير خلال الحرب، ولم تصلا بعد إلى جني أرباح تلك الاستثمارات، مع كلّ عقود البيع والتأجير التي وقّعها رأس النظام لهما، فهما يعرفان أنّ هذه العقود تسقط في حال سقوط الشرعيّة عن موقعها.

بالعودة لسؤال الحلول الإستراتيجيّة للأزمة السوريّة، يمكن أن نقول بالمطلق إنّ كلّ الإستراتيجيّات المطروحة هي ليست حلولًا، بل هي إستراتيجيّات تصبّ في غير المصالح الوطنيّة السوريّة، لسبب جوهري وهو غياب الوزن الوطني السوري في صناعتها، وبسبب تعقيدات وتضارب مصالح الدول الفاعلة في الأزمة السوريّة، وجميعها تملك قوّات عسكريّة وحلفاء وميليشيات تقاتل من أجلها ومعها. في الإستراتيجيّات المحتملة، هناك سيناريوهات عدّة، قد نجد في بعضها نوعًا من الحلول الاقتصاديّة الحياتيّة، وبعض الأشكال الزائفة من الحرّيّات السياسيّة، ولكنّها بالمحصّلة تعني أنّنا -السوريّين- تحت احتلال متعدّد تحكمنا مصالح الدول، وربّما سنكون لزمن طويل وقود حروب دينيّة ومذهبيّة وإثنيّة، حتّى نضالنا الوطني للتحرّر سيتطلّب عقودًا دمويّة طويلة وربّما لأجيال.

إنّ أفضل سيناريو (لا وطني)، في هذه الحالة، هو سيناريو توافق روسي – أميركي، يكون أساسه تغيير في رأس النظام أو تنحيته، والمحافظة على البنية الأمنيّة الحاليّة بشكلٍ أقلّ عنفًا، وبترتيبات طائفيّة وإثنيّة لمناصب الدولة كمحاصصات على الشكل العراقي أو اللبناني، يثبت حالة استحواذ روسي على مناطق شاسعة من سورية، ووجود رمزي أميركي، وإبعاد الميليشيات الإيرانيّة عن الحدود الجنوبيّة مع الجولان المحتلّ، وإدارة أمنيّة لتركيا في الشمال السوري، والاعتراف بإسرائيل في مراحل مستقبليّة، حيث يكون هناك تمثيل صوري لبعض شخصيّات المعارضة المرتزقة في النظام الجديد.

إنّ قبول السوريّين بحلول إستراتيجيّة لأزمتهم الوطنيّة بغيابهم، يعني تسويفًا لحلّ أزماتهم الوطنيّة، والردّ عليها يكون بالعلم والعمل الوطني. إنّ قانون نفي النفي في الديالكتيك يقدّم للسوريّين سيناريو لإستراتيجيّة وطنيّة ممكنة وقابلة للتحقّق، إذا توفرت الإرادات ويتلخّص بالنقاط التالية:

1- العودة للأهداف والشعارات الإنسانيّة والوطنيّة الأوّليّة للانتفاضة، وتقديم خطاب وطني جامع لكلّ السوريّين.

2- العمل على التخطيط لثورة وطنيّة تحرّرية للإنسان الفرد وللوطن، بوسائل مؤسّساتيّة حديثة ومتجدّدة وبخبرات تراكمية.

3- إسقاط كلّ العلائق والمرتزقة وموروثات الاستبداد.

4- تحديد الأولويّات والمسؤوليّات والتحالفات والتمويل البشري والمالي الوطني، والعمل (السياسي والاجتماعي والعسكري) المتدرج التصاعدي (السري والعلني)، نحو هدفين إستراتيجيّين: تحرير سورية كعمل مشروع بنصوص الأمم المتّحدة، وبناء دولة المواطنة العادلة الديمقراطيّة ضمن حدودها الوطنيّة، وهذا حقّ إنساني مطلق.

فاروق حجّي مصطفى: مقبلون على التغيير من رحم القرار الأممي لا غير

قبل أيّام، قرأنا تصريحًا صدر عن مسؤولين أميركان، مفاده أنّ “النظام فشل في استعادة شرعيّته، بأعيننا”، وقرأنا “أنّنا لا نستهدف تغيير هندسة الحكم”. وقبل هذا التصريح، ثمّة أمر قائم وفاعل ويؤثّر بشكلٍ غير متوقّع في مجريات الوقائع، ولعل هذا الأمر هو “العقوبات” أو “قانون قيصر”. ولا أظن أنّ هناك سيناريو أقوى من سيناريو القرار الأممي 2254، وهو السيناريو الوحيد الذي يمكن أن يسهم في التغيير المنشود، ولو أنه يسير ببطء. وأعتقد أنّ هذا القرار الأممي هو الذي يسدُّ الطريق على شرعيّة انتخاب بشار الأسد، وهو الذي سيكون مدخلًا في إحداث التغيير الجذري في بنيان الحكم وشكل الدولة.

إن جمود العمليّة السياسيّة لا يعني قطّ أنّ العمليّة فشلت؛ فالعمليّة قائمة ولو بشكلٍ خجول، ما هو خطأ، اختزال وارتهان كلّ العمليّة التفاوضيّة بالعمليّة الدستوريّة، مع أنّه لا يمكن للأخيرة أن تنجح دون تفعيل كامل مسارات العمليّة التفاوضيّة. كذلك لا يمكن للعمليّة التفاوضيّة السياسيّة أن تنجح دون إجراء التغيير في شكل ومحتوى المفاوضات. وأعتقد أنّنا أمام استحقاق تفعيل العمليّة السياسيّة التفاوضيّة، بطريقةٍ أخرى، أي أنّ العمليّة برمّتها تحتاج إلى الإصلاح، ولعل أوّل خطوة هي توسيع هيئة التفاوض السوريّة، وتضمين كلّ الأطراف والمكوّنات في العمليّة التفاوضيّة.

الخطوة الثانية هي تحرير العمليّة التفاوضيّة من الإطار النخبوي أو المركزي. وإلى جانب هذا الفعل التفاوضي في جنيف، يجب أن تكون العمليّة شاقوليّة، أقصد انخراط كلّ القوى والفعاليّات في هذه العمليّة، لتأخذ الشرعيّة أكثر، وأيضًا تسحب قضيّة الناس من يد بضعة أشخاص يتعاملون مع القضايا بمزاجيّة شخصيّة حينًا وبمقاربة المصالح غير السوريّة حينًا آخر. لذلك أرى أنّ الإفادات الأميركيّة الأخيرة هي الأقوى، وهي رسالة واضحة، ولا تشبه حتّى رسالة أميركا للنظام السوري ما بعد سقوط صدام حسين (مطالب كولن باول)، حينذاك طرح الأميركان مبدأ “التغيير في سلوك النظام “، واليوم الأميركان يرغبون في إحداث التغيير في بنية النظام، وذلك عبر تنفيذ القرار 2254، وآليّة البقاء على العقوبات. نحن أمام سيناريو أكثر حدّةً وفاعليّة، وسيكون قاسيًا على عموم سورية، لكنّه مُجدٍ.

أربع سيناريوهات ستحكمنا كلّنا، وهي:

– تقليص نفوذ محور آستانا.

– إصلاح العمليّة الدستوريّة.

– تحويل التفاوض وعمليّة الحوار، من كونها محصورة في هيئة التفاوض السوريّة والنظام، إلى قضيّة مجتمعيّة وسياسيّة، وذلك لتعزيز الثقة على مستوى الحواضن المجتمعيّة للمؤسّسات السياسيّة.

– مؤتمر سوري عامّ يقودنا إلى تحوّل ديمقراطي.

ولذلك، لا انتخابات رئاسيّة قادمة تعزّز شرعيّة للنظام، ولا غطاء سوتشي – آستانا، فنحن مقبلون على التغيير من رحم القرار الأممي لا غير.

مركز حرمون

نجت الأنظمة وسقطت الدولة/ مروان قبلان

من غير الواضح ما إذا كانت المصادفة المحضة هي التي جعلت الدول العربية التي انهارت الدولة فيها، أو شهدت صراعات داخلية مسلحة، سواء في فترة الربيع العربي (سورية، ليبيا، اليمن) أو حتى قبله (الجزائر والعراق)، تشترك في أنها كانت جميعًا حليفة للاتحاد السوفييتي في حقبة الحرب الباردة التي امتدت بين عامي 1946-1989. ومن غير الواضح أيضا ما إذا كان السبب في تجنّب دول عربية أخرى المصير نفسه، على الرغم من أنها شهدت، هي الأخرى، ثورات، يتمثل في أنها لم تكن تعتمد على دعم الاتحاد السوفييتي أو مساندته (مصر وتونس مثلاً)، لكن الأكيد أن بعض هذه الأنظمة نجت مرحليا من تداعيات انهيار المعسكر الاشتراكي، بفضل استراتيجيات مختلفة، مكّنتها من شراء بعض الوقت، ليكون ثمن نجاحها انهيار الدولة نفسها في مرحلة لاحقة.

مع انتهاء الحرب الباردة، كان يفترض أن تسلك الدول العربية الحليفة للاتحاد السوفييتي مسلك دول أوروبا الشرقية التي انهارت أنظمة الحكم فيها مع ظهور بوادر تصدع بنيان “الرفيق الأكبر”، وفقدت بذلك إما المظلة الدفاعية التي كانت تتمتع بها بموجب معاهدات صداقة تم توقيعها مع موسكو (العراق 1972، سورية 1980، اليمن الجنوبي 1979) أو فقدت المساعدات التي كانت تتلقاها منها، وواجهت بذلك صعوباتٍ اقتصادية تزامنت مع انهيار أسعار النفط العالمية (الجزائر وإلى حد ما ليبيا) والتي نتجت بدورها من اتفاق السعودية مع واشنطن على تخفيض أسعار النفط لتسريع انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان اقتصاده يعتمد هو الآخر، على نحو كلي تقريبا، على تصدير النفط.

كانت الجزائر أول دولة حليفة للسوفييت، تظهر عليها أعراض انتهاء الحرب الباردة، وقد تمثل ذلك في احتجاجات أكتوبر/ تشرين الأول 1988 التي اضطرت النظام إلى إطلاق إصلاحات سياسية لم يستطع تحمل تبعاتها بعد أن فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بانتخابات ديسمبر/ كانون الأول 1991، لتدخل البلاد على أثرها في حربٍ أهليةٍ داميةٍ استمرت طوال عقد التسعينات. أما العراق فقد قام بغزو الكويت، بحثًا عن حل لمشكلاته الاقتصادية، بعد انتهاء الحرب مع إيران، وفق حساباتٍ خاطئة، قامت على أن واشنطن، مع انتهاء الحرب الباردة وسقوط خصمها الرئيس، لن تحرّك ساكنا إزاء هذا التحرّك. وكان الغزو العراقي للكويت الخطوة الأولى في مسار طويل أدّى، في النهاية، إلى انهيار الدولة العراقية. أما اليمن الجنوبي، وهو البلد العربي الوحيد الذي تمكّن الماركسيون من حكمه حتى نهاية الحرب الباردة، فقد وجد الحل في الوحدة مع الشمال المدعوم من دول الخليج العربية الغنية، واختفى بذلك عن الخريطة السياسية للمنطقة العربية. وقد اختصر معمّر القذافي الطريق على نفسه، فقام بتسليم سلاحه النووي، والتوصل إلى تسوية مع واشنطن، أمنت له البقاء في الحكم حتى عام 2011. أما سورية فقد بدت وكأنها الوحيدة التي نجت من تداعيات انهيار الاتحاد السوفييتي من دون أثمان كبيرة، إذ تأقلم نظامها سريعا مع المتغيرات الكبرى في النظام الدولي، واتبع مزيجا من الاستراتيجيات التي ساعدته على البقاء. خارجيا، غيَّر النظام تحالفاته، فانتقل الى المعسكر الأميركي، مستغلا الغزو العراقي للكويت، ثم انخرط في عملية السلام، ثم غدا بقدرة قادر جزءا من محور الاعتدال (إلى جانب مصر والسعودية) الذي حكم السياسة العربية تحت المظلة الأميركية لمعظم عقد التسعينات. داخليا، بدأ التحول نحو اقتصاد أكثر ليبراليةً تتوفر فيه هوامش حرية أكبر في مجال الاستثمار والعمل والمبادرة الاقتصادية، ليكون ذلك بديلا عن الإصلاح السياسي. بعبارة أخرى، جرى التخلي عن النموذج السوفييتي المنهار، والتحوّل الى تمثل النموذج الصيني الصاعد.

قدّمت الصين، في ذلك الوقت، ما بدا وكأنه حل سحري بنموذجها الذي جسّد عملية تزاوج فريدة بين التعددية الاقتصادية والملكية الفردية من جهة والمركزية السياسية وحكم الحزب الواحد من جهة أخرى. كانت هذه هي الوصفة التي اشترت لبعض النظم العربية نحو عقدين إضافيين من الحكم، لكن الثمن المؤجّل كان كارثيًا. ففي حين نجت الدولة في أوروبا الشرقية برحيل أنظمتها ورضوخها “لسُنَّة” التغيير، دفع العرب ثمنا باهظًا لنجاة أنظمتهم من تداعيات الانهيار السوفييتي، لينتهي الأمر بسقوط الدولة نفسها!

العربي الجديد

—————————-

الوطنية السورية في ذكرى الجلاء!/ أكرم البني

غداً، في 17 أبريل (نيسان)، تمر الذكرى الـ75 لجلاء آخر جندي فرنسي من الأرض السورية، وتدشين رحلة تبلور هويتها الوطنية المستقلة، لكن رغم قيمة هذه المناسبة التاريخية، فهي لم تعد اليوم موضع اهتمام وتقدير عند غالبية السوريين؛ حيث عاد الاحتلال لبلدهم من أطراف كثيرة، ولا يزال يكويهم منذ 10 سنوات عنف وقهر لم يشهد التاريخ الحديث له مثيلاً، ولم يفضِ فقط إلى مشهد مفزع من الدمار والضحايا والمعتقلين والمشردين، بل إلى تخريب البنية الوطنية، وإحداث انزياحات واسعة في منظومة القيم الجامعة وأسس العيش المشترك.

فأي روح وطنية تبقى عند سوريين منكوبين يتعرضون لقمع تمييزي ويرون بأعينهم، كيف لجأت السلطة الأنانية إلى أشنع وسائل الفتك والاستفزازات المذهبية لوأد تطلعاتهم المشروعة نحو الحرية والكرامة، واستسهلت حفاظاً على تسلطها وامتيازاتها الاستقواء بمن هبّ ودبّ، ما جعل البلد مسرحاً لتنازع النفوذ وعرضة للتقسيم الجغرافي ولأدوار عسكرية خارجية تتنافس على تطويع مكوناته واستثمار الصراع الدموي فيه لتحقيق مراميها؟! وأي قيمة تبقى للهوية السورية، حين تنجح أطراف الصراع في جرّه إلى الحقل الطائفي البغيض، وفرض الأفكار السياسية ذات الطابع الديني والشعارات الإسلاموية على حساب شعارات الحرية والمواطنة والكرامة، وبالتالي حين يندفع الصراع الدائر إلى صراع وجود، وتتنامى الاستقطابات الثأرية والإقصائية، ويتحول الشعب الواحد إلى فئات متنابذة وجبهات متناحرة؟!

لكن، كل ما سبق ما كان ليفضي إلى هذا الدرك من تفكك روابط السوريين وانحسار دوافع مفاخرتهم بالانتماء للوطن وتعريف أنفسهم به، لولا عوامل موضوعية، ولنقل، مياه كثيرة جرت خلال عقود ما بعد الجلاء، ساهمت إلى حد كبير في تسهيل هتك الوطنية السورية وتهشيمها.

أولاً، صحيح أن السوريين في ريعان تطور اجتماعهم الوطني قد أفشلوا مشروع الاستعمار الفرنسي بتقسيم بلادهم إلى 5 دويلات، وحافظوا عليها كياناً واحداً تحت الانتداب، وصولاً إلى الاستقلال، وحاولوا من خلال دولتهم الموحدة بلورة شخصية وطنية جامعة، متجاوزين اختلافاتهم حتى ما أظهروه من ميل وتعاطف قوميين وحنين إلى دولة عربية واحدة بعد اندفاعهم السريع لإقامة الوحدة مع مصر، لكن الصحيح أيضاً أن الدولة السورية هي دولة حديثة العهد، لم يُتَح لها الوقت والفرصة، والأهم سلطة وطنية، كي تكرس في المجتمع هوية قوية جامعة تستند إلى عقد ديمقراطي يعترف بخصوصية مختلف المكونات ويضمن حقوقها.

ثانياً، لم توظف السلطات المتعاقبة، وخاصة الاستبدادية منها، أي جهد لتنمية اللحمة الوطنية، بل على العكس لجأت إلى التفرقة وقهر المختلفين عنها، عرقياً ودينياً وسياسياً، وتقصدت، حفاظاً على تسلطها وامتيازاتها، تشويه الهوية الوطنية والانتكاس بالمجتمع إلى هويات تفكيكية ما قبل مدنية، متوسلة أساليب القمع والتمييز والروابط المتخلفة، الطائفية والعشائرية، ومكرسة مفاهيم مريضة جوهرها وضع إشارة مساواة بين الوطن والسلطة، ومنح الأخيرة الأولوية والأفضلية، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير الوطن وخرابه، كما حصل في السنوات الأخيرة! ربطاً بإخضاع الدولة ومؤسساتها وتحويلها من سلطة عمومية إلى أداة لحماية الفئة الحاكمة وتمكينها، ناشرة الفساد والإفساد لتدمير خلايا التجدد والتشارك في المجتمع، زاد الطين بلة تقدم دور الجيش في الحياة السياسية؛ حيث لم تمضِ سنوات قليلة من يوم الجلاء حتى انتزعت قيادة الجيش دوراً رئيساً ومتفرداً في الحياة العامة، وفي تقرير مصير بلاد شهدت سلسلة من الانقلابات العسكرية، قبل أن تستقر بصورتها الاستبدادية الأخيرة، فيما عرف بالحركة التصحيحية عام 1970.

ثالثاً، الميل السائد والطاغي في حياتنا السياسية والثقافية هو الاتكاء على آيديولوجيا تريح النفوس وتخمل العقول، وأكثرها حضوراً آيديولوجيا وصائية لا تكترث بتنمية الوطنية السورية بل ترسم أهدافاً وأحلاماً أكبر من حدود الوطن وأبعد منالاً، انعكس ذلك بتوالد أحزاب لم يكن شغلها الشاغل تنمية الروابط الوطنية والهوية الجامعة، فكان الوطن عند القوميين من بعثيين وناصريين وغيرهم مجرد محطة طارئة نحو الأمة العربية الواحدة، وشكّل عند الشيوعيين عنواناً مؤقتاً للمفاخرة بانتمائهم الأممي الأقوى والأوسع، بينما بدا عند من يفتنه الإسلام السياسي ويقدس الرابطة الدينية مجرد نقطة عبور صوب مشروع الخلافة! كل ذلك حفر عميقاً في المجتمع السوري وباعد بين ثقافات طالما تعايشت وتسامح بعضها مع بعض، ليغدو أمراً مألوفاً ظهور استقطابات وتخندقات طائفية وعرقية وآيديولوجية تفرق بين المواطنين حسب المرجعية الفكرية أو المنبت القومي أو الديني أو المذهبي.

رابعاً، شيوع ثقافة ترى الانتماء الوطني مجرد شعارات وعواطف وأناشيد حماسية، وليس دولة مواطنة وروحاً إنسانية تستمد قوتها من شعور البشر بالعدل والمساواة، ومن ثقتهم بأن حقوقهم في وطنهم مصونة ولا يستطيع أحد أياً كان التعدي عليها، وبديهي أنه من دون هذه الحقوق لا يمكن حض المكونات التعددية للمجتمع السوري على تجاوز حساباتها الضيقة وجعل الانتماءات الطائفية والإثنية هي الأضعف أمام انتماء أقوى وأرقى هو الانتماء إلى الوطن.

والحال، إذ نعترف بأن الروح الوطنية وشعار الشعب السوري الواحد، اللذين ألهبا جموع المتظاهرين من مختلف قومياتهم وأديانهم وطوائفهم، لم يصمدا أمام فتك النظام وتعمده، بالتواطؤ مع القوى الإسلاموية وأصحاب النزعات القومية المتطرفة، تشويهَ الصراع ودفعه من بعده السياسي إلى أبعاد متخلفة طائفية وإثنية، ونعترف أيضاً بأن الهوية السورية تقف اليوم على مشارف منحدر خطير أمام حالة الخراب والتشظي، بعد أن فقد أبناؤها الثقة بها وبعضهم ببعض، لا بد أن نعترف بأن ذخيرة السوريين التاريخية في التسامح والتعايش، ووحدة معاناتهم المتفاقمة اليوم، أينما وجدوا، وشدة عذاباتهم، كما تشاركهم التوجس والخوف من حاضر مذرٍ لا يطاق ومن مستقبل غامض ومفتوح على الأسوأ، هي حوافز موضوعية لإعادة بناء الثقة بالوطنية السورية، لكنها لن تثمر إن لم تجد نخبة سياسية وثقافية تدرك أن طرق الخلاص من مزدوجة الاستبداد والاحتلال لا تزال جمعياً ووطنياً، ولا تتأخر عن الارتقاء بمسؤوليتها لبلورة رؤية إنسانية وحضارية لمفهوم الوطنية، تنأى عن بساطة الانتماء الجغرافي وتتألق بقيم الحرية والعدالة، بما يؤسس لوطنية سورية جاذبة وراسخة تستند لعقد اجتماعي، يمنح دولة المواطنة والديمقراطية دورها العمومي في إدارة البلاد وضمان أمنها وإعادة إعمارها.

الشرق الأوسط

————————-

نحو بناء حياة سياسية جديدة/ محمود الوهب

كثير من المهتمين بالشأن السوري العام يتساءلون عن عدم تشكيل أحزاب سياسية جديدة ووازنة تنهل من معطيات الواقع، ويكون لها فعلها المؤثر في الوسط الشعبي، وبذلك تكون قادرة على قيادة المدِّ الثوري الذي تعثر ولايزال. وتستعد في الوقت نفسه لملاقاة المرحلة المقبلة، والمساهمة في بنائها.

فالربيع العربي، وبغض النظر عن نجاحه أو تعثره فقد أنذر بانقلاب عميق في حياة شعوب منطقتنا، والحقيقة أن هذا الربيع قد تأخر عقدين من الزمن، إذ المفترض أن يأتي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بقليل، فمعظم دول الربيع العربي كانت سائرة في إطاره العام وبعضها نهج على نحو أو آخر، نهجه في الحكم، لكنها لم تفعل كما فعلت تلك الدول التي كانت قد اقتدت به كلياً، وكان بينها وبينه أحلاف، وعلاقات أكثر عمقاً وتأثراً به، إن لم نقل أكثر انقياداً له.

إذ سرعان ما تشكلت فيها أحزاب تجاوزت العشرات بل المئات في بعض بلدانها، ولكن ما إن مضت سنوات قليلة حتى استقرت الأمور على عدد محدد من الأحزاب وكثير من المنتديات، وقد توزعت تلك التشكيلات الأولى بحسب أغراضها ما بين سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي. بينما حصل العكس عندنا، إذ عدَّ الحكام العرب أنفسهم على صواب، وأن شعاراتهم وممارساتهم كانت أكثر جدوى مما كان موجوداً في الاتحاد السوفييتي، فلديهم حريات أوسع، واشتراكيات سمحة أبقت على أشكال من الملكية الخاصة، إضافة إلى أن حرية الأديان كانت مصونة. حتى إن حافظ الأسد عاتب خالد بكداش أواسط الثمانينيات، وكان الأخير عضو قيادة “الجبهة الوطنية التقدمية” حول موقفه من مسألة استثمار النفط بين إعطائه لشركات أميركية أو غربية (رأي حافظ الأسد) أو استثماره وطنياً بمساعدة الأصدقاء السوفييت رأي (خالد بكداش).

بالطبع إن حديث البعث والأحزاب المشابهة له كان للاستهلاك المحلي، وللإمعان في الاستبداد، وتبريره، وزيادة قبضته.

الحقيقة: إن أحزاباً عديدة تكونت بعد بدء الربيع العربي، داخل سوريا وخارجها، لكنها لم تكن ذات جدوى، فالأحزاب التي شُكِّلت داخل البلاد إنما شكلتها الأجهزة الأمنية على نحو مباشر، وثمة أحزاب أخرى شكلها من ترضى عنه الأجهزة.

أما الأحزاب التي وجدت في المغتربات، ولا أعتقد أن في أماكن النزوح أحزاباً، ربما يوجد أفراد تتبع لتلك المشكلة في أماكن اللجوء، لكنها كما منظمات المجتمع المدني لا تقوى على فعل شيء. ولعل منظمات المجتمع المدني ذات نفع أكثر في تقديمها خدمات اجتماعية مختلفة. فما ينفع حزب ليس على أرض بلاده، وبين أبناء شعبه ومجتمعه؟!

يمكن أحياناً أن يكون قائد الحزب أو بعض قادته خارج البلاد وتكون جماهيره في الداخل تمارس العمل الثوري بيد أن مثل هذه الحال غير متوفرة مع كل أسف، ولذلك يظل تأثير تلك الأحزاب محدوداً، وغالباً ما يكون قادتها أقرب إلى تعاطي أحاديث الثقافة والسياسة معاً.

إن جوهر الأسباب التي تتعلق بانتكاسات الربيع العربي وعثراته، رغم تباينات ما حدث بين هذه الدولة أو تلك هو مجيئه مثل انفجارات بدت مفاجئة أو بالعدوى لكن المتمعن يراها قد جاءت بسبب تراكمات طويلة الأمد يربو زمنها على ستة عقود رافقت حالات القمع فيها انهزامات مخزية هي أشبه بالفواجع، وبخاصة هزيمة 1967 التي أتت مثل صاعقة شحنها امتلاء الشباب العربي بالشعارات، وارتفاع صوت الإعلام في فضاء بلاده، حتى جعلته “قاب قوسين أو أدنى” من إلحاق الهزيمة الماحقة بإسرائيل، ومن استعادة الكرامة التي هدرتها نكبة حرب 1948 التي لم تكن حرباً في الحقيقة بل كانت “هوشة عرب” سرعان ما امتصتها إنكلترا وأكثر دول الغرب، وساهم فيها العرب ممن كانت لهم باع طويلة ولسان.

وإذا ما تعمقنا أكثر في عمق تلك المأساة، وإذا ما أنصفنا أنفسنا، نجد أن خسارة الحربين تعود أولاً إلى أن الطرف الخاسر فيهما يعاني التخلف الشامل، وقد ازدادت هوَّة التخلف مع ازدياد تقدم العدو ومن يدعمه، وبعد أن أخذ يستند إلى قرارات في الأمم المتحدة، تبطل شعار التحرير الذي كان، ففي ذلك الوقت مضى الحكام العرب يرفعون شعارات الثأر إذ “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” و”ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”. والقوة آنذاك لا تعني إلا الجيوش وقادتها، وهي في ممارستها التي كانت استعلاء على الشعب والسياسة معاً.

وهكذا التهمت الجيوش موازنات الدول ومتطلبات تنميتها، إضافة إلى التهامها الحياة السياسة بأحزابها السياسية التي كانت قائمة وفق قوانين، وكانت مطلوبة أكثر من أي شيء آخر في بلدانها، فهي وسيلة وعي أكثر من أي مؤسسة ثقافية أخرى، فحين تغيب الحياة السياسية يفرَّغ كل ذي معنى من محتواه.

ومن هنا تماماً، ربما استشعر بعض الناشطين غياب وجود الأحزاب التي كان يمكن لها أن تقود تلك الثورة، وتأخذ بيد الثوار، فتجنبهم العثرات وبالتالي تجنب البلاد بما تمتلكه من خبرة كثيرا من المآسي التي حصلت. والحقيقة إن غياب الأحزاب المرجوة، بل غياب معارضة سليمة ومعافاة متعلق بالاستبداد نفسه، وما كانت هناك أحزاب بل بقايا أحزاب وهياكل سواء كانت ضمن الجبهة أم خارجها، فالأولى محكومة بالتبعية، والثانية تتكفل فيها أجهزة الأمن والسجون. وربما، من هنا، سيظل هذا النظام يناطح مرتكباً أبشع الجرائم حتى آخر لحظة في حياته. ولا يمكن أن تتعافى سوريا والنظام موجود.

إن وجود أحزاب سياسية سليمة ومعافاة تقود البلاد نحو تنمية شاملة تتوافق مع لغة العصر وعلومها المعاصرة وتكنولوجيتها عالية التطور تعد أساس النهضة المرجوة، تتطلب أولاً وقبل كل شيء، عودة المهجرين والإفراج عن المعتقلين السياسيين كافة، وإعادة المخفيين قسراً.

فالأحزاب الفاعلة لن يوجدها اليوم إلا هؤلاء الشباب الذين عركتهم الثورة وأيامها المريرة ومكنتهم من خبرات وأطلعتهم على تجارب عالمية، وهم كثر نراهم في مجال الثقافة والإعلام ومنظمات المجتمع المدني، وبعضهم في السجون والمعتقلات. فهؤلاء هم من يرعبون النظام اليوم، ولا يبدو أنه عازم على فعل شيء من هذا القبيل إلا إذا جاء قسراً وهذا القسر يتكون الآن سواء في الداخل بفعل الأوضاع الاقتصادية السيئة وما يقابلها من حالات نهب وثراء تجاوزت أساليب رامي مخلوف في الفساد واستباحة الدولة والمجتمع، أم في الخارج الذي يبدو في نفاد صبر المجتمع الدولي الذي لا يتجلى في مواقف البلدان الأوروبية ومنظماتها المدنية التي تبرز وثائق جرائم النظام المختلفة، بل لدى الروس الذين يزعجهم ما أنفقوه، رغم كل ما أخذوه كما يضايقهم الاستمرار ضمن ضغوطات أوروبية ومضايقات إيرانية إضافة إلى موقف أغلبية الشعب السوري الذي لا يرى فيهم غير محتلين.

ولعلَّ تطبيق القرار 2254 سبيلاً مناسباً لخلاصهم بعد كل البدع التي أوجدوها، وكل الأبواب التي طرقوها، وما أخرجتهم من مستنقع ما زالوا يغوصون فيه..

تلفزيون سوريا

—————————–

تجربة الإدارة بالأهداف في سورية 1999 – 2000/ سمير سعيفان

قبل تولي بشار الأسد، ضمن برنامج الترويج له لوراثة السلطة، بدأ يتسلم ملفات مهمة، مثل ملف لبنان، ويتدخل في العديد من القضايا الداخلية، بالرغم من أنه لم يكن يشغل أي موقع وظيفي رسمي في الدولة، وهذا ينطبق على طبيعة الأنظمة الملكية وليس الجمهورية الدستورية. وكانت غاية تدخله في بعض الملفات الداخلية هي إظهاره كرجل تغيير وإصلاح، طالما انتظره السوريون كي يكون أملًا لهم، وأطلقوا تعبير: “باسل المَثَلْ وبشار الأمَلْ”. وشمل بشار باهتمامه قضايا الإدارة والاقتصاد، ووجد من قدّم له فكرة “الإدارة بالأهداف”، وهي أحد مناهج الإدارة التي تهدف إلى تحسين أداء الشركة، عبر وضع استراتيجية عامة لفترة زمنية محددة، لها أهداف عريضة، ثم إسقاط هذه الأهداف العريضة على كل قسم وكل وحدة في المؤسسة، وتحديد أهداف لها، ويمكن تحديد أهداف كل مشتغل فرد، ومن ثم تأمين المستلزمات واتخاذ الإجراءات التي تساعد في تحقيق الأهداف، أي أن تحقيق الأهداف هو من يقود كل شيء ويوجهه، وتتم المحاسبة على أساسه.. الخ.

استُقبلت الفكرة بترحيب، لأن عيوب القطاع العام كانت كبيرة جدًا، ونُظر لإطلاق هذه التجربة كمقدمة لإصلاح القطاع العام، فذاك القطاع الذي استثمرت فيه الحكومة مليارات الدولارات، ويعمل فيه مئات آلاف العاملين، كان يعمل بإنتاجية ضعيفة، ويتكبد خسائر كبيرة جدًا، وكان يعاني المركزية الشديدة، وتعدد الجهات الوصائية، وخلط الاقتصادي بالاجتماعي، وفائض قوة العمل وتدني أجور العاملين، وضعف التحفيز والمساواة بين المجد والكسول، وتقديم الانتهازي على الكفء، وانتشار الفساد وغياب الوظيفة الاقتصادية، وتخلف مفاهيم الإدارة وضعف كادره الإداري، وغياب وظيفة البحث والدراسة التقنية والإدارية.

أعطى بشار تعليماته للعبد المأمور، رئيس الوزراء آنذاك محمود الزعبي، فأصدر الزعبي بتاريخ 17 كانون الثاني/ يناير 1999 القرار رقم 781 المتضمن تطبيق تجربة الإدارة بالأهداف، والتي قامت على مبدأ نقل صلاحيات المالك، أي الدولة ممثلة بالحكومة، إلى إدارة الشركة، ومبدأ المحاسبة على النتائج، وفك التشابك بين الوظيفتين الاقتصادية والاجتماعية، وعدم الخلط بينهما في نشاط القطاع العام السوري، وقد أرفق رئيس الوزراء مذكرة توضيحية بقراره، تتضمن المبادئ العامة والصلاحيات واتجاهات التجربة، وقد منحت المذكرة مرونة أكبر وصلاحيات أوسع وسلطة اتخاذ القرارات للجنة الإدارية للشركة ولإدارتها التنفيذية، في وضع خططها السنوية وتأمين مستلزماتها المادية والبشرية، والأخذ بالعلاقات التجارية والنقدية وتطبيقها، وترك فائض السيولة للشركة وعدم تحويله إلى وزارة المالية، وربط أنظمة الحوافز بالنتائج الكمية والنوعية، وكفّ يد الرقابة المتعسفة، وذلك من أجل تطوير الإنتاج وفق النسق المنشود.

حُدِدَتْ مدة سنتين لتطبيق التجربة وتقييمها، قبل تعميمها. وتم اختيار أربع شركات صناعية حكومية لتطبيق التجربة عليها، وهي: الشركة الطبية العربية (تاميكو) بدمشق، والشركة العامة للصناعات الزجاجية والخزفية بدمشق، والشركة العامة للصناعات الحديثة بدمشق، والشركة العامة لصناعة الخيوط بحماة.

وأصدر الزعبي كذلك قرارًا يقضي بتشكيل لجنةٍ للإشراف والمتابعة، برئاسة وزير الصناعة، وقد أنيط بها مسوؤلية الإشراف على تطبيق التجربة ومتابعتها، وحل المشكلات الناجمة عن التنفيذ، وكلف محمود سلامة بأمانة سرّ هذه اللجنة، وكان بمنزلة مدير تنفيذي للتجربة.

لا أذكر من دعانا إلى عشاء في أحد مطاعم الربوة سنة 1998، حيث تعرفت على محمود سلامة، ونشأت بيننا مودة، والتقينا بعدها في أكثر من مناسبة، وعندما سمّي أمينًا لسرّ تجربة الإدارة بالأهداف، اتصل بي وطلب أن نتعاون في إنجاح التجربة.

كان محمود سلامة من أشد المتحمسين لتجربة الإدارة بالأهداف، وكان يعمل لإنجاحها، وسعى لوضع أنظمة أكثر مرونة وصلاحيات للإدارة (المالية، والعقود، التكاليف المعيارية، العلاوات، المكافآت.. الخ) وطلب من الشركات الأربع القيام بتشخيص وتوصيف لأوضاعها، لتحديد نقاط ضعفها وقوتها، وتحديد أهم صعوباتها، بغرض البحث عن حلول لها، ومن ثمّ وضع خططها وتحديد أهدافها وبرامج لتتبع التنفيذ، وبرامج تدريب للمديرين على أساليب الإدارة الحديثة، وقدمت له متطوعًأ كل خبرتي أملًا في أن التجربة تؤسس لعقل جديد في الإدارة الحكومية السورية

على الطريقة السورية:

بالرغم من أن ما تقدّم وما كُتب على الورق بدا مبشّرًا، إلا أن التنفيذ، على طريقة سلطة البعث – الأسد، كان في موضع آخر. فمنذ البداية، لم يكن أحدٌ قد قدّم أي دراسة وافية تحضيرًا للتجربة، ولم يوضع لها تصور عام، والأهم أنها لم تكن جزءًا من برنامج إصلاح متكامل تشكل هي بدايته التجريبية، ولم يكن قرار رئيس الوزراء يشكل مرجعية قانونية كافية لتجاوز قوانين ومراسيم تكبّل القطاع العام، بينما كان على التجربة أن تصدر بقانون، لا بقرار رئيس مجلس الوزراء، ولم تكن مهمة لجنة المتابعة واضحة: ألها صلاحيات اتخاذ القرار أم أنها مجرد لجنة استشارية، ولم تكن صلاحيات الوزير أحمد نظام الدين، بصفته وزيرًا أو رئيسًا للجنة المتابعة، كافية لتقديم دعم كاف لإنجاح التجربة، فكيف إذا كان هو ذاته من أفشل الوزراء، وكان معاديًا للتجربة، وعمل على إفشالها، وقد هاجمها البعض بحجة أنها بداية للخصخصة، وهاجمها من كانت لهم مصالح فاسدة، لأنهم ضد أي تغيير أو محاولات تغيير. ولم يخصص للتجربة جهاز إدارة مفرغ، وكان مع محمود سلامة بضعة موظفين بعدد غير كاف، ولم يخصص له موارد مالية، كما لم يتم اختيار الشركات الأربع، وفق معايير موضوعية، بل تم اختيار شركات مثقلة بالمشكلات، من دون تقديم حلول عاجلة لمشكلاتها المتراكمة على مدى عقود، فلم تحل مشكلات الديون القديمة ومشلكة نقص السيولة وفائض قوة العمل، وبقيت المركزية شديدة، ولم تمنح المرونة، وبقيت الصلاحيات حبرًا على ورق، ولم تمنح الشركات الأربع استقلالية مالية، ولم تمنح حرية تسعير منتجاتها، ولم تتخلص من روتين المناقصات، ولم تتخلص من تدخل الأجهزة الأمنية، وكل ذلك يعني أن التجربة فاشلة سلفًا.

محاضرة الثلاثاء الاقتصادية:

في شهر شباط/ فبراير سنة 2000، كلّف محمود سلامة بإلقاء محاضرة، ضمن برنامج الثلاثاء الاقتصادي، عن تجربة الإدارة بالأهداف، وكلفت أنا “سمير سعيفان” بالتعقيب عليها ومناقشتها، وبما أنني كنت أتعاون معه، فقد تعرفت على التجربة بعمق من داخلها وأعرف كل نقاط ضعفها. وكانت الندوات تعقد في قاعة المركز الثقافي بالمزة، وكان الدكتور كمال شرف (رئيس الجمعية آنذاك) هو من يدير الجلسات. وقبيل بدء المحاضرة، فوجئ الحضور بدخول بشار الأسد إلى قاعة المحاضرات، يرافقه اللواء بهجت سليمان (كان آنذاك رئيسًا للفرع الداخلي في أمن الدولة الشهير بفرع الخطيب)، وكان اللواء بهجت قد كُلّف من قبل حافظ أسد بالإشراف على تأهيل ولده بشار لوراثة الرئاسة، وقد حضر بشار المحاضرة، واستمع للمناقشات، ولم يتكلم، وانسحب حين انتهت. وكانت قاعة المركز تغص بالحضور، وحدث ازدحام كبير على طلب الإذن بالكلام، بحضور بشار الأسد، كي يراهم، فقد سرت شائعة بأن بعض الوزراء يتم اختيارهم من خلال هذه الندوة التي اكتسبت شهرة كبيرة، في تسعينيات القرن العشرين، وبقيت تلعب هذا الدور الذي اضمحل بعد 2003، وكان يحضرها مراسلون لصحف عربية، ودبلوماسيون من السفارات، وكبار رجال الأعمال السوريين، فقد كانت منبرًا يملك سقفًا مرتفعًا نسبيًا، للمناقشات المفتوحة، وكان الدكتور عارف دليلة صاحب الحضور الدائم والصوت الأكثر ارتفاعًا في تشريح الفساد وآلة الدولة الصدئة.

محمود سلامة وداعًا:

لم يطل الأمر بمحمود سلامة، فبُعيد تولي بشار الأسد للسلطة، قام بتسمية محمود مديرًا عامًا لمؤسسة الوحدة للطباعة والنشر، وهي مؤسسة إعلام كبيرة تُصدر صحيفة (الثورة) كما تصدر عددًا من الصحف في عدد من المحافظات، وتملك مطبعة كبيرة. وكان تعيين محمود في موقعه الجديد، خريف سنة 2000، إعلانًا لنهاية تجربة الإدارة بالأهداف التي لم تعطِ أي نتيجة إيجابية، ولم تغير في وضع الشركات التي خضعت لها، ولم يتم تقييم التجربة ولا تعميمها، بل تم إهمالها، مما يشير إلى عدم الجدية في تجريب الإصلاح، وفي ربيع 2001 تم تشكيل “لجنة ال 35” لإصلاح القطاع العام الصناعي وتكررت الحكاية على نحو ما، واستمرت اللجان واستمرت المناقشات على مدى سنوات وبقي حال الإدارة الحكومية السورية، “كلام كثير ودون أي فعل للتغيير أو الإصلاح”، والطريف أن جمعية العلوم الاقتصادية مخازالت مستمرة في ندواتها ومحاضراتها يوم الثلاثاء، ومازالت تناقش ذات القضايا التي ناقشتها قبل عقود.

لم تكن الوظيفة الجديدة، التي فرح بها كثيرًا، بداية جيدة لمحمود سلامة، فمحمود تحمس لمنصبه الجديد، وبدأ يعمل لبث روح جديدة في جريدة الثورة الحكومية، إذ استدعى عددًا من كتاب المعارضة للكتابة فيها، ضمن أجواء ربيع دمشق سنة 2000 (اكتبوا عندنا ولا تكتبوا في الصحف اللبنانية)، وأتاح نشر مقالات طويلة في جريدة الثورة، لعارف دليلة ولميشيل كيلو وغيرهم، وقد أغضب ذلك بهجت سليمان وبشار الأسد. ولأن كلًا من بهجت سليمان وآصف شوكت كان لهما سلطة ووزن، وكانا خصمين متنافسين، كان محمود حائرًا في علاقته الشخصية الجيدة بكليهما، إضافة إلى علاقته الشخصية ببشار، وضمن تركيبة نظام الأسد، لم يكن من الممكن أن تكون في ذات الوقت على علاقة جيدة برجلي سلطة نافذين، إن كانا خصمين، وعليك أن تختار، وقدّر محمود أن آصف شوكت أقوى من بهجت، بحكم أنه زوج ابنة حافظ أسد، فأخذ يميل إلى آصف، ويقدّم إرادته على إرادة بهجت، ولكن لم تمض سوى شهور قليلة حتى استطاع بهجت أن يُقصيه من إدارة جريدة مؤسسة الوحدة، في ربيع 2001، ومن ثمّ من جريدة الثورة، بسبب إفساحه المجال أمام شخصيات معارضة لنشر مقالاتهم في جريدة الثورة، وتم وضع محمود تحت تصرف رئيس مجلس الوزراء، فغدا -عمليًا- بلا عمل ولا أمل، ولم تنفعه عبارات الإطراء التي كان يكيلها لبشار الأسد: “أنت الأمل”، وكان محمود يردد بأسى: “إذا مع واحد متلي ما قدر هاد النظام يتفاهم، كيف بدهم يتفاهمو مع العالم”. ولم يكن محمود بعثيًا، ولكنه يتبنى الفكر القومي، وكان نقابيًا معروفًا وصديقًا للسلطة، وكان نائبًا في مجلس الشعب لأكثر من دورة، وشغل وظيفة مدير عام لإحدى شركات القطاع العام للملبوسات. ولم يطل الزمن بمحمود، فقد توفي فجأة في خريف 2001، وهو يسبح في مسبح أحد أصدقائه في مزارع يعفور.

مركز حرمون

——————————-

سورية والآباء الدستوريين 1928-1950/ سامي مروان مبيض

في سنة 1928، دعت سلطة الانتداب الفرنسي الحاكمة في سورية، لانتخاب مؤتمر تأسيسي لصياغة دستور جمهوري للبلاد، بدلاً من الدستور الملكي التي كانت حكومة الانتداب قد عطلته قبل ثماني سنوات، عشية احتلال دمشق.

خاضت الكتلة الوطنية تلك الانتخابات، وكانت حديثة العهد، وفازت باثنين وعشرين مقعداً من أصل 70، وتم انتخاب مؤسسها، هاشم الأتاسي، رئيساً للمؤتمر، يعاونه اثنان من أعضاء الكتلة الحقوقيين، وهما فوزي الغزي وفائز الخوري.

كلاهما كان قد درس القانون في كبرى جامعات إسطنبول، وكانا محسوبين على فئة الشباب: الغزي (31 عاماً) والخوري (33 عاماً). أما هاشم الأتاسي فكان أكبرهم سناً وخبرة، فهو رجل دولة منذ العهد العثماني، ولد سنة 1873 وعمل متصرفاً في عدة مناطق منها الأناضول. وكان رئيساً للمؤتمر السوري (البرلمان) الذي توّج فيصل ملكاً على سورية في 8 آذار 1920، وقد عُيّن رئيساً للحكومة السورية من أيار وحتى تموز العام 1920.

إضافة لكل هذه المهام، كان هاشم الأتاسي رئيساً اللجنة الدستورية التي وضعت دستور عام 1920، ما جعله من أكثر الوطنيين خبرة ودراية ومقدرة على صياغة دستور سورية الجديد.

أنجز الأتاسي ورفاقه دستور سورية الجديد، في فترة قياسية لم تتجاوز الأسبوعين، ووضعوا دستوراً عصرياً مُستلهماً من الدساتير الأوروبية، نصّ على نظام برلماني ديمقراطي، تكون ولاية مجلس النواب فيه أربع سنوات وولاية رئيس الجمهورية خمسة، غير قابلة للتمديد بشكل متواصل. دفاع الأتاسي عن موقفه بالإشارة إلى الولايات المتحدة الأميركية، قائلاً إن رئيس الجمهورية هناك يقضي سنته الأخيرة في الحكم في إدارة حملته الانتخابية، ويكون ذلك دوماً على حساب الناس ومصالحهم.

رأى أنه من الأفضل أن يخرج الرئيس من المنصب ويُعيد ترشيح نفسه بعد قضاء خمس سنوات خارج الحكم، تكون حملته الانتخابية فيها على حسابه الشخصي، لا على حساب الدولة والشعب. وقد أكد الدستور على حرية المعتقد والتعبير، صان ملكية الفرد وأصرّ على استقلال القضاء، كما جعل التعليم الابتدائي إلزامياً لكل مواطن سوري.

ولكن هذا الدستور لم يُعجب السلطة الفرنسية، بسبب خلوّه الكامل من أي إشارة لنظام الانتداب القائم منذ عام 1920. اعترضت فرنسا على ست مواد، منها المادة 74 التي أعطت رئيس الجمهورية المُنتخب، بدلاً من المندوب السامي الفرنسي، حق إعلان الحرب والسلم وتوقيع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.

وجاء في المادة 110 حق إنشاء جيش وطني في سورية بدلاً من الجيش الذي تم سحقه ثم حلّه إبان معركة ميسلون، الأمر الذي لم يعجب الفرنسيين أيضاً. وأخيراً احتجت فرنسا على المادة الثانية من الدستور التي لم تعترف بحدود اتفاقية سايكس بيكو، ونصّت على اعتبار سورية الطبيعية هي المساحة القانونية للدولة السورية الوليدة.

في 11 أب 1928 تمّ التصويت على مسودة الدستور داخل المؤتمر التأسيسي وتبناه النواب بالإجماع. ولكن الفرنسيين أضافوا المادة 116 والتي نصّت على ذكر الانتداب. رفض الأتاسي ذلك، مُشيراً لدستور مصر لسنة 1922 ودستور العراق لسنة 1925، وكلاهما خالٍ من أي إشارة لوجود الإنكليز أو شرعيتهم في تلك الدول العربية.

وعندما أصرّ الوطنيون على موقفهم الرافض للمادة 116، جاء الرد الفرنسي بتعطيل المؤتمر التأسيسي لمدة ثلاثة أشهر. وفي 5 شباط 1929، أُعلن عن حل المؤتمر كلياً وتعطيل الدستور إلى أجل غير مسمّى. وفي أيار 1930 قام المندوب السامي الفرنسي غابريل بونسو، بإقرار نسخة معدّلة من هذا الدستور، فُرضت فيها المادة 116 دون إعلام أو استشارة الآباء الدستوريين.

دستور 1950

بقي هذا الدستور ساري المفعول طوال فترة الانتداب الفرنسي، وانتُخب بموجبه هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية سنة 1936، ثم شكري القوتلي عام 1943. عصفت بسورية بعدها سلسلة من الانقلابات العسكرية، كان أولها انقلاب حسني الزعيم على شكري القوتلي في 29 آذار 1949، تلاه انقلاب سامي الحناوي على حسني الزعيم في 14 آب 1949.

بعد نجاح الانقلاب الثاني ومقتل حسني الزعيم، أعلن سامي الحناوي أنه لا يريد تولّي رئاسة الجمهورية، وأنه سيعيد الجيش إلى ثكناته ويُفسح المجال أمام عودة الحياة المدنية البرلمانية التي كان الزعيم قد عطلها مع انقلابه الأول.

دعا الحناوي إلى اجتماع كبير في مبنى الأركان العامة، حضره ممثلون عن الأحزاب السياسية كافة، قرر فيه المجتمعون الطلب من هاشم الأتاسي العودة إلى سدّة الحكم بصفته قائد تاريخياً أجمع عليه الشعب السوري، بكافة شرائحه وطوائفه.

رفض الأتاسي هذا الطرح بداية، مُعتبراً أن الرئيس شكري القوتلي يبقى هو الرئيس الشرعي للبلاد، بموجب الانتخابات النيابية الأخيرة التي أُجريت سنة 1947. رأي أن يعود القوتلي إلى الحكم ويدعو لانتخابات نيابية جديدة، بموجب دستور 1928، ولكن معظم السياسيين رفضوا هذا المقترح وأصروا على موقفهم.

نزولاً عند رغبة الأكثرية وإنقاذاً للموقف، قبل الأتاسي منصب رئاسة الوزراء وشكّل حكومته يوم 15 آب 1949. وفي 11 كانون الأول، انتخب زعيم حزب الشعب، رشدي الكيخيا، رئيساً للمؤتمر التأسيسي المُكلف بصياغة دستور جديد بدلاً من الدستور القديم الذي كان حسني الزعيم قد عطّله قبل أشهر.

حصد حزب الشعب غالبية مقاعد المؤتمر التأسيسي (40 من أصل 114) وتقرر أن يتحول هذا المؤتمر إلى مجلس نواب بصلاحيات تشريعية كاملة، عند إتمامه مهام صياغة الدستور الجديد. وقد ضمت اللجنة الدستورية ممثلين عن جميع الأحزاب، فكان فيها مصطفى السباعي، مؤسس الإخوان المسلمين في سورية، وعصام المحايري، رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي.

خاض المؤتمرون في تفاصيل قانون الانتخابات أولاً، وشُكّلت لجنة مؤلفة من وزير الدولة عادل العظمة (الحزب الوطني)، وزير الاقتصاد فيضي الأتاسي (حزب الشعب)، وزير المعارف ميشيل عفلق (حزب البعث) ووزير الزراعة أكرم الحوراني (الحزب العربي الاشتراكي).

قرروا تخفيض سن الناخب إلى 18 وعدم قبول ترشّح الأميين. وكان الهدف من ذلك هو تشجيع الشباب على المشاركة في الحياة السياسية وقطع الطريق على عدد من النواب القدامى الأميين، لمنعهم من الوصول إلى المجلس النيابي، ورفع سوية النقاش داخله. وقد أعطوا النساء ولأول مرة حق الانتخاب، شريطة أن تكون المرأة حاصلة على شهادة التعليم الابتدائي.

أبرز ما جاء في الدستور الجديد هو تقليل صلاحيات رئاسة الجمهورية، تجنباً لتعديل الدستور الذي تم في عهد الرئيس القوتلي، والاستبداد الذي حصل في عهد حسني الزعيم. في زمن الرئيس القوتلي، تم تعديل الدستور للسماح له بولاية دستورية ثانية، وكانت الحجة أن البلاد تمر في ظرف سياسي صعب لا يجوز فيه استبدال قبطان السفينة.

أعاد المؤتمر التأسيسي العمل بمبدأ الولاية الواحدة التي كان قد أقرها الرئيس الأتاسي سنة 1928، وجاء في المادة 73: “مدة رئاسة الجمهورية خمس سنوات كاملة تبدأ منذ انتخاب الرئيس. ولا يجوز تجديدها إلا بعد مرور خمس سنوات كاملة على انتهاء رئاسته”.

دين الدولة

هذا وقد دارت معركة كبرى في المؤتمر التأسيسي عند إثارة موضوع “دين الدولة” بطلب من جماعة الإخوان المسلمين. طالبوا بمادة تقول إن دين الدولة السورية هو الإسلام، وهي عبارة خلت كل الدساتير السابقة منها. في دستور العام 1920 مثلاً، جاء أن دين الملك وحده هو الإسلام، وفي دستور 1928 جاء في المادة الثالثة منه أن دين رئيس الدولة هو الإسلام.

الرد على هذا المقترح كان بداية من خارج المجلس، وجاء على لسان مطران حماة للروم الأرثوذوكس، أغناطيوس حريكة، في حديث له مع مراسلي الصحف ووكالات الأنباء، طالب المطران بعلمانية الدولة السورية، وقال: “إننا كثيراً ما كنا نعلن للأجنبي أن لا أقلية في البلاد إلّا أقلية الخونة والمارقين. فماذا نقول لهم غداً إذ وجدوا في صلب دستورنا مادة تسجل علينا نحن النصارى أقلية؟”.

شجع هذا النداء عدداً من العلمانيين السوريين على رفع صوتهم، وكان في مقدمتهم صاحب جريدة القبس، نجيب الريّس، وهو مُسلم سني من مدينة حماة، كتب مقالاً بعنوان “البلاد ليست لنا وحدنا”، جاء في افتتاحيته: “لو كانت هذه البلاد للمسلمين وحدهم، لكانوا أحراراً في فرض دينهم على أنفسهم وعلى حكوماتهم وحكامهم، ولكن البلاد ليست لنا وحدنا، بل هي لنا ولغيرنا، وخصوصاً للنصارى الذين كانت لهم قبلنا، والذين دخلنا عليهم وهم فيها أصحاب دولة ومُلك ودين.

حرمة الدين الإسلامي لا تكون بالنصوص والقوانين المفروضة، بل تكون بالتقوى والتمسك بتعاليم الدين، فلنكن متدينين أتقياء لا متعصبين أشداء، وليكن الدين مظهراً لأخلاقنا لا مُنفراً لإخواننا ومواطنينا”. يكمل نجيب الريس كلامه: “لماذا تضعون هذه المادة الذي يثير مجرد وضعها فقط نفوس غير المسلمين في سورية وفي غيرها، ويفتح علينا وعلى بلادنا باباً جديداً من الدعاية في العالم الخارجي نحن في غنى عن فتحه.

ولا نعتقد أن أية حكومة تتألف في سورية تستطيع تطبيق أوامر الدين الإسلامية ونواهيه على رعاياها في معاملاتهم، وخصوصاً في هذه الأيام التي تفرض منظمة الأمم المتحدة والعرف الدولي وإجماع الدنيا وجوب المساواة بين المواطنين نساء ورجالاً، في كل دولة مستقلة، وسورية عضو في هذه المنطقة ومجبرة على تطبيق قوانينها”.

هنا حصل لغط، عندما نُشر على لسان الرئيس الأتاسي قوله: “نأمل في المرحلة التالية أن تلغى الأديان”. هبّ رجال الدين من كل حدب وصوب، مسيحيين ومسلمين، مستغربين صدور كلام من هذا النوع عن رئيس البلاد المعروف بـحكمته. وصدرت عدة بيانات استنكار من المشايخ المقربين من هاشم الأتاسي، المحسوب على التيار المحافظ في سورية لا على العلماني. تم تدارك الأمر بسرعة وصدر بيان عن المكتب الإعلامي في القصر الجمهوري، موضحاً أن الرئيس الأتاسي طالب بإلغاء الطائفية لا الأديان.

شكل الأتاسي لجنة لدراسة موضوع دين الدولة، مؤلفة من ثمانية أشخاص، حاولت الإنصاف بين المحافظين والتقدميين، فكان بين أعضائها “العلماني” أكرم الحوراني و”الشيخ” معروف الدواليبي (ممثلاً عن حزب الشعب)، وكل من محمّد مبارك ومصطفى السباعي، ممثلين عن الإخوان المسلمين.

رُتب لقاء بين جماعة الإخوان ورجال الدين المسيحي، عُقد في الكنيسة الكاثوليكية بدمشق، طالب فيه الخوارنة والمطارنة بوضع دستور بحترم الخالق دون الدخول بالتفاصيل. أيدهم اتحاد خريجي الجامعات والمعاهد العليا في سورية، الذي طالب بطي مادة دين الدولة وسحبها من التداول، وأثنى على ذلك المؤتمر الأول لطلاب المدارس الثانوية المنعقد في دمشق، والذي عرّف سورية قائلاً: “سورية جمهورية عربية مستقلة ديمقراطية تحترم جميع الأديان”.

في نهاية الصراع، اكتفى الإخوان بالمادة الثالثة التي تنص على دين رئيس الدولة، وبالقول إن الفقه الإسلامي هو مصدر التشريع.

رصيف 22

——————————-

طوائف ضد الطائفية/ ميشيل كيلو

ليس من ينتسب إلى طائفة أو إلى مذهب طائفيًا؛ فنحن جميعًا ننتسب -شئنا أم أبينا- إلى ما نولد فيه من مذاهب وأديان، وهذا أمرٌ لا غبار عليه، طبعًا، لأن الانتماء بالولادة إلى مذهب هو شأن شخصي، مهما صحبه من إيمان بطقوسه، وممارسة لعباداته، في حال وجدت.

يصبح المرءُ طائفيًا، عندما يعمل لإلزام غيره بما يقرّره له، في ضوء انتسابه إلى طائفة؛ حيث يبدّل، عندئذ، علاقته بمذهبه، ويخرجه عن روحانيته، ويضفي عليه صفات ووظائف، تهدم الدين وتجافي رسالته الإنسانية، وتنحدر به من سويته الإيمانية السامية، إلى مذهبة طائفية، لحمتها وسداها إكراه الآخرين على العيش بدلالتها، وإعادة إنتاجهم بما يتناسب من قوة وقهر مع مصالحه الكامنة وراءها، فإن كان الطائفي صاحب سلطة عامة، وأضفى طابعًا سلطويًا على طائفيته، وطابعًا طائفيًا على السلطة العامة، يضع أدواتها، التي هي أدوات دولة، والتي من المفترض أن تكون محايدة، أكلت الطائفية السياسة بمعناها المجتمعي والدولوي، وتبنّت سياسةً تطيّف المجتمع، وتُخضع دولته للسلطة المطيفة، فتنزع عنها وظائفها وهويتها كدولة، وشحنت المجال العام بروح تفتيتية/ تناحرية، تنقله من مجتمع متعايش إلى جماعات تخضع لعصبوية، تنتج أزمات هي الأداة التي يضبط صاحب السلطة بها ما بقي من الهيئة المجتمعية العامة، بما يمثله وجودها من تحدٍّ لسلطته وخطر عليها، لذلك يواجهها بفتنٍ تفككها، ويرعى ما فيها من تناقضات، ويضخمها قدر المستطاع، ويخضعها لتذرير يضعُ مكوناتها بعضها في مواجهة بعضها الآخر، والمواطن في صراع مع بيئته الحاضنة التي تحفل منذئذ بتناقضات شاقولية، لم يعد الآخر فيها مواطنًا ينتمي إلى غيره، بل عدوًا لهذا الغير، تستنزفه مشكلاته التي يعزوها إلى الآخر، بالرغم من أنه مثله، من ضحايا السلطة المطيفة، التي لا تسمح موازين القوى لها بالحكم، فتمتصّ ما في وطنها ومجتمعها من قدرات، تحتكرها سلطة تنكر حق المجتمع في آن يكون موحدًا أو مستقلًا عنها، ومن ثمّ حرًّا، أو محميًّا بقوانين تصون مصالحه وترعى وجوده.

ماذا يمكن أن يترتب على الطائفية، في صيغتها المذهبية والسلطوية المندمجة، غير كوارث تحلّ بالعباد والبلاد، ينتجها بالقطع والضرورة تناقضُها مع الوضع الطبيعي للمجتمع والدولة، الذي يحتم خضوع أي كيان جزئي، بما في ذلك الطائفي/ السلطوي، لكيان الدولة الجامع، غير أنه يحدث هنا العكس، فتخضع الدولة لسلطة مطيفة جزئية الكيان، تحول، بوضعها الخاص ووضع الدولة والمجتمع المخالف لطبيعتهما والشاذ، دون أن تكون السلطة، التي حلّت الدولة، لجميع المواطنين، أو للمجتمع كهيئة عامة وموحدة، ويخضع كل شيء لسلطة أنتجتها جهة مغلقة، تتبنى أهدافًا معظمها معادية للكلية المجتمعية، لتناقضها مع الأهداف العامة التي تحمل عادة سمة وطنية، ويتشوه كلّ أمر، ويعمّ الإقصاء والعنف، بصفتهما بديل السياسة، بمعناها الأصيل، كتدبير للشأن العام وشؤون المواطنين، أفرادًا وجماعات. ولا تنجو الطائفية كجسم مجتمعي شرعي يضمّ مؤمنين من الارتدادات الكارثية للسلطة المطيفة والطائفة المتسلطة، التي تزجّ بها في تجاذبات وصراعات، ليست من اختيارها ولا مصلحة لها فيها، بما أنها تضعها في مواجهة مجتمعها، الذي تحتاج إلى التكامل معه في أجواء من الحرية والمساواة، بدل الانخراط في ما لا طاقة لها به، ولا قدرة عليه: خوض معركة لم تخترها، ويستحيل كسبها، لأنها معركة ضد المجتمع والدولة المجتمعية، بما يمثلانه من مصلحة وجودية لها أيضًا، تنضبط علاقاتها بهما، عبر توازنات وتوافقات سلمية، وعهود ومواثيق وطنية، تحميها عبر إدراج مصالحها الخاصة في مصلحة وطنية عليا، تضمن استقلال المجتمع، واستقلالها النسبي عن التمثيلات السياسية.

ليس الاعتزاز بالانتماء إلى مذهب طائفيةً. إنه أمرٌ طبيعي يتصل بحرية الإنسان وحقوقه، ولا يكون الإيمان مذهبيًا أو طائفيًا، ما دام يدور في النطاق الشخصي للمؤمن. الطائفية هي سياسة تستغلّ مذهبًا من المذاهب، لأغراض تعطل جوانبه الإيمانية، الخيّرة والإنسانية، لذلك، يجب القول: إن الطائفي يدمر أول ما يدمر طائفته، بإخراجها عن حالة الطبيعة، وزجّها في وظائف تتحدّى قدرتها على تحقيقها، ضمن ظروف تآلف ووئام عامين، ودون صراعات يستحيل كسبها على المدى الطويل، بما أن الطرف الطائفي، أي الأقلوي، يستفز ويتحدى مجتمعه ومذاهبه، التي لن ينصاع أتباعها لما يفرض عليهم من إقصاء يحتمه الاستئثار بالسلطة.

لا يمكن لعاقل أن يعتبر الطائفية ضمانة له أو لطائفته، وأن يرى فيها حلًا لما قد يوجد من مشكلات تواصل أو تكامل مع بقية المجتمع، فما بالك إن اقترنت بالسلطة، وانتشرت بواسطتها في مجمل الرقعة الوطنية، وتحولت إلى تحد يومي وشخصي للمواطنين. ولا يمكن لعاقل اعتبار الطائفية وضعًا طبيعيًا، ونهائيًا، للمجتمع والدولة، بالنظر إلى ما يترتب عليها من كبح للتطور المجتمعي، وتعظيم للفارق بين أتباعها والمنتفعين منها، وبين تشكيلاته المختلفة، ومن عنف يتفاقم باضطراد، ويتراكم إلى أن يصبح عاملًا يفجر الصراع بين قطاعات المجتمع الكبرى، وسلطة تغرّبت عنها، وغدت عدوًا داخليًا لها.

 أخيرًا، ومع نظرة إلى النتائج الكارثية التي ترتبت على تظاهراتها المختلفة، في السلطة والمجتمع، لا بدّ من مقاومة الطائفية والقضاء عليها، من خلال فكّ ارتباطها بالسلطة كحاضنةٍ تحوّل أبناء طائفة ما إلى طائفيين، والالتزام بما في المذاهب والأديان من نقاء إيماني، وعلاقة خاصة بين المؤمن الفرد وخالقه، ليكون لدينا طوائف ضد الطائفية، ونستعيد حياتنا الطبيعية كسوريين!

 مركز حرمون

———————————

الإعلام السوري المعارض .. متى أوان التغيير؟/ عمر الشيخ إبراهيم

كان للثورة التكنولوجية في مجال الإنترنت والهواتف المحمولة والتطبيقات الذكية، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي، أثر كبير في انطلاق مسيرة التغيير في الوطن العربي، ابتداء من تونس، فقد وفرت هذه الوسائل بيئة أكثر أمناً من الواقع، وكسرت هيمنة الأنظمة على توجهات الناس، والتحكم بآرائهم. وفيما بعد، مع انتشار حركة التغيير وتوسّعها، ظهر شكل جديد من الإعلام، اصطلح على تسميته الإعلام البديل أو المستقل، في محاولة لتمييزه وتمايزه عن إعلام الأنظمة، إلى جانب منصّات أخرى، أعلنت عن تبنّيها وانحيازها إلى قيم التغيير الديمقراطي، ما جعل من الإعلام وسيلة التغيير وأداة في الصراع بين القوى المحلية والقوى الدولية.

وفي تخصيص الحديث عن دور الإعلام (الثوري والمعارض) في الثورة السورية، يمكن القول إن خطاب المظلومية هو الذي سيطر على مجمل خطاب تلك المنصات، وربما مؤسسات المعارضة ورموزها، هو الملهم لهذه المنصات، بتبني هذا الشكل من الخطاب، عبر بياناتها وتصريحاتها منذ بداية الثورة، وما زال كثير منهم يكرّرها.

لقد أغرق الإعلام المعارض والثوري شاشاته ومنصاته بفيضٍ من الضيوف والمواد التي ترسخ خطاب المظلومية، اعتقاداً منه أنها الاستراتيجية الأنجع لإدانة النظام في سورية، وتعريته أمام حاضنته وأمام المجتمع الدولي. والحقيقة أن هذه الاستراتيجية أحدثت آثاراً عكسية على قضية السوريين، فقد نجح النظام، وفق خطة محكمة، في رفع عتبة الألم إلى الحد الذي لم تعد حاضنته، وكذلك الرأي العام الدولي، يشعران به، لا بل دفعهم إلى استساغة رؤية الدماء والدمار والتسليم بالإجرام الذي يقترفه وكأنه أمر اعتيادي لا جديد فيه، لا بل أيضاً تحميل المقتول ذنب مقتله، تماماً كما روّج الكيان الصهيوني جرائمه بحق الشعب الفلسطيني. وأخذنا نسمع من يلوم الضحية ويصف مقاومة الاحتلال والظلم بأنه انتحار، لا بل جنون، في ظل عدم التكافؤ في القوة والسلاح بين الطرفين.

ويبدو أن تبني الإعلام السوري المعارض هذا الخطاب كان الملجأ من الاستحقاقات التي وجد القائمون عليه، والعاملون فيه، أنفسهم في مواجهتها، من دون أن يكون لديهم تقدير دقيق لأهمية هذا الحراك السوري، محلياً وإقليمياً ودولياً، وفي غياب شبه تام لأية استراتيجية أخرى للتعاطي مع هذا الزخم الإخباري والأحداث الكبيرة والسريعة التي تجرى. كذلك وجدوا أنفسهم أمام واقع ميداني صحافي مليء بصور القتل والتعذيب والتدمير، لم يستطيعوا توظيفها بشكل ناجع، بل لم يتدخلوا فيها وتركوها، في أحيان كثيرة، مادّة عذراء، لتعرض على الشاشة كما هي، وتتبع عرضها باستضافة ضيوف يكرّرون، في مداخلاتهم، حديثاً تطغى عليه الإنشائية والانفعالية إلى درجة يشعر معها المشاهد بأنه أمام حفلة نواح، أتعبت فئة وسئمت منها فئة أخرى، اختلط فيها دور المسؤول والمحلل، فتجد الأول يحلل، بينما يفترض به إعطاء معلومات، كما تجد الثاني يسرد معلومات سرية، لا ندري كيف حصل عليها وما سندها، ويصدقه المشاهد ويسلم بحديثه على أنه حقيقة.

أحد أسباب هذا التخبط افتقار غالبية الكوادر العاملة في الإعلام السوري المعارض إلى المنهجية والخبرة، مروراً بالتدريب والتطوير. ولا تطلق المقالة هنا الأحكام، بل تصف الواقع، فمع اندلاع الثورة السورية انكفأ غالبية الصحافيين والإعلاميين، أصحاب الكفاءة والخبرة، عن الانحياز إلى الثورة ونقل مجريات أحداثها، ولهم أسبابهم الموجبة في هذا الانكفاء الذي أحدث فراغاً كبيراً، وخصوصاً في تغطية الجانب الميداني لهذا الحراك الشعبي الواسع، وإظهاره للعالم. ما اضطر فئة من الشباب إلى ملء هذا الفراغ، من دون أن يكون لديهم أدنى درجات التأهيل العلمي والعملي الصحافي. ومع حاجة الإعلام العربي والدولي الماسّة لأية صور ومعلومات من الداخل السوري، تم تلقف هؤلاء الشباب (اصطلح على تسميتهم فيما بعد بالناشطين)، وعرض موادهم من دون الالتزام بمعايير الجودة والحرفية والمهنية، لأنه لم يكن هناك بديل، والحدث لا ينتظر. الحقيقة أن هؤلاء الناشطين الصحافيين كان لهم أثر كبير جداً في إظهار حقيقة ما يجري إلى الخارج. وقد كان غالبيتهم فدائيين في نقل الواقع، من دون توفر حد أدنى من إجراءات السلامة، ما أدى إلى ارتقاء عدد كبير منهم شهداء الكلمة والحقيقة. وقد شكل ظهورهم، في تلك اللحظة التاريخية، حلاً إسعافياً لوضع طارئ، كان لا بد من التعامل معه، بغض النظر عن النتائج المترتبة عليه. ولكن فيما بعد، عندما انتقل هؤلاء إلى العمل في المؤسسات والمنصّات التي بدأت تتأسّس، كان لزاماً أن يتم تأهيلهم علمياً وعملياً بشكلٍ يصقل الخبرات التي اكتسبوها في الميدان، ويملأ الفجوات المعرفية لديهم عن العمل الصحافي.

ولكن يبدو أن هذه المرحلة تم القفز عنها في منصّات عديدة، أو تم المرور بها سريعاً، لأسبابٍ كثيرة، ما انعكس سلباً على جودة المنتج الإعلامي، وعلى وضوح الرسالة الإعلامية. كما ساهم في ذلك غياب التخطيط الاستراتيجي، وليس اليومي التفصيلي، عن هذه المنصات. لا بل إن غالبية إدارات هذه المنصات لا تحتوي هياكلها على إدارة التخطيط، بل لا تؤمن بها، وتعتبرها ترفاً. ببساطةٍ، لأن أغلب أصحاب القرار في هذه الإدارات من النمط التقليدي في التفكير، وبعضهم متأثر بالمنهجية التي تُدار بها مؤسسات الأنظمة الإعلامية، إذ إن المهم العمل وفق مبدأ الأمان والسلامة، مع إغلاق باب الإبداع والتفكير خارج الصندوق، بحجج عدم المغامرة والنضج، وعدم تقبل المشاهد هذه الأفكار، من دون أن يكون هناك قياس علمي لتوجهات الجمهور. ويعدّ ذلك كله مؤشّراً على أنه ليس لدى هذه الإدارات تقييم دقيق لقدرات كوادرها وأدواتهم نحو تحقيق التغيير عبر المحتوى المعرفي والبصري، كما أنها تفتقر إلى رؤية واضحة ومحدّدة عن الأهداف التي تتناسب والقدرات البشرية والمالية والتقنية للمؤسسات التي تديرها، بما يخدم المبادئ والقيم المعلنة منها، فنجد خللا في مستوى الأهداف الموضوعة، بحيث إما أنها فوق القدرات الموجودة أو تحتها. وفي الحالة الأولى، تؤدّي النتائج إلى العجز واللاجدوى، وربما ينتج عنه إغلاق هذه المؤسسات، بداعي عدم تحقيق الأهداف المرجوة منها. وفي الثانية، تؤدّي إلى الشعور بالإحباط، كونها تملك قدرات ومؤهلات لتحقيق مستوى أعلى من الأهداف، ولكن غياب التقييم والتخطيط يحول دون ذلك. وبالتالي، تبنّي خطاب المظلومية الرائج والمعتمد من المعارضة السياسية ومنظمات المجتمع المدني هو الخيار الأسلم (بنظرهم)، لتكون جميع هذه الأطراف، في نهاية المطاف، صدى لصوت واحد، بينما يكون الإعلام أكثر تأثيراً كلما كان أكثر تنوّعاً وأدق تخطيطاً وأقرب إلى الناس.

العربي الجديد

————————————–

مناطق السكن العشوائي في سورية/ أحمد صوان و أحمد صوان

المحتويات

ملخص تنفيذي

مقدمة منهجية

أولًا- تعريف العشوائيات وخصائصها ومخاطرها

ثانيًا – خصائص السكن العشوائي في سورية

ثالثًا- التشريعات العقارية السورية واستقرار الملكية

رابعًا- تصورات أولية للإصلاح القانوني المطلوب

ملخص تنفيذي:

تهدف هذه الدراسة إلى التعرّف إلى واقع التجمعات السكنية العشوائية في سورية، وإلى أهم المشكلات القانونية التي تولدت عن هذا النشوء المتسارع للعشوائيات في سورية، وتبحث في سبل الخلاص من أزمة العشوائيات، وإعادة تنظيمها بما يحقق سبل المعيشة المثلى لساكنيها، ويضمن حقوق الملكية وقواعد التخطيط الحضري والتنظيمي المثلى للمدن الحديثة التي تضمن بيئة صحية وسليمة وآمنة، تراعي أهداف التنمية المستدامة الحضرية والبيئية وحقوق الإنسان.

 تناولت الدراسة هذه المشكلة في أربعة محاور هي:

    تعريف العشوائيات وخصائصها، من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، والطرق الثلاث المتبعة في معالجة أزمة العشوائيات في العالم، وهي الاعتراف بالعشوائيات ومحاولة الارتقاء بها؛ الإلغاء والإحلال؛ الحلّ الاستئصالي.

    خصائص السكن العشوائي في سورية، وتسليط الضوء على تحديات وإشكالات قضايا الملكية والسكن في سورية، وأسباب انتشار السكن العشوائي، والحجم الحقيقي للظاهرة، ثم الدور غير المباشر للبلديات في انتشار العشوائيات، والاستراتيجيات القاصرة لحلّ هذه الإشكالات.

    التشريعات العقارية السورية المتعلقة بالملكيات بشكل عام، وما يتعلق منها بالسكن العشوائي وأوضاع الملكية في السجل العقاري، وغاية السلطة الحاكمة في سورية من إصدار مزيد من القوانين العقارية الإشكالية والمُجحفة، والقوانين التي حاولت تسوية المخالفات في مناطق السكن العشوائي. ودور القضاء ودائرة الكاتب بالعدل في توثيق ملكية المساكن في مناطق السكن العشوائي. وأوردنا لمحة عن اهتمام القانون الدولي بحقوق السكن.

    المخرجات والتوصيات والرؤية المقترحة للإصلاح القانوني المطلوب لمعالجة أزمة السكن العشوائي في الموضوعات الخمس التالية:

– التوصيات الخاصة بالمالكين والمهجرين.

– المقترحات لمعالجة أزمة الإسكان في مناطق العشوائيات عند انتهاء النزاع.

– دور المجتمع الدولي في حل أزمة العقارات في سورية.

– المخرجات والتوصيات القانونية.

– مقترح لإنشاء لجان التحكيم ذات الاختصاص القضائي بالنزاعات العقارية في مناطق العشوائيات

الصعوبات التي واجهت إعداد هذا البحث:

    قلة المعلومات عن كثير من مناطق السكن العشوائي في سورية.

    صعوبة التحقق من المعلومات الخاصة بملكية الأراضي التي شيد عليها السكن العشوائي. وعند الحديث عن منطقتي عش الورور ومزة 86 في دمشق، وعن ملكية الأراضي المبنية عليها، واجهتنا كتلة صماء من سرية المعلومات الخاصة بذلك.

    عدم وجود منصات أو مواقع إلكترونية لمعظم المؤسسات الحكومية السورية، للاستئناس بمعلومات موثوقة، و في حال وجود الموقع، كانت المعلومات تقتصر على نشر أخبار المؤسسة، ولا تتضمن إحصاءات و لا معلومات علمية دقيقة أو متسقة يمكن الركون إليها أو الاعتماد عليها.

مقدمة منهجية:

بدأت ظاهرة انتشار مناطق المخالفات في سورية في الستينيات من القرن الماضي، منذ بدايات التهجير الداخلي للسكان الناجم عن الصراعات، وعلى وجه الخصوص تهجير العرب السوريين من الجولان عام 1967، وكذلك النازحين عقب الحرب مع إسرائيل عام 1973، حيث أسهم ذلك في اختلال التوازن بين المدن، من حيث عدد السكان، ويوجد اليوم حوالي 305000 نازح وذريتهم من الصراع الأول المذكور. ويجب أن يضاف إلى ذلك الهجرة الدولية، ولا سيّما الهجرة الفلسطينية، بين عامي 1948 و1967، وهجرة اللبنانيين بين 1984 و2006، والعراقيين بين أعوام 1990 و2008).

ثم تفاقمت الأزمة في الثمانينيات، حين ظهرت مناطق المخالفات الجماعية في دمشق وحمص وحلب، نتيجة موجات هجرة الريف إلى المدينة، وبتشجيع من النظام السياسي السوري، أسهمت القوانين والأنظمة الإدارية في ازدياد هذه المناطق، بدلًا من الحدّ منها. وقد وفرت منظومات الفساد المرتبطة بالسلطة التربة الخصبة لنموّها. وتتصف المساكن في مناطق السكن العشوائي بسوء المواصفات الإنشائية، وفوضى التنظيم، والاكتظاظ، ورداءة الخدمات المقدمة للساكنين في هذه المناطق.

إن من أهمّ التحديات التي تواجه حلّ المسألة العقارية في سورية مسألة عدم تسجيل كلّ الأراضي بشكلٍ أصولي في السجل العقاري، وهناك مساحات ما زالت غير محددة ومحررة، أي ليس لها رقم، وما زالت أراضي بلا هوية، وإنّ نسبة كبيرة من مناطق سكن المعارضة تقع ضمن مناطق السكن العشوائي، والمساكن فيها غير مسجلة بالسجل العقاري، أي أن ملكية معظم القاطنين في هذه المناطق ملكية غير قانونية، ومعرضة لخطر المصادرة بموجب القوانين الجديدة، ويعدّ هذا الأمر هاجسًا لكل المهجّرين من مناطق المعارضة.

لقد كان امتلاك السكن المتواضع والآمن لمعظم السوريين حلمًا، خلال عشرات السنين من حكم البعث، وقد تفاقمت أزمة السكن النظاميّ والعشوائي في سورية، منذ الثمانينيات حتى اليوم، وتحولت إلى معضلة مستعصية على الحلّ؛ حيث أفرزت سنوات الحرب التي تلت اندلاع الثورة السورية عام 2011 مشكلات ونزاعات شتى، بين أطراف مختلفة (مالك الأرض والباني والمشتري والمستأجر والدولة) وما زاد في تعقيدات أزمة السكن العشوائي في سورية سلسلةُ التشريعات العقارية التي صدرت في الفترة القصيرة السابقة، والتي أباحت للدولة هدم مناطق كاملة، وفق إجراءات وآليات تمنح السلطة كل الصلاحيات، وتجعل المالك عاجزًا أمام جبروت الدولة بسلطة قوتها وقوانينها الجائرة.

واستنادًا إلى ما سبق تتحدد مشكلة البحث بالأسئلة الآتية:

1-ما القوانين والتشريعات السورية التي تسمح للدولة بالاستيلاء على المساكن، ومن ثم هدم مناطق المخالفات والعشوائيات؟ وما هي مخاطرها؟

2- ما طبيعة النزاعات القانونية التي تنجم عن عمليات الهدم والاستيلاء، وكيف يستطيع المواطن حماية حقوقه العقارية؟

أما أهمية البحث فتحضر، من ندرة الأبحاث القانونية والإدارية التي تتناول واقع السكن العشوائي في سورية، والمخاطر والمشكلات القانونية الناجمة عن قيام الدولة بهدم العشوائيات، والاستيلاء على كثير من المساكن فيها، والأهداف الخفية لسلسلة التشريعات العقارية التي صدرت في السنوات الأخيرة وأتاحت للدولة هدم بعض المناطق في المدن السورية، والاستيلاء على بعضها الآخر.

وللإجابة عن أسئلة البحث، اعتمدنا على منهجية تحليل مضمون القوانين السورية الجديدة، وبيان مدى خطورة المضي في تنفيذها، وعلى الأبعاد السياسية لتعاطي النظام مع المشكلات العقارية، وتمت المعالجة بالاستناد إلى المنهج الوصفي التحليلي والاستقرائي.

يمكنكم قراءة البحث كاملًا بالضغط على علامة التحميل

https://www.harmoon.org/wp-content/uploads/2021/04/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%83%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B4%D9%88%D8%A7%D8%A6%D9%8A-1.pdf

مركز حرمون

———————————

أهم القواعد الإسرائيلية في التعامل مع الملف السوري/ عدنان أبو عامر

عاد الاهتمام الإسرائيلي بالتطورات السورية منذ اندلاع ثورتها في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات إلى جملة أسباب وعوامل أساسية، من أهمها: القرب الجغرافي، وحالة الحرب “المعلنة” معها، وخشيتها أن تؤدّي لانهيار وقف إطلاق النار، أو تسخين الجبهة في الجولان، فضلا عن أهمية دور سوريا الإقليمي، وتأثيرها في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط، وصولا إلى القلق الدائم على مصير ما بحوزتها من احتياطي كبير من الأسلحة والصواريخ غير التقليدية.

ورغم استبعاد المحافل الإسرائيلية أن يشن النظام السوري حرباً على إسرائيل، للهروب من الاستحقاقات الداخلية عقب الثورة الشعبية، لكنها في الوقت ذاته حذرت من مخاطر الفوضى في سوريا، لأنها ستوفر مناخاً مناسباً لوقوع الأسلحة الكيماوية أو الصاروخية التي يمتلكها النظام بأيدي منظمات معادية، وهي تنظر بعين حذرة لنقل وسائل قتالية محطمة للتوازن من سوريا إلى لبنان.

وقد كشف النقاب في إسرائيل أوائل 2015 أن اندلاع الثورة السورية عطل عملياً مفاوضات حثيثة بين الجانبين للتوصل إلى اتفاق بينهما، يقوم على انسحاب إسرائيلي من هضبة الجولان إلى خطوط 1967، مما يحيّد المحور الإيراني السوري وحزب الله، حيث قاد المفاوضات وزير الدفاع السابق إيهود باراك بمعرفة مجموعة صغيرة جداً من السياسيين.

كما دأبت الأوساط الإسرائيلية في الآونة الأخيرة على الحديث عن استراتيجيتها المعتمدة تجاه الأزمة السورية، وتمثلت في فرض الخطوط الحمراء التي أعلنتها كعنصر أساسي لأمنها القومي، وبنفس القدر من الأهمية، اعتمدت تنفيذ النشاطات الهجومية بفاعلية، دون جر إسرائيل للحرب في سوريا أو لبنان.

تغيرت الخطوط الإسرائيلية الحمراء تجاه سوريا بشكل طفيف في السنوات العشر الماضية؛ تماشيا مع التطورات الحربية والسياسية، لكن نسختها الأخيرة تمثلت بأن أول خط أحمر هو الرد على أي انتهاك لأمن إسرائيل، وثانيا منع استخدام سوريا للأسلحة غير التقليدية الكيميائية، ومنع نقلها إلى لبنان.

الخط الأحمر الثالث يتمثل بمنع أو تعطيل قوة نقل الأسلحة عالية الجودة، الكاسرة للتوازن، من إيران إلى سوريا ولبنان، فضلا عن منع وتعطيل نقل الأسلحة عالية الجودة من الجيش السوري وصناعته العسكرية إلى لبنان، لمنع تعزيز وتحسين قدرات حزب الله، أو المندوبين الإيرانيين، ومنع الأضرار المدمرة للجبهة الداخلية المدنية والعسكرية في إسرائيل.

أما الخط الأحمر الرابع فيتعلق بمنع أو تعطيل نقل الأسلحة، وبشكل أساسي صواريخ أرض- جو المتطورة من إيران إلى لبنان وسوريا، التي قد تمثل خطرا وتحدّ من حرية إسرائيل في التفوق الجوي والاستخباراتي في الساحة الشمالية، أما الخط الخامس، فهو منع إقامة جبهة إيرانية ضد إسرائيل في سوريا على غرار الجبهة التي أقامها حزب الله في لبنان بمساعدة إيرانية.

الخط الإسرائيلي السادس يرتبط بمنع إنشاء جيوش معادية لإسرائيل، من مختلف الطوائف والمذاهب، قرب الحدود مع إسرائيل، بطريقة تسمح لهم بتنفيذ عمليات عبر الحدود على حين غرة، والخط السابع منع وتعطيل إنشاء واستخدام الممر البري من إيران عبر العراق وسوريا إلى لبنان.

لقد تم تنفيذ هذه الخطوط الحمراء بوسائل حركية وناعمة، وسرية أحيانا، دون تحمل المسؤولية، وفي بعض الأحيان يتحمل الجيش الإسرائيلي مسؤولية بعضها إذا رأى أنها تخدم الحرب الإعلامية على التوسع الإيراني في المنطقة.

علت إسرائيل في المناطق القريبة من حدودها مع سوريا، لتحقيق هدفين رئيسيين: الأول منع تدفق السوريين والفلسطينيين الذين سيصطفون على حدود الجولان، وربما في لبنان، وهذا مشابه لما حدث في تركيا والأردن ولبنان التي اجتاحتها ملايين السوريين الذين فروا من بلادهم، وخلقت أزمة اقتصادية وصحية في البلدان التي منحتهم اللجوء.

أما الهدف الإسرائيلي الثاني فهو تعطيل إنشاء جبهة إيرانية أخرى في سوريا، وإحباط أي هجوم حدودي، سواء من جانب مجموعات الإسلام الجهادي السني، كتنظيم الدولة والقاعدة وجبهة النصرة، أو من جانب حزب الله والميليشيات العاملة في خدمة إيران.

لقد تركزت الاستراتيجية الإسرائيلية في سوريا خلال السنوات الماضية في المجال الأمني، فالجيش السوري اليوم ضعيف ومنهك، ولن يشكل تهديدا خطيرا لإسرائيل بعد سنوات، رغم أنه اكتسب خبرة قتالية، وحصل على معدات حديثة من روسيا، كما تعمق اقتحام المخابرات الإسرائيلية لسوريا، وباتت تتمتع حاليا بتفوق استخباراتي في أراضي سوريا والدول المجاورة، ما يسرع التحذير من النوايا العدائية والأنشطة السرية لإيران.

مع العلم أن الجيش الإسرائيلي عطل بشكل كبير، وأبطأ استخدام الأسلحة عالية الجودة من سوريا وحزب الله، فيما تسير عملية إقامة جبهة إيرانية إضافية على الأراضي السورية بوتيرة أبطأ بكثير مما خطط قاسم سليماني قبل اغتياله، لكن الإيرانيين يواصلون جهودهم لتحسين دقة الصواريخ الباليستية، فضلا عن معدات حزب الله في الطائرات دون طيار وصواريخ كروز.

في المجال السياسي، أقامت إسرائيل حالة من التعايش الوظيفي؛ لمنع الاحتكاك مع القوة الروسية الحامية لنظام الأسد، رغم أن الوجود الروسي في سوريا يقيد بشكل كبير حرية العمل الإسرائيلية هناك.

ولذلك حاولت الأوساط الأمنية الإسرائيلية البحث في التداعيات الإقليمية للتطورات السورية، من خلال تقديم قراءة إسرائيلية صحيحة لهذه التطورات، وتأهّب أمني، وحوار وتنسيق مع الولايات المتحدة وشركاء آخرين، وانفتاح تجاه الفرص الكامنة في الوضع الجديد، لأن تداعيات ما يحصل في دمشق يتجاوز كثيرا سوريا وإسرائيل وصولاً إلى المحيط الجيو-سياسي مما قد يفيد تل أبيب.

ورغم العداء “العلني” بين سوريا تحت نظام الأسد، وإسرائيل، لكن معظم خبراء الشؤون الأمنية يفضلون بقاء عائلة الأسد المتمثلة في حزب البعث في الحكم باعتبارها شريكاً يمكن التنبؤ بتصرفاتها، ولا يتوقع أحد في تل أبيب أن الاضطرابات ستفرز واقعاً أفضل، فإسقاطه سيؤدي لحالة من عدم الاستقرار في المنطقة.

يتمثل التفضيل الإسرائيلي في مآلات الثورة السورية بوجود محيط ضعيف ومتخلف مادياً ومعنوياً، وقمعي ومتفكك، لمنع قيام مشروع نهضوي للعالم العربي، لأنه سيهدد جوهر المشروع الإسرائيلي بكل مركباته، ولذلك بدأت التقديرات الإسرائيلية مبكرة بزوال النظام السوري، عبر التصريحات السياسية والأمنية والعسكرية، وواصلت مواكبة الأحداث السورية، وتباينت الآراء بين السياسيين والعسكريين والمحللين حول اليوم الذي سيلي الأسد، إذا خرج إلى حيّز التنفيذ.

ذات التقديرات الإسرائيلية تحدثت أن التغيير في سوريا قد لا يكون لمصلحة إسرائيل، فالمرحلة التي تلت اندلاع الأحداث السورية لم تكن بالضرورة باعثة على التفاؤل بالنسبة لها، فهناك ما هو أهم من سقوط الأسد، وهو كيفية سقوطه، والظروف التي سيسقط فيها، لأن سوريا ليست فقط حليفة إيران، بل هي تحد إسرائيل، ولديها قدرات عسكرية غير تقليدية، ويبقى السؤال الأهم عن طريقة نهاية المواجهة في سوريا، وهل سيكون هناك نظام وانضباط في الميدان بعد سقوط الأسد، إن سقط فعلا!

من التحديات التي رافقت القراءات الإسرائيلية منذ اندلاع أحداث سوريا، الطلب من الجيش الإسرائيلي أن يستعد لاحتمال أن تسود حالة فوضى عقبها، بسبب عدم وجود شخصية مركزية في المعارضة السورية تسيطر على الوضع، فعندما يكون عدوك واضحاً ومستقراً، فإنك تضعه في إطار سلوكي معين على ضوء تصرفاته في الماضي والحاضر، لكن عندما يتفكك هذا العدو يصبح الوضع خطراً، ولذلك على الجيش الاستعداد لمواجهة أي احتمال.

قدرت التقديرات الأمنية الإسرائيلية أنه في حال انهارت الهيكلية العسكرية للجيش السوري، فلا يمكن معرفة ما سيجري على أرض الميدان، ومن سيتحكم بمن، وبأي أدوات سيتحكمون، ولا أحد يعرف أين سيتم تهريب الأسلحة، لأن سوريا تمتلك قدرات صاروخية وصواريخ تحمل رؤوساً كيميائية، والسؤال من سيتحكم بها، وهو سؤال لا يقل أهمية عن كيفية سقوط النظام السوري، ومن سيرثه.

تمثل الموقف الإسرائيلي من الأحداث السورية فيما نقله رئيس هيئة الاستخبارات العسكرية السابق أفيف كوخافي، وهو رئيس أركان الجيش الحالي بقوله خلال زيارته لمقر الأمم المتحدة في نيويورك أن “إسرائيل تفضل التعامل مع عدو تحسن معرفته، على مواجهة مجهول يقتضي إعادة تكوين شبكة مصادرها الاستخباراتية”.

وفي ظل اشتعال الموقف الميداني في سوريا، واصل الجيش الإسرائيلي بناء جدار فاصل، وزرع ألغام في هضبة الجولان، وأعد خطة متكاملة في حال تعرضت سوريا لهجوم خارجي، ومواجهة أي تصعيد في المنطقة، لأن زوال نظام الأسد سيكون له تبعات سلبية وإيجابية على إسرائيل، فرغم أنه جزء أساسي من المحور الإيراني، لكنه من جانب آخر يحافظ على هدوء الحدود معها، ولأن تل أبيب تعرف كيف تتعامل مع الأسد وكبار المسؤولين الموجودين في دمشق، لكنها لا تعرف كيف ستتعامل مع سوريا أخرى في حال تغيير نظام الحكم، مما سيضعها على أتون بركان ملتهب قد ينفجر في أيّ وقت.

وجدت المنظومة الأمنية الإسرائيلية أن للأزمة السورية آثاراً مهمةً على الوضع الاستراتيجي لإسرائيل، وتوجد فيها مخاطر جمة، ومنها: إذا وقعت مخزونات الصواريخ والسلاح الكيماوي في أيدي خطيرة، أو إذا حاول الحكم المنهار تشديد المواجهة مع إسرائيل في سبيل البقاء، أو إذا استخدم حلفاءه في النزاع مع إسرائيل لكسب الشرعية الداخلية، أو إذا انهارت مؤسسات الدولة السورية، واستفاق الكيان الإسرائيلي على جار يشبه الصومال، أو أفغانستان في مرحلة ما، بحيث تهيئ رخاوة البيئة السورية لعمليات تسلل منها إلى الكيان عبر الحدود المشتركة بينهما.

تلفزيون سوريا

عدنان أبو عامر

خبير في الشؤون الإسرائيلية

——————————–

آلاعيب الدستور تمكن الأسد من الاستمرار في منصبه دون انتخابات/ يعرب محمد الشرع

ثمة جهد جانب الصواب في أدنى القواعد والمبادئ العامّة الدستوريّة في دستور 2012، إذ تُؤكّد القراءة المتأنيّة والقانونيّة، أنّ يدَ الأسد ذاته كانت حاضرة حين صياغة القواعد الدستورية، وهي بعيدة كل البعد عن أدنى مبادئ القواعد والأعراف الدستورية العربية والأجنبية، الأمر الذي يكشف بما لا يدع مجالاً للشك، مدى التلاعب والاحتيال بصياغة نصوص دستور 2012، بهدف بقاء الرئيس الحالي متى شاء وكيفما شاء.

فدستور 2012 الذي وضعه النظام على عَجَل، بقصد إسكات الثورة، إلا أنه لم ينجح في ذلك، وسواء حصلت الانتخابات الرئاسيّة في موعدها التقليدي أم لم تحصل فسأحاول أن أُسلّط الضوء؛ مُجتهداً بتفسير بعض المواد الدستوريّة المتعلقة بهذه الانتخابات.

فقد ورد في المادة 85 الفقرة 1 من دستور 2012 ما يلي:

“يَدعو رئيس مجلس الشعب لانتخاب رئيس الجمهورية قبل انتهاء ولاية الرئيس القائم في مدة لا تقل عن ستين يوماً ولا تزيد عن تسعين يوماً”.

وكذلك ورد في المادة 186 من النظام الداخلي لمجلس الشعب لعام 2017 (اللائحة الداخلية للمجلس) ما يلي:

“يَدعو رئيس مجلس الشعب في جلسة علنية لفتح باب الترشيح لانتخاب رئيس الجمهورية قبل انتهاء ولاية الرئيس القائم في مدة لا تقل عن ستين يوماً ولا تزيد على تسعين يوماً”.

التعليق:

ورد في النّصّين آنفي الذكر؛ عبارة: .. لانتخاب رئيس الجمهورية قبل انتهاء ولاية الرئيس القائم… يُلاحظ أنّ المشرّع لم يضع كلمة (مدّة) بين كلمتيّ (انتهاء … ولاية) قد يبدو بأنّه لا فارق بين أن تكون أو لا تكون، ولكن بالتدقيق، نجد أنّ المشرّع ربما أغفلها قاصداً لكي تنسجم (أي لا تتعارض) مع مواد دستوريّة أخرى سنراها بعد قليل، ومنها مادة دستوريّة تسمح بتمديد مدّة الرئاسة بشكل مفتوح وبلا حدود ودون أسباب. ومادة أُخرى تسمح للرئيس باتخاذ الإجراءات السريعة عندما تتوفر أسباب معيّنة في ظروف معيّنة سنراها أيضاً.

وبالعودة لكلمة (مدّة) فلو قال المشرّع قبل انتهاء مدّة الولاية… أي لو ذكر كلمة (مدة) لأَلزمَ المشرّع نفسه، وألزم الرئيس القائم بسبع سنوات مدة الرئاسة مهما حصل من ظروف تستدعي التمديد، لذلك هو جعلها عامّة، وقال: قبل انتهاء ولاية الرئيس القائم..، إذ لا أحد يعرف متى تنتهي الولاية وفقاً للمواد الدستوريّة التي سنراها، والتي أطلقتْ يدَ الرئيس بالاستمرار في منصبه دون رقيب أو حسيب.

نعود إلى المادة 85 ف1 آنفة الذكر نفسها:

فالولاية مدّتها سبع سنوات، وقد بدأت بتاريخ 16/7/2014ويُفترض أنّها ستنتهي بتاريخ 16/7/2021 وعلى هذا الأساس يُفترض أن تتم الدعوة للعملية الانتخابية حصراً قبل موعد انتهاء (مدة) ولاية الرئيس القائم في مدة لا تقل عن ستين يوماً، ولا تزيد عن تسعين يوماً. وبالتالي يجب أن يدعو رئيس مجلس الشعب للانتخاب حصراً بين منتصف نيسان ومنتصف أيار تقريباً.

والسؤال هل يمكن للرئيس أن يستمر في منصبه بالرغم من انتهاء ولاية السبع سنوات، ودون إجراء انتخابات؟ نعم، كما سنرى في المواد الدستورية اللاحقة، ومنها ما تسمح بتأجيل الانتخابات ستة أشهر تقريباً، ومنها ما تسمح له بتمديد فترة الرئاسة إلى أمد غير محدود! في حالات ثلاث هي:

الحالة الأولى: فقد نصّت المادة 87 الفقرة 1 في دستور 2012 على ما يلي:

“إذا حُلّ مجلس الشعب خلال الفترة المحددة لانتخاب رئيس جمهورية جديد يستمر رئيس الجمهورية القائم بممارسة مهامه إلى ما بعد انتخاب المجلس الجديد وانعقاده، على أن يُنتخب الرئيس الجديد خلال تسعين يوماً تلي تاريخ انعقاد هذا المجلس”.

التعليق:

في هذه الفقرة من هذه المادة نجد بأنّ المشرع الدستوري قد أعطى لرئيس الجمهورية فرصة يستطيع من خلالها الاستمرار في منصبه إلى أن يتم انتخاب مجلس الشعب الجديد وانعقاده، وخلال التسعين يوماً التي تلي انعقاد المجلس الجديد، يجب أن يتم انتخاب الرئيس الجديد.

وبناءً على هذا الأساس يستطيع رئيس الجمهورية خلال فترة انتخاب الرئيس وهي الفترة التي تسبق يوم الانتخاب وعلى فرض أنّ موعد الانتخاب هو 1/7/2021يستطيع الرئيس الحالي حلّ مجلس الشعب قبل أيام من عملية التصويت في انتخابات الرئاسة، وبهذه الحالة يتم تأجيل انتخابات الرئاسة ويبقى في منصبه وينتظر مرور تسعين يوماً حتى انتخاب وانعقاد المجلس الجديد، وبعد ذلك وخلال تسعين يوماً أخرى تتم عملية انتخابات الرئاسة، أي يستطيع الرئيس الحالي أن يُماطل بالبقاء دستوريّاً حتى نهاية العام الحالي.

الحالة الثانية: وهي الأكثر غَرابة، هي ما ورد في المادة 87 الفقرة 2 من دستور 2012، والتي نصّت على ما يلي:

“إذا انتهت ولاية رئيس الجمهورية ولم يتم انتخاب رئيس جديد يستمر رئيس الجمهورية القائم بممارسة مهامه حتى انتخاب الرئيس الجديد”.

التعليق:

هذه المادة تؤكّد أنّ مدة ولاية الرئاسة قد تستمر لأكثر من سبع سنوات (المدة التقليدية المقرّرة دستوريّاً)، وبالتالي يستمر الرئيس الحالي بالقيام بمهامه حتّى يتم انتخاب رئيس جديد.

– لم يُحدّد هذا النصّ حدّاً  أقصى لمدة استمرار الرئيس في منصبه.

– لم يكشف هذا النصّ عن الأسباب المحتملة والموجبة والظروف التي تستدعي عدم إجراء انتخابات الرئاسة.

– لا يوجد في أي قانون أو لائحة تنفيذية أو تنظيمية تفسير أو تكميل أو توضيح للنص الدستوري.

– لا يوجد في المبادئ العامة للقانون ما يوضّح هذا الأمر.

– لا يوجد في العرف الدستوري ما يدعم هذه الحالة.

– لم يحدّد النصّ الجهة التشريعية أو التنفيذية المخوّلة بالإعلان عن استمرار الرئيس بتجاوز مدة الولاية المقررة .

  – لم يحدّد المشرّع أيضاً نوع الصك التشريعي أو التنفيذي أو التنظيمي الذي ينفذ مضمون هذا النص.

وقد سكتت المادة الدستورية عن كل ذلك، السكتة العجيبة!

الحالة الثالثة: هناك مادة دستورية أيضاً هي المادة 114من دستور 2012 والتي تنصّ على ما يلي:

“إذا قام خطر جسيم وحالّ يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة واستقلال أرض الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن مباشرة مهامها الدستورية، لرئيس الجمهورية أن يتخذ الإجراءات السريعة التي تقتضيها هذه الظروف لمواجهة الخطر “

التعليق:

في هذه الحالة أيضاً يستطيع الرئيس البقاء في منصبه دستوريّاً، تحت عدة ذرائع وحُجج، وتحت عنوان مفتوح وهو اتخاذ الإجراءات السريعة.. ويُلاحظ في هذا النصّ ما يلي:

– لم يُحدّد النصّ ماهي الإجراءات السريعة عند قيام حالة من الحالات التي وردت في المادة، مثل الخطر الجسيم والحالّ، يهدّد الوحدة الوطنية أو سلامة واستقلال أرض الوطن،  وترك النص الباب مفتوحاً على مصراعيه، وبالتالي يحق للرئيس القائم أن يستمر في مهامه دون إجراء انتخابات تحت مقولة إنّ أرض الوطن ليست جميعها تحت السيطرة وأنّ كثيراً من مؤسسات الدولة تعمل خارج سيطرته ولا تقوم بمهامها.. إلخ. وهذا هو الحاصل بالفعل. الأمر الذي يجعل الرئيس القائم يستمر بالبقاء في منصبه

تلفزيون سوريا

————————————–

الدولة بين العلمانيّة والإسلاميّة/ غسان المفلح

الفارق بين العلماني المحدث، وبين الإسلامي المحدث أيضاً، أنّ العلماني نموذج دولته ما هو قائم في الغرب الآن. أما الإسلامي نموذج دولته هو دولة متخيلة، دولة يضفي عليها ما يفرضه الحاضر على مخيلته. هذه نقطة تصبّ في مصلحة العلماني. السبب أنّ نموذجه قائم الآن وفي هذه اللحظة أمام الأعين، اما الإسلامي، هو كالشيوعي، دولته المتخيلة غير قائمة الآن في الواقع.

الفارق بين المتخيل الشيوعي والمتخيل الإسلامي، أن المتخيل الإسلامي له نموذج في الماضي، وهو دولة المدينة في عهد الرسول أو دولة الخلافة في العهود اللاحقة. أما الشيوعي فلا يوجد نموذج تاريخي لديه، لا في الماضي ولا في الحاضر. قسم من الإسلاميين يرى في النموذج التركي مثالاً يمكن الاحتذاء به. علماً أنّه يعرف في قرارة نفسه، أنّ تركيا دولة “علمانيّة”، حتى وفقاً لرؤيته للعلمانية، كذلك العلماني المحدث يراها دولة علمانية ويفتخر أنّها تسمح لحزب إسلامي بالمجيء إلى السلطة عن طريق الانتخابات. أنتجت التجربة التركية بالانتخابات حزباً إسلامياً يتولّى قيادتها منذ عام 2002، أيضاً بطريقة علمانيّة. لهذا هو يعيش فصاماً في ذلك. هذا الأمر ينطبق على جماعة الإخوان المسلمين في سوريا ومصر. لهذا أيضاً تجد منهم من يحاول رفع أردوغان إلى مرتبة الخليفة، كي يداري فصامه. لا يريد أن يعترف أنّ تركيا دولة “علمانية”. بالمقابل لا يريد أن يرى أنّ الدولة “العلمانية” هذه يمكن أن تستوعب حزباً إسلامياً.

لا يريد الاعتراف بالنموذج. الشيوعي مرتاح من هذا النقاش لأنّ دولة عدالته الاشتراكية، غير موجودة بالتاريخ، حتى الآن، بل هي متخيلة فقط. لهذا هو خارج نقاش هذه المادة.

يخوض الطرفان معاركاً لا يشقّ لها غبار في السوشل ميديا. إنّه زمن السوشيال ميديا. لا يعترف الإسلامي بفضل السوشيال ميديا، التي هي اختراع غربي، وبأنّها جعلت من صوته مسموعاً إلى جماهير ما كان يمكن أن يصل لها لولا هذه السوشيال ميديا، العلماني يعترف بالفضل. ويقول “هذا من فضل الغرب علي”. كما يقول الإسلامي “هذا من فضل الله علي”.

هذه الفصامات الموجودة عند الإسلامي، يعالجها العلماني المحدث، بطريقة تريد نفي هذا الإسلامي من الحياة. فصام الإسلامي أيضاً، هو انتشار السلفيات الجهادية التي تقوم بقتل الأبرياء. سواء في الغرب أو في الشرق. هذه السلفيات الجهادية القاعدية الداعشية تقتل من المسلمين أكثر مما تقتل من غيرهم بحجة الزندقة والكفر وعدم الالتزام الديني. مع ذلك لا يجرؤ إسلامي أن يكفرهم، بينما يكفر نوال السعداوي. عندما تعترض على ذلك، يخرج لك من بطون كتبه نصوصاً مقدسة. بالمقابل العلماني المحدث، تقول له هنالك أحزب دينية في الغرب، هنا تتفتق الآراء، منها من يرى بدون أي تحفظ، أنّ الدين المسيحي غير الدين الإسلامي. الدين الإسلامي دين إرهابي. بالمختصر لأنّ لديه كل مسلم هو مشروع إرهابي. كل مسلم هو خلية نائمة. يجب منع الأحزاب على أساس ديني في الشرق والسماح بها في الغرب هو فارق بين الدينين. كل هذه المشاهد الفصامية، لدى الطرفين، تعبر عن عدم اهتمام بما تعنيه الدولة، سواء عن قصد أو عن جهل.

ليس للدولة دين محدّد، وهي لا تمثّل مجموعة ما على حساب مجموعات أخرى، وإنما هي تمثل كل الشعب من دون أي تمييز. هي محايدة تجاه الأفراد والتجمعات كافة، الإثنية والدينية والطائفية والسياسية والمدنية والمهنية. الدولة حيادية تجاه حرية الفرد وحرية المجموعات الدينية واللادينية أيضاً بالدعوة لأفكارها. تحمي عبر قانونها حرية الفرد والمعتقد. الدولة تحمي الحريات الدينية وممارسة الشعائر، على نحو لا يتعارض مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

ليست هنالك قوانين تمييزية على أساس الدين أو العرق أو الطائفة أو السياسة أو الأيديولوجيا، هذا لا يمنع وجود قوانين أحوال شخصية منفصلة لكل مجموعة دينية. ليس دور الدولة فرض قيم مجموعة دينية ما على أي مجموعة أخرى. الدولة الحيادية هي التي تقف على مسافة قانونية ودستورية واحد من كافة مواطنيها. هذه المسافة هي التي تمنح نفس المواطنين المختلفين، دينياً أو إثنياً أو أيديولوجياً أو طائفياً أو سياسياً، نفس بطاقة التعريف بالانتماء إليها، أو ما يعرف ببطاقة الهوية الشخصيّة. الدولة الحيادية ترفض تديينها بتعريفها أو علمنتها بتعريفها أيضاً.

دستورياً لا يجوز في الدولة الحيادية الحديث عن أية هوية أخرى. كما يرى الباحث المصري عمر حمزاوي، عندما يقول: “لا تتناقض حيادية الدولة مع تأكيد الدساتير المصرية على أنّ دين الدولة هو الإسلام. فالمقصود هنا هو أنّ أغلبية المواطنين المصرين تدين بالدين الإسلامي، أي أنّ الإسلام هو دين الأغلبية في الدولة المصرية”. ليس من حق أي دين أن يعطي هوية للدولة، سواء كان دين الأكثرية العددية أو دين الأقلية العددية، بغض النظر عن أي اعتبار آخر، وإلا انتفت حيادتيها. يجب ألا نقول أنّ هذه دولة دين الإسلام أو المسيحية أو العلمانية.

المطروح للتفكير فيه هو كيف نتخلّص من الدولة السلطوية الفاسدة الآن، والقائمة في بلداننا الشرق أوسطيّة؟ لأنّها ليست دولة غير بالاسم فقط. أما في الواقع فهي ملحقة بسلطة سياسية تمييزية قمعية. الاتفاق على حيادية الدولة بين التيارات والنخب المحلية في أي بلد، هو الذي لا يمكن أن يعرف الحياة دون أن يرتبط بنظام ديمقراطي مقترن بحقوق الأفراد المذكورة أعلاه.

لهذا أجد من المفيد التركيز على إنتاج مفهوم سوري للدولة الحيادية، بعيداً عن معارك الهويات العلمانيّة والدينية والطائفية وغيرها.

——————————————

أبرز ما وضعت روسيا يدها عليه اقتصاديًا خلال عشر سنوات

كان من أبرز نتائج التدخل الإيراني منذ 2011، والتدخل الروسي منذ 2015، الاستيلاء والاستحواذ والسيطرة على كافة مفاصل الحياة الاقتصادية والتجارية في سورية، من خلال عقود واتفاقات وقعتها تلك الأطراف مع رأس النظام السوري بشار الأسد، لتتحول سورية إلى مركز لتغلغل التجار والشركات الإيرانية، ولتمركز الروس في نقاط اقتصادية استراتيجية مهمة.

ويرى مراقبون اقتصاديون أنه على الرغم من كل المشروعات الاستثمارية لروسيا وإيران في سورية التي تتحدث عنها ماكينات النظام السوري الإعلامية، لكنها لم تقدم أي إضافة إلى اقتصاد النظام السوري المنهار ولا للعملة السورية التي باتت تشهد نزيفا حادًا، وبخاصة بعد أن وصل سعر صرف الدولار، في آذار/ مارس 2021، لأول مرة في منذ اندلاع الثورة في 2011، إلى حدود الـ 4000 ليرة سورية.

وفيما يأتي لمحة عن أهم التحركات الروسية الاقتصادية، أو التحركات التي تأتي لتثبيت قدمها في القطاع الاقتصادي، إلى جانب قدمها الثابتة وتحكمها في القرار السياسي في سورية:

– في 16 آذار/ مارس 2021، وقعت وزارة النفط والثروة المعدنية التابعة للنظام السوري، وشركة كابيتال محدودة المسؤولية الروسية، اتفاقية للتنقيب عن النفط في البلوك البحري رقم واحد في المنطقة الاقتصادية الخالصة بسورية في البحر الأبيض المتوسط مقابل ساحل محافظة طرطوس، مدة 32 عامًا، بحسب إعلام النظام ([1]).

وبحسب البيانات التي نشرتها صحيفة (الثورة) الموالية، تمنح الدولة السورية شركة كابيتال حقًا حصريًا في التنقيب عن البترول وتنميته في المنطقة المذكورة. وبحسب العقد الموقع فإن مدة العقد تقسم إلى مرحلتين، الأولى مرحلة الاستكشاف ومدتها 48 شهرًا تبدأ بتوقيع العقد، ويمكن تمديدها حتى 36 شهرًا إضافية، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة التنمية ومدتها 25 عامًا قابلة للتمديد مدة خمس سنوات إضافية. أما في ما يخص تقاسم الحصص فالأمر مرتبط بسعر النفط والكميات المنتجة، وكذلك الأمر إن كان المنتج غازًا طبيعيًا.

– وقّعت روسيا مع النظام السوري في 2017، اتفاقية تقضي بإقامة مركز لوجيستي للمعدات الفنية الخاصة بالأسطول الروسي في طرطوس مدة 49 عامًا([2]).

– في نيسان/ أبريل 2019، رتّبت روسيا مع النظام السوري، عقدًا تضمن استئجار ميناء طرطوس مدة 49 عامًا([3]).

– وقّعت روسيا عبر شركة (ستروي ترانس غاز)، عقدًا مع حكومة النظام السوري لاستثمار معامل (الشركة العامة للأسمدة)([4]).

– صادق مجلس الشعب التابع للنظام، في آذار/ مارس 2018، على العقد الذي وقعته الشركة الروسية مع (المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية)، لاستثمار خامات الفوسفات واستخراجها من مناجم الشرقية في تدمر مدة 50 عامًا، وبحجم إنتاج يُقدر بنحو 2.2 مليون طن سنويًا، تبلغ الحصة السورية منه 30%([5]).

– وقّعت شركات روسية عقودًا أخرى منها: عقد (عمريت) الذي يتيح لشركة (سبوز) التنقيب عن النفط والغاز مدة 25 عامًا جنوب طرطوس وصولًا إلى مدينة بانياس وبعمق شاطئ يقدر بنحو 70 كم، بمساحة تقدر بنحو 2200 كم2([6])

– وقّعت شركة (سبوز) عقدًا للتنقيب عن النفط والغاز في حقل قارة بريف حمص، وهو أحد أغنى المناطق بالغاز الطبيعي([7])

– في أيار/ مايو 2018، انطلق أول المشروعات السياحية الروسية في سورية، إذ أعادت شركة (STG.LOGISITC) تأهيل قرية المنارة السياحية بمحافظة طرطوس الساحلية، وبتكلفة بلغت نحو 90 مليون دولار، في مشروع لفندق 5 نجوم يقع على شاطئ مدينة طرطوس([8]).

– في مطلع 2018، بلغ عدد الشركات الروسية التي دخلت سورية، 80 شركة استثمارية([9]).

– في حزيران/ يونيو 2019، قدمت شركة روسية عرضًا لوزارة الصناعة للتشاركية يتضمن الاستثمار في شركة البطاريات بحلب، التابعة للمؤسسة العامة للصناعات الهندسية([10]) .

– سيطرة الروس على حقل (التيم) الواقع على بعد 10 كم من مدينة (موحسن) في ريف مدينة دير الزور الشرقي([11]).

– سيطرة الروس على حقل (الورد) الواقع قرب قرية (الدوير) في ريف دير الزور الشرقي([12]).

– في أيار/ مايو 2019، كشفت وكالة (سبوتنيك) الروسية، عن وجود مباحثات لاستثمار مطار دمشق الدولي وتوسيعه([13]) .

– في 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، أعلن وزير الخارجية الروسي (سيرغي لافروف) عن تعيين مبعوث خاص له للتسوية في سورية([14]).

– في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، استدعت روسيا عن طريق وزارة التنمية الاقتصادية التابعة لها، وفدًا اقتصاديًا من حكومة النظام إلى موسكو، لإعطائه توجيهات الخطط الروسية القادمة وما يجب على النظام فعله من أجل تنفيذها على أرض الواقع، المتعلقة بمشروعات القطاع التجاري والزراعي والصناعي، وكذلك مشروعات الطاقة والنقل والمياه، إضافة إلى السيطرة على الأسواق والمواد الأساسية الاستهلاكية والإنتاجية([15]) .

– في الشهر ذاته، وصفت صحيفة روسية، الساحة السورية بأنها ساحة تجارب لا تقدر بثمن، وأن التدخل الروسي المباشر في سورية كان له دور كبير في حماية استثماراتها من الضياع([16])

– وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2020، توجه رئيس لجنة التحقيقات الروسية (ألكسندر باستريكين) إلى سورية، وعند وصوله استدعى كلًا من رئيس مكتب الأمن الوطني التابع للنظام (علي مملوك)، ووزير العدل في حكومة النظام (أحمد السيد)، وأبلغهم أن روسيا تريد وضع يدها على أجهزة الأمن السورية، مدعيًا أن ذلك يهدف إلى (توسيع التعاون بين تلك الأجهزة والأجهزة الأمنية الروسية)([17]).

– في تموز/ يوليو 2020، أصدر الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) قرارًا يقضي بتعيين مبعوث خاص به في سورية، حيث رُفع السفير الحالي في سورية (ألكسندر يفيموف)، ليصبح مبعوثًا شخصيًا له([18]).

– وفي تموز/ يوليو 2020، وقّع الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين)، مرسومًا فوض فيه وزارتي الدفاع والخارجية بإجراء مفاوضات مع النظام السوري بغية تسليم العسكريين الروس منشآت إضافية وتوسيع وصولهم البحري في سورية، بحسب وكالة (إنترفاكس) الروسية وباعتراف من وسائل الإعلام الموالية للنظام([19]).

– في 28 أيلول/ سبتمبر 2020، التقى الأدميرال نائب رئيس مركز المصالحة الروسي في سورية منسق أعمال الهيئتين التنسيقيتين السورية والروسية، بمحافظ دمشق (إبراهيم العلبي)، وبُحث واقع العمل الإنساني والصحي، وسبل زيادة التعاون والتنسيق المشترك، وإجراءات يخطط لتنفيذها في المرحلة المقبلة([20]).

– في أيلول/ سبتمبر، اعترف وزير خارجية النظام السوري، وليد المعلم، أن روسيا وسورية ترتبطان بعلاقات شراكة في مختلف المجالات، وأشار إلى أن مشروع الاتفاقية الجديدة بين سورية وروسيا، يضم أكثر من 40 مشروعًا جديدًا في مجال إعادة إعمار قطاع الطاقة وعددًا من محطات الطاقة الكهرومائية واستخراج النفط من البحر([21]) .

 وفي أيلول/ سبتمبر 2020، أعلنت روسيا عن إبرامها اتفاقية للتعاون النووي مع حكومة النظام السوري، وذلك على هامش المؤتمر العام للطاقة الذرية في (فيينا)، في حين رأى مراقبون أن هذه (الاتفاقية تهدف إلى توسيع المؤسسات والبنى التحتية الروسية في سورية)([22]) .

– وفي أيلول/ سبتمبر 2020، وصل وفد روسي رفيع المستوى برئاسة وزير الخارجية الروسي (سيرغي لافروف) إلى العاصمة دمشق، في زيارة وصفها مراقبون بـ (المفصلية)، وأنها جاءت لإنعاش الاقتصاد في سورية إضافة إلى وضع يد الروس على استثمارات ومشروعات جديدة في سورية([23]).

– في نهاية 2020، أصدر رئيس الوزراء الروسي (ميخائيل ميشوستين) أمرًا بافتتاح ممثلية تجارية في سورية([24]).

– في نهاية 2020، أُسست شركة (ستروي اكسرت فينيق) الروسية، برأس مال قدره 50 مليون ليرة سورية([25]).

– في المدة ذاتها، أعلنت حكومة النظام السوري أنها تنوي الاستفادة من التجربة الروسية في إدارة المدن وبخاصة (دمشق القديمة)، في حين أكدت روسيا استعدادها للتعاون وتبادل الخبرات في هذا المجال([26]) .

– وفي نهاية 2020، اتفقت روسيا مع النظام السوري، على إحداث خط إنتاج لصناعة (الجينز) بطاقة عالية في اللاذقية([27]).

– في نهاية 2020، وقّعت روسيا مع (غرفة تجارة وصناعة طرطوس)، مجموعة من العقود والاتفاقات مع عدد من المستثمرين، على أن تنفَّذ فورًا، ومن أبرزها: تصدير حوالى 700 حاوية من الخضروات والفواكه والحمضيات من الإنتاج السوري إلى الأسواق في جنوب روسيا، إقامة منشأة لفرز الخضار والفواكه بأنواعها المختلفة وتعبئتها، وفق المواصفات العالمية باستثمار سوري – روسي، والبدء في العام المقبل بإقامة معارض من المنتجات الزراعية السوريّة في أسواق جنوب روسيا للمساهمة في تسويق هذه المنتجات([28]).

– في نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2020، أعلنت روسيا أنها بدأت بإرسال الوفود المختصة للإشراف على عملية إعادة الإعمار في سورية، وادعت أن تلك الوفود ستعطي دروسًا مفيدة لحكومة النظام السوري في كيفية إعداد مشروعات التخطيط للمناطق والمنازل والبنى التحتية([29]).

وكان الوفد الروسي الذي وصل إلى دمشق، يضم موظفين من وزارة البناء والإسكان والمرافق في الاتحاد الروسي، زار الضواحي السكنية في منطقة الديماس، في حين نشرت وكالة الأنباء الفدرالية الروسية، صورًا قالت إنها (لإشراف الوفد الروسي على عملية إعادة البناء السكني في سورية).

وذكرت مصادر عدة ومن بينها وسائل إعلام النظام السوري، أن الوفد الروسي اطلع على مراحل بناء مجمع سكني في بلدة الديماس في ضواحي دمشق، حيث يبنى مجمع سكني مؤلف من 14.000 شقة على مساحة 500 هكتار.

ونقلت المصادر عن وزير البناء والإسكان والخدمات المجتمعية الروسي (نيكيتا ستاسيشين)، قوله إنه (يمكن لحكومة النظام السوري أن تتعلم منا كيف يجب أن يبدو مشروع تخطيط المنطقة، وكيف يجب أن تقف المنازل، وأين يجب إحضار الشبكات)، وادعى أن (الأمر يبدو بسيطًا).

-وفي نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر اجتمع محافظ دمشق (عادل العلبي)، مع مستشار رئيس لجنة العلاقات الخارجية في محافظة سان بطرسبرغ الروسية (ايفان كالباكوف)، ورئيس مجلس الأعمال الروسي السوري المدعو(لؤي يوسف)، ونائب رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط وبلدان وسط آسيا (يفغيني سوسونكين)([30]).

– في أيلول/ سبتمبر الماضي، أعلنت لجنة الأمم المتحدة (الإسكوا) عن حجم الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها سورية والمقدرة بأكثر من 442 مليار دولار أميركي، وذلك خلال الفترة الممتدة من العام 2011 وحتى العام 2019، واصفة تلك الخسائر بـ (الفادحة)([31]).

– ومن المشروعات التي وضعت روسيا يدها عليها (ماروتا وباسيلي سيتي) اللذين ينفذان في المنطقة العقارية جنوب دمشق مزة داريا القدم الرازي كفرسوسة، و جنوب المتحلق الجنوبي، وبين المتحلق الجنوبي، وأوتوستراد درعا الدولي، في محلـة القـدم والعسَّالي([32]).

و(ماروتا سيتي)، مشروع عمراني أعلن عنه النظام السوري في 2012، في منطقة خلف الرازي وبساتين المزة العشوائية، وبدأت محافظة دمشق وشركة (شام القابضة) العمل عليه في 2017، وأطلق عليه (حلم سورية المنتظر).

– في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، منحت حكومة النظام الحق لإحدى الشركات -من دون الإفصاح عن هوية هذه الشركة- الحق في تحويل العقار المشيد عليه مقهى الحجاز ومحطة الحجاز والمحال القديمة في قلب العاصمة دمشق، إلى مجمع سياحي وفندق خمس نجوم.

وسيحمل المشروع -بحسب ما ذكرت صحيفة (الوطن) الموالية- اسم (نيرفانا)، وسيكون فندقًا 5 نجوم ومجمعًا تجاريًا على مساحة 5 آلاف متر مربع وبارتفاع 12 طابق، في حين رجّحت مصادر عدة أن روسيا هي من يقف وراء هذا المشروع السياحي الضخم([33]).

وفي مطلع آذار/ مارس 2021، هدمت حكومة النظام السوري مقهى الحجاز التراثي، إذ بدأت أعمال الهدم في ساعات متأخرة من الليل، ليُفاجأ سكان دمشق في صباح اليوم التالي، في حين بررت حكومة النظام هذا الأمر بأن المقهى له طابع شعبي وليس طابعًا تراثيًا أو تاريخيًا([34])..

وأكدت المؤسسة العامة لخط الحديد الحجازي التابعة للنظام، أنها أبرمت عقدًا استثماريًا ‏لتشييد مجمع سياحي وتجاري يضم فندقًا 5 نجوم ومكاتب تجارية وخدمات ‏ومطاعم منوعة، وصالة رجال أعمال ومركزًا صحيًا وترفيهيًا ومرأب سيارات في ‏منطقة حيوية وسط العاصمة دمشق، تجاور محطة الحجاز التاريخية وتطل على ‏سوق الحميدية..

واعترفت أيضًا أن موقع الأعمال سُلِّم أصولًا إلى الجهة المنفذة (لم تعط أي تفاصيل عنها) كون المؤسسة ‏هي الجهة المالكة للأرض، لافتة إلى أن الشركة المستثمرة باشرت أعمال الحفر ‏والبناء لتنفيذ هذا المشروع خلال ثلاث سنوات وفق عقد الاستثمار المصادق عليه ‏في لجان مجلس الوزراء، والسياحة، ومحافظة دمشق.

وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، ألمحت بعض المصادر الموالية إلى أن حكومة النظام السوري أعطت الضوء الأخضر لـ (شركة روسية)، للمباشرة في تنفيذ مشروعها التجاري والسياحي على العقار المشيد عليه (مقهى ومحطة الحجاز) وسط دمشق القديمة.

– في سياق المشروعات والصفقات التي وضعت روسيا يدها عليها، إضافة إلى الاستثمارات في النفط، فهي تدير مطار القامشلي([35]).

وترى مصادر اقتصادية، أن روسيا ترغب من خلال كثرة المشروعات في نقل صورة إلى شعبها تفيد أن لها مصالح ومنافع اقتصادية في سورية، وأنها تجني العوائد من خلال تدخلها لحماية الأسد.

وأشارت المصادر إلى أن الإعلان المتكرر عن الاتفاقات، مرده الأساسي يعود إلى أسباب عدة، إضافة الى ما ذكر منها، إيصال رسالة إلى المجتمع الدولي بأن سورية محتكرة لها، وأنها مع نظام شرعي، وأن هذه المشروعات في حال الحل السياسي مرهونة بها، وأيضًا تقوي موقعها في التفاوض.

ويرى مراقبون اقتصاديون أيضًا، أن الاتفاقات التي أبرمتها روسيا بعد قيام الثورة السوريه المباركة، وكل الدعم السياسي والعسكري الذي قُدم، لا يحميه القانون الدولي ولا يخضع لقوانينه، فهو ليس دعمًا لسورية الدولة، بل لطرف على حساب الآخر، ومن ثم يترتب عليه مسؤولية جزائية لارتكابه جرائم حرب ضد الإنسانية، لذلك فإن هذه الاتفاقيات فاقدة للشرعيه القانونية.

ومن خلال العودة إلى قرارات الأمم المتحدة وقوانينها، فالدول التي توقع اتفاقات في ما بينها بداية يجب أن تودع نسخة من الاتفاق في الأمم المتحدة لتصبح ملزمة.

ومن شروط المعاهدات الدولية، أن تكون شخوصها متمتعه بالأهلية القانونية، أي الدولة كاملة السيادة وهذا لا ينطبق على نظام الأسد. كما يفترض ألا تتعارض نصوص المعاهدة مع قواعد القانون الدولي، ما يستدعي بطلانها وهذا منصوص عليه في اتفاقية فيينا، بمعنى (تعدّ باطلة بطلانًا مطلقًا كل معاهدة تتعارض لحظة إبرامها مع إحدى قواعد القانون الدولي)، ولذلك لا يمكن للمعاهدات الدولية أن تتضمن القيام بجرائم حرب.

وبما أن سورية دولة فاشلة، بحسب المراقبين الاقتصاديين، استنادًا إلى المعايير الدولية من فقدانها لقدرتها على السيطرة على أراضيها، وحق استخدامها تطبيق القانون، وفقدان القدرة على اتخاذ القرارات وتطبيقها، ولا تستطيع تقديم الخدمات العامة ولا الاندماج والتفاعل مع الأسرة الدولية، فالوجود الروسي وحتى الإيراني يعد غير مشروع، فما بالك بالمعاهدات، ومن ثم لا يمكن منحه غطاء دوليًا، بل هو وجود عسكري كقوة احتلال لدولة فاشلة ونظام دكتاتوري ويجب محاكمتهم ومحاسبتهم.

[1] http://bit.ly/3cNkqaQ

[2] https://bit.ly/38T6YB5

[3] http://bit.ly/30UKtHK

[4] http://bit.ly/2OLereD

[5] http://bit.ly/3lsuQR5

[6] http://bit.ly/3lvkHDw

[7] http://bit.ly/3lvkHDw

[8] http://bit.ly/2P7Wcji

[9] http://bit.ly/3cGnUw0

[10] http://bit.ly/3vF6tnW

[11] http://bit.ly/3cIGvHx

[12] https://bit.ly/3cINNv4

[13] http://bit.ly/3s2bg0w

[14] https://bit.ly/2P54IQp

[15] http://bit.ly/3lpfcWS

[16] http://bit.ly/30QLhNK

[17] http://bit.ly/3lq7Fa4

[18] http://bit.ly/3lyY1Cb

[19] http://bit.ly/2OHxM0g

[20] http://bit.ly/38SfwbH

[21] http://bit.ly/30T8uyL

[22] http://bit.ly/3bXjkdF

[23] http://bit.ly/2P555uh

[24] http://bit.ly/3bVa1dV

[25] http://bit.ly/3s0pwXA

[26] https://bit.ly/3tALEn

[27] http://bit.ly/3cHVWjf

[28] https://bit.ly/2QbZC5b

[29] http://bit.ly/2OHyHxK

[30] http://bit.ly/3bXuYoP

[31] http://bit.ly/3qS8j1i

[32] http://bit.ly/30Rov8z

[33] https://bit.ly/3eSZj9Y

[34] http://bit.ly/3tyc4uq

[35] http://bit.ly/3cII6x1

مركز حرمون

———————————————

عن طبيعة المجتمع المدني ودوره/ علي العبدالله

مع أن فكرة المجتمع المدني وآليات عمله ليست غريبةً عن تراثنا الحضاري، حيث عرفت الحضارة العربية الإسلامية، في مراحلها المبكرة، إرهاصات قيام مجتمع مدني من خلال اختيار “شيخ كار” لكل صنعة، و”شهبندر” للتجار؛ ونشوء نويات منظمات مجتمع مدني بوضع معايير للمهن، ودرجات العاملين فيها، والالتزامات المترتبة على ذلك؛ فيما عُرف بالأصناف والطوائف والنقابات بالمصطلح الحديث، وعمل الأوقاف الإسلامية والمسيحية، لتلبية حاجات المجتمع لرعاية الفقراء والمسنين والمرضى وطلاب العلم … إلخ. إلا أن الموقف تغير مع الانحطاط السياسي والحضاري الذي عرفته في مراحلها المتأخرة، فتلاشى التطور الاجتماعي وفعالياته تحت ضربات الانقسام والتشرذم الداخلي؛ على خلفية خلافاتٍ عقائديةٍ وأقوامية. وهذا جعل قيام مجتمع مدني حديث في سورية يستدعي البدء من نقطةٍ قريبة من الصفر، بداية صعبة بقدر ما هي ضرورية، فالعقبات كثيرة وكبيرة تبدأ بالبنية الثقافية والاجتماعية السائدة بأولوياتها الكثيفة والثقيلة: الأسرة، العشيرة، القبيلة، والسياسية، طبيعة النظام الحاكم، ولا تنتهي عند الحزب السياسي الذي حوّلته العقلية السائدة والخبرة الضعيفة إلى صيغة جديدة لمجتمع أهلي.

المجتمع المدني فضاء للعمل الاجتماعي المنظم والطوعي؛ له أصناف وبرامج عمل عدة تحدّدها طبيعة كل صنف ووظيفته، حيث هناك صنف للدفاع عن حقوق المواطنين في الحريات الخاصة والعامة، مثل حرية الرأي والتعبير والتنظيم في أحزاب سياسية ونقابات مهنية، جمعيات حقوق الإنسان، وأخرى لتقديم دعم ومساعدات للفئات الضعيفة في المجتمع، جمعيات خيرية لمساعدة الفقراء ورعاية المسنين وذوي الحاجات والمتضرّرين من الكوارث الطبيعية والحروب وحماية المستهلك، وثالثة مهنية للدفاع عن حقوق أصحاب المهن وحماية مصالحهم، نقابات العمال والفلاحين والأطباء والصيادلة والفنانين والرياضيين والأدباء والشعراء والأندية الثقافية والاجتماعية.. إلخ. أما هدف المجتمع المدني من تأطير المواطنين وتنظيم القطاعات المهنية والفئات الاجتماعية فتحويلها إلى قوة فاعلة وجماعة ضغط ببرنامج مطلبي لحماية حقوق المجتمع ومصالحه عبر موازنة قوة السلطة، والحد من تغوّلها، وتقييد جبروتها وهيمنتها وسيطرتها على المجتمع ككل.

ومنظمات المجتمع المدني وطنية بطبيعتها؛ فامتدادها أفقي وخدماتها لجميع المواطنين تدافع عن حقوقهم، وتسعى إلى حماية مصالحهم، بغض النظر عن انتمائهم السياسي أو الديني أو الطائفي أو القومي؛ فسمة منظمات المجتمع المدني الرئيسة حياديتها ووقوفها على مسافة واحدة من الجميع، وعملها لصالح أبناء المجتمع من دون تمييز أو تفضيل. لذا يرتّب نجاحها في عملها نتيجة في غاية الأهمية: تعزيز اللحمة الاجتماعية وتعميق الاندماج الوطني.

لقد احتل المجتمع المدني مكانة هامة في الدولة الحديثة على مستويين: أول يتعلق بدوره في تعزيز الحرية الفردية، الخاصة والعامة، وربط شرعية نظام الحكم ودرجة تمثيله المواطنين بمدى تحقيقه هذه الحريات، وبمدى توفيره فرص اختيار المحكومين للحكام وتداول السلطة، وثان يتعلق بتجسيد الحداثة بوصفها مشروعا مفتوحا للتطور والازدهار البشري والعمراني. وهذا وضعه في قلب الصراع على طبيعة الدولة وعلاقتها بالمجتمع وتعبيراته الاجتماعية والسياسية، حيث سعت نظم شمولية وسلطوية، ردّا على محاولة منظمات المجتمع المدني لعب دور تكاملي ومقاومة التبعية والإلحاق، لاستتباعه وجعله جزءا من أدوات هيمنتها وسيطرتها على المجتمع.

لم ينظر النظام السوري إلى منظمات المجتمع المدني التي بدأت بالظهور مطلع الألفية الثالثة بايجابية، واعتبرها خطرا مباشرا على استقراره وسيطرته وشريكا له في السلطة والسيادة. اعتقلت أجهزة مخابرات النظام عام 2003 مجموعة شبابية في بلدة داريا على خلفية تنظيفها شوارع البلدة؛ وحكمت عليهم محكمة أمن الدولة العليا بالسجن أربع سنوات، بذريعة قيامهم بمهام هي من صلاحيات الحكومة، فحاربها إعلاميا بتشويه الفكرة ومنطلقاتها باتهامها بالتبعية للخارج، وأنها من أدوات هذا الخارج لاختراق المجتمع والدولة؛ قبل أن يلجأ إلى الملاحقة والتهديد والوعيد والضرب المباشر باعتقال المنخرطين في صفوفها، والعمل على الالتفاف عليها، عبر تأسيس منظمات مجتمع مدني موازية، وقوننتها لقطع الطريق على محاولات المنظمات المستقلة الحصول على الترخيص والإشهار والعمل.

لم يكن موقف النظام السبب الرئيس في عدم قيام منظمات مجتمع مدني قوية وراسخة في سورية، فقد لعبت أسباب ذاتية دورا معيقا في تشكيلها وفي تعثرها، لعل أول المعوقات، وأكثرها تأثيرا، عدم وضوح فكرة المجتمع المدني في أذهان معظم الذين شاركوا في تشكيل منظمات مجتمع مدني، فقد غاب لديهم التمييز الواضح بين هذه المنظمات والأحزاب السياسية؛ كما غاب تلمّس الحد الدقيق الذي يفصل العمل المدني عن العمل السياسي، وهيمنت على تصوّرهم لطبيعة منظماتهم الوليدة الاعتبارات السياسية ومعارضة النظام. وهذا يتعارض مع فكرة المجتمع المدني الذي ليس من طبيعته أو عمله معارضة النظام، بقدر ما هو في صنفه الحقوقي جهاز رقابة على سلوك النظام وأحزاب المعارضة، يراقبهما ويسجل ملاحظاته على ممارساتهما ويكشف انتهاكاتهما وتجاوزاتهما، وانعكاسات ذلك على حقوق المواطنين ومصالحهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن غلبة النزعة السياسية المعارضة دفعت المنظمات الوليدة إلى تجاهل دورها في مراقبة سلوك أحزاب المعارضة، وانفردت لجان التنسيق المحلية والناشطة الحقوقية المختطفة، رزان زيتونة، في رصد انتهاكات المعارضة، من لحظة انفجار ثورة الحرية والكرامة حتى ساعة اختطافها وتغييبها، وهو في صنفه الخدماتي، الجمعيات الخيرية وجمعيات حماية المستهلكين وجمعية رعاية الأيتام والأرامل والعجزة ومنظمات حماية البيئة ومساعدة المواطنين خلال الكوارث الطبيعية والحروب .. إلخ، يقدم خدماته للجميع من دون اعتبار لأي صفاتٍ أو حيثياتٍ أخرى، مثل العرق أو الدين أو المذهب أو الموقف السياسي، وهو في صنفه التخصّصي، المهني، النقابات والاتحادات، يعطي لكل مهنة أو نشاط ثقافي أو فني نقابة خاصة، تدافع عن مصالح العاملين في هذه المصلحة أو تلك. ليست لمنظمات المجتمع المدني، كالأحزاب، مواقف سياسية أو برامج سياسية، ويغلب على دورها في المجال المهني لعب دور وسيط بين المجتمع والحكومة، لحل مشكلة قطاعات اجتماعية والمطالبة بحقوقها وبمعاملة عادلة ومنصفة لأفرادها ومجموعاتها.

في إطار الخلط بين المجتمع المدني والحزب السياسي، كتب أحد أعمدة جمعية حقوق الإنسان في سورية، وهو قيادي في حزب الشعب الديمقراطي، يدعو إلى تبعية منظمات المجتمع المدني للأحزاب، وهو الخلل نفسه الذي وقعت فيه لجان إحياء المجتمع المدني التي تصرفت كحزب سياسي معارض، وكان هذا واضحا في ورقتها الأساسية: توافقات وطنية، التي انطوت على برنامج سياسي للتغيير الديمقراطي في سورية، في حين كان لاسمها إيحاءٌ بتوجهها إلى العمل والمساعدة في إقامة منظمات مجتمع مدني: نقابات حرّة، أندية ثقافية واجتماعية .. إلخ. وقد تأكد هذا الخلط في اشتراك اللجان في تأسيس إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، وكأنها حزب بين أحزاب، وفي تشكيل المعارضة لجنة تنسيق بين الأحزاب والقوى الوطنية مكونة من أحزاب عربية وكردية ولجان إحياء المجتمع المدني وجمعية حقوق الإنسان في سورية. ليس هذا فقط، بل وانخراط ناشطين في منظمات حقوقية فوق وطنية، كالمنظمة العربية لحقوق الإنسان، وتشكيل منظمات تحت وطنية كالمنظمة الكردية لحقوق الإنسان في سوريا (ماف). وهذا، بالإضافة إلى أن كل المنظمات التي تشكلت، خلال هذه الفترة، كانت حقوقية، بمعنى قريب من السياسة وعوالمها. ولم تشهد سورية تشكيل منظمات مجتمع مدني خدمية أو مهنية وحرفية أو اجتماعية حرة.

واضح أن للالتباس أساسا واقعيا، في ضوء أن معظم الذين شاركوا في تشكيل منظمات مجتمع مدني أتوا من أحزاب سياسية، أو كانت لهم تجربة في حزب سياسي أو يتبنون أهدافا سياسية، يسعون إلى خدمتها، وأن خلفيتهم وخبراتهم محض سياسية وعقائدية، وانعكس هذا على مواقفهم واقتراحاتهم. من ذلك أن رئيس جمعية حقوق الإنسان في سورية حكم عام 2005 في قضية طرحت على الجمعية، فحواها أن محافظة حلب منعت 60 سرفيسا (سيارة أجرة) من العمل على خط داخل المدينة، لأنها شغّلت حافلات نقل داخلي عليه، وهذا أثر على حياة 180 أسرة يعمل معيلوها سائقين. حكم الرجل برفض إصدار بيان يحتج على القرار، بقوله نحن مع القطاع العام؟، فالرجل اشتراكي ومع القطاع العام.

لقد أصبح المجتمع المدني، في سياق التغيير السياسي المطلوب في سورية؛ وفي ضوء الواقع الراهن بتفاصيله السياسية والعسكرية والاجتماعية، ضرورة حاسمة للقيام بمهمة رئيسة: تضميد الجراح واحتواء ردّات الفعل وتلطيف المشاعر والعواطف عبر قيام منظماته بمهامها الوطنية لخدمة السوريين، كل السوريين، وإطلاق حركة تفاعل وطنية من خلال برامج خدمية واجتماعية وثقافية مدنية، فالنجاح في تأسيس منظمات مجتمع مدني، قوية ومستقلة ومحايدة، من مختلف الأصناف، على أسس ومفاهيم صحيحة، مدخل مهم للاندماج الاجتماعي، عبر تنفيذ المهمات الوظيفية للقطاعات المهنية والحرفية والفئات الاجتماعية وفتح مساحات للتفاعل والتعاون والحوار. وهذا لن يكون سهلا أو سلسا في ضوء الجراح العميقة والانقسامات الكبيرة التي ترتبت على نتائج الصراع من قتل وتهجير وتدمير ونهب/ تعفيش، ما يستدعي عملا وجهدا كبيرين وطويلين، لتحقيق العدالة الانتقالية لبلسمة الجراح وتخفيف المواجع. فإقامة منظمات مجتمع مدني ناجحة وراسخة، تستدعي نشر ثقافة مدنية مدخلا للعمل على انخراط المواطنين في الشأن العام، وهو الشرط الأساسي لدولة القانون والعدالة، وفق علماء السياسة، والتأسيس لعادات وأعراف وطنية قائمة على التقدير المشترك للتاريخ والمستقبل الوطني المنشود؛ والفهم المشترك لسيادة القانون والعدالة. وهذا مرتبط مصيريا بوجود قادة رأي وكوادر مدنية تعمل بين الناس، ما يستدعي تشكيل معاهد تعليم وتدريب حول المجتمع المدني، وأساليب عمل منظمات المجتمع المدني والقيم والمفاهيم الحاكمة والناظمة لها.

العربي الجديد

——————————————

تفاصيل أسدية-4 حافظ الأسد يطبق على دمشق: ترييف أم علونة.. أم أسدنة؟/ غسان المفلح

لابد لنا من توضيح بعض المفاهيم التي تحكم رؤيتنا لهذه التفاصيل الأسدية. كي لا نبقى أسيري الخطاب المتداول ومعاييره وسياقاته التي تحكمنا. من جهة أخرى نحن مربكون حتى اللحظة في إنتاج معرفتنا عن بلدنا. لكننا نحاول المثابرة من أجل إنتاج مفاهيمنا عن بلدنا هذه. أحيانا أجد نفسي مثلا، عند مناقشة أي جانب في وضعيتنا، والكتابة فيه وعنه، أجد أن أدوات معرفتنا ناقصة. في كل محاولة لتلافي النقص هذا تجد نفسك أحيانا في حالة فقر معرفي من جديد. نحاول تبييئة مفاهيم سوريا. مازلت أذكر ردود بعض الأصدقاء على دراسة مطولة قمت بها في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي حول مفاهيم الوطنية واللاوطنية والبرجوازية البيروقراطية، قلت فيها لا يمكن الحديث عما يجري في سوريا، دون تشريح حالة اللاسلم واللاحرب القائمة بين سوريا الأسد وإسرائيل، معترضاً في ذلك الوقت على تقييم النظام انطلاقا من مفهومي الوطنية واللاوطنية التي كان يتبناها حزبنا (حزب العمل الشيوعي) في سوريا. للأسف تم مصادرة هذه الدراسة وكانت تقع في 140 صفحة تقريبا. كتبتها وأنا في حالة تخفٍ هروبا من المخابرات في حلب.

استتب وضع البلد أسديا منذ عام 1972  بالتأكيد معادلة “ريف/ مدينة” على أهميتها في دراسة تشكل المجتمعات المعاصرة، إلا أننا هنا نتحدث عن حالة سياسية فرضت من فوق على الريف والمدينة معا.

برأيي الأجدى القول أسدنة دمشق وليس ترييفها، وهي محاولة لإنتاج مفاهيم خاصة بالحالة السورية، والتي لاتزال معرفتنا قاصرة عن التعريف بحالنا. علما حاولت في الجزء الأول الحديث عن الطبيعي والطبقي في قضية ريف مدينة. لكننا هنا أمام حالة خاصة جدا، وهي أسدنة دمشق. أو أسدنة حلب بالتالي أسدنة سوريا ريفا ومدينة. يقول بعض الأصدقاء الكتاب بعلونة الدولة السورية عسكريا على الأقل، وأصدقاء آخرون يتحدثون عن” أهلنة الدولة”. هذا ما اشتقه المفكر السوري ياسين الحاج صالح. هذه الأهلنة مستندة على الأهل العلوي، كما يراها ياسين ” ظهور الدولة الأهلية والمجتمع الأهلي، وصعود السياسة الأهلية والثقافة الأهلية، أعني جنوح السياسة القليلة المتاحة لأنه تجد حواملها في الجماعات الأهلية، وتحول الثقافة إلى تعبيرات مواربة قليلاً أو كثيراً عن الولاءات والاستقطابات الأهلية”.

أعتقد مع خصوبة كل هذه القراءات إلا انني أجد من المناسب في سوريا الحديث عن أسدنة الدولة والمجتمع معا. وهذا يستغرق الأهلنة والعلونة والترييف. هذا ما حاولت الحديث عنه في مقالات سابقة وأسميته” عقيدة الأسد”. نحن لا نتحدث عن ديكتاتور حكم لسنوات قليلة بل نتحدث عن ديكتاتور يحكم منذ أكثر من 53 عاما. خمسة عقود، تغير فيها العالم بمسافات ضوئية. وسوريا الأسد تغيرت بمزيد من فشل الدولة وتغول الأسدية.

يقول الباحث شوكت غرز الدين” أنَّ مفهوماً كمفهوم الفاعل السياسيّ يشمل جميع الفاعلين السياسيّين الذين وجدوا والموجودين الآن والذين سيوجدون في المستقبل، ولكنه يتضمن أقل قدرٍ ممكن من الصفات الأساسيّة التي يشترك فيها جميع الفاعلين السياسيّين، والتي يمكن أنْ تحدّ المفهوم وتعيّنه. وبفضل ممارسة السلطة كسلطة، ومسلّماتنا المعرفيّة عن هذه الممارسة، حدثَ عندنا العكس؛ فتقلّصَ عندنا مفهوم «الفاعل السياسيّ» في الشمول، واقتصرَ على فاعلٍ واحد هو الرئيس أساساً، والذي يتبعه بدرجات متفاوتة عدد معيّن من الفاعلين، ينظم العلاقة فيما بينهم شكلٌ هرميٌ وخيطٌ لا مرئيٌ يصلهم بشخص الرئيس. وهؤلاء الفاعلون هم: النظام، الأمن، الجيش، رئيس الوزراء، الوزراء، أصحاب رأس المال، الحزب، النقابات العماليّة والحرفيّة والاتحادات بأنواعها الفلاحيّة والنسائيّة والطلابيّة والشبابيّة والرياضيّة ومنظمات الطلائع و«المؤسسات» الدينيّة والمذهبيّة. كذلك الدولة، ومؤسساتها التنفيذيّة والماليّة والدبلوماسيّة والتشريعيّة والقضائيّة والإعلاميّة والأيديولوجيّة”.

الأسدنة تتميز بالاستيلاء على المال العام أيضا. بالسرقة والنهب أو بالتحكم عبر أجهزة دولتها. الأسدنة انطلاقا من مفهوم الفاعل السياسي، انطلقت بشكل سريع منذ المنتصف الأول للسبعينيات، وحل الأسد فاعلا سياسيا وحيدا في سوريا. حتى وصلنا إلى ما عرف ب” سورية الأسد”. في الأرياف والمدن والبعيدة عن دمشق يمكننا أن نجد هامشا أهليا ما عشائريا أو دينيا، لكن في دمشق أطبق عليها الأسد إطباقا قل نظيره في أي عاصمة عربية أخرى اللهم طرابلس الغرب، وبغداد في عهد صدام. لا ينفع القول إن هنالك شراكة لأي طرف مع الأسد، من حيث الفاعلية السياسية. يمكننا الحديث أنه بعد اتفاقيات الفصل عام 1974 التي تمت برعاية هنري كيسنجر على الجبهة الإسرائيلية السورية، ثم زيارة نيكسون الرئيس الأمريكي لدمشق 1975. ودخول القوات الأسدية إلى لبنان، هؤلاء المتبقون في النظام عبارة عن منفذين لسياسة هذا الفاعل السياسي على كافة المستويات.

لا يحتاج الأمر لدليل وهو ببساطة أن الجميع يتغير ما عدا الأسد. وهذا ينطبق على الأسد الابن. الجميع بدون استثناء ضباط وزراء مدراء مؤسسات. كل ما يخص أجهزة الدولة والقوة يتغير، المسؤولون فيها إلا الأسد. الحديث عن شركاء للأسد بوصفه فاعلا سياسيا حديث غير خصب ولا يقدم أية فائدة. هذا الفاعل السياسي تكرس بفعل اتفاقيات الفصل هذه. بدون تحليلها وتحليل الوضعية التي نتجت عنها لا يمكننا فهم العقيدة الأسدية. حتى في عهد الشباطيين الذي لم يدم سوى سنتين قبل أن يستولي الأسد عمليا على السلطة 1968. قبله في عهد القيادة الانقلابية الآذارية 1963-1966 كان هنالك مراكز قوى داخل الحزب ومؤسسات الجيش والأمن، يمكننا فيها الحديث عن تعدد الفاعل السياسي نسبيا. هذا الموضوع بعد عام 1968 بدأت نهايته وتوجت بشكل نهائي في زيارة نيكسون لدمشق. باتت عمليا “سوريا الأسد” تتويج غربي أمريكي بامتياز وسوفييتي ايضا، لأن السوفييت كانوا يرون أن هذا حجمهم في دمشق. رغم معرفتهم بالأسد ونظامه. هذا الفاعل بحكم القمع والرشوة، لم يعد يحتاج كثيرا لتدريب منفذي أوامره لأنها باتت شبه معرفة، والقنوات المهمة للتواصل السياسي على الصعيد الدولي خاصة مع السوفييت والأمريكان والإسرائيليين والفرنسيين كانت ممسوكة من الأسد شخصيا. البقية منفذون ومستشارون في أقصى حالاتهم. سواء كان هؤلاء علويين أم سنة أم مسيحيين أم دروزا أم اكرادا.

أطبق الفاعل السياسي الأسدي الوحيد على دمشق.

———————————-

الأسديون باعوا البلد/ غسان المفلح

ظهر مصطلح البلقنة من صراعات القرن العشرين قي منطقة البلقان وبعد تقسيم إرث الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى قي البلقان إلى دول إثنية عرقية أو على أساس ديني أو طائفي. البلقنة Balkanization مصطلح سياسي جغرافي يقصد به تفتيت أو تقسيم منطقة أو دولة إلى مناطق أو دويلات أصغر، والتي غالباً ما تكون غير متعاونة مع بعضها، أو إقامة دولة تحمل في بنيتها التأسيسية إشكالية تفجرها المزمنة، كالعراق ولبنان، أو إبقاء دول في خضم حرب أهلية أو داخلية حتى تتحوّل إلى إشكاليّة مزمنة أيضاً، كأفغانستان والصومال.

اللبننة Lebanonization، الصوملة Somalization، الأفغنة Afghanization، والعرقنة Iraqization، والفلسطنة Palestinization، والآن السورنة syriaization، حتى بالإنكليزية لم يتم إدراج هذه المفردة بعد، لكي تستقر في الحقل السياسي المتداول. ولكل مصطلح من هذه المصطلحات دلالاته الأخرى، نظراً لخصوصية كل وضعية على حدة، لكن يجمعها جامع واحد هو دور المجتمع الدولي، وخاصة الدول الكبرى في ذلك، وفي طريقة معالجتها لهذه الأوضاع في تلك المناطق والبلدان، وهنالك بالطبع دون أن نغفل الخصوصيات التاريخية لكل دولة أو منطقة.

خصوصية الدولنة السورية أو السورنة syriaization:

كنا أشرنا في مقالات سابقة، ومنذ انطلاق الثورة السورية قبل عشر سنوات، وقبل أن يهزمها العالم، إنّ الدولنة في منطقة ما يعرف ببلاد الشام بدأت مع تأسيس دولها الأربعة بين عامي 1916 و22 نوفمبر 1943، تاريخ إعلان دولة لبنان.

إضافة إلى الأردن وفلسطين. فلسطين التي لم تلحق تشم نفسها الإنكليزي حتى فلسطونها إسرائيلياً وغربياً Palestinization. بيعت بشكل علني أرضاً وشعباً من قبل الإنكليز. صار هنالك دولة إسرائيل، يقابلها ملايين بلا وطن مشردين في أصقاع العالم. اكتشاف النفط في المنطقة كان الخطوة الثانية لدولنة المنطقة. الخطوة الثالثة كانت تأسيس دولة إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني.

استقرّ الوضع في الأردن، حيث تراجعت الدولنة إلى خلفية المشهد بشكل لم تعد ملحوظة إلا في حالات انتقال الملك. اما في سوريا ولبنان فلم تتراجع الدولنة، رغم القمع واستمرار النظام الأسدي بغطاء دولي منذ أكثر من خمسين عاماً. حيث رافقت الدولنة كل ممارسات السلطة الأسدية، كسلطة زبائنية. منذ حرب تشرين 1973 وفيما بعد دخول جيشها للبنان، نتيجة كثافة الدولنة في لبنان.

أيضاً خلال محاولة انتفاضة الشعب السوري نهاية السبعينيات وما حدث من مجازر. كانت الدول متدخلة على طول الخط في الحدث السوري، داخلياً وإقليمياً. كمثال أيضاً ما تزال فرنسا نفسها تتدخل في محاولة تشكيل أي حكومة لبنانية حتى الآن.

بعد الذكرى السنوية الأولى للثورة السورية، حاولت تلمس هذا الأمر وما تشكله الدولنة- السورنة، كما أسميتها آنذاك، من خطر على مصير الثورة السورية، “ما يحدث الآن في هذه الثورة السورية- الأسطورة، يجد أن هذه الثورة تواجه نظاماً إقليمياً كرّسته دول كثيرة، وعلى رأسها إسرائيل والغرب والاتحاد السوفييتي السابق، وحلّت روسيا الآن محلّه، والتي تغيرت سياساتها عالمياً إلا في سوريا كآخر موقع لها في الشرق الأوسط. استطاعت هذه الثورة رغم وقوف كل هذه الأطراف ضد التغيير عملياً في سوريا، وضد تحوّل هذا البلد إلى بلد ديمقراطي، أن تنسف النظام الإقليمي برمته، ولم يعد صالحاً للاستمرار كما هو، ولا كما يمكن أن يتم التحكم بمعطياته الجديدة، خاصة بعد الربيع العربي، وهذا ما عقد حركتنا كمعارضة سورية على مستوى الخارج، لأننا كنا نتصرّف بأدوات قديمة وما نزال، أمام أوضاع مستجدة وتحتاج إلى طرائق تفكير جديدة وأدوات جديدة”. (سوريا المدولنة وثورتها 06 مايو 2012).

في هذا السياق، لا يمكن نقاش السورنة دون المرور على الدور التركي أيضاً. الدور التركي لم يخرج خارج الدولنة الإسرائيلية- الروسية التي تحدثنا عنها حتى اللحظة، رغم صخب التصريحات الأردوغانية. فكانت أستانا أيضاً تتويجاً للمساهمة التركية في هذه السورنة. مع حفظ الفارق بين الدور التركي والدورين الروسي والإيراني.

منذ قبل هذا التاريخ، بدأت تطفو مظاهر الدولنة أو السورنة على السطح خطوة خطوة. كان من الواضح أنّ الأسد باع منذ الأشهر الأولى للثورة، حصة ما من السيادة السورية لإيران عبر حزب الله، ومن ثم عبر الميليشيات الشيعية التي جلبتها إيران ومولتها، من العراق وباكستان وأفغانستان، التي ساهمت بارتكاب مجازر بحق شعبنا، بقيادة فيلق القدس الإيراني.

كتعبير عن هذه الخطوة الجديدة في السورنة، بدأت تطفو على السطح تصريحات وتلميحات من الطرف الإيراني أنّه لولاه لسقط الأسد. هذا تعبير من جهة أخرى على أنّها تقبض ثمن ذلك بشكل شرعي وقانوني. من جهة أخرى كان الروس يتقدّمون أيضاً خطوة خطوة عبر مدّ الأسد بالسلاح واستخدام الفيتو باستمرار لمصلحة الأسد في مجلس الأمن.

لكن بوتين كان ينتظر الغرب وإسرائيل ويتفاوض معهما من أجل مقدار حصته في سوريا. حيث توّجت هذه الخطوات باحتلال روسي مباشر لحلب 2015. لم يطل الأمر بعدها حتى صار الروسي أيضاً يصرّح “أنّه لولاه لسقط الأسد”.

النظام يضعف لصالح روسيا وإيران سيادياً وتدخلياً، حتى وصلنا لاتفاقيات أستانا 23 و24 يناير 2017. حيث كان الروس والإيرانيون يتفاوضون نيابة عن الأسديين وبالقسر. نتيجة المساحة التي باتت لهم في سوريا على الأرض، وسيادياً بالمعنى القانوني والسياسي. آخر خطوات السورنة هي احتلال أمريكا للجزيرة السورية. هذه الدولنة خاصة بسوريا الأسد تحديداً. إنّها سورنة سيتم كشف الغطاء عنها لاحقاً من الدول صاحبة القرار عندما تصير سوريا ملفاً بارداً.

انطلاقاً من هذه العجالة في إعادة طرح مفهوم السورنة التي وصلنا إليها، باتت هذه السورنة عبارة عن مقدمة لابد منها لمناقشة أية مسألة بخصوص هذا الحقل والحقل السوري عامة، وهي أنّ الأسديين باعوا البلد قانونياً ووفقاً للقانون الدولي والداعم الدولي. بوصفهم ممثلي سوريا بالأمم المتحدة ومؤسساتها. هذه نقلة نوعية وغير مسبوقة في أي بلد بالعالم. نقلة نوعية في مزيد من دولنة سوريا كي لا يقدموا تنازلاً واحداً للشعب السوري، أي نقاش بدون هذه المقدمة والبناء عليها من وجهة نظري لا يقدّم ولا يؤخر في محاولات المعارضين السوريين البحث عن حلول لمأزق البلد، مهما كان مفيداً معرفياً.

وأختم باقتراح أحد الأصدقاء في نقاش هذه القضية: لا يوجد حلّ سوى مطالبة المجتمع الدولي بإعلان سوريا دولة فاشلة ووضعها تحت الانتداب الدولي. المطالبة والإلحاح وتأمين الدعم الدولي من قبل أصدقاء الشعب السوري لتأييد هذا المشروع قد يكتب له النجاح، وبرأيي إنّ أمريكا والغرب لن يمانعوا بذلك. لكن يغيب عن بال الصديق أن أصدقاء الشعب السوري أو من يدّعون ذلك، هم من أسسوا لهذه السورنة بقيادة أمريكا.

ليفانت – غسان المفلح

—————————-

المطلوب عربياً في الوضعين العراقي والسوري/ عبد الباسط سيدا

بات الانفتاح العربي على العراق ظاهرة تستوقف الالتفات إليها. وهي إيجابيةٌ على الرغم من ملاحظات وثغرات قد يُشار إليها هنا وهناك. والمقصود هنا هو الانفتاح الخليجي في المقام الأول؛ السعودي والقطري والكويتي على وجه التحديد؛ إلى جانب الانفتاح المصري والأردني على العراق الذي كان له دوره المؤثر على مرّ العصور في تحديد ملامح المنطقة على مختلف المستويات؛ لكنّه تحوّل بعد سقوط نظام صدّام حسين إلى ساحةٍ مفتوحةٍ أمام التمدّد الإيراني الذي وصل إلى المفاصل الأساسية في الدولة والمجتمع العراقيين. والعوامل التي أوصلت الوضع العراقي إلى ما هو عليه راهناً عديدة، منها: الأخطاء التي كانت إثر التدخل الأميركي القوي الذي أدى إلى إسقاط النظام عام 2003، وما ترتب على ذلك من انهيار للدولة العراقية بكلّ مؤسساتها؛ وعزوف السنّة عن المشاركة الفاعلة في العملية السياسية الناشئة التي انطلقت بعد 2003، وارتفاع منسوب التعصّب المذهبي نتيجة الجهود والسياسات الإيرانية التي اعتمدت بصورة أساسية على مليشيات الأحزاب التي كانت تتلقى الدعم والتوجيه من النظام الإيراني.

وبلغ التحكّم الإيراني ذروته مع تشكيل “الحشد الشعبي” خارج إطار الجيش وأنظمة الدولة في عهد رئاسة نوري المالكي للحكومة، بذريعة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لتتحوّل تلك القوات لاحقاً إلى ذراع عسكرية إيرانية التوجيه، وبأموال وعناصر عراقية؛ الأمر الذي أحدث خلخلة كبرى في البنية المجتمعية العراقية التي كانت تعاني أصلاً من التفكّك والهواجس المتبادلة نتيجة السياسات القمعية التي مارسها نظام صدام حسين، بحق جميع المكونات العراقية، تحت شعارات قوموية كبرى، كانت وسيلةً للانقضاض على الداخل الوطني العراقي، للتحكّم فيه من موقع المستبد المتعطّش للسلطة المطلقة.

لقد استخدم النظام الإيراني العراق ساحةً لمشروعه التوسعي، عبر استغلال الورقة المذهبية لغايات سياسية، وتمكّن، مع الوقت، من إزاحة المرجعيات الشيعية الوطنية الأساسية وتهميشها، ليغدو هو مرجعية المليشيات المرتبطة به عضوياً. وقد استفاد قادة هذه المليشيات على الصعيد الشخصي من استقوائهم بالنظام الإيراني، وتجسّد ذلك في عمليات الفساد الكبرى التي حرمت العراقيين من ثروات بلدهم، وجعلتهم ضحايا البطالة والحاجة، وحرمتهم من أبسط الخدمات، مثل الماء النظيف، والكهرباء، والحدّ الأدنى المطلوب من الرعاية الصحية والتعليم المقبول.

ومع تراكم مفاعيل الفساد، تكشّفت العورات، وخرج العراقيون، خصوصاً في المحافظات الجنوبية حيث الهيمنة الإيرانية، في انتفاضة عارمة، مطالبين بالعدل ومحاسبة الفاسدين، الأمر الذي لن يتحقق من دون امتلاك العراقيين زمام أمور مجتمعهم ودولتهم.

هناك رغبة عراقية على أعلى المستويات في تطوير العلاقات مع الدول العربية، سيما الخليجية منها. والوجود العربي المؤثر في العراق يحقق نوعاً من التوازن المطلوب، ويمنح القوى العراقية الوطنية التي تعمل من أجل المشروع الوطني العراقي مزيداً من الدعم، والقدرة على التعامل مع الضغوط الإيرانية في الجنوب والوسط، والضغوط التركية في الشمال. وهناك توجّه جاد لدى المسؤولين العراقيين في القيادة السياسية الراهنة لإبعاد العراق عن الصراعات الإقليمية، وجعله جسراً للتواصل بين الجميع. وربما يؤثر هذا التوجه في موقف النظام الإيراني نفسه على المدى الطويل، بعد أن يقتنع بأنّ عقوداً من عقلية “تصدير الثورة”، والتدخل في شؤون دول الإقليم ومجتمعاته، لم تجلب إلى منطقتنا سوى الحروب والتدمير والتهجير، فإيران كانت، وستظل، قوة إقليمية مهمة في المنطقة، لكنّ عليها أن تقتنع بأنّها ليست القوة الوحيدة، ولا يمكنها أن تصبح كذلك؛ ومصلحة الشعب الإيراني توجب تحوّل إيران إلى قوة متعاونة، متفاعلة إيجابياً مع محيطها الإقليمي، لتتحوّل من ثم إلى جزء طبيعي فاعل من المجتمع الدولي.

وفي المقابل، نسمع دعوات تطلقها دول عربية للانتفاح على النظام السوري، وهي ترمي إلى تدويره، لا إلى مساعدة الشعب السوري الذي يعاني بأسره من استبداد هذا النظام، وما فعله بسورية والسوريين طوال عقود، خصوصاً منذ انطلاقة الثورة السورية في العام 2011. وما نراه في هذا السياق أنّ الوضع العراقي يختلف عن الوضع السوري، ومن الطبيعي أن تُعتمد لكلّ وضع الوصفة التي تناسبه، فالنظام في سورية أعلن الحرب على السوريين، ومارس، ويمارس، القتل والتدمير والتهجير ضدهم. وهناك مئات آلاف من المعتقلين والمغيبين ممن لا يُعرف عن مصيرهم شيء. ويعتمد هذا النظام على الدعم الإيراني ومليشيات حزب الله، والمليشيات المذهبية العراقية والباكستانية والأفغانية التابعة للنظام الإيراني، ليستمر؛ وكلّ هذا لا يقابله ما يماثله في الوضع العراقي.

يساهم الانفتاح العربي على العراق في تعزيز مواقع القوى التي تريد الخير للشعب العراقي؛ بينما الانفتاح نفسه على النظام السوري يساهم في ديمومة محنة السوريين ومعاناتهم جرّاء ممارسات هذا النظام الذي ما زال يصرّ على أنّ ما واجهه كان مؤامرة كونية لإسقاطه، وهو “النظام العلماني الحامي للأقليات”. هذا في حين أنّه على أرض الواقع متحالفٌ مع نظام ولي الفقيه في إيران، ومع مليشيات حزب الله المذهبية في لبنان.

وهو النظام نفسه الذي مارس الاستبداد في حق كلّ السوريين، بمن فيهم معارضوه من العلويين، وهو الذي استغلّ الطائفة العلوية في مشروعه التسلطي، بتحويلها إلى خزّان بشري لجيشه ومليشياته وأجهزته القمعية؛ هذا في حين أنّ النخب العلوية الحريصة على مستقبل شعبها ووطنها كانت، وما زالت، معارضةً لكلّ ما فعله، ويفعله، هذا النظام ضد السوريين عامة.

وقد أثبتت تجارب الانفتاح السابقة على هذا النظام، خصوصاً في عهد بشار الأسد، عدم جدواها، بل أدّت إلى نتائج عكسية. ونتذكّر جميعاً الجهود الكبيرة التي بذلتها السعودية، في عهد الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز الذي حاول معالجة الوضع بعد جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق، رفيق الحريري، وأقنع سعد الحريري عام 2009 بقضاء ليلةٍ رهيبة مع بشار نفسه في محاولة لإقناع الأخير بعدم تسليم كامل أوراقه إلى النظام الإيراني، لكنّ تلك الجهود لم تسفر عن المرجوّ المطلوب، فالنظام السوري شموليّ مغلق، قد وضع لنفسه من الآليات والمحددات بموجب “دستوره وقوانينه” ما يمكّنه من الاستمرارية. وهو غير قابل للإصلاح. محوره رأس النظام، وأركانه عناصر الزمرة الحاكمة اللامرئية التي تتحكّم بمفاصل السلطة والاقتصاد. وفي سبيل المحافظة على ذاته بعد الثورة الشعبية العارمة التي شملت معظم شرائح الشعب السوري، ومن جميع المكونات، وفي غالبية المناطق السورية، وثّق هذا النظام العلاقات مع النظام الإيراني، حتى تمكّن الأخير من التغلغل في الدولة والمجتمع السوريين، خصوصاً الجيش والأجهزة الأمنية. كما تمكّن من فرض نفوذه وسطوته عبر المليشيات المذهبية التي أُدخلت إلى البلاد بناء على أوامر إيرانية؛ وما زالت تعمل وفق تعليماتٍ وأوامر تتلقاها من الإيرانيين. وليس سرّاً تباهي المسؤولين الإيرانيين ومسؤولي حزب الله، في مناسبات عدة، بفضلهم في الإبقاء على نظام بشار، وذلك في تنافسٍ ملحوظ مع الروس الذين من جانبهم، صرّحوا بما يشير إلى دورهم الحاسم في المحافظة على بقاء النظام عام 2015، والذي كان، وفق التسريبات، على وشك السقوط. واليوم يعاني هذا النظام من تآكل داخلي بفعل الأزمة الاقتصادية الخانقة، نتيجة الحرب التي أعلنها النظام على الشعب والبلاد، ونتيجة الفساد الشمولي الذي بات من معالم هذا النظام والمستفيدين منه.

لقد أصبح وجود النظام السوري عقبة كأداء أمام إمكانية ترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري مقدمة لتوحيده على أسس سليمة. ويستمد هذا النظام أسباب وجوده واستمراريته من الاستقواء بالقوى غير السورية، ويبني استراتيجيته على إبعاد السوريين عن دائرة القرار، ويمنعهم من المشاركة في إدارة بلدهم، ويحول دون إسهامهم في بلورة معالم مصيرهم وسعيهم من أجل مستقبل أفضل لأجيالهم المقبلة. لذلك، نرى أنّ الانفتاح العربي المطلوب في سورية هو الذي يكون على الشعب لدعمه وتمكينه من الخلاص من نظامٍ كان، وما زال، السبب في محنة السوريين.

الوضع في العراق مختلف، فالنظام البرلماني الذي اعتمد هناك منذ إسقاط نظام صدام حسين، فتح الأبواب أمام العراقيين، على الرغم من كلّ المثالب وحالات الفساد الكبرى التي كانت، وما زالت، متفاقمة بين المسوؤلين العراقيين، سيما بين المرتبطين عضوياً مع النظام الإيراني، لاختيار وجوه جديدة، سواء في البرلمان أم في الحكومة والرئاسة، وهيئات الدولة ومؤسساتها؛ وهذا ما يفتح الآفاق أمام تغييرات إيجابية تدريجية في حال توفر دعم معنوي، ومادي، وسياسي، للقوى والشخصيات الوطنية العراقية، الغيورة على شعبها وبلادها، وترغب في بناء عراق مستقل، والقادرة على طمأنه سائر مواطنيه من جميع المكونات، ومن دون أيّ استثناء.

وبناء على ما تقدّم، نرى أنّ الانفتاح العربي على العراق والاستثمار في مشاريع تنموية تركّز على البنية التحتية، ودعم قطاع الصحة والتعليم لصالح جميع العراقيين، سيعزّز مواقع القوى الوطنية العراقية التي لا تريد أن يكون وطنها ساحةً لمشاريع الآخرين، بل تعمل على أن يكون العراق ميداناً لتقاطع المصالح بين مجتمعات المنطقة ودولها. وهذا لن يتحقق من دون تعزيز الأمن والاستقرار في العراق، الأمر الذي يستوجب ضبط الميليشيات، وإخضاعها لسلطة الدولة. أما أن تدّعي تلك المليشيات بأنّها قانونية، وتمارس، في الوقت نفسه، التسلط على الدولة، وتزعزع استقرار المجتمع العراقي ومجتمعات المنطقة، فهذا هو الوضع الشاذ الذي لن ينهض العراق من دون القطع معه.

العربي الجديد

————————————-

قول في المعارضة السورية/ غسان المفلح

منذ سنوات أتجنّب الخوض في ملف المعارضة السورية من داخلها. أكتب عن مواقف هذا التجمع المعارض أو ذاك، في لحظات أعتبرها مهمة. لكنني أحاول الابتعاد عن تناول أوضاع المعارضة السورية من داخلها لسببين رئيسين: المعارضة

الأول- إنني خارج أطر هذه المعارضة منذ تسع سنوات، بالتالي الحديث عن ملف المعارضة من داخلها، بات أمراً يحتاج لعملية توثيقية من داخلها. هذا لم يعد متوفراً لي ولا أريد الحديث عن هذا الموضوع كمراقب خارجي.

الثاني- بعد المخاض الذي عاشه المجلس الوطني السوري، منذ لحظة تأسيسه، 23 أغسطس 2011، وحتى ضمّه عنوة للائتلاف المعارض، الذي تأسس في 11 تشرين الثاني 2012. خلال هذه المخاض وصلت لنتيجة، وكنت كتبت عنها في حينها، أنّ المعارضة السورية باتت محمولة على العامل الدولي. هذا العامل هو سبب رئيسي فيما عاشه المجلس الوطني السوري وما عاشته هيئة التنسيق الوطنية. بالتالي تحولت المعارضة التي من المفترض أن تكون معبّراً عن تطلعات الثورة إلى معبّر عن طرق معالجة الدول الفاعلة في الملف السوري لقضية الثورة. بالتالي لم يعد مهماً الحديث عن هذا المعارض أو ذاك، أو الدخول في مشاحنات مع هذا المعارض أو ذاك. المعارضة

أذكر أنّني أول ملف في المجلس الوطني خضت نقاشاً حوله وكتبت عنه، هو الملف الإغاثي، واستمريت في خوضه حتى بعد تشكّل الائتلاف. كان رأيي أنّ المجلس الوطني هيئة سياسية، وليس هيئة إغاثيّة. هذا الرأي أكدته للائتلاف أيضاً. وكتبت لعدّة أصدقاء في المجلس والائتلاف أن يبتعدوا عن ملف الإغاثة، لكن لا حياة لمن تنادي. هذا الملف شكل مساحة شقاقية مخيفة، حيث احتلّ مساحة من مداولات ونقاشات وسجالات المعارضة وفضائح فيما بينها، كلها كانت بالنسبة لي كما يقول المثل الشعبي “فت برات الصحن”، كان يجب ترك الملف لمنظمات مدنية فقط. حتى ملف المعتقلين كنت ضد أن يتصدّى له أي كيان سياسي، سواء المجلس الوطني أو الائتلاف لاحقاً. ترك الملف لهيئات حقوقيّة سورية.

كانت البداية في هيئة التنسيق والمجلس الوطني، بداية التدخل الدولي الكثيف في جسم المعارضة. توّج هذا التدخل، بعد مؤتمرات فرعيّة هنا وهناك من مجموعات معارضة إلى إنتاج ما سمي الائتلاف المعارض. بعدها استمرّ التدخل على الغارب، وتشكّلت منصّات هنا وهناك برعاية دول، حتى وصلنا إلى خاتمة التدخل بتشكيل الهيئة العليا للمفاوضات وأعقبها تشكيل اللجنة الدستوريّة. المعارضة

كثر من الأصدقاء والمتابعين ينتقدون موقفي في أنني أدافع عن المعارضة، عندما أتحدّث عن التدخل الدولي الاحتلالي للثورة، وأحمله مسؤولية ما جرى للثورة من احتلال. منذ جنيف 1، اتضح لكل من يريد أن يرى، أنّ ما يسمى مجموعة أصدقاء الشعب السوري، بالتوافق أو بالتشارك أو بالصراع مع حلفاء الأسد المباشرين، أرادوا معارضة تبرّر موقفهم، وتعمل من أجل تمريره. هنا سأكتفي في هذا المقال بمعالجة ما أريد قوله من خلال موقف جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، كأكبر تنظيم معارض وأكبر مؤسسة معارضة.

للإخوان حليفان واضحان، تركيا وقطر، ليس لدي أدنى شك أنّ القيادة القطرية والتركية لو أتيح لهما ميزان قوى يسقط الأسد لفعلا. هذا ما أزعمه وفقاً لمعطياتي المتواضعة. كان من الواضح أنّه يتم إبعاد قطر بالتدريج عن الملف السوري. بالمحصلة نستطيع القول، إنّ الإخوان المسلمين اندرجوا في السياق التركي. ووفقاً لميزان قواه في المعادلة الدولية المتحكمة بالملف السوري، تالياً، باتت حركتهم كإخوان تبرير الموقف التركي من جهة، والعمل وفقاً لأجندته وحجمه في ميزان القوى المذكور. فوافق الإخوان على الاندراج في مؤتمرات أستانا وسوتشي واتفاقيات الثلاثي، التركي الروسي الإيراني. ليس أدلّ على ذلك سوى الموافقة على المضي بموضوع اللجنة الدستورية. بات للإخوان شركاء في الائتلاف يندرجون وفقاً لهذا المعطى. هذا لا يعني أنّ تركيا كفت عن محاولتها. من الجهة المقابلة كل من شكل مع الإخوان والائتلاف هيئة التفاوض كان أيضاً بنفس السياق ونفس الاندراج. لهذا ليس الإخوان وحدهم من يتحمل المسؤولية، بل كل طرف شكل هيئة التفاوض ووافق على اللجنة الدستورية. هيئة تنسيق ومنصّات ومستقلين. الاندراج التركي هذا متحالف نسبياً مع الروس ومنسّق نسبياً أيضاً مع الأمريكان. المعارضة

كل ما جرى منذ تأسيس المجلس الوطني الذي بفضل قيادته لم يستطع الإفلات من السياق الدولي التزميني للثورة السورية، كما أسميته، آنذاك، من أجل إفشالها واحتلالها إن اقتضى الأمر، وهذا ما حدث. جلّ ما فعله الإخوان بعد تشكيل الائتلاف هو أن يكونوا مع تركيا على السرّاء والضرّاء، تماماً كقسد ضد تركيا أيضاً على السرّاء والضراء. حيث صارت تركيا جزءاً من الوضع الداخلي السوري. لم يأخذ الطرفان في الحقيقة حجم تركيا في ميزان القوى المتواجدة في الملف السوري. الإخوان اعتبروه حاسماً وقسد اعتبرته ضعيفاً. ثم أتى احتلال عفرين، وفيما بعد رأس العين وتل أبيض. كان الإخوان غطاء سيئ الأداء على هذا الصعيد. وما تزال جماعة قسد أو قنديل، لمن يتابعهم يشعر أنّ تركيا قاب قوسين أو أدني من الانهيار.

ما كان ممكناً للإخوان أن يقوموا بهذا الدور لولا الموقف الأمريكي الداعم لتعفين الوضع السوري وتزمينه إلى مدة زمنية لا أحد يعرف متى تنتهي. رغم أنني كنت كتبت في هذا الموقع عدة مقالات عن الدور التركي في المسألة السوري، وموقع تركيا كبلد، وسياسة أردوغان حيال سوريا منذ تسلمه الحكم مع حزبه. يمكن للقارئ الكريم العودة إليها.

أسوأ ما قام به الإخوان في سوريا هو إعطاء الشرعيّة لكل شذاذ الآفاق، ممن يسمّون جهاديين، وأتوا من كل حدب وصوب وعاثوا قتلاً وفساداً. الم

ليفانت

———————————-

هل ستثور المناطق الأسدية!/ ميشيل كيلو

كثيرًا ما طرح المواطنون هذا السؤال، وأجاب بعضهم عنه بصيغة مفعمة بالأمل، لاعتقادهم أن ثورة عام 2011 التي انطلقت من حوران ستنطلق مرة جديدة منها، بينما يجمع بعضهم الآخر تفاصيل ووقائع يعتقد أنها تثبت وقوع الثورة، التي استعيدت وتنتشر في بؤرتها الأصلية هذه، ولن تلبث أن تعمّ الأرض السورية، وإن اختلف زخمها من موقع إلى آخر، بسبب اختلاف ظروف الشعب، وحجم انخراط ووجود أجهزة وميليشيات الأسدية، وقوة الروس والإيرانيين ومرتزقتهم فيها، وتلاعبهم بالمناطق التي انطلقت ثورة عام 2011، وتتجدد انطلاقتها منها، بعد التجربة المرّة التي عاشتها في ظلّ ما سمّي “المصالحة الوطنية” مع النظام، وكانت استمرارًا لحربه ضدها.

لا شكّ في أن الظروف تستدعي انفجارًا اجتماعيًا يشمل مناطق الجنوب السوري، التي استعادها الروس والإيرانيون للأسدية؛ فالملاحقات الأمنية عادت بكامل زخمها، والفتك بمن وعدتهم “المصالحة” بالأمان جارٍ على قدم وساق، عقابًا لشعب القرى والبلدات والمدن، الذي تمرّد طلبًا للحرية، وتغيير علاقات أجهزة الأسد القمعية بالمواطنين، التي دأبت على ممارسة ضروب مفتوحة من اضطهادهم وترويعهم، وشملتهم أفرادًا وجماعات، وغطت كل ما يتصل بوجودهم، من رغيف الخبز إلى الماء والكهرباء والدواء وما سواها من خدماتٍ هي حق للبشر في كل دولة ومجتمع، لكن الحصول عليها صار حلمًا بعيد المنال، بل بات كابوسًا يوميًا يرزح السوريون تحته إلى حدّ الموت جوعًا وعطشًا وبردًا وعريًا ومرضًا وحرمانًا، حتى صار السؤال الذي يطرح نفسه في كل مكان: من أيّ طينة قُدَّ هؤلاء البسطاء، الذين صمدوا أمام القصف والحصار والتجويع والانتقام، دون أن يركعوا، بالرغم من أنه أطاح بجميع فئاتهم، وأوصل تسعين بالمئة منهم إلى ما دون مستوى الفقر، في سابقة لم تشهد مثلها البلدان التي هُزمت في الحربين العالميتين الأولى والثانية، دون تجاهل الفارق الذي يفصل ضحايا سورية عن ضحايا الحربَين، الذين نالوا خلال فترة قصيرة مساعدات دولية أتاحت لهم الشروع في إعادة بناء أوطانهم، حتى تلك التي دُمّرت وهُزمت، بينما يُترك السوريون لمصيرهم المرعب، دون أن يتوقف قتلهم بمختلف أساليب ووسائل القتل الأكثر إجرامًا، أو يمد أحد يده إليهم بالعون الذي يقيهم الموت والتدمير. فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن ثمة سلاحًا كثيرًا بقي بين أيدي المواطنين، وأن أبواب الأمل بخروجهم من بؤسهم مغلقة؛ بدت عودة الثورة خيارًا وحيدًا لم يبق لهم غيره، من المرجح أن يصبح حقيقة واقعة ستتحدى الأسدية بما لا تستطيع تخطيه، وهي على ما هي عليه من إفلاس وافتقار إلى القدرة على إدارة مآزقها المتزايدة، وسط اندلاع قدر من الفوضى يشل سلطتها، ويقوض علاقاتها مع السوريين، وخاصة سوريي المعازل الخاضعة لها، التي لم يسبق للثورة أن حكمتها أو انتشرت فيها، لكنّها تعاني الأمرّين، بسبب فساد أجهزتها وضعف بشار الأسد، الذي تكرر حديث الروس عنه في الأشهر الأخيرة، كطرف أوصل من يحكمهم إلى أوضاع جعلتهم يحسدون من رُحّلوا أو هُجّروا من وطنهم، ويحسدون حتى من يعيشون في “المناطق المحررة”.

أعتقد -شخصيًا- أن من الصعب عودة الثورة إلى المناطق التي أعادها الروس بالقوة إلى الأسدية، أما أسبابي، فهي:

    افتقارها إلى قيادة سياسية تستطيع توحيد أهلها، وإخراجهم من سطوة الأسدية، بضمّهم إلى الثورة، بينما تخترقهم المخابرات بقوة وعمق، وتتفاوت خياراتهم ومواقفهم، بعد ما أصيبوا به من خسائر وقدّموه من تضحيات، وما يعانونه من حصار وإغلاق يجعل من العسير إحياء حراك تراكمي مدني يُخرج الأسدية من مناطقهم، ويحميها من إيران ومرتزقتها ومن الروس والأسديين، وينجح في بناء ميزان قوى تكفل تفوق الثورة الجديدة على ما لدى أعدائها من قدرات، في ظل تشتت قدرات منطقتهم ووحدة ما لدى الأعداء من قوى منظمة ومنتشرة في كل مكان.

    الحال التي آلت إليها ثورة الحرية، وترتبت على غمرها بثورة مذهبية متعسكرة مضادة ومعادية لها، وافتقارها إلى قيادة وطنية تخلّصها مما خضعت له من فلتان وفوضى وارتجال وواقع مناقض لقيم الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، وما وُعدت به، وأنشأ فشله أسدية موازية في معظم المناطق المسماة محررة، لوّعت المواطنين أيّما تلويع، وعاملتهم بطرق مستوحاة من تراث استبدادي/ إجرامي، قام السوريون بثورتهم للتخلّص منهم، فوجدوا أنفسهم أسرى له، في المناطق التي تنتشر فيها عصابات النصرة وأحرار الشام وجيش الإسلام وأشباهها، التي أوصلت سكانها إلى حال لم تترك لها خيارًا غير الخلاص منها، ومن قدوتها: بشار الأسد. وليس في تجربة المناطق التي خرجت عن الأسدية ما يشجّع أهلها، التي يجوّعها سفاح دمشق ويضطهدها ويصفي خيرة شبانها، ما يغريهم بتقديم تضحيات جديدة للالتحاق بالنصرة وأضرابها من أعداء الشعب والثورة، واستبدال جرائم الأسدية بجرائمها، وعسفها وقمعها وتجويعها وانتهاك كرامات ناسها: رجالًا ونساء! كان أهل حوران سيثورون ويقدّمون ما هم أهل له من تضحيات، لو كانوا واثقين من أن ثورتهم ستخرجهم من الاستبداد الأسدي إلى فضاء الحرية والعدالة والمساواة. من المستبعد أن ينخرط أهل حوران في ثورة جديدة، كي يتخلصوا من استبداد سياسي، ويخضعوا لإجرام مذهبي لا يقلّ فتكًا وبطشًا عن إجرامه، فلا عجب أنه لم يبق لهم إلا ما يشتركون في طلبه مع بقية إخوتهم السوريين: حلّ سياسي دولي يطبّق بيان جنيف وبقية القرارات الدولية، ويخرجهم من راهنهم الكابوسي إلى ما قاموا بالثورة ليبلغوه: الحرية، التي يفتقر إليها سكان مناطق الجولاني افتقار سكان مناطق الأسد!

    إذا كانت تلك العصابات قد قوّضت الثورة كحراك مدني/ سلمي، وكبرامج وخطط وقيادة، فلماذا يستشهد شباب حوران ومواطنوها لينتهي بهم المطاف بالخضوع لها، وهم من أشراف الثورة وأكثرهم تمسكًا بقيمها وأشدهم مقاومة للأسدية، بما يتخذونه من مواقف شجاعة، لا تترك شكًا في رفضهم القاطع للأسدية، ولأعداء الحرية والثورة، من الطغاة المحسوبين زورًا وبهتانًا عليها خارج منطقتهم؟

            مركز حرمون

——————————

مكاسرة الإرادات الدولية في سورية/ حسين عبد العزيز

يشير المفهوم الأرسطي “الوجود بالقوة والوجود بالفعل” إلى أن المادة في الوجود تكون في حالة هيولى ـ لامتعينة (لا شكل لها) تسمّى القوة، ثم تحدُث متغيراتٌ فيها تمنحها شكلا ما، فتنتقل عندها إلى حالة الفعل. شكل المفهوم الأرسطي هذا نقلةً فكريةً مهمةً في تفسير نشوء الطبيعة وصيرورتها، ثم انتقل هذا التفسير إلى الظواهر الاجتماعية، خصوصا في الحالات التي تحدُث فيها انقطاعاتٌ كبرى بين مرحلة وأخرى (مثال الثورات)، حيث يكون المجتمع في حالةٍ لا متعينة (القوة)، ثم ينتقل إلى حالة متعينة (الفعل)، غير أن تعقد الظاهرة الاجتماعية، وافتقادها حالة الاضطراد التي تتمتع بها الطبيعة، حالا دون تحوّل المفهوم الأرسطي أعلاه إلى قانون ناظم، أو على الأقل، جعل مسار الظاهرة من القوة إلى الفعل في الحالة الاجتماعية يختلف عن مسارها في حالة الطبيعة. ينطبق ذلك على الوضع السوري، حين شهد عام 2011 انفجارا اجتماعيا ـ سياسيا، بدأ معه مسار انتقال الوضع السوري من حالة القوة إلى حالة الفعل، ونشأت لحظةٌ في الكينونة السورية تفيد بأن حالة القطيعة مع المرحلة السابقة قد دنت، وأن حالة الفعل تقترب من التحقق. غير أن أحداث السنوات السبع الأولى كشفت حدوث عطالةٍ في مسار الانتقال إلى حالة الفعل (لأسباب لا مكان لتعدادها وشرحها هنا)، الأمر الذي أعاد الوضع السوري إلى حالة القوة، الحالة اللامتعينة التي يفقد فيها الفاعلون المحليون والإقليميون والدوليون القدرة على الفعل، أو بالأصح القدرة على إحداث حالة متعيّنة ثابتة يصعب تغييرها.

هكذا، دخل الوضع السوري، منذ نهاية عام 2018، في حالة ستاتيكو استراتيجي، ودخلت الأطراف في حالة عجز. والمقصود بذلك أن حالة الجمود والسكون ليست مؤقتةً نابعة من توافق إقليمي دولي، بقدر ما هي حالةٌ فرضت فرضا بسبب كثرة الفاعلين، وعدم قدرة أي واحد منهم على فرض أجندته، فتحولت الساحة السورية إلى مكاسرةٍ للإرادات، وفق منطق الصبر الاستراتيجي الذي يجعل كل طرفٍ يحتفظ بما حققه على الأرض، ريثما تحدُث متغيراتٌ من شأنها أن تنهي حالة الجمود لصالح هذا الطرف أو ذاك.

جاءت المواقف الدولية في الذكرى العاشرة للثورة، لتؤكد أن الملف السوري لا يزال يحظى بالأولوية لدى المجتمع الدولي، لجهة ضرورة إنهاء حالة الاستبداد وتحقيق الانتقال نحو الديمقراطية، مع التأكيد المستمر على معاقبة أركان النظام السوري على الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبوها بحق الشعب السوري. ولكن هذه المواقف أظهرت، في المقابل، حالة العجز الاستراتيجي المشار إليها أعلاه، فقد اكتفت بالتوصيف والتوصيف المضاد: موسكو تعلن على لسان وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، أن الخطط الأميركية ستؤدي إلى تقسيم سورية، وأن العقوبات الاقتصادية تؤذي الشعب السوري، ترد واشنطن على لسان وزير خارجيتها، أنتوني بلينكن، بأن الفساد المنهجي وسوء الإدارة الاقتصادية على أيدي النظام السوري أدّيا إلى تفاقم الأزمة الإنسانية. وعلى الخطى نفسها، يسير الاتحاد الأوروبي الذي أعلن على لسان المفوض الأعلى لشؤون الخارجية والأمن، جوزيف بوريل، أن النظام هو المسؤول الأول عن الأزمة الإنسانية، وليس العقوبات. ويحاول الروس شرعنة “الانتخابات الرئاسية” المقبلة لدى النظام، أو على الأقل فصلها عن مسار جنيف، فيما ترفض المنظومة الغربية الانتخابات، وتعتبرها غير شرعية.

تغيب عن هذه المواقف والمواقف المضادة أية رؤية للحل السياسي في سورية، وتحل محلّها مقاربة الخطوة ـ خطوة التي تعتمد من الجانب الأميركي على الأثقال السياسية والاقتصادية بعيدة المدى، وتعتمد من الجانب الروسي على القدرة على امتصاص هذه الأثقال، مع محاولة تدوير الزوايا إن أمكن، وتحويل الوضع السوري إلى أزمةٍ إنسانيةٍ عالمية، تستدعي إجراء تغيير في آلية التعاطي معها. أما النظام السوري، فلا يبدو أنه مثقلٌ بالأحمال السياسية والعسكرية، وإن كان مثقلا بالأعباء الاقتصادية، وسياساته الإجرامية في الداخل كفيلة بإبقاء الشعب في حالة سكون، مهما تعاظمت الأوضاع الاقتصادية عليه.

سياسة تمرير المراحل التي برع فيها حافظ الأسد يستعيدها الأسد الابن اليوم، وقد لاحت في الأفق ثمار هذه السياسة: دولٌ كانت في الأمس القريب معاديةً للنظام، ثم اتخذت مواقف محايدة، والولايات المتحدة تتفاوض مع إيران للعودة إلى الاتفاق النووي، مع ما يعنيه ذلك من انفراجٍ سيشهده الاقتصاد الإيراني، سينعكس بالضرورة إيجابا على النظام السوري.

وأمام هذا الوضع، سيبقى كل طرف يعمل على تقوية أوراقه ما أمكن، والدخول في مكاسرة سياسية واقتصادية مع الطرف الآخر، إلى حين نضوج شروط الحل السياسي التي لا تبدو متوفرة في الأمدين، القريب والمتوسط.

العربي الجديد

——————————-

الملك هو الملك/ حازم نهار

(الملك هو الملك) مسرحية معروفة للمسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس، استند فيها إلى تراثنا، حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة، تحكي قصة ملك استبدّ برعيته وعبث بهم وبأحوالهم، لكنه وصل إلى حالة من الضجر بأبهة الحكم، فقرّر في إحدى الليالي أن يتنكر ويخرج بحثًا عن ترفيه بين العامة، فالتقى بتاجر سابقٍ هائمٍ على وجهه اسمه (أبو عزة)، وغارقٍ في أوهامه وهمومه، بعد أن أفلس وخانه الدهر، وركبته الديون، بسبب تآمر شهبندر التجار والقاضي عليه، وأصبح يمضي وقته في الخمرة والأحلام، متمنيًا أن يصبح سلطان البلاد مدة يومين كي ينتقم ممن ظلموه ويحاسبهم.

يقرِّر الملك أن يلبسه ثيابه ويجعله ملكًا مدة يوم واحد للترويح عن نفسه، وطمعًا بشيء من الضحك. لكن عندما يتحول الحلم إلى حقيقة، ويصبح (أبو عزة) ملكَ المدينة، تقتضي مصالح الآخرين، مثل الوزير وشهبندر التجار وغيرهم، استمرار اللعبة وجعلها حقيقة واقعة، حتى أن الملكة وحراس القصر تعاملوا مع (أبو عزة) بوصفه الملك. أما بالنسبة إلى (أبو عزة) نفسه، فإنه أخذ يمارس الحكم بطريقة الملك السابق نفسها، وأدواته كانت الظلم والاستبداد، والغريب أنه نسي ثأره السابق، فلم يحاسب من ظلموه سابقًا، بل أخذ يثني عليهم ويسوق الحجج التي تبرِّر نصبهم واحتيالهم، حتى أنه قرّبهم منه، لأنه اكتشف أنهم من أركان ديمومة حكمه. أما الملك السابق فيجد نفسه ضحية لعبته الترفيهية، ويخرج من اللعبة، ويصبح في النهاية مجنونًا كما كان (أبو عزة) قبل تسلّمه الحكم.‏

ثمة عبر كثيرة يمكن استخلاصها من هذه المسرحية؛ هناك درس سياسي واضح يتمثّل بأن تغيير الأفراد لا يؤدي إلى تغيير الأنظمة، وأن تغيير قواعد وآليات الحكم لا يحصل بإحلال فرد مكان آخر فحسب، فأبو عزّة الذي لبس ثياب الملك أصبح ملكًا أشد بطشًا من الملك نفسه. أراد ونوس أن يوضح أن كرسي العرش/السلطة ذو سلطان أكبر من معتليه، فبعد مدة تُنسى سحنة وهيئة الحاكم ويبقى الحكم حقيقته الرئيسة.

من جانب آخر، في الأنظمة القمعية ينتفي الولاء للأفكار أو الأشخاص ويبقى الولاء للكرسي، وتكون الشعوب محكومة بمنطق “عاش الملك.. مات الملك”، ما يعني أن الشعوب هي الأخرى تكون محكومة بالتنكر، وليس الحكام فحسب، أي أن الشعوب نفسها تصبح ركيزة من ركائز ديمومة النظام القائم. يُضاف إلى ذلك أن الحاكم نفسه هو تجسيد رمزي للقوى والنظام، وشخصه ليس مهمًا ما دام النظام قائمًا، ولا يعني استبداله شيئًا ما دامت القوى والنظام لا يزالان قائمين، ولذلك اكتشف (أبو عزة) أن استمراره في الحكم مرتبط بمن كان يريد محاسبتهم قبل أن يصبح ملكًا.

ومن الاستنتاجات أيضًا أن الحكم في البلدان القمعية لا يحتاج إلى أكثر من تاج وصولجان، بصرف النظر عن شخصية الحاكم، وبنظرة بسيطة إلى حكام منطقتنا نكتشف بسهولة أن هيبة الحكم لم تقم يومًا على أسس المعرفة أو الخبرة السياسية، أو على أقل تقدير على قناعة البشر بالحكام وبقدراتهم. يقول ونوس في المسرحية: في الأنظمة التنكرية، تلك هي القاعدة الجوهرية “أعطني رداءً وتاجًا، أعطك ملكًا”.

التسطيح ونقص الأهلية الموجود على مستوى السلطات الحاكمة، نجد ما يوازيه أيضًا في ساحة المعارضات والقوى السياسية في المنطقة، وإن كانت مسؤولية هذا الأمر تعود في جزء منها إلى المستبدين الذين منعوا السياسة واعتقلوا المعارضين وأشاعوا الخوف في مجتمعاتهم، لكن هذا لا يعفي النخب والقوى الثقافية والسياسية من المسؤولية، خصوصًا من حيث استمرارها في استلهام ثقافة الأنظمة الحاكمة على الرغم من التغيرات التي خلقتها الثورات والانتفاضات الشعبية خلال العقد الأخير.

إذا نظرنا إلى القوى والشخصيات المعارضة والثورية مثلًا، على امتداد المنطقة العربية، نجد أنها أيضًا، في معظمها، تكتفي بالتاج والصولجان، أو ما يوازيهما، مؤهلاتٍ للأداء السياسي، وفي الأحرى بمجموعة من العدّة السطحية التي لا تنفع إلا في إعطاء مظهر شكلاني للقيادة السياسية. في سورية، اعتقد كثيرون أن “السياسة” عمل سهل، ولا يحتاج إلّا إلى تاج وصولجان؛ لذلك كانت العدة السياسية المتوافرة لدى أكثرية رجال وسيدات المشهد هي الظهور الإعلامي، الصراخ والشتائم ضد النظام السوري، وبعض الشعارات التي يعتقد أصحابها، على ما يبدو، أن الإكثار من تكرارها يمكن أن يحوِّلها إلى واقع ملموس.

لعل أهم ما يميز تجربة القسم الأكبر من القوى السياسية بعد انطلاق الربيع العربي هو استناده إلى منطق التجربة والخطأ في العمل السياسي، وقد تجلى ذلك في التنقلات غير المدروسة سواء أكان على مستوى الخطاب أو الممارسة، فكلما أُغلقت الآفاق أمام تلك القوى والشخصيات اخترعت أشكالًا جديدة، إنما استنادًا إلى المنطق السائد ذاته وآليات العمل نفسها، بل واعتمادًا على الشخصيات ذاتها. أما آليات التفكير والتحليل السياسي فما تزال، على ما يبدو، بعيدة عن معظمها.

أساس العمل السياسي هو العلاقات الموضوعية، وإدراكها شرط أساسي للممارسة السياسية الصائبة. وهذه العلاقات جملة متكاملة من المعطيات الواقعية (التاريخ، الجغرافيا) إلى جانب جملة من العوامل المكتسبة بفعل العمل البشري (علاقات سياسية تاريخية بين بعض البلدان، مصالح متبادلة… إلخ)، إضافة إلى دور العوامل الذاتية في العمل السياسي (دور الأفراد والقوى السياسية والمجتمع المدني، وغيرها) من حيث مستوى وعيها ونضجها ودرجة تنظيمها.

في مقابل هذا الفهم لمتطلبات العمل السياسي، نلمس بوضوح أن هناك نقطة ضعف لازمت الثورات منذ بداياتها وإلى الآن، تتمثل بغياب البوصلة السياسية الموثوقة. فقد كان، وما زال، نمط العمل السياسي المسيطر هو العمل على الطريقة “السبحانية”، وهو نمط عمل خاص بـ “الدراويش”، ويظهر في كل حركة وفعل ونفس، حيث لا وجود للخطط ولا لترتيب الأولويات ولا للحساب الزمني ولا للعلاقات المدروسة ولا حتى للتأمل ومراجعة الأداء، وقد تمت التغطية على هذا القصور وسلبياته في البدايات بفعل القوة الجارفة للثورات والزخم المتفائل الذي رافقها، لنكتشف تدريجًا أن الحقل السياسي المعارض لا يملك عدة ثقافية سياسية تزيد على تلك الموجودة لدى الأنظمة الحاكمة، وهذا يفسِّر حقيقة أن الرصيد الذي حققته الثورات داخليًا وخارجيًا بدّدته القوى والشخصيات السياسية تدريجيًا بصورة سلبية.

في الحقيقة، تعدّ “السياسة” من أعقد وأصعب الأعمال والعلوم البشرية، وهي لا تحتاج إلى الشهادات بالضرورة، إنما بشكل أساس إلى المعرفة أولًا؛ بعض المعرفة بالتاريخ والجغرافيا والواقع وعلم الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس والفلسفة، وربما المعرفة بالرياضيات والفيزياء والفن والأدب والحب أيضًا. وتحتاج ثانيًا إلى إعادة تربية الذات على مجموعة من الصفات الضرورية، مثل الصبر والتأمل والهدوء النفسي والتحكم في العواطف والحسّ العالي والذاكرة القوية ومعرفة البشر والإخلاص للحقيقة الواقعية. هذا بالطبع إن أردنا إنتاج ممارسة سياسية مختلفة عمّا هو سائد في مستوى الأنظمة الحاكمة التي لا تملك إلا التاج والصولجان والأجهزة القمعية.

المدن

—————————————

السوريون وروح قانون الطوارئ/ هوازن خداج

قبل عقدٍ من الزمن، حاول السوريون الخلاص من نظام استبدادي، بتوجيه مطالبهم نحو دولة القانون (المشروعية، فصل السّلطات، الرقابة القضائية، الحقوق، الحريات) وغيرها من المبادئ الدستورية التي تجعل من الناس مواطنين أحرارًا ذوي حقوق وواجبات متساوية، وتمكنهم من الخلاص من فساد النظام، ومن (المرسوم رقم 51 الصادر في 22 كانون الأول/ ديسمبر عام 1962) وحالة الطوارئ والأحكام العرفية، التي فُرضت على إثر الانقلاب العسكري لحزب البعث في 8 آذار/ مارس 1963 بالأمر العسكري رقم 2، لتشلّ إمكانية السوريين على الفعل السياسي أو المدني. إلا أنّ أبواب الخلاص من الاستبداد كانت موصدة، وبناء دولة القانون التي يُعمل بها في معظم دول العالم، اليوم، بقيت داخل المقالات السياسية للسوريين.

كانت الاستجابة التي قدّمها النظام السوري لرفع “الظلم القانوني” عن السوريين، والسير في ركب “الدول الحديثة”، غير متوقعة بسرعتها، وتضاهي سرعة تعديل الدستور السوري عام 2000 لتسليم “ميراث” الحكم في “دولة جمهورية” من (الأب إلى الابن). ففي 21 نيسان/ أبريل 2011، صدر مرسوم تشريعي يقضي بإنهاء حالة الطوارئ، ومشروع مرسوم تشريعي يقضي بإلغاء محكمة أمن الدولة العليا. واتجه النظام نحو بناء “منصته القانونية”، بتنظيم حق الاحتجاجات (قانون التظاهر)، والعمل السياسي (قانون الأحزاب)، وحرية التعبير (قانون الإعلام)، والإدارة المحلية، وغيرها من “إصلاحات”، ومن ضمنها دستور 2012، وكلها تُفضي إلى أن يركن السوريون لحكم الاستبداد، باسم القانون، أو”القانون في خدمة النظام”، بدءًا من:

قانون التظاهر- لا احتجاج بعد اليوم: علىإثر الاحتجاجات التي هزّت سورية منذ منتصف مارس/ آذار 2011، اعتبر النظام أن أهمّ الأولويات عنده سنّ قانون “لأول مرة” لتنظيم التظاهرات والاحتجاجات السلمية، وفق المرسوم 54 الصادر في 21 نيسان/ أبريل 2011، باعتبارها حقًا من حقوق الإنسان الأساسية التي كفلها دستور عام 1973 (المادة 39)، ولاحقًا كفلها دستور 2012 (المادة 44): “للمواطنين حق الاجتماع والتظاهر سلميًا، في إطار مبادئ الدستور، ويُنظّم القانون ممارسة هذا الحق”.

قانون التظاهر لم يحتج إليه السوريون سابقًا، بحكم قانون الطوارئ الذي منح (الأمن والشرطة والجيش والسجون) -“جهاز الدولة القمعي” بحسب تعبير لوي ألتوسير- صلاحيات واسعة لمنع تجمع ثلاثة أفراد أو أكثر، وقمع الاحتجاجات والتظاهرات، وملاحقة المشاركين فيها، ومحاكمتهم في محكمة أمن الدولة العليا. وإن إيقاف العمل به يفترض بالنسبة إلى النظام صياغة قانون آخر أكثر “حيوية”، ليتسع لواقع مختلف يبشر بإمكانية الاحتجاج، ويحتاج ضبطه إلى شروط “شبه مستحيلة”، تضمن ملاحقة المتظاهرين وإيقافهم من خلالها، بتهم مختلفة مثل عرقلة المرور والدوريات، مخالفة أوامر إدارية، بأن تكون الجهة المسؤولة عن التظاهر (حزب، نقابة مهنية، منظمة شعبية أو منظمة مجتمع أهلي) غير مرخصة أصولًا، والتظاهر دون ترخيص من وزارة الداخلية، وكذلك يستدعي الأمر الالتزام أمام الكاتب العدل بالمسؤولية عن كل ما قد تتمخض عنه التظاهرة، وتحديد المكان والزمان والشعارات التي ستطرح وعدد المتظاهرين.

وفضلًا عن أنّ هذا كلّه لا ينطبق على المسيرات التي لا تحتاج إلى موافقة (لكونها تُفرض قسرًا على كل الهيئات الرسمية بالدولة: مدارس وشركات وغيرها)، فإن قانون التظاهر -بالمقارنة بقانون العقوبات الذي لا يُجرّم ممارسة حق التجمع السلمي أو التظاهر، إذا لم يؤدِّ إلى اضطراب في الأمن العام، وتم الامتثال لأوامر السلطات بالانصراف- يُثبت “كفاءته” في قمع ومنع التظاهر والاحتجاج. وهو ما حدث في تظاهرات السويداء “بدنا نعيش”، في حزيران/ يونيو 2020، التي اصطدمت بتحركات استباقية من جانب الأفرع الأمنية لنظام الأسد، وطُوِّقت المنطقة المحددة للتظاهر (ساحة المحافظة)، ونُشر العشرات من عناصر الأمن، وقوبلت باعتقالات من جانب النظام، شملت أكثر من 15 شابًا، أُفرج عنهم فيما بعد عبر وساطات محلية.

قانون الأحزاب- لا أحزاب خارج غطاء النظام: بعد عقود طويلة عاشتها سورية تحت سلطة الحزب الواحد، قرر النظام (عقب الحراك) الاعتراف بتعددية الأحزاب، وأصدرالمرسوم التشريعي 100 لعام 2011، وعلى الرغم من ترحيب البعض به، كونه يُيسّر العمل السياسي “المفقود” لأسباب قسرية، فإن إعادة هذا العمل السياسي للحياة كانت “مقيّدة”، وفقًا لقانون الأحزاب، حيث إن (المادة 7) فيه تجعل هذه الأحزاب تحت سلطة النظام “التنفيذية” ممثلة بوزير الداخلية شخصيًا، والبعثي حكمًا، بصفته رئيسًا للجنة شؤون الأحزاب، يساعده -في الضبط- قاض يسمّيه رئيس محكمة النقض، وثلاث من الشخصيات العامة “المستقلة” يسميهم (رئيس الجمهورية لمدة ثلاث سنوات)، وأن عمل هذه الهيئة وصلاحياتها، بحسب هذا القانون، يجعل منها هيئة قيادية أعلى من الهيئات القيادية للأحزاب نفسها، ولها حقّ التدخّل في كل الأمور والحياة الداخلية لعمل هذه الأحزاب.

وتجدر الإشارة إلى أنه خلال العقد الماضي تشكلت أحزاب سياسية، وأخذت ترخيصًا للعمل وفق قانون الأحزاب، لتحمل قائمة “الأحزاب المرخصة” (15) اسمًا لأحزاب، من بينها أحزاب الجبهة الوطنية، بحسب صفحة مجلس الشعب بتاريخ 19 شباط/ فبراير 2015. إلا أن هذا لا يعني عودة الأحزاب والتعددية السياسية المُغيّبة عن الشارع السوري؛ فالعمل الحزبي السياسي في إطار المعارضة للنظام ترسّخ بالأذهان كـ “خطر” لا يمكن الخروج منه بسهولة، ولم يعرف السوريون عن تعددية الأحزاب سوى واجهة الجبهة الوطنية “بقيادة حزب البعث”.

ليكون قرار النظام “المتأخر”، بإحياء التعددية السياسية ممثلة بالأحزاب، من خارج “المألوف”، حيث يمكن الآن منع أي حزب معارض من النشاط السياسي، وعدم الاعتراف بوجوده، واعتبار المكان الرسمي للمعارضة داخل السجون “بفضل” قانون الأحزاب. فالتعددية التي يريدها النظام تنص على تشكيل أحزاب “تحت عهدته” وغطائه متمثلًا بوزارة الداخلية. وقد استخدمت، في 27 آذار/ مارس الماضي، حجة عدم وجود ترخيص من لجنة “شؤون الأحزاب” التي يترأسها وزير الداخلية، كسبب لمنع النظام عقد مؤتمر تأسيسي لـ “الجبهة الوطنية الديمقراطية” (جود)، وحوصر مكان انعقاد المؤتمر، وطُلب من المراسلين الإعلاميين (فريق قناة الميادين، وصحافية روسية) الذين كانوا داخل المبنى المغادرة، ووردت اتصالات من جهات أمنية لشخصيات مشاركة في المؤتمر، بمضمون تهديدي، بحسب كلام المُنسّق العام لـ “هيئة التنسيق الوطنية” حسن عبد العظيم، في موقع “المدن”.

قانون الإعلام- سياسة كَمّ الأفواه: لأن الإعلام يُمثل السلطة الرابعة، فإنه على تماس مع أوجه الحياة كافة، وعلى تماس مع كفالة الدستور لحرية التعبير، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها سورية، وقد جاء قانون الإعلام الصادر في المرسوم التشريعي رقم 108 للعام 2011 ، ليؤكد هذا الحقّ بـ “شفافية”، حيث تحظر (المادة 12) نشر أي محتوى، من شأنه “المساس بالوحدة الوطنية والأمن الوطني، أو الإساءة إلى الديانات السماوية والمعتقدات الدينية، أو إثارة النعرات الطائفية أو المذهبية”، وكلها مصطلحات تُعبّر عن حق حرية التعبير بصيغة “مراوغة” و”متناقضة”.

بالمعنى العام، إن مراجعة مواد قانون الإعلام هي مراجعة للأمور التنظيمية “الترخيص والإدارة وغيرها”، لوسائل الإعلام والنشر، ومراجعة لقانون المحظورات والعقوبات على “جرائم حرية التعبير”، تراوح الغرامة المالية فيها من 20 ألف إلى مليون ليرة، وكل جريمة لم يرد عليها نص في هذا القانون يطبّق بشأنها قانون العقوبات والقوانين النافذة، حسب (المادة 99).

قوانين متفرقة- لاستكمال منصة التعسف القانونية: لا توجد دولة في العالم تسمح بوجود الإرهاب والإرهابيين على أراضيها، وإنّ “مكرمة” الإصلاحات القانونية التي قدّمها النظام السوري بإلغاء قانون الطوارئ كانت تتطلب توجهًا مختلفًا، حيث أمر الرئيس الأسد بتاريخ 31 آذار/ مارس 2011 بتشكيل لجنة قانونية تُعدّ مشروعًا لمكافحة الإرهاب، ليكون القانون رقم 19 تموز/ يوليو 2012 الذي أسماه النظام بقانون “مكافحة الإرهاب”، المؤلف من 15 مادة، بمصطلحات سياسية ومفاهيم “مطاطة”، تشمل الجميع “أفرادًا ومنظمات وأحزابًا، ومعارضين وصحفيين، وعاملين في المجال الطبي والإغاثي”، لضبط هذه “الحالة الإرهابية” المنتشرة في صفوف السوريين، وأُنشئت محكمة الإرهاب بالمرسوم التشريعي رقم 22 لعام 2012، لتكون بديلًا عن محكمة “أمن الدولة العليا”، في فترة تتسم بأن (الكل إرهابي حتى يثبت العكس).

وقد أُلحق قانون “مكافحة الإرهاب” بقوانين ومراسيم وقرارات أخرى، كالقانون رقم 20 لعام 2012، لتسريح العاملين في الدولة، والقانون رقم 10 في 2 نيسان/ أبريل 2018، لسلب ممتلكات اللاجئين، وقرارات الحجز الاحتياطي، ومصادرة أملاك المعارضين، ويشمل عائلاتهم حتى الأطفال، وأصدرت وزارة المالية السورية قرارات بحجز أموال ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، بتهمة كتابة تدوينات تطال النظام. إن جملة القوانين والقرارات التي شهدتها سورية كانت تتجه للحفاظ على وظيفة “جهاز الدولة” الذي يعرّف الدولة بصفتها قوة تنفيذ وتدخل قمعي “إحقاقًا لمصالح الطبقات الحاكمة”، وإن كان استخدام هذا التعريف في النظرية الماركسية-اللينينية، في سياق الصراع الطبقي الذي أطرافه هم البرجوازية وحلفاؤها ضد البروليتاريا، فإنه في الحالة السورية يأتي مناسبًا في سياق تمرّد الشعب ضدّ الدولة ممثلة بالنظام وأجهزته الأمنية.

خاتمة

قبل عقدٍ، شكّل بناء دولة القانون المُستمدّة من “روح الشرائع” لمونتسكيو، التي يُعمل بها في معظم دول العالم، حلمًا مغريًا للسوريين، ولكنهم لم يتوقعوا أن استجابة النظام لتهدئة الحراك من الناحية القانونية كان لها “مناخ” مختلف عن “مناخ” السوريين، وأن القوانين التي ستنهال عليهم تُستمدّ من “روح قانون الطوارئ”، فالنظام الاستبدادي -كما ذكره مونتسكيو وعَهِدهُ السوريون- لا يقيم حسابًا لأي فضيلة سياسية، ويتأسّس أصلًا على الخوف، ليحقق “سلام المقابر” وصمت المدن التي يرابط العدو على أطرافها بغرض احتلالها.

 مركز حرمون

——————————————

الحكاية السوريّة: من الوحدة إلى التشظي/ هل يمكن جمع مفرداتها من جديد؟

يتحدث الكاتب، يوفال نوح حراري، في كتابه “العاقل” عن قدرة “الخيال/ الحكاية” على فعل المستحيل حين يؤمن بها الناس، إذ يحوّل إيماننا بأيّ شيء (سواء كان وطنًا أو حجرًا أو دينًا أو فكرةً أو قومية) إلى “حقيقة” أكثر قوة وحضور مما نراه ونلمسه بأيدينا من حقائق، فمثلًا، من يجادل اليوم بحقيقة القومية أو الدين أو الدولار أو البنك أو القانون؟ كلّها أمور رمزيّة ومتخيلة ولكن إيماننا الجمعي بها حوّلها إلى حقيقة، وستبقى كذلك إلى أن يهتز إيماننا بها، فتعود وتتحول إلى سراب، وهذا أمر ممكن إذا نظرنا إلى التاريخ ضمن مدته الطويلة والموغلة في القدم والزمن.

هذه المقدمة، أو الفكرة، تصلح لمناقشة ما بات يعرف في الأدبيّات السوريّة “البديل السياسي الديمقراطي” عن نظام الاستبداد، هذا البديل الذي عجزنا جميعًا عن بنائه وتقديمه لأنفسنا أولًا وللمجتمع الدولي ثانيًا، ليكون مساعدًا لنا في إزاحة نظام الاستبداد وبديلًا عنه. قد يجادل البعض أيضًا بأنّ المناخات الدوليّة والإقليميّة السائدة، لم تكن تسمح بإسقاط النظام حتى لو تشكّل هذا البديل المعنيّ هنا، ودليل ذلك، هو رحيل عدد من المستبدين الطغاة دون تبلور البديل أو نضجه إلا بعد رحيل المستبدين، وهو أمر يمكن للمرء أن يناقشه كثيرًا، من حيث الاختلاف القائم بين بلد وآخر، خاصة لجهة قوة حضور المجتمع المدني والمعارضة الداخلية في بلدين مثل تونس ومصر وقوة المجتمع القبلي وتحالفاته في بلد مثل اليمن، فيما تكاد ليبيا تكون حالة قريبة من سوريا لجهة سيادة التصحّر السياسي الذي فرضة النظام الاستبدادي في البلدين.

في العموم، لن يناقش هذا المقال، الآثار الإقليميّة والدوليّة وأثرها على الداخل السوري إلا بقدر يقتضيه الأمر، بل سيُركز على قراءة أسباب غياب الحكاية السوريّة الجامعة، وبالتالي غياب البديل والآثار التي ترتبت على غيابه داخليًا وخارجيًا.

حكاية واحدة وجامعة لزمن قصير

في بداية الثورة، وخصوصًا في عام 2011، انقسم السوريون ونخبهم بين من يرى أن الأولويّة تكمن في إسقاط النظام ومن ثمّ نسعى لإيجاد البديل، ومن رأى أنّه لا يمكن لمهمة إسقاط النظام أن تحصل قبل صناعة البديل السوري أو اختراعه، ولو بقوة الأمل. فإذا أخذنا بأهميّة دور الحكاية/ الخيال وفق قول “حراري”، فإنّ عدم قدرة النخب السوريّة على اختراع حكاية/ سرديّة يلتف حولها السوريون بعد اندلاع الثورة، ساهمت ولعبت دورًا في تأخر عملية سقوط النظام السوري، لأنّها ساهمت في تشرذم السوريين وتبعثر قواهم في حكايات/ سرديات متعددة ومتشظيّة بعيدًا عن حكاية مركزيّة ثابتة تجمع أكبر قدر منهم لتشكل حكاية قابلة للبناء عليها وتشكيل بديل محتمل. ولكن كيف حصل هذا؟ ومتى؟

يكاد يتفق أغلب الخبراء والخبيرات والفاعلين والفاعلات المختصين/ات في الشأن السوري أنّ الأشهر الأولى للثورة السوريّة شكّلت إجماعًا شبه كامل بين المؤيدين والمنخرطين في أنشطة الثورة السوريّة، وأولئك الذين ظلّوا على الحياد مترقبين الأحداث ووجهتها، نظرًا لأنّ مفرداتها وشعاراتها ومظاهراتها ونشاطاتها قدّمت، أو شكّلت، معالم “حكاية” يتفق حولها الكثيرون والكثيرات، والمتمثلة مفرداتها بالتخلص من الاستبداد ومكافحة الفساد وتحقيق الإصلاحات الجذريّة والحقيقيّة عبر المراهنة على رأس النظام (هذا حصل تقريبًا بين شهري آذار وحزيران 2011).

شكّل ما سبق معالم سرديّة واضحة المعالم، يتحد حولها أغلب المنخرطين/ات في نشاطات الثورة، وهذا ما كان يمكن أن يشكل أساسًا ليُبنى عليه البديل السوري المفترض، أي أن تعمل القوى السياسيّة على وضع هذه الشعارات في إطار خطة عمل والتفاوض حولها مع الدكتاتوريّة، لإيجاد طريق آمن وسلس نحو التغيير، وهو ما حاولت فعله تلك القوى (مؤتمر سميراميس، المخاضات المهيّأة لتشكل هيئة التنسيق الوطنيّة)، لولا دخول عوامل جديدة بدأت بكسر السرديّة المركزيّة تدريجيًا بما ساهم في “تشظيّة” الإجماع حول الحكاية السوريّة التي ستبدأ منذ تلك اللحظة بالتشظي إلى حكايات متعددة.

لكن، وقبل الانتقال إلى لحظة التشظّي تلك، لا بد من الانتباه إلى أنّه في الوقت الذي حافظت فيه الثورة على حكاية/ سرديّة تلقى إجماعًا واسعًا، تعرّضت سرديّة النظام للتشظي والارتباك خلال هذه الأشهر، وبدت ضائعة بين المؤامرة وضرورة الإصلاح والمطالب العادلة للمنتفضين والمنتفضات والإمارات السلفيّة، بما يعني أنّ النظام لم يكن يمتلك حكايته القابلة للإقناع في حين امتلكت قوى التغيير حكايتها وسرديتها الجامعة.

تشظي الحكاية السوريّة

مع انكشاف كذبة الإصلاح عبر المراهنة على رأس النظام الذي توّسع عنفه وتمدّد طردًا مع توّسع الاحتجاجات وتمدّدها معتمدًا الحل الأمني نهجًا له، ومع بدء دخول القوى الخارجيّة على الخط (تلك التي مع النظام وتلك التي مع المعارضة) بدأت تظهر سرديّتان/ رؤيتان/ حكايتان، انقسم حولهما الطيف السوري المعارض والمطالب بالتغيير، ونعني بهما: التسليح والسلميّة.

السرديّة التي قالت بإسقاط النظام فورًا والآن والذهاب إلى السلاح، أطلقت جدلًا بين أصحاب الحكاية التي كانت واحدة حتى الآن، مع من يقول بتغيير النظام بدلًا من إسقاطه لأنّ محصلة القوى القائمة اليوم (داخلًا وخارجًا) لا تسمح بذلك. وعلى موازاة هذه الحكاية، ظهرت سرديّة/ حكاية أخرى تقول بعجز المظاهرات والحراك السلمي وحده عن إسقاط النظام ولهذا لا بدّ من السلاح، لينقسم أصحاب السرديّة/ الحكاية الموحدة نحو أربع حكايات/ سرديّة تقريبًا، ولكلّ منها أنصارها ورؤاها.

ثمّ عاد وانقسم أصحاب سرديّة السلاح وإسقاط النظام نحو مسألة التحالف مع الإسلاميين ثم عادوا وانقسموا حول مسألة مع أيّ إسلاميين نتحالف؟ وهل أحرار الشام وجيش الإسلام وجبهة النصرة إسلام معتدل يمكن التحالف معه أو لا؟ هل يمكن الاستفادة من هذا التحالف تكتيكيًا وعسكريًا في المعركة ضدّ نظام الاستبداد بعيدًا عن الجانب العقائدي الحاكم لعقول أنصار ومناصرات هذه الحركات؟

إلى جانب هذه السرديّات المختلف حولها بشدّة بين أنصار الصف الواحد، بدأت أيضًا تظهر سرديّات تتعلق بالموقف من الأقليّات الدينيّة والإثنيّة (الأكراد…)، والموقف من الريف والمدينة (حلب ودمشق) والتحالف مع الإسلام السياسي والموقف من القوى الداعمة للثورة… وهكذا مع كلّ انقسام واختلاف في الرؤى، كان يتناقص عدد المؤمنين بسرديّة/ حكاية واحدة يمكن أن تشكل إجماعًا عامًا للسوريين، بحيث يمكن البناء عليها وطنيًا لتشكل سرديّة/ حكاية وطنيّة يمكن أن نبني على قماشتها البديل المحتمل لسوريا جديدة، وذلك في الوقت الذي حافظ فيه النظام بعد أن خرج من ارتباكه خلال الأشهر الأولى على سرديّة محاربة الإرهاب والمؤامرة واستهداف محور “المقاومة والممانعة”.

هكذا انتقلنا خلال عشر سنوات، من سرديّة/ حكاية موحدة للثورة وارتباك في سرديّة/ حكاية النظام إلى سرديّة موحدة للنظام مقابل تشظّي سرديّة/ حكاية الثورة إلى سرديّات متعددة، الأمر الذي أصبح من المتعذر معه جمع أكبر قدر ممكن من السوريين حول حكاية واحدة، فوصل الجميع إلى الحائط المسدود الذي نقف أمامه اليوم كسوريين.

لهذا، إذا أردنا اليوم أن نبدأ البناء من جديد والاستفادة من الأخطاء، وهي رغبة يلمسها ويدرك الحاجة لها معظمنا، فيتوجب على القوى والنخب والفاعلين والفاعلات، أن يبدؤوا عملية خياطة السجّادة السوريّة من خيوط الحكايات/ السجاجيد المتناثرة والمُمزّقة، عبر قراءة كلّ هذا الاختلاف والتشظّي واللقاء مع كافة أصحاب وممثلي الحكايات والسرديّات السابقة التي تشظّت عن الحكاية الأم والعمل على إمساك الخيوط التي تجمعها لإعادة نسجها في حكاية مركزيّة يتم إعادة تقديمها للسوريين كي “يؤمنوا بها”، ويجري العمل على وضع خطة عمل واحدة.

يجب أن يتم البدء من الأسفل إلى أعلى، أي أن نذهب إلى كافة أصحاب هذه الحكايات والسرديّات، مهما بلغت من الصغر والاستماع إليّها، لنعرف في النهاية ما الذي يجمع هذه الحكاية مع أصحاب الحكايات الأخرى، لنشكل حكاية سوريّة جديدة.

دون الإيمان بحكاية مركزيّة تشكّل إجماع أكبر قدر ممكن من السوريين لا يمكن للقطار السوري أن ينطلق، وسيبقى مجرد حديث نخب معزولة تضع حلولها المبنيّة على أوهامها بعيدًا عن الشارع السوري المتشظّي اليوم عبر جغرافيّات متعددة ومتنوعة داخلًا وخارجًا، بما يجعل مهمة الاستماع لحكاياته المتعددة ولملمتها في حكاية واحدة مسألة بالغة الصعوبة. هنا يكمن التحدي الصعب، ولكن من قال أن طريق التغيير سهل! المهم أن نبدأ.

حكاية ما انحكت

———————————-

تريندات التمويل الدارجة/ مزن مرشد

يلفتني منذ فترة عدد المشاريع الإعلامية والمدنية التي تزجّ بكلمتي (الحوار والسلم الأهلي) في كل مشروع تطلقه، أعلم تماماً أنّ هذين الموضوعين هما اليوم الأكثر تسويقاً، والأكثر إمكانيةً للتمويل من قبل جهات الدعم العالمية، لأنّ الأمر ببساطة أصبح أشبه بصيحات الموضة.

في بداية الألفية الثانية، وصلت شرارة التمويلات إلى منطقتنا العربية؛ ونحن الذين لم نعرف يوماً ما يعنيه المجتمع المدني بشكل حقيقي، في ظلّ حكوماتنا القمعية والاستبدادية.

المهم أنّها وصلت وكانت الموضة في ذلك الوقت، أو لنقل “تريند” المرحلة، هو حقوق الإنسان كعنوان عريض، واندرجت تحته عناوين فرعية، مثل حقوق المرأة والطفل والأقليات، وحقوق السجناء بشكل عام، والسياسيين بشكل خاص، كخصوصية لمجتمعاتنا العربية “خص نص” وبالتالي تكاثرت في ذلك الوقت المنظمات المدينة التي كانت تسعى للتمويل ( وهذا حق أي منظمة أو مؤسسة أو مشروع)، وكانت كل منها تضع حقوق الإنسان كلازمة إجبارية في صلب اختصاص عملها، لتضمن بذلك حصولها على التمويل المبدئي -تمويل التأسيس- ومن ثم تبني مشاريعها وتزجّ بحقوق أي كان في أي مشروع تريده أن يتموّل، سواء لتفريغ أعضاء، أو لتشغيل فريق عمل، المهم أن تكون فحوى المشروع تختصّ بالحقوق المنصوصة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حتى الإسلاميون كانوا يخترعون مشاريع تنضح بحقوق الإنسان والتستر خلف هذا العنوان لتسيير منظماتهم المدنية (غير الخيرية).

بعد ذلك بدأ نجم حقوق الإنسان بالفتور، وظهرت على السطح موجة جديدة حول الجندرة وتمكين المرأة، ودعم وتنمية الديمقراطية، وأيضاً لا أستطيع أن أحصي عدد المشاريع التي هرولت المنظمات لتقديمها، وباتت تخلط تمكين المرأة والجندرة والديمقراطية في كل شيء، الجندرة في السياسية والتاريخ والجغرافية وتمكين المرأة منذ بدء الخليقة، وتنمية الديمقراطية حتى بالمطبخ، وأخذت تلك الحقبة حقّها لسنوات ليست بالقليلة، في كل المنطقة العربية، وظلّت سوريا مقتصرة على منظمات حقوق الإنسان، ليس أكثر مع مراعاة حرية الصحافة والتعبير، ولكن بشكل خجول، نظراً لخصوصية الوضع الإعلامي في سوريا والمعروف للجميع.

استمرّت هذه المرحلة لما بعد انطلاق الثورة السورية ودخول السوريين بشكل واسع إلى سوق التمويل وإنشاء المنظمات، خاصة في دول الجوار ودول اللجوء.

ومع اختلاف الظروف، اختلفت ضرورات التمويل بعد الثورة، فأخذت المنظمات ذات الطابع الإغاثي الكثير من الاهتمام، ودُفعت مبالغ طائلة لهذه المنظمات، والتي لم يصل من تمويلاتها أقل من ربعها للمستفيدين الحقيقيين -بالطبع لا أتهم ولا أعمم- ولكن هذا ما لمسه الجميع في الفترات الماضية.

وانطلقت مشاريع لا تحصى لتميكن النساء بعنوانه العريض، فظهرت منظمات سورية تعني بهدا الموضوع في الخمس سنوات الأولى من عمر الثورة، ما أنشأته مصر على سبيل المثال في عشرين عاماً في ذات الاختصاص.

استمرّ تغيير مزاج المموّل، وبناء على أجندات معينة كما أعتقد ولا أجزم، فاتجه التمويل إلى الإعلام لتنتشر المواقع الإلكترونية، والجرائد، والتفلزات أحياناً، فيما سمي بالإعلام الثوري.

هذا الإعلام الذي عوم الكثير من الأخبار والفبركات التي ساهمت في فقد الثقة فيه، وفي الأحداث على الأرض أحياناً، على المستوى المحلي والعربي والعالمي فيما بعد، فجرائم النظام لم تكن بحاجة للمبالغة أو الفبركة لإظهار وحشيته وانتهاكاته التي تصل وبكل يسر إلى جرائم حرب غير مسبوقة بالعالم.

وظلّت “موضة” تمويل الإعلام الثوري لفترة تجاوزت الست سنوات، ليتغير بعدها المزاج العام تجاه تمويل المؤسسات الإعلاميّة، فأغلقت مواقع ومحطات وإذاعات وغرف عمل، ليستمر منها عدد قيل ممن فهم اللعبة بشكل صحيح، واستطاع أن يتعامل بديناميكية ومرونة مع أمزجة شركائه الممولين لمشروعه، والتقط بذكاء ما هو المطلوب في كل مرحلة من المراحل، فتغير الخطاب من الثوري، إلى الاجتماعي، إلى الدعم النفسي… إلخ. وهذه نقطة لهم وليست عليهم، فالبقاء للأقدر على التلاؤم ولا مكان للثوابت هنا. واستمرّت قضايا حرية التعبير وحرية الرأي والحوار منذ بداية الألفية وحتى بداية العقد الثاني منها.

وكما تتغير موضة اللباس ويتبع السوق الدارج والمرغوب من ألوان وغيرها، هكذا استمر تغير تريند أو موضة التمويلات، فشح التمويل تجاه المشاريع السورية بشكل عام، والمشاريع الإعلامية بشكل خاص، ومشاريع الإغاثة والجندرة وسواها من الموضوعات التي مُوِّلت في فترات ماضية، فلم يعد يعني المنظمات العالمية كثيراً هذه الموضوعات ولم تعد تبدي أي اهتمام بمشاريع تعنى بحقوق الإنسان أو النسوية أو الجندرة أو التمكين أو حتى الديمقراطية.

اليوم يظهر على السطح موضوع جديد ويأخذ حيزاً كبيراً من التمويلات، وهو موضوع الحوار والسلم الأهلي، والحقيقة حاولت أن أجد جواباً شافياً تحديداً حول السلم الأهلي، كيف يمكن لمشاريع أثبت الزمن أن لا وجود لها سوى على نطاقات ضيقة لا تتجاوز بضعة مئات من القرّاء أو المستمعين أو المتدربين أو العاملين في هذه المشاريع؟ وكيف ستساهم مثل هذه المشاريع في الوصول إلى السلم الأهلي؟ هل السلم الأهلي يحصل بهذه الطريقة، بكلمتين في جريدة، أو برنامج في إذاعة؟

السلم الأهلي.. هذا العنوان المؤلف من كلمتين يحتاج إلى سنوات من العمل الحقوقي التراكمي وعلى مستويات سياسية واجتماعية تبدأ من قاعدة الهرم إلى رأسه وبالعكس، وتجري فيه المحاكمات العادلة التي تقتص من مجرمي الحرب ومنتهكي حقوق الإنسان، محاكمات تصدر أحكاماً تُنفذ بحق هؤلاء، تشعر الضحايا وذويهم ولو قليلاً باستعادة حقوقهم.. فأي سلم أهلي والناس اقتلعت من مناطقها، وسُرقت أراضيها وأملاكها؟ أي سلم أهلي وحوار، بين القاتل والمقتول، أي تساوٍ بين الضحية الجلاد؟

نحتاج اليوم إلى عمل جاد يعطي الحقوق لأصحابها، يعيد المهجرين إلى أراضهم، يبني بيوتهم التي دمرتها حرب الأسد وحرب الفصائل والميليشيات والجيوش العابرة، ويطرح السلام في نفوس من فقدوا فلذات أكبادهم.

السلم الأهلي يا أعزائي لا يتحقق بمشاريع تعدّ من أبراجكم العاجيّة، ولا بمواد تكتبونها لا يقرأها إلا من كتبها لتضاف كلينك في تقرير التنفيذ المقدم للجهة الممولة.

السلم الأهلي والحوار لابد أن يكون سلة إضافية مع سلال ديمستورا الأربع سيئة الذكر، وأن يكون مساراً موازياً لعملية سياسية متكاملة تنهي المأساة السياسية وتضع البلاد على طريق الحل الأخير المرجو، والعودة إلى الحياة، نقطة ومن أول السطر

ليفانت

——————————————

معضلات السرديات…انتفاضات في مواجهة انتفاضات: ضرورة فهم السياق العربي الخاص/ موريس عايق

مضى أكثر من عقد ونحن نحاول قراءة الانتفاضات العربية والبحث عن سياق يفسّر الأحداث وينظمها، خصوصاً فيما يتعلق بأهداف المنتفضين، وما كانوا يسعون إلى تحقيقه.

طُرحت العديد من المقاربات صدرت عن أطراف متنازعة لاستكشاف ما قصّر فيه المنتفضون أو ما غاب عنهم، لكنّها كانت مقارباتٍ جزئية ومتناقضة، لا يمكنها أن ترسم بمجموعها صورة عامة تساعدنا على فهم ما جرى.

لا يسعى هذا النص إلى تقديم صورةٍ عامةٍ أو تفسيرٍ جامعٍ لأسباب إخفاق الانتفاضات العربية، بل على العكس من ذلك، إنها مجموعة من الملاحظات حول صعوبة الإتيان بهكذا تفسير، ومحاولة للبحث في الأسباب التي تحول بيننا وبين رسم تلك الصورة العامة.

صور كثيرة.. أسماء كثيرة

اعتمدت السرديات التي تم طرحها تسميات مختلفة للانتفاضات العربية، أكثرها مركزية كانت تسمية الربيع العربي التي استندت إلى فكرة الديمقراطية والنضال من أجل الحريات.

كانت سردية الربيع العربي تحيل إلى تجارب سابقة متنوعة بدءاً من ربيع شعوب أوروبا 1848 إلى ربيع الديمقراطية المرافق لانهيار دول الاشتراكية الواقعية، أو إلى الانتفاضات التي أنهت الديكتاتوريات العسكرية في دول أمريكا اللاتينية.

وفي نسخة أكثر جذرية للتسمية نفسها، كان الحديث عن ثورات عربية يُحيل هو الآخر إلى مخيلة ثورية عريقة تعود إلى الثورة الفرنسية، وأحياناً، إلى مخيال ثوري يجد مصادره في الثورة الإسلامية الايرانية.

في مقابل تلك السرديات الإيجابية حضرت أخرى مناوئة للانتفاضات، كانت تعتبر التحركات الشعبية مؤامرات دولية أو ثورات إسلامية (هذه المرة كوصفٍ سلبي) أو حروباً بالوكالة.

وبمعزل عن تفاوت جودة السرديات المقترحة، والخلفيات السياسية التي صدرت عنها، فإن غالبيتها رصدت جانباً مهماً مما حصل، لكنها كانت تصمت عن الباقي، الذي لا يمكن شرحه ضمن إطارها، وبذلك ظلت عاجزة عن تقديم صورة عامة.

فالانتفاضات العربية (باستخدام أكثر كلمة محايدة ممكنة) كانت انتفاضات من أجل الحرية في مواجهة أنظمة سلطوية واستبدادية، وهذا صحيح، لكنها كانت انتفاضات شكل الاسلاميون مادتها الأوسع والأصلب. فقد كان الإسلاميون الأكثر حضوراً ورسوخاً اجتماعياً في مواجهة الأنظمة خلال العقود الأخيرة، مع الأخذ بالاعتبار علاقتهم الإشكالية مع الحرية والديمقراطية، تلك العلاقة التي تبدأ بالالتباس وتنتهي بالعداء الصريح.

لا يمكننا أيضاً أن نتجاهل الحروب الأهلية التي مثّلت جانباً من سيرورة الثورات، وهنا لا نتحدث عن الحروب الدائرة مع النظام وحسب، بل عن حروب الأهل، الطوائف والعشائر والمناطق.

ومثلما حضرت الروح الوطنية إلى جوار الهوية العربية والإسلامية، فقد حضرت أشكال التبعية وحروب الوكالة مع تطور الحروب الأهلية، وكانت التبعية تسوّغ نفسها بالإحالة إلى هوياتٍ عابرةٍ للوطنية أو حتى مناهضةٍ لها.

من هم المنتفضون؟

لو حاولنا تقديم صورة متسقة ومحددة للمنتفضين فلن يكون هذا سهلاً، فالانتفاضات العربية فتحت المجال العام المغلق منذ زمن طويل على مصراعيه، وفي سيرورتها تقدّم فاعلون اجتماعيون مختلفون لشغل المجال العام.

كان المتتفضون أبناء طبقات وسطى أو وسطى مهددة بالتراجع، بعضهم يحمل قيماً حديثة ومعولمة وآخرون منهم يحملون قيماً محافظة وتقليدية. كانوا أيضاَ أبناء هوامش وأحياء فقيرة، أبناء ريف انتفض على إهمال طويل الأمد وتزايدت حدته خلال العقود الاخيرة، كان منهم أبناء عشائر، كل هؤلاء، وجدوا لهم مكاناً في الانتفاضات وعلى مراحل مختلفة من تطورها.

وانطلاقاً من معضلات السرديات التفسيرية تتجلى صعوبة الإجابة عن سؤال الفشل، فهل فشل الربيع لغياب الفاعل السياسي (الحزب الثوري) الذي يجمع ويوحّد المنتفضين؟ آصف بيات عالم السياسة الإيراني-الأمريكي في كتابه “ثورة بلا ثوار”،  يقول ربما شيئاً من هذا القبيل.

لكن هل كان ممكناً لحزب ثوريّ أن يوجد مع كل هؤلاء الذين انتفضوا وحضروا إلى الميادين؟ أو هل كان من الممكن إيجاد تنظيم أقلّ من حزب لكنه أكثر من حالة التشرذم العام؟ مرة أخرى، هل هناك حقاً ما يجمع كل هؤلاء الذين انتفضوا؟

محاولة تفسير الهزيمة من خلال تقدّم الثورة المضادة تبقى محدودة في قيمتها التفسيرية، فالثورة المضادة لا تنفع في تناول ما حصل في ليبيا أو اليمن مثلاً.. والإحالة إلى الثورة المضادة أمست في غالب الوقت جزءاً من النزاع على “الشرعية الثورية” بين الثائرين أنفسهم.

ولا يبدو من السهل أيضاً تحميل الإسلاميين وحدهم مسؤولية الهزيمة (مثلما يقول خصومهم)، فصحيح أن النزاع حول موقع الاسلام كان مسألةً حاسمةً في كل مكان تقريباً هُزمت فيه الانتفاضة، وأنه لا يمكن تقديم أي تفسير للهزيمة دون الاحالة إليه، لكن الدور الكبير الذي لعبه هذا النزاع في الهزيمة يشير إلى وجود نزاعات أخرى تقسم المجتمعات العربية، لا تقل عمقاً عن النزاع مع النظام العربي الذي حصلت الانتفاضات بسببه.

بحثاً عن تفسير

بالإضافة إلى النزاع حول موقع الإسلام، ظهرت انقسامات أخرى مثل الانقسام الطائفي في المشرق، وهو انقسام متداخل ومتراكب مع الانقسام حول الإسلام.

ففي سوريا، لم تكن الانقسامات بين الإسلاميين محض انقسامات عقدية وايديولوجية، بل سارت أيضاً وفق خطوط الانتماءات والنزاعات القبلية (مثلاً بين مناصري الدولة الإسلامية ومناصري جبهة النصرة). وقد رأينا انقسامات أخرى قبلية أو جهوية في اليمن وليبيا، وهي بدورها في أحيان عديدة كانت تتداخل مع انقسامات إيديولوجية.

هذا قد يعني مرة أخرى أننا أمام نزاعات أشد عمقاً مما يفترض أنه نزاع أساسي للانتفاضة، مما يجعل السردية المتمحورة حول انتفاضة شعب ضد الأقلية الحاكمة المستبدة والفاسدة لانتزاع حريته وديمقراطيته سرديةً ضعيفة في مقاربتها لما حصل.

لكن استبدال هذه السردية بتمركز آخر حول ثورة إسلامية أو طائفية يعاني بدوره من معضلات تفسيرية. فالمنتفضون لم يكونوا إسلاميين حصراً، ولم تلعب حركات الإسلام السياسي في البداية دوراً مركزياً او حاسماً في الانتفاضات، والمسالة الطائفية لم تكن محصورة على المنتفضين، بل تولت الأنظمة نفسها رعاياتها وتغذيتها في مواجهة المنتفضين.

ربما لا تكمن المشكلة إذن في ضعف النظريات وأدواتها التفسيرية وبأن علينا البحث عن سردية أشمل وأفضل، إنما تكمن الصعوبة في مدى تعقيد الظاهرة نفسها. فهناك سمتان موضوعيتان تجعلان تقديم نظرية شاملة لتفسير ما حصل مسألة صعبة، الأولى هجانة الواقع العربي، والثانية تعدد الانقسامات الأساسية في المجتمعات العربية.

طبقات الزمن حين تتداخل

يمكن تهجين نوعين من النبات أو الحيوانات لإنتاج نوع آخر يحمل سمات مشتركة من النوعين الأصليين. وبالطبع قد يكون التهجين مثمراَ أو عقيماً، أو بلغة تحيل إلى الأنظمة الفكرية، قد يكون التهجين توليدياً مبدعاً أو توفيقياً متناقضاً.

الهجانة المعنية هنا، هي التداخل بين تقاليد مختلفة وطبقات زمنية مختلفة مع كل ما تحمله من مخيلات ومنازعات ولغات خاصة بها، في ذات اللحظة التاريخية، مما يجعل من الصورة الناشئة توفيقاً بين صورٍ عديدة تعود إلى مستويات زمنية وتقاليد مختلفة.

يمكن تقديم شكلين يتجلى بهما هذا التداخل أو الهجانة، الشكل الأول يتعلق بتداخل الحقب المختلفة والإشكاليات التي كانت تُطرح في كل حقبة، فتكون جميعها حاضرة في آن واحد، ويظهر الواقع وكأنه تعايش لعوالم مختلفة وجدت نفسها محشورة إلى جانب بعضها البعض.

لنفكر بأنموذج كلاسيكي نبدأ فيه مع ثقافة أمية شفاهية لا تعرف القراءة والكتاب إلا في أضيق الحدود يرافقها تصورات سحرية عن العالم، ثم تليها ثقافة كتابية مع انتشار الطباعة وتعميم الكتاب وانحسار نسب الأمية، ثم يظهر التلفزيون والراديو، وأخيراً يظهر الانترنت. وكل تحول في وسائل التواصل الجماهيري سوف يستدعي ثقافة مختلفة ونمط مغاير للإدراك.

لننتقل الآن للمستوى العربي حيث تسود حالة هجانة، وسنرى تداخلاً بين كل هذه الوضعيات دفعة واحدة، فهناك نسب أمية عالية مع وجود للجامعات والجرائد والتلفزيون واستخدام كثيف لشبكة الانترنت والهواتف الذكية.

لا يقتصر التداخل هنا على حضور كل وضعية في المجال العام على حدى، بل تتداخل هذه الوضعيات فيما بينها، مثل استخدام الأميين وشبه الأميين للانترنت، وما يتيحه من إمكانيات تعتمد وسائل شبيهة بالتي اعتمدتها الثقافة الشفهية.

في مثالنا هذا تُطرح قضايا محو الأمية إلى جوار قضايا المجتمعات الرقمية، وفي حالات عديدة يكون المستهدفون بمحو الأمية هم أنفسهم جمهوراً لوسائط رقمية (اعتمدت الأنظمة العربية سابقاً على راديو الترانزستور لتحشيد وتعبئة جمهور الأميين الذين لا يمكنهم قراءة الجريدة والمجلة).

هكذا نجد أنفسنا أمام مجال تظهر فيه تقاليد وأسئلة وإشكاليات انتمت لمراحل مختلفة، ولكنها أيضا لا تُقدم كتقاليد متجاوزة إنما متداخلة، فنعثر في آن واحد على نزاعات هوية تحيل إلى القبيلة وأخرى إلى بناء الأمة وثالثة إلى الجماعة الدينية ورابعة إلى مجتمع الميم.

ربما تقدم القضايا النسوية في السنوات الأخيرة مثالاًَ أبرز لهذه التداخل لأنها تُطرح بين حدود قصوى، من حق التعليم الأدنى وحق الخروج من المنزل وارتداء المرأة لما تشاء (أي تحررها الأولي من كونها إنسان أقل قيمة) إلى حريتها في اختيار هويتها الجنسانية مثلاً.

ففي وقت واحد تُطرح قضايا تنتمي إلى ماقبل العصور الحديثة إلى جانب قضايا تواجه النخب الآن في نيويورك أو أمستردام.

ترجمة.. بمعجم جديد

لئن كان الشكل الاول للهجانة يحيل إلى تداخل الحقب الزمنية المختلفة، فإن الشكل الثاني يحيل إلى هجانة التقاليد نفسها التي يعتمدها الناس عند تقديم تصورات كبرى عن عوالمهم.

فالتقاليد التي تقدم نفسها اليوم بوصفها تقاليد أصيلة أو جذرية هي في الحقيقة نتاج تهجين ناشئ عن تجاورها وتداخل اللغات الخاصة بكل منها، ومن جهة أخرى هي نتاج الأسئلة الجديدة والمغايرة التي يطرحها الواقع على هذه التقاليد، فيفرض عليها الاستعانة بمعجم مختلف كي تعيد ترجمة نفسها.

إذا ما أخذنا الإسلام السياسي مثالاً، خصوصاً أنه التقليد الذي يرفع لواء الأصالة والهوية في وجه مناوئيه، فسنجد أنه قد تشكل في سياق حديث، هو سياق بناء الدولة الحديثة بدءاً من فترة التنظيمات العثمانية، وما طرحته هذه الدولة من إشكاليات جديدة على العالم التقليدي للمجتمعات الإسلامية، وعلى النظام التقليدي للشرعية والسلطة الذي اعتمدته هذه المجتمعات (نظريات السياسة الشرعية ومفاهيمها ودور الفقهاء ).

هجانة ظاهرة الإسلام السياسي هنا تحيل إلى إعادة تخيل (أو اختراع) التقليد على أرضية مغايرة ومختلفة تماماً عن تلك التي نشأ وتبلور هذا التقليد على أساسها.

إعادة التخيل هذه تحصل في سياق تنازع مع تقاليد أخرى حول الشرعية والمكانة والهيمنة، وهذا تحديداً ما يسهل استعارة مصطلحات وإشكاليات التقاليد المنافسة لتضيفها إلى معجمها الخاص.

https://www.youtube.com/watch?v=3Y8u4HzUWg0

لغة لا تقول شيئاً

أمام هذه الأسئلة المستجدة وما يرافقها من مفاهيم حديثة وجديدة، قام الإسلام السياسي بإعادة تأويل اللغة التقليدية للشرعية الإسلامية بما يسمح لها بالتعاطي والتفاعل مع المفاهيم والأسئلة الطارئة.

فما حصل كان إعادة تأويل جذرية، دخلت عليها مفاهيم وتصورات حديثة لم تعرفها اللغة التقليدية مسبقاً، مثل مفهوم “الدولة الوطنية” و”الديمقراطية” و”الحرية”.

تعددت الاستراتيجيات المرافقة لهذه الاستعارة، من أسلمة هذه المصطلحات من ناحية أو إعادة إنتاجها من داخل التقاليد الإسلامية نفسها وكأنها جزء منها (مثل مماهاة الديمقراطية بالشورى).

وفي حالات أخرى، كانت هناك إعادة تشكيل للتقليد ذاته، من خلال صياغة إشكاليات لم يعرفها سابقاً العالم الذي نشأ فيه التقليد الإسلامي (مثل التصورات عن الدولة والأمة والمواطنة)، أي الإشكاليات النظرية والترتيبات السياسية والتشريعية الواقعية الحديثة.

ومع كل إعادة تأويل، كانت تظهر لغة هجينة، تنحلّ معها الشريعة في القانون، والحكم في الدولة.                    

يؤسس هذا الشكل من الهجانة لالتباس داخل اللغة الخاصة بكل تقليد، والتي لا تعود قادرة على قول شئ واضح تماماً، فالكلمات تعني أشياء مختلفة لأناس مختلفين.

فالديمقراطية لا تحيل إلى معنى مفهوم ومحدد، من ناحية يتعين معناها جزئياً من قبل التقليد الذي يصدر عنه المتحدث (مثلا مساعي الاسلاميين لربط الديمقراطية بالشورى وبالتالي فإن فكرة الديمقراطية صارت تتعين من خلال فكرة الشورى)، ومن ناحية أخرى من قبل التقليد الأصلي الذي صدرت عنه الفكرة نفسها.

هكذا تصبح الديمقراطية مفهوماً ملتبساً، بين الشورى في التقليد الإسلامي والديمقراطية في التقاليد الغربية.

يفتح هذا الالتباس باباً لمعضلات عديدة أولها ضعف إمكانية بناء الثقة، فمثلاً يفترض العديد أن ديمقراطية الإسلاميين ليست إلا قناع لأن ما يعنونه بالديمقراطية لا علاقة له بالديمقراطية ويحيل إلى ما يناقضها. بالمقابل ينظر الإسلاميون إلى خصومهم باعتبارهم يخونون مبادئهم.

التيارات الأكثر راديكالية تكفر الأقل راديكالية من الذين قبلوا الديمقراطية كونهم قدّموا حكم الناس على حكم الله (تظهر التيارات السلفية أكثر اتساقاً من غيرها كونها تسعى للحفاظ على لغتها سليمة على الأقل لجهة الشكل).

زمنان.. خطي ودائري

بالطبع لا يمكن تناول مسألة الهجانة معزولة عن فكرة الزمن، فتجربة الزمن ومعايشته (الزمن النفسي أو الثقافي، أي الزمن كما يعيشه الفرد أو الجماعة) تختلف من ثقافة (حضارة) إلى أخرى.

في الزمن الخطي والتطوري تنتظم الأحداث بشكل متتالي وتطوري، من الأقل تقدماً إلى الأكثر تقدماً، وبالتالي انتقالنا في الزمن هو حركة باتجاه واحد، للأمام، حيث القادم دوماً أكثر تقدماً مما مضى. في مقابل تصور دائري للزمن، حيث لا يوجد ما هو جديد حقاً، فالأحداث مهما تنوعت تعيد في النهاية أنماطاً أساسية وثابتة.

فمثلاً، استبطنت نظريات التحديث والتنمية التي سادت علوم الاجتماع زمناً طويلاً تصوراً خطياً وتطورياً عن الزمن، فعرضت الانتقال من الأمية إلى الكتابية إلى الراديو فالتلفزيون وأخيراً الانترنت باعتباره انتقال تطوري يحصل مع استنفاذ كل مرحلة لامكاناتها يتم معه الانتقال إلى مرحلة أكثر تطوراً (لا يعني الإحلال هنا إلغائها، فوسائط الاتصال الأقدم لم تلغ دوماً مع قدوم الجديدة، لكن تم إعادة تعريف دورها في شبكة أوسع).

وبهذا يتم تجاوز المعضلات التي تميز كل مرحلة عند الانتقال إلى مرحلة أعلى، فالأمية انتهت مع الكتابة والطباعة ولم تعد لاحقاً أمراً مطروحاً للنقاش.

بينما تعارض تصورات الزمن المضادة للتطور فكرة استبدال ثقافة بأخرى أكثر تقدماً، إذ تقدم كل ثقافة تمثّلاًَ للعالم خاصاً بها لا يمكن مقارنته مع ما تقدمه أي ثقافة أخرى، فالثقافات مختلفة ومتكافئة.

حضر الزمن التطوري في نظريات التحديث والتنمية (وبشكل سابق في فلسفة التنوير كجذر تأسيس)، في المقابل فإن فإن التقاليد الرومانسية والمعارضة لتراث التنوير اعتمدت على تصور ضد-خطي للزمن.

البحث عن زمن مغاير

لتوضيح الهجانة ربطاً بالزمن الخطي، لنأخذ مثلاً آخر، هو التاريخ الاوروبي الذي قدم لنا اللغة السياسية كما العالم السياسي الذي نحيا فيه.

يمكن وضع خطاطة تاريخية للعالم الحديث، تبدأ من الإصلاح ومعه الحروب الدينية (مرافقة لسؤال الشرعية القائم على الدين، ومدينة الله التي يجب تحقيقها). وفي مواجهة الحروب الدينية، ظهرت الملكية المطلقة التي تضع الشرعية السياسية مباشرة في يد الملك الذي أخذها عن الله، بوصفها حلاً لمعضلة التنازع حول تأويل مقصد الله (الملك وحده يملك هذا الحق)، وبهذا يتم مبدئياً جعل الديني شأناً شخصياً.

لاحقاً مع ظهور البرجوازي واحتكامه للعقل فإن الشرعية باتت تُعّرف باعتبارها تعاقداً بين البشر (علمنة مصادر الشرعية) وليست من مصدر خارجي (الله). وبهذا تصير الشرعية متعلقة بشكل التعاقد بين المواطنين.

ولكن من هم المواطنون؟ الإجابة عن هذا السؤال رافقت النضال من أجل توسيع حق الاقتراع ليلحقه السؤال حول إمكانية الفصل بين الحق السياسي والحق الاجتماعي، المسألة التي فصلت بين الليبراليين والاشتراكيين.

إن المشاكل هنا نراها مرتبة تاريخياً، كل فترة تقدم أسئلتها ومعضلات ومعها تصورات محددة للشرعية والسيادة والنظام السياسي، وبحلها ننتقل إلى شكل آخر بمشاكل أخرى.. وهلم جرّا.

إذا حاولنا التفكير بخطاطة عربية مقابلة فسنرى جميع هذه الأسئلة مطروحة علينا دفعة واحدة في سياق واحد وليس في إطار ترتيب تاريخي ننتقل فيه من أسئلة إلى أخرى (نتجاوز ما يجب تجاوزه).

فهناك نزاع حول مدن الله (المدن التي تخضع لنظام الله وشريعته) يعبر عنه النزاع بين التيارات الإسلامية المتباينة، ونزاع حول طبيعة السيادة، أهي من الله أم علمانية، وأسئلة حول الشعب والمواطنين، فهل هم موجودون أصلاً، وفي حال وجودهم من هم وأين هي الحدود التي تحدهم؟ وهل تتعين الجماعة بالدين أم بالأرض أم باللغة؟

بل إن بعض الطبقات تبدو مرتبة بشكل مقلوب، حيث تتبنى السلطات المستبدة في العالم العربي خطاباً تحديثياً علمانياً (هو انعكاس لآخر مرحلة من تطور الفكر الغربي)، وإن تكن الأنظمة نفسها تعتمد شكلاً من الحكم المطلق (دون فكرة الشرعية الإلهية وهذا يجعله استبداداً حيث تلعب الشرعية دوراً هامشياً).

في المقابل يحيل المنتفضون إلى لغة تستخدم من ناحية فكرة الحريات وحقوق الإنسان، ولكنها من جهة أخرى لغة تعود إلى “مدن الله”، أي الحقبة المبكرة من التاريخ الاوروبي، حقبة الإصلاح الديني والحروب الدينية.

هنا نرى منازعات مثيرة للاهتمام، الأنظمة تتحدث لغة تقدمية وتحديثية متماهية مع لغة الثورات الكلاسيكية أكثر من لغة الثوار أنفسهم. لكنها بالطبع لغة تدافع عن استبداد النظام وتشرعنه، وثائرون يستخدمون لغة لا تعرف الديمقراطية أو الحرية، وحتى إن استخدمت الحرية، فإن المعنى المقصود بها ملتبس أو مشكوك فيه.

ليست المسألة بالتدرج أو إعادة طرح المسائل بترتيب تاريخي، وهي مسائل صارت بدورها متجاوزة. فاليوم لم يعد ممكناً مناقشة تحرير المرأة خارج قضايا الجندر، لا لشيء إلا لأننا نعيش في نفس زمن نيويورك أو أمستردام أو بكين.

ولن تٌطرح مسألة التدرج في حق التصويت (كما كان الحال في أوروبا حيث يرتبط الحق بالتصويت بالنصاب الضريبي) حتى يتم بناء اجماع وتكوين أمة.

لهذا فإننا بحاجة لإعادة تفكير في زمانية مغايرة، تتجاوز الزمن الخطي أو الدائري.. إلى تصور مبتكر للزمن يسمح بفهم أفضل للمسائل المطروحة علينا دفعة واحدة.

فضاء من الثقة الهشّة

تجعل هذه الهجانة من تقديم صورة للواقع مسألة معقدة إلى حد بعيد، إذ تتجاور مشكلات تنتمي لتقاليد وأزمنة مختلفة بحسب غالبية النظريات.

ويظهر الفاعلون في هويات عديدة، لا يميزها تنوعها وحسب، إنما إحالتها إلى تقاليد وعصور وتجارب مختلفة تماماً، من القبيلة إلى الطبقة إلى الأمة إلى الدين إلى الجندر إلى الفرد.

بالإضافة إلى هذا التعقيد الذي تضفيه الهجانة على النظرية وعلى صف الواقع، فإنها تسبب التباساً لدى الفاعلين تجاه أنفسهم وتجاه الاخرين.. فما الذي علينا أن نفهمه من ديمقراطية الإسلاميين أو ديمقراطية العلمانيين مثلاً؟

هذا الالتباس، بترافقه مع تاريخ حافل بالمواجهة، يجعلنا نعيش في فضاء من الثقة الهشة، ثقة لا غنى عنها للوصول إلى حد أدنى من التوافقات والتسويات.

ربما تقدم سوريا واحدة من أكثر الحالات تطرفاً حول هذا الالتباس الحاضر في اللغة، ففيها يغدو من اليسير إضفاء معاني خفية على أي كلام، ومن اليسير اتهام أي أحد بأنه طائفي إذا أحال إلى الطوائف أو إذا نقد أي دين (حتى لو قدّم كلامه بوصفه نقداً للدين).

فعلى سبيل المثال، تم نقد آراء أدونيس تجاه الإسلام السني خصوصاً واحتفائه بشكل ما بالتقاليد المضادة، الشيعية أو الخارجية، بوصفها موقفاً طائفياً.

الطريف بالأمر أن هذه الآراء، وربما بشكل أكثر تطرفاً من أدونيس، مثلت خلال الستينات والسبعينات موقفاً عاماً لليسار العربي في تناوله للتراث من سوريا والعراق إلى مصر (كان من بينهم مثلاً المؤرخ المصري محمود اسماعيل).

انتفاضات طواها النسيان

من بين انتفاضات الربيع العربي، كان هناك موجات منسية قوبلت بالتجاهل من المنتفضين أنفسهم في البلاد الأخرى، مثل الانتفاضة الشعبية في البحرين والاحتجاجات المتواضعة في الإحساء والقطيف.

المسألة التي واجهت هذه الانتفاضات، وكانت سبباً في التجاهل وحتى العداء الذي واجهته، هي المسألة الطائفية. ففي البحرين ذات الغالبية الشيعية كانت غالبية المنتفضين من الشيعة، والأمر نفسه في الإحساء والقطيف حيث الغالبية شيعة (لكنهم أقلية في السعودية).

في الحالتين كان التمييز والاقصاء من البداية يستند إلى الطبيعة الطائفية للنظامين البحريني والسعودية.

ففي البحرين حكمٌ سنيّ لا يستعين بالشيعة في معظم مؤسساته وخاصة العسكرية والأمنية التي تولاها حتى زمن قريب ضباط بريطانيين (بقايا العقد الاستعماري) ولاحقاً مجنسون باكستانيين وبشتون. أما النظام السعودي فيستند في مرجعيته إلى الوهابية، مما جعله معادياً للشيعة منذ بداية نشوئه.

لكن هناك الانقسام الطائفي الذي يقسم المشرق من عقود، تحديداً مع قيام الثورة الايرانية والانقسام السني-الشيعي الذي تبلور وتشدد خلال العقدين الأخيرين.

تشابه الانتفاضة البحرينية الانتفاضة السورية في مسارها الأولي بشكل ملفت، فقد جمعت طيفاً واسعاً من البحرينيين من كافة التيارات والفئات والطوائف. كان هناك تيار اسلامي شيعي معارض إلى جوار تيارات يسارية وقومية عبَر من خلالها السنّة إلى المعارضة.

كانت التجمعات الأولى عابرة للطوائف وأحالت إلى الوطنية البحرينية. لكن لاحقاً تبلورت الهوية الشيعية في الانتفاضة وبرزت بشكل أكبر.

ويعود ذلك إلى الطائفية في تركيبة النظام (بوصفه حكم سني في مواجهة الشيعة وبالتالي في مواجهة خطر شيعي يتهدد السنة البحرينيين، يضاف إليه المخيال الخاص بالصفويين) أو لهيمنة التيار الإسلامي الشيعي على المعارضة البحرينية وحضوره الأكبر مقارنة بالتيارات السياسية الأخرى القومية واليسارية التي تراجعت هيمنتها خلال عقود.

ومع القمع وتعمق النزاع، حصل تحول في مواقف العديد من أبناء التيارات القومية واليسارية المنحدرين، خصوصاً المنحدرين من خلفية سنية، مبتعدين عن الانتفاضة لأنها أصبحت انتفاضة شيعية، وفي بعض الأحيان انقلبوا ضدها.

ومع مغادرتهم زاد اللون الشيعي للمنتفضين بشكل أكبر، وصار من الأسهل على النظام البحريني تقديم الانتفاضة كانتفاضة طائفية شيعية تهدد السنة والعرب والخليج (للاستزادة يمكن مراجعة كتاب “الخليج الطائفي والربيع العربي الذي لم يحدث” لتوبي ماثيسن).

يشبه هذا المسار بشدة الحالة السورية والانقسامات الطائفية التي عاشها المجتمع السوري والموقف من الانتفاضة بالنسبة للعديد من السوريين.

فالانتفاضة السورية بدورها كانت انتفاضة غالبية سنية. لكن هل كانت انتفاضة سنية أم انتفاضة سورية؟

عداوة بين انتفاضتين

أدى هذا التشابه في المسار العام إلى عداء حاد بين الانتفاضتين، فالانتفاضة السورية المتماهية بشكل متزايد مع هوية سنية رأت نفسها في نفس المحور السني، وبالتالي محور النظام البحريني والسعودي في قمعهما للانتفاضة البحرينية.

في المقابل حازت الانتفاضة البحرينية الدعم التام من حزب الله وايران اللذان لعبا أدواراً حاسمة في قمع الانتفاضة السورية (والعراقية لاحقاً).

في كل انتفاضة كان الخطاب عن الحرية والديمقراطية وضد الاستبداد والقمع، لكن عند الانتقال لتحديد موقف من الآخرين (موقف السوريين من البحرينيين وموقف البحرينيين من السوريين) لعبت المسألة الطائفية دوراً حاسماً.

بالرغم من ذلك، لا يجب أن ننسى محاولات مهمة لكنها محدودة الأثر، لتقديم موقف متسق ينطلق من قيم وخطاب الانتفاضات نفسها باعتبارها ثورة ضد الاستبداد، مثل موقف الشيخ نمر باقر النمر من الانتفاضة السورية كانتفاضة ضد نظامٍ مستبد.

يشير الانقسام الطائفي إلى الالتباس المرافق لهذه الانتفاضات ومسألة وصفها، إلا أن الانقسامات لم تقتصر على المسألة الطائفية، بل حضرت مسائل أخرى كالانقسامات القومية (الاكراد والأمازيغ مثلاً) والانقسام حول فلسطين.

وهذه الانقسامات كانت بدورها باباً للحروب الأهلية، سوريا والعرق وليبيا واليمن، والتهديد بها أو بشبحها كما في لبنان وحتى مصر.

الثورة لم يسرقها أحد

كانت الانتفاضات العربية لتحرير المجال العام من سطوة وسيطرة الأنظمة التي قمعت أي تعبيرات سياسية وقمعت أي محاولة للعمل الجماعي، حتى لو لم تكن سياسية.

يصدق هذا على النقابات أو على التنظيمات الدينية بل حتى على الحملات الطوعية لتنظيف الشوارع، خوفاً من أن تتحول إلى مكان تنبثق منه معارضة ممكنة تتحدى هذه الأنظمة.

وكان عمل الأنظمة يتلخص بقمع أي تعبيرات عن الذات أو الدفاع عنها، لكن أيضاً منع التعبير عن أي من الاختلافات، بما يسمح لاحقاً بتطوير أشكال تحاورية لإدارة الخلافات وتنظيمها.

ومع سقوط الأنظمة أو تضعضع سطوتها، اندفع الجميع للتعبير عن أنفسهم وانفجرت أشكال هائلة وتنظيمات عديدة للتعبير عن الذات، وهنا ظهرت الانقسمات الكبرى العاملة في المجتمعات العربية دفعة واحدة، سواء انقسامات اثنية أو طائفية أو حول حضور الاسلام في الحياة العامة، وغيرها.

هنا أيضاً تظهر صعوبة رسم لوحة محددة للانتفاضات العربية، فهي وإن لم تكن انتفاضات اثنية أو طائفية أو إسلامية، إلا أنها كذلك على نحو ما.

فقد صارت هذه النزاعات جزءاً أساسياً في المجال العام (وفي انهياره أيضاً) وجزءاً من الحركة التاريخية للانتفاضات العربية، كونها انتفاضات تهدف إلى تأسيس المجال العام وتحريره من سطوة الانظمة.

لهذا ليس من الممكن الاكتفاء بجزء من تاريخ الانتفاضة والوقوف عنده، لحظة ميدان التحرير أو “الشعب السوري واحد”، فهذه اللحظات نفسها هي التي فتحت مجالاً عاماً ظهر فيه السني والكردي والعربي والعلوي، العلماني والإسلامي، بكل نزاعاتهم وخشيتهم وقلة الثقة فيما بينهم.

هذه الخلافات وتحولها إلى مناط منازعات سياسية كانت (وستكون مستقبلاً) جزءاً من تاريخ الانتفاضة ومن تاريخ تحرير المجال السياسي.

وطالما أن هناك انقسامات وتمييز اجتماعي وطائفي وأهلي وقومي، فإن النزاعات على هذه الأسسس ستبقى حاضرة في أي عملية تثوير بكل تبعاتها ورهاناتها.

فأي انتفاضة بحرينية سيكون الشيعة متنها، وأي انتفاضة سورية سيكون السنة متنها، وأي سؤال تحرر سوري يستدعي سؤال تحرر الأكراد.

لم يسرق أحد الربيع أو الثورة، لكن الثورة أو الانتفاضة بعد لحظتها الأولى لم يكن في جعبتها ما يسمح لها بتحييد المجال العام من خلافات تاسيسية وثقيلة ينهار تحت وطأتها.

ولم يكن في جعبتها تسويات تأسيسية تسمح بإبعاد الخلافات الكبرى حول أشكال الحياة والقيم الكبرى عن المجال العام (أي تخصيصها، بردها إلى المجال الشخصي للأفراد) وتقديم ضمانة تأسيسية للجميع من الجميع.

أفق للتثوير العربي

إن هذه المقالة كانت محاولة لتقديم ملاحظات عن أسباب الصعوبة الكامنة في رسم صورة عامة للانتفاضات العربية وما يلازمها من صعوبة في تقديم إجابة عن السؤال السياسي المرافق، لماذا فشلت الانتفاضات وذلك بالإحالة إلى سمتين أعتقد أنهما تساعدان في فهم السياق العربي الخاص بهذه الانتفاضات.

السمة الأولى متعلقة بهجانة في الواقع وفي إدراكه، وما يرافقها على مستوى العمل من التباس وانعدام ثقة، بما يجعل من العسير جمع المنتفضين في أطر سياسية عامة من ناحية أو الوصول إلى اتفاقات تأسيسية تكون بمثابة إرساء لقواعد عامة يتم التأسيس عليها والاجماع حولها بما يسمح بالاستمرار والتقدم إلى الامام في مواجهة السلطة.

السمة الثانية هي تعدد النزاعات الاساسية في المجتمعات العربية، وهي نزاعات تم قمعها من قبل الأنظمة السلطوية (وليس حلها) وهي بدورها ستحضر بكل قوتها مع أي فتح للمجال العام وتحريره، بل إنها جزء من عملية التثوير الضرورية لفتح المجال العام عنوة. بهذا فإن مسار الانتفاضات العربية هو أيضاً مسار تثوير هذه النزاعات وإدارتها وحضورها في المجال العام.

فيما يتعلق بالسؤال السياسي، أدى ضعف القدرة في إلى الوصول إلى اتفاقات تأسيسية حول إدراة هذه الخلافات (خصخصتها أو حماية المشاركين في المجال العام عبر ضمانات تأسيسية) إلى انهيار المجال العام تحت وطأة هذه الخلافات.

أعتقد أنه من اللازم لدى التفكير في الانتفاضات العربية، الآن ومستقبلاً، الانطلاق من هاتين السمتين وما يلزم عنهما، بطرح مسائل تستدعي تفكيرا مختلفاً، براغماتياً، يسمح بالوصول إلى تسويات واتفاقات حد أدنى بين تصورات هجينة وشديدة التباين.

لهذا فالتفكير بالانتفاضات العربية في جزء منه هو تفكير بالهجانة وبالحرب الأهلية بوصفهما أفق توقع ملازم للتثوير العربي.

االكاتب: موريس عايق

حقوق النشر: khatt30.com

————————————

ولادة ثانية متعثرة لسورية/ سميرة المسالمة

وُلدت سورية أول مرة في ظروف قهرية تحت الانتداب الفرنسي الذي رسم خريطتها المشوهة، وفق اتفاقية سايكس بيكو، بحدود متأزمة مع كل جوارها، تركيا ولبنان والأردن والعراق. وعانت منذ نشوئها أزماتٍ عديدة، منها أزمة الشرعية والهوية والاستقرار السياسي، ما جعل معظم السوريين يتخبّطون في تحديد عمقهم الوطني، بين من يمدّ يده إلى الوراء (الإسلاميون) متمسّكاً بهوية الخلافة الإسلامية، ومن افترض وجود سورية جزءا أو قطرا من دولة الأمة العربية (القوميون)، أو أنها واحدة من مناطق سوريا الكبرى (القوميون السوريون).

ولم تكن تلك التبعيات السياسية وحدها السبب في غياب وحدة التصور لسورية الدولة، بل اكتسى هذا التأزّم ببعد آخر، هو التأزم الهوياتي، وذلك بسبب فقدان جميع السوريين المتنوعين في إثنياتهم وطوائفهم ومذاهبهم الدينية ثقتهم بالعقد الاجتماعي الذي يجمعهم تحت سقف وطنهم مواطنين متساوين وأحراراً، ما جعل نار الخلافات الإثنية “المتّقدة تحت الرماد” تنمو مع أول فرصة متاحة للانفلات من قبضة الأمن في ظل الثورة السورية (2011).

ويمكن إرجاع الخلافات إلى أسباب عميقة: منها تغوّل الأجهزة الأمنية وتصلب الدولة المركزية، والافتقاد لحقوق المواطنة المتساوية، والشعور بالظلم التاريخي والجغرافي منذ تأسيس سورية بخريطتها ما بعد الاستقلال، وخلال الحكم الشكلي لكل الدساتير التي صاغتها الأنظمة، وبقيت حبراً على ورق، سواء في ظل الاحتلال من دستوري 1920و1928 ودستوري ما بعد الاستقلال 1950 و1952 ودستوري حكم نظام الأسد الأب والابن 1973 و2012.

ولا تختلف الولادة المنتظرة لسورية ما بعد الثورة الشعبية 2011، والمستمرة في عامها العاشر، عن سابقتها، حيث يقيد الاحتلال المتعدّد لأرضها ملامح سورية المستقبل، سواء من حيث حدودها الجغرافية أو بنيتها الديمغرافية، على الرغم من كل التصريحات المتداولة حول وحدة سورية أرضاً وشعباً، حيث ما أوقعته الحرب الطويلة من خسائر على صعيد بنيتها الاجتماعية يفوق بكثير خسائرها في بنيتها وبنيانها العمراني، ما يضع مسؤولياتٍ مضاعفةً على السوريين، على الرغم من خروج العامل السوري من معادلة الحل، بشكله المتمثل بإنهاء الصراع المسلح في سورية وعليها، أي أن الدور الأساسي للمجتمع الدولي أو للأمم المتحدة هو، فقط، بنزع فتيل الحرب بين أذرع الدول بصورتها المباشرة، أو تلك التي تحت الغطاء المحلي السوري، سواء في النظام أو المعارضة. ما يعني أن التفاصيل الداخلية للحياة السورية لن تكون أولوية للمجتمع الدولي، وكذلك لن تكون للمتفاوضين من أمراء الحرب السوريين أو السياسيين (المعينين خارج إرادة الشعب) على الجانبين، النظام والمعارضة. حيث تؤكد التجربة أننا أمام متنافسين على السلطة، وليس على خدمة العمل الوطني، إذ تسود ظاهرة الاستئثار بالمناصب والامتيازات وهدر معالم تداول السلطة حتى في أضيق حدودها في كيانات المعارضة، وكأنه الشره للحكم في نسخة مشوّهة لما يحدث في نظام الأسد.

يستوجب هذا الحال فعلياً صناعة شكل جديد للعمل السوري التشاركي الذي يضع في أولوياته تفاصيل سورية المستقبل، لتكون جامعة للسوريين، وليست محاصصةً بين أطراف الأمر الواقع، من دون “توهماتنا” بأن هذا العمل يمكن أن يسبق حالة الاتفاق الدولي على بدء الحل في سورية، ومن دون أن نعتقد أن هذا العمل يمكنه أن يكون بلون سوري واحد، أو لمجموعة أو حزب واحد، سواء تحت مسميات الأحزاب “الديمقراطية” أو “الإسلامية”، أي أن فكرة أن سورية ستنحاز إلى فئة حزبية واحدة مجرّد قفز في الهواء. لذلك ما يمكن أن نبني عليه هو وجود عقد اجتماعي تكون سورية، الدولة، ديمقراطية وعلمانية ومتعدّدة القوميات، أي تستوعب الجميع وفق نصوص دستورية وقوانين ناظمة تساوي بين السوريين، أفرادا وجماعات.

تضييق العمل، وتحديده على أن سورية ملك لفئة دون أخرى يقودنا من استبداد نظام الأسد إلى استبداد الإسلاميين، أو استبداد المجموعات الأخرى، الساعية إلى السلطة تحت أي مسمّى، حيث الديمقراطية ليست اختصاصا، ولكنها حياة يتوجب الدفاع عنها بمشاركة الجميع ومن أجل الجميع.

ولعل من أجل سورية ديمقراطية لا بد أن يكون العمل على مجموعة قضايا، ووضعها فوق الطاولة، ومناقشتها بين كل شرائح السوريين، على اختلاف بعدهم الأيديولوجي والإثني، والمراهنة على أن أساس الانتقال السياسي هو مكانة “المواطنة السورية المتساوية”، وأن الشعب هو مصدر السلطات. ولهذا لا بد من استعادة قيم النظام الجمهوري التي غابت فعلياً عن واقعنا، وبقيت مجرّد عنوان من غير مضمون “جمهورية”، حيث يقوم المصطلح على أسس عدة، أهمها: إنهاء الحكم المطلق. وسيادة الشعب وعدّه مصدر السلطات. والفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية، واستقلال كل واحدة منها في مجالها. وشرعنة المكانة الحقوقية والسياسية للمواطن الفرد، القائمة على مجتمع من الأفراد المواطنين والأحرار والمستقلين عن أي انتماءات جمعية أخرى، في إقليم ـ دولة يشكلون فيها الأمة. والتداول على السلطة.

ولعل النظر في واقع سورية التي عرفناها منذ الاستقلال يؤكد أنها لم تعرف من “الجمهورية الحديثة” إلا لصق هذه الصفة بكل ما يُخالف معناها. وعليه، مسؤوليتنا، نحن السوريين، استعادة جمهوريتنا، والتأسيس على قيمها، وهي وظيفة السوريين من خارج الأجندات الإقليمية والدولية. وما لم نسع إلى تثبيت هذه القيم، بإجماع السوريين واجتماعاتهم، لجسر خلافاتهم وفتح قنوات الحوار بين مكوناتهم، فإن الحديث عن باقي التفاصيل السورية، مثل شكل الحكم رئاسيا أو برلمانيا أو أن سورية دولة مركزية أو فيدرالية، سيكون كله مجرّد فتٍّ خارج الصحن السوري، وكل الوعود التي تقدّم بهذا الشأن ستكون حبرا على ورق، كحال دساتير سورية الستة “المغيبة”.

الدستور المأمول لسورية، والذي يمكن أن يولد من لجنة دستورية تتنافس أطرافها على بسط نفوذها وتغييب إرادة شعبها، لن يسهم إلا في ولادةٍ جديدةٍ متعثرة لسورية المستقبل، لا تشبه سورية التي يمكنها أن تجمع كل السوريين تحت صفة المواطنة الحرّة في بلد يحفظ كرامتها وحقوقها.

العربي الجديد

——————————————–

في أصل المشكلة السورية/ برهان غليون

طرحت، في إحدى مقالاتي السابقة، سؤال: “هل نستطيع أن نخرج من خندق المعارضة والموالاة، ونفكر معا كشعب؟”. وفي سياق المراجعات المستمرة للتجربة الماضية والمأساة التي لا يزال السوريون يعيشونها، ركّز كثيرون، من محللينا، عن حقّ على غياب هذه الرابطة السياسية، أي الشعب، لكنهم أرجعوا أسباب هذا الغياب إلى تعدّد الهويات الثقافية: الطائفية والأقوامية والمناطقية وتنوعها. والحال أن هذا التنوع ليس محدثا، ولا وليد العقود الأخيرة. كما أن التنوع والتعدد الثقافي والأقوامي ليس سببا في غياب البنية السياسية، أو حائلا بالضرورة دون بروز كتلة شعبية رئيسة، حاملة مشروع دولة بمؤسسات دستورية وسيادة شعبية وسلطة القانون. بل قد تكون هذه التعددية من بين الأسباب المشجعة على تقدّم الدولة السياسية، لأنها الوسيلة الوحيدة لضمان التعايش فيما بينها، والتعويض عن غياب اللحمة أو العصبية الواحدة الدينية أو الأقوامية. وهذا هو أساس ومبرّر نشوء الدولة الأمة التي لا علاقة لها بدولة القوم والطائفة، وإنما وجدت كي تعطي للشعوب فرصة تجاوز مشكلة التعدّدية القومية والمذهبية، التي لا يمكن أن يخلو منها مجتمع تاريخي، والالتقاء في فضاء إضافي مختلف، هو فضاء السياسة وعالم القانون والحقوق المتساوية والمشاركة في السيادة، أي في الحرية المدنية.

وهذا ما حصل في سورية نفسها بالرغم من الظروف الكارثية التي رافقت ولادتها في فوضى الحرب العالمية الأولى وصراعات القوى الدولية، فلم تكن سورية الخارجة من حطام الدولة العثمانية، والتي كانت بعض هذا الحطام، أقلّ تنوعا ثقافيا ومذهبيا ودينيا وجغرافيا واجتماعيا، عندما نجحت نخبها الاجتماعية والسياسية في تنظيم نفسها في جمعياتٍ سياسية، وفي عقد تحالفات مع النخب الحجازية، المختلفة عنها في ثقافتها وتقاليدها، وطمحت إلى إقامة مملكة عربية تضم جميع أراضي آسيا الناطقة بالعربية، والتحرّر من نير الإمبراطورية العثمانية. ولم تكن أكثر انصهارا ثقافيا واندماجا اجتماعيا، عندما ولدت بعد هزيمة ميسلون دولة طرحا: مقطعة الأوصال، مشوّهة ومهيضة الجناح، منتزعة من سياقها القومي والتاريخي والجغرافي، وعرضة لحروب تقاسم المصالح ومناطق النفوذ بين الدول الاستعمارية. وما كان جمهورها أشد وعيا حديثا أو انفتاحا على ثقافة العصر التحرّرية عندما خاضت نخبها الصراع ضد مشاريع التقسيم الاستعمارية، وفرضت إعادة توحيد الدولة السورية الصغيرة المقسمة، وأطلقت، منذ 1925، ثورتها الاستقلالية ضد سلطات الاحتلال الفرنسية. ولا أقل تعدّدية اجتماعية وطائفية ومناطقية، عندما نجحت هذه النخب ذاتها في تشكيل الكتلة الوطنية التي حققت الاستقلال، وأرست قواعد دولة حديثة وسلطة دستورية ونظام حكم ديمقراطي. وكانت في ذلك أسبق من أكثر دول عصرها الناشئة، قبل أن ينقضّ عليها سيف الانقلابات العسكرية، والذي لم يكن في معزل عن الصراعات الدولية على الهيمنة الإقليمية أيضا، فكيف نجح السوريون منذ الحرب العالمية الأولى في التوصل إلى تفاهمات أنتجت حركة وطنية قوية بينما يظهرون عجزا لافتا اليوم، بعد قرن من الخبرة السياسية والاندماج الاجتماعي والاقتصادي والازدهار الثقافي وتجربة الحياة الوطنية المشتركة، عن تحقيق مثل هذه التفاهمات، حتى ليكاد الشك يراود أغلب مفكريهم فيما إذا كانوا يشكلون شعبا أو يمكن أن يشكلوا شعبا في المستقبل؟

جمهورية الأسد والمركب العسكري الأمني الحاكم

لا أعتقد أن مشكلة سورية الرئيسية تكمن في تنوع أطيافها، ولا في وجود الكرد والعرب والشركس والأرمن والتركمان والشيشان والعلويين والدروز والإسماعيليين والإيزيديين والسريان والآشوريين والمسيحيين والمسلمين وغيرهم الذين شكلوا نسيجها، ولا يزالون يعيشون فيها معا منذ قرون طويلة. بالعكس، هذه التعدّدية هي مكمن قوتها ومصدر ثرائها الروحي والثقافي والاجتماعي. وهي التي صنعت شخصيتها وصاغت عبقريتها في الماضي والحاضر، والتي جعلت منها ملتقى للحضارات، ومثالا للتعايش، ونموذجا لروح التمدّن والتعامل السمح والمرن وكرم الضيافة الذي ميز العلاقات بين جماعاتها في كل العصور. وجعل شعبها يستقبل مليون لاجئ عراقي في بداية هذا القرن، وأكثر من مليون لبناني من الذين هربوا بأنفسهم من الحرب الأهلية في القرن الماضي، من دون أن يتشرد أحد منهم أو يضطر إلى العيش في مخيمات. وهي التي تفسّر نباهة أبنائها وموهبتهم اللافتة في التعايش والتكيف مع الثقافات والمجتمعات الأخرى.

كما لا أعتقد أن مشكلة سورية الراهنة والاستعصاء الذي تعيشه على جميع الأصعدة تكمن في وجود أكثريةٍ وأقليات، ولا إلى تحكّم جماعة أو طبقة أو طائفة أو ثقافة أو ديانة بالجماعات والطوائف والطبقات والديانات والثقافات الموجودة فيها جميعا. إنها تكمن في تمكّن نخبة عسكرية من السيطرة على مقاليد السلطة، بل على جميع السلطات السياسية والاقتصادية والثقافية والعقائدية والرمزية، وتجييرها لصالح بناء مركب عسكري أمني، استقلّ بنفسه عن المجتمع، وأصبح جسما طفيليا غريبا عنه يتحكّم به من فوق، ويتماهى مع الدولة التي استعمرها وحوّلها إلى قوقعةٍ يحتمي بها، ولبس لبوسها، وجيّر البلاد والعباد لخدمة مصالحه، بمن فيهم القواعد الاجتماعية الأهلية، الريفية والعشائرية والطائفية التي حوّلها إلى خزّان بشري، يستمد منه أطره العسكرية والمدنية.

بدأ الصعود التاريخي لهذه النخبة الاجتماعية الهجينة بعد أقل من ثلاث سنوات على إعلان الاستقلال بانقلاب عام 1949. وتطوّرت شخصيتها وهويتها الخاصة نخبة حاكمة ومسيطرة عبر مراحل متعاقبة، قضي في بداياتها على الثقة بالأحزاب السياسية المتناحرة، قبل إقصائها واعتقال قياداتها وتشريدها، ثم سحق ما تبقى من الطبقة السياسية التقليدية والنخب الليبرالية وتشويه صيتها وسمعتها. وقد برّرت النخب العسكرية المتعاقبة سيطرتها على مقاليد السلطة وانفرادها المديد بموقع السيادة بذرائع شتى، أولها الدفاع عن مصالح الجيش ضد السياسيين الفاسدين، كما زعم حسني الزعيم، ثم باسم الوطنية ومقاومة الاحتلال والاستيطان اليهودي في فلسطين، وفيما بعد باسم القومية، ودفاعا عن مشروع الوحدة العربية ومحاربة الرجعية والعمالة للأحلاف الأجنبية، ومنذ انقلاب البعث في 8 مارس/ آذار 1963، باسم الاشتراكية الحقيقية والدفاع عن حقوق العمال والفلاحين ضد الإقطاعيين والبرجوازيين، ثم في عهد الأسد الأب باسم الاستقرار وبسط الأمن والسلام الأهلي والحفاظ على اللحمة الوطنية ضد حركات الاحتجاج والتمرّد الإسلاموية، وأخيرا باسم الحداثة والمدنية وحماية الأقليات المهددة من “أكثرية” “محافظة ورجعية وحالمة بإرجاع التاريخ إلى الوراء والانسحاب من العصر”.

وفي كل انقلاب، كانت النخبة العسكرية/ الأمنية تتعلّم من تجربتها السابقة، وتعيد ترتيب أوضاعها لتطوير وسائل السيطرة على الدولة والمجتمع. ونجحت، خلال السبعين سنة الماضية، في تنقية صفوفها وتفريغ الجيش من تعدّديته الاجتماعية والمناطقية بالتصفيات المتتالية والقضاء على مجموعات الضباط من أصحاب التوجهات السياسية المنافسة: اليسارية والليبرالية والقومية والناصرية. وساهمت الصراعات الداخلية لحقبة “البعث” ذاتها حتى عام 1966 في إزاحة مجموعات أخرى من الضباط الذين لا يدينون بالولاء “للجنة العسكرية”، أو الذين لم يظهروا ولاءهم الكامل لقادتها. وزادت واحدية الجيش بعد التصفيات التي أعقبت القطيعة بين القيادة القومية والقيادة القطرية للبعث الحاكم، حتى استكملت على إثر تفجّر الصراع بين أعضاء “اللجنة العسكرية” أنفسهم، فكان النصر في هذا الصراع لحافظ الأسد الذي ورث السيطرة على مؤسسة عسكرية وأمنية وحزبية مطهرة من العناصر غير “المتجانسة”، وجاهزة لبسط سلطتها وسيادتها على البلاد، لتدشين حقبة جديدة من إلغاء الحياة السياسية في الدولة والجيش والمجتمع، والانفراد بالحكم من دون منافس، ومن دون الحاجة إلى أي مراجعةٍ لتجارب الحكم الماضية وإخفاقات “البعث” والحكم العسكري السابق والانفصال والهزيمة العسكرية في حرب يونيو/ حزيران 1967. والواقع أن عقدين من التخبط السياسي والعسكري كانا كافيين لتفريغ المجتمع السوري من أي قدرة على التفكير والتخطيط والمقاومة، وتسليمه طائعا باستيلاء المنظومة الجديدة العسكرية والأمنية والحزبية على القرار الوطني.

كانت سورية في نظر الأسد الغنيمة التي ربحها في صراعه من أجل السيطرة على هذه المنظومة السلطوية ضد خصومه من الناصريين والبعثيين القوميين والقطريين والليبراليين. ولم يكن أمامه خيار للحفاظ عليها سوى الاستثمار في تطويرها وتوسيع قاعدتها، والسهر على انسجام عناصرها وتطهيرها الدائم من أي اختلافات أو تناقضات داخلية محتملة. ولضمان السيطرة الكلية عليها ومنع أي طامح من اختراقها أو تحدّي سيطرته عليها حوّلها الأسد إلى حرس بريتوري، وأخضعها لسلطته الشخصية المباشرة، وقسّمها سرايا وكتائب وأجهزة خاصة، سلم قيادتها لأفراد العائلة وأبناء العشيرة وحلفائها من العشائر الأقرب، ووضع نفسه في موقع الأب الذي يدير جميع أفرادها. ليتفرغ بعد ذلك لبناء تحالفاته الإقليمية والدولية التي تضمن له سلامة الحدود الخارجية. وفي هذا السياق، تشكل مجتمع الدولة الجديد الذي لن يمر وقت طويل، قبل أن يطلق عليه اسم دولة الأسد، والذي احتل فيه المركب العسكري الأمني مركز القلب في المنظومة الجديدة، وما لبث حتى تماهى مع الدولة، واخترق منظمات المجتمع المدني، وهيمن على قراره، في النقابات والأحزاب والنوادي والجوامع والكنائس، قبل أن يفرض عليها القيادات التي تتماشى مع مشروع سيطرته الدائمة والشخصية. ولم يترك أمر هذا المشروع للإرادة وحدها، ولكنه عمل على حفره في البنيتين، القانونية والسياسية، للدولة. فجعل من قانون الطوارئ، أو الاستثناء، القانون القاعدة، وحوّل الحكم المدني إلى حكم عرفي دائم، وعزّزه بالمادة الثامنة من الدستور التي قوننت سياسة الإقصاء الشامل للمجتمع، وقصرت حق الترشح لمناصب المسؤولية في أي ميدانٍ على عناصر المنظومة الحاكمة.

لم يواجه مشروع الأسد مقاومة تذكر. بل ربما راهن عليه قطاع واسع من الرأي العام لتحقيق الاستقرار الذي حلم به مجتمع الأعمال المدمّر والمعطل منذ سنوات طويلة. وأعلن الجمهور عن ولائه للوضع الجديد بشعار: طلبنا من الله المدد فأرسل لنا حافظ الأسد. وما كان أمام هذا الأخير إلا أن يحشد ما يشاء في حجر ما أصبح رميما شعبيا، بعد سحق المقاومات الناصرية، وموت جمال عبد الناصر، وتبخّر النخبة الليبرالية التقليدية، واختيارها النفي الذاتي، بدل الموت في السجون الأسدية وإلحاق ما تبقى من التنظيمات القومية واليسارية به باسم الجبهة التقدّمية. وقد أدرك المجتمع الذي أفرغ من نخبه ورموزه السياسية والفكرية والنقابية أنه أصبح مكشوفا، ومن دون حماية، أمام سلطة كاسرة تحولت خلال سنوات، بموارد النفط والمساعدات الخليجية، إلى آلةٍ جهنميةٍ للسيطرة تجمع بين سلطتي العنف والمحسوبية معا، لا يمكن لأحد أو لجماعة، مهما كانت منظمة، أن تقف في وجهها. وعلى رأس هذه السلطة الاستثنائية يتربّع حافظ الأسد “ملكا إلها”، ومن حوله أعضاء أسرته وأبناء العائلة الأقرب من الإخوة والأبناء والأخوال والأعمام وأبنائهم وبناتهم وأبناء العشائر القريبة والحليفة، ما أضفى على “دولة الأسد”، كما تم تعميدها منذ بداية السبعينيات، طابع الإمارة العائلية التي يحيط بها حلفاء العائلة من الرتب العسكرية العليا وكبار الضباط ممثلو العشائر والقبائل والوجاهات المحلية.

هكذا تشكّل جسم عسكري أمني سياسي معا، يملك قوة سيطرة استثنائية وشاملة، يعمل كتلة متراصّة لا تقبل تعدّدا ولا انقساما ولا يشوبها تردّد، ولا تتأثر بأي ضغط لا من داخل صفوفها ولا من خارجها. ولا تعتمد في وجودها على أي فئة أو طائفة، ولكنها هي التي تخلق الفئات والطوائف وتستخدمها. وهي من القوة والاستقلال الذاتي، بحيث لا يستطيع أي مجتمع مدني أن يواجهها، بل أن يتحرّك خارجها أو يؤثر في قراراتها مهما فعل. وزاد من تفرّدها واعتدادها بقوتها واستقلالها تجاه كل ما عداها جمعها موارد السلطة بكل أشكالها في يد شخصٍ واحد، يفوض فيها من يراه مناسبا من أهل الثقة من أبنائه وإخوته وأقربائه وأتباعه ومواليه، لا يشاركه فيها أحد، ولا يختلف معه في تقدير أمورها خبير أو مستشار سياسي أو دبلوماسي، فهو الذي يقرّر وحده، وحسب إلهامه في كل الشؤون: العسكرية والسياسية والاقتصادية والمالية والإدارية والعقائدية. وهو الذي يعطي توجيهاته للنخب المدنية، ويحدّد لهم مهامهم وحدود صلاحياتهم، بمن فيهم رجال الدين والمفكرون والصحافيون والتجار والمستثمرون وغيرهم.

قانون العنف والإقصاء والعنصرية الاجتماعية

كانت نظرية فصل السلطات التي عمل على نشرها الليبراليون، وكرس لها مونتسكيو الكتاب الشهير “روح القوانين” (نشر عام 1748) أحد أهم المصادر الفكرية التي ساهمت في تقويض السلطة الملكية المطلقة في القارة الأوروبية، فقد ألغت قاعدة تقسيم السلطة وتوزيعها بين مؤسسات متعدّدة، تنفيذية وتشريعية وقضائية، مستقلة بذاتها، وإقامة التوازن فيما بينها بحيث تحدّ واحدتها جموح الثانية، إمكانية استفراد فرد أو جماعة بها واستخدامها ضد الأفراد والجماعات الأخرى. ولذلك اعتبر مبدأ توزيع السلطات وتمييزها بعضها عن بعض، من ليبراليي الغرب منذ عصر النهضة، الأساس القانوني والسياسي لتفكيك نظام الاستبداد والضامن الرئيس للحريات السياسية.

ما قام به المركب العسكري الأمني هو بالضبط قلب هذا المسار التاريخي للتحرّر السياسي رأسا على عقب، والعمل بجميع الوسائل، وعلى جميع المستويات، البنيوية والظرفية، على دمج السلطات الاجتماعية كافة، وليس سلطات الدولة فحسب، وعلى إعادة جمعها وحلها في سلطة واحدة (بالضرورة أسطورية)، ووضعها في عهدة شخص فرد، وليس في أيدي مكتب سياسي أو منظمة حزبية فحسب، كما درجت على ذلك النظم الشيوعية. وقد أصبح هذا الفرد، بالفعل والواقع والمبدأ، فوق البشر، وصاحب الفضل في الإبقاء على حياتهم أو القضاء بموتهم. فإلى جانب آلة العنف العسكرية التي يملك وحده مفتاحها، والتي وجه مدافعها وصواريخها نحو المدن ونقاط تجمع السكان الرئيسية، وأجهزة الأمن التي تمدّ حدود سلطته إلى أبعد نقطة من أراضي الجمهورية، انتزع الأسد، بإرادته وتسليم جميع من حوله والرأي العام أيضا له، سلطة القرار في جميع الشؤون العامة: الاقتصادية والسياسية والدينية والثقافية والإعلامية، حتى أصبحت نخب المجتمع بكاملها، بمثقفيها ورجال أعمالها وقضاتها وسياسييها وعساكرها ورجال دينها من محاسيبه ومدينة ببقائها لحمايته. فصار الضامن والكافل الوحيد لوجود النظام الاجتماعي واتساق علاقات الأفراد والجماعات فيما بينها. وصار الخوف عليه مساويا للخوف منه، حتى أصبح الناس يخشون فقدانه، ويعتقدون بالفعل أن رحيله يفتح الطريق حتما على المجهول، ويؤدّي لا محالة إلى انفراط العقد الاجتماعي وانهيار المجتمع ذاته.

والواقع أنه، في شروط التقدّم التقني والعلمي الراهنة، ما كان يمكن لمثل هذا الدمج بين جميع السلطات، وصبها في سلطة نوعية واحدة تخضع لإرادة رجلٍ فرد، منزّه ومرفوع فوق النظام والدولة والقانون نفسه، إلا أن تنتج قوة سيطرة لا محدودة، ليس على جسد الأفراد وعلاقاتهم وإنما، أكثر من ذلك، على عقولهم ونفسياتهم التي أصبحت متعلقة به، ومشلولة الإرادة بانتظار إشارته وكلمة منه. وقد تماهت سلطة الأطر التنفيذية من رجال أمن وإدارة ودين وإعلام مع هذه السلطة شبه الإلهية، حتى بدت حياة الأفراد من عامّة الشعب، ومصالحهم وأرزاقهم ووجودهم نفسه، لا قيمة لها ولا تستحق النظر أو الذكر، وبدوا هم أنفسهم زوائد وعالة لا ذات لهم ولا قيمة. وأي نزوع لديهم لإبراز أي درجة من الإرادة أو المطالب أو المطامح أو الآمال أو الأحلام، يشكل مساسا بسيادة الأوحد وتشكيكا بقدسية سلطته وحقه الطبيعي في الحكم والإدارة. ومن وراء هذه السلطة الكلية التي مثلها الأسد، وبالعمل الدؤوب على تعظيم قدراته التي وصفها الشيخ محمد رمضان البوطي في كلمته التأبينية بأنها لا يمكن أن تكون طبيعية، ولقاء عديد من المجازر الاستثنائية في وحشيتها، تمكّنت الطبقة العسكرية الأمنية من اجتياح المجتمع وإلحاقه بها، بطوائفه وقبائله ومجتمعاته المدنية والريفية، وتحويل الدولة إلى أداة سيطرة بالقوة، وجعل الانتماء لها ولاء للملك الإله، ونزعا للهوية الفردية والجماعية، وسلبا للإرادة والذاتية.

هذا الغول الرهيب الذي صارت إليه السلطة في سورية هو أصل الخراب الذي ضرب الجسم الوطني السوري، والذي انتهى بما يشبه يوم القيامة، عندما اصطدمت سيطرة هذا المركّب الحاكم بإرادة شعب صحا على وقع أجراس ثورات الربيع العربي من ثباته، ومن “الكوما” التي كان غارقا فيها، وقرّر أن يستعيد جزءا من إنسانيته وحقه في الكلام،  فأسقط عليه جبل من نار شاركت فيه، كما لو كانت وحشا خرافيا هائلا، جميع الأذرع العسكرية والأمنية والإدارية والإعلامية لطبقة تماهت مع الدولة/ الوحش، ولم تعد ترى نفسها قادرةً على الحياة من دونها ولا تقبل أن تفاوض على أي ذرة منها. وهذا هو مضمون شعار الأسد أو لا أحد، أو الأسد أو نحرق البلد.

لم يولد هذا الغول من عقل الأسد مباشرة، ولم يتخلّق نتيجة مواهبه الخارقة. إنه تشكّل خلال الصراعات السياسية والاجتماعية والاستراتيجية التي لم تجد حلولا لها، ومن المخانق والطرق المسدودة التي قادت إليها، والنظريات والأطروحات التي كرّست انسدادها، والظروف الاستثنائية الداخلية والخارجية التي رافقت تشكيله، وأتاحت لهذا المركّب أن يتكون، ويصبح إطار التنظيم الرئيس لمجتمع جرد من هويته، والطبقة/ النخبة، أي الكتلة الوحيدة المتماسكة في مجتمع هشيم، رميم مجتمعات محلية وطبقات وأشباه طبقات مخضعة ومفقرة، من دون رأس ولا هياكل ولا وجهة ولا قوة محرّكة. ولا يتوقف هذا التماسك على تأييد جماعة أو طائفة، وإنما يستند إلى الاحتكار الشامل للقوة ووسائل العنف، وما يبعثه من اعتقاد بالتفوق والقدرة الفائقة على فرض الذات وإخضاع الخصم مهما كان. وبالمثل، لا تعكس ممارسات أعضاء هذا المركّب التي تجمع بين استباحة حقوق المخضعين، والمبالغة المقصودة في القهر والإذلال، والاستهزاء بمعنى القانون، والتحدّي الاستفزازي للقيم الاجتماعية والدينية والأخلاقية للجمهور الواسع، ثقافة أي طبقة اجتماعية عرفت عبر التاريخ، ولا تستمد وحيها من أي عقيدةٍ أو مذهبٍ أو ثقافة، حتى البدائية منها. ولا تعبر عن أو تستلهم أي فكرة قومية أو اشتراكية أو دينية، بمقدار ما تعكس عدمية فكرية وأخلاقية تبيح أي محرّم وتضرب عرض الحائط بكل القيم والمبادئ والمذاهب، الحديثة والقديمة، الدينية والعلمانية. عقيدته الوحيدة هي العنصرية التي يبعثها احتقار الضعف والحاجة لإعادة إنتاج العلاقة بين الشعب والنخبة الحاكمة علاقة عبيد بأسياد.

من دون تفكيك هذا المركّب الطفيلي، الذي دمّر المجتمع والدولة معا وحل محلهما، والذي لا ينتج إلا العنف والفساد، لا يمكن لدولة أن تولد من جديد، ولا لمجتمع أن يستعيد حياته وانسجام أعضائه. فنحن لسنا هنا أمام طبقة برجوازية أو عاملة ولا فلاحين ولا طوائف وأديان ومذاهب وأحزاب، ولا حتى أمام مانديلا ودو كلريك، إنما أمام ورم خبيث فتك بالجسم السوري، وأودى به، دولة وشعبا، إلى الموت والهلاك.

العربي الجديد

——————————

المشرق العربي على صفيحٍ ساخن/ علي العبدالله

شهد المشرق العربي تطوراتٍ سياسية كثيفة، بدءا باتفاقيات التطبيع مع إسرائيل، والتي غدت مدخلا إلى العمل على تشكيل “ناتو إقليمي”؛ وعودة البحث في إطلاق الاتفاق النووي الإيراني، مرورا بتشكيل منصة سياسية جديدة، مكونة من روسيا وتركيا وقطر، وصولا إلى توقيع الاتفاق الاستراتيجي الصيني الإيراني، ما زاد في حدّة التنافس الجيوسياسي بين دول الإقليم والدول الكبرى، ورفع وتيرة الاحتكاكات المباشرة بين الخصوم الإقليميين والدوليين.

بدأ التسخين مع انسحاب الإدارة الأميركية السابقة من الاتفاق النووي الإيراني، وإعادة فرض العقوبات على إيران، مع تبنّي صيغة متشدّدة في ذلك، وصفت بـ “الضغوط القصوى”، بما في ذلك فرض عقوباتٍ ثانويةٍ على كل من يتعامل مع إيران أو يقدم لها مساعداتٍ عسكرية ومالية، واعتماد إسرائيل سياسة “المعركة بين الحروب”، وتوظيفهما في ترويج أولوية التصدّي لإيران، ولخطة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المعروفة بـ “صفقة القرن”، والولوج في عملية تطبيع متصاعدة، وانفتاح على التعاون والاستثمار بين الدول المنخرطة فيها، وإقرار قانون قيصر لتقييد التحرك الروسي في ملفي عودة اللاجئين وإعادة الإعمار.

لم تنجح خطتا “الضغوط القصوى” و”المعركة بين الحروب” في تغيير الموقف الإيراني من شروط الإدارة الأميركية الـ 12 التي طرحها وزير الخارجية الأميركي (السابق)، مايك بومبيو، للعودة إلى الاتفاق، فتجدّد الحديث عن تحالف دفاعي إقليمي، تشارك فيه إسرائيل في ضوء فشل إقامة تحالف دفاعي عربي، “ناتو عربي”، وبدء عمليات استعراض عضلات أميركية وإسرائيلية وإيرانية، بإجراء مناوراتٍ وتدريباتٍ في مياه الخليج العربي وبحر عُمان، والانخراط في حرب سفن بين إيران وإسرائيل، وتبنّي إيران سياسة التوجه شرقا بالتحالف مع روسيا والصين، واقتراح توسيع الاتفاق ليشمل إندونيسيا وماليزيا. أثمر التحرّك الإيراني توقيع اتفاقاتٍ تجاريةٍ قصيرةٍ مع روسيا، واتفاق استراتيجي مع الصين. وتصعيد خرقها بنود الاتفاق النووي، بما في ذلك بدء عملية إنتاج اليورانيوم المعدني، والتوعد بمزيد في المرحلة المقبلة، فالتصعيد في المجال النووي هدفه الضغط على الولايات المتحدة، من أجل تحقيق مكسبين متكاملين: رفع العقوبات؛ بإزالة جميع العقبات أمام صادرات النفط الإيرانية، وإمكانية الوصول إلى العملات الأجنبية، وتطبيع العلاقات المصرفية، وحصر المفاوضات في البرنامج النووي. مع ملاحظة اتسام مخطط إيران في المشرق العربي بسعة الأهداف ومحدودية القدرات، ما يؤسّس لمفارقة حادّة، حيث هناك قوة نسبية لملء الفراغ. ولكن ليس هناك نفوذ يضم استمرار الهيمنة والسيطرة. صبّ هذا التصعيد الإيراني الزيت على نار التجاذبات الإقليمية والدولية.

مع التغيير في الإدارة الأميركية، بفوز المرشح الديمقراطي، جوزيف بايدن، شهد المشهدان، الدولي والإقليمي، تصعيدا جديدا في ضوء تبني الرئيس الأميركي سياسة التنافس السياسي بين نماذج الحكم، وتشكيل تحالف الديمقراطيات لمواجهة الأنظمة السلطوية، والتركيز على حقوق الإنسان في التعامل مع الدول الأخرى، بما في ذلك الدول الصديقة، قابله على الضفة الأخرى تفاهم روسي صيني رافض للسياسة الأميركية التي تشكّل كتلا وتعمق التباينات. وهذا قاد إلى تصاعد التجاذب الأميركي الروسي والأميركي الصيني في الإقليم والعالم، وإلى نشوء تقاطعاتٍ بين أطراف دولية وإقليمية، جسّدها الاتفاق الاستراتيجي الصيني الإيراني، وتحرّك دول عربية لتشكيل كتلة إقليمية لموازنة الدور الإيراني، مصر الأردن والعراق، وتوجّه خليجي لاحتواء إيران في العراق وسورية ولبنان واليمن. جاءت جولة رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، والانفتاح على النظام السوري في هذا السياق، وسعي الدول الخليجية إلى التعاون مع روسيا والصين. والعمل على حشد الدول والمواقف السياسية والإعلامية ضد العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني بصورته الحالية، والدعوة إلى توسيع القيود بمد الفترة الزمنية، وإشراك السعودية وإسرائيل في المحادثات، على أن يشمل الاتفاق الجديد البرنامج الصاروخي والتدخل الإيراني في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وهو ما تعارضه طهران بقوة.

هذا كله في ظل تباين في الخيارات والمصالح العليا، فالولايات المتحدة تركّز على احتواء التحرك الروسي في المشرق العربي، وترى في هزيمة روسيا فرصةً لتراجعها في البلقان والقرم والقوقاز والبلطيق، وتصعيد النبرة الغربية والأممية ضد النظام، لتذكيره بما ينتظره سياسيا وحقوقيا وإنسانيا في المرحلة المقبلة، هي للإعلان عن رفض بقائه في المشهد، وتحذير لروسيا وإيران وعواصم عربية تريد إنعاشه. في حين تركّز روسيا على ترسيخ العقود العسكرية والتجارية بعيدة المدى، الموقعة مع النظام، ما يستدعي تعويم النظام ومسايرته في مواقفه من الانتخابات الرئاسية واللجنة الدستورية والمعابر وإعادة الإعمار، ورفض الوجود الأميركي في سورية وعقوباتها الأحادية، قانون قيصر. وأنقرة متمسكة بأولويتها في لعب دور وازن في الإقليم، عبر الانفتاح على مصر ودول الخليج والعمل ضد المشروع الكردي، وضد التوسع الإيراني. وإسرائيل تركز على مواجهة الوجود الإيراني في سورية، وتتبنّى خيارا صلبا ضد المشروع النووي الإيراني، يطالب بمنع إيران من امتلاك دورة التخصيب، واستثمار مواجهة المشروع الإيراني في احتلال مركز القيادة والإشراف في الإقليم. وكان لافتا حرص الصين وروسيا على تعميق علاقاتهما السياسية والاقتصادية مع دول الخليج العربية، في سياق مبادرة “حزام واحد طريق واحد”، مع بقاء إيران في مقدمة قائمة أولوياتهما، على خلفية دورها في التصدّي للوجود الأميركي في الإقليم، وتبنّيهما مبادرات أمن إقليمي، أساسها توازن المصالح بين دول الإقليم وخروج القوى الخارجية، في تجاهل تام للخلل في توازن القوى في الإقليم، في حال خروج الولايات المتحدة قبل عودة إيران إلى سياسة الدولة واحترام دول الجوار ومصالحها. تقترب الرؤية الصينية في ما يتعلق بأمن منطقة الخليج من الرؤية الإيرانية التي سبق أن كشف عنها الوزير الإيراني، محمد جواد ظريف، تحت اسم “أمن هرمز”، تتضمن المبادرة الصينية دعوةً إلى إقامة “أمن جماعي مشترك” بين دول المنطقة، لتعزيز الأمن والاستقرار في المشرق العربي، تطلق عليه إيران تسمية خاصة: غرب آسيا، لإنكار طابعه العربي، في مواجهة التوجّه الأميركي الذي، وفق رأيها، لا يأخذ بالاعتبار مخاوف الأطراف الأخرى، غير المشاركة في التحالف الغربي أو تعارضه.

يعيش المشرق العربي على صفيحٍ ساخن، حيث توجهات كثيرة، تنذر بانفجار كبير على خلفية الصراعات والتنافسات الجيوسياسية. واللافت أن الدول العربية تتنافس وتتعارض في لحظةٍ هي في أمسّ الحاجة للتعاون والتنسيق، وتبنّي خيارات موحدة لحماية أمنها واستقرارها الداخلي، والفاتورة تدفعها الشعوب من حياة أبنائها وأحلامهم وتطلعاتهم نحو حياة حرّة ومزدهرة.

العربي الجديد

——————————–

أزمة سورية العميقة/ مروان قبلان

في كل مرة يقرأ المرء فيها، أو يستعرض، الأرقام التي خلّفتها الحرب في سورية على صعيد الإنسان والمادّة، يخالجه إحساس بأمرين. أولهما، أن تكرار قراءة هذه الأرقام لا يدفع إلى الاعتياد عليها، ولا يخفّف أبدًا من وطأة الشعور بالصدمة إزاء الكارثة الكبرى التي حلّت بهذا البلد وأهله (نصف مليون قتيل، 60% من الشعب مشرّد، 40% من البنية التحتية مدمّر .. إلخ). وثانيهما، أن المرء لا يفتأ يتوقف مليًا عند معنى هذه الأرقام ومغزاها، لجهة تعبيرها عن مخزون العنف الكامن وراءها، وهو يحاول الإجابة عن السؤال الجوهري في الأزمة السورية: أين حدث الخطأ، وكيف وصلنا إلى هنا؟

عند طرح هذا السؤال، لا بد أن يتبادر إلى الذهن سريعًا موضوع تحديد المسؤولية، وهو أمر لم يعد، بعد عشر سنوات، يحتاج إلى نقاش، فالنظام هو المسؤول الأول والأخير عن الكارثة التي حلّت بالبلد، إن لم يكن لشيء، فبحكم وجوده في موقع السلطة والمسؤولية، لكن هذه الإجابة السهلة لا تساعد في فهم الأسباب التي أملت على الجميع (النظام والمعارضة والمحايدين أو المستقلين إذا جاز التعبير لوصف من يرفضون النظام والمعارضة معا)، التصرّف بالطريقة التي تصرّفوا بها، إن لجهة الاستعداد لاستخدام أقصى درجات العنف المادي الموصوف، أو حتى مجرّد تأييد استخدام الحصار والتجويع (ضد المدنيين، بمن فيهم الأطفال والنساء والشيوخ)، كسلاح حرب وأداة لتحقيق غايات سياسية. إذا شئنا فعلا التوصل إلى إجابةٍ تخرجنا من الدائرة المغلقة التي نعيش فيها منذ عقد واجتراح حل، فإننا نحتاج إلى القفز على اللحظة الراهنة، لنستنتج أن المسألة أعقد وأكثر عمقًا من أن تختصرها هذه الإجابة السهلة، وأن أزمة سورية التي تبلغ عشرة أعوام تمتد جذورها إلى نشأة الدولة نفسها، أي إلى ما قبل مائة عام. وفيما نحاول ذلك، ينبغي أيضا تجنّب الوقوع في مقارناتٍ لا تساعدنا على الفهم، مثل محاولة مقارنة نشأة الدولة السورية بنشأة جمهورية يوغسلافيا السابقة التي ظهرت نتيجة قيام الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى بلملمة ولصق أجزاء غير متجانسة من بقايا الإمبراطورية النمساوية – المجرية، ليس بينها روابط كافية لإنشاء “مجتمع سياسي” قادر على إفراز هوية وطنية جامعة خارج إطار الأجزاء التي تتكون منها (صربيا، كرواتيا، سلوفينيا .. إلخ).

السبب الرئيس في أزمة سورية الراهنة مرتبط بعجز السوريين عن تطوير هوية وطنية جامعة خاصة بهم، لكن تشبيه سورية بيوغسلافيا يفتقر إلى الدقة، ويعدّ تسويغا لتقسيمها وتفتيتها، في حين أن أزمة سورية تنبع من حالة معاكسة تماما للحالة اليوغسلافية، فمنذ الإعلان عن قيام المملكة السورية عام 1920، واجهت الهوية الوطنية السورية ضغوطا على مستويين: فوق الوطني، وقد نشأ عنه رفض النخب السورية، في العموم، الاعتراف بالتقسيمات الاستعمارية وإصرارهم على فكرة أن سورية جزء من كل (بالنسبة للقوميين العرب، هي جزء من أمة عربية تمتد من المحيط إلى الخليج، بالنسبة للقوميين السوريين هي جزءٌ من الهلال السوري الخصيب الممتد من حدود إيران شرقا إلى قناة السويس غربا، ومن حدود تركيا شمالا إلى الحجاز جنوبا. بالنسبة للإسلاميين هي جزء من الأمة الإسلامية. بالنسبة للشيوعيين هي جزء من أممية البروليتاريا العالمية). الثاني هو المستوى تحت وطني، والمرتبط بوجود انقساماتٍ مجتمعيةٍ (مناطقية، طائفية، جهوية… إلخ)، لا يخلو منها أي مجتمع حديث. وقد حاول الفرنسيون تكريس هذه الانقسامات تحت وطنية، عندما قسّموا سورية إلى أربع دول: دولة دمشق، دولة حلب، دولة جبل الدروز، ودولة العلويين، لكنهم فشلوا. المشكلة أن أنظمة ما بعد الاستقلال عجزت عن البناء على هذا الفشل الفرنسي، لترسيخ جذور هوية وطنية سورية جامعة، أخذت تبرز بوضوح بعد الثورة السورية الكبرى (1925 -1927)، من خلال تحويل الكيان السياسي الذي صنعه المستعمر الأوروبي إلى مجتمع سياسي (Political Community)، يشترك أفراده في سلوك وقيم وثقافة المواطنة والانتماء الوطني. وقد برز هذا الفشل بقوة خلال الأزمة الراهنة، إذ افتقد السوريون في ما بينهم التضامن الذي يشعر به عادة أفراد الجماعة الواحدة (community)، فانقسموا سريعا إلى جماعاتٍ وجدت كل واحدة منها امتداداتها خارج الحدود، فاستعانت بها على الجماعات الأخرى. وهذا يعني أننا لن نخرج من الأزمة إلا إذا امتلك السوريون وعيًا جمعيًا وشعورا تضامنيا بأن ما حصل كارثة وطنية، وأن من يحاول زرع وهم أن جزءا منهم انتصر على الآخر إنما يساهم في تدمير ما تبقى من أسس عيشهم المشترك.

العربي الجديد

——————————

الخوف والتفكير السياسي/ رشيد الحاج صالح

لا يوجد لدى السوريين، اليوم، أيّ اهتمامٍ يُذكر بطرق التفكير السياسي أو تكوين الرأي. وهذه قضية ورثوها من النظام الأسدي الذي فرض عليهم عالمًا سياسيًا يتّصف بالسطحية الدعائية والمزاودات القومية والدينية. عالم ترتّبه وتديره أجهزة الإعلام ومديريات الأوقاف ومؤسسات حزب البعث.. عالم مركب من قوالب جاهزة، الركن الأساسي فيه لـ “بروباغندا” تقوم على الخوف لا على التعايش، على الحفظ لا على التفكير. ولكن لماذا لم يتصالح السوريون، بعد الثورة، مع التفكير السياسي النقدي؟ ولماذا لم يعملوا، بالتوازي مع سعيهم للحرية والتخلص من النظام، على تحرر تفكيرهم السياسي من عالم الأوهام السياسية وأكاذيب مرحلة ما قبل الثورة؟!

السيطرة على التفكير السياسي في سورية أمرٌ جعل من وزارتي الإعلام والأوقاف وزارات سيادية في سورية (الدول الديمقراطية لا يوجد فيها مثل هذه الوزارات)، حتى إن وزيري تلك الوزارتين يُعيّنان من قبل بشار الأسد بشكل فردي، بحسب رياض حجاب الذي قال إن بشار لم يسمح له بالتدخل في أمر تعيين هذين الوزيرين. وهذا يعني، طبعًا، باللغة السياسية السورية، أن اختيار هذين الوزيرين يتم بعناية من قبل القادة الأمنيين الذين يعملون في القصر الجمهوري.

المشكلة في التفكير السياسي النقدي، بالنسبة إلى عالم السياسة، أنه يعيد النظر في المبادئ والمسلّمات، ويراجع البديهيات، وينقد حتى خيارات العمل السياسي، ويحلل كل شاردة وواردة.  ولذلك كانت خطاب النظام السياسي يشدد على تحفيظ الناس لـ “المنطلقات النظرية”. السياسة في سورية هي الثبات على تلك المنطلقات وحفظ لتلك الشعارات، لا أكثر ولا أقلّ؛ ليتحول العمل السياسي إلى مجرد شعارات تُحفظ وتردد بشكل ببغاوي (اللافتات التي تكتب عليها الشعارات تُعدّ أحد أهم مظاهر العمل السياسي في سورية). النظام هو الذي يفكر في السياسة فقط، أما السوريون فيرددون ما يقوله. التفكير في السياسة يعني الالتزام بخطوط النظام ودعاياته. الخوف من ألا يقبل النظام بما يقوله المرء دفع الناس إلى الحفظ فقط.

يقوم “التفكير السياسي السوري” على تخويف السوريين من كل شيء. وزارة الإعلام تخوّف الناس من الإمبريالية والبرجوازية السورية العميلة وعرب النفط، في حين تسهر وزارة الأوقاف على تخويف السوريين من الله، وقد وصفته بأنه “رأس الحكمة”. تسهر الوزاريتان السياديتان على تحويل “بروباغندا” النظام إلى مصدر لشعور الناس بالأمان السياسي. ما دمتَ تفكر كما يريد لك النظام أن تفكر، فأنت آمن.

تلك البروباغندا أصبحت أساسًا لتدجين السوريين، وباتت مصدرًا للأمان والفخر أيضًا. وكلّ من يمس بتلك الشعارات، أو يشكك فيها، أو لا يتحمّس لها، يُخرج من دائرة الوطن والأخلاق والدين، ويوضع في دائرة الأعداء والخونة.

هكذا أصبح أمان السوريين في الوحدة، والتخلص من المستعمرين، ومواجهة الإمبريالية، وكلّ ما عدا ذلك كلامٌ لا يصبّ إلا في مصلحة الأعداء. هذا يعني أن كلّ الأفعال والمواقف والآراء السياسية يجب أن تقيّم وتراقب بشكل دقيق. والهيكلية العامة للمراقبة تقوم على مراقبة الأجهزة الأمنية لكل شيء. ولكن الأمر معقد، فكل سوري يحتاج إلى مراقب، ولذلك من الأفضل أن يراقب السوريون بعضهم أيضًا.

إحساس السوري بأنه مراقب أمرٌ في غاية الأهمية أيضًا. هذا الإحساس سيجعله يراقب نفسه بنفسه. 

الرقابة المركبة والثقيلة درّبت السوريين على التفكير والنقد السلبي، الذي يجعل الآخرَ إما ملاكًا وإما شيطانًا، بطلًا أو خائنًا، قائدًا أو عميلًا. هناك خيار واحد فقط، وباقي الخيارات كلها عدمية. السوريون وكل العالم العربي ليس لهم أي أهمية من دون الوحدة العربية. كل مساحة بلاد العرب الشاسعة ليس لها أي قيمة من دون تحرير جزيرةٍ “محتلة” من قبل إسبانيا تقع في أطراف القارة الأفريقية. ولكن هل الأمر عقلاني على هذا النحو؟ وهل التفكير في السياسية يكون بهذه الطريقة؟ هذا أمرٌ غير مهمّ. التفكير السياسي عند نظام الأسد هو للسيطرة، وليس لحل المشاكل، لتسويق “البروباغندا” وليس لكشف ألاعيبها.

من أهداف السياسة التي يمارسها النظام الأسدي، ألا يكون السوري خائفًا فقط، بل “تافهًا” أيضًا. يتم تدريب الناس على ذلك عبر ظهورهم على شاشات التلفاز الرسمي أو الراديو، ليقولوا كلامًا تافهًا ليس له أي معنى. يرددون خلطة من عبارات نفاق وجمل مفككة ومزاودات جوفاء. عبارات تسمّيها الوضعية المنطقية “لغوًا” أو كلامًا بلا معنى. الكلام الخالي من المعنى يُقنع الفرد في قرارة نفسه بأنه تافه، وهذا أمرٌ في غاية الأهمية، بالنسبة إلى التفكير السياسي الأسدي.

اليوم، تمّ تحرير السوريين (على الأقل الذين يعيشون في مناطق خارج سيطرة النظام) من وزارتي الأعلام والأوقاف ومؤسسات حزب البعث، ولكن الأمر يحتاج إلى استكمال التحرير بالتحرّر أيضًا. التحرير خروج من سيطرة آل الأسد وطرد مسلحيه، أما التحرر فيعني الخروج من منظومة النظام السياسية وطرق تفكيره في السياسة. ويعني، أيضًا، تمثل السوري الحرية في ذاته، وتحرير نفسه من البروباغندا الأسدية التي أقنعته بأن الأرض أهمّ من الإنسان، وأن الوطن أهم من المواطن، وأن الوحدة أهمّ من الحرية، وأن المجتمع أهمّ من الفرد، وأن الأيديولوجية أهم من الواقع.

شوه النظام مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والحرية والاشتراكية، وكل كلمة في السياسة، وأخرجها من ثوبها، حتى تناسبه. أما وسيلته في ذلك فهي تغييب السوريين عن التفكير السياسي، وتحويله إلى محض شعارات تُحفظ ومزاودات تخوّن وتقارير تُكتب.

واليوم، يُعدّ التفكير النقدي في المجال السياسي السوري أمرًا في غاية الأهمية، لأنه يكشف للسوريين أن التحرير بدون تحرر لا يعني أي شيء. وكما تقول الأمثال “فاقد الشيء لا يعطيه”. ومن لا يتمكن من التحرر ذاتيًا، ويتمثل الحرية بداخلة، ويحوّلها إلى ركن أساسي لشخصية وتفكيره السياسي، فلن يتمكّن من تحرير مجتمعه من قوى الاستبداد والقهر التي ما زال يعانيها السوريون منذ عقود.  

التحرّر أصعب من التحرير؛ لأنه يتطلب نقد الذات وإعادة ترتيب كلّ محتويات العقل السياسة من جديد، يعني إعادة الدور للفرد في مقابل القوى الاجتماعية التقليدية. يعني التفكير بالسوريين، بوصفهم أفرادًا لهم حقوق لا بوصفهم جماعات تنتظر من يسيطر عليها. يعني التفكير بأن النظام الأسدي ليس سوى واحد فقط من قوى الاستبداد التي تتربص بسورية، وإن كان هو الأشرس والأكثر إجرامًا.

أمان السوري في تحرّره، وليس في تحريره، في إيمانه بذاته وحريته، وليس في الأيديولوجية أو الجماعة التي ينتمي إليها. أمانه يتحقق عندما يتمكن بنفسه من تشكيل النظام الذي يحكمه، ويتمكن من إعادة بناء القيم التي يقوم عليها مجتمعه. التفكير السياسي يبدأ بالذات لا بالمجتمع، وبالحقوق لا بشكل الحكم. ومن دون ذلك، ستبقى العدمية السياسية تحوم حول السوري وقد تفترس مستقبله.

مركز حرمون

——————————

عن الجديد في جبهة وطنية ديمقراطية/ عروة خليفة و صادق عبد الرحمن

اكتسب الإعلان عن قرب تأسيس جسم سياسي سوري جديد في شهر آذار (مارس) الماضي زخماً استثنائياً، وذلك لسببين اثنين، أولها أن الإعلان الذي تداولته وسائل الإعلام تحدّث عن مؤتمر تأسيسي علني في دمشق، في يوم محدد هو السابع والعشرون من آذار، يحضره ممثلون عن قوى سياسية معارضة أبرزها هيئة التنسيق، الحاضرة في الهيئة العليا للمفاوضات إلى جانب الائتلاف وغيرهما من منصات المعارضة الأخرى، والتي تقول بضرورة رحيل النظام تنفيذاً لقرار مجلس الأمن الدولي 2254. أما السبب الثاني فهو أن الإعلان جاء مترافقاً مع تدهور اقتصادي متسارع يبدو النظام عاجزاً عن تداركه، ومع ما بدا حراكاً سياسياً يشي بأن ثمة تغييرات مقبلة في معطيات المعادلة السورية المستحيلة الحلّ، إذ كان قد سبق ذلك ضجة حول تأسيس مجلس عسكري انتقالي سوري، وجولة روسية على دول الخليج العربي تزامنت مع ظهور رياض حجاب على الساحة مجدداً بعد طول غياب.

وقد دفع اجتماع هذه الظروف إلى شيوع اعتقاد بأن مشروع الجبهة الوطنية الديمقراطية (جود) ما كان ليتم الإعلان عنه بهذه الطريقة لولا مؤشرات على تحولات جدية وشيكة في الملف السوري، ولولا أن هناك معطيات لدى هيئة التنسيق وحلفائها تقول إن الفرصة باتت مواتية لخلق جسم معارض جديد، يكون هو الشريك في الحلّ السياسي المرتقب، ويكتسب شرعيته من وجوده في دمشق، الأمر الذي لا يمكن أن يحدث دون غطاء أو موافقة ضمنية من الجانب الروسي، خاصة أن الرؤية السياسية للجنة التحضيرية للجبهة تتحدث عن «إنهاء نظام الاستبداد القائم بكل رموزه ومرتكزاته» وعن «التغيير الجذري للنظام القائم، والتحول الديمقراطي الشامل». لكن سرعان ما تجاوزت الأحداث كل هذا خلال أيام قليلة، إذ مَنَعَ النظام انعقاد المؤتمر بذريعة عدم حصوله على ترخيص، ولم تكن هناك مؤشرات تقول إن السفارة الروسية في دمشق كانت تنوي حتى تلبية الدعوة لحضوره، فيما تراجعت عن المشهد الأحاديث والتكهّنات عن قرب حدوث تحولات مهمة في الملف السوري، وعادت لتختفي وراء مشاهد تفاقم الأزمة الاقتصادية الخانقة في البلد، ووراء الدعم الروسي المستمر للأسد في كل المناسبات والاجتماعات والمحافل الدولية.

لكن القائمين على مشروع جود لا يزالون يقولون في أحاديثهم لوسائل الإعلام إنهم سيعقدون مؤتمرهم من دمشق، مرجِّحين أن يكون ذلك في شهر نيسان (إبريل) الجاري، كما يؤكدون أنهم لن يطلبوا إذناً أو ترخيصاً من النظام أو من غيره. وصحيح أن التوقيت الذي تم فيه الإعلان عن المؤتمر يشي بأن وراءه دوافع متعلقة بالظرف السياسي والاقتصادي الراهن، إلا أن الصحيح أيضاً أن المشروع في حد ذاته لم يكن استجابة سريعة لحدث طارئ، ذلك أنه مطروح منذ زمن بعيد، حتى أن صفحة الجبهة على فيسبوك موجودة منذ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وكانت قد أعلنت عن رؤيتها السياسية منذ مطلع كانون الأول (ديسمبر) 2020، وأصدرت بيانات رسمية في مناسبات عديدة. وهو ما يؤكده بسام سفر، عضو المكتب السياسي لحزب العمل الشيوعي (أحد مكونات جود وهيئة التنسيق)، الذي قال في حديث مع الجمهورية.نت إن المشروع مطروح أصلاً منذ نحو أربع سنوات.

كذلك ليس الخطاب العام للمتحدثين باسم مكونات الجبهة ولجنتها التحضيرية جديداً، بل هو يذكّر بأجواء الأشهر والسنوات الأولى بعد قيام الثورة، عندما طرحت هيئة التنسيق الوطنية نفسها نقيضاً لنظام الاستبداد، الذي تطالب بإنهائه بكل رموزه ومرتكزاته منذ انطلاقتها، فيما كان النظام ولا يزال يواجه حضورها وخطابها بالتضييق الأمني وإغلاق مساحات العمل، بالقوة والاعتقالات والترهيب، لكن دون أن يتجه إلى محاولة استئصال هذا الحضور وإنهائه كلياً. كما طرحت الهيئة نفسها أيضاً نقيضاً لـ«المعارضة الخارجية» والمعارضة «التي تستقوي بالسلاح»، معتبرةً أن مصدر شرعيتها هو سلميتها ووجودها العلني في «الداخل»، وهو الخطاب الذي تراجع حضوره قليلاً بعد خروج عدد لا بأس به من كوادرها من البلد، وبعد شراكتها مع الائتلاف في الهيئة العليا للمفاوضات، إلا أنه لم يَغِب في أي وقت، وتجري استعادته اليوم في سياق الحديث عن مشروع جود، أو التذكير به بشكل أو بآخر عبر تكرار استخدام كلمة «الداخلية» في سياق وصف مكوِّنات الجبهة السياسية.

ليس المشروع جديداً تماماً إذن، لكن فيه عناصر جديدة دون شك.

مكونات جود

هيئة التنسيق الوطنية هي المكوِّن الرئيسي في الجبهة الجديدة، وتتألف الهيئة من عدة قوى سياسية أبرزها حزب الاتحاد الاشتراكي ذو التوجهات القومية العربية، وحزب العمل الشيوعي، وكان حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي أحد مكوناتها الرئيسية – قبل أن ينسحب منها متابعاً مشروعه الخاص في قوات سوريا الديمقراطية وإدارتها الذاتية. وبشكل عام، تتألف هيئة التنسيق من تيارات وقوى وشخصيات ذات خلفيات قومية ويسارية، لديها موقف جذري مناهض للنظام، ولدى أغلبها تاريخ قديم في مناهضته من مواقع أيديولوجية متعددة، لكنها حرصت على اتخاذ تموضع سياسي مختلف عن القوى والأحزاب والتيارات الحاضرة في الائتلاف، معتمدةً خطاب «المعارضة الداخلية» في مواجهة «معارضة خارجية» كنقطة تمايز رئيسية كما أسلفنا.

وقد أعلنت اللجنة التحضيرية لجود أنّ قوى سياسية من خارج هيئة التنسيق ستنضم إلى الجبهة الجديدة، من بينها «المبادرة الوطنية»، وهي تيار سياسي يقوده معارضون سوريون يتخذون من محافظة السويداء مقراً لهم، حسب المعلومات التي حصلت عليها الجمهورية.نت. كما تضم جود حزب التضامن، وهو حزب حاصل على ترخيص من هيئة الأحزاب في وزارة الداخلية التابعة لحكومة النظام السوري، يحمل في خطابه ميولاً قومية عربية ذات أبعاد يسارية، لكن ليس في خطابه ما يشي بأي موقف معارِض للنظام. وبخصوص هذا التناقض الظاهر، بين مسار حزب التضامن ومسار هيئة التنسيق ومواقفها السياسية المعلنة، يقول بسام سفر للجمهورية.نت: «طالما يوافق الحزب أو التيار السياسي على بيانات الجبهة التي تتحدث بشكل واضح عن تغيير سياسي جذري في سوريا بناءً على القرار 2254، فإن ذلك لا يشكل أي تناقض بالنسبة لنا كأحزاب مكونة لهيئة التنسيق والجبهة الوطنية الديمقراطية».

وتفيد البيانات والتصريحات الرسمية بأن الحركة التركمانية السورية ستكون جزءاً من الجبهة الجديدة، وكانت الحركة في وقت سابق جزءاً من مجلس سوريا الديمقراطية، أي حليفاً سابقاً لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، إلا أنها انفصلت عن المجلس لاحقاً. يعني تموضعها السابق هذا استحالة انضمامها للائتلاف. ويبدو أن الحركة رأت في مشروع جود تحالفاً مناسباً لها، وهو ما يؤكده محسن حزام، عضو اللجنة التحضيرية للجبهة الوطنية الديمقراطية عن حزب الاتحاد الاشتراكي، في حديث له مع الجمهورية.نت. يضاف إلى الحركة التركمانية تجمعات وتيارات ومبادرات أخرى، من بينها رابطة الشيوعيين في السويداء وتيار مواطنة، وجميعها تحمل خطاباً عاماً قريباً من خطاب هيئة التنسيق.

كذلك تتحدث الأنباء عن انضمام أحزاب كردية للجبهة، هي الحزب التقدمي الكردي وحزب الوحدة الكردي (يكيتي)، اللذان يعملان اليوم بشكل مستقل عن كل من المجلس الوطني الكردي ومجلس سوريا الديمقراطية. إلا أنّ مصادر من داخل جود قالت للجمهورية.نت إنّ الحزبين فضّلا تأخير إعلان انضمامهما الرسمي إلى ما بعد انعقاد المؤتمر التأسيسي، وفي هذا السياق حصلت الجمهورية.نت على معلومات من مصادر مقربة من حزب الوحدة الكردي تفيد بأنّ التأخير أتى على خلفية نقاشات ضمن الحزب وأخرى مع حلفائه، انتهت إلى ضرورة انتظار موقف واضح من الجبهة بخصوص القضية الكردية، مع وجود اعتراضات على بعض مواقف مكوناتها من هذه المسألة، وهو ما تسبب في تأخير الإعلان الرسمي عن انضمام الحزب.

تموضع جود السياسي

انطلقت العديد من التقديرات السياسية من فكرة أنّ الإعلان عن مؤتمر سياسي للمعارضة السورية في دمشق مؤشر على محاولات لنقل العملية السياسية إلى دمشق، وهو ما أشار إليه عضو في الائتلاف السوري المعارض لم يكشف عن اسمه في تصريح لصحيفة القدس العربي. لكن بالمقابل، جاءت تصريحات المتحدثين باسم لجنة جود التحضيرية وبياناتها الرسمية على العكس من ذلك، ساعيةً إلى تثبيت الموقف السياسي ذاته الذي حملته هيئة التنسيق خلال السنوات الماضية. عن هذا يقول محسن حزام للجمهورية.نت: «جود ليست بديلاً عن أحد، وبالتأكيد لن تتخلى هيئة التنسيق التي انضوت أحزابها مؤخراً في جود عن الشراكة القائمة في الهيئة العليا للمفاوضات. سمعنا تصريحات بهذا الشأن من عضو الائتلاف في القدس العربي، وهي مخالفة تماماً للواقع». وفي هذا الإطار، قالت مصادر مقربة من هيئة التنسيق للجمهورية.نت إنّ الهيئة تعتبر أن تصريح عضو الائتلاف لم يكن سوى انعكاس للخلافات ضمن الهيئة العليا للمفاوضات، وذلك بعد الشكاوى المتعددة لهيئة التنسيق من تفرّد الائتلاف بالقرار. وكانت هيئة التنسيق قد أعلنت عن خلافات بينها وبين الائتلاف في الهيئة العليا للمفاوضات، وكان ذلك – بحسب مقربين من الهيئة – تعبيراً عن رفض تحكّم طرف إقليمي واحد هو تركيا بقرار الائتلاف، ورفض ابتعاده عن الأجواء التوافقية التي أُقيمت الهيئة العليا للمفاوضات على أساسها.

يضيف عضو اللجنة التحضيرية لجود محسن حزام في حديثه للجمهورية.نت: «نحن لم نطرح أنفسنا بديلاً لأحد، لكننا من خلال الإعلان عن جود في هذا التوقيت، كنا نحاول كسر الانسداد التام في العملية السياسية المرتبطة بسوريا، وتغيير حالة العطالة التي وصلت إليها المعارضة السورية نتيجة الخلافات الداخلية، وهذا لا يعني أبداً أننا سنتخلى عن أي من مواقفنا الواضحة من النظام السوري، ولا من مسألة التغيير الديمقراطي الجذري في سوريا وفق القرارات الدولية». في الاتجاه نفسه، يؤكد بسام سفر خلال حديثه مع الجمهورية.نت على هذه النقطة، ويضيف أن «الحديث عن توجهات لاستبدال الائتلاف أو هيئة المفاوضات غير صحيح، على الأقل ليس من قِبَلِنا، فهذه المؤسسات شُكِّلت برعاية دولية هي التي تمتلك على أرض الواقع قرار حلّها بشكل نهائي. وفي الأصل، كانت فكرة تشكيل الجبهة الوطنية الديمقراطية خلق تحالف سياسي يضم القوى الديمقراطية من أجل مرحلة ما بعد الانتقال السياسي، ما يعني أن مهمة جود ليست استبدال أحد من أطراف المعارضة، بل تشكيل تحالف أوسع لمواصلة النضال من أجل الديمقراطية في سوريا».

ما الجديد إذن؟

لا يبدو حتى الآن أن مشروع جود يتضمن جديداً على صعيد الخطاب أو الموقع السياسي، فهو لا يقدم خطاباً سياسياً مختلفاً عن خطاب هيئة التنسيق، ولا يخلق تموضعاً سياسياً جديداً في السياق السوري. لكنّ ما يبدو واضحاً هو عمل أحزاب هيئة التنسيق على عقد تحالفات جديدة أوسع مع جهات تمتلك حضوراً على الأرض في مناطق سيطرة النظام السوري، وعلى عقد تحالفات جديدة في الأوساط السياسية الكردية. أما الجديد الأبرز فهو الظروف التي رافقت الإعلان عن المؤتمر التأسيسي الشهر الماضي، الذي يبدو واضحاً أنه لم يكن فقط نتيجة شهور وسنوات من العمل التحضيري، إذ تُظهِر مواقف المتحدثين باسم اللجنة التحضيرية للجبهة ارتباط هذا الإعلان بحالة الانسداد في المسار السياسي السوري، ما يعني أنها محاولة لالتقاط مؤشرات من القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في هذا الملف، وللتفاعل مع الظروف الطارئة بغية إحداث تغيير في المعادلات القائمة.

ولكن بنتيجة التفاعل الصفري للقوى الدولية مع كل المبادرات الحالية، بما فيها مبادرة جود، لا يبدو أن هناك فائدة سياسية مباشرة من إنشاء أي تحالفات جديدة تستأنف التحالفات القديمة. وإذ تحاول قوى وشخصيات سياسية سورية كثيرة رمي أحجارها في مياه الحل السياسي السوري الراكدة، لا يبدو أن لدى أي منها حجراً ثقيلاً قادراً على تحريك هذه المياه فعلاً، أما الجهات الدولية والإقليمية القادرة على التحريك، فلا يبدو أنها تريد ذلك الآن. ليس قبل أن تنضج التفاهمات، أو قبل أن يأتي حدث كبير يغير من معطيات المعادلة الراهنة.

موقع الجمهورية

———————————-

في ضرورة النقاش السوري

على الرغم من الصعوبات التي تواجهها فكرة الانتقال السياسي في سوريا ، فإن الجميع يعترف بالحاجة الماسة إلى استحداث (هوية وطنية ) تسمح للسوريين بأن يحكموا أنفسهم وفقا لمثل مستمدة من المبادئ الديمقراطية والحرية السياسية والعدالة الاجتماعية ومواثيق حقوق الإنسان وهذا يشير إلى ضرورة أن يسرع السوريون إلى استجماع الدلالات والوقائع التي أبدعوها في ثورتهم، وصياغة ذلك كله في منظومة فكرية وسياسية قائمة على فكرة الحرية والتعاقد الاجتماعي ، قادرة على عقلنة الحياة ضمن أنماطها وقيمها الجديدة . لابد من القيام بحوار حقيقي حول الهوية الوطنية السورية وشكل الدولة ونظام الحكم للوصول الى نتائج قابلة للتحقق كي لا تكون هذه الهوية صفرية النتائج . لا يمكن ان تقوم هوية وطنية في سوريا دون الاعتراف بالتنوع الثقافي والعرقي والديني وحل القضية الكردية فيها بشكل عقلاني ، دون قدرة السوريين على تغليب دولة الحق والقانون والعدل والمساواة، دولة محايدة بدون صفات ، لاعربية ولاكردية ولاماركسية ولا قومية ، اسلامية اومسيحية ، دولة يجب ان تجمع الجميع تحت مسمى عقد وطني واحد لا ينحاز الى أي منها ، لان الدولة الوطنية الحديثة لا يمكن ان تأتي عبر معادلات نظرية او ميكانيكية بل بتجذر القانون والحرية والعدالة وتكافؤ الفرص وافساح المجال لمشاركة المجتمع المدني واستدامة العمل الفعلي من اجل تكريس الحريات والقانون والمواطنة المتساوية بإطلاق بغض النظر عن الجنس او العرق او الدين وفي ضوء ذلك كله، يصبح من واجب السوريين الانخراط في إنتاج الأفكار التي من شأنها أن ترسم سبل العيش المشترك والاستقرار السياسي والاقتصادي والتنمية وليس من شك ان ذلك لا بد ان يأتي عن طريق الحوار والتوافق انطلاقاً من الهوية السورية القادرة على توحيد جميع ابناء سوريا بإثنياتهم المختلفة ودياناتهم المتنوعة وطوائفهم المتباينة. وهذا ما يجب ان يدفعنا الى تعزيز جسور الثقة بين اطياف الشعب السوري ، والابتعاد عن كل ما يمنع تعزيز الوشائج وتشكل الهوية الوطنية السورية عبرالمواطنة المتساوية بما هي حقوق وواجبات قادرة على تعزيز هذه الوشائج والحفاظ على السلم الاجتماعي وهي خطوة على تعزيز المشتركات لكنها لا تستغرق الحقوق القومية . معظم القوى السياسية تطرح شعارات سطحية لا تقترب من جوهر الموضوع خوفاً من التصادم مع محيطها اولاً ومع الاخر تالياً فالهوية الوطنية تقتضي التعاقد بين الارادات خارج المعادلة الصفرية لأن المشترك الوطني يمكن ان يخلق قاعدة صلبة للعمل الديمقراطي عبر ملامسة مصالح الناس والاندراج في المحيط الحيوي وخاصة الوجود الامريكي في العراق وسوريا بما يحقق العملية الديمقراطية ويحد من التطرف والارهاب ، فكثرة الكتابة عن الدولة الوطنية لا ينتجها اذا لم تقترن مع النتائج الملموسة على الارض وخيارات افضل لحياة البشر وامنهم رغم الحذر والخوف وفقدان الثقة من تكرار تجارب الماضي استمرار الصراع السياسي الكردي العربي سيؤدي الى خسارة الطرفين لان الغلبة فيه للقوى الاقليمية والدولية وبالتالي لا بد من البدء بنقاش مشترك حول مستقبل سوريا عبر طرح معطيات منهجية وواقعية للوصول الى نتائج فاعلة للتطبيق وتطليق فكرة الانتصار او الهزيمة .

موقع السفينة

——————————-

اميركا حدودها العالم وسورية تفصيل مرتبط بالحوار والمنطقة/ غسان عبود

لقد أتينا على ذكر أمريكا مراراً في مقالاتنا السابقة التي نقدمها حول قضيتنا الوطنية السورية، فأمريكا في كل زاوية في المسألة السورية والملف السوري ملف أمريكي بامتياز. يقول كيسنجر المهندس الأهم للسياسة الأمريكية الدولية: “نحن لا نستطيع الانسحاب من الشرق الأوسط. لكننا نحتاج إلى وضع إستراتيجية واضحة حول طبيعة تدخلاتنا في المنطقة”. إذاً في هذه المرحلة من التاريخ أمريكا ليست دولة خارجية بالنسبة للعرب، وبل ونكاد نجزم أنها ليست دولة خارجية بالنسبة إلى أية دولة في هذا العالم. فهي حاضرة سياسياً واقتصادياً وثقافياً وتقنياً وعلمياً بهذه الصورة أو تلك في حياة المجتمعات الإنسانية. كرهنا ذلك أم أحببناه، صحيح أن درجات حضورها مختلفة الشدة والضعف في هذه المجتمعات، لكنها إحدى الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ البشري التي لها قول وفعل في كل مشكلات العالم وقضاياه، بما فيها القضية السورية.

أمريكا دولة إمبراطورية تتكامل لديها أسباب القوة: المعرفية والعلمية والتقنية والاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية والسكانية، وهذا مكّنها من التعامل مع العالم بوصفه حدودها الجيوسياسية، فهي أول دولة في تاريخ الإنسانية حدودها العالم كله، وهي الدولة الوحيدة في التاريخ البشري التي لم يَعْتدِ أحدٌ على حدودها، وكل حروبها خاضتها خارج حدودها منذ استقلالها، لذلك بات طرح أي دولة كبيرة كانت أم صغيرة لفكرة الاستقلال الوطني التام يثير السخرية، فأمريكا طالما عطلت سيادة دول عدة لفترة قصيرة أوطويلة، ومؤخرا أربع دول عربية أزالت أمريكا سيادتها بالكامل، كما أن لأمريكا قواعد عسكرية في اليابان وأوروبا وأستراليا، لا تستطيع هذه الدول حتى مناقشة أمر إزالتها! كما أن عقل أمريكا الإمبراطوري يحدد سلوكها إذ وصل بها الأمر إلى درجة مخاطبة دول عظمى باستخفاف، كما حدث مع الصين مرات عدة، وألمانيا حين طالبها ترامب بكلفة حمايتها! ولمن يريد الاستزادة بإمكانه العودة إلى مراجع الإحصاء وسيتأكد أن الفوارق شاسعة بالقوة العسكرية والاقتصادية والعلمية البحثية بين أمريكا والدول العظمى مجتمعة!

دعونا نتفق على الأوليات الثابتة للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أولاً: ضمان التدفق الحر لموارد الطاقة من المنطقة. ثانياً: ضمان أمن إسرائيل. ثالثاً: الحفاظ على القوة الأمريكية فيه. لذلك لن يكون مقبولا لأي دولة أو تحالف دول أن يتحدى هذه الضمانات الثلاث، ومؤخرا أضاف صناع السياسة الأمريكية هدفين آخرين: منع انتشار أسلحة الدمار الشامل ومكافحة الإرهاب. واجهت أمريكا وستواجه أي مساس بالمنطقة العربية، وخصوصا مناطق إنتاج الطاقة، سواء كانت من قوى خارجية أو حتى من محاولات عربية، راديكالية أو محافظة، تطرح الاستقلال السياسي النسبي عن الهيمنة الأمريكية، (تجربة العراق). كما أن مصالحها هي مؤشر سلوكها، فهي لا مع الإسلام ولا ضده بحد ذاته، ولا مع الدكتاتوريات ولا ضدها، ولا هي مع الجمهوريات أو الملكيات ولا ضدها، بل هي مع مصالحها فقط.

سورية في عيون السياسة الأمريكية

سأعود للأحداث التي حددت العلاقة بين أمريكا وسورية في عهد الأسد الأب والولد، لفهم العلاقة الملتبسة والمتناقضة في وعي كثير من السوريين. تتوسط سورية بين فلسطين واﻷردن ولبنان والعراق وتركيا، فموقعها هذا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية يعتبر خطيرا ويجب ضبط ما يجري فيها، لذلك خمسون عاماً تقريباً وأمريكا تتعامل مع نظام تعرف حدود فعله ومواطن ضعفه، ومتى تحمله على هذا السلوك أو ذاك. وتعرف أن همه الوحيد الذي يحركه هو البقاء في السلطة مهما كان الثمن الذي سيدفعه والمهمة التي ينفذها. لذلك لا ترى أمريكا أنه يشكل خطرا عليها طالما هو يقوم بوظائف نافعة للهيمنة الأمريكية، ولأنه نظام مأسور بهمه السلطوي وضع سورية ضمن أسره بدل المراهنة على انتعاش الدولة بمقابل خدماته، فهو ذاته النظام الذي تحالف معها في الحرب على العراق وسلمها قوائم بالحركات الأصولية، وهو نفسه الذي دمر حضور منظمة التحرير الفلسطينية منذ استلامه حكم سورية ودمر المقاومة الوطنية اللبنانية الداعمة لها، ومنح إسرائيل أراضي سورية استراتيجية تضمن حمايتها، ونفسه الذي دمر لبنان المثال (سويسرا الشرق) وحوله إلى رماد، نفسه الذي يساهم في تحويل سورية إلى كانتونات سيكون جبرها عملية معقدة.

نعتقد أن أوباما كان مرتاحا لقمع أسد المفرط للسوريين، فالأسد الذي اختار إطلاق العنان للقوة العسكرية ضد شعبه، كان من المفترض بسلوكه هذا أن تتحول سوريا إلى السيناريو الليبي وهو تدخل عسكري مفوض من الأمم المتحدة وقيادة الناتو، أو تدخل عسكري أمريكي أحادي كما حصل في مرات سابقة، وخصوصا أن مظاهرات السوريين الأولى تميزت بشعارات ليبرالية وضد أعداء أمريكا، وكأن المتظاهرين أدركوا أن السياسة الأمريكية لن تخذل شعبا يطلب مساعدتها ضد هيمنة عدوين لها الروسي والإيراني(!) لكن تقارير عدة كشفت أن أوباما اعتمد السلبية المتخاذلة في سياسته تجاه سورية، مستندة إلى موقفه الزائف من استخدام ميليشيا أسد للأسلحة الكيماوية، وكذلك نكتة الخطوط الحمر الكاذبة، فالسياسة الأمريكية ليس لديها خطوط حمراء في قضايا حقوق الإنسان والقضايا التي لا تمس مصلحتها الوطنية. كما أن سياسة اللين التي مارستها أمريكا تجاه الفيتو الروسي الصيني المتكرر ورفضها التدخل عسكرياً أعطى للأسد رخصة بالإبادة. وأوباما كذلك تلاعب على مظاهرات السوريين، حينما اعتمد سياسة استخدام سلاح الكلمات ضد جرائم أسد، ولو كانت الكلمات أسلحة لاحتل المعتوهون، كنصر الله وأشباهه، العالم، وحرر أوباما سورية من أسرها قبل إلقاء خطابه الثاني حولها!

فضّل أوباما أن تلعب أمريكا دوراً لا مرئياً في الصراع في سورية لذلك اعتمد سياسة الأعمال السرية التي لا تكلف الكثير ولا تجتذب الكثير من الانتباه والانتقاد، فأنشأ وحافظ على توازن الكتل وتوازن التدخلات فيها وليس إنهاؤها، ونقل سلطة التمرد من الناشطين السلميين إلى رجال مسلحين يفتقرون للعلم والمعرفة والسياسة، وخان الفصائل حين دعمها لكن أصر على تسليحها بأسلحة خفيفة وذخائر تقطع متابعتها الهجوم، معتمدا سياسة الدعم بسلاح لا يحقق نصرا لكنه يجعل الصراع أكثر دموية وديمومة ليتعفن ويتقيح! كما ميّع الحل السياسي الذي كان سيجنب سورية الانزلاق إلى حرب مسلحة بالوكالة شغل فيها أعداء أمريكا وأصدقاءها بحرب على التراب السوري، فاستيقظ الشعب السوري من حلم بحياة حرّة على خراب واسع!

كذلك حاولت إدارة السياسة الخارجية لأوباما إخفاء جرائم أسد ما استطاعت عن الإعلام الأمريكي والعالمي، ولعل خير مثال الضغط الذي مارسته على مجلس النواب الأمريكي لمنع قيصر من فضح جرائم الأسد، وترك سورية تحترق، وعندما سئل مسؤول أمريكي عن السبب في ذلك قال: “نخشى أن تسألنا وسائل الإعلام بعد ذلك {أي بعد التعرف على الجرائم التي تحصل في سورية} وعما سنفعله حيال ذلك”، لأنهم ببساطة لا يريدون فعل شيء!

نعتقد أنه من الخطأ الظن بأن الوجود الروسي والإيراني يشكل عقبة أمام حل أمريكي للمسألة السورية، أو أن وجودهما خارج التوافق الأمريكي. وندرك أن أمريكا لن توافق لا الآن ولا في المستقبل أن يكون لإيران الدور الفاعل في مصير سوريا، أو أن يستفرد الروس بحل سياسي لسورية كما أن الاثنين لا مقدرة فعالة لديهما أساسا، وكنا قد بيّنا هذا في مقالات سابقة.

تدرك أمريكا أن “نظام” أسد لم يعد قابلا للحياة، وأن الاحتلال الروسي في دوامة لا يملك لها حلا، لكنها تريد بديلا مشابها للسلطة الأسدية الرثة من حيث الوظيفة وليس نقيضا له، وهذا البديل غير متوافر بعد. وبالتالي لماذا عليها أن تساعد في إسقاط نظام لا تعرف بديله؟ لكننا نعتقد أنه بإمكان أمريكا المساعدة على نشأة نظام يُؤمِن بالشراكة مقابل حق الشعب السوري بحياة توفر له وفرة تساعده على ترميم بلده وعلى حياة آمنة، فأمريكا تقود العالم وهي تغذيه بالتقنية المتطورة والعالم في زمانها أكثر إشراقا وتنويرا وتطورا، ولا يمكن أن تكون تكلفة ذلك من جيب دافع الضرائب الأمريكي فقط، ونحن نعتقد أن علينا المشاركة بجزء مهم من مواردنا في هذا التطوير. كما أن الشعب السوري يهمه أن تكون علاقته مع دول الجوار علاقة قائمة على التعاون المتبادل لما فيه خير المنطقة، وليس على مبدأ تأجيل العداء؛ وبالمطلق لا يرغب السوريون أن يكونوا في الخندق المعادي لأمريكا، ولضمان ذلك لن يكون لدينا جيش لا نقدر على إيفائه التزاماته، وإنما قوى أمنية تفرض الأمن داخل حدود البلاد.

وأبدا ودائما، يجب أن يفهم السوريون أن لا حل لمشكلتهم خارجهم، لكن أم العقبات أمام توظيف العناصر الخارجية لتحقيق مطالبهم، تكمن في غياب الشخصية السورية السياسية الفاعلة الممثلة للسوريين. وغياب فريق من أطر نخبوية متنوعة قادرة على خلق عقد اجتماعي وعقد سياسي يضمن تحقيق مشروع سياسي لا يستعدي أحدا. وفي ظل هذا الغياب فإن فعل القوى الخارجية وعلى رأسها أمريكا سيكون متحرراً من أية قوة داخلية فاعلة، وسيدوم الخراب، ويتوسع تسلط ميليشيات الشر علينا، في ظل نظام متعفن ميت سريرا، وسيغيب عنّا شكل الدولة وتنظيم حياة الناس، ونبقى طويلا في سجن مرير أسواره مخطوطة على الرمال.

غسان عبود – بالتعاون مع أورينت.

——————————–

هل نجح “ممثلو” الثورة السورية في إنتاج خطاب يعبّر عنها؟/ طارق عزيزة

لإنتاج خطاب يعبّر عن ثورة شعب يطلب تغييراً جذرياً، ليس كافياً هجاء النظام الذي ثار الشعب ضدّه، ولا شتمه ليل نهار أو فضح جرائمه (على أهمية توثيق الجرائم لمحاسبة المسؤولين عنها)، ولا ينفع استجداء العالم للتدخّل من أجل وقفها، كما لا يكفي تكرار الشعارات البرّاقة والعبارات الجاهزة، عن الحرية والعدالة والتغيير والمستقبل المشرق. الثورة السورية

ما سبق يلخّص أبرز عناصر خطاب المتحدثين باسم الثورة السورية، ووثائق هيئات المعارضة طيلة السنوات العشر الماضية، فهل يكون الخطاب سياسياً وثورياً، ما لم يقدّم تحليلاً للواقع والتحديات التي كانت تنتظر الثورة وسبل التعامل معها، وما لم يضع تصوّرات لأهداف مرحلية وكيفية تحقيقها على طريق الهدف الكبير (إسقاط النظام)، في ضوء عناصر القوة والضعف الذاتية، وموازين القوى الموضوعية؟

استبداد نظام الأسد وإجرامه حقيقة واقعة، لكنها لا تكفي لتفسير كل شيء، وإسقاطه هدفٌ سامٍ ولا مستقبل لسوريا ما لم يتحقق هذا الهدف، وهذه أيضاً حقيقة. لكن هاتين الحقيقتين تقتضيان من الساعين إلى التغيير فهم الواقع الذي أنتجه استبداد النظام وإجرامه طيلة عقود من الحكم التسلّطي الممسك بمفاصل الحياة كافّةً، أي فهم ميدان الصراع الاجتماعي والسياسي، للتمكن من التعامل معه. فالوصول إلى هدف، يتطلّب فهم شروط الواقع والإمكانات الذاتية، ومواطن القصور التي تعيق تحقيقه. هذه من عناصر الخطاب الثوري الرئيسية لكي يفهم الناس واقعهم وظروف الصراع، وحجم التحديات التي تنتظرهم، ويتهيّؤا لها.

إنتاج هذا الخطاب لا يقع على عاتق عامّة الثوار، وإنما في صلب مهام المشتغلين في الفكر والسياسة والإعلام، وليس لهم تبرير التقصير بقمع النظام وحربه المفتوحة على الشعب، لأن كثيرين منهم وجدوا طريقهم باكراً إلى ملاذات آمنة. قلّة فقط اجتهدت في تحليل الواقع وطرح الأسئلة الثورية ومحاولة الإجابة عنها، من موقع نقدي/ ثوري، فيما اكتفت غالبيتهم باجترار الشعارات و”الكلام الكبير” الذي لا يقول شيئاً.

يعلم المتابعون لخفايا تشكيلات “المعارضة والثورة”، أنها أنفقت وقتاً وجهداً في صراعاتها ومماحكاتها ومحاصصاتها التافهة، أكثر بكثير مما فعلت لوضع وتنفيذ تصوّرات ومهام تخدم الثورة وتعالج انحرافاتها، ولم تدرك أهمية الإعلام ودوره، أو تحسن استخدامه والاستفادة منه. في المقابل تنبّه نظام الأسد لخطورة الإعلام وأهميته منذ اليوم الأول للثورة، فكان النشطاء الإعلاميون على رأس قائمة أهدافه. وإذا كانت تغطية ما يجري في سوريا جرت، بدايةً، عبر بعض القنوات الكبرى التي اعتمدت على مصادر ومتحدثين ينتمون لمختلف فئات المعارضة، لكن الوقت لم يطل حتى بدأت تتدفّق التمويلات وتظهر إذاعات ومواقع إلكترونية ومحطات تلفزيونية، تتحدث جميعها باسم الثورة. تلك الطفرة الإعلامية، وتعدّد المنابر وتنوّعها، كان يُفترض أن تشكّل دليل حيويّة وعافية، خاصّة وأنّ هدف الثورة إسقاط النظام الاستبدادي والتأسيس لنظام ديمقراطي تعدّدي يقوم على التنوّع ويغتني بالاختلاف، لكن النتائج جاءت مخيبة عموماً.

لم يعد الإعلام ومحتواه مقتصراً على نقل الخبر أو المعلومة، وإنما بات جزءاً من آليات الصراعات وعلاقات القوة والهيمنة في المجتمع، وانعكاساً لها في الوقت نفسه، عبر الكيفية التي يقدّم بها الواقع، وتمثيل الهويات أو حتى صناعتها، وما يتداوله ويكرره من ألفاظ وتعابير، يظهر أثرها التراكمي في الأوساط الشعبية تدريجياً، فتتكرّس أو تتلاشى قيم وأخلاقيات معيّنة. رغم أهمية ذلك، ورغم الإمكانات المالية الضخمة التي تدفّقت على من ساءت الأقدار وشاءت الدول أن يُنصَّبوا ممثلين عن الشعب السوري وثورته، افتقرت الثورة السورية إلى استراتيجية إعلامية واضحة المعالم، وتميّز خطابها الإعلامي والسياسي، بالارتجال والعفوية وتغليب المشاعر والعواطف، فضلاً عن المصالح الفئوية والحزبية الضيقة.

في بداية الثورة كان أداء كثير من الناشطات والنشطاء مبدعاً وخلّاقاً، وعبّر عن القيم والأهداف التي رفعها الشارع المنتفض، بالرغم من ضعف الإمكانات ومخاطر العمل من داخل سوريا. لكن الحال اختلف بعد ظهور “الإعلام الثوري” المموّل، والمرتبط بأجندات حزبية أو بسياسات الممولين المتغيّرة. والأخطر أنّه سرعان ما ظهرت ملامح شبه بين كثير منه وبين إعلام النظام، فتكاملت “استراتيجية النظام” و”لا استراتيجية” المعارضة لتشويه الثورة. وبدلاً من الدعاية المضادة التي تفنّد دعاية النظام، تضمّنت دعاية المعارضة كثيراً مما يتثبت دعايته، خصوصاً مع سيطرة التيارات الإسلامية على المشهد. وبما أنّ الخطاب السياسي والإعلامي لا ينفصل عن السياق (صفة المتكلم وموقعه، والفئات التي يتوجّه لها)، فإنّ الأخطاء والسقطات التي يتكرر صدورها عن سياسيين وإعلاميين يتحدثون باسم الثورة وعبر منابر تنتسب لها أو تؤيّدها، تخرج من نطاق المواقف الفردية أو أنّ المتحدث يمثّل نفسه، لتصبح لصيقة بالثورة وخطابها.

على ما سبق، ليس من المبالغة القول، إنّ من تصدّروا مشهد تمثيل الثورة السورية العظيمة والمحقّة، فشلوا في إنتاج خطاب سياسي وإعلامي يعبّر عنها. وأعراض الاستبداد المزمن ظهرت جليّةً في بؤس “القوى السياسية” وترهّلها وتأخّر خطابها عن مواكبة الواقع وتحوّلاته، وظهرت في الأمّية السياسية والحقوقية لدى كثيرين ممن ابتليت بهم الثورة، لاسيما في ميدان الإعلام الخطير والحساس.

ليفانت

————————-

هل من بديل لإنقاذ سوريا؟/ حسان فرج

معظم الشخصيات المعتبرة القادرة على إدارة سوريا اليوم وإخراجها من محنتها، إما خارج البلد أو في السجون، لأنّ القيادة الحالية انتهت صلاحيتها، ووجودها أصبح عبئًا على استمرارية حياة الدولة، كدولة موحدة أرضاً وشعباً، وأنّ التجديد لها في الانتخابات القادمة سيزيد من تعفن الوضع السوري وزيادة معاناة الشعب السوري التي أصبحت لا تطاق وخارج نطاق التحمل.. وسيؤدي بالبلد إلى كارثة التفتيت الحقيقي أو لعودة الحروب على أراضيها وعودة موجات التشرّد والتهجير على ما تبقى من الشعب في مناطق سيطرتها.

لقد عملنا كمعارضة وطنية بدفع المفاوضات حول تعديل دستور الـ٢٠١٢ لأنّنا كنا ندرك أنّه السبيل الوحيد والوسيلة السياسيّة الحقيقة لتغيير الوضع القائم، وحرصاً منا على العمل الديمقراطي القانوني السلمي، وحرصاً منا على جعل سيادة الشعب السوري أولوية، وتقرير مصيره بين يديه، وليس بيد الدول المتصارعة على أراضيه، ذات المصالح المتضاربة، والتي تبقي البلد ورقة مساومات كأيّ ورقة أخرى لصراعات بينية بين الدول العظمى أو متعلقة بصراعات إقليمية ومفاوضات ربما تستمر لسنوات، كالملف النووي الإيراني، على سبيل المثال، الذي يبقي الشعب السوري تحت وطأة العقوبات القاتلة.

فدستور الـ٢٠١٢ دستور لا يسمح لهم بالترشح للأسباب التالية:

1- وجود المرشح في سوريا بما لا يقل عن 10 سنوات (المادة 84 -5)، علماً أنّ معظمهم هجّر منذ عشرات السنين.

2- أن لا يحمل جنسية أخرى غير الجنسية السورية.. والمعروف أنّ أي مواطن سوري حتى يستطيع العيش ببلاد الاغتراب والعمل والتنقل بحرية بحاجة لجواز سفر، مع الأسف، غير الجواز السوري، ولو كان الجواز السوري له اعتباره لما طلب جوازاً آخر.

3- موافقة 35 عضواً من مجلس الشعب (المادة 85). مجلس غير منتخب أصلاً، بل معين بطرق ملتوية مخابراتية أو عبر سماسرة الفساد.

من هنا نفهم لماذا قامت السلطة الحالية بنسف مقررات الحوار الوطني ومخرجاته في سوتشي 2018، والذي كان تحت الرعاية الروسية والدول الضامنة، والذي تمخّض عنه مبدأ التفاوض على الدستور، حيث تمت المماطلة لعام ونصف لاختيار أعضاء اللجنة الدستورية، وخمس جلسات في جنيف لم تنتج أي تقدم بسبب مماطلة السلطة الحالية وتعطيلها لهذه المفاوضات، فقط من أجل جرّ الأمور لانتخابات مدبرة نتائجها وبمسرحية هذلية معهودة بنتائج ملفقة فوق 60% أمام العالم، تسعى لإعادة تأهيل سلطة فاشلة على جميع الأصعدة، همها الكرسي ولا شيء آخر حتى ولو على دمار وتفتيت البلد، وحسب أجندات خارجية لا تمت لمصلحة الوطن ووحدته بشيء.

ما العمل إذاً؟

لا بد من شخصية اعتبارية سورية أن تخرج للعلن، تتمتع بالكرامة والكفاءة والكاريزما، تلم شمل الشعب السوري وتستقطبه حولها دون استثناء، ولا تفرق بين مؤيد أو معارض أو حيادي، ولا تفرق بين عربي، كردي، آشوري، شركسي، أو أرمني، ولا تفرّق بين مسلم أو مسيحي، ولا تفرق بين علوي أو درزي أو إسماعيلي.. الكل يتمتع بنفس الحقوق والواجبات، والكل يتمتع بحق المواطنة المتساوية.

– قادرة أن تعيد الوحدة الوطنية التي مزقتها حرب هوجاء والقرارات الاستبدادية التي كان همها السلطة قبل الشعب والوطن.

– قادرة أن تدفع البلد نحو نظام جديد ديمقراطي حقيقي يضمن كرامة المواطن ويعيد وحدة الأراضي السورية بعد إخراج القوات الأجنبية طالما سيكون الرئيس الشرعي المنتخب والمعتبر، شعبياً ودولياً، والذي يضمن سيادة الوطن وحقوق المواطنين في أصعب وأخطر مرحلة تمر بها البلاد.

هذه الشخصية ستواجه انتقادات عديدة من المعارضة، أولاً، ومضايقات وحملات إعلامية مهينة من قبل السلطة، ثانياً، وربما تهديداً لحياتها، ثالثاً.. والعملية ليست بالسهلة ولا امتيازاً لشخصه، وإنما عمل شجاع سيكتب التاريخ له أنه تحدّى كل الصعاب والمضايقات والإهانات من أجل قيادة مرحلة من أخطر مراحل تاريخ سوريا الحديث، لكن هذه التضحية ضرورية لأجل إنقاذ سوريا.

يبقى هذا الترشّح بحاجة لتعديلات دستورية طارئة للدخول بعملية انتخابية شرعية ونزيهة أمام العالم والشعب السوري داخل وخارج الوطن، لأنّ المماطلة والتلاعب على نقاشات سفسطائية فيما يتعلق بالمبادىء الدستورية ربما يمتد لسنوات عديدة مع الانتخابات القادمة، ومحاولة إعطاء شبه شرعية لنظام منتخب على أساس دستور 2012، وعلى أساس أنّه لبّى القرارات الدولية في التفاوض ضمن اللجنة الدستورية في جنيف وحسب مقررات 2254، التي بدأت بالـ2015، وربما تستمر إلى ما بعد الـ2018، عندها سيكون هناك إضاعة لحقوق الشعب وطموحاته بدولة قانون دولة الحرية والكرامة.. مع استمرار للعقوبات واستمرار لمأساة اللاجئين والمهجرين، داخل وخارج الوطن، واستمرار المساومات الإقليمية والدولية بملفات الإرهاب واللاجئين على حساب الشعب السوري وتعطيل أي سبل لإعادة الإعمار واستمرار الانحدار الاقتصادي في البلد.

إنّ إعلان الانتخابات اليوم في مجلس الشعب، وفي الظروف الحالية، وإعطاء مدة عشرة أيام للقيام بذلك، ما هي سوى قرارات إقصائية إضافية واستمرار لمسرحية هزلية درامية تستهين بعقل وحياة المواطن السوري وتستهتر بمعاناته.

لذا وجب وضع مدة زمنية قصيرة لتعديلات اضطرارية في دستور 2012، وجعل مناقشة المواد الأخرى في مجلس النواب لاحقاً الذي سيكون منتخباً بطرق نزيهة وليس مجلس شعب معين بطرق ملتوية، ولا بيد لجنة دستورية وضعت بظروف استثنائية لاتملك التفويض الكامل من الشعب السوري لمناقشة أمور مصيرية تتعلق بالهوية الوطنية.

تأجيل الانتخابات اليوم ضرورة تبعث الأمل لدى الشعب السوري ليتفاعل معها وتعطي الفرصة لظهور شخصيات وطنية للعلن قادرة على أن تقود المرحلة وتوصل البلد إلى بر الأمان.. فسوريا لم تعد تتحمل إطالة هذه المعاناة.

وإذا كان الأمر يتطلب مفاوضات على مستوى الأمن الإقليمي وملفات أسلحة الدمار الشامل والأراضي السورية المحتلة، فليكن، حتى لا تبقى سوريا ورقة مساومات يدفع ثمنها الشعب السوري. فأي انتخابات حقيقة شرعية معترف بها دولياً ستكون الباب لحل العديد من ملفات المنطقة دون استثناء وإعطاء الشعب السوري الأمل والشعور بخلاصه من الوضع القائم، والشعور بدوره الحقيقي بتقرير مصيره خارج نطاق صراعات المعارضة والسلطة القائمة، وخاصة أنّ الحل جاء بطريقة ديمقراطية وليس من خلال مجالس عسكرية تفرض بتوافق دولي ويعيد كابوس الانقلابات العسكرية والصراعات داخل المؤسسة العسكرية، علماً أنّ التوافق الدولي غير موجود أصلاً وغير متوقع على المدى المنظور، والأمور الدولية ذاهبة للتعقيد ولا يمكن ترك الملف السوري بيد دول متصارعة، بل بيد الشعب السوري.

حسان فرج

ليفانت – د. حسان فرج

—————————-

===========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى