صفحات الثقافة

ندوة “ما بعد الثورات العربية” بباريس.. انطلاق قوس التغيير/ بوعلام رمضاني

احتضنَ “معهدُ العالم العربي” في باريس مؤخرًا ندوة تحت عُنوان “عشرةُ أعوامٍ منَ الثَّوراتِ (دون وجود لكلمة “عربية”)، ماذا بعد؟” في إطار اختتامِ أشغالِ الجامعةِ الشَّعبية لمعهدِ الدراساتِ حولَ المتوسط والشرق الأوسط.

نُظَّمت التَّظاهرة بالاشتراك مع موقعي “أوريان 21″، و”ميديا بارت”، ومجلة “كونفليوس ميديتراني”، وهي المجلة التي ظهرت في شكل كتاب مرجعي أزرق اللون عُرض للبيع في مدخل قاعة الطابق التاسع الزجاجية المطلة على نهر السين البديع، وحَظي الكتاب بإشهار لافت على واجهة المؤسسة الثقافية الشهيرة.

شارك في الندوة التي قامت بتنشيطها رشيدة العزوزي، الصحافية في موقع “مديابارت”، الذي يديره الصحافي والكاتب الشهير، إيدوي بلينال، كل من عبير خريفة، الأستاذة في جامعة ليون 2، وفاروق مردم بيك، الكاتب والباحث، ومدير سلسلة كتب “سندباد” الصادرة عن دار “أكت سود”، التي تُعنى وحدها اليوم بنشر الأدب العربي المتميز، وآلان غريش، الكاتب والصحافي المتقاعد الذي يُديرُ موقع “أوريان 21″، بعد عمله رئيسًا لتحرير صحيفة “لوموند ديبلوماتيك” لأكثر من عشرين سنة.

الندوة التي قُدِّمت تحت عنوان غير مكتمل في تقديرنا، بتجاوز كلمة “عربية” ـ رغم تداولها لعشرة أعوام في الخطابين السياسي والإعلامي عربيًا وأجنبيًا ـ راحت في رأيي ضحية التَّضحية بالمنهج على مذبح الأيديولوجية، وكذلك جراء نقاشٍ فكري لم يُترجم منهجيًا بشكلٍ يَعكسُ مُقاربة شاملة ومتوازنة وعميقة لا تقتصر على رؤى ذاتية مُستنسخة من مرجعيات يُريد أصحابها عالمًا عربيًا حداثيًا في لمح البصر، علمًا أن حداثة المصدر المقلِّد تُعاني في عُقر دارها من ملابسات وتراجعات رهيبة بشهادة أبنائها، من أمثال إدغار موران، وريجيس دوبريه، بوجه خاص. وظهر ذلك جليًّا في المداخلة الأولى للأستاذة عبير خريفة، التي خصصتها كاملة لما اعتبرته “ثورة” نسوية كبيرة وغير مسبوقة.

الأستاذة خريفة باحثةُ مركز مخبر ماكس فيبر الفرنسي المعروف بدراساته السوسيولوجية، لم تُجانب الحقيقة سوسيولوجيًا وسيكولوجيًا وسياسيًا حينما أكدت دور المرأة في الثورات العربية كمكسب حقيقي، غير أنها انطلقت تحت وطأة ذاتية مفرطة فوتت عليها منهجية بسيطة يَفرِضُها عُنوان الندوة. هذه الانطلاقة السريعة كشَفَتْ عن نِضالٍ أُنْثوي تُحيطُ به اختلافات وخِلافات جوهرية تتعلَّقُ بِتَوجُّهاتٍ أيديولوجية تَخْتَرِقُ وتُمَزِّقُ الحساسيات الأنثوية المُتَنازِعة حول المضمون الأيديولوجي والطبقي الذي يجبُ أنْ يُلْصَقَ بها، كما هي الحالُ مَعَ أنصارِ البيئة الخضر، وبمفهومِ التحرُّرِ الأُنثوي ذاته مِن مُنطلق نَفيِ صِفة الثَّورية والتَّحرُّرِ مِنْ نساءٍ شاركن في الثَّوراتِ العربية مُرتدياتٍ الحجاب، مثلَ المحللة النفسية الجزائرية والناشِطَةُ الديمقراطية والبارزة في تنسيقية الدفاعِ عنِ مَفقُودي العشرية الدموية، وسيلة بلطرش، الاسمِ البارزِ في الحَراك الجزائري، إلى جانِبِ الناشطات السافراتِ، زُبيدة عسول، ونبيلة إسماعيل، وأخريات كثيرات، والآلاف من النساء اللاتي تظاهرن وما زِلن يَتظاهرن جَنبًا إلى جنبٍ معَ مُتحجبات يَرفضن فَصلَهُّن عن زميلاتهن السافرات.

دليلُ اختلالِ مُقاربة الباحثةِ التونسية اقتصارُ مُداخلتها على مكسبٍ إيجابي واحدٍ لا يختلفُ حولَه إلَّا المناضل في صفوف أنصار الثورات المضادة من القادة القمعيين والمثقفين والأساتذة المهووسين بخطرِ الإسلاميين على الديمقراطية دون غيرهم من الإقصائيين الأيديولوجيين الكُثُر، وَعِوَضَ تَجنُّب تَوجيهٍ أيديولوجي أقربَ إلى الدعاية منهُ إلى الأكاديمية التي يَفرضُها المقام علميًا، راحت الأستاذة التي تَحَدَّثَت في شكلِ مُناضلة ضَحيَّةِ “إيقاعٍ” منهجي ترك بعضُ الحاضرين، ومنهم كاتب هذه السطور، يَشعُرون أنَّهم أمامَ مُحاضِرَةٍ تُعالِجُ أثرَ النِّضال النِّسوي في الثورات العربية. الأستاذة خريفة، التي كان من حقها التركيز على بلدِها تونس، ثمَّ على مِصر بحكمِ تقاطع التجربتين من منظورها، راحت تزكِّي من حيث تشعر أو لا تشعر “فاتحو دين” القمع الضروري كـ”شرٍّ إيجابي لا بد منه”، لتجنُّبِ أخطر أعراضِ وتداعيات الضررين الناتجين عن مرضَين يَختلِفان في طبيعتهما الأيديولوجية، لكن المرض الخارج من رحم التّطرف الديني والمستحكم في تيارات غير مختلفة في جوهرها المحافظ وغير الديمقراطي لا يعد إلا نكسة وخسارة للثورات العربية لما سمي بالربيع العربي، كما فهمنا منها. وبات الأمر واضحًا حينما أشارت إلى تَناقُضاتِ وانتهازية الإسلاميين ليس في تونس ومصر كبلدين قريبين لبعضهما البعض منهجيًا (وهنا وُفِّقَت منهجيًا)، لكن غير بعيدة في الوقت نفسه عنْ تناقضاتِ وانتهازيةِ سياسيين ومثقفين ديمقراطيين وعلمانيين غربيين وعرب مازالوا يَكيلونَ بمكيالين مثل الإسلاميين، وهم أيضًا ما زالوا يَصبُّون الماءَ في طاحونةِ قادةٍ عسكريين ومدنيين دمويين.

للأسف الشديد، لم تجب الأستاذة خريفة عن الأسئلة التي تفرضها الندوة.

أما الأستاذ فاروق مردم بيك فلم يتخذ من الارتجال وسيلة، وقرأَ مُداخَلته العميقة والبسيطة في الوقت نفسه بتأنٍّ مدروسٍ، مُجيبًا عن سؤال “ماذا رَبِحْنَا وماذا خَسِرْنَا؟”، ومُنطلقًا من اعتبار نفسه ناشطًا مُثقَّفًا مُلتزمًا، وليس باحثًا سياسيًا مُتخصِّصًا في الشأن العربي، أوجزَ نقاطَ الرِّبحِ والخسارة في استمرارِ الأنظمةِ التسلطيةِ والقمعيةِ في الحكمِ بالبلدانِ العربيةِ التي شَهِدت أشكالاً من الاحتجاجات التي تَتَقاطع في جَوهرها المطلبي، وتختلفُ في طبيعَتِها لأكثرَ من سبب من بلد لآخر، الأمر الذي لا يعني أن الانتفاضات العربية لم تُحقِّق مَكاسبَ غير مسبوقة تاريخيًا، رغم خيباتِ أملِ ناشطيهَا الذين يحتاجون إلى مُراجعات نقدية تُفسِّر الفشلَ الجزئي أو الكامل في مواجهة أنظمة الدَّمار والدم والدموع، كما اتضح ذلك لاحقا في مداخلته الدقيقة. فشل الثَّورات العربية في تَغييرِ طبيعةِ وبنية الأنظمةِ الحاكمةِ وتحوُّلِ بعضها إلى حرب أهلية تراجيدية، كما حدث في وطنه سورية، وفي ليبيا، لا يتناقض، حسب الأستاذ مردم بيك، مع إيجابيات أو انتصارات مسار احتجاجي تاريخي غير مسبوق في بلدان عربية عديدة، وهو المسارُ الإيجابي المبدئي الذي يَحمِلُ بين طياته نقاطَ ضُعفٍ تدفَعُ إلى التفكير في صيرورَةِ تغييرٍ تفرضُ وقوفَ قِوى الحراك الاحتجاجي أو الثوري حتمًا عند ما أسماها مردم بيك بالهفواتِ والأخطاءِ والأوهامِ وموازينَ القوة حيال الخصم، وهو الأمر الذي ينسحبُ على بلدهِ في المقام الأول، كما فهمنا، بحكم فداحة الخسارة التي منيت بها الثورة السورية جراء حجم وخطورة ونوعية ضعف وتشتت المعارضات المختلفة والمتناحرة إلى الحد الذي أساء إلى مصداقيتها الثورية.

تمثَّل ربحُ الثوراتِ، أو الانتفاضات العربية، حسب مردم بيك، في تجدُّدِ وكثرةِ المقاربات الإبداعية التي عالج أصحابُها هذه الثورات عبر مختلف الضروب الأدبية والبحثية، ومنها التوثيق الفني والسياسي والاجتماعي عبر الأغاني والمنشورات الدعائية والملصقات والرسومات الجدارية، وكرَّم مردم بيك في هذا السياق، ليلى دخلي، التي أشرفت على كتاب “روح الانتفاضة” الجميل، والأنثربولوجية، شارلوت الخليلي، التي أرَّخَتْ لثورةِ جزءٍ كبيرٍ من أبناءِ وطنها، وهو الجزء الناجح بمكاسبه الملموسة على أكثر من صعيد. المكاسب التي تحقَّقت لكي لا تموت خلافًا لما حدث من قبل رغم فشل الإطاحة بالنظام المستبد والقمعي المتجدد، تُحيلنا على نظرية “التردي الخصب” للكاتب عدي الهواري، غير الإسلامي، عند تحليله لبروز قوى معارضة دينية متردية التوجه، الذي يختلف مردم بيك مع أصحابه فكريًا حتمًا، ولكن لا يُنكِر حتمًا أيضًا وجودها باعتبارها نموذجًا لأرضية أخصبت معارضات علمانية ويسارية تَطالُها المراجعة النقدية هي الأخرى أيضًا، كما أشار في صدر مداخلته، وهي المعارضات التي يقبل بها عدي الهواري إذا جاءت نتيجة انتخابات حرة يتحمل الشعب تبعاتها السياسية.

ثوراتٍ غير متوقعة

أوجزَ الأستاذ مردم في صُلب مداخلته في ثلاث نقاط عدم تناقضه بقوله “إن الثورات العربية تعتبر نتيجة مسار تاريخي طويل، وأنَّ لا أحدَ تنبَّأَ باندلاعها عام 2011، كما أنها ليست قدرًا”. هذه الثورات التي انطلقت من تونس من دون تَنبّؤ من أحدٍ أيضًا والخاضعة للمجهول بحكم طبيعتها، كما قال، اختلفت من بلدٍ لآخر، استنادًا لسرعة وتباطؤ وانحراف وانسداد بعضها، ورغم هذا التراوح الطبيعي والفشل الذي أصاب معظمها عمليًا، تَبقى حقيقةَ تأثُّر الأنظمة العربية الفاسدة، القمعية، الأمنية، العائلية، والأبويَّةِ بـ”فشل الثورات العربية الإيجابي” (المفهوم من ابتكاري حسب فهمي لمداخلة مردم بيك) أكبرَ مكسبٍ حقَّقته شعوبٌ أصبحت تَرفُضُ الظلم الذي سلِّط عليها لعقود، وهو المكسب الذي ساهمت في صنعه وسائلِ الإعلامِ التقليدية، وعلى رأسِها التّلفزيون، مقارنة بوسائلَ التواصلِ الاجتماعي الناتجة عن ثورة تكنولوجية مُذهلة. استطاعت الشعوب العربية المقهورة، والضحية لسياسات اقتصادية نيوليبرالية، وقف عندها لاحقًا آلان غريش بشكل خاص، وفي مقدمتها الشبان والشَّابات بوجهٍ خاصٍ، من تخطي الرقابة البوليسية، ونشر ثقافة التواصل الثوري، كما نجحَت النُّخب الإعلامية والفكرية والأدبية والفنية في إيصال أشكالٍ إبداعية كثيرة لشرائح واسعة بشكل غير مسبوق.

بعدَ تأكيدِهِ على الدَّور الذي لَعِبَته المرأةُ في الثورات العربيَّة، متطرقًا إلى مضمونَ مداخلةِ الأستاذة عبير خريفة، ذكّر مردم بيك بالاحتجاجات المنسية ـ على حد قوله ـ التي عرفتها السعودية، وسلطنة عُمان، والمغرب، ولو بدرجة أقل بكثير من التي عرفتها الدول العربية الأخرى، التي انصبت حولها ندوةُ معهدِ العالم العربي. هذه الحقيقة تُعتبر في حد ذاتها مكسبًا سياسيًا عربيًا غيرَ مسبوقٍ، حتَّى وإنْ لم تكتمل أركانُه، وهي كذلك، لأنها عبَّرت عن وحدة مطلبية سياسية عربية تُؤكّد على بروز وعيٍ جماعيٍّ يثبت تَوْقِ الشعوب العربية إلى الحرية والعيش الكريم، رغم صعوبة مسار التَّحدي في ظِلِّ أنظمةٍ مُصِرَّة على المُضي في جبروتها واستبدادها بصنع ثورات مضادة تعزز ماهية وطبيعة حُكمها الإقصائي والأحادي.

حراك الجزائر ونقد الانتفاضات أو الثورات

الانتفاضات، أو الثورات العربية، التي اقتصرت حتى اليوم على الروح المطلبية والاحتجاجية، ونجحت في بثِّ وعيٍ مُجتمعي لم يعرفه العالم العربي والإسلامي من قبل، لم تُوفَّق في تقديم البدائل التي تَقطَعُ الصِّلة بعهدِ الأنظمة التي تَعمَلُ على تغييرها، وهو الأمر الذِّي يدفعُ المحلل الأكاديمي وغيرُ المناضلِ بالضرورة، إلى النقدِ المطلوبِ بغرضِ الكشفِ عن مكامِنِ الضُّعفِ في صفوفِ حركاتٍ وجمعياتٍ وتياراتٍ مُتضاربة المشارب فَشِلَت عمليًا في مُقاربة الواقع السياسي المستمر الذي تُناهِضُه حتى لحظة كتابة هذه السطور، كما هو الحال بالنسبة لحراك الجزائر الذِّي طل بِقوة في مُداخلة مردم بيك، واستحق تنويهه، والحيُّ في واقع الحياة السياسية الجزائرية بشكل أو بآخر. وهو لم يتردد في الحديثِ عن مكامن الخسارة في الثورات، أو الانتفاضات، من مُنطلق نقدٍ ذاتيٍ ضروريٍ كغيورٍ عليها ومُناصِرٍ للشعوبِ العربية المقهورة، وليس كعدو في صفوفِ مناضلي الثورة المضادة.

رغمَ النجاح الجزئي الذِّي حقَّقته في السودان وتونس، والمتأرجح في الجزائر التي ما زالت تصنعُ الحدثَ بحراكٍ يقولُ عنه البعض إنَّه انتهى، عانت الثورات أو الانتفاضات العربية، وما زالت، من تحديات التأطير والتمثيل والقيادات غير المهيكلة والقصيرة الرؤية والأفق والقليلة الواقعية، وحتَّى من التَّنافُس والتَّنَاحر المميتين، كما حدث في سورية وطنه، ومن إعطاءِ المثلِ في مُناهضة الحكم، أو العدو التاريخي. وفي شبه محصلة نهائية، أكد مردم بيك أنَّ كلَّ ما يمكن تصوره من أخطاء لا ينقصُ شيئًا من عظمة ما أسماها بـ”الثورة العربية الملحمية” التي فتحت أُفُقًا ممكنًا صرخت من خلاله الشعوب العربية بكلمات “الشعب يريد إسقاط النظام”، وهو الأفقَ الذي ما زال قائمًا، وسيبقى منفتحًا كمكسبٍ مبدئي غير مسبوقٍ لا تَحُدُّ من استمراره الثوراتُ المضادةِ بعدَ أنْ فقدَ الحاكمُ المستبدُّ “قدسيته”، وتحطمت تماثيلُه، و”إذا لم يَسقط هذه المرة فيسقط يوما ما، وإذا استبدل بآخر (السيسي مثلًا)، فسوفَ لن تكونَ له هالةُ ناصرٍ، ولا حتى مُبارك”.

مكسبُ الذاكرةِ الإبداعية للثورة السورية

أنهى مردم بيك مداخلته داعيًا الجمهور إلى زيارةِ مشروعِ الأرشفةِ الكبير للثورة السورية “الذاكرة الإبداعية للثورة السورية”. وأضاف: “هذه الأرشفةُ التي تتَضمَّنُ أعمالَ فنانين تشكيليين وسينمائيين وأدباءَ من الجنسين تُشكِّلُ مكسبًا لا يُقدَّرُ بثمنٍ، ليس لأنها ظفرت باعتراف عالمي، ولكن باعتبارها مرجعية سياسية وإبداعية شاملة تُؤرِّخُ لوعيٍ مجتمعيٍ غير مسبوقٍ، والاعتراف أو التساؤل بشرعيةٍ فكريةٍ عنْ فشلِ الثَّوراتِ يسمحُ بالحديث في الوقت ذاته عن شرعية قوس نضالي عربي انفتح لكي لا يغلق للأبد”.

غريش والمنظور الطبقي

الكاتب والصحافي، آلان غريش، رئيس التحرير السابق لصحيفة “لوموند ديبلوماتيك”، والمسؤول حاليًا عن موقع “أوريان 21” المستقل، الذي أسَّسَهُ قبل عامين إثر تقاعده، كان في مستوى سُمعتِهِ الفكرية والمهنية والأيديولوجية في الوقت نفسه، رغم مُشاركته المتأخرة عبر الشاشة عن بعد في ندوة كان يُفترَضُ أن يَأخُذَ فيها الكلمة بعد مداخلة الأستاذ فاروق مردم بيك. غريش الوفِّي لتوجهه الماركسي أوجز مُداخلته في ثلاث نقاط هو الآخر: فشل الثورات العربية (استعمل هذا الوصف) ليس أمرًا سِلبيًّا حتمًا في نظره، والثَّوراتُ المُضادةُ التّي تَتَجدَّدُ من يوم لآخر، بطرق ملتوية تارة، ومباشرة تارة أخرى، ليست سبقًا تاريخيًا، ولا مفاجأة، لأن كل الثورات تتعرَّضُ بطبيعتها إلى ثورات مُضادة، من مُنطَلَقِ تَضارُب المصالح التي يَفرضُهَا تصوُّرَهُ للصراعات التاريخية من منظور طبقي أضحى أكثرَ وُضوحًا في النقطة الثانية. حسب غريش، الثوراتُ التي فشلت لأنها لم تُطِح بالأنظمة الفاسدة، أو لم تُغيِّر جزئيًا من خريطة المشهد السياسي إلا جزئيًا، أو شبه كُلِّي، كما حدث في السودان وتونس، تَبقَى ثوراتٌ “إيجابية” في جوهرها، لأنها هزَّت عُروشَ أنظمةٍ استبداديةٍ، حتى وإن لم تُسقطها بالكامل، اعتمادًا على نضال جماعي لم يَقُدْهُ زعيمٌ لم يَلبَثْ أن تحوَّلَ إلى كابوسٍ وطاغية، كما أن هذا النضال حرَّر شرائحَ اجتماعية بائسة ونساءٍ غيرَ مُتجانسات أيديولوجيًا رفضًا للقهر الاجتماعي أولًا وقبل كل شيء، وليس من مُنطلق المطالبة بديمقراطية تجريدية ـ إن صحَّ التعبير ـ وهي نفسها الديمقراطية الهلامية والوهمية التي يَعتقدُ أنهَا مُخادِعة حتَّى في المجتمعات الأوروبية التي يعرفها كجيبه بحكم هويته وتخصصه وتجاربه السياسية والمهنية. الثورة التونسية التي يَضرِبُ بهَا المثل، وتَبْقَى مفخرة العرب ـ ومصدر تشبثهم بالقوس التاريخي الذي انفتح بفضل وعيٍ نضاليٍ غيرَ مسبوقٍ ولنْ ينغلقَ على حدِّ تعبير الأستاذ مردم بيك ـ هي الثورة الطبقية بامتياز، حسب غريش، الذي لوَّح بسلاحِ الشاب بوعزيزي الخارج من رحم جحيم معيشي لتأكيد صحةَ مُقاربته الأيديولوجية التي أشهرَهَا في وجهِ فرنسيس فوكوياما، صاحب نظرية نهاية التاريخ بعد انتصار النموذج الليبرالي.

هذا النموذجُ هو السّبب الأول والأخير في اندلاع الثورات العربية في تقديره، وفي فشلِ مشاريعِ مُناهِضيها في الوقتِ نفسه من الإسلاميين، أو غيرهم من المعارضين المُؤمنينَ بطبخةِ صندوقِ النَّقدِ الدولي القاتلة اجتماعيًا للسواد الأعظم من البشرية، وليس للعرب والمسلمين والأفارقة. أمثلةٌ عديدة ساقها غريش من منطلق معتقده الأيديولوجي، وتحليله، مستعينًا بطرح الكاتب آصف بيات، الإيراني الأصل، ومؤلف كتاب “ثورات بدون ثوار”، الصادر باللغة الإنكليزية. وساندَ غريش على طُول الخط الأستاذ مردم بيك، ابن سورية التي لم يحكمها الجبروت السياسي فحسب، بل الترقيع الاقتصادي المرادف لجملوكيات برجوازية افترست خيرات البلد (أكلت البلاد حسب تعبير الحراكيين الجزائريين) خَاضعةٍ للسُّوقِ الحرة التي تُمكِّنُ المتنفذين والتابعين للبلاط المستبد من جمع ثروات لا تسعها عشرات الأكياس، وتُهرَّبُ للخارج بمساعدة أطراف أوحَتْ لهَا بالحلِّ الذي لا يخدم “الناس اللي تحت” على حد تعبير المسرحي المصري الراحل، نعمان عاشور.

***

بغض النظر عن مدى واقعية وصواب ما قاله مردم بيك، وغريش، في مداخلتهما، يمكنني القول إنه لولا وُجودهما لانتفت أهمية الندوة المذكورة، لأن الأستاذة خريفة جاءت إلى معهدِ العالم العربي لاختزال الثورات العربية في التحرر النسوي فقط.

ورغم أهمية الحدث مبدئيًا، كنت أتمنى حضورَ شخصياتٍ أخرى من توجُّهاتٍ مختلفة مغايرة لأصحاب الآراء الهامة التي طغت في الندوة، علمًا أن أسماءَ بارزة كتبت عن الثورات العربية من منطلق تداعياتها الربيعية والشتوية، وكان وجودها ضروريًا للإحاطة بخصوصيات تجارب عربية ثورية تضمن هامشًا أكبر للاختلاف، وتتجنب الاتفاق الأحادي الجانب. النقاش الذي دار بين الجمهور والمشاركين في الندوة كان هو الآخر هامًا بوجه عام، وطرح بعض الحاضرين أسئلة عن الثورة الفلسطينية التي تأخرت، وعن الثورة في إسرائيل أيضًا؟

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى