سياسة

الدولة السورية الفاشلة والسقوط المحتّم/ عبير نصر

في التقريرِ الذي أعدّه صندوقُ دعمِ السلام الأمريكي ونشرته دورية “فورين أفيرز” الشهيرة، لم يتمّ التأكيد فقط من وجودِ قصورٍ مفزعٍ في أداء الدول العربية، إنما قُرّر أنّ كثيراً منها قد انهار بالفعل. الفاشلة

على هذا فقد ظهر تعبيرُ “الدول الفاشلة” لأولِ مرّةٍ قبل عدّة سنوات، كمصطلحٍ يستنـد إلى مؤشراتٍ محدّدة أعدّتها مراكز بحثية معروفة، مبينة أنّ الدولَ التي لا يمكنها السيطرة على أراضيها، عادة ما تلجأ إلى استخدامِ القوة والعنف، في وقتٍ تعجز فيه حكوماتها عن اتّـخاذ قراراتٍ صائبة، أو إحداثِ تأثيرٍ في حياة الناس أو اتجاه الأحداث، أيضاً عجزها عن تقديمِ الخدماتِ الأساسية لمواطنيها، وفشلها في التعامل بفعاليةٍ مع المجتمع الدولي، بالإضافة إلى فقدانِ الشرعية، وانتشار الجريمة وفسادِ الحُـكم، والتمرّداتِ الاجتماعية، وانتهاكِ القانون، والتدخلاتِ الخارجية، والتدهورِ الاقتصادي، وحكمِ الأقلية، وفرارِ المواطنين، ونقصِ الغذاء، والوضعِ الصحي والمستوى التعليمي الكارثي، كما هو الواقع في سوريا بطبيعة الحال.

وبينما يتواصل تدهورُ الحياةِ السورية بعمومها تأتي قرارات الحكومة البائسة لتعزز هذا التدهور الخطير، وليس آخرها بالطبع إصدار محافظ دمشق قراراً يقضي بإقفالِ الأسواق التجارية، وتحديدِ مواعيدِ عمل شتّى الفعاليات الأخرى وسط أزمةِ كهرباءٍ خانقة. ويختصُّ قسمُ شرطة محافظة دمشق بتسطيرِ مخالفاتٍ يوميةٍ بحقّ المخالفين، ما أزعج التجار الذين تقدموا بعريضةٍ عبر غرفة تجارة دمشق، للاعتراض على القرارِ الذي لم يبيّن الأسباب التي دفعت لإصداره، ما أدى إلى تعديله. في المقابل لاقى القرارُ انتقاداً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أشار كثيرٌ من السوريين إلى الضررِ الاقتصادي والمالي الذي يمكن أن يتسبّبَ به.

من جهته، كشف نائبُ رئيس مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق، أنّ “قرار إغلاقِ المحال في وقتٍ محدّد هدفه توفير الكهرباء”. مشدداً على أنه في حال تمّ الاستمرار بتطبيقِ القرار الصادر يجب أن يعتادَ المواطنون على التسوّق خلال الفترة التي حُدّدت للفتحِ والإغلاق، وختم بأنّ حركة البيع والشراء ضعيفة حالياً نتيجة الوضع الاقتصادي الصعب، وتوجّه الناس فقط لشراء الاحتياجات الضرورية، مبيناً في الوقت نفسه أنّ “الألبسة كانت سابقاً من الضروريات، باتت اليوم من المستحيلات نتيجة ضعف القدرة الشرائية للمواطن”.

وجنونُ القراراتِ العبثية لم يتوقف هنا، فخروج وزير التربية السوري في حكومةِ تسيير الأعمال، دارم طباع، وإعلانه عن عملية إدخال “التعلّم الوجداني الاجتماعي” في مختلف المراحل التعليمية، يكتسب من خلالها الطالبُ مهارات التعامل مع الآخر، كذلك قيم التعاطف والتسامح، يكشف مدى انفصام الوزير عن واقعِ التعليم المأساوي الذي وصلت إليه الدولة السورية، إذ إنّ الأضرارَ التي لحقت بالقطاع التربوي خلال سنوات الحرب كانت حوالي /8000/ مدرسة، منها /1000/ مدرسة بحاجة إلى هدمٍ وإعادة بناء، بالإضافة إلى تدميرِ العديد من الآليات، والوسائل، والتجهيزات التعليمية، وتحويلِ بعض المدارس إلى مراكز إيواء للمهجرين. بينما تشير الإحصائياتُ إلى أرقامٍ مرعبة بالنسبة لعددِ الأطفال المحرومين من حقّهم في التعليم، سواء من النازحين داخلياً، أو اللاجئين في دول الجوار. ولا يتوقف الأمرُ على خطورة حرمانهم من التعليم، وإنما يتعدّى إلى آثارِ الانحرافات الأخلاقية والسلوكية التي يعيشها من وجدَ نفسه يقفز فجأة من طفلِ مدرسة إلى عوالمِ الجريمةِ والقتلِ والسرقةِ والتسوّل. أما الأطفال القادرون على الالتحاق بالمدارس، فإنهم يتعلمون في الغالب في صفوفٍ دراسيةٍ مكتظّة، وفي مبانٍ لا تحتوي على ما يكفي من المياه، ومرافق الصرف الصحي، والكهرباء، والتدفئة أو التهوية.

لا شكّ هذا الانفصام المستفِزّ له تداعيات مباشرة على الأوضاع المعيشية. خذ مثالاً آخر: فبينما يزداد اعتمادُ الأسر السورية على الدعم الحكومي لعددٍ من المواد والخدمات الأساسية، إلا أنّ ذلك بات مهدداً مع القرارات الأخيرة القاضية بزيادة أسعار السلع المدعومة، بينما تشير معطياتٌ جمّة أنّ حكومةَ النظام السوري تسير تدريجياً باتجاه إزالةِ الدعم عن المواد التي يحتاجها المواطنون، من الخبز إلى المحروقات التي تشكّل عصبَ الحياة والتنقّل. وعجز الحكومة مردّه إلى عوامل عدّة، أولها سوء إدارة السياسات النقدية وانهيار سعر الصرف، ومن ثم تآكل الموازنة الحكومية، التي تضم في بنودها ضرورة دعم السلع والخدمات.

وثانيها تغوّل أمراء الحرب في قطاع الاقتصاد، حيث باتوا يسيطرون على قطاعات الدولة كافة ويعطلونها بالفساد، أيضاً يرسمون خططاً تتعلق بآليات التعاقد وما إلى ذلك. كما إنّ رفعَ الدعم عن السلع الرئيسية محاولةٌ فاشلةٌ لإنقاذ ما تبقى من الموازنة، بينما يمهّدُ الطريقَ لولادةِ كارثةٍ اقتصاديةٍ محتّمة.

تبدّت أولى ملامحها إثر إصدار وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك القرار رقم (205) الخاص بتوزيع الخبز، وفق آليةٍ جديدة تقوم على تقسيم الأسر إلى شرائح حسب عدد الأفراد فيها. وعليه يحقّ للشخصِ الواحد ربطة واحدة كلّ ثلاثة أيام. كذلك بالنسبة للأسرة المؤلفة من شخصين، تحصل على ربطتَي خبز كلّ ثلاثة أيام. أما الأسر التي يتراوح عدد أفرادها بين 4 و6 أشخاص، فتحصل على ربطتَي خبز في اليوم. وكانت الحصصُ في السابق تعادل وسطياً أكثر من أربعة أرغفة للشخص الواحد، تزيد وتنقص قليلاً حسب الشرائح، لكن تراجعت بموجب القرار الجديد إلى ما يقلّ عن أربعةِ أرغفة، وبما يعادل رغيفين وثلث الرغيف يومياً للشخص الواحد.

ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى أنّ أولى إشارات تداعي الدولة السورية (الفاشلة) ظهر جليّاً في الخطةِ الحكوميةِ في موازنة العام 2020، حيث أعلنت عن تخفيضِ قيمةِ الاعتمادات المالية المخصصة لبند الدعم الاجتماعي، (مساهمة الدولة في تثبيت أسعار بعض السلع والخدمات الرئيسية)، من حوالي 811 مليار ليرة في موازنة العام 2019 إلى حوالي 373 مليار ليرة في 2020. إلا أنّ المؤشرات النهائية للإنفاق أكدت أنّ الحكومةَ تجاوزت حدود تلك الاعتمادات.

أما الدعم المقدّر للمشتقاتِ النفطية، ارتفعت قيمةُ اعتماداته وفق مضمونِ البيان المالي المقدّم من الحكومة إلى مجلس الشعب من 11 مليار ليرة في موازنة العام 2020 إلى 1500 مليار ليرة في موازنة العام 2021. كذلك الأمر بالنسبة إلى الدعم المقدّر للدقيق التمويني والخميرة في توفير الخبز، والبالغ في موازنة العام 2021 حوالي 700 مليار ليرة، بعد أن كان بحدود 337 مليار ليرة في موازنة العام الماضي، أما بالنسبة إلى اعتمادات صندوق المعونة الاجتماعية فارتفعت من 15 مليار ليرة في عام 2020 إلى 50 مليار ليرة في عام 2021، وصندوق الدعم الزراعي من 10 مليارات ليرة إلى 50 مليار ليرة. في حين أنّ مؤشرات المسوح الثلاثة للأمن الغذائي، التي نفذتها حكومة النظام السوري بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي خلال السنوات 2015-2017-2019 أظهرت أنّ ثلثَ السوريين تقريباً يعانون من انعدامِ الأمن الغذائي، وأنّ حوالي النصف معرضون لفقدانه. بناء عليه من الواضح أنّ تداعي الدولة السورية بات واقعاً ملموساً إلى حدّ كبير.

حدث من خلال عمليةِ التفكك التدريجي بدلاً من الانهيار المفاجئ، فصفةُ الدولة غدَت بمثابة واجهة تعمل خلفها شبكة من المفترسين والأطراف الفاعلة الأجنبية، وثمّةَ مؤشرات واضحة وضوح الشمس تدلُّ على أن هذا الوضع الكارثي سيستمر لسنوات طويلة قادمة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى