أبحاث

مشروع الدولة المدنيّة في سورية من منظور نقدي/ رسلان عامر

كل مراجع المقال تجدها هنا بعد المقال مباشرة -تم تجميعها عبر موقعنا “صفحات سورية”

مع انطلاقة الربيع العربي، وما أحدثه من تغيرات مؤثرة على مختلف صعد الساحة العربية، صار مصطلح “الدولة المدنية” واحدًا من المصطلحات التي يكثر الحديث عنها إلى جانب مصطلحات “الدولة الديمقراطية” و”الدولة العلمانية” و”الدولة الإسلامية”، في سياق الطروحات المطروحة للحل السياسي المنشود لبناء الدولة العربية الحديثة؛ فما معنى هذا المصطلح ومدلوله، وما مدى واقعيته كمشروع في إطار السعي إلى حل للمستقبل السوري، ولا سيّما أن حركة التغيير السورية أو الربيع السوري هو -على كل خصوصياته- جزء من الربيع العربي، ويشترك معه بالقواسم السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية العامة؟

1-ماذا تعني “الدولة المدنيّة”؟

ليس هناك مفهوم موحد مجمع عليه لمصطلح الدولة المدنية، والمفاهيم تتعدد وفقًا للمرجعية أو العقيدة أو الفلسفة أو الغاية التي يتبعها أو ينتمي إليها كل صاحب مفهوم، ما يؤدي إلى ضبابية وعدم وضوح المفهوم، واختلاف دلالته بل تناقضها، وهذا المصطلح -في رأي العديد من الباحثين العرب- هو “مصطلح عربي حديث”، وهو لا يستخدم في العلوم الإنسانية أو الفلسفات السياسية الغربية، وقد تم طرحه عربيًا لتجاوز الخلافات بين المحافظين والمحدّثين، وبين العلمانيين والإسلاميين العرب، وبذلك يصبح حلًا وسطيًا بين الأطراف المختلفة، وبديلًا عن كل من “الدولة العلمانية” و”الدولة الدينية” معًا.

مع ذلك، فقد انعكست الخلافات القائمة على “المصطلح نفسه”، وتعددت مفاهيمه وتضاربت، إلى درجة جعلته أكثر التباسًا من سواه من المصطلحات الأخرى.

وفي هذا الشأن، يقول الباحث المغربي في الفلسفة والفكر المعاصر فؤاد هراجة: «يعد مصطلح “الدولة المدنية” مصطلحًا طارئًا على حقل العلوم والفلسفة السياسيين. وهو مصطلح لا تجد له أي أثر أو وجود في العلوم السياسية الغربية، قديمها وحديثها ومعاصرها. ولعل هذه المعلومة قد تشكل أول صدمة في مستهل هذا الموضوع؛ فمصطلح “الدولة المدنية” هو اختراع عربي مُحْدَث، وُلِدَ في خضمّ السجال اللائيكي/ الإسلامي حول طبيعة الدولة المراد تأسيسها بعد مرحلة التغيير التي يبشر بها كل طرف…»([1]).

 وإذا ما تأملنا في الآراء المطروحة على الساحة العربية، بخصوص مصطلح “الدولة المدنية”، أمكننا تصنيفها في أربعة أصناف، وهي:

1- “الدولة المدنية هي الدولة الإسلامية الصحية”، ويرى أصحاب هذا الرأي أن الحاكم في الشريعة الإسلامية يتم يختاره من قبل الأمة، وهو مسؤول أمامها، وهي تستطيع محاسبته وعزله، إن اقتضى الأمر، وبذلك يختلف نظام الحكم الإسلامي عن النمط الغربي الثيوقراطي، الذي كان يحكم فيه الكهنة بموجب”حق سماوي”، لا يسألون فيه ولا يساءلون ولا يحاسبون، وبذلك يكون لديهم سلطة مطلقة بدون أي رقيب أو حسيب، وبما أن نظام الحكم في الإسلام ليس فيه “كهنة” ولا “حق سماوي”، والحاكم فيه يعتبر مكلفًا من قبل الأمة وخادمًا لها، يرى بعض الفقهاء والمفكرين أن نظام الحكم في الإسلام هو “مدني”، وليس ديني بمعنى “ثيوقراطي”، ومن هؤلاء المفكر الإسلامي، الدكتور محمد عمارة، حيث يقول: «الدولة الإسلامية دولة مدنيَّة، تقوم على المؤسسات، والشورى هي آلية اتخاذ القرارات في جميع مؤسساتها، والأمة فيها هي مصدر السلطات شريطةَ ألَّا تُحِلَّ حرامًا، أو تحرِّمَ حلالًا، جاءت بِه النصوص الدينيَّة قطعيَّة الدلالة والثبوت. هي دولة مدنيَّة؛ لأنَّ النظم والمؤسسات والآليات فيها تصنعها الأمة…. إلخ»([2]).

2- “الدولة المدنية هي دولة ديمقراطية حديثة ذات مرجعية إسلامية”، والمرجعية الإسلامية هنا لا تعني تطبيق الشريعة وحدودها بشكل حرفي، ولكنها تلزم رسميًا بسنّ قوانين الدولة بشكل لا تتعارض فيه مع مقاصد الشريعة الإسلامية، وهذا يعني أن الدولة المدنية التي تعاقب السارق بالسجن ولا تقطع يده، تكون بذلك قد حققت مقصد الشريعة الإسلامية المتمثل بمكافحة السرقة، ومثل هذا الموقف نجده في رأي الشيخ عبد الله اليوسف الذي يقول: «الدولة المدنية، كتعبير حديث عن عصرنة الدولة وتحديثها بما يتلاءم مع التغيرات الجديدة، لا تتعارض مع تطبيق الشريعة الإسلامية، ما دامت الدولة مرجعيتها الإسلام، أو هكذا يجب أن تكون في البلاد الإسلامية، فالدولة الحديثة بما فيها من آليات ونظم وقوانين، إذا لم يكن فيها ما يتعارض مع ثوابت الإسلام الكلية، فلا يوجد ما يمنع من تطوير الدولة والاستفادة من تجارب الأمم المتقدمة كمنجز إنساني يجب استثماره لصالح تقدمنا وتطورنا»([3]).

3-“الدولة المدنية هي دولة ديمقراطية حديثة ذات خصوصية عربية إسلامية”، وهذا يعني أنها ديمقراطيًا كسواها من الدول الديمقراطية في العالم، ولكنها في منطقتنا العربية تراعي الخصوصية الدينية والثقافية لمجتمعاتنا العربية، وتسنّ قوانينها بما يتناسب مع هذه الخصوصية، ولا تقلّد أو تستورد التجارب الأجنبية، وعن هذا يقول المختص في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية حسني الخطيب: «فكرة الدولة المدنية، سواء ورَدَ هذا المصطلح أو لم يرد في أدبيات العلوم السياسية، لم تظهر على الساحة إلا في وقت متأخر، وخصوصًا خلال العقود الثلاثة الأخيرة في العالم العربي، ولا سيما بعد موجة ما سُمّي بالربيع العربي، لذلك فإن هذا المصطلح أثار ويثير مثل هذا التجاذُب والتعارض والأخذ والرّد، وذلك لأنه لم يتم تكييفه أو توطينه بعد في دولنا ومجتمعاتنا العربية، بما يتناسب مع الخصوصية الدينية والثقافية لمنطقتنا»([4]).

4- “الدولة المدنية الحقيقية هي دولة علمانية”، وكأي دولة مماثلة يتم فيها بشكل صريح الفصل التام بين الدولة والدين، وهذا الرأي يتبناه الدكتور جابر عصفور الذي يقول، في مقالة له نشرت حديثًا بعنوان “الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة”: «ينبغى أن نضع فى اعتبارنا أن مصطلح مدنية فى هذا العنوان لا يختلف كثيرًا عن مصطلح علمانية، فكلاهما يتحدان فى الدائرة الدلالية التى تشير إلى معنى واحد، هو فصل الدين عن الدولة، وتأكيد حقوق المواطنة لجميع المواطنين بالمساواة الكاملة بينهم، بغض النظر عن عقائدهم أو مكاناتهم الاجتماعية أو أصولهم العِرقية… حقيقةُ معنى الدولة المدنية تظل هي الفاصل الحاسم بين الدين والدولة… والصفة الديمقراطية تعني فى جانبها المدني، إلغاء أية سُلطة سوى سُلطة القانون أو الدستور، ومن ثم فإن ادعاء البعض بأن الأزهر أو الكنيسة بأنه سُلطة دينية موازية لسُلطة الدولة إنما هو ادعاء باطل..»([5]).

2- إلى ماذا سيقودنا كل هذا الاختلاف؟

كما نرى في ما تم عرضه، تحولَ مصطلحُ “الدولة المدنية”، الذي كان يفترض به أن يغدو المخرج من حالة التجاذب والخصام بين القوى السياسية المختلفة، إلى قالب يعاد من خلاله طرح مضامين هذه الخلافات نفسها، ما يعني أننا أصبحنا أمام “دول مدنية متعددة”، لا أمام “دولة مدنية واحدة محددة”. وهذه الخلافات هي خلافات كبيرة، وتنشأ عنها مفاعيل ليس شديدة التباين وحسب.. بل متناقضة في أحيان كثيرة مرتبطة بكيفية التعامل مع قضايا كبيرة ومعقدة.

ولنأخذ مشكلة المرأة مثلًا..

إن دولة مدنية إسلامية مفترضة، وإسلامية هذه الدولة واقعيًا ستبقى رهنًا بالقوى الإسلامية القادرة على فرض سلطتها في هذه الدولة، وتحديد شكل المدنية في حدود فهمها الخاص لكل من الإسلام والمدنية، ستبقى هذه الدولة المدنية الإسلامية تتعامل مع قضية المرأة في إطار الثوابت التقليدية الراسخة التي لا تساوي بينها وبين الرجل، مثل الزواج والطلاق والميراث والشهادة القضائية وغيرها، وكثير من الإسلاميين أنفسهم يعلنون بصراحة رفضهم الحازم لفكرة المساواة بين الجنسين، ويستبدلون “مبدأ المساواة” بـ “مبدأ العدل”، الذي يعني من وجهة نظرهم معاملة كلّ من الرجل والمرأة، وفق ما تقتضيه طبيعتاهما المختلفتين، وهكذا فـ “منع تعدد الزوجات” -مثلًا- سيعدّ “تحريمًا لمحلل”، والمساواة في الميراث ستعتبر “تحليلًا لمحرّم”، ولن تأخذ مثل هذه القضايا الإشكالية سبيلها إلى التغيير والحلّ.

في دولة تجمع في بنيتها بين الدين والسياسة، لن تكون هناك ضمانات ولا حتى إمكانات كافية لحل العديد من المشكلات، ولا سيما أن معظم القوى الإسلامية الموجودة على الساحة العربية هي واقعيًا من النوع المتشدد أو المتطرف، وهي ما تزال تتعامل مع المرأة بذهنية تقليدية سلفية، وهي إما لا تعترف بالآخر، وإما لا تقبل التساوي معه، وهكذا دواليك…

سؤال “مشكلة المرأة” هذا يمكن أن يواجهنا أيضًا حتى في حالة “الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية”.. فسواء استخدمت الشريعة قانونًا أو مرجعًا، ستبقى المواقف كما هي، وسترفض هذه المرجعية القوانين المدنية الموضوعة لحل هذه المشكلة، إن كانت تتعارض معها كـ “مرجعية شرعية”.

هذا الموضوع يصبح التعامل معه مختلفًا، في حالة “الدولة المدنية ذات الخصوصية العربية”، فالخصوصية هي مسألة اعتبارية.. وليس لها صفة قانونية ملزمة كالمرجعية، وبالتالي لا تكون هذه الدولة ملزَمة قانونيًا بعدم سن قوانين لا تتفق مع الشريعة، ويبقى الأمر اعتباريًا.. بل براغماتيًا، مثل هذه الدولة يمكنها أن تسنّ قانونًا كمنع تعدد الزوجات أو المساواة في الميراث، في الظروف الواقعية المناسبة، ولكنها مثلًا لن تسنّ في مجتمع محافظ قانونًا يسمح بـ “المساكنة”، وهنا يتجلى احترام الخصوصية الثقافية والدينية.

وبالنسبة إلى الدولة المدنية، كدولة علمانية، تكون الصورة أكثر وضوحًا والمواقف أكثر حزمًا، ولكن حتى دولة علمانية حازمة لن تضرب عرض الحائط بثقافة وتقاليد شعبها، فتستورد قوانين أجنبية تتناقض مع هذه الثقافة والتقاليد، فالعلمانية لا تفعل هذا بتاتًا، لأنها تقوم على العقلانية الواقعية، وبالتالي يمكن القول إن دولة مدنية علمانية لن يكون لديها مشكلة بتاتًا في سن قانون يعتمد مبدأ “الزواج المدني”، ولكنها أيضًا في مجتمع محافظ لن تفكر بقانون يسمح بـ “زواج المثليين”.

هذه الاختلافات الكبيرة التي يمكن أن تنشأ وفقًا لمفهوم “الدولة المدنية” المعتمد، يمكنها أن تضعنا في حالة حيرة كبيرة بشأن النموذج المدني المطلوب في سورية، وللخروج من هذا المشكلة، يمكننا أن نعود إلى التاريخ السوري بحثًا عن حل لها، وقبل ذلك علينا أيضًا أن نجيب عن ضرورة طرح “خيار الدولة المدنية”، ولماذا لا يتم بدلًا عن ذلك طرح المشروع العلماني بشكل واضح وحازم، وبذلك نتجنب ملابسات أطروحة “الدولة المدنية”؟

3- ما هي ضرورة طرح مشروع “الدولة المدنية”:

إن الجواب عن السؤال عن سبب التوجه إلى دولة مدنيّة، لا إلى دولة علمانية بشكل مباشر، يتمثل على الساحة السورية -والساحة العربية أيضًا- بعدم وجود القوى العلمانية المهيأة لتطبيق العلمانية الصحيحة من ناحية، وبوجود القوى الإسلامية القادرة على إفشال هذا المشروع.. عند طرحه كمشروع يتجاهل وجودها ومواقفها من ناحية ثانية، وهذا يعيدنا من منطلق واقعي إلى مقولة “الحلّ التوافقي”، عدا ذلك، فمن الضروري جدًا التشديد على المفهوم الصحيح للعلمانية المطلوبة مبدئيًا للحل في سورية، فكثير من مدعي العلمانية في سورية وغيرها من الدول العربية.. دفعتهم علمانيتهم المزعومة إلى تأييد ودعم الدكتاتوريات الحاكمة، التي تدّعي هي بدورها العلمانية أحيانًا، وذريعة أولئك العلمانيين المزعومين هي ضرب “القوى الظلامية” المتمثلة بـ”الحركات الإسلامية”، ما جعل مثل هذه العلمانية تغدو غطاءً وتبريرًا للقمع والعنف، وفي هذا الشأن، يقول برهان غليون: «تقف العلمانية في مقدمة المعركة من أجل الحرية، ومنها تستمد مشروعية وجودها. ولن يكون لها مستقبل في العالم العربي إلا بقدر ما تساهم في هذه المعركة وتعمل على الانتصار فيها. ويتطلب هذا من العلمانيين رفض أي مشاركة في المؤامرة ضد الحرية، لا من خلال دعمهم للنظم الاستبدادية والتغطية على استبدادها وتزيينه، أو رشّ السكر عليه بتحويله إلى حاجز ضد الظلامية، ولا عن طريق اغتيال المعرفة الموضوعية وإخضاعها للعقيدة وأحكامها الذاتية والمصلحية، وللمصالح السياسية»([6]).

يمكن الجواب، ببساطة وواقعية، عن ضرورة طرح مشروع “الدولة المدنية” وليس “الدولة العلمانية” في سورية، بأن هذا عائد إلى وجود حقيقيتين على أرض الواقع، لا يمكن إنكارهما أو تجاهلهما، وهما أن القوى الإسلامية لها حضور كبير، وهذا لا يقتصر على تنظيمات وحركات الإسلام السياسي، بل يضمن أيضًا المؤسسات الدينية التقليدية والنشاطات الدعوية والإعلامية وغيرها من الفعاليات، وفي مقابل ذلك، نجد حضورًا ضعيفًا للقوى للعلماينة، وحضورًا أفضل نسبيًا للقوى الوسطية التي لا يمكن تصنيفها كقوى إسلامية أو قوى علمانية، ويدخل في عدادها مثقفون وسياسيون وتكنوقراطيون واقتصاديون ومتدينون عفويون غير مسيسين أو متشددين وهلمّ جرّا، وهذا ما يجعل “الدولة المدنية” هي الطرح الأنسب في المرحلة الراهنة، وهذا كلّه بالطبع يرتبط بنجاح عملية الخلاص من الدكتاتورية أولًا، وهذا المهمة لم تنجز بعد.

بعد كل ما تقدّم، نسأل: ما هي الدولة المدنية المطلوبة والممكنة في سورية؟!

4-الدولة المدنية في سورية.. هل هي الحل؟

إذا ما تأمّلنا في التاريخ السوري الحديث، أمكننا أن نجزم بدون أي تعقيد أن التجربة السورية الديمقراطية، في مرحلة ما بعد الاستقلال، التي انتهت باستيلاء البعث على السلطة عام 1963، كانت، بالرغم من كل عيوبها وعثراتها، تجسيدًا فعليًا لفكرة “الدولة المدنية”، بمفهومها كدولة ديمقراطية متوافقة مع الإسلام، فالدولة في تلك الحقبة امتلكت كثيرًا من سمات الدولة الحديثة، ومن عوامل الديمقراطية، ومن ذلك مثلًا: تداول السلطة الفعلي، والانتخابات الحقيقية، وفصل السلطات، والتعددية السياسية، واستقلال الإعلام، وحرية العمل السياسي والثقافي والإعلامي؛ والدولة التي تمكنت في خمسينيات القرن الماضي -مثلًا- من الجمع ديمقراطيًا بين الليبرالي والقومي والشيوعي والإخواني وسواهم تحت قبة برلمان واحد، ولم يحصل فيها الإخوان المسلمون إلا على أقل من 3% من مقاعد البرلمان (4 من 140) في انتخابات عام 1954، لا يمكن وصفها إلا بأنها “ديمقراطية” و”مدنية”.

فهل يمكن النجاح في تجربة مماثلة في المستقبل المنظور؟

بهذا الشأن، تقول الكاتبة السورية سحر حويجة والمحامية والسجينة السياسية السابقة: إن “أغلب تيارات الإسلام السياسي اتخذت موقفًا مغايرًا، رأت فيه أن الأصول الإسلامية لا تتنافى في شيء مع مفهوم الدولة المدنية، بل تؤسس لها وتتفق معها. في المقابل نجد عددًا من القوى والشخصيات العلمانية في سورية تبتعد عن العلمانية، بل تتخلى عنها لصالح الدولة المدنيّة، منهم برهان غليون وحسن عبد العظيم المنسق العام لهيئة التنسيق الوطنية الذي يعلن أنه مع الدولة المدنية بوصفها دولة المدينة وصحيفة المدينة، وهي التي أنشأها النبي العربي منذ 14 قرنًا، ويبرر استخدامه لمصطلح المدنيّة، بأن للعلمانية حساسية في القواعد الشعبية. من بين المتراجعين أيضًا، المعارض حازم نهار، الذي كان يقول إن سرّ نجاح أي ثورة هو منطقها العلماني، لكنه حاليًا يسوّق للدولة المدنية، على اعتبار أن الشارع يملك حساسية تجاه كلمة العلمانية. وأيضًا رئيس تيار بناء الدولة السورية لؤي حسين الذي يعتبر الاستبدال هو في المصطلح فقط وليس المضمون”.

وتعتمد السيدة سحر في كلامها على تقرير لوسام العبد الله، بعنوان “العلمانية في سورية بين المجتمع والسلطة”، نشر في موقع “اليوم الثالث” بتاريخ 27 آب/ أغسطس 2017([7]).

وتتبنى حسيبة عبد الرحمن، الكاتبة والناشطة السورية التي أمضت ثماني سنوات في السجن، مما يحدث موقفًا سلبيًا يشاركها إياه كثيرون على الساحة السورية، فتقول في مقال لها، في 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2019: «حمل الانفجار الجماهيري الكبير (2011) احتماليات مستقبلية كبيرة من مشاريع وبرامج جذرية لمسارات ديموقراطية وعلمانية (ونفث أيضًا بواطنه المتخلفة)، ولكن للأسف كانت قواه الفاعلة والمحركة، سياسيًا وشعبيًا، من الإسلام السياسي التقليدي بتلاوينه المتعددة، لأن اليسار الماركسي والقومي فقد مشروعيته ومشاريعه، والقوى الليبرالية (الحداثوية) ضعيفة، ولذا لم يُطرح أي مشروع نهضوي، واقتصر حقل الصراع على السلطة (وأهمية صندوق الانتخاب)، وترافق ذلك مع تنظير بعض النخب العلمانية لمصطلح الدولة المدنية بدل العلمانية، كخطوة تراجعية عمّا طرح طوال العقود المنصرمة. وفي هذا الإطار، يأتي تخلّي برهان غليون، في مقابلته التلفزيونية مع المؤسسة الوطنية للإرسال (إل بي سي)، عن الدولة العلمانية بما تمثل، إلى الدولة المدنية كمحصلة لاتفاقه مع الإسلاميين وغيره الكثير. وهذا التراجع هدف إلى تسويق مفهوم الدولة المدنية، تمهيدًا للحكم الإسلامي على النموذج التركي، وبرروا ذلك بأنه استبدال للاسم فقط، وليس المضمون»([8]).

فهل ما يُطرح على الساحة الراهنة من توجه باتجاه “الدولة المدنية” يأتي في إطار “صفقة سياسية مشبوهة” أم هو فعلًا توافق براغماتي سياسي واقعي؟

هذا الأمر لا يمكن إعطاء جواب له دون النظر إلى الواقع السوري بواقعية، فإن كانت السيدة حسيبة عبد الرحمن نفسها تعترف بأنه في الواقع السوري اليسار الماركسي والقومي فقد مشروعيته ومشاريعه، والقوى الليبرالية (الحداثوية) ضعيفة، وتتأسف لكون القوى الفاعلة هي “الإسلام السياسي”، فمن هي إذًا القوى التي ستحقق “المشروع العلماني”؟ أو هل سيتحقق بدون قوى؟!

من الواقعية والعقلانية، في مثل هذه الظروف، الحديث عن مشروع ديمقراطي مشابه لدولة ما بعد الاستقلال الديمقراطية، بالرغم من كل عيوبها وعثراتها، وإلا فسيكون على القوى العلمانية الضعيفة، التي لا تسطيع أن تكون قطبًا حاسمًا بنفسها أن تبحث عن بديل دكتاتوري، بسبب رهابها من القوى الإسلامية، أو تبقى خارج أي حل واقعي تنظّر في نرجسية عن مشروع علماني لا تستطيع تحقيقه.

في هذا السياق، وإضافة إلى الاستفادة العقلانية من تجربة الخمسينيات السورية، يجدر بنا الاستفادة أيضًا من تجربتي مصر وتونس الحديثتين، وهذا الكلام موجه إلى كل من العلمانيين والإسلاميين وغيرهم من القوى، فعنت الإسلاميين في مصر وسعيهم الأناني للتفرد بالحكم.. دفع العلمانيين وغيرهم من القوى المتضررة والمتخوفة إلى “معسكر النظام السابق”، وأدى إلى “الثورة المضادة” في المحصلة، وعودة “حكم العسكر” ومعه “الاستبداد والفساد”، أما التفاهم في تونس.. فقد حمى الثورة التونسية من النكسة، وفي ما يتعلق بتونس، يجدر التنبيه إلى أن توطئة الدستور التونسي تقول إن أحد أسس رسم الدستور هي أنه يأتي “تعبيرًا عن تمسك شعبنا بتعاليم الإسلام ومقاصده المتّسمة بالتفتّح والاعتدال، وبالقيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان الكونية السامية، واستلهامًا من رصيدنا الحضاري على تعاقب أحقاب تاريخنا، ومن حركاتنا الإصلاحية المستنيرة المستندة إلى مقوّمات هويتنا العربية الإسلامية وإلى الكسب الحضاري الإنساني…”، ويقول الفصل الأول من الباب الأول منه: “تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها”، ويقول الفصل السادس من الباب نفسه: “الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدّسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها” ([9]).

فالدستور التونسي -كما نرى- يتضمن فقرات ذات طابع إسلامي، كالحديث عن دين الدولة ورعاية الدولة للدين، وهذا لا يتفق مع العلمانية، ولكن الدولة في الوقت نفسه تكفل حرية الضمير، وتلتزم بعدم تحزيب المساجد ودور العبادة ومنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية، وما شابه من القيم الإنسانية العصرية، ما يعني بالتالي أنه من الأوجب القول بأن تونس هي “دولة مدنية”، وليست “علمانية”.

5- نظرة ناقدة على مشروع “الدولة المدنية” في سورية:

بالطبع، الحديث عن تجربة ما بعد الاستقلال في سورية، وعن التجربة التونسية الراهنة، وعن إمكانية الاستفادة منهما، لا يعني قابليتهما للتكرار أو التقليد في سورية الراهنة، لأن هناك اختلافات جذرية في الظروف، فسورية حتى الآن لم تتخلص بعد من الدكتاتورية، وقد تسبب الصراع العنيف فيها بخسائر بشرية ومعنوية ومادية هائلة، وهي اليوم مشرذمة، بالمعاني الاجتماعية والسياسية والجيوسياسية، واقتصادها منهار، والفساد فيها مستفحل، وعلى أرضها العديد من القوى الأجنبية، والتدخلات الأجنبية فيها تصل إلى أقصى الحدود، وهي تفتقر إلى رافعة وطنية حقيقية، وكل هذا لم يكن موجودًا فيها في مرحلة ما بعد الاستقلال، وليس موجودًا في تونس اليوم.

مع ذلك، تبقى ضرورة البحث عن حل تحوز أهمية قصوى، والحديث اليوم عن مشروع “دولة مدنية” لا يعني “نهاية اللعبة”.. إنما يعني -في حال التوافق عليه- انتهاء جزء من المرحلة التمهيدية في عملية بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، وهذا يعني استمرار العمل على تطوير هذه الدولة إلى ما هو أفضل وأثبت إنسانيًا. وبناء على ذلك، يجب القول منذ الآن إن دولة مدنية ديمقراطية ذات مرجعية إسلامية.. تستوجب بدقة تحديد مضمون وحدود هذه المرجعية، وإلا فقد تغدو هذه المرجعية غطاء فضفاضًا لكثير من التقاليد المتخلفة المتسلحة بالدين، أو المآرب الفاسدة المستغلة للدين، والتي تمنع تحرر وتطور المجتمع والدولة والثقافة والمعرفة.

وعلينا أن نعترف بأن وضع مرجعية إسلامية للدولة سيتسبب في شعور غير المسلمين فيها بعدم المساواة مع المسلمين، وسيبقى ذلك عاملًا على تكريس الانقسام الفئوي.. وعدم نمو وتبلور الهوية الوطنية، كما أنه يجحف بحق الكفاءات، في حال خص أي من المناصب أو مواقع المسؤولية بدين معين، كما في حالة النص الدستوري على إسلامية رئيس الدولة.

وفضلًا عن ذلك، هناك أيضًا مشكلة المرأة، فهل ستعني المرجعية الإسلامية الحفاظ على التمييز الجندري الجائر بحقها.. وإعطاءه الشرعية الدينية؟ ولنفرض أن امرأة من أسرة مسلمة -مثلًا- رأت أن في تشريع تعدد الزوجات أو نصفية الميراث أو الشهادة القضائية مقارنة بالرجل، أو عدم السماح لها بالزواج من رجل من دين آخر، ظلمًا لها، ولجأت إلى الدولة بصفتها مواطنة، فهل ستردها “الدولة المدنية”، لأن مطالبها تتناقض مع القوانين ذات المرجعية الإسلامية.. التي لا تعتبر هذه المطالب محقة؟ وأين سيكون دور الدولة وقوانينها المدنية وحقوق المواطنة في هذه الحالة؟!

وهناك أيضًا مسألة الزواج المدني.. وحق الإنسان بالاختيار الحر للشريك الزوجي، من دون عقبات دينية أو طائفية. وهناك كذلك حقوق حرية الرأي والضمير، فهل ستقبل هذه المرجعية الدينية مثلًا بأن يغير مسلم ما دينه، أو بأن يعتنق مواطن آخر دينًا لا تعترف به هذه المرجعية، وكيف ستتعامل هذه المرجعية مع النقد الموجه إلى الدين؟ وهل ستعدّه اعتداءً على الأديان وتعاقبُ من يقوم به؟ وكيف ستعامل الملحدين؟ وكيف ستتعامل مع المتطرفين الإسلاميين، ومع دعوات التكفير والتحقير والتحريض على الكراهية؟ والأهم من كل هذه القضايا الكبيرة الأهمية هو كيف ستتعامل هذه “المرجعية الإسلامية” مع “الديمقراطية” نفسها؟

هذه أمور خطيرة، وهي لا تستنفد كل الأمور الخطيرة، ويجب ألا نجهلها أو نتجاهلها.. وألا ننحرج أو نخشى قطعًا من طرحها.. وعلينا المطالبة بحلول إنسانية عصرية لها، وإلا فلن تكون “الدولة المدنية” لا “دولة” ولا “مدنية” بحقّ، ولن تكون إلا أكذوبة تضاف إلى سجل الأكاذيب الراهن الكبير الذي جعل شعارات، مثل الوطنية والعروبة والحرية والقضية الفلسطينية وسواها، أغطية للمصالح الخبيثة، وغطاء يتستر به الانتهازيون.

وبناء على ما تقدّم؛ يصبح جديرًا القول: “إن المرجعية الإسلامية المقبولة، لدولة مدنية حديثة مفترضة، تقتضي كحد أدنى عصرنة الفكر الإسلامي، والتعامل مع الإسلام والعصر بعقلية العصر، لا بذهنية القرون الغابرة التي تجعل الإسلام متخارجًا مع العصر… وتنتج (دولة) تحاصصية أو سلطانية أو سلفية في قناع مدني”.

6-خلاصة:

كثيرٌ من العلمانيين يعدّون “الدولة المدنية” بدعةً وخدعةً للالتفاف على الاستحقاق العلماني من قبل الإسلاميين، وشرعنة هيمنتهم على الدولة؛ وبالمقابل يفعل الإسلاميون المتطرفون الشيء نفسه، ويعدّون هذه الدولة مؤامرة علمانية أو غربية، لمنع قيام الدولة الإسلامية المفروضة، التي لا يرونها عادة إلا في شكل سلفي؛ وتطرحها بعض القوى الإسلامية الأقلّ تطرفًا، لتكون غطاءً يمكّنها من الوصول إلى السلطة والاستحواذ عليها.

مع ذلك، كما سلف الذكر، لدينا تجربتنا السورية في الخمسينيات، ولدى تونس تجربتها الحالية، وكلتاهما تُثبت أن الدولة المدنية ممكنة وأنها ليست بدعة ولا خدعة.. ولكن هذا يقتضي الفهم الصحيح وصدق النية، فإن توفّر هذا لدى القوى السياسية السورية الفاعلة على الساحة السورية اليوم، فقد تكون الدولة المدنية فاتحة الحل وبداية مسيرة التقدم، وإلا فسيستمر الغرق في المشكلة التي تحوّلت إلى أزمة كارثية.

يقول برهان غليون: «ينبغي أن نرفض الاختباء وراء شعارات العلمانية لتبرير الحرب ضد الحرية، أو للمحافظة على نظم القهر والاستبداد، وينبغي أن ننكر أيضًا القطيعة التي عمل الإسلاميون والعلمانيون الكاذبون على فرضها على المجتمعات. وأن نطرح بالمقابل مفهوم الدولة المدنيّة المحايدة عقائديًا، والتي تحترم حريات الجميع وعقائدهم. وبالمثل، كما ينبغي علينا أن لا نتخلى عن واجبنا في الدفاع عن حرية القوى والحركات السياسية والمدنية جميعًا، ضد سياسات القمع والاضطهاد، وعلينا أن لا نتردد في توجيه النقد لهذه القوى والحركات، حينما تُظهر عداءً لحرية الرأي والاعتقاد، أو تسعى لفرض هيمنتها على الآخرين والإساءة إليهم أو تشويه صورتهم لدى الرأي العام»([10]).

وهذا ما علينا فعله في رؤيتنا وموقفنا من أطروحة الدولة المدنية، وفي تعاملنا مع مشروعها، وبما أن ديمقراطية هذه الدولة هي شرط جوهري أساسي، من أكبر شروطها، فهذا عند الالتزام الكافي به فعليًا يضعها على مسار التطور الحقيقي المفتوح، ويعطي الفرصة عندئذ للعلمانيين لنشر الثقافة والوعي العصريين، ويدفع الإسلاميين المنافسين إلى عصرنة أفكارهم ومواقفهم، وهذا يعني مزيدًا من الديمقراطية والاقتراب من العلمانية، وهكذا دواليك.. وهذا هو طريق التطور السلمي الصحيح، لذلك على العلمانيين أن يركزوا جهودهم على إلزام كلّ الأطراف الأخرى بديمقراطية الدولة المدنية المطروحة، وأن يلتزموا هم أنفسهم قبل غيرهم بها، وعندما تكون الديمقراطية فاعلة ومضمونة، ويشارك فيها الجميع بفاعلية، فستتطور البلاد على الصعد كافة، وسيكون أمام العلمانيين الفرصة لنشر الثقافة العلمانية وكسب الساحة الشعبية، وإحداث النقلة العلمانية المطلوبة، وإذا لم يقوموا بذلك أو فشلوا في تحقيقه.. فهم من يتحمل المسؤولية؛ واليوم، لا سبيل أمامهم غير ذلك، وهذا السبيل -أي الارتقاء إلى العلمانية بشكل تدريجي سلمي تصاعدي- هو ما تم اتباعه في معظم البلدان العلمانية العريقة في العالم، مثل بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة وغيرها، أما إذا لم يكن العلمانيون السوريون أنفسهم قادرين على إحداث التغيير العلماني المطلوب، فعليهم ألا ينتظروا ذلك من أميركي أو روسي أو أوروبي أو سواهم.

بهذا الشكل، يمكن عقلانيًا النظر إلى “الدولة المدنية الديمقراطية”، كمرحلة أولية موضوعية لازمة للانتقال إلى شكل عصري متكامل للدولة، إذا ما احتُرمت فيها الديمقراطية بالقدر الكافي، وهذا ما يجب أن تركز عليه جهود كلّ العلمانيين وغيرهم من القوى الديمقراطية؛ كانت الديمقراطية هي الفيصل، وهي الحَكم بين القوى السياسية المختلفة والمتنافسة، أما فرض العلمانية قسرًا، وبأسلوب غير ديمقراطي، فلن يُنتج علمانية حقيقية عندها، وإذا نجَت من أن تكون نموذجًا كاريكاتوريًا عقيمًا مثيرًا للسخرية، فستكون “دكتاتورية علمانوية” وخيمة العواقب، على الدولة والمجتمع والعلمانية نفسها، فتفسد شروط تطبيقها الموضوعية في المجتمع، وتمسخ صورتها في أنظار الناس وتبعدهم عنها.

[1] – فؤاد هراجة، الدولة المدنية تهافت-نظري أم-تجاوز-للدولة-الحديثة، عربي 21.

[2] – أبو همام السعدي، كشف اللثام لما في الدولة المدنية من مفاهيم وأحكام، موقع صيد الفوائد.

[3] – عبد الله اليوسف الدولة المدنية وإشكالية المصطلح مركز الإشعاع الإسلامي.

[4] –حسن الخطيب، الدولة المدنية دولة المواطنة والوعي الوطني، شبكة الميادين

[5] –جابر عصفور، الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة (1-2)، بوابة الأهرام.

[6] – برهان غليون، ردا على وائل السواح من أجل علمانية إنسانية – جمعية الأوان

[7] – سحر حويجة، العلاقة بين الدولة العلمانية والدولة المدنية – Salon Syria.

[8] – حسيبة عبد الرحمن، سوريا بين فكي استبداد مدني ودولة دينية – Salon Syria

[9] –دستور تونس الصادر عام 2014، constituteproject.org.

[10] – برهان غليون، ردا على وائل السواح من أجل علمانية إنسانية – جمعية الأوان.

مركز حرمون

————————-

-1-

 الدّولة المدنية.. تهافت نظريّ أم تجاوز للدولة الحديثة؟ 1من2/ فؤاد هراجة

1

الدّولة المدنية.. تهافت نظريّ أم تجاوز للدولة الحديثة؟ 1من2

مطلب الدولة المدنية هو جوهر الحراك الشعبي في السودان الذي أطاح بالرئيس البشير (الأناضول)

هيمن مطلب الدولة المدنية على أولويات النخب السياسية في العالم العربي طيلة الأعوام الثمانية الماضية التي تلت اندلاع ثورات الربيع العربي.

ومنذ الإطاحة بالمسار الديمقراطي في مصر في تموز (يوليو) الماضي، وما صاحبه من عودة العسكر لممارسة الحكم المباشر وصولا إلى ما يجري في الجزائر والسودان وليبيا، برز مطلب الدولة المدنية كمصطلح مقابل لحكم العسكر من جهة ولمفهوم الدولة المدنية من جهة ثانية.

فما هو المقصود بالدولة المدنية؟ وما هي الخلفية السياسية والأيديولوجية لهذا المفهوم؟ هذا ما تعمل هذه الورقة التي أعدها الباحث المغربي في الفلسفة والفكر المعاصر فؤاد هراجة، وتنشرها “عربي21″، على حلقتين.

في خضم التدافع الفكري القائم بين العديد من الأطروحات والمشاريع الإيديولوجية والسياسية في الدول العربية منذ القرن الماضي عموما، وبعيد ثورات الربيع العربي خصوصا، برز جدال مُطَّرِدٌ حول مفهوم “الدولة المدنية”. وقد شارك في هذا الجدال المستمر ذو العلم والمثقف والحركي، ومن خلفيات متعددة. ولفرط تداول هؤلاء لمصطلح “الدولة المدنية” حتى تَمَثَّل لهم أنهم قد تواضعوا وتواطؤوا على مدلول المصطلح، ولم يبق أمامهم سوى الإقتناع بترجمة تصوره النظري إلى مشروع قابل للتطبيق.

لكن الدارس اليقظ والمتفحص لهذا السجال الإيديولوجي العميق، سيخلص لا محالة إلى ضرورة التوقف عند المصطلح لتفكيكه، وهدم تمثلات الحس المشترك المنسوجة حوله، ثم بناء تصور سليم يرسم حدود دلالاته، لعلنا نؤسس لنقاش عمومي يتبرم من الوهم والتمثل من جهة، ويبتعد عن أي تهافت نظري يفسد الأحكام المتوصل إليها.

من جهة أخرى؛ فالحكم على الشيء فرع من تصوره.

على هذا الأساس، ولتحقيق هذه الغاية، سلكت وأنا أنسج هذه الورقة تحديا يجمع بين العمق في التحليل، والسهولة في البسط، والاختصار في المعلومات. فالعمق أَخُصُّ به أهل العلم في المجال، والسهولة أخص بها المثقفين غير المختصين، والاختصار أخص به الحركيين الذين لا يمتلكون نفسا نظريا، بل يَطَّلِعُونَ إلى الخطط العملية التي تساعدهم على الحركة في الميدان. وعليه، ستخلو ورقتي من كثرة الاستشهادات والإحالات والتفصيلات، لأنه وبكل بساطة عصارة لما راكمته من قراءات في الفلسفة السياسية وباقي العلوم المتصلة بها.

وأنا أستظيف قُرَّائِي الأعزاء على هذه المائدة الفكرية، ألتمس منهم أن يتحلوا بالتؤدة وطول النفس ونحن نسير جميعا نحو تفكيك وإعادة بناء دلالة مفهوم موضوع الورقة.

مصطلح طارئ

يعد مصطلح “الدولة المدنية” مصطلحا طارئا على حقل العلوم والفلسفة السياسيين. وهو مصطلح لا تجد له أي أثر أو وجود في العلوم السياسية الغربية قديمها وحديثها ومعاصرها. ولعل هذه المعلومة قد تشكل أول صدمة في مستهل هذا الموضوع؛ فمصطلح “الدولة المدنية” هو اختراع عربي مُحْدَث وُلِدَ في خِضَمِّ السجال اللائيكي/الإسلامي حول طبيعة الدولة المراد تأسيسها بعد مرحلة التغيير التي يبشر بها كل طرف، ويتخوف منها خاصة التيار اللائكي الذي يرى أنه يمتلك النخبة ويفتقد الحاضنة الشعبية. فالتيار اللائكي يعتقد أنه باصطفافه ودعمه للدولة الحديثة والحداثية، يكون قد حسم فهمه للدولة المدنية، التي تعني عنده فقط تجاوز سمة الاستبداد والحفاظ على باقي مقومات الدولة الحديثة التي يسميها دون أن يحددها “دولة مدنية”.

أما التيار الإسلامي، فمن فرط الهجوم عليه واتهامه بالسعي إلى تأسيس دولة دينية تاريخية، ولكي يدفع عنه هذه التهمة التي أصبحت تطارده في كل المحافل والموائد الفكرية، سَلَّمَ بهذا المعطى، وأعلن هو أيضا قبوله ومطالبته بالدولة المدنية.

وهنا نستغرب لهذا التقاطع والتلاقي المفاجئ في حمأة سجال بين تيارين على طرفي نقيض. وقد يكون مَرَدُّ هذا التوافق الإعتباطي (arbitraire) كون أن الطرفين وجدا في المصطلح حلا وسطا بحيث أنه يخفي الحديث عن الدين والشريعة الإسلامية من ناحية، كما يخفي الحديث عن العَلمانية من ناحية أخرى.

هكذا يبدو أن مصطلح “الدولة المدنية” يجمع بين الإيهام والمتعة؛ إيهام يتمثل في التسليم بتطابق الدولة الحديثة مع الدولة المدنية مع رفع آفة الاستبداد، وهذا المذهب يجعل المصطلح متهافتا من الناحية النظرية! وممتعا لأن هذا المصطلح أقرب إلى الأماني التي يتطلع إليها الإسلاميون منه إلى الواقع. فكثير من الحركات الإسلامية تتبنى المصطلح دون ان تقترح آليات عملية لترجمته، اللهم إقرارها بضرورة تجاوز مرحلة الاستبداد.

ويبقى الفريقان على نفس المسافة من الغموض إزاء المصطلح، فالفريق الأول يبقي على نفس الدولة ويبشر من داخل نمطها بالدولة المدنية. أما الفريق الثاني فينتقد الدولة الحديثة في عمق فلسفتها، فيقبل شكل التحديث ويرفض لائكية الحداثة، ليبشر هو الآخر بدولة مدنية تعترف بخصوصية المجتمع وإسلاميته. وبين المقترحين يكاد مصطلح “الدولة المدنية” يدخل في تيهان فكري لا حد له، لتبقى النقطة المضيئة الوحيدة هي توافق الفريقين على ضرورة تقويض دعائم الاستبداد، مع أن هذه العملية هي الأخرى ستفتح أفق الاختلاف حول الآلية القمينة بتحقيق مجال أوسع للحرية.

الدولة الحلم

وبناء على هذه المقدمة سنُسَلِّمُ بالضمن أن مصطلح “الدولة المدنية” هو مصطلح طارئ ليس له جذور نظرية علمية في كل النظريات السياسة، وأنه نَحْت عربي محض، كما أنه يفتقد لأي تصور مسبق (ليس له حد يُعَرِّفُهُ). فنحن إذن أمام الدولة الحلم التي لم يسبق لها نظير لا في التاريخ، ولا في النظر المعرفي. دولة نحتاج في البداية إلى تَلَمُّسِ الطريق لبناء تصور نظري لها، ثم بعده تحديد خصائصها، وطريقة سيرها وتوزيع الصلاحيات فيها، ثم بيان هل هذه الدولة “غاية” في حد ذاتها أم مجرد “جهاز وظيفي” لتحقيق غايات خارجة عن كيانها؟ وما هي حدود السلطة المخولة إليها؟ وما الذي يميزها عن غريمتها الدولة الحديثة؟ ثم عندما نطرح هذا المصطلح فهل نحن أمام إرهاصات تجاوز تاريخي للدولة الحديثة التي أخرجتنا، بحسب النظريات السياسية، من الحالة الطبيعية للإنسان إلى حالة الاجتماعية؟ أم أننا أمام مصطلح مشكل تداولناه دون أن نوضح أو ندرك حدود دلالاته ومضامينه؟

من المناسب ونحن نعمل على بناء حدود هذا المصطلح أن نلقي نظرة سريعة ومختصرة على معنى الدولة في الأزمنة السالفة ونقارنه بالدولة الحديثة.

تجمع النظريات السياسية الغربية أن الناس في القدم كان كل واحد منهم يحتفظ بالسيادة لنفسه ولم يكن ثمة كيان إسمه آنذاك الدولة. ومع تصادم السيادات الفردية وتفاقم الصراعات اهتدى الإنسان باعتباره كائن سياسي عاقل بالفطرة إلى تجميع كل هذه السيادات في شخص الحاكم، الذي سيصبح لاحقا رمزا لكيان معنوي اسمه الدولة.

وأمام هذا التنازل الجبري الطوعي في الآن ذاته من الإنسان عن سيادته مقابل الخروج من حالة الحرب إلى حالة السلم، تبلورت نظرية العقد السياسي والاجتماعي التي بموجبها أودع الجميع سيادته لدى شخص الحاكم ليدبر هو هذه السيادة ويحقق السلم المطلوب.

أدوات للتدبير

من هذه النقطة بدأت تنضج نظريات الدولة الحديثة، التي وإن اختلفت في أشكالها، فإنها واحدة في جوهرها، يوحدها أساس العقد الإجتماعي. ومع تطور البشرية واحتكاكها مع الواقع، بدأت تظهر بعض مثالب الحكام الذين وظفوا سيادات الناس المودعة لديهم للتسلط عليهم وانتهاك حقوقهم. وعليه ظهرت نظرية فصل السلط، وبزغت مؤسسات دولية جديدة تتقاسم باسم الشعب بعض السيادة مع الحاكم، إلى أن اهتدى الإنسان إلى الديمقراطية التي حسب نظره ستسمح للشعب بممارسة سيادته إما بصفة مباشرة أو غير مباشرة إلى جانب الحاكم عن طريق اختيار من يمثل إرادته في مؤسسات الدولة، أو عبر التصويت المباشر على القرارات الكبرى.

ومع كل هذه الإجراءات التي توحي ظاهريا بتقدم الإنسان في تدبير الشأن العام لحياته عموما، وممارسة سيادته خصوصا. إلا أن المنقصة الظاهرة الخفية التي لا ينتبه اليها إلا الناظر المتبصر، تكمن في أن أهم ما أنتجته وخَلَّفتَهُ الدولة الحديثة، انفصال السلطة السياسية عن المجتمع، وتَكَوُّن شخصية اعتبارية مستقلة نسميها اليوم  الدولة. انفصال ترافق مع منح الدولة الحديثة حق السيطرة الكاملة على المجتمع والتحكّم فيه أفرادا وجماعات.

إن ما نعيشه اليوم في ظل الدولة الحديثة هو كثافة المؤسسات، وشمولها وعمق تدخلها في كل شؤون الحياة. وما يخيف اليوم، أن المؤسسات البيروقراطية لهذه الدولة تزداد في الاتساع والهيمنة، حتى أنها بلغت حد السيطرة على نشاطات مدنية كانت تدخل ضمن الحيز الشخصي للأفراد والجماعات، ونذكر منها على سبيل العد لا الحصر: الزواج، والعلاقات الأسرية، وعلاقاتها الجوار، واللباس…، وغيرها من المجالات التي تدخلت الدولة لتقنينها بدعوى تنظيم الحياة العامة التي تبطن القضاء على كل ما هو مدني مقابل سيطرة الدولة، عن قصد، على كل مفاصل المجتمع.

فالدولة الحديثة، ليست مدنية تعريفا، فما هي إلا مؤسسةُ حُكْمٍ تتجسد فيها سلطات شبه مطلقة وتدعي حيازة الحق على التحكم بالمدني.

ومن الأمور الصادمة للبديهة، أن الدولة الحديثة التي نشأت في رحم علم السياسة الغربي، قد تمتعت بخصائص غيبية خارقة، لا تقل غيبية عن دولة الكنيسة التي تخلصت منها، فكلاهما يبشر من جهة، بالخلاص السعيد لكل من يخضع ويطيع (التعاليم/القوانين)، ويُسَلِّمُ بتعالي الدولة! وكلاهما يتوعد من جهة أخرى، بالانتقام والجحيم لمن يخالف النظام العام للدولة. وإن كان الاختلاف بين الدولتين في زمان ومكان تنفيذ الوعد والوعيد أي اختلاف بين وعد ووعيد السماء والأرض!

وقد يصاب القارئ من هذا التشخيص للدولة الحديثة التي يرى فيها اللائكيون أُسَّ “الدولة المدنية”، متسائلا وأين موقع الديمقراطية والمجتمع المدني والأحزاب والمؤسسات الأهلية من كل هذا السجال؟ ألا تشهد هذه المعطيات المتوفرة أمامنا على مدنية الدولة؟ ألا تتمتع كل هذه المؤسسات بحرية الفعل مدنيا داخل الدولة الحديثة؟ أم تراها جزءا لا يتجزأ من كيان الدولة، ومن ثم استحالتها إلى أداة هيمنة تستعملها الدولة في الثخوم التي لا تقوى النفاذ إليها؟ هذا هو محور الجزء الثاني من هذه الورقة.

باحث مغربي في الفلسفة والفكر المعاصر

https://arabi21.com/story/1184995/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%87%D8%A7%D9%81%D8%AA-%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A-%D8%A3%D9%85-%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D9%88%D8%B2-%D9%84%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB%D8%A9-1%D9%85%D9%86

—————————

-2-

كَشْفُ الِّلثام لِمَا فِي الدَّوْلَةِ المَدَنيةِ مِنْ مَفَاهِيمَ وَأحْكَام/ أبو همام السعدي

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم

وهو مختصرٌ من كتاب “الدولة المدنية مفاهيم وأحكام” لأبي فهر السلفي.

الدَّولة في اللغةِ: ترجعُ مادتها إلى الدوران، وهي بفتحِ الدال تعني: التنقل في أمور الدنيا كالمال والجاه، وبضمِّ الدال: التنقل في الحرب، وقيل هما سواء.

الدولة في الفلسفة اليونانية: (علمٌ بمصالح متشاركة في المدينة، ليتعاونوا على مصالح الأبدان، وبقاء نوع الإنسان) ويعبِّرون عن ذلك بالسياسة المدنية.

الدَّولة في الاصطلاح السياسي: (مجموع كبير من الأفرادِ، يقطنُ بصفةٍ دائمةٍ إقليمًا معينًا، ويتمتَّع بالشخصية المعنوية، بنظامٍ حكومي واستقلالٍ سياسي) .

* ولم تستعمل كلمة “الدولة” في معنى (المؤسسات الحكومية والسياسية) إلاَّ في مراحل متأخرة سواء في اللغات الغربية أو العربية، وكانتْ بدائلها في العربية (الدار، الخلافة، السلطنة، المملكة، البلاد)، وفي الغربية: “Polis” عندَ اليونانِ، و”Res Publica” عندَ الرُّومانِ، و”Civitas” في العصورِ الوسطَى.

المدنية: نسبةٌ إلى المدينة، وتستعمل (المدنيَّة) في مقابلِ معانٍ عدةٍ:

1- مقابلٍ للبداوةِ، بمعنى “الحضارةِ العمرانية والثقافية” والمطالبة بها لا شيءَ فيه إن لم يتضمَّن مخالفةً شرعيةً كتبرج النساء مثلاً.

2- مقابلٍ للعسكرية، بمعنى أن يتولى الحكم رجلٌ مدني بنظم مدنية، والمطالبة بها لا شيءَ فيه، بل إن الإسلام يدعوا إلى الاجتماع على رجلٍ واحدٍ، لذا كانت البيعة شرطًا لازما لتولِّي الحُكم.

3- مقابلٍ للدينيةِ؛ وقد تعدَّدت مفاهيمُ المصطلحين “الدينية والمدنية” بحسب مستعمليه، وسنحرِّرُ معانيهما والمراد بها عندَ مستعمليهِ في نظر الإسلام.

مفهومُ الدولةِ الدينية: تتلخصُ النظريات التي تبنى عليها مصطلح الدولة المدنية “الثيوقراطية” إلى ثلاثِ نظريَّات:

الأولى: نظرية “الطَّبيعةُ الإلهيَّة للحاكم”؛ تقول: إنَّ الله موجودٌ في الأرضِ، يجبُ على الأفرادِ تقديسَه دونَ اعتراض. وكانتْ سائدةً في المماليك الفرعونية والإمبراطوريات وبعض الدول إلى انتهاء الحرب العالمية الثانية.

الثانية: نظريَّة “الحق الإلهي المباشر”، تقول: إنَّ الحاكمَ يختارُ بشكلٍ مباشر من الله من غير تعبيدِ الحاكم، وهو خارجٌ عن إرادةِ الأفرادِ، وقد تبنَّـتْها الكنيسةُ أحيانًا، واستخدمها بعض ملوك أروبا، لتدعيم سلطانهم على الشعب.

الثالثة: نظريَّة “الحق الإلهي غير المباشر”، تقول: إن مجموعةً من الأفراد مسيَّرةً من الله تختارُ حاكمًا، وقد استخدمتها الكنيسة. ومن هذا الباب سنعرضُ لتصورات “الدولة الكنيسة” و “الحق الإلهي الملكي” لأنهما المؤثرتين في نشأة المفهوم.

1) الصورُة الأولى في مفهوم الدولة المدنية لدى “الكنيسة”.

الطور الأول: تنحصرُ في فصلِ العلاقةِ بين “الروحي” الدين وبين “الزمني” الدولة، وأن الحاكمَ اختيرَ من الله، وهي تمتثلُ بما أرسلَ أحد الأساقفة للإمبراطور (اللَّه وضعَ في يدكَ هذه المملكة، وإلينا سلم أمور الكنيسة، مكتوب: أعطوا ما لقيصر لقيصر، وأعطوا ما لله لله).

الطورُ الثاني: لما قويت شوكة الكنيسة وضعفت شوكة الدولة؛ وظلتْ الكفةُ تميلُ إلى ناحية الكنيسة لم يأتِ القرن الحادي عشر حتى سيطرتْ الكنيسةُ على مقاليدِ الدولة تمامًا، وحملتْ راية الحروب الصليبية، وظلتْ في انتصارٍ في المعاركِ حتى بسطت رايتها على جميع دول أوروبا في حكومةٍ قِوامها “الكهنة والأساقفة والكرادلة” ورئيسها “بابا الكنيسة”، فصار الحكمُ والحاكم الدنيوي تابعين للحكم الديني في التوليةِ والعزلِ والتحليلِ والتحريمِ، أجلْ فالبابا نائبُ الرب في الأرض.

2) الصورُ الثانية في مفهوم الدولة المدنية لدى “دولة الحق الإلهي الملكي”.

هذه الصورةُ طرحتْ كمقابل لـ”دولة الحق الشعبي” وهي مبنية على نفس أساس دولة الكنيسةِ، مِن أنَّ أصل سلطة الحكم هو “أصل ديني”، ولكنْ مع انحسارِ دولة الكنيسة تحوَّلت النيابة الإلهية إلى الدولة، فصار للدولة إلهًا كما للكنيسة، وإنما أثيرتْ هذه النظرية السياسية الغربية منذ عهد “فيليب الجميل” عام 1297 م.

[موقفُ الإسلام لهذه المفاهيم السابقة] إنَّ المتأملَّ في أهمِّ المفاهيم السابقة للدولةِ المدنية “الثيوقراطية” يظهرُ أن موقفَ الإسلام يرفضُ أن يكونَ لأحدٍ غير نصِّ الوحي سلطةً على الخلق، فالنبيُّ كانَ يوحى إليه من الله وبموته انقطع الوحيُ إلى قيام الساعة، واجتهادات العلماء وظيفتهم فهم الوحيِ فإما أن يصيبوا أو يخطئوا! ؛ ثم إنَّه ليسَ لأحدٍ في شريعتنا أن يتولَّى بنفسِهِ، وإنما مردُّ ذلك إلى أهل الحل والعقدِ وفقَ أصولٍ شرعيةٍ منصوصةٍ، بأن يتفقوا على حاكمٍ شرعي يحكمُ بما أنزلَ الله، يطاعُ في المعروف، ولا يطاعُ في معصية، وهذا الحاكمُ ليسَ له طبيعةٌ إلهية، ولا ينصَّبُ بحقٍ إلهي مباشرًا كان أو غير مباشر، وليسَ بنائبٍ عن الله إنما هو وكيلٌ وكَّلته الأمة لضبطِ شؤونها.

وهذه الدولةُ الإسلاميةُ تحاكمُ الأمَّة وحكَّامها إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن عقيدة أهل الإسلام (الإيمانُ بالحاكمية) ومعناها: أن الله سبحانه هو المشرِّع لخلقِهِ، وهو الذي له الأمرُ والنهيُ والتحليلُ والتحريم. وليسَ كما فهمهَ البعضُ أنها دعوةٌ إلى دولةٍ ثيوقراطية يتولَّى التحليل والتحريم أقوامٌ مشرِّعون من دون الله عزوجل.

وهذه الحاكميةُ –بهذا المعنى- لا تنفي أن تكونَ للبشر قدرٌ من التَّشريعِ أذنَ به الله لهم، ففي الإسلام دائرةٌ كبيرةٌ مما سكتَ عنه الوحي فتشرِّع الأمة ما تراه أوفقَ لمصالحها وذلكَ في الأمورِ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ونحوِ ذلك.

أما التَّشريعِ والاستقلالُ به في غيرِ المأذونِ من عندِ الله فحرامٌ؛ كالتشريعِ الديني المحضِ بزيادةٍ أو نقصانٍ أو تبديلٍ من أمورِ العبادات والعقائد والقطعيات.

(مفهوم الدولة المدنية)

إن أول من أسَّس هذا المصطلح وفقَ شرطٍ تاريخيٍ معينٍ هم الفلاسفة، وتتابعت المدارس الفلسفية والسياسة على استخدام هذا المصطلح على أنها ذاك المفهوم الفلسفي، لذا وجبَ تحريرُ هذا المصطلح لأنهم هم أولُ من أسَّسَه، ولأنَّهم ينازعونا في مفهومِه ويطالبوننا بكنهِهِ.

(تحريرُ مفهوم الدولة المدنية عندَ الفلاسفة)

سنحاولُ تحرير مفهوم الدولة المدنية عند فلاسفة أوروبا الحديثة، كما نستخلصه من طرحهم:

أ‌- ميكيافيلِّي (1496- 1527م): تتمثلُ مفهوم الدولة المدنية عند ميكيافيلي في كتابه “الأمير” بإرسائه لمعنيين:

الأول: نزعُ المطلق الديني والقيميِّ عن تصرفات السياسي؛ غيرَ أن الدينَ كنسقٍ للعبادةِ مهمٌ لحفظِ السلام في المجتمع.

الثاني: توضيحُ آليةِ اختيارِ الأميرِ عبرَ الإرادةِ الشعبيةِ، أو باختيارِ طبقةِ النبلاءِ، وتسميةُ ذلك بالإمارةِ المدنيَّةِ.

ب‌- جان بودان (1530- 1596م): لا يجعل جان بودان في كتابه “ستة كتبٍ عن الجمهورية” للأمير وسلطاتِهِ أي قيدٍ قيمي أو ديني أو شعبي في إصدارِ القوانين، إذْ لو كانَ الأمير ملزمًا على ألاَّ يضع القانون إلاَّ بموجبِ رضَا الأعلى؛ فإنه سيكونُ واحدًا من الرعايا وليسَ بصاحبِ سيادة.

ج- توماس هوبز (1588ـ 1679م): أصدَرَ هوبز كتابه (اللوباثان)؛ فأبانَ أن معالِـم الدولة المدنيَّة التي يدعُو لها هيَ أن يصبحُ قانونُ الدولةِ القانونَ المطلقَ الذي يفرضُهُ الملكُ فرضًا واسبتدَادًا مطلقًا عن كلِّ سيادة، فالدولةُ عنده «المرجعيَّةُ النهائيَّةُ»، ومن هنا ألَّهَ هوبز الدولةَ، واعتبرَهَا إلهًا زمنيًّا مرتبطًا بالإلَهِ الخالدِ، وقدْ اعتبرَهَا أيضًا التنينَ الحتميَّ، ومع أن هزبر يدعوا لفصل الحكم عن مطلقِ الدين؛ إلاَّ أنه لم يمانع أن تكون قوانين الدين قانونًا بشرطِ أن يكونَ ذلك باختيار السلطة المدنية، فدعوتُهُ ليستْ من أجلِ الدين إنما لتوافق السلطة عليه.

د- اسبينوزا (1632- 1677م): لـم يخرجِ اسبينوزا كثيرًا عن الخطوطِ التي رسمهَا أسلافُهُ مِنْ تقريرِ الأغلبيَّةِ كوسيلةٍ لوصولِ الحاكمِ في الدولةِ المدنيَّةِ، حتَّى إنه يتطرف ويأبي حتى إشرافَ أهل الدين على شؤونه إذ يقول: فَلَا شكَّ أنَّ تنظيمَ شؤونِ الدينِ يقعُ على عاتقِ السُّلطةِ الحاكمةِ وحدَهَا اهـ.

هـ- جون لوك (1632-1704م): إنَّ جون من آخر المنظِّرينَ للفلاسفة للدولةِ المدنيةِ، ومفهومه لََهُ هو أكثرُ المفاهيمِ شُيوعًا عندَ المتكلمينَ في هذِهِ القضيَّةِ، والصورةُ المتكاملةُ للدولةِ المدنيَّةِ المشهورة من (العقد القائم بين الأفراد والحكومات بالأغلبية والحفاظِ على مبدأِ فصلِ السلطاتِ وحق الشعوب على الثورات) لا تجدها إلاَّ عند جون فهو مَن وسَّع مداركها؛ وهوَ وإن خالفهم في بعضِ تنظيراتهم إلاَّ أنه حافظَ على نفسِ حالةِ المفاصلةِ للدينِ ونزع المطلقَ عن الدولةِ. يقول -بعدَ أنْ يشرحَ مهامَ الحاكِمِ المدنيِّ المنحصرةِ في إدارةِ شؤونِ الدولةِ-: وتأسيسًا على ذلك أودُّ أنْ أؤكدَ أنَّ سلطةَ الحاكمِ لا تمتدُّ إلى تأسيسِ أيَّةِ بنودٍ تتعلقُ بالإيمانِ أو بأشكالِ العبادةِ استنادًا إلى قوةِ القوانينِ اهـ.

(موقفُ الإسلامِ من نظريةِ الفلاسفةِ)

إن الإسلامَ يسبقُ كثيرًا من تقريراتِ الفلاسفةِ في رفضها، ولا بدَّ من معرفة أن الخلافَ الرئيسي بين الإسلام والفلاسفةِ هو في رفضِ الإسلامِ التامِ وإبطالِهِ المطلق لعزل الدين داخلِ دور العبادة أو جعلُ قوانينِ وتشريعاتِ الدينِ مجردُّ أحكامٍ عقليَّةٍ لا تتحولُ لقوانينَ مُلزمَةً إلا إذا اختارَ ذلك الحاكمُ المدنيُّ.

فالقدرُ الثابتُ في نظراتِ هؤلاء الفلاسفة: هو رفضُهُمْ جميعًا لأيِّ مرجعيَّةٍ متجاوزةٍ دينيَّةٍ أو أخلاقيَّةٍ تكونُ لها سلطةٌ أعلى مِنَ السُّلطةِ التشريعيَّةِ؛ فالأمرُ قد تجاوزَ المسيحيَّةَ إلى مطلقِ الدينِ والمرجعياتِ المتجاوزَةِ، وهذا مفهومٌ متوغلٌ متوحشٌ يضيِّعُ الشعوبَ ويهدرُ كرامتهم، وهذا لا يقبلُهُ الإسلامُ ويراها جاهليةً؛ قال تعالى {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}.

* ومعلومٌ الإسلامَ يرفضُ بشكلٍ مطلقٍ وتامٍّ عمليَّةَ العزلِ لَهُ عن الحياةِ المدنيَّةِ والسلطةِ التشريعيَّة، فالإسلامُ دينٌ تامٌّ شاملٌ لجميعِ مناحِي الحياةِ يحكمُهَا بالنصِّ تارةً، وبالسكوتِ والعفوِ أُخرَى، أو الاجتهادُ في فهمِ النصوصِ أو ما لا نصَّ فيه، ومردُّ ذلكَ إلى الحاكمِ صاحبِ الأهليةِ أو العلماء وأهل الشورى.

(الدولةُ المدنيةُ عندَ منظِّري الإسلامِ السياسي وموقفُ الإسلامِ منها)

دارتْ نقاشاتٌ حادةٌ بين فقهاء الإسلام المعاصرين وبين العلمانيين واللبراليين مما أدى إلى فهمِ هؤلاء الفقهاء “منظِّري الإسلام السياسي” إلى فهمٍ أودَى إلى مفاهيم وعلاجاتٍ غالطة.

– من ذلكَ قول محمد عمارة: الدولةُ الإسلاميَّةُ دولةٌ مدنيَّةٌ تقومُ على المؤسساتِ، والشورَى هي آليَّةُ اتخاذِ القراراتِ في جميعِ مؤسساتِهَا، والأمةُ فيها هي مصدرُ السلطاتِ شريطةَ ألَّا تُحِلَّ حرامًا، أو تحرِّمَ حلالًا، جاءتْ بِهِ النصوصُ الدينيَّةُ قطعيَّةُ الدلالةِ والثبوتِ، هي دولةٌ مدنيَّةٌ؛ لأنَّ النُّظُمَ والمؤسساتِ والآلياتِ فيها تصنعُهَا الأمةُ….إلخ؛ وعلى هذا كانَ تقريرُ الشيخ محمد عبده والشيخ يوسف القرضاوي.

نقدٌ…

إن هذا القولَ وأشباهه من تقريرات العلماء تكمنُ في المطالبةِ بدولةٍ مدنية، وهذه الدولةُ المدنيةُ التي يطالبونَ بها يرددون أن “مرجعها الإسلام” أو “دولة مدنية إسلامية” ونحوِ ذلك؛ وهذا غلطٌ، لأنَّه في الحقيقةِ تناقضٌ بين ضدينْ، إذْ لا تقابلَ بين “المدنية” وبين “الإسلام”، لأنَّ الركنَ الأصلي في مفهوم الدولة المدنية هو عدمُ قبولِ السلطةِ العُليَا الحاكمةِ لأيِّ استمدادٍ مُلْزِمٍ للقانونِ من الدينِ بلْ ومن أيِّ مرجعيَّةٍ متجاوزَة، فإذا قولنا “دولة مدنية إسلامية” فإنَّ العلمانيَّ يراها كقولنا “متحركٌ ميتٌ” وكقولنا “ظالمٌ بإنصاف”!

فنوعُ المغالطةِ التي وقعَ فيهَا الأساتذةَ هنا هي إطلاقُ الألفاظِ على غيرِ معانيهَا محلَّ البحثِ، باستغلالِ وجودِ شبهٍ مَا، أو تقاربٍ مَا، أو تشاركٍ من بعضِ الوجوهِ بينَ معانيهَا الأصليةِ والمعانِي التي أُطلقتْ عليهَا في المغالطةِ التزيـيفيَّةِ.

تبريرٌ..

* ويمكنُ أن نجعلَ -لتبريرِ كلام هؤلاء العلماء- معنًى جديدًا وتفسيرًا حديثًا لهذا المصطلح الوافدِ، ولا يتواردُ هو والمصطلحُ الفلسفيُّ محلَّ مطالبةِ العلمانيِّ على محلٍّ واحدٍ بتمامِهِ، إلاَّ أنه لا بدَّ من التنبيهِ على أمرين:

الأول: أنَّ المغالطةُ تحاصرُ الإسلاميين إذا تعاملوا مع هذا المصطلح على مفهومهم الحديثِ وقتَ المناظرة أو المناقشة مع العلمانيين، أما في مقام التقرير فلا ضيرَ في استعمال هذا المنظومة التفسيرية عندَ الحاجةِ، وإلاَّ فالأولى ودْع المصطلحاتِ المشتبهة بين الحقِّ والباطل، ونصرةِ المعنى الصحيح الذي لا شبهة تحته.

الثاني: أنَّ المغالطةَ تحاصرُ بعض التيارات الإسلامية التي تحاربُ الإسلاميين استعمالهم هذا المصطلح وفقَ المفهومِ الغربيِّ له؛ متغافلين أنهم يريدون بها منظومةً تفسيريةً جديدة، ومن الغلطِ محاكمةُ الشيءِ بغيره.

ما حكمُ التعبيرِ عن الدولةِ الإسلاميةِ بأنها دولة مدنية؟

قال شَيخُ الإِسْلامِ -رحمهُ الله-: وأمَّا الألفاظ المجملة؛ فالكلام فيها بالنفي والإثبات دون الاستفصال يوقع في الجهل والضلال والفتن والخبال والقيل والقال، وقد قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء اهـ.

* ويبيِنُ ذلك تلميذه الإمام ابن القيِّم –رحمهُ الله- إبانةً أكثرَ وضوحًا بقوله: قيل: أصل بلاء أكثر الناس من جهة الألفاظ المجملة التي تشتمل على حق وباطل، فيطلقها من يريد حقها، فينكرها من يريد باطلها، فيرد عليه من يريد حقها اهـ.

الحاصلُ إذَنْ؛ أن مصطلحَ “الدولة المدنية” لفظٌ مجملٌ لا يخلو من حالاتٍ ثلاث:

1) أن يكونَ حقًا؛ فيثبتُ ويعبَّر عنه باللفظِ الشرعي.

2) أن يكونَ باطلاً؛ فيردُّ المعنى لبطلانه، واللفظ لإحداثه.

3) أن يشتملَ على حقٍ وباطلٍ؛ فيقبل الحقُّ ويثبتُ، ويردُ الباطلُ وينفى، ولا يُطلق الإثباتُ ولا النفي.

* ولو تأمَّل المتأمِّل يجدُ أن هذا المصطلح ليسَ بحقٍ محضٍ لأنه ليسَ من كتاب ولا سنة ولا قولٍ للسلف الصالح، ولا باطلٍ محضٍ كذلكَ لاستعماله لمعانٍ جليلةٍ كالحضارة والبداوة وغير ذلك، وإنما هو مما تركبَ بين حقٍ وباطلٍ، فيقبلُ الحقُّ ويُردُّ الباطل، فالمعنى الباطلُ فيه هو نزعُ المطلقُ الدِّيني عن سياسة الدَّولة؛ والمعنى الحقُّ فيه هو نظامُ المؤسسيةُ وفصلُ السلطات ونحوِ ذلك، وما كانَ كذلك الأصل فيه عدم إطلاق إثباتِهِ، أو إطلاقِ نفيِهِ.

الخلاصةُ: أنَّ التعبير عن “الدولةِ الإسلاميةِ” بأنها “دولة مدنية” لا تخلو من حالتين:

حالة الاختيار؛ والنداءُ بها غير مشروعٍ؛ لكونِهِ مؤسسٌ على معانٍ باطلةٍ، ولكونِهِ أسِّسَ على مفاهيم معينةٍ مشتبهةٍ، اللبسُ فيه شديدٌ بقيدٍ كانتْ أو بغيرِ قيدٍ.

ثم إنَّ جعلَ هذا المصطلح وتفسيره بالألفاظِ الشرعيةِ يجعلُ المصطلحَ هو الأصل، والألفاظُ الشرعيةُ تابعة له، وهي طريقةٌ فاسدةٌ، وإنما الأصل في المعانِي الشرعيَّةِ هو استعمالُ لسانِ الشرعِ في العبارةِ عنها، وعدمِ الخروجِ عنه إلَّا عندَ الحاجةِ.

الحاجةُ والاضطرار؛ وذلكَ في مقامِ ردِّ شبهةٍ، أو لوجودِ معتركٍ سياسيٍ يضيقُ فيه باب الحلال المحض، أو في مقامِ الردِّ على مَنْ يطالبُ بدولَةٍ مدنيَّةٍ ، ويجعلُ الإسلامَ ضدًّا لهَا، ونحوِ ذلكَ إذا غلبتْ فيه مصلحتُهُ ودعتِ الحاجةُ إليه فلا حرجَ في استخدامه وفق تقدير المجتهدِ، على أن يضافَ لها قيدُ مرجعية الإسلام باللزوم فيقال (لَا مانعَ من دولةٍ مدنيَّةٍ مرجعيَّتُهَا الملزِمَةُ هي الإسلام)، ولا يستغنى عن القيدِ إلاَّ في أعلى رتب الاضطرار، وحيثُ يُؤمنُ التلبيسُ على الناس.

(تنبيهٌ) ولا يجوزُ القولُ عن (دعاة الدولةِ المدنية) بأنهم “علمانيون” حتى يستفسرَ عن المرادَ والمقصودِ، فإن كانَ حقًا قبلنا هذا المعنى ولمْ نعبِّر عنه بهذا اللفظ، وإن كانَ باطلاً رددنا اللفظَ والمعنى، وإن كانَ مركبًا من حقٍ وباطلٍ قُبلَ الحقُّ ورُدَّ الباطل؛ فعلى ذلك: إن كانَ المرادُ بالدولة المدنية: المعنى الفسلفي العلماني استحقَّ الدعاةُ إليها وَسْم العلمنة؛ وإن أريد بها ضدَّ العسكريةِ أو ضد البدائية المتخلفة أو ضد الدينية على المعنى السابق عند العلماء فلا يستحقُّ هذا الاسمَ المذكور.

(تنبيهٌ آخر) وإنما أطلنا في هذا التقريرِ لما تكاثرتِ الألسن على الإجمال في أمثال هذه الألفاظِ؛ من ذلك شعاراتهم (إسلامية إسلامية…لا مدنية ولا علمانية) ومثلُ هذا إساءة بالغةٌ لهذه المصطلحاتِ ومعانيها.

(مسلمة إلزامية موضوعية لا يسع دعاة الدولة المدنية إلا التسليم بها)

قد تضافرتْ نصوصُ الفلاسفة من أمثال “كتوماس هوبز” و “جون لوك” والحدثاء منهم وكذا دساتير العالم المدني المغربي من أنَّ الحاكم أو البرلمان أو حتى الشعب بالديمقراطية المباشرة إذا اختار أحكاماً دينية وجعلها قوانين للحكم: أن ذلك لا يُخرج الدولة عن وصف المدنية، وحينئذٍ: رفضُ الأحكامِ الدينيةِ التي اختارها الشعب أو البرلمان لمجرَّدِ أنها دينية سيكون حينئذٍ عدواناً على إرادة الشعب ومصادرة لها.

ورُغمَ أنَّ الأحكام الشرعية لا تتوقفُ إلزاميتها على استفتاء أحدٍ فنقول: خلوا بين الشعب واختياره، ولا تصادروا إرادته،وليطرح كل بضاعته، وما تختاره الأمة لا يسعكم إلا التسليم به.

وأمرٌ آخرُ؛ أن هذه الدول المغربية من أمثال “إنجلترا” و”الدنمارك” وغيرها ترى لزامًا أن يحدَّد هويةُ الدولةِ ديانةً إمَّا نصًا في الدساتيرِ أو ما كانَ أشبه بالعرف، إذ هو ليسَ مخالفًا للحرياتِ، ولا للمدنيةِ عندهم، وليسَ عائقًا عن التقدُّمِ، بل هو من أبسطِ طرقِ احترام أغلبيةِ سكانِ بلدٍ ما، وهي طريقة لحفظِ السلام بين أفرادِ الوطن والأقليات والحفاظ على حقوقها.

* وإن أبيتم جميعَ ما تقدَّم، فالسؤال قائم: بأي حق إذاً تمارسون المدنية والحرية بهذه الانتقائية العجيبة وذلك التحيز غير الموضوعي؟

والله أعلم.

 رابط الكتاب : http://saaid.net/book/open.php?cat=83&book=8919

http://www.saaid.net/arabic/581.htm

——————————-

-4-

الدولة المدنية دولة المواطنة والوعي الوطني/ حسني الخطيب

الدولة المدنية هي اتحاد أفراد يعيشون في مجتمعٍ يخضع لمنظومةٍ من القوانين، مع وجود قضاء يُرسي مبادئ العدالة في إطار عقدٍ اجتماعي تتوافق فيه إرادات جميع أو أغلب مكوّنات وقوى المجتمع، والمدنية هنا تتأتّى من كون الإنسان كائناً مدنياً بطبعه، وبالتالي فإن القواعد التي تنظّم حياته وعلاقاته ستكون مدنية، وهو مفهوم أخذ به أرسطو وإبن سينا وإبن خلدون ومونتسكيو وغيرهم.

لا تزال فكرة الدولة المدنية في وطننا العربي تشهد نقاشاً واسعاً وجدالاً حادّاً بين تيارين مُتصارعين، لدرجة أنها تُثير التباساً شديداً وغموضاً كبيراً، يتوزّع بين المُدّنس والمُقدّس وبين التنديد والتأييد، وذلك لأن الخلاف حول المفهوم قاد في جزءٍ منه إلى صراعات بعضها عُنفي، لتعلّقه بالحقوق والحريات وادّعاء الأفضليات والزّعم بامتلاك الحقيقة، والسبب في ذلك كله هو المأزق التاريخي والثقافي الذي وصلت إليه الدولة العربية الحديثة ما بعد مرحلة الاستعمار بمختلف مُسمّياتها: (محافظة أو ثورية – يمينية أو يسارية – جمهورية أو مَلكية – دينية أو علمانية)، إلا أن النقاش دائماً يجب أن يعود إلى فهم فكرة الدولة أساساً، وذلك قبل توصيفاتها الأخرى، ومن حيث هي أصلاً دولة أو لا (لأنها مُهدّدة بالتفتّت)، ولها واجب حفظ أرواح وممتلكات الناس وحفظ النظام والأمن العام.

فكرة الدولة المدنية، سواء ورَدَ هذا المُصطلح أو لم يرد في أدبيات العلوم السياسية، لم يظهر على الساحة  إلا في وقتٍ متأخرٍ، وخصوصاً خلال العقود الثلاثة الأخيرة في العالم العربي، ولاسيما بعد موجة ما سُمّي بالربيع العربي، لذلك فإن هذا المُصطلح أثار ويثير مثل هذا التجاذُب والتعارُض والأخذ والرّد، وذلك لأنه لم يتم تكييفه أو توطينه بعد في دولنا ومجتمعاتنا العربية، بما يتناسب مع الخصوصية الدينية والثقافية لمنطقتنا.

الدولة المدنية هي اتحاد أفراد يعيشون في مجتمعٍ يخضع لمنظومةٍ من القوانين، مع وجود قضاء يُرسي مبادئ العدالة في إطار عقدٍ اجتماعي تتوافق فيه إرادات جميع أو أغلب مكوّنات وقوى المجتمع، والمدنية هنا تتأتّى من كون الإنسان كائناً مدنياً بطبعه، وبالتالي فإن القواعد التي تنظّم حياته وعلاقاته ستكون مدنية، وهو مفهوم أخذ به أرسطو وإبن سينا وإبن خلدون ومونتسكيو وغيرهم.

أهم خصائص الدولة المدنية هو التمييز بين المجال العام والمجال الخاص، وعدم خَلْط الدين بالسياسة، وليس من وظائفها أيضاً مُعاداة الدين كما يذهب إلى ذلك خصومها، لكن من واجباتها وضع مسافة واحدة بينها وبين الأديان، وعدم السماح باستغلال الدين أو استخدامه لأغراضٍ خاصةٍ أو سياسيةٍ، مع تأكيد الاحترام لجميع الأديان وحق الإنسان في العِبادة وممارسة الشعائر والطقوس بحريةٍ ومن دون قيود، وذلك بما يُحدّده القانون العام الحاكِم، أي عدم التجاوز على حقوق الغير.

أما الآراء بشأن فكرة الدولة المدنية فتنقسم إلى قسمين: الرأي الأول: وهو ما أُطلِق عليه  الرأي (الإنكاري)، والذي يعتبر وجودها والإقرار بها سيُبعِد مجتمعاتنا عن الدين، كما ويعتبر هذا الرأي أن كل شيء موجود في شريعتنا بما فيه فكرة الدولة المدنية، وهو بذلك يرفض الانفتاح والتفاعُل مع التُراث القانوني والدستوري العالمي، انطلاقاً من نظرته إلى نفسه في إطار دائرته المُغلقة وارتيابه من الغير، أما الرأي الثاني: فهو الرأي (التغريبي)، والذي يعتبر التراث معوّقاً لدخول دولنا ومجتمعاتنا عالم الحداثة والتقدّم، وأنه إذا ما أردنا ولوج العالم اليوم فعلينا بالقطيعة الأبستمولوجية مع التراث والماضي، وهكذا يواجه هذا الرأي (المُتطرّف)، رأياً آخر مُغرِق في رجعيته وانغلاقه، والذي يستخدم الإسلام وتعاليمه السمحاء ضدّ الإسلام نفسه، وهو ما ندعوه (بالإسلاملوجيا)، كما هي الحال في التنظيمات الإرهابية التكفيرية، وعلى النقيض منه هو التوجّه الاستشراقي الذي نُطلِق عليه (الإسلامفوبيا)، أي الرّهاب من الإسلام وهي فكرة استعلائية ضدّ الإسلام، باعتباره ديناً يحضّ على العنف والإرهاب حسب وجهة النظر هذه.

وأياً كانت الآراء والدعوات بالإنكار أو بالتغريب أو غيرها، فإنها جميعها بعيدة عن مفهوم الدولة المدنية، التي تقوم على العقلانية واستيعاب التُراث وإسهامات المُبدعين المسلمين لتجاوز الإنكارية والإقصائية الاغترابية في آن واحد، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تطوير النقاش بشأن بعض قواعد الحُكم في الإسلام، سواء ما يتعلّق بمبادئ الشورى والاستخلاف والبيعة وأهل الحلّ والعقد، وصولاً إلى الديمقراطية وقواعدها العامة ومُراعاة الخصوصيات واحترام الهويات.

كما أن المفتاح الأساسي بالنسبة للفرد كي تستقيم علاقته بالدولة، هو بتفعيل المواطِنة الحاضِنة للتنوّع الديني والثقافي، وتحفيز الأغلبية الصامِتة كي تنهض بدورها الإيجابي، فالمواطن العقلاني المستقلّ يتم بناؤه من خلال تحفيز المشاركة أو الممارسة السياسية وتعميق ثقافة التسامُح الفكري المُتبادَل، وتشجيع روح المُبادرة بما يعزّز الثقة بين المواطن والدولة، بحيث يقف الوعي الوطني والتمسّك بالواجبات المدنية والوطنية في مواجهة المصالح الطائفية والحزبية المحدودة.

فالدولة المدنية يكون فيها الدستور والنظام السياسي مصدرين للاستقرار والمرونة والقدرة على الاستمرار، وتكون مجتمعاتها مؤسَّسة على القواعد الأخلاقية والدينية، وذلك من خلال إعلاء دور القانون واحترام التنوّع الديني والثقافي وتحقيق المُساواة والعدالة بين المواطنين.

لهذا فلا بدّ للدولة من أن ترقى إلى تحقيق مفهوم الصالح العام من خلال إدارة الشأن العام، والعمل على التنمية الاقتصادية لتجسير الفجوة بين الواقع والطموحات، وإقامة نظام اقتصادي مُتوازِن ونظام اجتماعي عادِل، والتي هي أساس التنمية السياسية، فالدولة التي تخفق في بناء نظام اقتصادي فاعِل وعادل لن تحظى بمجتمعٍ مدني يُحترَم فيه القانون ويُصان فيه المال العام، كما يجب أن تعمل على تعزيز قِيَم التشارُكية والشفافية والرقابة القانونية والأخلاقية والشعور بالمحاسبة، وتحفيز القدرة على التخيّل والإبداع في التفكير بما يحقّق الصالح العام.

هذا ويجب أن تنهض مؤسّسات المجتمع المدني والعمل التطوّعي الإنساني بدورٍ كبيرٍ وفاعلٍ في تعزيز قوّة الدولة المدنية، وذلك إلى جانب مؤسّسات الدولة الرسمية الأخرى، وألا يقتصر هذا الدّعم والتفاعُل على المستويين الاقتصادي والاجتماعي فحسب، وإنما يجب أن يمتد ليشمل الدفاع عن الحقوق والحريات وتعزيز قِيَم المواطِنة والعمل المدني.

كما ولا بدّ من أن نستثمر مفهوم الأمّة (العربية والإسلامية) وهويتها الحضارية في سعينا نحو تحقيق التعارُف والتكامُل مع مُنجزات الأمم الأخرى، بما يمكّننا من بناء مجتمعٍ مدني قادِر على تحقيق التنمية والتقدّم والازدهار، كما أن الحديث عن أهمية المُعتقدات الخاصة بنا لا يُبرّر أبداً التقصير في العمل أو الإخفاق في تحقيق التقدّم والنماء، حيث إن اكتشاف الأخطاء والاعتراف بها هما خطوتان أوليّتان نحو تصويب أوضاعنا وأخطائنا والشروع في التقييم الذاتي الشامل (بدلاً من مديح الذات)، إضافة إلى التمسّك بقوّة العقل والأفكار وتقوية الديمقراطية وتعزيز القِيَم المُتأصّلة في ثقافتنا الدينية والأخلاقية، بما يمكّننا من مواجهة التحديات الكبرى والارتقاء إلى المكانة التي نستحقّها بين الأمم.

هذا ولا يمكن التصدّي للفكر المُتطرّف وخطاب الكراهية الفوضوي والتدميري من دون وجود الفكر التنويري الرصين الذي يقضي على الجهل والتجهيل المُمنهَج، ويضع العرب والمسلمين في المكانة التي يستحقونها فكراً وعملاً وحضارة، والذي يستند إلى قِيَم التسامُح الفكري والتعدّدية واحترام الاختلاف والانفتاح على الثقافات الأخرى (من دون أن ننسى التمسّك باستقلالنا الثقافي)، وتعزيز التكامُل والتعاون وترسيخ ثقافة العمل والإنتاج وتوطين التكنولوجيا لخدمة تطلّعات مستقبل الأجيال القادمة، وتجنّب تداعيات الاقتصاد الرَيعي وأخطار الإقصاء والتهميش، وإحلال مبدأ المُشاركة بين دول الإقليم لإيجاد عوامل مشتركة ضمن جميع القطاعات، بحيث يتحقّق التكافُل الفكري المُستنِد إلى القِيَم المُشتركة والتعدّدية والتسامُح والتعايُش الإنساني، فمن دون تنمية اقتصادية واجتماعية وسياسية لن يُكتَب للجهود الأمنية والعسكرية النجاح في مواجهة التطرّف والإرهاب.

حاصل على درجة البكالوريوس في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية من جامعة لاهاي الدولية، يكتب في مجالات مختلفة، لاسيما في ما يختص بذوي الإحتياجات الخاصة

الميادين

https://www.almayadeen.net/articles/blog/915014/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B7%D9%86%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B9%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A

————————-

-5-

الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة (1)/ د. جابر عصفور

عنوان هذا المقال يتكرر كثيرًا منذ أن قامت ثورة 30 يونيو 2013 تصحيحًا وتصويبًا لمسار ثورة الشعب المصرى فى 25 يناير 2011، فقد كادت الأمور تخرج عن إطارها السليم وتنحرف بالمسار الشعبى المصرى فى ثورته إلى منحدرٍ لا قرار له، فتحالف الجيش مع الشعب وقام بثورة 30 يونيو التى أعادت مصر إلى حلمها الذى لم يتحقق كاملًا بعد، وهو بناء دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ حديثةٍ. وينبغى أن نضع فى اعتبارنا أن مصطلح مدنية فى هذا العنوان لا يختلف كثيرًا عن مصطلح علمانية، فكلاهما يتحدان فى الدائرة الدلالية التى تشير إلى معنى واحد، هو فصل الدين عن الدولة، وتأكيد حقوق المواطنة لجميع المواطنين بالمساواة الكاملة بينهم بغض النظر عن عقائدهم أو مكاناتهم الاجتماعية أو أصولهم العِرقية.

والحق أن عنوان: دولة مدنية ديمقراطية حديثة, ليس اختراعًا جديدًا، وإنما هو نتاج طبيعى لأمة قامت بثورة 1919 لكى تؤكِّد أن مصر للمصريين، وأن الوطن للجميع، وأنه لا فارق بين مصرى مسلم أو مصرى غير مسلم تحت الراية الواحدة التى تجمع ما بين الهلال والصليب. ولا ينبغى أن ننسى أن الذين وضعوا دستور 1923 كانوا من عناصر الأمة الثلاثة فى ذلك الوقت، وهم المسلمون الأغلبية، والمسيحيون الأقلية، واليهود الذين مثلوا الأقلية الأقل. ولذلك كان من الطبيعى أن ينص الدستور على أن الإسلام هو الدين الرسمى للدولة بوصفه دين الأغلبية، ولكن بما لا ينتقص من الحقوق الدستورية والقانونية لبقية المواطنين.

ومن المؤكد أن ذلك الدستور ظل يمنح حقوق المواطنة كاملةً لكل من المسيحيين واليهود إلى أن اشترك بعض اليهود فى التآمر مع القوى التى أنشأت إسرائيل، وبدأوا يهاجرون من مصر أو يهربون إلى إسرائيل، ولم يبق داخل مصر إلا المسلمون والأقباط فيما أُطلق عليه: وحدة الهلال مع الصليب. وهى وحدة لا تزال قائمة، ولا تزال ثورتا 25 يناير و30 يونيو تدافعان عن هذه الوحدة؛ لكونها تمثل الركنين الأساسيين لعقائد المواطنين داخل الدولة المدنية. والدولة المدنية هى دولة تفصل الدين تمامًا عن السياسة ونظام الحُكم، فلا أفضلية لمسلمٍ على مسيحى ولا لمسيحى على مسلم، فالكل أمام الدستور والقانون سواء، والكل يتمتع بحقوق المواطنة الكاملة. وأى اعتداء من أى مواطنٍ على غيره – فى المجال الدينى أو غيره – بالقول أو بالفعل، إنما هو اعتداء يُجرِّمه القانون ويضع صاحبه موضع الاتهام الذى يحدد عقوبته القانون فى دائرة التمييز الدينى، أو بتهمة ازدراء الأديان التى يحاول بعض السلفيين استغلالها للنيل من المسلمين المُستنيرين إلى اليوم. وعندما تكون الدولة مدنية تفصل تمامًا بين النظام السياسى والمشاعر الدينية أو الروحية للمواطنين، فإن هذا الأمر فى ذاته يؤسس لمعنى الدولة الحديثة، ومن ثم يدعم الدستور العدل بما يؤكد المساواة بين أفراد الأمة، ومن ثم رد الحُكم إلى الشعب كله عن طريق الانتخابات النزيهة وليس إلى طائفةٍ أو فرقةٍ أو جماعةٍ بعينها. فالدولة المدنية فى مصر هى دولة لا تعرف التفرقة بين المسلم والمسيحى.

وللأسف يحاول بعض المتطرفين من السلفيين أو من بقايا الإخوان الذين يلبسون أقنعة التَّقِيَّة، استغلال أية فرصةٍ مُمكنةٍ لزعزعة معنى الدولة المدنية، أو التشويش على هذا المعنى ولكن حقيقة معنى الدولة المدنية تظل هى الفاصل الحاسم بين الدين والدولة. فالدين لله والوطن للجميع، كما يقول شعار ثورة 1919. والوطن لا يُحكم إلا بحسب الشعار المصرى الذى نتبناه جميعًا منذ ثورة 1919 وهو وحدة الهلال مع الصليب. والصفة الديمقراطية تعنى فى جانبها المدنى، إلغاء أية سُلطةٍ سوى سُلطة القانون أو الدستور، ومن ثم فإن ادعاء البعض بأن الأزهر أو الكنيسة بأنه سُلطة دينية موازية لسُلطة الدولة إنما هو ادعاء باطل.. وأظن أنه لا فارق بين المجموعات السلفية والإخوان فى مسألة تديين الدولة، ومن ثم العداء لأية صفةٍ مدنيةٍ من صفات الدولة. ولكن لحسن الحظ فإن سلطة الدولة المصرية القائمة على الدستور والقانون هى أقوى من أى نزوعٍ لأية فرقةٍ خارجةٍ عن إجماع الأمة الذى تؤكده انتخاباتها التى أتت بالدستور الذى تتضمن أغلب نصوصه معنى الدولة المدنية التى تنسرب دلالاتها فى الأكثرية الكاثرة من مواد الدستور الأخير الذى لا يتناقض مع نفسه إلا فى مادةٍ أو مادتين على الأكثر، فيتحدث عن دين الأغلبية فى مادةٍ، ويمنح الأزهر سُلطة ليست له فى مادةٍ ثانيةٍ، لكن فيما عدا هاتين المادتين، فالدستور يظل دستور دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ حديثةٍ ما دُمنا ننتخب الرئيس والحكومة والبرلمان على السواء.

والحق أن وجود هاتين المادتين إنما هو من بقايا التحولات التاريخية؛ فنحن قد أسسنا دولةً مدنيةً حديثةً منذ أن خرجنا فى الثلاثين من يونيو لكى نُسقطَ حُكم الإخوان، وفعلنا الأمر نفسه حينما قررنا عدم تديين الدولة أو إعطاء سلطة استثنائية أو دينية لأية مؤسسةٍ من مؤسساتها بأية حالٍ من الأحوال. ولا نزال نطالب باستبعاد النص على الدين الإسلامى فى الدستور بوصفه دينًا للأغلبية؛ لأن الذى يربط بين الأقلية والأغلبية ليس هو الدين، وإنما هو الوطن الذى اختاره الجميع ملاذًا وحِصنًا ووعاء جامعًا على أساسٍ من عقد اجتماعى يتجسد فى دستور وقوانين مدنية. ولماذا نذهبُ بعيدًا؟ فإن من يقرأ أغلب مواد الدستور يجدها فى الأغلب الأعم موادً تُشير إلى دولةٍ مدنيةٍ وإلى حُكمٍ مدنى. وظنى أن الصفة المدنية لكل من الدولة والدستور سوف تتأكد مع استمرار المُمارسة من ناحيةٍ، ومع الوعى بضرورة الفصل بين الدين والسياسة من ناحيةٍ ثانيةٍ، وعدم التحزب الدينى إسلاميًّا أو مسيحيًّا بشكلٍ مُطلقٍ من ناحيةٍ موازية.

(وللحديث بقية)

http://gate.ahram.org.eg/News/2553643.aspx

—————————–

-6-

 ردا على وائل السواح: من أجل علمانية إنسانية/ برهان غليون

في مقال نشره في موقع “الأوان” بعنوان “العلمانية والعلمانية السورية” اشتكى وائل سواح مما يتعرض له مفهوم العلمانية في نظره من هجوم متزايد من قبل “معظم المثقفين” العرب. وميز فيهم بين فئتين رئيسيتين: فئة المفكرين الدينيين أو الإسلاميين الذين يرفضون العلمانية أصلا باعتبارها مخالفة لعقائدهم، وهم ممن يسهل الرد عليهم، ثم فريق من المثقفين، لم يحدد هويته، ينتقد في نظره العلمانية ويناصبها العداء سرا، “خجلا أو تقية أو مداورة”. ويحتاج إلى جهد أكبر للرد عليه، ومن بين من ضرب بهم المثال برهان غليون وأدونيس وماهر الشريف وياسين الحاج صالح.

وليس هناك شك في أن تناولنا لمسألة العلمانية، مثل أغلب الجمهور المثقف والسياسي العربي، كما يذكر وائل سواح في مقالته، يختلف كثيرا عن تناول وائل سواح وجماعته المرجعية في نقاط كثيرة وجوهرية. وهو ما سوف أتعرض له وأبين مضمونه وربما أسبابه أيضا في الجزء الثاني من هذا الرد. لكن أود قبل ذلك أن أتناول ما عرضه وائل سواح على أنه ملخص موقفي من مسألة العلمانية، والطريقة التي استخدمها لتحقيق غرضه، والاقتباسات التي استند إليها، والتي إذا صدقت صار من غير المنطقي تصنيفي ضمن ناصبي العداء للعلمانية مداورة وتقية وإنما صراحة وعلنا.

{{1- في الأمانة الفكرية}}

أراد وائل سواح من مقاله أن يكون مساهمة في الدفاع عن العلم والعقلانية والحرية الفكرية. لكن أقل ما يقال في الطريقة التي اتبعها في هذا النقاش هو افتقارها لأدنى قواعد الأمانة الفكرية. وأول ما يلفت النظر في هذه الطريقة هو تعامله مع المصادر التي بنى عليها تعريفه بموقفي. فقد اختار كتاب: “المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات”، الذي صدر عن دار الطليعة عام 1978، والذي لم يعن بالعلمانية إلا بصورة جانبية، من خلال تحليل مسألة الطائفية والأقليات، وتجاهل كل النصوص التي كتبتها في الثلاثين سنة الماضية، من كتب ومقالات تتناول موضوع العلمانية مباشرة، وفي مقدمها كتاب “نقد السياسة: الدولة والدين” (المركز الثقافي العربي)، وكتاب “النظام السياسي في الإسلام” (دار الفكر) بالإضافة إلى نصوص كثيرة أخرى صدرت بالعربية والفرنسية، من المفروض أن كاتب النص قد اطلع عليها. وما يلفت النظر كذلك الطريقة التي أحال فيها إلى النص، أعني القصقصة واللصق لإنتاج لوحة جديدة ليس لها علاقة بالأصل. فلا تجد أي جملة كاملة ومفيدة من بين ما أحيل إليه، وإنما كلمات ليست منزوعة من سياقها التحليلي فحسب وإنما من جملها المفيدة أيضا. وما يلفت النظر كذلك أنه لا توجد هناك إحالة واضحة إلى أي جملة أو فقرة، وإنما إحالة جماعية إلى صفحات عديدة ومتباعدة دفعة واحدة، وعلى القاريء نفسه أن يجمع بين شتاتها. وما يلفت النظر أخيرا هو أن الكاتب لم يقرأ، كما هو واضح من الإحالات، كتابي وإنما وضع ثقته كاملة في ما قام به قبله جورج طرابيشي في كتبه، كما تشير الإحالة، وهو المعلم الحقيقي في هذا الفن. وبهذه الوسائل أمكن لوائل سواح أن يعيد إنتاج موقفي من مسألة العلمانية كما يريد هو، وبالشكل الذي يستجيب لحاجته في إدانة المثقفين العرب أو معظمهم، بوصفهم عملاء للظلامية الدينية والجهالة، وفي تنصيب نفسه وأصحابه ملوكا متوجين على عروش العلم والعقل والتنوير.

وما ذكرته بخصوص عرض موقفي لا يختلف كثيرا عما رافق عرض مواقف الكتاب الآخرين المشار إليهم. فلم يجد الناقد من كل ما كتبه أدونيس مثلا حول مواقفه من الدين والعلمانية، والتي يعرفها القاصي والداني، المثقف وغير المثقف، ولا تحتاج إلى بحث وتدقيق، نصا أفضل لتمثيل فكر هذا الشاعر والمثقف الكبير سوى نص ظرفي واستثنائي يعود لسنة 1979، كتبه في لحظة حماسية بعد انتصار الثورة الإيرانية الإسلامية، التي كانت بكل المعاني ثورة تحررية، وأثارت في حينها، بالرغم من الطابع الملتبس لإيديولوجيتها الدينية، حماسا لا شك فيه عند مفكرين كبار، في مقدمهم ميشيل فوكو الذي وصفها بثورة الروح. وهي لا تزال تستحق وقفة تأملية حتى اليوم بسبب ما تنطوي عليه من مفارقة تاريخية جعلت أن ثورة ديمقراطية شعبية تحديثية تتخذ طابع الثورة الدينية وتستند إلى قيادتها السياسية. مما يعبر في الوقت نفسه عن أصالتها وتناقضاتها غير العادية أيضا، ككل حدث تاريخي كبير.

ولا يختلف الأمر عن ذلك في تناوله مواقف ياسين الحاج صالح وماهر الشريف. فهو ينطلق أيضا من تأويل لواحد من نصوصهما العديدة، يطرحان فيه تساؤلات ليست مشروعة فحسب، وإنما هي شرط لضمان اتساق الخطاب والتدقيق في صوغ الإشكالية، ليصوغ لكل منهما موقفا معاديا من العلمانية.

والواقع أن وائل سواح لا يقتصر على عرض ما يعتبر أنه موقفنا من العلمانية، ولكنه يتجاوز ذلك ليعيد بناء منظومتنا الفكرية وخياراتنا السياسية جميعا. فهو يكشف عن أفكارنا المسبقة التي تملي علينا طريقة تفكيرنا، ويعرف نوايانا الحقيقية أكثر مما نعرفها نحن، ويسعى إلى إرشادنا وإسداء النصيحة لنا، من دون الاستناد إلى أي نص أو إحالة هذه المرة، ربما من باب المونة الأخوية. يقول مثلا إن ” النتيجة التي يصل إليها – غليون ( …) مبنية على فكرة مسبقة ثابتة، مؤداها أن السلطة ذات الطابع الطائفي في سورية، والتي تمثل أقلية طائفية بعينها، تستخدم العلمانية كسلاح ضد الأكثرية العددية التي تنتمي لطائفة أخرى. وهي تستخدم العلمانية كـ”أداة قمع اجتماعي وسياسي” بيد هذه الفئة النخبوية ضد الغالبية الشعبية و”إيديولوجيا تبرير” لضرب حرية الاعتقاد الأساسية، “حرية الرأي والصحافة والتنظيم الحزبي”، و”وسيلة للتغطية على انعدام هذه الحرية في الواقع والممارسة” وعلى “الاحتكار المطلق لحرية الرأي والتعبير والتنظيم” من قبل “دولة النخبة العصرية”. ويتابع وائل سواح: ” برأينا أن في هذه الرؤية نقيصتين اثنتين: أولاهما الاستقواء بالأكثرية العددية في مواجهة الأقليات عموما، وثانيهما النفس الاستعلائي الذي تمارسه في مواجهة من تسميهم بالأقلية الحداثوية”.

ولا أدري على أي مصدر اعتمد سواح ليصل إلى هذه النتيجة التي تعبر عن فكر بدائي لا علاقة له من قريب أو بعيد بالتحليل الاجتماعي الذي اتبعته في الكتاب، بل هو نقيضه بالضبط. ولعلها تعكس قناعاته الذاتية. فأطروحة الكتاب الرئيسية هي أن مشكلة التوترات الطائفية والنزاع مع الأقليات ليست مرتبطة بالدين ولا بالاختلاف المذهبي ولا بالأحرى بوجود أقليات، وإنما بضعف البنية الوطنية وعجز الدولة عن تقديم إطار وطني وديمقراطي صحيح يضمن المساواة بين الأفراد ويقدم لهم فرصا أكبر لتحقيق مطامحهم وتطلعاتهم. فالأقليات تبنى ولا توجد مسبقا كأقليات، بل جماعات اعتقاد ورأي مختلفة. ويشكل الكتاب استكمالا لكتاب “بيان من أجل الديمقراطية” الذي صدر عام 1977، وهو يدخل في محاور التفكير التي سأعمل على تطويرها في أبحاث لاحقة حول الطائفية والدولة والأمة والعلمانية.

وبالمثل، لا أدري كذلك كيف استنتج وائل سواح، أو من استند إليه في بلورة أطروحاته الغريبة، أن أدونيس “يبرر عدم فصل الحقل السياسي ليس عن الدين عموما، وإنما عن دين بعينه هو الإسلام”. لأنه يقول “إن السياسة في الإسلام” هي شريان يسري بشكل شامل كامل في بنية شاملة وكاملة”. وكل من يتابع ما يكتبه أدونيس حتى من غير المختصين بتاريخ الفكر، يعرف أن أدونيس لا يؤكد على عدم إمكانية الفصل بين الإسلام والسياسة إلا ليدافع عن موقف جذري من تجديد الثقافة العربية ونسف نظام الفكر القديم، والديني منه بشكل خاص، من الجذور. وعلى جميع الأحوال من الصعب لناقد فكر حقيقي أن يصنف مثقفا كأدونيس بين أولئك الذين يرفضون الفصل بين الدولة والدين، وبالتالي من الذين يناصبون العلمانية العداء.

ما جاء به سواح لا علاقة له إذن لا بما كتبته أنا وما أفكر فيه، ولا بما كتبه ياسين الحاج صالح أو ماهر الشريف أو أدونيس، وإنما هو من إسقاطات الكاتب نفسه. ومع ذلك فإن ما ذكره مهم ويستحق الرد والتحليل لأنه لا ينبع بالضرورة من سوء نية، أو يعكس هلوسات فريق اجتماعي وشكوكه ومخاوفه الذاتية، ولكنه يعبر عن تيار قائم بالفعل في وسط المثقفين، لا يعلن ولاءه للعلمانية وتمسكه بشعاراتها إلا ليفرغها من مضمونها ويحولها إلى درع يحتمي وراءه ويغطي به، هذه المرة مداورة وتقية بالفعل، على أفكار يعتقد أنها غير مقبولة اجتماعيا بعد، أو أن الإعلان لا يزال مكلفا كثيرا.

ولن أفصل هنا في ما نشرته في الثلاثين سنة الماضية عن العلمانية، فيمكن للقارئ العودة بنفسه إليه عبر كتابات لها بالتأكيد طابع نقدي، لكن بالمعنى العلمي للكلمة، أي لا تنبع من التشهير بالمفهوم أو الفكرة ورفضهما، وإنما من السعي، من خلال مقارنة التجارب التاريخية، الأوروبية والعربية، إلى إعادة بناء المفهوم وتوسيع دائرة عمله وإغنائه بمعاني ودلالات جديدة نابعة من توسيع دائرة انتشاره وتحوله إلى مفهوم ذي طابع كوني، لا يرتبط بخصوصية قومية. ومن جملة هذه الكتابات وفي مقدمها كتاب “المسألة الطائفية” المشار إليه، الذي أحث القاريء على قراءته، لا ليكشف بنفسه عن أساليب تحريف النصوص وتقويلها عكس ما تريد فحسب، وإنما ليطلع على المقدمات الأساسية التي اعتمدت عليها لتحليل ظاهرة انبعاث العصبيات الطائفية والإثنية، والتي قادتني إلى نقد العلمانية العربية السائدة، كما تجلت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تشكل عنصرا من عناصر تفسير نشوء ما أطلقت عليه “المجتمع العصبوي”، وظاهرة الارتداد من الدولة إلى القبيلة.

وأكتفي هنا بالاشارة إلى بعض الاقتباسات التي وردت في نص الكاتب وأحالها الكاتب جماعة للصفحات 11،12، 52، 53، 66، 82، و88 لأبين الروحية التي كتب بها الكتاب، والسياق الذي ورد فيه نقد العلمانية العربية الرثة. يبدأ الفصل الأول المعنون بـ: الأقلية والأغلبية، البحث عن إجماع قومي جديد، بهذه الملاحظة “إن الحديث عن الأقليات ليس شيئا آخر سوى الحديث عن الأمة التي لا تنتج الأقليات الدينية أو الأجناسية إلا لأنها تعجز عن إنتاج أغلبية سياسية جديدة”. وكذلك “سيخيب ظن كل من ينتظر من دراسة اجتماعية تقديم وصفة جاهزة لحل مشكلة الأقليات كأقليات. فهذا الحل لا يمكن أن يوجد داخل إطار النظم السياسية والاجتماعية التي خلقت مشكلة الأقليات وخلقت المجتمع العصبوي. وهدفنا هو إذن إظهار هذا الإطار العام الذي يمكن من خلاله إيجاد تغييرات اجتماعية ضرورية لطرح مسألة الأقليات الدينية أو الأجناسية وجميع الأقليات الاجتماعية الراهنة أو التي يمكن أن توجد في ما بعد”. ص 6-7. والنص الثاني من الصفحتين 11 و12، موضع الإحالة عند سواح، “وهكذا تبدو العلمانية هنا، التي تعاني من تثبت مرضي على مسألة الصراع بين الدين والدولة، الموروثة عن القرون الوسطى الأوروبية، إيديولوجية تبرير ضرب حرية الاعتقاد الأساسية، ووسيلة للتغطية على انعدام هذه الحرية في الواقع والممارسة. وبقدر ما كانت الاعتقادية العلمانية الأوروبية وسيلة لتحرير العقل وفرض حرية التعبير، جاءت العلمانية العربية لتنقذ الاستبداد العصري، أي جاءت كي تقدم لمصادرة حرية الرأي والتعبير الاجتماعي والطبقي غطاءا شرعيا من المساواة الشكلية بين الطوائف. ومن أجل ذلك بقيت عقيدة مستلبة تجاه الدولة، مأخوذة بتقديس السلطة والقوة. إن الخوف من اكتساح الإسلام للدولة هو المحرك الأساسي لسياستها”. “إن ما تقترح العلمانية على نفسها كهدف قابل للتحقيق هو نقل المجتمع من الجهل إلى النور، لا المساواة ولا العدالة ولا الحرية. ذلك أن هذا الانتقال من الجهل إلى النور هو شرط الديمقراطية، كما هو شرط الاشتراكية (في نظرها طبعا). لا تدخل العلمانية هنا إذن كمذهب سياسي يدعم نظاما حرا ولكنها تظهر كبديل ثقافي للذاتية الدينية، أي مجرد نفي للذاتية القومية. وهذا ما يمكّن الإسلام المستعاد من أن يدخل الحلبة السياسية العصرية كمقاتل من أجل الديمقراطية والمساواة الغائبتين عن الدولة العلمانية، واللتين تصطدمان مباشرة مع الأسف بالنزعة الاستبعادية والحصرية التي ينطوي عليها كل دين”.

أما الصفحتان 25 و53 المحال إليهما أيضا، فتطوران نفس الإشكالية وهذا ما ورد فيهما “وبشكل عام كانت الثقافة الحديثة إطار تنمية المساواة في الحقوق وتكافؤ الفرص. ومن هنا أصبحت عقلانية وأصبح التأكيد عليها والدفاع عنها دفاعا عن العقل ضد ظلامية القرون الوسطى التي جسدت ثقافة العزلة والعزل والتهميش والاستبعاد للأغلبية عن السلطة. لا يكفي أن تدعو المنظومة الثقافية الجديدة إلى المساواة حتى تكون منظومة مساواة إنما يجب أن تظهر واقعية هذه المساواة”.

“لكن انتقال النزعة الفلسفية العلمانية التي لا تشكل النظرية القومية إلا جانبها السياسي، لعب دورا مختلفا كل الاختلاف في البلاد الأخرى التي تمت السيطرة على الدولة فيها بشكل أو بآخر. فالعلمانية لم تنبت هنا من الصراع الاجتماعي الداخلي ولم تنشأ إذن نتيجة لتفكك وتحلل القيم التقليدية الموروثة وزوال فعاليتها في الممارسة اليومية والجماعية، ولكنها نشأت عن طريق التبني من قبل نخبة محدودة العدد، وغالبا معزولة عن الشعب. فهي التي كانت بسبب انتمائها إلى الطبقات العليا المسيطرة أكثر أو الأكثر قدرة على اكتشاف الغرب والالتحاق بثقافته. وبينما كانت العلمانية الغربية فلسفة للثورة ضد الطبقة السائدة المتحالفة بشكل أو بآخر مع الكنيسة، ووعاء لأفكار التحرر والمساواة والأخوة والعدالة والمواطنية والقومية، جاءت العلمانية العربية هنا كوسيلة لتقوية النظام السياسي القائم وتدعيم الطبقة المسيطرة التي أرادت أن تستفيد من علوم الغرب الحديثة لتنعش نظامها اقتصاديا وسياسيا. وكانت كتقاليد وممارسات ولغة تفاهم ووعي من نمط جديد وسيلة لعزل الغالبية الشعبية عن السلطة والسياسة”.

وفي الصفحة 66 : “جاء فصل الدين عن الدولة في البلاد الإسلامية إذن على يدي الدولة ذاتها قبل أن تتبناه النخب المحلية الحديثة، وتدفع بجوانبه الفلسفية. وظهر لهذا السبب أيضا كاستمرار وتطوير لسياسة فصل الجمهور المتزايد عن السلطة وتحرير يد الدولة من سلطة الدين، آخر مرجع شعبي ووسيلة الضغط الوحيدة بين المعدمين من السلطة والعلم”.”وإذا كانت العلمانية لم تأت بالديمقراطية في كل الدول الأوروبية، ولا في الدول العربية أيضا، إلا أنها حملت معها بشكل عام شرعيتها عندما جعلت من الحرية الفكرية والدينية والسياسية وسيلة لتوحيد الأمة وخلق المواطنية”.

وفي الصفحة 82، في الهامش “ومن هنا تبدو إشكالية فصل الدين عن الدولة عندنا كإشكالية مصطنعة منقولة عن الغرب. إن مشكلة الدولة في العالم التابع هي بالضبط أنها بلا دين ولا عقيدة. … وليس هناك مؤسسة دينية مسؤولة في المجتمع العربي الراهن عن انعدام هذه الحرية. فالرقابة هي رقابة الدولة، والذي يمنع الناس من التعبير والتفكير والاعتقاد هي السلطة المدنية ذاتها. إلا إذا اعتبرنا أن على الدولة أن تصفي الأديان وتلغيها. عندئذ نقف مع الاستبداد الديني الحديث ونصفق للديكتاتورية والرقابة ونفرض اعتقاداتنا على الآخرين، ونفتح الطريق بالضرورة أمام تسلط الدين على الدولة. وهذا هو ما تفكر به عناصر كثيرة من النخبة الحديثة بحجة تخلف هذا الدين أو ذاك. لكن في كل مره تلتقي فيها هيئة المثقفين بالسلطة وتتفق معها يحصل الاستبداد، إن كان ذلك في النظام الديني القديم لدى خضوع طبقة العلماء للدولة، أو في النظام الحديث عندما تضع فئة المثقفين نفسها في خدمة السلطان. وفي الواقع ما لم تتمكن الطبقة السياسية والمثقفة من الوصول إلى إجماع على حرية التفكير والتعبير واحترام الحياة المدنية للناس فمن المستحيل قيام أي نوع من الديمقراطية مهما كانت نسبية”.

وفي الصفحة 88، “لايمكن البحث إذن عن حل للنزاعات الطائفية في الدعوة العلمانية التي تدعو للمساواة أو في الدعوة الدينية التي تؤكد على التسامح. ولا في القوانين التي تحدد الحقوق والواجبات لجميع المواطنين. فكل هذه الوصفات قد استعملت في الماضي ولا تزال مستعملة في الحاضر. والقضية ليست قضية دعوة ولا قضية إيديولوجية شكلية، إنما هي أساسا قضية السلطة، أي علاقة أفراد المجتمع ككل بالدولة، التي تبلور علاقة كل واحد منهم بالآخر. وبقدر تحول الدولة إلى دولة-عصبة دينية أو علمانية حديثة أو قديمة، تتكون عصبويات مقابلة وتتحول إلى أشباه دول موازية تبدأ كمركز للدعوة الإيديولوجية لتصبح تنظيما، لتصبح فيما بعد جيشا ومؤسسة كاملة شبه قومية”.

تدخل هذه الفقرات جميعا في باب نقد العلمانية العربية لتقصيرها في الرد على حاجات التحرر السياسي والفكري والاجتماعي، ودفاعا عن قيمها، وليس العكس. فمن الواضح لكل ذي عقل أن الهدف من هذا النقد ليس تحطيم الفكرة أو مقاومتها أو القضاء على آثارها، وإنما الدعوة إلى الانسجام مع قيمها التي شكلت مصدرا للتقدم والتحرر والانعتاق في المجتمعات الأوروبية. وهذا يستدعي من دون شك القدرة على التمييز بين العلمانية وبين النسخة الرثة منها التي سادت في البلاد العربية، والتي تستخدم شعار العلمانية للدعوة إلى المراقبة على الفكر والضمير لا لتحريرهما من الوصاية السياسية والعقائدية. وهو النقد الذي يبدو صعبا جدا على بعض التيارات العلمانوية ذات البنية الطائفية، أي المتحولة إلى طائفة خاصة، تماما كما يبدو من الصعب على التيارات الإسلامية المتطرفة فهم ما تطالب به الأغلبية المسلمة نفسها من تمييز بين الإسلام والإسلاموية. والسبب أن كلاهما يفتقد للفكر النقدي الذي يحتاجه المرء حتى يستطيع اتخاذ مسافة من اعتقاداته ومعارفه نفسها، ويمكنه من تعريضها للنقد وامتحانها وفحصها على أسس عقلية أو موضوعية أكثر، أي مختلفة عما تملي عليه عقائده وذاتيته.

{{2- من العلمانية إلى اللادينية}}

لا أعتقد أن هذا النقد فقد صلاحيته الآن، بل ربما كان أكثر راهنية اليوم من البارحة. فلا أحد يستطيع أن ينكر أن العلمانية استخدمت في البلاد العربية ولا تزال، سواء أفهمت كموقف عقلاني وتنويري في مواجهة مجتمع متأخر ومتدين ومتعصب، أو كموقف من الطائفية الدينية ودعوة إلى تجاوزها، لتبرير الحد من الحريات وتقييدها بل إلغاءها. في الحالة الأولى اتقاءا لشر صعود التيارات الإسلامية إلى الحكم، وفي الحالة الثانية نتيجة قصر مضمونها على تجاوز التمييز الطائفي والمساواة بين الجماعات الدينية، وغض النظر عن المساواة السياسية المرتبطة بإقرار الحريات المدنية والسياسية والمساواة القانونية والعدالة الاجتماعية.

ومن هنا لا يزال السؤال الذي طرحه كتاب “المسألة الطائفية” بصورة جانبية، مطروحا اليوم، وربما أكثر من أي وقت مضى: ما الذي وضع العلمانية العربية، والسورية منها بشكل خاص، في هذا المأزق الذي جعل منها رديف الديكتاتورية ونقيض قيم الثورة السياسية التحررية الحديثة برمتها، وفي المكان الأول حرية الاعتقاد التي تعني تحريم فرض اعتقادات بالقوة على أي إنسان، أو منعه من التعبير عنها؟

الجواب من شقين. أولا تحول العلمانية إلى إيديولوجية، أي إلى عقيدة فئة من الفئات الاجتماعية، جعلت منها إطار تماهيها وولائها الخاص، ورمز تفاهمها الذي يوحد عناصرها ويربط في ما بينهم ليحولهم إلى قوة فاعلة وشريك في الصراع الاجتماعي الدائم على الثروة والسلطة والنفوذ والجاه. وهو ما فرض عليها الخضوع لأجندة هذه الجماعة الخاصة ومتطلبات استراتيجيتها الاجتماعية والسياسية. وثانيا تعارض مصالح تأمين نفوذ هذه الجماعة/الطائفة واستقرارها مع مصالح التحرر والانعتاق العام للمجتمع، واضطرارها، في سبيل الاحتفاظ بمكاسبها، المادية والمعنوية، إلى خيانة القيم والمبادئ العلمانية نفسها، ومن ورائها مباديء الديمقراطية. وهذا هو الذي يفسر أن أحدا من رموز هذه العلمانوية، الذين استشهد بهم وائل سواح، لم ينخرط في أي معركة من معارك الحرية، لا الفكرية ولا السياسية، بل إن معظمهم قد وجد في نقد حركة ربيع دمشق فرصة للتعبير عن رفضه لهذه الحرية ومقته لها. وبعض من جذبته الحركة قليلا قصر جهده على الدعوة إلى ليبرالية فجة تستنجد بالقوى الأجنبية وتدعو إلى تعليق الآمال جميعا عليها.

ما كانت لمصادرة فكرة العلمانية من قبل فريق اجتماعي ليحولها إلى رأسمال خاص به إلا أن يقود إلى أمرين. إفساد المفهوم من جهة وتقويض فرص تعميمه وانتشاره في الوعي وفي المجتمع والدولة معا، وبالتالي قطع الطريق على تقدم فكرة الحداثة وترسخها في الوعي الشعبي.

فبقدر ما أصبحت العلمانية ايديولوجية تغير شكلها ومضمونها ودورها الاجتماعي أيضا. فتحولت من مبدأ مؤسسي ناظم لسلوك الأفراد والجماعات، بصرف النظر عن اعتقاداتهم، إلى عقيدة قائمة بذاتها بديلة للدين، أي إلى دين جديد، يتخذ منها منطلقا لبناء رؤية للمجتمع والعالم معادية للرؤية المرتبطة بالدين القديم، ولرجاله وسلطته وقيمه. وككل عقيدة، صارت العلمانية “دوغما”، أي مذهبية مغلقة، وحقيقة ناجزة وثابتة لا تتغير ولا تتبدل، لا تحتمل النقاش ولا الجدال، قائمة في مواجهة جوهر آخر مطلق هو الحقيقة، أو بالأحرى “الخطيئة” الدينية. ولذلك ليس من قبيل الصدفة أن يربط هؤلاء أو أكثرهم العلمانية بالعلم، وأن يشتقوا مفهومها نفسه منه. هكذا أصبحت العلمانية مساوية للادينية، وراية يجتمع تحتها كل كاره للدين أو داعية للتجرد من تراثه والتحرر منه، في مقابل الإسلامية التي تقف في وجهها وتدعو إلى التمسك بالقيم والمفاهيم الدينية في تقرير كل ما يتعلق بالفرد والمجتمع والتاريخ والحضارة معا. ومن الواضح من مقال وائل سواح وزملائه إلى أي حد تعكس إشكالية العلمانية والإسلامية لديهم الصراع بين العلم، المنظور إليه كرديف للعقل، والدين، رديف الجهل والرؤية الخرافية. ولذلك فإن الاسم الصحيح الذي ينبغي إطلاقه على هذه العقيدة ليس العلمانية وإنما اللادينية أو العداء للدين، التي تختلط مع علموية سوقية، من مخلفات القرن التاسع عشر، تعكس الإيمان الساذج والبسيط بالعلم وبقدرته الخارقة. وهي العقيدة التي تسمح بتذويب جميع إشكاليات المجتمع والسياسة والاقتصاد والتاريخ وإلغائها في عقل مطابق للعلم، يعمل كإله محرك ومبدع، قائم خارج أي زمان ومكان. ومن هنا يأتي تماهي الكثير من المثقفين مع هذه الدعوة التي تسمح لهم بالشعور بالتفوق الطبيعي على الغالبية التي ينظرون إليها ككتلة عددية، جاهلة، تفتقر للعلم وللعقل معا، لا كشعب ولا كأمة تمتلك وعيا وإرادة وقادرة على الفعل أو الانجاز من أي نوع كان.

ومن الطبيعي أن تكف العلمانية في هذه الحالة عن أن تكون مفهوما إجرائيا يهدف إلى فهم الواقع وتحليله، يمكن نقده ككل المفاهيم العلمية والاجتماعية، وتعديل مضمونه ودلالاته على ضوء التجربة التاريخية، ومع تغير هذا الواقع أو تقدم المعرفة بدقائقه. فككل عقيدة تتحول إلى مذهب ديني، أصبحت العلمانية في نظر عابديها المخلصين ماهية ثابتة وجامدة، لا يدخل عليها تغيير، وصالحة بالتالي، مثل الدين، لكل زمان ومكان، لأنها قائمة فوقهما وخارجهما، تعيش حياتها بمعزل عن الواقع وعن المجتمعات وعن التواريخ، مهما اختلفت تجاربها أو تناقضت سيرها ومساراتها. ويصبح أي مساس بأسطورتها، أي بقدسية فكرتها، أو تغيير في أسلوب ممارسة طقوسها، أو تشكيك في بعض سيرها واستخداماتها، هرطقة وخروجا عنها. لأنه يشكل مساسا بالهوية، وتهديدا لاستقرار الجماعة الايمانية التي تتحول أكثر فأكثر، في مواجهة مجتمع يستعصي على سيطرتها، إلى عصبة منغلقة عدوانية، تتبنى جميع المواقف التي تتبناها الجماعات الدينية المواجهة لها، وتعلن مثلها جهادها، بجميع الوسائل، النظرية والمادية، الشرعية وغير الشرعية، السلمية والعنفية، لنشر العقيدة التي يكمن فيها خلاص البشرية. ومثلها أيضا، تبني العلموية كنيستها التي توزع بطاقات الخلاص على المخلصين لها وتحرم من تشاء من اعترافها وبركتها.

هذا ما يفسر أيضا الطابع التبشيري الممل للخطاب العلموي، وما يتميز به من الجمود والثبات وتكرار الصيغ والعبارات والشعارات نفسها، دون أدنى مراجعة أو محاولة لتجديد الفكرة أو تعميقها، منذ نصف قرن. فككل المتدينين، يعتقد العلمويون أن أي تغيير أو تعديل في سرديتهم الخاصة بهم، لا بد أن يثير الشك في متانة العقيدة، ويقوض ربما أسس بقائها. وأن كل ما أنتجه هذا الخطاب كان مقالات تمجيدية ودفاعية، تهدف إلى صون الفكرة من التغيير والتعديل، والحفاظ على تماميتها وأصولها، في وجه ناقديها، وتستند على الاسترجاع الأبدي للأفكار نفسها، وإعادة إنتاجها عبر نقد خطابات الخصوم أو من يحولون إلى خصوم، والتشهير بهم وإظهار مروقهم أو خيانتهم. فعندما تتحول الفكرة إلى عقيدة وتصبح منتجة لهوية وانتماء خاص وولاء جمعي، تكتسب قيمة رمزية أساسية، وتصبح بالتالي موضع قداسة، يصعب النقاش فيها أو الحديث عنها خارج دائرة االاحترام والإجلال والتمجيد والتبرير.

هكذا تغير دور العلمانية أيضا في حياتنا السياسية والاجتماعية. فبعد أن كانت مبدأ جامعا، يقرب بين مختلفين، بدعوة الجميع إلا الارتفاع على خلافاتهم العقائدية للاتفاق على شروط ممارسة هذه العقائد جميعا بحرية، وبالتالي ضمان حيادية السلطة التي ترعى هذه الممارسة الحرة وتحافظ عليها، أصبحت بالعكس أداة للتمييز والفصل بين جماعتين، جماعة المتدينين وجماعة المتحررين من الدين. ولم يعد أنصار الفكرة العلمانية ينشدون، كما كان الأمر في الأصل، إقناع الآخرين بالدخول في منطق السلطة الديمقراطية، والانتماء إلى أمة سياسية مختلفة عن الأمة الدينية، توحد جميع الأطراف من أصحاب العقائد المتنازعة، تحت سقف دولة محايدة، تحترم الجميع بالتساوي وتدافع عن حرياتهم الاعتقادية والسياسية والمساواة والعدالة في ما بينهم، وإنما أصبحوا يدافعون عن مكانهم وموقعهم في التركيبة الاجتماعية، بوصفهم أصحاب كنيسة مستقلة ومتميزة، ذات أسرار وطقوس يصعب استيعابها من قبل العامة الجاهلة والأمية. ولذلك لم يعد تحقيق العلمانية بما تعنيه من ضمان الحرية والمساواة والعدالة، هو الذي يعنيهم حقيقة، ولا حتى التبشير بها والسعي إلى نشرها وإقناع الآخرين بفائدتها، وإنما حمايتها من التحريف، كشرط للمحافظة على الملة، التي صارت إليها العلمانية. وهذا ما يفسر النزعة السائدة عند هؤلاء لتصنيم مفهومها وتحويله إلى حقيقة ثابتة ونموذج جاهز وناجز، لا يقترن تحقيقه بأي حيثية، وجعله أقنوما واحدا مستقلا يتقدم على كل ما عداه من الأقانيم. فهي هدف في ذاتها، لا يهم إذا ما ارتبط تحقيقها بضمان حرية الأفراد أو عبوديتهم، ولا إذا كان على حساب المساواة أو التمييز في ما بينهم. فصل الدين عن الدولة أو إخراجه منها، هو الغاية الأولى والوحيدة، والتي يبرر تحقيقها أو الوصول إليها جميع الوسائل الأخرى، بما في ذلك أقسى الديكتاتوريات العسكرية.

{{3 – معنى العلمانية}}

بالمقابل نحن ننظر للعلمانية بوصفها مبدأ من مباديء الثورة السياسية الحديثة التي تقود، في العالم كله، نحو بناء أمم سياسية، ودول/أمم ديمقراطية تعمل على بلورة إرادة هذه الأمم وتؤمن إعادة إنتاجها في الوقت نفسه كجماعة سياسية. ففي موازاة تفكك الإيديولوجيات التقليدية وانحسار المناخات اللاهوتية القرسطوية، سوف يتحلل مجتمع الجماعة الدينية المتراصة، وتبرز الاختلافات والتنوعات داخل الدين الواحد، وليس بين الأديان المختلفة فحسب. بل إن الصراع بين المتدينين وغير المتدينين داخل الدين الواحد سوف يحتل، في مرحلة ثانية، أي ما بعد الطائفية، المرتبة الأولى في الصراع، ويدفع إلى تفاقم الجدل بين تيارات الفكر والاعتقاد وتنازعها. وفي هذا السياق ستظهر العلمانية لتؤسس لنهضة فكرية كبرى أساسها توفير مبدأ أو قاعدة أخلاقية سياسية تسمح للمجتمعات المتحللة والمتفجرة، ببناء الوحدة السياسية مع الحفاظ على التعددية، والاستمرار في الجدال والمناظرة من دون الانجرار وراء الحرب الأهلية. وليس هذا المبدأ الخطير الذي يكاد في نظري يساوي العلمانية أو يستغرق مفهومها، سوى احترام حرية الضمير، بما تعنيه من حق اختيار العقيدة والتعبير عن الرأي والدفاع عن الفكر المختلف. ومن هذا المبدأ وما يتضمنه من اعتراف بأصالة الضمير وتحريم انتهاكه، لأي فرد، سوف يشتق مبدأ المساواة بين الأفراد، بقدر ما تحولوا جميعا لأفراد أحرار وعاقلين، أي يملكون جميعهم ملكة الضمير والوعي والتفكير. ولأنهم متساوين، فعليهم أن يقروا لأنفسهم ولكل واحد منهم بحقوق واحدة أمام القانون، بصرف النظر عن اعتقاداتهم ومذاهبهم وظروف معيشتهم، وأن يكونوا مشاركين في تقرير مصيرهم الجماعي، أي في قيادة الدولة والجماعة، ومتكافلين. ومن هنا أصبحت مباديء الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية التي تعني التضامن والتكافل، مؤسسة لجماعة جديدة، هي الأمة أو الجماعة السياسية، في مقابل الجماعة أو الأمة الدينية القديمة. فإذا أخفقت الجماعة السياسية الجديدة، أي الأمة الممثلة في الدولة، في ضمان حرية الأفراد في اختيار اعتقاداتهم والتعبير عن أفكارهم، أو مارست التمييز بينهم بسبب انتماءاتهم، أو لم تنصف في معاملة بعضهم لحساب البعض الآخر، انتفت إمكانية بناء المواطنة كرابطة سياسية جديدة، مضافة إلى رابطة الدين أو موازية لها، وأصبح من المستحيل على الدولة أن تبني أمة أو جماعة سياسية. وتعثرت ولادة الحداثة السياسية، بما في ذلك قيام دولة قانونية.

والقصد أن العلمانية ليست عقيدة دينية جديدة تنزع إلى الحلول محل العقائد الأخرى أو التعويض عنها، وإنما هي قاعدة لإدارة التنافس بينها، وتنظيم طريقة التعبير عن اختلاف كل منها مع غيرها، بما فيها العقائد اللادينية. وهي تقوم على افتراض إمكانية تحييد الاعتقاد الشخصي والفلسفي في الأمور الجماعية التي تتعلق بإدارة الدولة، حتى يمكن للدولة أن تكون دولة الجميع، وليست دولة جماعة اعتقادية واحدة. لكن تحييد الاعتقاد الديني والفكري في دائرة تعامل الدولة مع مواطنيها لا يعني إدانة أي اعتقاد، أو التقليل من نفوذه، أو تحييده في المجال الاجتماعي، أو تحويله كما يعتقد البعض إلى اعتقاد شخصي، ومنع معتنقي الدين من تكوين روابطهم الجمعية. فالخاص لا يعني الشخصي والفردي. بل بالعكس، إن العلمانية لا تضمن شرعية وجودها إلا مما تقدمه لجميع الأفراد والجماعات العقائدية من حرية أصيلة وجوهرية، لا يخضع مبدؤها للنقاش، في التعبير عن نفسها وتنظيم كيانها والدفاع عن مصالحها أيضا، ضمن شروط احترام مباديء حرية اعتقاد الآخر والمساواة والعدالة. وتفقد العلمانية مبرر وجودها إذا تحولت إلى عقيدة بديلة تحتكر السلطة السياسية، وتمارس الاضطهاد ضد العقائد الأخرى أو تشجع عليه أو تقبل به، أو تدعو للحد من حريات منافسيها وخصومها الفكرية والمذهبية، وتبرر عدم المساواة القانونية أو الأخلاقية تجاههم، أو لا تكترث للظلم الواقع عليهم.

فالفكرة العلمانية أبسط بكثير مما نعتقد، وهذا مكمن قوتها وانتشارها وشعبيتها أيضا في موطنها الأصلي. فهي تعني باختصار أن الدولة لا تشتغل بأمور العقيدة، أي كل ما يتعلق بموضوعات الإيمان وما يشكل مسلمات إيمانية عند الناس، سواء أكانت مسلمات دينية أو عقلية لا دينية. ليس هذا دورها، وليست لديها الإمكانيات والشروط التي تسمح لها بذلك. وإنما تقتصر مهمتها على تحسين شروط حياة أعضائها، المادية والمعنوية، من جميع المذاهب والاعتقادات، والارتقاء بثقافتهم وتكوينهم العلمي والمهني. أما موضوع العقائد فهي متروكة للجماعات المدنية نفسها، تتنازع فيها على قاعدة الحرية الفكرية والاعتقادية والمساواة الكاملة والتنافس السلمي. فشرط القبول بحيادية الدولة الاعتقادية وتجريدها من الدين هو إقرار الحرية الكاملة خارجها لجميع الأديان والمذاهب والعقائد. ومن دون ذلك تصبح العلمانية بالعكس غطاءا لدولة مذهبية مقلوبة، أي تفرض مذهب العقل والعلم على المجتمع بأكمله، أو تكافح ضد العقائد والأديان السائدة في المجتمع وتعمل على إضعافها ومحوها. وهو ما عرفته الدولة الشيوعية في القرن الماضي، وكان مثالا للعلمانية الدينية التي انتهت بكارثة على جميع تلك المجتمعات، لا تزال آثارها الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية مستمرة بعد أكثر من عشرين عاما على زوالها. وأي علمانية لا تضمن الحرية الفكرية والسياسية وتحافظ عليها، تفقد شرعيتها وتتحول لا محالة إلى أداة لتسويد عقيدة سائدة. هكذا لا تشكل العلمانية إذن عقيدة بحد ذاتها ولكنها تقدم نفسها على أنها المبدأ التي يكفل ممارسة العقائد جميعا بقدر ما هو مؤسس لمفهوم الحرية الفكرية.

لكن العلمانية، بقدر نجاحها في ضمان الحريات الفكرية والسياسية، تفتح فضاء جديدا وتخلق ظروفا لا يمكن إلا أن تقود إلى تغير في أفكار الناس واعتقاداتهم ومنظومات قيمهم وتطلعاتهم. إنها تشكل إطارا لولادة ثقافة جديدة بالمعنى الحرفي للكلمة، هي الثقافة الحديثة، بكل ما تتصف به من استثمار في الفرد والشخصية الإنسانية، ومن قيم الحرية واستقلال الرأي والمساواة والندية، ومن اهتمام بشروط الحياة الدنيوية واعتقاد بإمكانية تحقيق السعادة على الأرض والتمتع بالحياة الدنيا. لكن هذه الثقافة ليست مشتقة من العلمانية، إنما هي ثمرة الجدل الفكري والاجتماعي الذي يخلقه ضمان الحريات والمساواة وحكم القانون، وما يقود إليه ذلك من إثراء للمعرفة ونضوج للنظم المجتمعية وتطوير للعلوم والإبداعات التقنية.

وملخص القول هنا، أن العلمانية مفهوم تاريخي. وكأي مفهوم تاريخي، تظل مرتبطة بشروط التجربة التي ولدت فيها، بينما يظل الواقع أغنى من المفهوم. والنماذج التي ارتبطت بنشوء الوعي العقلاني وتلك التي جسدت مبدأ الفصل بين السلطات الدينية والزمنية وتكريس استقلال واحدهما عن الآخر، لا يمكن أن تكون هي نفسها، أو تطبق كما هي على المجتمعات كافة، بصرف النظر عن تراث كل منها وتركيبتها الدينية والاجتماعية، وعلاقة الدين بالدولة فيها، وظروف تقدم تجربتها السياسية. وهي جزء من عملية تاريخية شاملة تتعلق بانتقال المجتمعات التقليدية نحو الحداثة، ولا بد أن يتأثر حضورها، من حيث الشدة والامتداد، أو من حيث القوة والضعف أو من حيث الوضوح والاختلاط، بشروط هذا الانتقال، وفرص تحقيق الحداثة في مستوياتها المختلفة.

ولهذا السبب ليس من الممكن تطبيق أي مفهوم تاريخي على مجتمع من المجتمعات من دون نقده مسبقا. ولا يعني النقد التهشيم، وإنما الكشف عن قدرة هذا المفهوم على إنارة تجربة جديدة مختلفة عن التجربة التي ولد فيها، أي عن مدى قدرته على أن يكون مفهوما كونيا ينطبق على جميع التجارب. وفي هذه الحالة يمكنه أن يلعب دورا إيجابيا ومنورا في إعادة بنائها أو المساعدة على دفع تجربتها الخاصة إلى الأمام. وإلا فهو بحاجة إلى إعادة صياغة وتعديل وتقويم حتى يتمكن من تفسير التجربة الجديدة والرد على التساؤلات التي تطرحها.

{{4- العلمانية ومعركة الحرية}}

من هنا أعتقد أن نقد العلمانوية، أي العلمانية العقائدية، المحولة إلى خطاب هوية، مرفوع في وجه الأكثرية الاجتماعية، ومبرر لحرمانها من الحرية، أصبح شرطا لتحرير العلمانية من قيودها، وإخراجها من المعزل الذي وضعت فيه، وإطلاق قدراتها على تثوير الثقافة والسياسة العربيتين بالمبادئ الإنسانية. وشرط هذا التحرير فصلها عن فكرة اللادينية أو العداء للدين التي عزلتها وحولتها إلى عقيدة فئوية، وفتحها على جميع أولئك المؤمنين بحرية الرأي والضمير، مهما كانت عقائدهم وفلسفاتهم الشخصية. والذين يرفعون سقف العلمانية ليطابقوا بينها والايمان بالعلم عوض الدين، أو التخلي عن الاعتقاد الديني، لا يهمهم انتشارها ولا قبول الناس بها، وإنما يريدون أن يحتفظوا بها متاعا خاصا لهم، يميزهم عن غيرهم من الفئات الاجتماعية. ولكنهم بقدر ما يستخدمونها وسيلة للإقصاء يحكمون على أنفسهم أيضا وعقيدتهم بالإقصاء من المجتمع والعيش في معازل هامشية.

لا يمكن أن تكون العلمانية هي نفسها عقيدة فئة لوحدها، وتسمح في الوقت نفسه للناس بتجاوز مواقفهم العقائدية. ولا أن تكون هوية جماعة خاصة، وفي الوقت نفسه قاعدة لجمع الأمة بأكملها تحت ظل سلطة قانونية. فعندما تصبح هوية وعقيدة لا يمكن أن تؤسس لمعرفة موضوعية مستقلة عن أحكام القيمة الإيديولوجية، ولا مبدأ ناظما لدولة سياسية تؤلف بين جميع أصحاب العقائد وتوحد بينهم، الدينية منها والعقلية. والواقع أن العلمانية لا تملك أي مضمون عقائدي، بحد ذاتها. ومن كانت هويته العلمانية فلا هوية له. إنها موقف من العقيدة والهوية. والذين يحولونها إلى عقيدة يخلطون بينها والفلسفة اللادينية. فمن المفروض أن يستطيع المتدين أن يقول عن نفسه ويكون بالفعل علمانيا، وإلا فليس للعلمانية قيمة ولا مبرر على الإطلاق. فهي ممكنة فقط بانضمام المؤمنين لمبدئها، وليست ممكنة إطلاقا بعزلهم أو استبعادهم. ففي هذه الحالة لن تكون مبدأ للحرية وإنما للاضطهاد والقهر الروحي والديني. وسوف تكون نتائج تطبيقها معاكسة تماما لما نشأت من أجله. وهو ما نلاحظه بالفعل في بلادنا حيث يترافق انهيار الضمير والانحلال الفكري مع تفاقم مسألة الحرية وتعميم الاضطهاد وما يعنيه من قتل الذاتية.

هذا ما تشير إليه التجارب التاريخية نفسها. فقد انضم تيار كبير من رجال الدين الشباب إلى الفكرة وأيدوا الفكرة العلمانية، ليس من باب التخلي عن وظيفتهم أو إيمانهم الكاثوليكي، وإنما اعتقادا بأن العلمانية لا تنفي الإيمان والاعتقاد، ولا تشكل هي بحد ذاتها إيمانا جديدا، وإنما تنظم العلاقة بين أصحاب الاعتقادات المختلفة على أساس الحرية، أي تأسيس دولة تضمن الحرية للجميع، وتستطيع تحقيقها، بالرغم من اختلاف الآراء. وهذا هو المكسب التاريخي الحقيقي الذي مكن من نشوء الدولة الوطنية، القائمة على الخيار الحر والإرادة الحرة لأعضائها جميعا، مختلفة عن الجماعات أو الأمم الدينية التقليدية التي كانت تتأسس على غلبة جماعة على جماعات أخرى، ولا تستمر إلا مع استمرار هذه الغلبة، وما تنطوي عليه من قبول الجماعات المغلوبة من الخضوع والانصياع لإرادة الغالب والتكيف مع عقائده ومطالب سيطرته.

لا يعني نقد العلمانية اليوم، سوى الفصل الكامل والنهائي بينها وبين اللادينية التي تشكل العقيدة الحقيقية لجزء من النخبة الثقافية العربية والعالمية معا. ولا يتضمن هذا الفصل ولا ينبغي أن يتضمن أي مساس بشرعية اللادينية كفلسفة وكهوية جمعية، ولا بحق أصحابها في العمل بحرية داخل الفضاء الاجتماعي، فكرا وتنظيما وصراعا لتحقيق أهدافها وغاياتها. بل إن العكس هو الصحيح. إن هذا الفصل هو شرط انعتاق الفكرة اللادينية والممارسة العلمانية معا. فالتستر وراء مبدأ العلمانية لم يضعف شروط تحقق الفكرة اللادينية فحسب، ولكنه حرمها أيضا من الطموح إلى انتزاع مشروعيتها في حقل الثقافة العربية، وقلل فرص تطويرها في إطار مناظرة عقلية شفافة وضرورية. وليس هناك سوى التقدم على طريق العلمانية الحقيقية، وما يعنيه من تخلي العلمانوية أو اللادينية عن فكرة الدولة العقائدية التي تبشر بعقيدة العقل ضد الظلامية الدينية، تماما كتخلي أصحاب الفكرة الدينية عن السيطرة على الدولة وتحويلها إلى أداة لفرض عقيدتها على الجميع، سبيلا للخروج من الحرب العقائدية وفتح باب المعرفة العلمية. فاحترام حق المؤمنين بالتمسك بإيمانهم والاعتراف بأصالة هذا الإيمان وشرعيته ولا جداليته هو شرط فرض حق اللامتدينين بالتمسك باعتقادهم والاعتراف بأصالته وشرعية وجوده الذي لا يجادل فيه أيضا.

وبالمثل، إن تحرير العلمانية من اللادينية، وإخراجها من الشرنقة العقيدية، هو شرط تعميمها كمبدأ تنظيم سياسي يتجاوز الاعتقادات الدينية وغير الدينية، ويصب في بناء جماعة سياسية سميت في العصر الحديث، امة دولة، لا يمنع اختلاف الناس في اعتقاداتهم في ظلها من اتحاد إرادتهم وتفاهمهم واتفاقهم على بناء إطار للحياة الجماعية، ساهم أكثر من أي إطار سابق في تفجير طاقات المجتمعات الأخلاقية والفكرية والسياسة والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك تجديد النظم الاعتقادية التقليدية وإحيائها.

وهذا هو أيضا شرط تحقيق الفصل بين العقيدة والمعرفة، أي بناء أسس مناظرة معرفية موضوعية جدية، من جهة، وتحرير الرأي العام من نير التحالف الموضوعي بين الطغيان السياسي الممثل بالسلطة الاستبدادية، والطغيان الفكري الممثل بسيطرة الخطابات الدينية. وطالما بقي الاختلاط بين المعرفة والعقيدة، واستمر الدعم المتبادل بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، أي التفاهم بين النخب الدينية والنخب السياسية ضد الحرية، فلن يكون هناك أمل في الخروج من الحالة القائمة التي تفرض على الجميع البقاء ضمن حدود أقليات هامشية، اللادينيين، والدينيين، الإسلاميين والعلمانيين، الأكثريات والأقليات، لصالح فئات سيطرة غاشمة ومحدودة، لا تحتاج لضمان سيطرتها إلى إقناع الرأي العام ولا موافقته، وإنما تستطيع أن تؤمن ذلك من خلال تذرر المجتمعات وتحلل عراها، واستخدام القوة المجردة والإرهاب للقضاء على تيارات المقاومة والمعارضة والاحتجاج الضعيفة فيها.

تقف العلمانية في مقدمة المعركة من أجل الحرية ومنها تستمد مشروعية وجودها. ولن يكون لها مستقبل في العالم العربي إلا بقدر ما تساهم في هذه المعركة وتعمل على الانتصار فيها. ويتطلب هذا من العلمانيين رفض أي مشاركة في المؤامرة ضد الحرية، لا من خلال دعمهم للنظم الاستبدادية والتغطية على استبدادها وتزيينه، أو رش السكر عليه بتحويله إلى حاجز ضد الظلامية، ولا عن طريق اغتيال المعرفة الموضوعية وإخضاعها للعقيدة وأحكامها الذاتية والمصلحية، وللمصالح السياسية.

هل يعني هذا أن صعود الحركات الإسلامية لا يهدد العلمانية أو أن العلمانية تستطيع أن تستوعب نمو الحركات الإسلامية. بالتأكيد تشكل الحركات الإسلامية تحديا تاريخيا لفكرة العلمانية وممارستها معا. بيد أن الجواب على هذا التحدي لا يكون بالتخلي عن روح العلمانية والقيم التي تبرر وجودها وتؤسس شرعيتها، وإنما بالعكس في إظهار العلمانية بمظهرها الحقيقي الحيادي الذي يشجع الناس على تجاوز نزاعاتهم العقائدية المنتمية للماضي، ويقدم لهم فكرة تساعدهم على الاتحاد أو التفاهم لإنقاذ الحاضر، أي لبناء حياة قائمة على الاعتراف بحرية الجميع والمساواة بينهم وتضامنهم.

لهذا تستحق العلمانية أن نعود إليها اليوم ونراجعها ونعيد بناءها، أي أن ننقدها. لأنها المفهوم الوحيد الذي يمكننا من التمييز بين الموقف الاعتقادي والموقف المعرفي، ويسمح لنا بانتزاع ساحة جديدة مستقلة عن الإيديولوجية نقيم عليها أساس تفاهمنا الجديد، من وراء العقائد العقلانية والأديان السماوية. وليس هناك أي مفهوم آخر يستطيع أن يقوم بذلك. فهي وحدها التي تقدم مفهوما دون مضمون عقائدي، بينما لا يمكن تصور العقلانية إلا كفلسفة أو رؤية مرتبطة بقيم وأحكام وتوجهات تشكل اختيارا خاصا لفئة من المجتمع. العلمانية هي الوحيدة التي لا تؤسس لاختيار قيمي آخر سوى حرية الاختيار، وضمان هذه الحرية بإجراءات قانونية وسياسية واحدة، ومنطبقة على جميع أصحاب العقائد بالتساوي.

في هذه الحرب الايديولوجية التي تدمر اليوم أسس وجود الدول والتنظيمات المدنية العربية جميعا، أو تهدد بتدميرها، ليس هناك سوى صيغة الحرية المكفولة للجميع، وسيلة لتطمين الأفراد على عقائدهم ووجودهم، وتحويلهم عن الاقتتال إلى التفاهم والتعاون. وكما أن أصالة العلمانية تنبع مما تقدمه من فرص لتوحيد المختلفين في العقيدة، وبالتالي توسيع دائرة التحالف الضروري لتحطيم نظام الوصايات المتعددة، الذي هو في الوقت نفسه نظام الاقتتال، فإن تحويلها إلى عقيدة وفرضها بالقوة أو تحويلها إلى عقيدة معادية للدين والفكر الديني، يزيل عنها كل السمات التي جعلت منها أداة لتوحيد المختلفين وتجاوز تعددية المذاهب والاعتقادات، ويقوض لا محالة أسس شرعيتها ومبرر وجودها.

باختصار، العلمانية من دون حراسة قيم الحرية والمساواة والعدالة، يمكن أن تتحول اليوم في البلاد العربية إلى أكبر عقيدة قهرية، أو مشرعة للقهر الجماعي، باسم حداثة ليست في جوهرها ومظاهرها نفسها أحيانا سوى قرسطوية مقنعة ببهارج عصرية لا تخدع أحدا. فهي حداثة سالبة للإنسان ومعطله لضميره وعقله وجسده، ومستلبة لحرياته وإرادته، معادية لفكرة الحق والقانون والمسؤولية الفردية والجماعية معا.

ولذلك كما ينبغي أن نرفض الاختباء وراء شعارات العلمانية لتبرير الحرب ضد الحرية أو للمحافظة على نظم القهر والاستبداد، ينبغي أن ننكر أيضا القطيعة التي عمل الإسلاميون والعلمانيون الكاذبون على فرضها على المجتمعات. وأن نطرح بالمقابل مفهوم الدولة المدنية المحايدة عقائديا، والتي تحترم حريات الجميع وعقائدهم. وبالمثل، كما ينبغي علينا أن لا نتخلى عن واجبنا في الدفاع عن حرية القوى والحركات السياسية والمدنية جميعا ضد سياسات القمع والاضطهاد، علينا أن لا نتردد في توجيه النقد لهذه القوى والحركات، حينما تظهر عداءا لحرية الرأي والاعتقاد، أو تسعى إلى فرض هيمنتها على الآخرين والإساءة إليهم أو تشويه صورتهم لدى الرأي العام. وهذا يعني أننا لا ينبغي أن ننتظر تطبيق الدولة لمبدأ العلمانية حتى نلتزم به، وإنما أن نطبقه نحن منذ الآن على أنفسنا وفي ساحة العمل العام، فنكف عن اتهام بعضنا البعض الآخر، أو التشهير به، أو تخوينه أو تكفيره، ونعترف بشرعية تعددية وجهات النظر وأصالتها، ونقبل بنسبية المعرفة، بما في ذلك مفاهيم العلمانية والحرية والمساواة والعدالة والقومية والوطنية وجميع المفاهيم الأخرى، وتحولاتها وتبدل دلالاتها أيضا. وهو شرط قبول الآخر والتسامح بين الأطراف المتباينة في النظر. فليس هناك علمانية ولا حرية يمكن أن تعيش بغياب مفهوم الحد الأدنى من النسبية. وهذا هو أيضا أساس بناء حقل المعرفة العلمية القائمة على افتراض حد كبير من إمكان التفاهم والتواصل بين بني الإنسان، من وراء أفعال الإيمان والاختلافات العقائدية.

باختصار، كما يشكل فصل العلمانية عن اللادينية شرطا لإعادة مفهوم العلمانية إلى ذاته كمبدأ حرية، يشكل تحرير العلمانية من توظيفاتها الإيديولوجية شرطا لتعميمها واستبطانها من قبل الجمهور وتحويلها إلى قاعدة لحياة سياسية وثقافية ثرية ومستقيمة، في الدولة والمجتمع على حد سواء.

https://www.alawan.org/2013/12/08/%D8%B1%D8%AF%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%88%D8%A7%D8%A6%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%A7%D8%AD-%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%AC%D9%84-%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7/

———————————-

-7-

العلاقة بين الدولة العلمانية والدولة المدنية/ سحر حويجة

يزداد الجدل حدة، في أوساط النخب الثقافية والسياسية العربية ومنها بالطبع سوريا بيت القصيد، حول مفهوم الدولة المدنية، بين من يقول بأن الدولة المدنية لا يمكن أن تكون إلا دولة علمانية، وآخر يقول أن الدولة المدنية ليست نقيضاً للدولة الإسلامية، لأن المعايير التي تقوم عليها الدولة المدنية متوفرة في نظرة الإسلام للدولة.

وفي الوقت الذي يلتقي على الرأي الأول اتجاهان متناقضان ايديولوجياً، أولهما: التيارات العلمانية التي يؤكد منظروها، على علمانية الدولة المدنية. وثانيهما: الاتجاهات الإسلامية الراديكالية، التي تصر على اعتبار الدولة المدنية هي نفسها الدولة العلمانية، لذلك ترفض الاثنتان، هذا لسان حال المنظمات الإسلامية المتشددة منها جبهة النصرة ناهيك عن القاعدة، كما عبر عن ذلك بصراحة شديدة حزب التحرير الإسلامي الأردني.

غير أن أغلب تيارات “الإسلام السياسي” اتخذت موقفا مغايراً، رأت فيه أن “الأصول الإسلامية لا تتنافى في شيء مع مفهوم الدولة المدنية، بل تؤسس لها وتتفق معها. في المقابل  نجد عدداً من القوى والشخصيات العلمانية في سوريا، تبتعد عن العلمانية، بل تتخلى عنها لصالح الدولة المدنية، منهم برهان غليون[i] وحسن عبد العظيم المنسق العام لهيئة التنسيق الوطنية يعلن أنه مع الدولة المدنية بوصفها دولة المدينة وصحيفة المدينة، وهي التي أنشأها النبي العربي منذ 14 قرناً، ويبرر استخدامه لمصطلح المدنية كون العلمانية لها حساسية في القواعد الشعبية. من بين المتراجعين أيضاً، المعارض حازم نهار، الذي كان يقول إن سر نجاح أي ثورة هو منطقها العلماني، لكنه حالياً يسوق للدولة المدنية على اعتبار أن الشارع يملك حساسية تجاه كلمة العلمانية. وأيضاً رئيس تيار بناء الدولة السورية لؤي حسين الذي يعتبر الاستبدال هو في المصطلح فقط وليس المضمون.

وهناك قوى عديدة علمانية أو تدعي العلمانية (كالقوى الشيوعية التي لا تشغلها قضية العلمانية إلاّ في المناسبات)، التي تساهم رغم حسن النوايا في خلط المفاهيم ودعم القوى المعارضة للعلمانية.

ومن جهة النظام في سوريا، بقيادة حزب البعث، فهو لم يكن يوماً نظاماً علمانياً، فالموقف التاريخي لقيادة حزب البعث منذ تأسيسه غامض، ومنذ تسلمه السلطة لم يكن حزب البعث سوى تابع وأداة بيد النظام الديكتاتوري الشمولي العسكري، المسيطر على مفاصل الدولة، ومؤسساتها وعلى المجتمع بشكل مطبق، حيث لا نجد فرقاً بين السلطة والدولة ، بل السلطة هي الدولة في ظل النظام الشمولي.

ورغم قدرة هذا النظام على فرض ما يشاء من قوانين وقرارات، دون رقابة أو معارضة، إلا أنه لم يشأ أن يفرض نظاماً علمانياً، حيث هناك تجارب تم فرض العلمانية فيها بقوة النظام، كما حصل في تركيا والاتحاد السوفيتي.

غير أن النظام السوري استخدم العلمانية، واستفاد من هذه الصورة الملتبسة التي ساهمت فيها أولاً: القوى الإسلامية التي كانت تدعي وتحرض ضد النظام مدعية أنها تحارب نظاماً علمانيا كافراً. واستفاد النظام من هذه الورقة كوسيلة للدعاية له أمام وسائل الإعلام الغربية لينال دعمها ضد الأصولية الإسلامية، غير أنه على أرض الواقع لم يفصل الدين عن مؤسسات الدولة، ويبرهن على ذلك الدستور في نص المادة الثالثة مننسخة عام 1973 وعام 2012 التي تتكون من فقرتين الأولى: دين رئيس الجمهورية الإسلام، والثانية: الشريعة الإسلامية مصدر أساسي للتشريع. ويجدر الإشارة هنا، أن قانون الأحوال الشخصية في سوريا، ليس فقط خاضعاً للشريعة، بليضعه رجال الدين وليس السلطة التشريعية،[ii] حيث يتم بداية اقتراح القوانين من قبل المرجعية الدينية الخاصة بكل طائفة،وتطرح على أعضاء مجلس الشعب لإقرارها و بعدها يتم التصديق والنشر وتصبح قانوناً. وغالباً ما يتم إقرار هذه القوانين دون الكثير من النقاش. إضافة لوجود مواد تجعل من أتباع ديانات غير المسلمين من المرتبة الثانية. كما أن وزارة الأوقاف جزء من السلطة التنفيذية، ويتم تعيين خطباء المساجد بقرار رسمي، و يتم تحديد الخطب الدينية والموافقة المسبقة عليها.

بعد الحراك الثوري الذي شهدته الساحة السورية، والتحول الدامي بعد استخدام العنف المسلح إلى الحرب، وصلت الانقسامات إلى أوجها بين مكونات الشعب السوري، على أساس سياسي وطائفي ومناطقي واجتماعي. وأصبح خطاب الكراهية والانقسام الطائفي طافياً وبارزاً من خلال محاولات الاستقطاب والتعبئة من قبل الأطراف المتناحرة، سواء من قبل النظام أو المعارضة المسلحة، واستطاعت القوى المتشددة في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، بناء كنتونات عسكرية، تحكم المواطنين وفق قوانين شرعية، شكلت طابعاً مصغراً لدويلات دينية، وفي هذا السياق الاجتماعي والسياسي، حصلت مساومات بين النظام والمرجعية الدينية الفقهية واتخذت السلطة قرارات في خدمة أسلمة المجتمع السوري تحت مسمى دعم التيارالديني الوسطي.

ونحن على أعتاب مرحلة، يُفترض أن تحمل حلاً للأزمة السورية يؤدي إلى بناء مؤسسات جديدة للدولة، وإن كان الدستور المرتقب جزءاً من الحل، من المتوقع أن يتم التوافق فيه على جملة من القضايا، في ظل توافق وتأثير دولي وازن ومؤثر. ولو فرضنا تم الاتفاق على علمانية الدولة السورية، كيف ستكون ردة فعلالفئات الاجتماعية المختلفة والقوى المؤثرة في الواقع السوري؟ وماذا نريد دولة علمانية أم دولة مدنية أمدولة علمانية مدنية؟ هذا ما سوف أحاول الإجابة عليه في هذا البحث.

تعريف الدولة العلمانية

استخدم مصطلح العلمانية لأول مرة، مع نهاية حرب الثلاثين عاماً سنة 1648 عند توقيع صلح وستفاليا.[iii] وكلمة علمانية هي ترجمة لكلمة secularism (سكيولاريزم) المشتقة من الكلمة اللاتينية saculum (سيكولوم) والتي تعني العصر أو الجيل، أما في لاتينية العصور الوسطى، فهي تعني العالم أو الدنيا.

انبثقت دولة الحق والقانون، في سياق التحولات التاريخية الكبرى التي شهدتها أوروبا، بعد صراع طويلامتد ثلاثة قرون، ما بين العقل التنويري العلمي، وبين العقل الديني المسيحي وهذا ما سمي عصر التنوير. وتحت لوائه اندلعت الثورات في الغرب كالانكليزية 1680 والأمريكية 1770 والفرنسية 1789. وتزامن اندلاع الثورات في الغرب مع انتشار الفلسفات العقلانية، والرؤية العلمية والمادية بين الجمهور المتعلم، التي تعود جذورها إلى ما أنتجه فرانس بيكون 1620 في المنهج الجديد، وإلى كتابات هوبز 1679، وإلى عقلانية ديكارت، وإلى حلولية سبينوزا 1670 وإلى امبريقية جون لوك 1726 وأفكار لا بنتس، ومن بعدهم جاء: جان جاك روسو 1787 ، ومونتسيكو 1787. وتميزت هذه الثورات بالقطيعة المعرفية مع التصورالإلهي للكون، وقامت على أساس اعتبار المواطن الإنسان مركز الكون. ومن المتفق عليه أن فكر حركة التنوير هو الأساس الفلسفي التي انطلقت وبنيت عليه الدولة العلمانية، هي ببساطة رؤية مادية عقلانية حول رؤية محددة للعقل وعلاقته بالطبيعة، يكون فيها عقل الإنسان، والمرجعية الإنسانية مصدراً وحيدا للمعرفة وفق قواعد المنطق والحواس والتجريب. فمثلاً اعتبر روسو العقد الاجتماعي هو تعبير عن الإرادة العامة، من خلالها يتنازل الناس أمام الإرادة العامة، عن إرادتهم الخاصة. انطلاقاً من الرؤية الطبيعية التعاقدية، ومن الإيمان بالقانون الطبيعي وبقدرات الإنسان، أكد عصر التنوير فصل الدين عن الدولة، وعن رقعة الحياة العامة التي يمارس المواطن فيها حقوقه وحرياته.

ثمّة مبدآن علمانيان جوهريان ينبثقان من هذا الفصل:

المبدأ الأوّل: تفصلُ الدولة العلمانية بين مجالين مختلفين في حياة الناس: المجال العام مكرّسٌ لخدمة جميعالمواطنين على قدم المساواة، ويضمّ شؤون كالقانون والتعليم، وفي هذا المجال لا مرجعية لأي دينٍ. أماالمجال الخاص فيستوعب كلَّ المعتقدات والرؤى الشخصية، دينية كانت أم لادينية، أوإلحادية.

المبدأ الثاني: الدولة العلمانية تضمن المساواة الكلية، بين كل المتدينين بمختلف مذاهبهم، واللامتدينين والملحدين أيضاً. وتدافع عن حريتهم المطلقة في إيمانهم أو عدم إيمانهم (حريّة الضمير) .

تعريف الدولة المدنية

الدولة المدنية[iv] هي دولة لا عسكرية ولا دينية، ينعم فيها المواطنون بالحرية والمساواة في الحقوقوالواجبات، تسودها قيم الثقافة المدنية: كالتسامح وقبول الآخر والثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة. ومن مبادىء الدولة المدنية:

مبدأ المواطنة الذي يعني أن الفرد لا يُعرّف بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته، أو بجنسه، وإنمايُعرّف تعريفاً قانونياً اجتماعياً بأنه مواطن وعضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات.

مبدأ الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.

ومن المبادىء الهامة  في الدولة المدنية أيضاً، أنها لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة. كما أنها لا تعادي الدينأو ترفضه. حيث أن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأالتعدد الذي تقوم عليه الدولة المدنية.

ما الفرق بين الدولة المدنية و الدولة العلمانية؟

    العلمانية والمدنية كلاهما ضد الدولة الدينية. لكن العلمانية ترى أن الدين لديه شكل معين للدولة، وبالتالييجب فصله عن الدولة. بينما المدنية ترى أن الدين ليس لديه شكل للدولة، وبالتالي يتم التعامل معه كقضيةاجتماعية وثقافية.

    العلمانية تدعو للمساواة أمام القانون. وتعني المساواة فرض قانون واحد على الجميع. والتشريع والقوانينفي العلمانية يجب فصلها عن الدين. بينما في الدول المدنية تحترم الاستحقاق الديمقراطي. وبالتالي يجوزللأغلبية الفائزة تعديل القوانين مع مراعاة حقوق الأقلية والحفاظ على الشكل المدني للدولة.

    العلمانية لا تهتم بشكل نظام الحكم: علماني ملكي عسكري (ككوريا الشمالية) . حزبي (كالصين). المهمهو فصل الدين عن الدولة وقوانينها. أما الدولة المدنية فتشترط التداول السلمي المدني للسلطة. وبالتالي لنتكون دولة عسكرية.

    عدم اعتناقِ  الدولة المدنية، للمبدأ العلماني ومنها حق عدم الإيمان بدين أو الإلحاد،  يثير  الكثير من الشكوك  المحقة،  حول إمكانية المساواة الكليّة الحقيقية بين مختلف الفئات الدينية أو العرقية وحول إمكانية القطيعة مع ما يؤدّي إلى تمييز فئة عن أخرى.

    من أبرز الإنجازات الحضارية لتجارب الدول العلمانية، الفصل القانوني بين الدين والسياسة والعِلم، وبالتالي فصل التعليم عن تأثير أي دين. كما ألغت بشكل مطلق شرعية أية «فتوى» دينية أو سياسية تمسّحياة عالِمٍ أو مفكِّر، بينما لا تبدو في مشاريع الدول المدنية أية نوايا باتجاه إلغاء الفتاوى المعادية للحريةوالإنسان.

الإسلاميون والدولة المدنية

يُعرف زكي بن أرشيد (الأمين العام السابق لجبهة العمل الإسلامي في الأردن) الدولة المدنية من وجهة نظرإسلاموية[v] بقوله “إن المعايير التي تجعل الدولة مدنية خمسة هي: تمثيلها إرادة المجتمع وكونها دولةقانون، وانطلاقها من نظام مدني يضمن الحريات ويقبل التعددية وقبول الآخر، وقيامها على اعتبار المواطنة أساساً في الحقوق والواجبات لجميع المواطنين فيها، والتزامها بالديمقراطية والتداول السلمي على السلطة”.

أما كون القوانين تستند إلى المرجعية الإسلامية، لا يمنع تحولها بفعل الآلية الديمقراطية إلى قوانين مدنية،ويفيد هذا الأساس النظري في التمييز بين الشريعة والقانون على أساس أن الشريعة أحكام ملزمة دينياً للفردالمؤمن، بينما القانون فهو وضع بشري ملزم دنيوياً.

غير أنه ومن التجارب العديدة على أرض الواقع إن الديمقراطية لم تشكل سوى صباغ تتجمل بها الحركات الإسلامية شكلاً بأنها تقبل الديمقراطية والتنوع.

حيث رفض الأخوان في مصر أن تشارك قيادات غير محسوبة عليهم في تشكيل الحكومة رغم افتقارهمللقدرات الفنية لإدارة دولة. لكن عندما تكون العلمنة راسخة في المجتمع، فإن القوى الدينية سوف تتلاءم مع مستوى تطور الوعي الاجتماعي، حتى لا تفقد رصيدها وتحافظ على وجودها، مثال: حزب النهضة فيتونس. والسؤال يدور عن الشكل الذي سوف يتخذه التنافس السياسي بين الأحزاب الدينية والأحزاب العلمانيةأو اللادينية ؟ نظرياً يجب أن لا يكون الدين حزباً سياسياً، لأنه يتحول إلى عامل انقسام بين مكونات المجتمععلى أساس طائفي. ولو اتفقنا جدلاً على وجود أحزاب دينية، تقبل التعددية وتلتزم بمبادئ الديمقراطية،والتنافس السلمي للوصول إلى السلطة، من المعروف أنه خلال الصراع السلمي على السلطة في الدول الديمقراطية، يتم استخدام وسائل النقد وربما التجريح والتشهير بين القوى المتنافسة، فإن التوظيف السياسي للدين سوف يؤدي إلى استخدام أوصاف تكفير العلمانيين والتشهير بهم كونهم مرتدين والتركيز على حياتهم الشخصية وأمورهم الخاصة. وهذا ما يدفع العلمانيين بالمقابل للتشهير، والإساءة للأديان، ما يفقد الدين مكانته العقائدية، ويثير حساسية عالية لدى الجمهور، ويبعد الناخبين والمرشحين من التركيز على البرامج الاقتصادية والاجتماعية للمرشحين لصالح قضايا لا تخدم حياتهم بشيء، بل التلاعب بعواطف المتدينين ومناقشة قضايا تركز على الدين والأشخاص.

يقول الباحث د. نصير العمري[vi] إن تيارات الإسلام السياسي هي أحزاب سياسية يميزها عن غيرها أنهاتلعب لعبة مزدوجة، فمن ناحية تقدم نفسها للرأي العام من جمهور المتدينين على أنها أحزاب دينية إصلاحية “زاهدة” في السلطة. وفي نفس الوقت يقدمون أنفسهم بين الحزبيين وأمام الحكومات على أنهم مجرد أحزابسياسية لها برامج يعرضونها على الناس الذين لهم حق قبولها أو رفضها.

وبناء على هذه الازدواجية، يحق لمن ينافس الأحزاب الإسلامية أن ينزع عنها صفة “الإسلامية” لأنهاتستخدم الدين كغطاء وأداة سياسية.

والنتيجة: من غير المقبول وجود أحزاب دينية في الدولة المدنية لأسباب كثيرة كعدم قبول الفكر الديني للحرية بمفهومها المعاصر، وعدم قبول الفكر الديني للمساواة ومنها مساواة المرأة للرجل، والمساواة بين الأديان، كل هذا يقوض مبادئ الدولة المدنية المنشودة.

المجتمع السوري بين العلمنة والأسلمة

إن التمايز بين الفئات والمكونات المجتمعية على أساس الانتماء لطائفة، تخدم عملية تزرير المجتمع، وهذاالوضع ساعد و يساعد النظام في السيطرة على مكونات المجتمع وبث الفرقة بينها.

المجتمع السوري مجتمع حي، لعبت الأحداث التي مرت بها سوريا من الانتفاضة الشعبية ضد النظام إلى الحرب المكشوفة السافرة، في تغيير الكثير من أنماط وسلوك حياة الناس، وعلى الأخص دور المرأة في الأسرة والمجتمع بعد أن دخلت المرأة إلى المجال العام كمشاركة في التغيير المجتمعي. فقد دفعت الأحداث شريحة واسعة من الفئات المهمشة التقليدية من النساء إلى دخول المعترك العام، حيث اتجهت النساء للعمل وأصبحن معيلات وحيدات لعائلاتهن. بل أن عمليات النزوح والتشرد والهجرة الواسعة، أثرت كثيرا على أنماط السلوك في المجتمع وعلى كسر التقاليد والعادات المتخلفة التي تقيد مشاركة المرأة في الشأن العام، كل ذلك أثر على إمكانية تقبل النساء والرجال لأفكار جديدة وعادات وتقاليد جديدة فرضتها عليهم الحرب ومانتج عنها من عمليات النزوح واللجوء الفقر والتشرد، التي أدت إلى تفكك الأسرة سواء بسبب الموت أو الاعتقال والتغييب القسري أو بسبب تشتت العائلة الواحدة في أماكن متباعدة. كثيرة هي الظواهر التي أثارت الرعب في أوصال المجتمع المحافظ حتى  صارت الخطب في الجوامع تتناول لباس النساء وتحررهن وتطالب رجال العائلة بالتدخل. وهنا نخلص إلى أن المتغيرات المجتمعية وخروج فئات عن سيطرة العائلة البطريركية والقوى التقليدية تشكل رصيداً لعلمنة المجتمع وتقبله أفكار المساواة والحرية.

هذا الرصيد تم دعمه بفشل القوى المتشددة في إدارة المناطق التي وقعت تحت سيطرتها، حيث استخدمت مختلف وسائل العنف وقمع الحريات الشخصية للمواطنين، من تدخل في لباسهم وشرابهم وطعامهم وتنقلاتهم تحت ذريعة الشريعة. وطبقت القوى المتشددة القوانين الشرعية بشكل قسري ليس على مستوى قوانين الأحوال الشخصية فحسب، بل إن المحكمة الشرعية هي المحكمة الوحيدة المتواجدة في هذه المناطق وتحكم في كل القضايا وفق الشريعة الإسلامية. هذه السياسات أدت إلى ردود أفعال مناقضة لها عند المواطنين تمثلت بطوقهم للتحرر والانعتاق خاصة في أماكن سيطرة داعش، وجبهة النصرة.

من جهة أخرى، شكلت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على مساحة واسعة من الشمال الشرقي في سوريا (تحت مسمى مناطق الإدارة الذاتية) حيث فرضت قوانينها العلمانية تجربة إيجابية وقبولاً عند شريحة واسعةمن المجتمع السوري.

إضافة الى ذلك تشكل الأقليات الدينية والعرقية سواء من دافع منها عن النظام أو من التزم الحياد أو منعارض النظام، رصيداً لدعم العلمانية حتى لو كانوا متعصبين لطوائفهم وحتى لو كان وعيهم للعلمانيةمحدوداً، غير أن الجميع يرفض استلام أغلبية دينية للحكم.

في المقابل اتخذ النظام السوري (الذي لا يعينه من أمر الدولة والمجتمع سوى الحفاظ على سلطته مهما كان الثمن) في فترة الأزمة عدة قرارات تصب في خدمة أسلمة المجتمع، حيث منح النظام رجال ونساء الدين سلطات وميزات تحت سقف الولاء للنظام، ما يُشكل على مستقبل المدنية والعلمانية المنشودة في سوريا،وتفضح وتكشف الهوة بين العلمانية والنظام السوري. نسلط الضوء في هذا السياق على:

1 ـ القبيسيات: قيل الكثير من الكلام عن حركة القبيسيات النسوية بعد أن سجلت حضوراً واسعاً في الشارعالسوري حيث تجاوزت أنشطة الحركة العمل الخيري، والدعوي التي بدأت به،  فالجمعية على سبيل المثالتشرف على 40 من أصل 80 مدرسة لتحفيظ القرآن في سوريا بناء على تراخيص رسمية. ويُقدر عددالمنتميات إلى الجمعية حالياً بأكثر من 75 ألف عضوة. كما أن عضواتها تقلدن مناصب رفيعة في وزارةالأوقاف السورية، وهو أمر سمح لهن بالمشاركة في صنع القرار .

وعلى صعيد الممارسة تتبع القبيسيات طريقة تمجّد الشيخة أو الآنسة القبيسية، وتفرض عليهن تقاليد طاعةمبالغ فيها ، تتعارض مع قيم الحرية الفردية.

ويبدو أن القبيسيات نجحن أيضاً من خلال علاقاتهن مع صناع القرار في الحصول على تراخيص رسميةلإنشاء مدارس ابتدائية تابعة لهن مثل “دار النعيم”، و “دار المجد”، يتم فيها تخصيص دروس إضافية لتعليمالدين.[vii]

إن خطر القبيسيات على مستقبل العلمانية ينبع من تدخلهن في شؤون التعليم (وهو شأن عام)،  حيث لم يقتصر عملهن على النشاط الدعوي في المساجد، بل امتد لتأثيرهن لمنع إصدار أي قانون لا يتوافق مع الشريعة الإسلامية كحال قانون الأحوال الشخصية. ويجدر الذكر أنهن المنظمة النسوية الوحيدة التي نالترخصة وشرعية في النشاط، في الوقت الذي منعت الجمعيات النسوية العلمانية من الترخيص، وتم حلالاتحاد النسائي التابع لحزب البعث.

2 ـ قانون الأوقاف رقم 31 لعام 2018 مواده ملغومة،  لها تأثيرات سياسية واجتماعية واقتصادية، و تشكل خطراً على العلمانية والمدنية في سوريا حاضراً ومستقبلاً نخص بالذكر المادة 8 الأكثر تأثيراً بل خطراً، فهي توسع قنوات إشراف الوزارة على الشؤون الدينية، وتمنحها فرصة الرقابة على أي منتج فكري أو إعلامي.

فقد أصبحت وزارة الأوقاف أحد أذرع النظام في الرقابة وقمع الحريات، حيث يحق لها وفق القانون مراقبة الكتب، ويرى الدكتور محمد حبش “أنه ستتوسع صلاحيتها بما يشمل كل ما ينشر ويطبع، وليس فقط الكتب الدينية والمتعلقة بالقرآن والتفسير، فلا يصدر أي مقال أو كتاب له صلة بالشأن الديني إلا بإذن الأوقاف“ا[viii] وبالتنسيق مع وزارتي الإعلام والثقافة للإشراف على البرامج الخاصة بالعمل الديني في وسائل الإعلام كافة، وكذلك المطبوعات الدينية.

وقد أثمرت هذه السياسة بمنع الكتب النقدية للدين من التداول في الأسواق “ككتب الباحث نبيل فياض” وبالمقابل أغرقت السوق بالكتب الدينية الأصولية.

ويمكن الاستنتاج هنا أن العلمانية وحدها تجعل الدين وحرية الاعتقاد شأناً خاصاً وللمتدين حرية ممارسة اعتقاده الديني دون أي تدخل من السلطة وبموجب قانون الدولة.

بالمقابل المؤسسة الدينية عليها أن لا تتدخل على الإطلاق بالتعليم والصحافة والنشر والإعلام، فهذه حرياتعامة يجب أن تكون مكفولة بالقوانين.

إن سوريا المستقبل تحتاج إلى دولة علمانية تفصل الدين عن المجال العام الذي يتضمن شؤون القانون والتعليم والحريات العامة إضافة إلى الاقتصاد والسياسة. نشير هنا إلى أن قوى الإسلام السياسي لن يكون لها مستقبل في الدولة العلمانية إلا إذا خرجت من عباءة الدين وتحولت على سبيل المثال إلى أحزاب على غرار حزب العدالة التركي.

 ونحن أيضاً بحاجة إلى دولة مدنية ديمقراطية، تقوم على أساس المواطنة المتساوية. غير أن القوى التي ترسم مستقبل سوريا قد تبتعد كثيراً عن حاجات الواقع، بل عن الوزن الواقعي للقوى المعبرة عن مصالح مختلف الفئات الاجتماعية، تحت وقع الضغوط والمصالح الدولية المؤثرة في عملية التسوية التي يعملون على تمريرها عبر الدستور، الذي سوف يكون أشبه بعقد بين الدول، وليس عقداً بين السوريين. فالدستور الذي يصنعه السوريون\ات هو الدستور الذي يخلق أكبر مساحات للحوار والنقاش والجدل والخلاف بين مختلف فئات المجتمع السوري، في ظروف تتوفر فيها فرص التمثيل الصحيح لتنوع كفاءات المجتمع. وأهم نقطة خاصة بالدستور المأمول هو كيف سيطبق دون حل سياسي شامل، ودون بناء الثقة بين مكونات المجتمع. فهل سيفرض بموجب وصاية دولية؟ وأي سلطة ستطبقه؟ النظام أم سلطة الشعب الذي يعبر عنهاالدستور!  يكتنف مستقبل سوريا الغموض، لكن كل الأمل في العمل على إنشاء دولة علمانية مدنية رغم كل التحديات.

هوامش:

[i] العلمانية في سوريا بين المجتمع والسلطة تقرير وسام العبدالله  نشر في موقع اليوم الثالث  تاريخ 27/8/2017

[ii] قانون الأحوال الشخصية في سوريا بين الواقع والطموح بحث سحر حويجة منشور في المنتدى القانوني السوري تاريخ 2018.

[iii]  د. . عبد الوهاب المسيري  العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة  المجلد الأول .

[iv]  وكييديا الموسوعة الحرة .

[v]   ازكي بن ارشيد  مقال  على موقع  الجزيرة نت  ا تحت عنوان  الدولة المدنية هل تشكل نقيضا للدولة الإسلامية

[vi]  د. نصير العميري مقال معضلات الصراع السياسي بين العلمانيين والإسلاميين  موقع المواطن  23/ 10 /2019

[vii] حركة القبيسيات شكوك عقائدية ومخاوف سياسية تقرير عفراء محمد  D W

[viii]   نور دالاتي عنب بلدي  مقال قانون الاوقاف الجديد سم في عسل الديمقراطية .

About the Author: Sahar Hawija

سحر حويجة محامية وكاتبة وسجينة سياسية سابقة بتهمة الانتماء لحزب العمل الشيوعي. نشرت العديد من اﻷبحاث القانونية والسياسية وعشرات المقالات، وصدر لها كتاب المرأة السورية في ظل النزاع (٢٠١٦) عن دار الرحبة

https://salonsyria.com/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9/

—————————

-8-

سوريا بين فكي استبداد مدني ودولة دينية/ حسيبة عبد الرحمن

كثرت التساؤلات في السنوات الماضية عن مستقبل الدولة السورية، الاجتماعي والسياسي والثقافي، ولكل منهم حقله ومفاعيله ومنظوماته ومساراته. وسنخص بالنقاش موضوعا متصلا بهذه الحقول اتصالا عضويا، وهو بنية وطبيعة الدولة السورية المستقبلية: هل هي دولة علمانية؟ أم دولة دينية؟ أم ستبقى دولة هجينة؟

 وللإضاءة على ذلك، لابد من عرض مكثف عن جذور العلمنة المبكرة في سوريا والمرتبطة بالمشرق العربي، وأسباب فشل تطبيقها.

أسباب فشل العلمنة في سوريا

بدأ الفكر العلماني القومي بالظهور في المشرق العربي أواسط القرن التاسع عشر (إبان الاحتلال العثماني) وترجم على الأرض بتكوين الجمعيات الفكرية  والثقافية، وكان المركز الرئيسي لهذا النشاط مدينة بيروت (سوريا ولبنان كانتا موحدتين).

تأسست أول جمعية سورية لإحياء الفكر القومي العلماني (1857) الجمعية العلمية السورية، التي تأثرت بقيم وأفكار الثورة الفرنسية نتيجة الدراسة والاحتكاك والبعثات التبشيرية (إبراهيم اليازجي، محمد أرسلان، بطرس البستاني، فرنسيس المراش) وشكل هؤلاء المثقفون وسواهم، أحد أهم روافع الفكر القومي العلماني، وانضم إلى  هذا التوجه (لاحقا) ضباط خدموا في الجيش التركي (وتأثروا بالثورة الفرنسية وبالفكر القومي الألماني) إثر فرض سياسة التتريك الإجبارية، ومن هؤلاء (مصطفى وصفي، وأمين الحافظ) بعد ثورة (1909) ونهوض القومية الطورانية، الأمر الذي أجج عوامل نهضة الفكر القومي وبلورته على الأرض، من خلال الانضمام إلى الثورة العربية الكبرى (1916)، ونيل دول المشرق العربي استقلالها ومن ضمنها سوريا  (قلبه) عن الدولة العثمانية. لكن لم يمض عامان من الاستقلال (1918, 1920) إلا وانتدب الفرنسيون سوريا، بعد أن وجهوا لها الضربات المتتالية  (ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر)، سواء للصناعات المحلية، أو لتراكم رأس المال (أثره السلبي في نهوض طبقة برجوازية ليبرالية). لكنهم  استحضروا بعض مظاهر الحداثة سياسيا (الانتخابات), إضافة إلى مناح أخرى محدودة كالطرق!

وبنفس الوقت، حافظ الفرنسيون على البنى القائمة، وتحالفوا مع القوى التقليدية التاريخية والراسخة من التجار، ورجال الدين والإقطاع الذين شكلوا السلطة المحلية للانتداب، ولم تختلف الصورة بعد الاستقلال، فهؤلاء من حكم سوريا حتى الوحدة، وعادوا بمرحلة الانفصال.

وسنفرد لكل مرحلة أسباب العجز البنيوي عن بناء دولة علمانية ديمقراطية. ولن ندخل مرحلة الانتداب ومفاعيلها من توزيع طائفي ومذهبي وجغرافي مُدَسْتر بين (1920، 1936).

فشل في إنجاز المهمات الوطنية

وسنلج إلى مرحلة الاستقلال والنخبة المسماة زورا “ليبرالية” التي تعاقبت على حكم سوريا، وفشلت في إنجاز المهام الوطنية والحداثوية، ومنها العلمنة، وذلك لأسباب تاريخية واجتماعية واقتصادية ودينية، أهمها العجز البنيوي لارتباطها العضوي بالسوق العالمية وتبعيتها له، إضافة إلى البنية التجارية الركيكة للمدن وتحالفاتها مع رجال الدين (الكثير منهم تجار وملاك أرض) والإقطاع المسيطر على الاقتصاد ككل (المديني والريفي)، ودور هذا الثلاثي  المتجذر في البنية السورية الاقتصادية والسياسية لعقود طويلة.

وهذه البيئة والبنية أفرزت الصناعيين ورجال الأعمال بطبيعتهم المحافظة وعلاقاتهم، وهو التحالف الضعيف الذي تحكم بمفاصل الدولة والسلطة في  سوريا (المتعددة الأديان والطوائف والمذاهب والقوميات). الدولة التي خرجت  للنور مضطربة الاقتصاد والسياسة والجغرافية والحداثة، دولة متشابكة ومتناقضة ما بين مظاهر الحداثة وبنى القرون الوسطى، هذه العناصر جميعها  تشابكت وتراكبت، لتصبح سببا رئيسا من بين أسباب عديدة أخرى، عرقلت تبلور طبقة أو فئة اجتماعية تتبنى عضويا مفاهيم العلمنة والحداثة والحرية والتعددية، وتحمل مشروعا حداثياً جدياً بمنطوياته المتعددة، ومنها العلمنة.

هذا العجز البنيوي  لليبرالية  السورية (المستولدة من رحم الإقطاع وسواه)، هو من مهد  الطريق جراء فشل سياستهم الاقتصادية، لاكتساح الأرياف معالم الدولة الحديثة، الأمر الذي أدى إلى إقصاء المدينة نفسها (ولو جزئيا) عن الأفكار العلمانية وعن التيارات السياسية الديمقراطية، وإلى  تهميش الأرياف الذي وجد أبناؤها في الأحزاب العلمانية ملاذا، يعدهم بالمساواة والمواطنية المتساوية، ووجدوا في الجيش ميدانا للترقي الاجتماعي، فتضافرت تلك العوامل لإيصال الجيش إلى السلطة، بالتوازي مع  حرب فلسطين (وقيام إسرائيل) التي كشفت عجز النخبة الحاكمة الوطني، فأطيح بها من قبل  حسني الزعيم الذي أقر دستوراً  اقرب للعلمانية (لم  يذكر دين الدولة أو رئيس الدولة)، والذي أُخضع للتعديل (1950) مرحلة حكم أديب الشيشكلي بعد صراع طويل حول فقرتي دين الدولة ودين رئيسها، واتفق المعنيون على كتابة  الدولة مجردة، في حين تم تحديد دين الرئيس (الإسلام).

وبقيت قوانين الأحوال الشخصية خاضعة للشريعة الإسلامية، وبهذا استمرت الدولة الهجينة (حتى الآن) رغم صعود أحزاب علمانية فاعلة آنذاك، ولكن اقتصر فعلها على الحقل السياسي والحكم، وغاب عنها الفعل التنويري، لأنها أرجأت كل مشاريعها التنويرية والحداثية إلى حين  وصولها إلى السلطة. ولعل أبرز تلك النخب الحزب القومي السوري، الذي ناضل لتحقيق الحداثة والعلمنة (ضرب مبكرا) والشيوعي. أما حزب البعث، فلم يكن علمانيا، لأنه مزيج من الفكر القومي ذي البعد العلماني ومرتبط بحبل سرة بالتاريخ العربي الإسلامي.

عندما حكم البعث

ولذا عندما حكم البعث سوريا (1963) بانقلاب عسكري، حاول ضرب مواقع القوى الاجتماعية والاقتصادية الرأسمالية المدينية من خلال التأميم،  والإقطاع بقوانين الإصلاح الزراعي، والمتحالفين معهم من رجال الدين، وأبقى على البنى القديمة القادرة على إعادة إنتاج المفاهيم التقليدية وحواملها الاجتماعية والثقافية، وعندما سن البعث دساتيره المؤقتة (الثلاثة) لم يجرؤ على  فصل الدين عن الدولة، ولم يحدث ثورة أو إصلاحاً على مستوى التشريع بما يختص بقوانين الأحوال الشخصية (الدينية) ولم يخض معركة الحداثة، والعلمنة (كما فعل بورقيبة في تونس)، وإنما دخل بصراع على السلطة والنفوذ والثروة وتجريد القوى المناوئة من مكامن قوتها، وتم ذلك على مراحل، حتى عندما حكم راديكاليو البعث (1966، 1970) اقتصرت إجراءاتهم الجذرية على التأميم والمواقف السياسية، ولم يفتحوا معركة العلمنة نتيجة ضعف قاعدتهم الاجتماعية وحوامل الحداثة والعلمنة، ولخوفهم أيضاً من القوى المناهضة وتمردها واتهامهم بالكفر. وبالتالي، حافظت  “الدولة” على صيغتها الهجينة.

حافظ الأسد.. علاقة وثيقة بين الدولة وعلماء الدين

وعندما جاء حافظ أسد (ذو الخلفية الأقلوية) إلى السلطة ونتيجة حاجته لتوطيد أسس نظامه السلطوي وفي سياقٍ سياسي متغيّر، أحدث تغييرات في البيئة العلمانية المحدودة، فقام النظام بالعمل على رعاية علاقةٍوثيقةٍ بين الدولة وعلماء الدين على وجه الخصوص (دار الإفتاء والأوقاف) وعقد تحالفاً وثيقا  معهما بما يمثلان (إضافة إلى الكومبرادور). وهذه الصيغة شكلت ركائز معادلة حكمه (وأبقى مسحة علمانية لاستدامة تآلفه الخاص البيئي والسياسي)  ولا تزال سارية المفعول.

هذا العقد التحالفي أنتج دستور (1973) الذي أعاد صيغة دستور (1950) إثر مظاهرات في مدينة حماة، ورفض رجال الدين للنسخة التي لم تأت على ذكر دين رئيس الجمهورية، وفي هذه المرحلة ازدهر بناء الجوامع ونشط الخطاب الديني الذي تزامن وازدهر مع بناء الجوامع، وذلك لإرضاء حلفاء النظام  الجدد وقاعدتهم الشعبية، وللوقوف بوجه اليسار الراديكالي الخ.

استمر العمل بجوهر دستور (1973) بما فيه دستور (2012). ولم تطرأ تعديلات حداثية فعلية تتعلق بالعلمنة وعلى وجه الخصوص شؤون الأحوال الشخصية والتشريع المرتكز على الشريعة الإسلامية.

أما في ملف الأحزاب، ومع العلم أن تحالف النظام السياسي ذا الطابع (الشكلاني) مع الأحزاب الخمسة المشكلة للجبهة الوطنية هي أحزاب علمانية ومدنية. ورغم ذلك أصدرت الحكومة السورية قانوناً ينظم عمل الأحزاب السياسية (2011)، ولم يأت القانون في مواده على ذكر “العلمانية”، وإنما أشار إلى شروط التأسيس بعدم قيام الحزب على أساس ديني أو قبلي أو مناطقي أو فئوي أو مهني، أو على أساس التمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللون.

خطأ إطلاق صفة العلمانية على الدولة السورية

إن الوقائع سابقة الذكر، تؤكد خطأ إطلاق صفة العلمانية على الدولة السورية (المسيطر عليها من قبل الباتريمونالية، وتعني الإرثية الرأسمالية وإعادة إنتاج البنى التقليدية والغنائمية) وهذا ينطبق على توصيف المجتمع السوري أيضا ( المتعايش فطريا إلى أن يدخل الدين بالسياسة).

يضاف إلى تلك الوقائع، التذكير بأن المساجد والكنائس لا تزال كلمتها هي العليا، وقانون الأحوال الشخصية مازال ضمن  إطار ومحور الشريعة الدينية، وفي المدارس لم تستطع المؤسسات التربوية إلغاء التربية الدينية، واستبدالها بمواد عن المواطنة. وأي مراقب محايد يلاحظ مؤخراَ ازدياد الجرعة الدينية في الدولة والمجتمع السوري من ازدياد معاهد تحفيظ القرآن إلى الجماعات الإسلامية مثل “القبيسيات” والجمعيات الخيرية، وتوسع ٍ في صلاحيات وزارة الأوقاف، وكأنها إعادة إنتاج وتجديد لتحالف النظام مع الأوقاف  والإفتاء ولشرعيته  بعد التحولات  السورية الكبيرة، التي بدأت بالانتفاضة  السورية كجزء من الربيع العربي (2011).

هل حجارة  البركان السوري حجبت العلمنة؟

حمل الانفجار الجماهيري الكبير (2011) احتماليات مستقبلية كبيرة من مشاريع وبرامج جذرية لمسارات ديموقراطية وعلمانية (ونفث أيضا بواطنه المتخلفة). ولكن للأسف كانت قواه الفاعلة والمحركة, سياسيا وشعبيا, من  الإسلام السياسي التقليدي بتلاوينه المتعددة، لأن اليسار الماركسي والقومي فقد مشروعيته ومشاريعه، والقوى الليبرالية (الحداثوية) ضعيفة، ولذا  لم يُطرح أي مشروع نهضوي،  واقتصر حقل  الصراع على السلطة ( وأهمية صندوق الانتخاب)، ترافق ذلك مع تنظير بعض النخب العلمانية لمصطلح الدولة المدنية بدل العلمانية، كخطوة تراجعية عما طرح طوال العقود المنصرمة. وفي هذا الإطار، يأتي تخلي برهان غليون في مقابلته التلفزيونية  مع المؤسسة الوطنية للإرسال (إل بي سي) عن الدولة  العلمانية بما تمثل، إلى الدولة المدنية كمحصلة لاتفاقه مع الإسلاميين وغيره الكثير. وهذا التراجع هدف إلى  تسويق مفهوم الدولة المدنية تمهيداً للحكم الإسلامي على النموذج التركي، وبرروا ذلك بأنه استبدال للاسم فقط، وليس المضمون.

فشل الانفجار العربي الكبير في معظم الدول (بما فيها سوريا) من تحقيق المأمول منه (ديمقراطية، حداثة، عدالة اجتماعية…) وانزلق نحو الحروب الأهلية في كل من ليبيا، اليمن، سوريا، والتي لا تزال دائرة.

حرب قادت سوريا إلى التطرف والتطيف والتقوقع، وربما التقسيم فخسر الوطن السوري (وغيره من بلدان المنطقة) فرصة تاريخية لبلورة مشروع تنويري حداثوي وديمقراطي، أو محاولة تقديم مشروع إصلاح جدي، كما حصل في القرن التاسع عشر والقرن العشرين على يد رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وقاسم أمين وطه حسين وعلي عبد الرازق وعبد الرحمن الكواكبي  وغيرهم الكثير.

والسبب (كما قلنا) يعود إلى طبيعة الفواعل السياسية والاجتماعية في الحراك وبنيتها الدينية التقليدية، فهي قوى بدون مشروع ولا برنامج، وكل ما تطمح إليه السلطة السياسية والثروة وإدخال رأس مال بنكهة إسلامية (أصحاب رؤوس الأموال من الإسلام السياسي) في تماثلية شديدة الوضوح بين أحزاب الإسلام السياسي والقوى الحاكمة المستبدة (ذات القشرة المدنية) من حيث  البنية الرأسمالية،  والهدف المركزي  السطو على السلطة، وغياب المشروع،  أضف إلى أنهما قوى غير ديمقراطية. إن طبيعة الصراعات الأخيرة قادتنا إلى  تراجع جديد  في مسار المشروع النهضوي. وفي هذا السياق لن ننسى  دور التدخلات الخارجية ومشروعها مع الإسلام السياسي “المعتدل”، الإخوان المسلمين، وإن تراجعت عن تحالفها معهم بعد سقوطهم في مصر.

مسارات الحل السوري وأفق العلمنة

بعد سنوات من الحرب الأهلية السورية المدمرة والصراع الدامي على السلطة والثروة وسمات الصراع المذهبي متعدد الوجوه، إن لم نجرؤ (من باب توخي الدقة) على القول بأن الصراع اتخذ شكلا وبعدا مذهبيا، لم يكن الأول من نوعه، فقد سبقه الصراع المسلح بين النظام والأصولية الإسلامية (1979، 1982) وإن اكتسى قشرة تقدمي/ رجعي (ما يؤكد ما ذهبنا إليه أن النظام لم يكن يوما نظاما علمانيا) آنذاك.

وهذا الصراع المتجدد، يأتي في سياق اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي،  يتمظهر بالتوضع الطائفي والمذهبي نتيجة طبيعة وبنية القوى المتحاربة والمتخاصمة من حيث التركيبة الديموغرافية والمذهبية والفكرية القصووية  المتقابلة. فالنظام السوري ذو الطبيعة الاستبدادية له سماته المذهبية والطائفية، ولاحقا جاءت  بعض تحالفاته في المحيط الإقليمي (إيران) لتراكم رؤية وموقفا من النظام على أسس مذهبية من قبل كتل شعبية وقوى معارضة إسلامية، جاءت انتفاضة (2011) ومسارها، الذي جوبه وقطع بالعنف الوحشي الممارس من النظام، لتبلور معارضة تناقضه بالبيئة الاجتماعية وبالتوجه السياسي والتحالفات، وعناوين الصراع، قوى تعمل على القطع مع النظام والقتال ضده تحت شعار مذهبي دفع به إلى واجهة الصراع ومتاريس القتال من قبل الطرفين وعبّآ بيئيتهما، وشكّلا أدواتهما من ميلشيات عنف وعنف مضاد مع استخدام النظام لكل أدوات العنف في الدولة بحيث جر وحوّل الصراع، والذي كان  يفترض  أن يكون أفقيا، إلى صراع  عامودي  اجتماعي وسياسي، أسس لآفات تقسيمية طائفية ومذهبية مذرية، لأن طرفي الصراع بدون برنامج ولا رؤية، سواء للدولة أو للنظام، ومشروعهما السلطة،  فالنظام  دافع عن بقائه بكل الوسائل الدموية وغير الدموية، واستخدم ادعاءات الدفاع عن العلمانية (والأقليات) والممانعة وغيرها من الشعارات.

أما القوى المعارضة المسلحة الفاعلة على الأرض، وهي معظمها قوى إسلامية، طالبت بحقوقها (المفترضة) بحكم سوريا بما تمثل، ومن بينها الإخوان المسلمون. أما قوى المعارضة الأخرى، من يسارية وعلمانية وليبرالية،  فهي الحلقة الأضعف (مفككة) وعاجزة عن الفعل.

والانتفاضة التي فتحت الباب أمام مشروع  نهضوي تنويري حداثوي (كما ذكرنا سابقا) أغلقت الأبواب سريعا بالرتاجات بسبب طبيعة مواجهة النظام (استخدم كل صنوف العنف في وجه المتظاهرين) ورد الفعل من البيئة الواقع عليها العنف والقوى المشكلة والفاعلة لمواجهة هذا العسف، وتحولها السريع إلى الأسلمة، عدا عن وجود الإسلام السياسي الكامن في المجتمع السوري.  هذه العوامل الداخلية، معطوفاً عليها التدخل الإقليمي الذي ضخ المال والسلاح من أجل إسقاط النظام وضرب ما يسمى الهلال الشيعي في منطقة هي قوس أزمات أصلا، فتحولت الساحة السورية إلى حرب خنادق بين طرفيين مستبدين وقصويين  وقتلة، واستحضرت أشباح الماضي القاتم، وتجاهلوا عن قصد ابن رشد وابن سينا وغيرهم. وخسرت سوريا صياغة مشروع دولة وطنية ديمقراطية وعلمانية، بسبب غياب كتل شعبية لها أدواتها، تشكل حوامل هذا المشروع، واستطاعت القوى التقليدية الإسلامية السيطرة على الحراك وقيادته إلى حيث أرادت بدعم من الأطراف الإقليمية والدولية.

وبعد ثماني سنوات عجاف من أنهار الدم والتدمير والتهجير، وانهيار الحلم بالمشروع التنويري وسحقه، وتحوله إلى حلم ببقاء الدولة بحدودها الحالية  وشعبها المتشظي إلى  “ملل ونحل”  وإنهاء الحرب بأبعادها كافة، وأهمه البعد المجتمعي والسياسي إثر بروز الهويات القاتلة (الطائفية والمذهبية) ما قبل مدينية، والذي يتطلب مصالحة وطنية مبنية على حل سياسي وتقاسم للسلطة بين النظام والمعارضة (بعد الفشل في إسقاط النظام). والسؤال الذي يطرح نفسه: أي معارضة سياسية، وهي إلى حد كبير افتراضية؟! هل هي المسلحة الفاعلة؟ وماذا سيكون دورها؟ وما هي طبيعة تحولاتها الداخلية، خصوصا  والجزء الفاعل منها هو متطرف راديكالي؟ والذي  يقود أيضاً إلى تساؤل عن  الدور الذي ستلعبه هذه القوى (التقليدية والمتطرفة) مجتمعة في بنية وطبيعة  الدولة القادمة وبنيانها، وإلى أي درجة ستخترقها؟ وعليه كيف سيعاد بناء هوية سورية وطنية؟

إنها تساؤلات جدية حول المستقبل السوري وسيرورة تطوره؟ وما هو شكل الدولة والحكم!

واستطرادا، من هي القوى التي ستحدد مستقبل سوريا الوطني؟ في واقع مدمى  وممزق وممذهب، والذي  يدفعنا لإعادة طرح علمانية الدولة مجددا كمفتاح  لحل الأزمة السورية من أجل مجتمع موحد وسياسة معقلنة، دولة وطنية  علمانية تضمن الوحدة الوطنية وتستطيع  تجاوز الانقسام  المجتمعي والشرخ البنيوي (بانتماءات ما قبل الدولة)، وفي الوقت نفسه تعبر عن مصلحة الدولة العليا، رغم ما يدور من  التباس  حول مفهوم العلمنة  وارتباطه بأذهان العامة بالكفر…الخ، نتيجة الهجوم والتضليل الذي سيق ضدها طوال عقود مضت، بحيث لم يتم فهمها باعتبارها منظومة معرفية عقلية، وأحد وجوهها  فصل ما هو دنيوي عن ما هو ديني.

كيف ستأتي العلمنة؟

والسؤال الذي يتلو بالضرورة هذه الرؤية:  كيف ستأتي العلمنة؟ بإسقاط  فوقي (وله مساوئ عديدة) أم تحتي؟ وأي كتل شعبية وطبقية ستكون رافعة للعلمنة وممثليها (سياسيا)؟ وهل ستحّمل اجتماعيا للأقليات، كحالة دفاع عن ذواتهم؟

عندئذ تعاد الكرّة ثانية حول محدودية القاعدة الاجتماعية الرافعة لها (أيا كانت) والقوى المالية والدينية والاجتماعية الكلاسيكية التي سبق وأفشلت وستفشل  تطبيق العلمنة في مرحلة كانت القوى الحداثية والعلمانية  في ذروة حضورها وفاعليتها ولديها مشروعية، خصوصا والمنطقة تمر بأسوأ مرحلة لا تقتصر على الإسلاموية، وإنما على التطييف والتمذهب كنتاج للحروب المدمرة التي اصطبغت بالداء المذهبي. وهذا ما يعّقد هذا الطرح ويدخله باب الأمنيات والترجي! أم علينا الانتظار إلى حين نضوج إرادة شعبية أفقية لها قواعدها  الاجتماعية والسياسية؟

سورية مريضة

وسورية، في حالتها الراهنة، مريضة، وفي العناية المركزة، وتحتاج للعلاج السريع، علاج يفتح الأفق لدولة سورية سليمة البدن، بحيث لا تبقى رهينة   حليّن كليهما مر، الأول: بقاء نظام استبدادي ذي قشرة علمانية، والثاني: الذهاب إلى دولة دينية متطرفة تقضي على ما تبقى من مؤسسات مدنية  وهياكل دولة، خصوصا والنخب العلمانية السورية الحالية لم ولن تستطع فرض ذاتها على طاولة المفاوضات، وبالتالي على شكل وماهية الدولة  السورية التي  يعاد بناؤها وصياغتها، وسوف تكون محصلة موازين  القوى الفاعلة في الداخل والخارج ومعظم هذه القوى، العلمنة ليست على أجندتها، وبالتالي لن يأتي الحل بدولة علمانية ديمقراطية على أسس المواطنة المتساوية، وإنما ستبقي دولة هجينة (بناء على توازن القوى) في حال  جرى تقاسم في السلطة! أو يتكسر المساران (العلماني والهجين) ونذهب إلى تحاصص طائفي ومذهبي، وهو الطريق الأخطر على مستقبل سوريا، لأنه يؤسس لحروب أهلية متعاقبة. أو تخرج من بين الأنقاض نخبة جديدة تقنع السوريين  بضرورة العلمنة ودولة القانون…الخ.

مهمة ممكنة وملحة

 وإلى حين ذلك، لدينا مهمة ممكنة وملحة، وهي الضغط على اللجنة الدستورية (الشكلانية) المشكلة حديثا، لأجل صياغة دستور علماني ديمقراطي يحفظ حقوق المواطنين جميعا لبلد فسيفسائي الطوائف والمذاهب والقوميات والأديان  وممزق. دستور قائم على مبدأ المواطنة المتساوية والتشريعات الوضعية. مع أني لست متفائلة لأن القوى الدينية ستكبح ذلك، خصوصا أن الولايات المتحدة ودولا أخرى تعمل على دستور طائفي كما في لبنان والعراق، وهذا ما اتضح من خلال تسريب أوراق نوقشت (لقاء الولايات المتحدة والأردن والسعودية ودول غريبة أخرى 2018) عدا عن طرح بعض المبعوثين الغربيين  للديمقراطية التوافقية” المذهبية والطائفية ومحاولة إقناع  بعض النخب السورية  بهذا الطرح، فهل سيقبل الشعب السوري ونخبه بهذا الطرح؟

About the Author: Hassiba Abdel Rahman         

حسيبة عبد الرحمن كاتبة وناشطة سورية أمضت ثماني سنوات في السجن، لثلاث اعتقالات. أصدرت روايتين عن سجن النساء (تجليات جدي الشيخ المهاجر) ومجموعة قصص قصيرة بعنوان (سقط سهواً) وكتاباً عن المجتمع المدني بعنوان (غزو المصطلحات) كما نشرت مقالات في جريدة السفير وتنشر الآن في جريدة حزب العمل الشيوعي

https://salonsyria.com/%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D9%81%D9%83%D9%8A-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%AF-%D9%85%D8%AF%D9%86%D9%8A-%D9%88%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9/

—————————

-9-

https://www.constituteproject.org/constitution/Tunisia_2014.pdf?lang=ar

——————————–

10

 ردا على وائل السواح: من أجل علمانية إنسانية/ برهان غليون

في مقال نشره في موقع “الأوان” بعنوان “العلمانية والعلمانية السورية” اشتكى وائل سواح مما يتعرض له مفهوم العلمانية في نظره من هجوم متزايد من قبل “معظم المثقفين” العرب. وميز فيهم بين فئتين رئيسيتين: فئة المفكرين الدينيين أو الإسلاميين الذين يرفضون العلمانية أصلا باعتبارها مخالفة لعقائدهم، وهم ممن يسهل الرد عليهم، ثم فريق من المثقفين، لم يحدد هويته، ينتقد في نظره العلمانية ويناصبها العداء سرا، “خجلا أو تقية أو مداورة”. ويحتاج إلى جهد أكبر للرد عليه، ومن بين من ضرب بهم المثال برهان غليون وأدونيس وماهر الشريف وياسين الحاج صالح.

وليس هناك شك في أن تناولنا لمسألة العلمانية، مثل أغلب الجمهور المثقف والسياسي العربي، كما يذكر وائل سواح في مقالته، يختلف كثيرا عن تناول وائل سواح وجماعته المرجعية في نقاط كثيرة وجوهرية. وهو ما سوف أتعرض له وأبين مضمونه وربما أسبابه أيضا في الجزء الثاني من هذا الرد. لكن أود قبل ذلك أن أتناول ما عرضه وائل سواح على أنه ملخص موقفي من مسألة العلمانية، والطريقة التي استخدمها لتحقيق غرضه، والاقتباسات التي استند إليها، والتي إذا صدقت صار من غير المنطقي تصنيفي ضمن ناصبي العداء للعلمانية مداورة وتقية وإنما صراحة وعلنا.

{{1- في الأمانة الفكرية}}

أراد وائل سواح من مقاله أن يكون مساهمة في الدفاع عن العلم والعقلانية والحرية الفكرية. لكن أقل ما يقال في الطريقة التي اتبعها في هذا النقاش هو افتقارها لأدنى قواعد الأمانة الفكرية. وأول ما يلفت النظر في هذه الطريقة هو تعامله مع المصادر التي بنى عليها تعريفه بموقفي. فقد اختار كتاب: “المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات”، الذي صدر عن دار الطليعة عام 1978، والذي لم يعن بالعلمانية إلا بصورة جانبية، من خلال تحليل مسألة الطائفية والأقليات، وتجاهل كل النصوص التي كتبتها في الثلاثين سنة الماضية، من كتب ومقالات تتناول موضوع العلمانية مباشرة، وفي مقدمها كتاب “نقد السياسة: الدولة والدين” (المركز الثقافي العربي)، وكتاب “النظام السياسي في الإسلام” (دار الفكر) بالإضافة إلى نصوص كثيرة أخرى صدرت بالعربية والفرنسية، من المفروض أن كاتب النص قد اطلع عليها. وما يلفت النظر كذلك الطريقة التي أحال فيها إلى النص، أعني القصقصة واللصق لإنتاج لوحة جديدة ليس لها علاقة بالأصل. فلا تجد أي جملة كاملة ومفيدة من بين ما أحيل إليه، وإنما كلمات ليست منزوعة من سياقها التحليلي فحسب وإنما من جملها المفيدة أيضا. وما يلفت النظر كذلك أنه لا توجد هناك إحالة واضحة إلى أي جملة أو فقرة، وإنما إحالة جماعية إلى صفحات عديدة ومتباعدة دفعة واحدة، وعلى القاريء نفسه أن يجمع بين شتاتها. وما يلفت النظر أخيرا هو أن الكاتب لم يقرأ، كما هو واضح من الإحالات، كتابي وإنما وضع ثقته كاملة في ما قام به قبله جورج طرابيشي في كتبه، كما تشير الإحالة، وهو المعلم الحقيقي في هذا الفن. وبهذه الوسائل أمكن لوائل سواح أن يعيد إنتاج موقفي من مسألة العلمانية كما يريد هو، وبالشكل الذي يستجيب لحاجته في إدانة المثقفين العرب أو معظمهم، بوصفهم عملاء للظلامية الدينية والجهالة، وفي تنصيب نفسه وأصحابه ملوكا متوجين على عروش العلم والعقل والتنوير.

وما ذكرته بخصوص عرض موقفي لا يختلف كثيرا عما رافق عرض مواقف الكتاب الآخرين المشار إليهم. فلم يجد الناقد من كل ما كتبه أدونيس مثلا حول مواقفه من الدين والعلمانية، والتي يعرفها القاصي والداني، المثقف وغير المثقف، ولا تحتاج إلى بحث وتدقيق، نصا أفضل لتمثيل فكر هذا الشاعر والمثقف الكبير سوى نص ظرفي واستثنائي يعود لسنة 1979، كتبه في لحظة حماسية بعد انتصار الثورة الإيرانية الإسلامية، التي كانت بكل المعاني ثورة تحررية، وأثارت في حينها، بالرغم من الطابع الملتبس لإيديولوجيتها الدينية، حماسا لا شك فيه عند مفكرين كبار، في مقدمهم ميشيل فوكو الذي وصفها بثورة الروح. وهي لا تزال تستحق وقفة تأملية حتى اليوم بسبب ما تنطوي عليه من مفارقة تاريخية جعلت أن ثورة ديمقراطية شعبية تحديثية تتخذ طابع الثورة الدينية وتستند إلى قيادتها السياسية. مما يعبر في الوقت نفسه عن أصالتها وتناقضاتها غير العادية أيضا، ككل حدث تاريخي كبير.

ولا يختلف الأمر عن ذلك في تناوله مواقف ياسين الحاج صالح وماهر الشريف. فهو ينطلق أيضا من تأويل لواحد من نصوصهما العديدة، يطرحان فيه تساؤلات ليست مشروعة فحسب، وإنما هي شرط لضمان اتساق الخطاب والتدقيق في صوغ الإشكالية، ليصوغ لكل منهما موقفا معاديا من العلمانية.

والواقع أن وائل سواح لا يقتصر على عرض ما يعتبر أنه موقفنا من العلمانية، ولكنه يتجاوز ذلك ليعيد بناء منظومتنا الفكرية وخياراتنا السياسية جميعا. فهو يكشف عن أفكارنا المسبقة التي تملي علينا طريقة تفكيرنا، ويعرف نوايانا الحقيقية أكثر مما نعرفها نحن، ويسعى إلى إرشادنا وإسداء النصيحة لنا، من دون الاستناد إلى أي نص أو إحالة هذه المرة، ربما من باب المونة الأخوية. يقول مثلا إن ” النتيجة التي يصل إليها – غليون ( …) مبنية على فكرة مسبقة ثابتة، مؤداها أن السلطة ذات الطابع الطائفي في سورية، والتي تمثل أقلية طائفية بعينها، تستخدم العلمانية كسلاح ضد الأكثرية العددية التي تنتمي لطائفة أخرى. وهي تستخدم العلمانية كـ”أداة قمع اجتماعي وسياسي” بيد هذه الفئة النخبوية ضد الغالبية الشعبية و”إيديولوجيا تبرير” لضرب حرية الاعتقاد الأساسية، “حرية الرأي والصحافة والتنظيم الحزبي”، و”وسيلة للتغطية على انعدام هذه الحرية في الواقع والممارسة” وعلى “الاحتكار المطلق لحرية الرأي والتعبير والتنظيم” من قبل “دولة النخبة العصرية”. ويتابع وائل سواح: ” برأينا أن في هذه الرؤية نقيصتين اثنتين: أولاهما الاستقواء بالأكثرية العددية في مواجهة الأقليات عموما، وثانيهما النفس الاستعلائي الذي تمارسه في مواجهة من تسميهم بالأقلية الحداثوية”.

ولا أدري على أي مصدر اعتمد سواح ليصل إلى هذه النتيجة التي تعبر عن فكر بدائي لا علاقة له من قريب أو بعيد بالتحليل الاجتماعي الذي اتبعته في الكتاب، بل هو نقيضه بالضبط. ولعلها تعكس قناعاته الذاتية. فأطروحة الكتاب الرئيسية هي أن مشكلة التوترات الطائفية والنزاع مع الأقليات ليست مرتبطة بالدين ولا بالاختلاف المذهبي ولا بالأحرى بوجود أقليات، وإنما بضعف البنية الوطنية وعجز الدولة عن تقديم إطار وطني وديمقراطي صحيح يضمن المساواة بين الأفراد ويقدم لهم فرصا أكبر لتحقيق مطامحهم وتطلعاتهم. فالأقليات تبنى ولا توجد مسبقا كأقليات، بل جماعات اعتقاد ورأي مختلفة. ويشكل الكتاب استكمالا لكتاب “بيان من أجل الديمقراطية” الذي صدر عام 1977، وهو يدخل في محاور التفكير التي سأعمل على تطويرها في أبحاث لاحقة حول الطائفية والدولة والأمة والعلمانية.

وبالمثل، لا أدري كذلك كيف استنتج وائل سواح، أو من استند إليه في بلورة أطروحاته الغريبة، أن أدونيس “يبرر عدم فصل الحقل السياسي ليس عن الدين عموما، وإنما عن دين بعينه هو الإسلام”. لأنه يقول “إن السياسة في الإسلام” هي شريان يسري بشكل شامل كامل في بنية شاملة وكاملة”. وكل من يتابع ما يكتبه أدونيس حتى من غير المختصين بتاريخ الفكر، يعرف أن أدونيس لا يؤكد على عدم إمكانية الفصل بين الإسلام والسياسة إلا ليدافع عن موقف جذري من تجديد الثقافة العربية ونسف نظام الفكر القديم، والديني منه بشكل خاص، من الجذور. وعلى جميع الأحوال من الصعب لناقد فكر حقيقي أن يصنف مثقفا كأدونيس بين أولئك الذين يرفضون الفصل بين الدولة والدين، وبالتالي من الذين يناصبون العلمانية العداء.

ما جاء به سواح لا علاقة له إذن لا بما كتبته أنا وما أفكر فيه، ولا بما كتبه ياسين الحاج صالح أو ماهر الشريف أو أدونيس، وإنما هو من إسقاطات الكاتب نفسه. ومع ذلك فإن ما ذكره مهم ويستحق الرد والتحليل لأنه لا ينبع بالضرورة من سوء نية، أو يعكس هلوسات فريق اجتماعي وشكوكه ومخاوفه الذاتية، ولكنه يعبر عن تيار قائم بالفعل في وسط المثقفين، لا يعلن ولاءه للعلمانية وتمسكه بشعاراتها إلا ليفرغها من مضمونها ويحولها إلى درع يحتمي وراءه ويغطي به، هذه المرة مداورة وتقية بالفعل، على أفكار يعتقد أنها غير مقبولة اجتماعيا بعد، أو أن الإعلان لا يزال مكلفا كثيرا.

ولن أفصل هنا في ما نشرته في الثلاثين سنة الماضية عن العلمانية، فيمكن للقارئ العودة بنفسه إليه عبر كتابات لها بالتأكيد طابع نقدي، لكن بالمعنى العلمي للكلمة، أي لا تنبع من التشهير بالمفهوم أو الفكرة ورفضهما، وإنما من السعي، من خلال مقارنة التجارب التاريخية، الأوروبية والعربية، إلى إعادة بناء المفهوم وتوسيع دائرة عمله وإغنائه بمعاني ودلالات جديدة نابعة من توسيع دائرة انتشاره وتحوله إلى مفهوم ذي طابع كوني، لا يرتبط بخصوصية قومية. ومن جملة هذه الكتابات وفي مقدمها كتاب “المسألة الطائفية” المشار إليه، الذي أحث القاريء على قراءته، لا ليكشف بنفسه عن أساليب تحريف النصوص وتقويلها عكس ما تريد فحسب، وإنما ليطلع على المقدمات الأساسية التي اعتمدت عليها لتحليل ظاهرة انبعاث العصبيات الطائفية والإثنية، والتي قادتني إلى نقد العلمانية العربية السائدة، كما تجلت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تشكل عنصرا من عناصر تفسير نشوء ما أطلقت عليه “المجتمع العصبوي”، وظاهرة الارتداد من الدولة إلى القبيلة.

وأكتفي هنا بالاشارة إلى بعض الاقتباسات التي وردت في نص الكاتب وأحالها الكاتب جماعة للصفحات 11،12، 52، 53، 66، 82، و88 لأبين الروحية التي كتب بها الكتاب، والسياق الذي ورد فيه نقد العلمانية العربية الرثة. يبدأ الفصل الأول المعنون بـ: الأقلية والأغلبية، البحث عن إجماع قومي جديد، بهذه الملاحظة “إن الحديث عن الأقليات ليس شيئا آخر سوى الحديث عن الأمة التي لا تنتج الأقليات الدينية أو الأجناسية إلا لأنها تعجز عن إنتاج أغلبية سياسية جديدة”. وكذلك “سيخيب ظن كل من ينتظر من دراسة اجتماعية تقديم وصفة جاهزة لحل مشكلة الأقليات كأقليات. فهذا الحل لا يمكن أن يوجد داخل إطار النظم السياسية والاجتماعية التي خلقت مشكلة الأقليات وخلقت المجتمع العصبوي. وهدفنا هو إذن إظهار هذا الإطار العام الذي يمكن من خلاله إيجاد تغييرات اجتماعية ضرورية لطرح مسألة الأقليات الدينية أو الأجناسية وجميع الأقليات الاجتماعية الراهنة أو التي يمكن أن توجد في ما بعد”. ص 6-7. والنص الثاني من الصفحتين 11 و12، موضع الإحالة عند سواح، “وهكذا تبدو العلمانية هنا، التي تعاني من تثبت مرضي على مسألة الصراع بين الدين والدولة، الموروثة عن القرون الوسطى الأوروبية، إيديولوجية تبرير ضرب حرية الاعتقاد الأساسية، ووسيلة للتغطية على انعدام هذه الحرية في الواقع والممارسة. وبقدر ما كانت الاعتقادية العلمانية الأوروبية وسيلة لتحرير العقل وفرض حرية التعبير، جاءت العلمانية العربية لتنقذ الاستبداد العصري، أي جاءت كي تقدم لمصادرة حرية الرأي والتعبير الاجتماعي والطبقي غطاءا شرعيا من المساواة الشكلية بين الطوائف. ومن أجل ذلك بقيت عقيدة مستلبة تجاه الدولة، مأخوذة بتقديس السلطة والقوة. إن الخوف من اكتساح الإسلام للدولة هو المحرك الأساسي لسياستها”. “إن ما تقترح العلمانية على نفسها كهدف قابل للتحقيق هو نقل المجتمع من الجهل إلى النور، لا المساواة ولا العدالة ولا الحرية. ذلك أن هذا الانتقال من الجهل إلى النور هو شرط الديمقراطية، كما هو شرط الاشتراكية (في نظرها طبعا). لا تدخل العلمانية هنا إذن كمذهب سياسي يدعم نظاما حرا ولكنها تظهر كبديل ثقافي للذاتية الدينية، أي مجرد نفي للذاتية القومية. وهذا ما يمكّن الإسلام المستعاد من أن يدخل الحلبة السياسية العصرية كمقاتل من أجل الديمقراطية والمساواة الغائبتين عن الدولة العلمانية، واللتين تصطدمان مباشرة مع الأسف بالنزعة الاستبعادية والحصرية التي ينطوي عليها كل دين”.

أما الصفحتان 25 و53 المحال إليهما أيضا، فتطوران نفس الإشكالية وهذا ما ورد فيهما “وبشكل عام كانت الثقافة الحديثة إطار تنمية المساواة في الحقوق وتكافؤ الفرص. ومن هنا أصبحت عقلانية وأصبح التأكيد عليها والدفاع عنها دفاعا عن العقل ضد ظلامية القرون الوسطى التي جسدت ثقافة العزلة والعزل والتهميش والاستبعاد للأغلبية عن السلطة. لا يكفي أن تدعو المنظومة الثقافية الجديدة إلى المساواة حتى تكون منظومة مساواة إنما يجب أن تظهر واقعية هذه المساواة”.

“لكن انتقال النزعة الفلسفية العلمانية التي لا تشكل النظرية القومية إلا جانبها السياسي، لعب دورا مختلفا كل الاختلاف في البلاد الأخرى التي تمت السيطرة على الدولة فيها بشكل أو بآخر. فالعلمانية لم تنبت هنا من الصراع الاجتماعي الداخلي ولم تنشأ إذن نتيجة لتفكك وتحلل القيم التقليدية الموروثة وزوال فعاليتها في الممارسة اليومية والجماعية، ولكنها نشأت عن طريق التبني من قبل نخبة محدودة العدد، وغالبا معزولة عن الشعب. فهي التي كانت بسبب انتمائها إلى الطبقات العليا المسيطرة أكثر أو الأكثر قدرة على اكتشاف الغرب والالتحاق بثقافته. وبينما كانت العلمانية الغربية فلسفة للثورة ضد الطبقة السائدة المتحالفة بشكل أو بآخر مع الكنيسة، ووعاء لأفكار التحرر والمساواة والأخوة والعدالة والمواطنية والقومية، جاءت العلمانية العربية هنا كوسيلة لتقوية النظام السياسي القائم وتدعيم الطبقة المسيطرة التي أرادت أن تستفيد من علوم الغرب الحديثة لتنعش نظامها اقتصاديا وسياسيا. وكانت كتقاليد وممارسات ولغة تفاهم ووعي من نمط جديد وسيلة لعزل الغالبية الشعبية عن السلطة والسياسة”.

وفي الصفحة 66 : “جاء فصل الدين عن الدولة في البلاد الإسلامية إذن على يدي الدولة ذاتها قبل أن تتبناه النخب المحلية الحديثة، وتدفع بجوانبه الفلسفية. وظهر لهذا السبب أيضا كاستمرار وتطوير لسياسة فصل الجمهور المتزايد عن السلطة وتحرير يد الدولة من سلطة الدين، آخر مرجع شعبي ووسيلة الضغط الوحيدة بين المعدمين من السلطة والعلم”.”وإذا كانت العلمانية لم تأت بالديمقراطية في كل الدول الأوروبية، ولا في الدول العربية أيضا، إلا أنها حملت معها بشكل عام شرعيتها عندما جعلت من الحرية الفكرية والدينية والسياسية وسيلة لتوحيد الأمة وخلق المواطنية”.

وفي الصفحة 82، في الهامش “ومن هنا تبدو إشكالية فصل الدين عن الدولة عندنا كإشكالية مصطنعة منقولة عن الغرب. إن مشكلة الدولة في العالم التابع هي بالضبط أنها بلا دين ولا عقيدة. … وليس هناك مؤسسة دينية مسؤولة في المجتمع العربي الراهن عن انعدام هذه الحرية. فالرقابة هي رقابة الدولة، والذي يمنع الناس من التعبير والتفكير والاعتقاد هي السلطة المدنية ذاتها. إلا إذا اعتبرنا أن على الدولة أن تصفي الأديان وتلغيها. عندئذ نقف مع الاستبداد الديني الحديث ونصفق للديكتاتورية والرقابة ونفرض اعتقاداتنا على الآخرين، ونفتح الطريق بالضرورة أمام تسلط الدين على الدولة. وهذا هو ما تفكر به عناصر كثيرة من النخبة الحديثة بحجة تخلف هذا الدين أو ذاك. لكن في كل مره تلتقي فيها هيئة المثقفين بالسلطة وتتفق معها يحصل الاستبداد، إن كان ذلك في النظام الديني القديم لدى خضوع طبقة العلماء للدولة، أو في النظام الحديث عندما تضع فئة المثقفين نفسها في خدمة السلطان. وفي الواقع ما لم تتمكن الطبقة السياسية والمثقفة من الوصول إلى إجماع على حرية التفكير والتعبير واحترام الحياة المدنية للناس فمن المستحيل قيام أي نوع من الديمقراطية مهما كانت نسبية”.

وفي الصفحة 88، “لايمكن البحث إذن عن حل للنزاعات الطائفية في الدعوة العلمانية التي تدعو للمساواة أو في الدعوة الدينية التي تؤكد على التسامح. ولا في القوانين التي تحدد الحقوق والواجبات لجميع المواطنين. فكل هذه الوصفات قد استعملت في الماضي ولا تزال مستعملة في الحاضر. والقضية ليست قضية دعوة ولا قضية إيديولوجية شكلية، إنما هي أساسا قضية السلطة، أي علاقة أفراد المجتمع ككل بالدولة، التي تبلور علاقة كل واحد منهم بالآخر. وبقدر تحول الدولة إلى دولة-عصبة دينية أو علمانية حديثة أو قديمة، تتكون عصبويات مقابلة وتتحول إلى أشباه دول موازية تبدأ كمركز للدعوة الإيديولوجية لتصبح تنظيما، لتصبح فيما بعد جيشا ومؤسسة كاملة شبه قومية”.

تدخل هذه الفقرات جميعا في باب نقد العلمانية العربية لتقصيرها في الرد على حاجات التحرر السياسي والفكري والاجتماعي، ودفاعا عن قيمها، وليس العكس. فمن الواضح لكل ذي عقل أن الهدف من هذا النقد ليس تحطيم الفكرة أو مقاومتها أو القضاء على آثارها، وإنما الدعوة إلى الانسجام مع قيمها التي شكلت مصدرا للتقدم والتحرر والانعتاق في المجتمعات الأوروبية. وهذا يستدعي من دون شك القدرة على التمييز بين العلمانية وبين النسخة الرثة منها التي سادت في البلاد العربية، والتي تستخدم شعار العلمانية للدعوة إلى المراقبة على الفكر والضمير لا لتحريرهما من الوصاية السياسية والعقائدية. وهو النقد الذي يبدو صعبا جدا على بعض التيارات العلمانوية ذات البنية الطائفية، أي المتحولة إلى طائفة خاصة، تماما كما يبدو من الصعب على التيارات الإسلامية المتطرفة فهم ما تطالب به الأغلبية المسلمة نفسها من تمييز بين الإسلام والإسلاموية. والسبب أن كلاهما يفتقد للفكر النقدي الذي يحتاجه المرء حتى يستطيع اتخاذ مسافة من اعتقاداته ومعارفه نفسها، ويمكنه من تعريضها للنقد وامتحانها وفحصها على أسس عقلية أو موضوعية أكثر، أي مختلفة عما تملي عليه عقائده وذاتيته.

{{2- من العلمانية إلى اللادينية}}

لا أعتقد أن هذا النقد فقد صلاحيته الآن، بل ربما كان أكثر راهنية اليوم من البارحة. فلا أحد يستطيع أن ينكر أن العلمانية استخدمت في البلاد العربية ولا تزال، سواء أفهمت كموقف عقلاني وتنويري في مواجهة مجتمع متأخر ومتدين ومتعصب، أو كموقف من الطائفية الدينية ودعوة إلى تجاوزها، لتبرير الحد من الحريات وتقييدها بل إلغاءها. في الحالة الأولى اتقاءا لشر صعود التيارات الإسلامية إلى الحكم، وفي الحالة الثانية نتيجة قصر مضمونها على تجاوز التمييز الطائفي والمساواة بين الجماعات الدينية، وغض النظر عن المساواة السياسية المرتبطة بإقرار الحريات المدنية والسياسية والمساواة القانونية والعدالة الاجتماعية.

ومن هنا لا يزال السؤال الذي طرحه كتاب “المسألة الطائفية” بصورة جانبية، مطروحا اليوم، وربما أكثر من أي وقت مضى: ما الذي وضع العلمانية العربية، والسورية منها بشكل خاص، في هذا المأزق الذي جعل منها رديف الديكتاتورية ونقيض قيم الثورة السياسية التحررية الحديثة برمتها، وفي المكان الأول حرية الاعتقاد التي تعني تحريم فرض اعتقادات بالقوة على أي إنسان، أو منعه من التعبير عنها؟

الجواب من شقين. أولا تحول العلمانية إلى إيديولوجية، أي إلى عقيدة فئة من الفئات الاجتماعية، جعلت منها إطار تماهيها وولائها الخاص، ورمز تفاهمها الذي يوحد عناصرها ويربط في ما بينهم ليحولهم إلى قوة فاعلة وشريك في الصراع الاجتماعي الدائم على الثروة والسلطة والنفوذ والجاه. وهو ما فرض عليها الخضوع لأجندة هذه الجماعة الخاصة ومتطلبات استراتيجيتها الاجتماعية والسياسية. وثانيا تعارض مصالح تأمين نفوذ هذه الجماعة/الطائفة واستقرارها مع مصالح التحرر والانعتاق العام للمجتمع، واضطرارها، في سبيل الاحتفاظ بمكاسبها، المادية والمعنوية، إلى خيانة القيم والمبادئ العلمانية نفسها، ومن ورائها مباديء الديمقراطية. وهذا هو الذي يفسر أن أحدا من رموز هذه العلمانوية، الذين استشهد بهم وائل سواح، لم ينخرط في أي معركة من معارك الحرية، لا الفكرية ولا السياسية، بل إن معظمهم قد وجد في نقد حركة ربيع دمشق فرصة للتعبير عن رفضه لهذه الحرية ومقته لها. وبعض من جذبته الحركة قليلا قصر جهده على الدعوة إلى ليبرالية فجة تستنجد بالقوى الأجنبية وتدعو إلى تعليق الآمال جميعا عليها.

ما كانت لمصادرة فكرة العلمانية من قبل فريق اجتماعي ليحولها إلى رأسمال خاص به إلا أن يقود إلى أمرين. إفساد المفهوم من جهة وتقويض فرص تعميمه وانتشاره في الوعي وفي المجتمع والدولة معا، وبالتالي قطع الطريق على تقدم فكرة الحداثة وترسخها في الوعي الشعبي.

فبقدر ما أصبحت العلمانية ايديولوجية تغير شكلها ومضمونها ودورها الاجتماعي أيضا. فتحولت من مبدأ مؤسسي ناظم لسلوك الأفراد والجماعات، بصرف النظر عن اعتقاداتهم، إلى عقيدة قائمة بذاتها بديلة للدين، أي إلى دين جديد، يتخذ منها منطلقا لبناء رؤية للمجتمع والعالم معادية للرؤية المرتبطة بالدين القديم، ولرجاله وسلطته وقيمه. وككل عقيدة، صارت العلمانية “دوغما”، أي مذهبية مغلقة، وحقيقة ناجزة وثابتة لا تتغير ولا تتبدل، لا تحتمل النقاش ولا الجدال، قائمة في مواجهة جوهر آخر مطلق هو الحقيقة، أو بالأحرى “الخطيئة” الدينية. ولذلك ليس من قبيل الصدفة أن يربط هؤلاء أو أكثرهم العلمانية بالعلم، وأن يشتقوا مفهومها نفسه منه. هكذا أصبحت العلمانية مساوية للادينية، وراية يجتمع تحتها كل كاره للدين أو داعية للتجرد من تراثه والتحرر منه، في مقابل الإسلامية التي تقف في وجهها وتدعو إلى التمسك بالقيم والمفاهيم الدينية في تقرير كل ما يتعلق بالفرد والمجتمع والتاريخ والحضارة معا. ومن الواضح من مقال وائل سواح وزملائه إلى أي حد تعكس إشكالية العلمانية والإسلامية لديهم الصراع بين العلم، المنظور إليه كرديف للعقل، والدين، رديف الجهل والرؤية الخرافية. ولذلك فإن الاسم الصحيح الذي ينبغي إطلاقه على هذه العقيدة ليس العلمانية وإنما اللادينية أو العداء للدين، التي تختلط مع علموية سوقية، من مخلفات القرن التاسع عشر، تعكس الإيمان الساذج والبسيط بالعلم وبقدرته الخارقة. وهي العقيدة التي تسمح بتذويب جميع إشكاليات المجتمع والسياسة والاقتصاد والتاريخ وإلغائها في عقل مطابق للعلم، يعمل كإله محرك ومبدع، قائم خارج أي زمان ومكان. ومن هنا يأتي تماهي الكثير من المثقفين مع هذه الدعوة التي تسمح لهم بالشعور بالتفوق الطبيعي على الغالبية التي ينظرون إليها ككتلة عددية، جاهلة، تفتقر للعلم وللعقل معا، لا كشعب ولا كأمة تمتلك وعيا وإرادة وقادرة على الفعل أو الانجاز من أي نوع كان.

ومن الطبيعي أن تكف العلمانية في هذه الحالة عن أن تكون مفهوما إجرائيا يهدف إلى فهم الواقع وتحليله، يمكن نقده ككل المفاهيم العلمية والاجتماعية، وتعديل مضمونه ودلالاته على ضوء التجربة التاريخية، ومع تغير هذا الواقع أو تقدم المعرفة بدقائقه. فككل عقيدة تتحول إلى مذهب ديني، أصبحت العلمانية في نظر عابديها المخلصين ماهية ثابتة وجامدة، لا يدخل عليها تغيير، وصالحة بالتالي، مثل الدين، لكل زمان ومكان، لأنها قائمة فوقهما وخارجهما، تعيش حياتها بمعزل عن الواقع وعن المجتمعات وعن التواريخ، مهما اختلفت تجاربها أو تناقضت سيرها ومساراتها. ويصبح أي مساس بأسطورتها، أي بقدسية فكرتها، أو تغيير في أسلوب ممارسة طقوسها، أو تشكيك في بعض سيرها واستخداماتها، هرطقة وخروجا عنها. لأنه يشكل مساسا بالهوية، وتهديدا لاستقرار الجماعة الايمانية التي تتحول أكثر فأكثر، في مواجهة مجتمع يستعصي على سيطرتها، إلى عصبة منغلقة عدوانية، تتبنى جميع المواقف التي تتبناها الجماعات الدينية المواجهة لها، وتعلن مثلها جهادها، بجميع الوسائل، النظرية والمادية، الشرعية وغير الشرعية، السلمية والعنفية، لنشر العقيدة التي يكمن فيها خلاص البشرية. ومثلها أيضا، تبني العلموية كنيستها التي توزع بطاقات الخلاص على المخلصين لها وتحرم من تشاء من اعترافها وبركتها.

هذا ما يفسر أيضا الطابع التبشيري الممل للخطاب العلموي، وما يتميز به من الجمود والثبات وتكرار الصيغ والعبارات والشعارات نفسها، دون أدنى مراجعة أو محاولة لتجديد الفكرة أو تعميقها، منذ نصف قرن. فككل المتدينين، يعتقد العلمويون أن أي تغيير أو تعديل في سرديتهم الخاصة بهم، لا بد أن يثير الشك في متانة العقيدة، ويقوض ربما أسس بقائها. وأن كل ما أنتجه هذا الخطاب كان مقالات تمجيدية ودفاعية، تهدف إلى صون الفكرة من التغيير والتعديل، والحفاظ على تماميتها وأصولها، في وجه ناقديها، وتستند على الاسترجاع الأبدي للأفكار نفسها، وإعادة إنتاجها عبر نقد خطابات الخصوم أو من يحولون إلى خصوم، والتشهير بهم وإظهار مروقهم أو خيانتهم. فعندما تتحول الفكرة إلى عقيدة وتصبح منتجة لهوية وانتماء خاص وولاء جمعي، تكتسب قيمة رمزية أساسية، وتصبح بالتالي موضع قداسة، يصعب النقاش فيها أو الحديث عنها خارج دائرة االاحترام والإجلال والتمجيد والتبرير.

هكذا تغير دور العلمانية أيضا في حياتنا السياسية والاجتماعية. فبعد أن كانت مبدأ جامعا، يقرب بين مختلفين، بدعوة الجميع إلا الارتفاع على خلافاتهم العقائدية للاتفاق على شروط ممارسة هذه العقائد جميعا بحرية، وبالتالي ضمان حيادية السلطة التي ترعى هذه الممارسة الحرة وتحافظ عليها، أصبحت بالعكس أداة للتمييز والفصل بين جماعتين، جماعة المتدينين وجماعة المتحررين من الدين. ولم يعد أنصار الفكرة العلمانية ينشدون، كما كان الأمر في الأصل، إقناع الآخرين بالدخول في منطق السلطة الديمقراطية، والانتماء إلى أمة سياسية مختلفة عن الأمة الدينية، توحد جميع الأطراف من أصحاب العقائد المتنازعة، تحت سقف دولة محايدة، تحترم الجميع بالتساوي وتدافع عن حرياتهم الاعتقادية والسياسية والمساواة والعدالة في ما بينهم، وإنما أصبحوا يدافعون عن مكانهم وموقعهم في التركيبة الاجتماعية، بوصفهم أصحاب كنيسة مستقلة ومتميزة، ذات أسرار وطقوس يصعب استيعابها من قبل العامة الجاهلة والأمية. ولذلك لم يعد تحقيق العلمانية بما تعنيه من ضمان الحرية والمساواة والعدالة، هو الذي يعنيهم حقيقة، ولا حتى التبشير بها والسعي إلى نشرها وإقناع الآخرين بفائدتها، وإنما حمايتها من التحريف، كشرط للمحافظة على الملة، التي صارت إليها العلمانية. وهذا ما يفسر النزعة السائدة عند هؤلاء لتصنيم مفهومها وتحويله إلى حقيقة ثابتة ونموذج جاهز وناجز، لا يقترن تحقيقه بأي حيثية، وجعله أقنوما واحدا مستقلا يتقدم على كل ما عداه من الأقانيم. فهي هدف في ذاتها، لا يهم إذا ما ارتبط تحقيقها بضمان حرية الأفراد أو عبوديتهم، ولا إذا كان على حساب المساواة أو التمييز في ما بينهم. فصل الدين عن الدولة أو إخراجه منها، هو الغاية الأولى والوحيدة، والتي يبرر تحقيقها أو الوصول إليها جميع الوسائل الأخرى، بما في ذلك أقسى الديكتاتوريات العسكرية.

{{3 – معنى العلمانية}}

بالمقابل نحن ننظر للعلمانية بوصفها مبدأ من مباديء الثورة السياسية الحديثة التي تقود، في العالم كله، نحو بناء أمم سياسية، ودول/أمم ديمقراطية تعمل على بلورة إرادة هذه الأمم وتؤمن إعادة إنتاجها في الوقت نفسه كجماعة سياسية. ففي موازاة تفكك الإيديولوجيات التقليدية وانحسار المناخات اللاهوتية القرسطوية، سوف يتحلل مجتمع الجماعة الدينية المتراصة، وتبرز الاختلافات والتنوعات داخل الدين الواحد، وليس بين الأديان المختلفة فحسب. بل إن الصراع بين المتدينين وغير المتدينين داخل الدين الواحد سوف يحتل، في مرحلة ثانية، أي ما بعد الطائفية، المرتبة الأولى في الصراع، ويدفع إلى تفاقم الجدل بين تيارات الفكر والاعتقاد وتنازعها. وفي هذا السياق ستظهر العلمانية لتؤسس لنهضة فكرية كبرى أساسها توفير مبدأ أو قاعدة أخلاقية سياسية تسمح للمجتمعات المتحللة والمتفجرة، ببناء الوحدة السياسية مع الحفاظ على التعددية، والاستمرار في الجدال والمناظرة من دون الانجرار وراء الحرب الأهلية. وليس هذا المبدأ الخطير الذي يكاد في نظري يساوي العلمانية أو يستغرق مفهومها، سوى احترام حرية الضمير، بما تعنيه من حق اختيار العقيدة والتعبير عن الرأي والدفاع عن الفكر المختلف. ومن هذا المبدأ وما يتضمنه من اعتراف بأصالة الضمير وتحريم انتهاكه، لأي فرد، سوف يشتق مبدأ المساواة بين الأفراد، بقدر ما تحولوا جميعا لأفراد أحرار وعاقلين، أي يملكون جميعهم ملكة الضمير والوعي والتفكير. ولأنهم متساوين، فعليهم أن يقروا لأنفسهم ولكل واحد منهم بحقوق واحدة أمام القانون، بصرف النظر عن اعتقاداتهم ومذاهبهم وظروف معيشتهم، وأن يكونوا مشاركين في تقرير مصيرهم الجماعي، أي في قيادة الدولة والجماعة، ومتكافلين. ومن هنا أصبحت مباديء الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية التي تعني التضامن والتكافل، مؤسسة لجماعة جديدة، هي الأمة أو الجماعة السياسية، في مقابل الجماعة أو الأمة الدينية القديمة. فإذا أخفقت الجماعة السياسية الجديدة، أي الأمة الممثلة في الدولة، في ضمان حرية الأفراد في اختيار اعتقاداتهم والتعبير عن أفكارهم، أو مارست التمييز بينهم بسبب انتماءاتهم، أو لم تنصف في معاملة بعضهم لحساب البعض الآخر، انتفت إمكانية بناء المواطنة كرابطة سياسية جديدة، مضافة إلى رابطة الدين أو موازية لها، وأصبح من المستحيل على الدولة أن تبني أمة أو جماعة سياسية. وتعثرت ولادة الحداثة السياسية، بما في ذلك قيام دولة قانونية.

والقصد أن العلمانية ليست عقيدة دينية جديدة تنزع إلى الحلول محل العقائد الأخرى أو التعويض عنها، وإنما هي قاعدة لإدارة التنافس بينها، وتنظيم طريقة التعبير عن اختلاف كل منها مع غيرها، بما فيها العقائد اللادينية. وهي تقوم على افتراض إمكانية تحييد الاعتقاد الشخصي والفلسفي في الأمور الجماعية التي تتعلق بإدارة الدولة، حتى يمكن للدولة أن تكون دولة الجميع، وليست دولة جماعة اعتقادية واحدة. لكن تحييد الاعتقاد الديني والفكري في دائرة تعامل الدولة مع مواطنيها لا يعني إدانة أي اعتقاد، أو التقليل من نفوذه، أو تحييده في المجال الاجتماعي، أو تحويله كما يعتقد البعض إلى اعتقاد شخصي، ومنع معتنقي الدين من تكوين روابطهم الجمعية. فالخاص لا يعني الشخصي والفردي. بل بالعكس، إن العلمانية لا تضمن شرعية وجودها إلا مما تقدمه لجميع الأفراد والجماعات العقائدية من حرية أصيلة وجوهرية، لا يخضع مبدؤها للنقاش، في التعبير عن نفسها وتنظيم كيانها والدفاع عن مصالحها أيضا، ضمن شروط احترام مباديء حرية اعتقاد الآخر والمساواة والعدالة. وتفقد العلمانية مبرر وجودها إذا تحولت إلى عقيدة بديلة تحتكر السلطة السياسية، وتمارس الاضطهاد ضد العقائد الأخرى أو تشجع عليه أو تقبل به، أو تدعو للحد من حريات منافسيها وخصومها الفكرية والمذهبية، وتبرر عدم المساواة القانونية أو الأخلاقية تجاههم، أو لا تكترث للظلم الواقع عليهم.

فالفكرة العلمانية أبسط بكثير مما نعتقد، وهذا مكمن قوتها وانتشارها وشعبيتها أيضا في موطنها الأصلي. فهي تعني باختصار أن الدولة لا تشتغل بأمور العقيدة، أي كل ما يتعلق بموضوعات الإيمان وما يشكل مسلمات إيمانية عند الناس، سواء أكانت مسلمات دينية أو عقلية لا دينية. ليس هذا دورها، وليست لديها الإمكانيات والشروط التي تسمح لها بذلك. وإنما تقتصر مهمتها على تحسين شروط حياة أعضائها، المادية والمعنوية، من جميع المذاهب والاعتقادات، والارتقاء بثقافتهم وتكوينهم العلمي والمهني. أما موضوع العقائد فهي متروكة للجماعات المدنية نفسها، تتنازع فيها على قاعدة الحرية الفكرية والاعتقادية والمساواة الكاملة والتنافس السلمي. فشرط القبول بحيادية الدولة الاعتقادية وتجريدها من الدين هو إقرار الحرية الكاملة خارجها لجميع الأديان والمذاهب والعقائد. ومن دون ذلك تصبح العلمانية بالعكس غطاءا لدولة مذهبية مقلوبة، أي تفرض مذهب العقل والعلم على المجتمع بأكمله، أو تكافح ضد العقائد والأديان السائدة في المجتمع وتعمل على إضعافها ومحوها. وهو ما عرفته الدولة الشيوعية في القرن الماضي، وكان مثالا للعلمانية الدينية التي انتهت بكارثة على جميع تلك المجتمعات، لا تزال آثارها الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية مستمرة بعد أكثر من عشرين عاما على زوالها. وأي علمانية لا تضمن الحرية الفكرية والسياسية وتحافظ عليها، تفقد شرعيتها وتتحول لا محالة إلى أداة لتسويد عقيدة سائدة. هكذا لا تشكل العلمانية إذن عقيدة بحد ذاتها ولكنها تقدم نفسها على أنها المبدأ التي يكفل ممارسة العقائد جميعا بقدر ما هو مؤسس لمفهوم الحرية الفكرية.

لكن العلمانية، بقدر نجاحها في ضمان الحريات الفكرية والسياسية، تفتح فضاء جديدا وتخلق ظروفا لا يمكن إلا أن تقود إلى تغير في أفكار الناس واعتقاداتهم ومنظومات قيمهم وتطلعاتهم. إنها تشكل إطارا لولادة ثقافة جديدة بالمعنى الحرفي للكلمة، هي الثقافة الحديثة، بكل ما تتصف به من استثمار في الفرد والشخصية الإنسانية، ومن قيم الحرية واستقلال الرأي والمساواة والندية، ومن اهتمام بشروط الحياة الدنيوية واعتقاد بإمكانية تحقيق السعادة على الأرض والتمتع بالحياة الدنيا. لكن هذه الثقافة ليست مشتقة من العلمانية، إنما هي ثمرة الجدل الفكري والاجتماعي الذي يخلقه ضمان الحريات والمساواة وحكم القانون، وما يقود إليه ذلك من إثراء للمعرفة ونضوج للنظم المجتمعية وتطوير للعلوم والإبداعات التقنية.

وملخص القول هنا، أن العلمانية مفهوم تاريخي. وكأي مفهوم تاريخي، تظل مرتبطة بشروط التجربة التي ولدت فيها، بينما يظل الواقع أغنى من المفهوم. والنماذج التي ارتبطت بنشوء الوعي العقلاني وتلك التي جسدت مبدأ الفصل بين السلطات الدينية والزمنية وتكريس استقلال واحدهما عن الآخر، لا يمكن أن تكون هي نفسها، أو تطبق كما هي على المجتمعات كافة، بصرف النظر عن تراث كل منها وتركيبتها الدينية والاجتماعية، وعلاقة الدين بالدولة فيها، وظروف تقدم تجربتها السياسية. وهي جزء من عملية تاريخية شاملة تتعلق بانتقال المجتمعات التقليدية نحو الحداثة، ولا بد أن يتأثر حضورها، من حيث الشدة والامتداد، أو من حيث القوة والضعف أو من حيث الوضوح والاختلاط، بشروط هذا الانتقال، وفرص تحقيق الحداثة في مستوياتها المختلفة.

ولهذا السبب ليس من الممكن تطبيق أي مفهوم تاريخي على مجتمع من المجتمعات من دون نقده مسبقا. ولا يعني النقد التهشيم، وإنما الكشف عن قدرة هذا المفهوم على إنارة تجربة جديدة مختلفة عن التجربة التي ولد فيها، أي عن مدى قدرته على أن يكون مفهوما كونيا ينطبق على جميع التجارب. وفي هذه الحالة يمكنه أن يلعب دورا إيجابيا ومنورا في إعادة بنائها أو المساعدة على دفع تجربتها الخاصة إلى الأمام. وإلا فهو بحاجة إلى إعادة صياغة وتعديل وتقويم حتى يتمكن من تفسير التجربة الجديدة والرد على التساؤلات التي تطرحها.

{{4- العلمانية ومعركة الحرية}}

من هنا أعتقد أن نقد العلمانوية، أي العلمانية العقائدية، المحولة إلى خطاب هوية، مرفوع في وجه الأكثرية الاجتماعية، ومبرر لحرمانها من الحرية، أصبح شرطا لتحرير العلمانية من قيودها، وإخراجها من المعزل الذي وضعت فيه، وإطلاق قدراتها على تثوير الثقافة والسياسة العربيتين بالمبادئ الإنسانية. وشرط هذا التحرير فصلها عن فكرة اللادينية أو العداء للدين التي عزلتها وحولتها إلى عقيدة فئوية، وفتحها على جميع أولئك المؤمنين بحرية الرأي والضمير، مهما كانت عقائدهم وفلسفاتهم الشخصية. والذين يرفعون سقف العلمانية ليطابقوا بينها والايمان بالعلم عوض الدين، أو التخلي عن الاعتقاد الديني، لا يهمهم انتشارها ولا قبول الناس بها، وإنما يريدون أن يحتفظوا بها متاعا خاصا لهم، يميزهم عن غيرهم من الفئات الاجتماعية. ولكنهم بقدر ما يستخدمونها وسيلة للإقصاء يحكمون على أنفسهم أيضا وعقيدتهم بالإقصاء من المجتمع والعيش في معازل هامشية.

لا يمكن أن تكون العلمانية هي نفسها عقيدة فئة لوحدها، وتسمح في الوقت نفسه للناس بتجاوز مواقفهم العقائدية. ولا أن تكون هوية جماعة خاصة، وفي الوقت نفسه قاعدة لجمع الأمة بأكملها تحت ظل سلطة قانونية. فعندما تصبح هوية وعقيدة لا يمكن أن تؤسس لمعرفة موضوعية مستقلة عن أحكام القيمة الإيديولوجية، ولا مبدأ ناظما لدولة سياسية تؤلف بين جميع أصحاب العقائد وتوحد بينهم، الدينية منها والعقلية. والواقع أن العلمانية لا تملك أي مضمون عقائدي، بحد ذاتها. ومن كانت هويته العلمانية فلا هوية له. إنها موقف من العقيدة والهوية. والذين يحولونها إلى عقيدة يخلطون بينها والفلسفة اللادينية. فمن المفروض أن يستطيع المتدين أن يقول عن نفسه ويكون بالفعل علمانيا، وإلا فليس للعلمانية قيمة ولا مبرر على الإطلاق. فهي ممكنة فقط بانضمام المؤمنين لمبدئها، وليست ممكنة إطلاقا بعزلهم أو استبعادهم. ففي هذه الحالة لن تكون مبدأ للحرية وإنما للاضطهاد والقهر الروحي والديني. وسوف تكون نتائج تطبيقها معاكسة تماما لما نشأت من أجله. وهو ما نلاحظه بالفعل في بلادنا حيث يترافق انهيار الضمير والانحلال الفكري مع تفاقم مسألة الحرية وتعميم الاضطهاد وما يعنيه من قتل الذاتية.

هذا ما تشير إليه التجارب التاريخية نفسها. فقد انضم تيار كبير من رجال الدين الشباب إلى الفكرة وأيدوا الفكرة العلمانية، ليس من باب التخلي عن وظيفتهم أو إيمانهم الكاثوليكي، وإنما اعتقادا بأن العلمانية لا تنفي الإيمان والاعتقاد، ولا تشكل هي بحد ذاتها إيمانا جديدا، وإنما تنظم العلاقة بين أصحاب الاعتقادات المختلفة على أساس الحرية، أي تأسيس دولة تضمن الحرية للجميع، وتستطيع تحقيقها، بالرغم من اختلاف الآراء. وهذا هو المكسب التاريخي الحقيقي الذي مكن من نشوء الدولة الوطنية، القائمة على الخيار الحر والإرادة الحرة لأعضائها جميعا، مختلفة عن الجماعات أو الأمم الدينية التقليدية التي كانت تتأسس على غلبة جماعة على جماعات أخرى، ولا تستمر إلا مع استمرار هذه الغلبة، وما تنطوي عليه من قبول الجماعات المغلوبة من الخضوع والانصياع لإرادة الغالب والتكيف مع عقائده ومطالب سيطرته.

لا يعني نقد العلمانية اليوم، سوى الفصل الكامل والنهائي بينها وبين اللادينية التي تشكل العقيدة الحقيقية لجزء من النخبة الثقافية العربية والعالمية معا. ولا يتضمن هذا الفصل ولا ينبغي أن يتضمن أي مساس بشرعية اللادينية كفلسفة وكهوية جمعية، ولا بحق أصحابها في العمل بحرية داخل الفضاء الاجتماعي، فكرا وتنظيما وصراعا لتحقيق أهدافها وغاياتها. بل إن العكس هو الصحيح. إن هذا الفصل هو شرط انعتاق الفكرة اللادينية والممارسة العلمانية معا. فالتستر وراء مبدأ العلمانية لم يضعف شروط تحقق الفكرة اللادينية فحسب، ولكنه حرمها أيضا من الطموح إلى انتزاع مشروعيتها في حقل الثقافة العربية، وقلل فرص تطويرها في إطار مناظرة عقلية شفافة وضرورية. وليس هناك سوى التقدم على طريق العلمانية الحقيقية، وما يعنيه من تخلي العلمانوية أو اللادينية عن فكرة الدولة العقائدية التي تبشر بعقيدة العقل ضد الظلامية الدينية، تماما كتخلي أصحاب الفكرة الدينية عن السيطرة على الدولة وتحويلها إلى أداة لفرض عقيدتها على الجميع، سبيلا للخروج من الحرب العقائدية وفتح باب المعرفة العلمية. فاحترام حق المؤمنين بالتمسك بإيمانهم والاعتراف بأصالة هذا الإيمان وشرعيته ولا جداليته هو شرط فرض حق اللامتدينين بالتمسك باعتقادهم والاعتراف بأصالته وشرعية وجوده الذي لا يجادل فيه أيضا.

وبالمثل، إن تحرير العلمانية من اللادينية، وإخراجها من الشرنقة العقيدية، هو شرط تعميمها كمبدأ تنظيم سياسي يتجاوز الاعتقادات الدينية وغير الدينية، ويصب في بناء جماعة سياسية سميت في العصر الحديث، امة دولة، لا يمنع اختلاف الناس في اعتقاداتهم في ظلها من اتحاد إرادتهم وتفاهمهم واتفاقهم على بناء إطار للحياة الجماعية، ساهم أكثر من أي إطار سابق في تفجير طاقات المجتمعات الأخلاقية والفكرية والسياسة والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك تجديد النظم الاعتقادية التقليدية وإحيائها.

وهذا هو أيضا شرط تحقيق الفصل بين العقيدة والمعرفة، أي بناء أسس مناظرة معرفية موضوعية جدية، من جهة، وتحرير الرأي العام من نير التحالف الموضوعي بين الطغيان السياسي الممثل بالسلطة الاستبدادية، والطغيان الفكري الممثل بسيطرة الخطابات الدينية. وطالما بقي الاختلاط بين المعرفة والعقيدة، واستمر الدعم المتبادل بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، أي التفاهم بين النخب الدينية والنخب السياسية ضد الحرية، فلن يكون هناك أمل في الخروج من الحالة القائمة التي تفرض على الجميع البقاء ضمن حدود أقليات هامشية، اللادينيين، والدينيين، الإسلاميين والعلمانيين، الأكثريات والأقليات، لصالح فئات سيطرة غاشمة ومحدودة، لا تحتاج لضمان سيطرتها إلى إقناع الرأي العام ولا موافقته، وإنما تستطيع أن تؤمن ذلك من خلال تذرر المجتمعات وتحلل عراها، واستخدام القوة المجردة والإرهاب للقضاء على تيارات المقاومة والمعارضة والاحتجاج الضعيفة فيها.

تقف العلمانية في مقدمة المعركة من أجل الحرية ومنها تستمد مشروعية وجودها. ولن يكون لها مستقبل في العالم العربي إلا بقدر ما تساهم في هذه المعركة وتعمل على الانتصار فيها. ويتطلب هذا من العلمانيين رفض أي مشاركة في المؤامرة ضد الحرية، لا من خلال دعمهم للنظم الاستبدادية والتغطية على استبدادها وتزيينه، أو رش السكر عليه بتحويله إلى حاجز ضد الظلامية، ولا عن طريق اغتيال المعرفة الموضوعية وإخضاعها للعقيدة وأحكامها الذاتية والمصلحية، وللمصالح السياسية.

هل يعني هذا أن صعود الحركات الإسلامية لا يهدد العلمانية أو أن العلمانية تستطيع أن تستوعب نمو الحركات الإسلامية. بالتأكيد تشكل الحركات الإسلامية تحديا تاريخيا لفكرة العلمانية وممارستها معا. بيد أن الجواب على هذا التحدي لا يكون بالتخلي عن روح العلمانية والقيم التي تبرر وجودها وتؤسس شرعيتها، وإنما بالعكس في إظهار العلمانية بمظهرها الحقيقي الحيادي الذي يشجع الناس على تجاوز نزاعاتهم العقائدية المنتمية للماضي، ويقدم لهم فكرة تساعدهم على الاتحاد أو التفاهم لإنقاذ الحاضر، أي لبناء حياة قائمة على الاعتراف بحرية الجميع والمساواة بينهم وتضامنهم.

لهذا تستحق العلمانية أن نعود إليها اليوم ونراجعها ونعيد بناءها، أي أن ننقدها. لأنها المفهوم الوحيد الذي يمكننا من التمييز بين الموقف الاعتقادي والموقف المعرفي، ويسمح لنا بانتزاع ساحة جديدة مستقلة عن الإيديولوجية نقيم عليها أساس تفاهمنا الجديد، من وراء العقائد العقلانية والأديان السماوية. وليس هناك أي مفهوم آخر يستطيع أن يقوم بذلك. فهي وحدها التي تقدم مفهوما دون مضمون عقائدي، بينما لا يمكن تصور العقلانية إلا كفلسفة أو رؤية مرتبطة بقيم وأحكام وتوجهات تشكل اختيارا خاصا لفئة من المجتمع. العلمانية هي الوحيدة التي لا تؤسس لاختيار قيمي آخر سوى حرية الاختيار، وضمان هذه الحرية بإجراءات قانونية وسياسية واحدة، ومنطبقة على جميع أصحاب العقائد بالتساوي.

في هذه الحرب الايديولوجية التي تدمر اليوم أسس وجود الدول والتنظيمات المدنية العربية جميعا، أو تهدد بتدميرها، ليس هناك سوى صيغة الحرية المكفولة للجميع، وسيلة لتطمين الأفراد على عقائدهم ووجودهم، وتحويلهم عن الاقتتال إلى التفاهم والتعاون. وكما أن أصالة العلمانية تنبع مما تقدمه من فرص لتوحيد المختلفين في العقيدة، وبالتالي توسيع دائرة التحالف الضروري لتحطيم نظام الوصايات المتعددة، الذي هو في الوقت نفسه نظام الاقتتال، فإن تحويلها إلى عقيدة وفرضها بالقوة أو تحويلها إلى عقيدة معادية للدين والفكر الديني، يزيل عنها كل السمات التي جعلت منها أداة لتوحيد المختلفين وتجاوز تعددية المذاهب والاعتقادات، ويقوض لا محالة أسس شرعيتها ومبرر وجودها.

باختصار، العلمانية من دون حراسة قيم الحرية والمساواة والعدالة، يمكن أن تتحول اليوم في البلاد العربية إلى أكبر عقيدة قهرية، أو مشرعة للقهر الجماعي، باسم حداثة ليست في جوهرها ومظاهرها نفسها أحيانا سوى قرسطوية مقنعة ببهارج عصرية لا تخدع أحدا. فهي حداثة سالبة للإنسان ومعطله لضميره وعقله وجسده، ومستلبة لحرياته وإرادته، معادية لفكرة الحق والقانون والمسؤولية الفردية والجماعية معا.

ولذلك كما ينبغي أن نرفض الاختباء وراء شعارات العلمانية لتبرير الحرب ضد الحرية أو للمحافظة على نظم القهر والاستبداد، ينبغي أن ننكر أيضا القطيعة التي عمل الإسلاميون والعلمانيون الكاذبون على فرضها على المجتمعات. وأن نطرح بالمقابل مفهوم الدولة المدنية المحايدة عقائديا، والتي تحترم حريات الجميع وعقائدهم. وبالمثل، كما ينبغي علينا أن لا نتخلى عن واجبنا في الدفاع عن حرية القوى والحركات السياسية والمدنية جميعا ضد سياسات القمع والاضطهاد، علينا أن لا نتردد في توجيه النقد لهذه القوى والحركات، حينما تظهر عداءا لحرية الرأي والاعتقاد، أو تسعى إلى فرض هيمنتها على الآخرين والإساءة إليهم أو تشويه صورتهم لدى الرأي العام. وهذا يعني أننا لا ينبغي أن ننتظر تطبيق الدولة لمبدأ العلمانية حتى نلتزم به، وإنما أن نطبقه نحن منذ الآن على أنفسنا وفي ساحة العمل العام، فنكف عن اتهام بعضنا البعض الآخر، أو التشهير به، أو تخوينه أو تكفيره، ونعترف بشرعية تعددية وجهات النظر وأصالتها، ونقبل بنسبية المعرفة، بما في ذلك مفاهيم العلمانية والحرية والمساواة والعدالة والقومية والوطنية وجميع المفاهيم الأخرى، وتحولاتها وتبدل دلالاتها أيضا. وهو شرط قبول الآخر والتسامح بين الأطراف المتباينة في النظر. فليس هناك علمانية ولا حرية يمكن أن تعيش بغياب مفهوم الحد الأدنى من النسبية. وهذا هو أيضا أساس بناء حقل المعرفة العلمية القائمة على افتراض حد كبير من إمكان التفاهم والتواصل بين بني الإنسان، من وراء أفعال الإيمان والاختلافات العقائدية.

باختصار، كما يشكل فصل العلمانية عن اللادينية شرطا لإعادة مفهوم العلمانية إلى ذاته كمبدأ حرية، يشكل تحرير العلمانية من توظيفاتها الإيديولوجية شرطا لتعميمها واستبطانها من قبل الجمهور وتحويلها إلى قاعدة لحياة سياسية وثقافية ثرية ومستقيمة، في الدولة والمجتمع على حد سواء.

https://www.alawan.org/2013/12/08/%D8%B1%D8%AF%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%88%D8%A7%D8%A6%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%A7%D8%AD-%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%AC%D9%84-%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7/

————————————

 في العلمانية والعلمانية السورية/ وائل السواح

يجد مفهوم “العلمانية” في سورية نفسه شيئا فشيئا مثل ابن الزنا الذي لا يريد أحد أن يتبناه. وقد راحت فئة تتوسع أكثر فأكثر من نخبة المثقفين السوريين تتبرأ من هذا المفهوم أو تعيد تفسيره فتجعله “علمانية بلا أنياب” وتقوم بلهجة اعتذارية تبريرية بتجريده من أهم ما في مقوماته من مدلولات استقلالية، عقلانية، علمية حديثة.

وإذا سمحنا لأنفسنا باستعارة لغة مفكر سوري متخصص في السجال مع التيارات العربية اللاعقلانية، لقلنا إنه لم يعد في عداد ممارسي الخطاب العربي المعاصر المعصوب من لم يعد يجترئ على مفهوم “العلمانية” تشكيكاً وتجريحاً وإنكاراً وتبرؤاً في مناسبة وغير مناسبة. وقد استبيحت “العلمانية” حتى باتت تكافئ، بشكل آلي، تهمة أو سبة (1). وهو يضيف أن “العلمانية” غدت “مكسر عصا لكل مبتدئ في ممارسة الخطاب العربي المعاصر.” وفي هذا المجال يقول مفكر عربي آخر، هو من القلة القليلة التي ما زالت تجهر بانتمائها العلماني، إن لفظة “العلمانية” باتت تحمل من المعاني السلبية المذمومة حدا بات معه «يكفي، في حياتنا الفكرية المعاصرة، أن يوصف أي اتجاه، أو أي شخص، بأنه علماني، لكي يعد موصوماً ويخرج تلقائياً من نطاق ما هو مقبول وما يمكن التعامل معه». (2)

وينصّب معظم المثقفين السوريين العلمانية عدوا لفكرهم “التغييري.” ولكنهم يتفاوتون ما بين ناقد عنيد لا تهادن بين فكره وبين الفكر العلماني، كمحمد سعيد رمضان البوطي ووهبة الزحيلي وعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني وعبد العزيز الخطيب، وناقد يداري مناصبته العلمانية العداء، خجلا أو تقية أو مداورة كبرهان غليون وأدونيس وماهر الشريف وياسين الحاج صالح.

ولعل السجال مع الفئة الأولى من منتجي الخطاب السوري المعاصر أسهل بما لا يقاس من السجال مع الفئة الثانية. فالفئة الأولى واضحة في خطابها بما لا لبس فيه، وهي تعتمد في ما تذهب إليه من مذاهب على نقطتين، أولاهما استسهال الاستشهاد بالمقدس في مواجهة الدنيوي؛ أما الثانية فهي اختصار السجال بأجمله بفكرة أن العلمانية هي نتاج غربي، يهدف إلى تدمير الإسلام، وهو الهدف الذي ينام عليه الغرب ويصحو، آملا تحقيقه. ويمكن بالطبع الاستسهال أكثر بلوم اليهود، كما يفضل الناقد عبد الرحمن حسن حبنكة الذي يرى في رده على صادق جلال العظم وكتابه “نقد الفكر الديني” أن “الحركة اليهودية أرادت نشر الإلحاد في الأرض فتسترت بالعلمانية.” (3) وهو يضع العظم الذي ظهر “ضمن طائفة من الملاحدة الجدليين الذين ينكرون الله واليوم الآخر، ويكذبون الرسل والأنبياء، ويجحدون الكتب الإلهية والمعجزات، ويرتدون أقنعة العلمانية والبحث العلمي المتقدم،” (4) بين “هؤلاء اليهود الذين تستروا بالعمانية والبحث العلمي.” (5)

ولوضع حد لأي نقاش جدي، يمكن لأحدهم أن يغلق باب الحوار بقوله “يتبين أنهم (العلمانيين والديمقراطيين) لا يريدون الدين حاكما في القضايا المطروحة.” (6) بذلك يقفل الإسلاميون الباب على اختلاف مدارسهم، من معتدلين ومتطرفين، على إمكانية أي حوار، فهم يفترضون أن الحكم بينهم وبين أي وجهة نظر أخرى إنما هي نصوصهم هي بالذات. وهنا لا نقصد فقط النص المقدس، ولكن ايضا التفسيرات الخاصة التي يمتلكونها هم لهذا النص والتي ارتفعت مع الزمن إلى درجة النص المقدس. ولذلك يضيفون أنه حتى لو أحضر العلمانيون “فتوى من أي مفتي (كذا) توافق هواهم ليستتروا ورائها (كذا) بأن استفتاءهم موجود في الدين، لا فائدة من إقناعنا أنهم ليسوا أتباع الفكر الغربي.” (7) وإذن فقد حصحص الحق. وقال النص قولته ولا مجال لإقناع أصحاب هذا الرأي أن العلمانية والديمقراطية ليستا “دسيسة غربية” دسها الغرب بين المسلمين لكي يفتنهم عن دينهم.

بمثل هذه البساطة يتابع الخطيب المفوه والحامل لشهادة الدكتوراه، مضيفا أن “الديمقراطية تعني حكم الشعب نفسه بنفسه … وفي هذا كل البأس، لأنه لا حكم إلا لله.” (8).

وليس بيدنا إلا أن نلاحظ ركاكة النص والأخطاء اللغوية الواضحة فيه، والتي لا يرتكبها مبتدئ. وقد يكون السبب أن الكراسة عبارة عن مجموعة من الدروس الدينية التي ألقيت على تلامذة الشيخ ومريديه. وهي أخطاء لا يقع فيها ناقد آخر كالبوطي مثلا أو كوهبة الزحيلي الذي يعيد نفس الفكرة السابقة بالحزم نفسه والوثوقية ذاتها، ولكن بلغة أكثر تماسكا وبلاغة، فيقول إن الإسلام له نظامه الخاص وله ضوابطه وقيوده ومعالمه وأوضاعه … لذلك ينبغي ألا نخلط بين هذه المصطلحات… وبين الإسلام.” (9)

ويجد الزحيلي لنفسه سندا قويا في العلامة يوسف القرضاوي الذي يعتبر صراحة في كتابه “الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف” أن العلمانية هي الإلحاد، وأنها “مروق من الدين” (10) وهو لا يقبل أي مساومة بين نهجه الإسلامي وبين النهج العلماني، لأن العلمانية تعني على الأقل فصل الدين عن الدولة في حين أن إقامة الدولة الإسلامية بالنسبة إليه هي “واجب ديني” (11).

ثمة طريقة سهلة للرد على البوطي والزحيلي والحسني وحبنكة وغيرهم من الأصوليين السوريين المعاصرين، وهي ردهم إلى حوار الإمام محمد عبده وفرح أنطون. ولكن الأيسر أن نردهم إلى رجل دين سوري معتمّ، حاجج قبل أكثر من قرن من الزمن أن الدولة والدين أمران منفصلان، وأن الخاصة (أي النخبة المثقفة، بلغتنا) ينبغي أن تعلم العامة “التمييز بين الدين والدولة، لأن هذا التمييز أصبح من أعظم مقتضيات الزمان والمكان اللذين نحن فيهما، فإذا لم يدركه عامتنا كان الخطر محيقا أبدا بخاصتنا. ولو سألت عامتنا اليوم عنه، لوجدتهم يعتقدون أن الدين لا يقوم إلا بالدولة، والدولة لا تقوم إلا بالدين، أنهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر. وهذا خطأ مبين، لأن الغرض المقصود من الدولة والغاية التي تسعى الدولة إليها في زماننا هذا هي غاية دنيوية محضة، وأعني بها تأمين الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم وسن الشرائع العادلة لهم. وأما الدين فالغاية منه واحدة على اختلاف الزمان والمكان وهي صلاح الناس في الدنيا حتى يدخلوا جنات النعيم في الآخرة”. (12)

كما يمكن ردهم إلى شيخ وخطيب سوري معاصر هو المرحوم معشوق الخزنوي الذي كان بدوره يدعو إلى ما يسميه «فك الاشتباك بين العقل والنص» وذلك بالأخذ في الاعتبار “ظروف النص الزمانية والمكانية”، ويطالب بفتح حوار بين الدين والعلمانيين، “وفق قاعدة تعزيز المشترك وتوحيد الجهود في المقاصد الوطنية والإنسانية المشتركة”. وفي هذا الصدد يرى الشيخ الخزنوي أن العلمانية تعني في النهاية فصل الدين عن الدولة. وهو مطلب يخدم كلا الطرفين، فابتعاد الدين عن الدولة والعمل السياسي، حماية للدين نفسه، ولمكانته وقيمه ومثله العليا. وفي سبيل ذلك لا بد من التذكير دائماً أنه “لا إكراه في الدين،” و”ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا”. فالتشديد على الأخوة الإنسانية أمر رئيس بالنسبة إلى الخزنوي. وفي سبيل ذلك لا بد من “البحث عن المشترك بين الناس في مختلف اتجاهاتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية وبخاصة أبناء الوطن الواحد على أساس القاعدة الذهبية: “الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله”، مما ينعكس إيجاباً على علاقة المسلمين بغيرهم، سواءً في البلاد الإسلامية أو بلاد المهجر، ويدفعهم إلى الانسجام والاندماج مع غيرهم والانخراط في مجتمعاتهم وتحمل مسؤولياتهم “ودعم الحوار مع الغرب والانفتاح عليه ومد جسور التواصل الفكري والثقافي لردم الهوة ما بين الغرب والمسلمين.” (13)

نصا الكواكبي والخزنوي عبر عنهما أيضا رجل أزهري مصري هو الأكثر شهرة بين من طالب بفصل الدين عن الدولة، عندما قال في العام 1925 بأن “الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء، ولا غيرهما من مركز الحكم ووظائف الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية لا شأن للدين فيها”(14).

هذا الطرح تكرر أكثر من مرة على يد مفكرين نهضويين أحدث عهدا، مثل احمد لطفي السيد وعلي عبد الرازق وسلامة موسى وإسماعيل مظهر، بل حتى في شخص مفكر مثل طه حسين تعلم منذ بداية حياته الفكرية ألا يدخل في صدام مباشر مع الإيديولوجيا الدينية السائدة. فمن الحجة المنطقية عينها التي يعتمدها الجابري ليعلن أن “العلمانية غير ذات موضوع في الإسلام”، وهي أنه ليس في الإسلام كنيسة ولا كهنوت، كان طه حسين قد استخلص، قبل خمسين سنة بالضبط، في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” الصادر عام 1938، نتيجة معاكسة تماماً: ﻓ”ما دام لا كهنوت في الإسلام، ولم تنشأ فيه طبقة ذات منفعة معينة في سيطرة الدين على المجتمع”، فلن يكون من الممكن “إجراء فصل بين الدين والمدنية” مماثل لذاك الذي أجري في أوروبا فحسب، بل إن ذلك سيكون “أسهل على المسلمين منه على المسيحيين”. (15)

نلاحظ من نصي الكواكبي والخزنوي جملة نقاط مشتركة، لعل أهمها أن الاثنين يبحثان في مقولتي الزمان والمكان الذين حين يتغيران ينبغي أن تتغير الكثير من الأفكار المصاحبة لهما. إنها نظرة تطورية تعتمد ميزانا سبينوزيا في النفي، يكاد يصل إلى هيغل. وصاحبا النصين يلتقيان مع مفكرين علمانيين من مثل عادل ضاهر، (16)، حيث يرى الثلاثة أن ارتباط الدولة بالدين كان لأسباب وقتية، جوهرها سياسي هو ضرورة إقامة الدولة. أما مع تغير الزمان والمكان، فإن ما هو وقتي لا بد أن يتغير مع تغيير الشروط المتعلقة به. ويلوم الكواكبي والخزنوي –بفارق قرن كامل بينهما – كثيراً من المسلمين لأنهم باتوا يرون في الإسلام مجرد طقوس وشعائر، متناسين أن الإسلام في الأساس هو رسالة إنسانية تهدف طقوسه وشعائره إلى تنمية روحه الإنسانية وإحيائها تماماً مثلما تهدف إلى تصحيح علاقته بربه. ويفرق الخزنوي خاصة بين حقوق الله التي تقوم على المسامحة وحقوق البشر التي تقوم “على المشاححة.” وهو يعني أن التساهل في حق الله أهون من التساهل في حق البشر، ولكن أيضاً الحيوان والنبات والبيئة. ومن هنا نفهم مغزى الحديث النبوي عن هلاك المرأة التي عذبت الهرة ونجاة المومس التي سقت الكلب في الصحراء.

– 2 –

والغريب أن فكرة الزمان والمكان الموجودة عند الإمام الكواكبي والشيخ الخزنوي والشيخ علي عبد الرازق منعدمة عند أرباب الخطاب العربي المعاصر في سورية وخارجها في البلدان العربية الأخرى. ولنتأمل مثقفا مرهفا وأستاذا جامعيا في أعرق جامعة فرنسية ومحاربا عنيدا في سبيل الديمقراطية العددية ، هو برهان غليون، وهو لا يرى في العلمانية إلا وجها قبيحا ومنتجا من منتجات الحقبة الاستعمارية. وهو بعد طول تأمل يحاجج أن العلمانية ليست إلا “حصيلة للسيطرة الاستعمارية السياسية والاقتصادية والثقافية على المنطقة العربية” وأنها على أية حال”لم تقد إلى خلق ثقافة وطنية وقومية بقدر ما كرست ثقافة النخبة المعزولة عن الجمهور والمشدودة إلى التقليد الرث والترجمة”. وهو يزيد على ذلك باتهامه العلمانية بأنها دين النخبة بالمواجهة مع دين الشعب. وأسوأ ما في الأمر أن دين النخبة هذا، على خلاف دين الشعب، لم يكن ديناً أصيلاً ذاتي المنشأ، بل كان ديناً بالترجمة والتعريب. (17)

مشكلة غليون، ومعه مثقفون وكتاب آخرون، أنه ينطلق من واقع سياسي محدد في مكان محدد وزمان محدد ليصل إلى نتائج فلسفية كبرى. فأما المكان فهو سورية وأما الزمان فهو العقود الأربعة الفائتة، وأما النتيجة التي يصل إليها فهي مبنية على فكرة مسبقة ثابتة، مؤداها أن السلطة ذات الطابع الطائفي في سورية، والتي تمثل أقلية طائفية بعينها، تستخدم العلمانية كسلاح ضد الأكثرية العددية التي تنتمي لطائفة أخرى. وهي تستخدم العلمانية كـ”أداة قمع اجتماعي وسياسي” بيد هذه الفئة النخبوية ضد الغالبية الشعبية و”إيديولوجيا تبرير” لضرب حرية الاعتقاد الأساسية، “حرية الرأي والصحافة والتنظيم الحزبي”، و”وسيلة للتغطية على انعدام هذه الحرية في الواقع والممارسة” وعلى “الاحتكار المطلق لحرية الرأي والتعبير والتنظيم” من قبل “دولة النخبة العصرية”.

مثل هذا الكلام لا يستقيم فهمه بالنسبة لقارئ ليس لديه فكرة عن طبيعة النظام السياسي في سورية. ولكن المشكلة هي أن يبني باحث ومفكر بحجم غليون نظرية مبنية على استنتاجات من بلد واحد.

ويشارك غليون في أفكاره نخبة من المفكرين السوريين، أهمهم هو بدون شك الكاتب الصحفي ياسين الحاج صالح الذي يمثل تيارا واسعا من السياسيين السوريين، الذين يعتقدون، ببساطة، أن الديمقراطية ليست بالضرورة مرتبطة بالعلمانية، وأنه “يمكن للعلمانية أن تزدهر في حامل غير علماني.” ويضيف هذا التيار أن العلمانية ليست بالضرورة فصلاً مجرداً لمجالي السلطة الدينية والسلطة السياسية، إما أن يوجد بتمامه أو ينعدم بتاتاً، غير مبالٍ دوماً بتكوين كل من السلطتين ودستوريهما. ويستنتج أن من المستحيل في سورية أن تنفصل الدعوة العلمانية عن المطالب الخاصة بالمساواة السياسية ونزع حزبية الدولة والمطالب الديمقراطية، ولا من ناحية أخرى عن مخاوف الأقليات الأهلية والحداثية من نمط هيمنة قد يجمع بين تشدد ديني وسيطرة أكثرية ويسوغ كل منهما الآخر، ولا بالطبع عن مسألة الصراع غير المحلول بين السلطة والإسلاميين والذي لا تكاد تطرح العلمانية اليوم تقريباً إلا في سياقه.

العلمانية إذن، بالنسبة لهذا التيار، وبينهم مثقف من العيار الثقيل مثل الحاج صالح، “ليست عمياء سياسياً، وليست منفصلة عن المطالبات والرهانات والمخاوف الأخرى ضمن الحقل السياسي السوري، ولا عن موازين القوى الاجتماعية والسياسية القائمة فيه.” وهو يرى أن العلمانيين السوريين يطرحون مفهوم العلمانية كخيار بين علمانية كاملة مكتملة، فصل كامل وناجز بين الدين والدولة، وبين النظام الحالي. ويرى أن ذلك “مطلب تعجيزي”، متهما أصحاب هذا الطرح ضمنا بالانحياز السياسي للنظام الحالي.

ويتابع هذا التيار فيصف، بقلم الحاج صالح، الطرح العلماني بأنه إطلاقي يصطبغ مفهوم العلمانية ذاته بصبغة دينية فتغدو العلمانية ديناً ودولة، علمانية مطلقة أو “علمانوية.” وهو بذلك يربط بين العلمانية وقرينتها المحتملة، الأصولية الدينية، إلى درجة تجعل منها رقيبة على الدين، ترى فيه احتمال عدوان دائم على السلطة العلمانية، كما كانت الحال في تركيا. (18)

برأينا أن في هذه الرؤية نقيصتين اثنتين: أولاهما الاستقواء بالأكثرية العددية في مواجهة الأقليات عموما، وثانيهما النفس الاستعلائي الذي تمارسه في مواجهة من تسميهم بالأقلية الحداثوية. وفهمنا لهذه الأقلية أنها الأقلية التي تأثرت بالأفكار التنويرية الغربية حول العلمانية والديمقراطية وفصل الدين عن الدولة والحريات الفردية وأولوية العقل واعتبار الإنسان، لا الخالق، مركز الكون. ونحن لا نحتج على اعتبار هذه الفئة أقلية، لأنها كذلك بالفعل، ولكننا نحتج على الإيحاء الذي يعطيه مصطلح أقلية، بربطه بالأقليات الأخرى الدينية والقومية في البلاد، مما يعني أن العلمانية منتج أقلوي، وبذلك يتم ربط هذا المفهوم عنوة بفئة من السوريين، ويتم إبعاد فئة أخرى (هي الأغلبية) عنه. كما أننا نحتج أيضا على النفس المتعالي الذي يتعامل مع الأقليات عموما، وهو ما يتبين أحيانا بالتباسط والتسامح المفتعل واستخدام لغة “ودية” جوهرها إبداء التمايز، وهو ما نسمعه دوما – مع الفارق – من الكتاب الإسلاميين الذين يذكرون السوريين المسيحيين مثلا بعبارة “إخواننا المسيحيون.” وهي عبارة تفترض أن السوريين ينقسمون على فئتين على الأقل، فئة المتحدث وفئة المتحدث عنه التي تنفصل عنه بهوة يجد من الظرف اختصاره بعبارة أخوية من مثل “إخواننا.”

ويدعم رؤية الحاج صالح للعلمانية شاعر سوري مبدع هو أدونيس، الذي هزته الثورة الخمينية في إيران، وأظهرت أكثر نوازعه الدينية تأصلا، فإذا به يبرر عدم فصل الحقل السياسي ليس عن الدين عموما، وإنما عن دين بعينه هو الإسلام. فالإسلام لعلة ما لا يمكن الفصل بين أبعاده الأخرى وبين الحقل السياسي. ويبرر أدونيس ذلك بقوله إن السياسة في الإسلام “هي شريان يسري بشكل شامل كامل في بنية شاملة وكاملة.” (19) ثم ينتقل من هذه الفكرة القطعية غير المبررة إلى استنتاج خطير مفاده أن السياسة في الإسلام بعد جوهري من أبعاد الدين.” (20)

لا ندري لماذا ينبغي أن يختص الإسلام بهذه العلاقة الجوهرية بينه وبين السياسة. وفي مناقشة عميقة لهذا الرأي ينتقد مفكر علماني من القلة المتبقية من مفكري العلمانية الرصينين وجهة نظر أدونيس بقوله إنه من غير الواضح كيف انتقل أدونيس من رأيه في صعوبة عدم فصل الحقل السياسي عن باقي أبعاد الدين الإسلامي إلى نتيجة أن السياسة بعد جوهر من أبعاد الإسلام. (21) ونزيد هنا أنه إذا كان الإسلام بسبب ظروف نشأته في بيئة معادية قد ارتأى أن انتشاره رهن بارتباطه بمشروع دولة سياسية، فهذا شيء مفهوم ومبرر في زمن بعينه. أما أن يتحول ذلك النسبي إلى مطلق جوهري، فهو أمر غير مبرر وغير مفهوم. فجوهر الدين الإسلامي، لا يختلف عن جوهر الديانتين اليهودية والمسيحية، في توحيد الخالق وتنزيهه واعتباره أصلا لكل الموجودات. وهذا الجوهر لا يتدخل في الكيفية التي يحيا بها البشر حياتهم أو ينظمون شؤونهم الحياتية.

أضف إلى ذلك أنه إذا كانت السياسة بعدا جوهريا في الإسلام، فكيف يمكن تفسير ما يسميه الباحثون المعاصرون الآن وثيقة “دستور المدينة” وهي المعاهدة التي أعطاها النبي لأهل مكة من مسيحيين ويهود ومسلمين وغيرهم، وفيها ما يشبه دستورا مدينيا تعدديا لا تمييز فيه بين الإسلام وأية ديانة أخرى في مدينة يثرب. وتبدأ هذه الوثيقة التي عتّم عليها الفقهاء الأصوليون بقول محمد: “هذا كتاب من محمد النبي رسول الله، بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم؛ أنهم أمة من دون الناس؛ وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم (….) وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين؛ وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم: مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم.” (22) إن هذه الوثيقة تثبت أن الإسلام كدين كان يعيش على قدم المساواة في فترة معينة مع الأديان الأخرى، وأن ما كان يربط بين مواطني دولة المدينة لم يكن المتحد الديني، بل قوانين مدنية حفظت لكل حقه وأوجبت عليه واجبه. وبالتالي، فإن العلاقة بين الدين والسياسة كانت منذ البداية علاقة ظرفية وليست جوهرية، وأن اعتبارها جزءا لا يتجزأ من الإسلام جاء متأخرا كثيرا عن بداية الدعوة. ولا تجدي هنا مثلا المحاججة بأن النبي كان يمارس آنذاك نوعا من العمل السياسي وأن تنازله في الوثيقة كان تنازلا تكتيكيا، فنحن نفترض أن رجلا مثل محمد لن يقبل بتنازل تكتيكي يمكن أن يغير من جوهر دينه، وهو الذي قال قبل ذلك بثلاث عشرة سنة، حين كان أضعف بما لا يقاس، ” يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته أو أهلك دونه.” ولكنه ربما قدم تنازلات تكتيكية إذا كان الموضوع يتعلق بالظرفي والمتغير في الدين. وهو ما يعني أن العلاقة التي حبكها فقهاء إسلاميون بين الدين والسلطة السياسية كانت في الأساس علاقة ظرفية وليست جوهرية.

وإذا انطلقنا من الخطاب السوري إلى الخطاب العربي، وجدنا أن أهم من يتفق مع غليون وأدونيس هو بدون شك المفكر العربي الكبير وأحد رواد العقلانية محمد عابد الجابري الذي وإن كان لا يضع العلمانية في موضع التعارض والتنافي مع الإسلام، فإنه يرى فيها شيئا نافلا لا لزوم له. وعلى هذا النحو يعلن، في واحدة من أحدث مداخلاته المتكررة حول العلمانية، أن “الإسلام دين ودولة في آن واحد”، وأن “العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة غير ذات موضوع في الإسلام لأنه ليس فيه كنيسة حتى تفصل عن الدولة أو تفصل الدولة عنها،” وأن “مسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات.” ولذلك فإن أسلم الأمور من وجهة الجابري هو أن نستبعد “شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية، فهما اللذان يعبران تعبيراً مطابقاً عن حاجات المجتمع العربي.”

– 3 –

ثمة فئة من المفكرين السوريين لا يناصبون العلمانية العداء، وإن كانوا لا يريدون أن يتم الإمساك بهم متلبسين بجرم العلمانية العارية. وهم لذلك يلجأون إلى لغة اعتذارية للدفاع عن العلمانية، فيقعون في مطب تحويل هذا المفهوم إلى ما ليس فيه. ويرى هؤلاء المفكرون الاعتذاريون أن مفهوم العلمانية قد تعرض لتهمتين باطلتين: أولاهما أن العلمانية تتعارض مع الإسلام، وثانيهما أن العلمانية نتاج غربي. وهو في دفاعه يقر أن النقطتين السابقتين هما فعلا تهمتان أو سبتان، ينبغي له أن يتصدى لكشف بطلانهما. وهو في دفاعه يركز على أن العلمانية لا تتعارض مع الإسلام وأنها ليست نتاجا غربيا. (23)

ونميل إلى الاعتقاد أن النقاش ينبغي أن يكون حول ما إذا كانت العلمانية هي أفضل الحلول لتعايش مجموعات دينية مختلفة على أرض واحدة متمتعين بالحقوق ذاتها والواجبات ذاتها أم لا، بغض الطرف عما إذا كانت تتوافق أم تتعارض مع ديانة بعينها، ذلك أن فرض عقيدة بعينها ترى أن ثمة طريقة واحدة لتحقيق الخير هو طغيان واضح وحرمان لأعضاء في المتحد الاجتماعي لا يؤمنون بهذه العقيدة، ولكنهم مستعدون للعمل مع الأعضاء الآخرين في الإنتاج والعيش وبناء الدولة الواحدة. والسؤال: هل سنقول لهؤلاء الشركاء: “نحن آسفون فنحن مضطرون أن نسلبكم بعض حقوقكم السياسية لأن العلمانية تتعارض مع ديننا، ولأن التزامنا بديننا هو قبل التزامنا ببناء الدولة الواحدة التي تكون على قدم المساواة للجميع؟”

إن احتكار الخير من قبل عقيدة واحدة يعني حرمان أفراد من المجتمع من ممارسة حق من حقوقهم المركزية، وهو ليس فقط الاعتقاد بما يشاء وفي أي دين يشاء، ولكن أيضاً حقه في تغيير دينه أو في اختياره أن يكون لادينياً أو لاأدرياً أو أي شيء آخر. كما أن حق تقرير القيم التي ينبغي أن ينتظم حولها المتحد الاجتماعي هو حق لكل عضو من أعضاء هذا المتحد، وليس لفئة منهم أو حتى لأكثريتهم؛ وهذا يفترض إعطاء كل عضو من أعضاء المتحد حقاً متساوياً ومماثلاً للجميع في ممارسة الحرية على أوسع نطاق؛ وبالتالي لا يجوز تجريد أي عضو من أعضاء الدولة من حقوق المواطنة على نحو تعسفي، أي مثلاً، على أساس ديني أو عرقي. وهذا ما يستحيل تحقيقه في نظام لاعلماني (الإسلام السياسي في بلادنا). فكيف يمكن تأمين شرط الإرادة الجمعية الواحدة إذا كان مصدر التشريع عند الإسلاميين ليس الإنسان بل خالقه؟ ومن النافل القول إن الله لا يمكن أن يحكم بشكل مباشر، وبالتالي سيتولى الأمر نيابة عنه حفنة من وكلائه على الأرض، فيحكمون هيمنتهم على مهمة التشريع واحتكار السلطة؟ ونحن هنا لا نتحدث عن الإسلاميين المتطرفين الذين يرفضون كل شكل للحوار أو المساومة مع الأطراف الأخرى، ولكن حتى الإسلام السياسي المعتدل يرفض التسامح مع الخصوم السياسيين، إلا إذا كان الخلاف على الوسائل وليس على الغايات، كما يوضح راشد الغنوشي من تونس مثلاً. (24)

أما فكرة استيراد العلمانية من الغرب فهو أمر غريب فعلا. نعم العلمانية مفهوم غربي، لأنه منتج حداثي. وإن أي منتج حداثي هو بالضرورة منتج قد أتانا من الغرب الحداثوي المنفتح. والعلمانية مثلها في ذلك مثل الديمقراطية، كلاهما نتاج غربي، ولكن السؤال هو ما إذا كنا سنرفضها لهذا السبب أم أننا سنرى كما قال رفاعة الطهطاوي قبل مائة وأربعين سنة من أن “الحق أحق أن يتبع؟” وللمفارقة، يمكننا هنا أن نستشهد بمفكر عربي رفيع هو محمد عابد الجابري الذي قال في سجاله مع برهان غليون الذي حكم على قضية فصل الدين عن الدولة بأنها “إشكالية مصطنعة ومنقولة عن الغرب، ولأنه طالب الاستعاضة عنها بإشكالية أكثر مطابقة لواقعنا هي إشكالية الديمقراطية. يقول الجابري “إن الحكم بالزيف على إشكالية فصل الدين عن الدولة في الوطن العربي، استنادا إلى أن المشكلة الحقيقية ليست مشكلة العلمانية، بل مشكلة الديمقراطية، إنما يعني المرور بنفس الإشكالية إلى وجه آخر من وجوهها، وليس إلغاءها أو تجاوزها… فإذا كان هنالك زيف في إحداهما فهو ينسحب بالضرورة على الأخرى. هذا فضلا عن كون الديمقراطية لغة وإشكالية منقولة إلينا هي الأخرى عن الغرب، بنفس الدرجة التي هي منقولة إلينا، من نفس المصدر، العلمانية مصطلحا وإشكالية.” (25)

كان ذلك قبل أن يستسلم الجابري للمد الإسلامي الشعبوي، ويرتد بعد سبع سنوات، كما بينا آنفا، فيقول إن العلمانية غير ذات موضوع في الإسلام. ذلك أن الإسلام ليس فيه كنيسة حتى تفصل عن الدولة أو تفصل الدولة عنها.” (26)

أما نحن فنزيد على قول الجابري إن العلمانية نتاج حداثوي غربي مثل العقلانية ومثل الفيزياء الحديثة والتحليل النفسي وعلم السيميوتيكا والكمبيوتر والسيارة والطائرة وربطة العنق والمطبعة وعلم الإحصاء والانتخابات واستطلاعات الرأي وقلم الرصاص والمسرح والسينما وتمكين المرأة: كل ذلك رزمة متكاملة لا يمكن أن نكون انتقائيين حيالها، فإما أن نقبلها جميعا وإما أن ننسجم مع أنفسنا ونرفضها جميعا. ونعتقد أن حركة طالبان كانت أكثر انسجاما مع نفسها عندما رفضت الرزمة ككل تقريبا، وألغت المدارس وعادت إلى نظام الكتاتيب.

– 4 –

والآن، أي علمانية يطمح إليها العلمانيون السوريون؟

منذ انفكاكها عن الإمبراطورية العثمانية، عرفت سورية نوعا من العلمانية الشفافة التي، وإن لم تسمّ باسمها، فإنها كانت واضحة ولينة ولم يعترض عليها معترض. وحتى الإسلاميون، ما عدا قلة متطرفة منهم، تقبلوا هذه العلمانية، باعتبارها تحقق ضمانة لحرية الاعتقاد، باعتبارها فصلا للدين عن الدولة. وبالتالي فإن من الصائب القول إن سورية لم تُحكم في تاريخها المعاصر من قبل دولة دينية، بل كانت الدولة فيها، بغض النظر عن طبيعة واتجاهات السلطة الحاكمة، تقوم دائما على العديد من القوانين ذات الطابع العلماني. إضافة إلى أن الحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية كانت دوما ذات سمات علمانية وتعايشية، ولم تكن ذات طبيعة دينية، وهي بالتأكيد لم تكرّس دينا وتحرّم آخر.

والعلمانيون السوريون (27) يطالبون بدولة غير مؤدلجة،تقف على مبعدة واحدة من جميع الأديان والمعتقدات، ولا تتدخل في محتوى العقائد الدينية وليس من شأنها تنظيم الديانات، وعليها أن تُعامِل، على قدم المساواة، جميع الديانات والمذاهب الفلسفية الإنسية دون تبني أي منها أو تفضيل واحدة على أخرى. وهي لا تكفل فقط حرية المعتقد، بل وتضمن الممارسة الحرة للشعائر الدينية، مع مراعاة القيود، المنصوص عليها قانونيا، حفاظا على النظام العام. وبالتالي فإن عليها أن تسهر على تمكين جميع المذاهب من التعبير عن نفسها، بما فيها المجموعات الأكثر ضعفا أو الأقل عددا أو الأحدث عهدا. ضامنة بذلك لجميع الخيارات الروحانية أو الدينية الإطار الشرعي الملائم لهذا التعبير.

وفي مقابل حرية العبادة والتعبير، فإن الدولة العلمانية، بصفتها ضامنة لحرية المعتقد، تحمي الأفراد وتضمن لهم حرية الخيار بأن يكون لهم اتجاه روحاني أو ديني أو لا يكون. وتحرص على أن لا يكون بإمكان أي مجموعة أو أي طائفة أن تفرض على أي شخص هويتها الدينية أو الطائفية أو الانتماء إليها، وبشكل خاص تقسيم الأفراد بالقوة وفق الأصول العائلية لهؤلاء الأفراد.

ويعتقد العلمانيون السوريون أن المجتمع السوري متعدد الأديان والطوائف والمذاهب والإثنيات والمعتقدات والثقافات، وكل منها يشكل نسبة ذات أهمية من حيث العدد أو الأصالة في الواقع السوري. لهذا فإن أي دولة ذات طبيعة دينية أو أيديولوجية لا بد أنها ستكون مجحفة في حق طرف أو أكثر. ولا مندوحة من أن يشعر أحد الأطراف على الأقل بالغبن تجاه دولة يجد أنها تعبر عن غيره أكثر منه. ومن الطبيعي أن يترك هذا أثرا سلبيا، على أقل تقدير، على إمكانية التعايش السلمي الفعال. ومن هنا تأتي ضرورة أن تكون الدولة محايدة تماما تجاه قضايا الاعتقاد. والدولة الأقدر على التمسك بهذا الحياد هي حصرا الدولة العلمانية القادرة على أن تكون على مسافة واحدة من جميع الأطراف، وبنفس الوقت الضامنة لحقوقهم الدينية والثقافية.

وإذا كنا نعتقد أن قيم العدالة والمساواة، اللتين تشترطهما المواطنية، هي ما يجب أن يجمع السوريين، فسيكون من الصعوبة، إن لم يكن مستحيلا، على أي دولة دينية أو أيديولوجية أن تجعل من هذه القيم عوامل جامعة للأفراد السوريين. فالدولة الدينية أو الأيديولوجية لا يمكنها تحقيق المساواة بين المواطنين كونها ستعتبر أن مواطنيها.

يجب أن يكونوا أوفياء لدينها أو لعقيدتها. أما في دولة المواطنة المفترضة فإن مكونها الأساسي هو المواطن السوري المنشود الذي لا يُشترط عليه إلا أن يكون حاملا للجنسية السورية، بغض النظر عن دينه أو جنسه أو لونه أو عرقه أو اعتقاده. وستكون له كامل الحقوق المدنية والسياسية التي يتمتع بها الأفراد الآخرون. وكذلك تترتب عليه كل الواجبات مع الآخرين. مع الإقرار بحق الأفراد بشعورهم بالانتماء إلى أي جماعة أو مذهب أو طائفة شرط ألا يتعدى ذلك إلى التعصب الذي يهدد استقرار مجتمعنا ووحدته، فيدفع إلى الانقسام والتشرذم. والدولة العلمانية وحدها القادرة على المساواة بين أفرادها كونها تنظر إليهم كأفراد سوريين وليس كأفراد حاملين لأي معتقد، ولن تختصر أيا منهم لأي هوية اعتقادية.

____________________________________

الحواشي:

1- جورج طرابيشي، المرض بالغرب، دار بترا، 2005، ص 147.

2- نفسه، ص 147

3- عبد الرحمن حسن حبنكة، هوامش على كتاب نقد الفكر الديني، منقولة عن “محمد كامل الخطيب، حرية الاعتقاد الديني، مساجلات الإيمان والإلحاد منذ عصر النهضة إلى اليوم، منشورات رابطة العقلانيين العرب، دمشق – 358

4- نفسه، ص 357

5- نفسه – ص 358

6- الشيخ الدكتور عبد العزيز الخطيب الحسني الشافعي، ردود على أباطيل في الأحوال الشخصية للمرأة، كراسة مطبوعة وموزعة في مسجد الخطيب، ص 22

7- نفسه، ص 22

8- نفسه، ص 22

9- وهبة الزحيلي، ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، ص 520

10-نفسه، ص 112

11-نفسه ص 22

12-من مقالة للإمام عبد الرحمن الكواكبي نشرت في جريدة المقطم المصرية 5 آب 1899، نقلا عن جورج طرابيشي “المرض بالغرب” دار بترا، 2005 ص 150 و151

13-يمكن مراجعة وثيقة الشيخ معشوق الخزنوي على موقع ألف (www.aleftoday.com)

14-علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، المؤسسة العربية للدراسات ط5، نقلا عن كمال عبد اللطيف، التفكير في العلمانية، دار رؤية، 2007، ، ص 89

15-نقلا عن ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ص 396

16-انظر كتابه أولية العقل، دار أمواج، بيروت 2001

17-برهان غليون، المسألة الطائفية ومسألة الأقليات، دار الطليعة، بيروت، 1979، ص: 11،12، 52، 53، 66، 82، و88. وانظر أيضا اقتباسات جورج طرابيشي في كتابه المرض بالغرب، مرجع سابق، ص 148.

18-راجع مقالة ياسين الحاج صالح المهمة في هذا الصدد في ملحق تيارات، جريدة الحياة اللندنية، آب 2005.

19-أدونيس، بين الثبات والتحول: خواطر حول الثورة الإسلامية في إيران، مواقف العدد 34، 1979 ص 150 . ولنلاحظ أن المقال كان بعنوان خواطر، وهذه بحد ذاتها مشكلة، فأن يكتب شاعر خواطره في موضوع بهذا التعقيد والتشابك، يوحي باستسهال غير جدير باسم كاتبه.

20-نفسه: ص 158

21-عادل ضاهر، أولوية العقل، دار أمواج 2001، ص 208 و 209

22-يمكن مراجعة وثيقة يثرب في كل كتب السيرة، وخاصة في سيرة ابن هشام.

23-يمكن أن نأخذ، تمثيلا، د. ماهر الشريف في مداخلته في ورشة عمل عن العلمانية نظمها المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى، يومي 26 و27 آذار، 2007.

24-راجع مساهمات عادل ضاهر وعزيز العظمة ورجاء بن سلامة وصادق جلال العظم في كتاب “الحداثة والحداثة العربية، دار بترا، دمشق 2005.

25-محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ط2، دار الطليعة، بيروت 1985، ص 76

26-محمد عابد الجابري، الإسلام ليس كنيسة كي نفصله عن الدولة – مجلة اليوم السابع، العدد 256، نيسان 1989، ص 21.

27-يمكن العودة إلى البيان التأسيسي الذي أصدرته مجموعة من العلمانيين السوريين الذين كانوا يعتزمون تأسيس جمعية غير حكومية لنشر الثقافة العقلانية والعلمانية وللدفاع عن فصل الدين عن الدولة في سورية.

——————————

 العلمانية، الأفق الممكن/ راتب شعبو

لا يتوقف الانشغال في موضوع العلمانية حتى في البلدان التي تتبنى منذ أكثر من قرن من الزمان علمانية جذرية أو ما يسمى أحياناً بالعلمانية الصلبة، مثل فرنسا. لا يهدأ النقاش بشأن العلمانية التي تواجه على طول الخط تحديات تطال قدرتها على استيعاب المستجدات، وحفاظها على التوازن بين حقوق المساواة وقضايا الهوية. لكن انشغالنا بالعلمانية، نحن أبناء البلدان المفقرة، والتي لم تعثر على آليتها الخاصة في الاجتماع وفي إنتاج الشرعية السياسية بعيداً عن منطق الغلبة بالعنف، يتعلق بشكل العلمانية التي نريد، وبكيفية وحدود الفصل بين الدين والسياسة، وباستكشاف قدرة العلمانية، أو عدم قدرتها، على المساعدة في الخروج بالمجتمع المسلم، أقصد الذي يشكل الإسلام دين غالبية السكان فيه، من وهدة الصراعات العقيمة التي تستهلك طاقاته وموارده وتهدد وجوده.

ما شهدناه في السنوات الأخيرة في سورية وغيرها من البلدان العربية، من اتجاه واسع نحو التطرف الديني والسعي للعودة بالمجتمع إلى حكم ديني (خلافة وإمارات ومحاكم شرعية ..الخ) مع تكفير الديموقراطية والعلمانية، هو إحدى نتائج تعثر تطور مجتمعاتنا. الفشل أرض خصبة لشتى أنواع التطرف واللاعقلانية، ولا سيما في الأمم المكسورة، والتي ترى إلى نفسها، مع ذلك، على أنها متميزة ومصطفاة و”ذات رسالة”، كما هو حال “الأمة العربية”. التطرف الديني الإسلامي الذي شهدته السنوات الأخيرة والارتداد نحو ماض غابر، سواء في الأحكام أو في الرموز والتسميات، هو احتجاج طفولي ضد الشطر المسيطر من العالم، أو ضد النظام العالمي الذي “يهملنا” مع أننا “الأعلون”، وهو احتجاج أو ارتداد ضد الذات أيضاً بالقدر نفسه. نقصد إن فشل هذا التطرف الديني أو هذه الجهادية الدينية العالمية أو المحلية هو أمر محتوم في هذا العصر، وما الإصرار والتضحيات المقدمة في سبيلها سوى تعبير عن إدراك عميق بالعقم والاستحالة. لا مكان في العصر الحديث لحكم الدين الذي يبشر به منظرو الجهادية، وليست هذه قناعة بعيدة عن عقول المتطرفين الإسلاميين أنفسهم، إنها فقط طريقتهم في استجلاب الاعتراف لأنهم لا يمتلكون طريقاً آخر للاندماج في العالم من موقع الشريك والتابع (طالبان في أفغانستان، وربما جبهة النصرة في سورية). وقد نقول أيضاً إن هذه الجهادية العنيفة هي طريقة غير واعية في الانتقام من الذات “الفاشلة”.

قد نجد أشخاصاً أنجزوا انفصالاً واسعاً عن الواقع إلى حد القناعة التامة بإقامة حكم ديني في العصر الحالي، غير أن السؤال الحقيقي اليوم لا يتعلق بالموقف من الدولة الدينية، السؤال الحقيقي ليس المفاضلة بين دولة دينية ودولة علمانية، بل أي دولة علمانية نريد؟ وكيف نفهم العلمانية؟ هل هي فصل الدين عن الدولة أم فصل المؤسسة الدينية عن الدولة؟ وماذا يبقى من الدين في ظل الدولة العلمانية؟ ..الخ. مع الأخذ في الاعتبار أن الكثير من السوريين باتوا ينفرون من كلمة “العلمانية” بسبب ارتباطها بنظام الأسد من جهة، وبسبب الدعاية الإسلامية التي ازدهرت مؤخراً في إطار الصراع الجاري في سورية، من جهة أخرى. وبات كثير من العلمانيين السوريين يفضلون تفادي اللفظ مع الاحتفاظ بالمضمون، وهناك من يقترح استبدالها بلفظة أخرى تعطي دلالة مشابهة مثل “الوطنية”. لكن بعيداً عن اللفظ، يبقى، في تقديرنا، أن غالبية السوريين “علمانيون” في المضمون، أي لا يميلون إلى الحكم الديني كما يطالب به أصحابه، الذي هو حكم إسلامي سني بطبيعة الحال. يبرهن على ذلك الرفض الواسع الذي لاقته الدولة الإسلامية (داعش)، وتلقاه جبهة النصرة، في مناطق سيطرتها. وقد يكون بروز وسيطرة هذه التنظيمات السلفية الجهادية وانكشاف محدوديتها وطبيعتها القائمة على العنف المحض، من النتائج الإيجابية القليلة التي أدت إليها المأساة السورية.

بين العلمانية والمذهب العلماني

ينبغي التمييز منذ البداية بين العلمانية (secularity) والعلمانوية أو المذهب العلماني (secularism)، المفهوم الأول ينتمي إلى المجال السياسي ويعرض تصوراً لطريقة تبدو لمناصريه، ونحن منهم، أكثر عدلاً وجدوى في تنظيم الشؤون العامة في المجتمع وإدارتها، لأنه يحرر إدارة المجتمع من المجال القدسي حين يبعد التقديس والإطلاق عن عالم السياسة، فيما ينتمي المفهوم الثاني إلى المجال الإيديولجي فيحول “العلمانية” إلى ما يشبه الدين الدنيوي، حين يقوم أتباعه بنقل “التقديس” من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فينتج ظاهرة “المقدس الدنيوي”، ويحول “العلمانية” إلى إيديولوجيا لسلطة مطلقة.

يمكن الحديث عن نسختين من المذهب العلماني، الأولى هي النسخة السوفييتية التي تطابقت مع الإلحاد. لا تكتفي هذه النسخة بتحرير السياسة من سلطة المؤسسة الدينية، بل تحظر الأديان نفسها، وتقيد حرية المتدينين، وتضخ ثقافة “مادية” في كل مفاصل المجتمع بغرض استئصال الدين .. الخ. تستند النسخة السوفييتية إلى فلسفة مادية محددة ترى في الدين عائقاً في وجه تحرير المجتمع، وترى أن الدين تعبير عن طفولة البشرية أو مرحلة عابرة من تطور البشرية. وقد ترافقت هذه النسخة مع قمع سياسي معمّم وبناء اقتصادي وعسكري مهم. لم تخف النسخة السوفييتية عداءها للأديان، وكانت جزءاً من مشروع تنموي يهدف إلى التحرر من “الإمبريالية” لكنه انتهى إلى الانهيار، وتبين من هذه التجربة أن سبعين سنة من الإلحاد العام لم تستطع استئصال الدين من المجتمع، وأن ربط التحرر أو التنمية بمعاداة الأديان هو ضيق أفق يتجاهل المكانة الثابتة للدين في النفس البشرية.

النسخة الثانية من العلمانوية كانت جزءاً من إيديولوجيا سلطات “تقدمية” مستبدة، سرعان ما تحولت إلى سلطات منحطة فارغة من أي مشروع تنموي أو تحرري وممتلئة فقط بإرادة الديمومة أو التأبيد، فعملت على صياغة كل آليات إدارة المجتمع لتكون موجهة إلى تأبيد سلطتها. إلى هذا النوع تنتمي “علمانية” نظام الأسد. هذه النسخة، على خلاف النسخة الأولى، لا تقف ضد الدين، ولا تفصل الدين عن الدولة، بل تتحول إلى ما يشبه دين دنيوي مجاور تحل فيه السلطة، أو رأس السلطة، محل الله في الدين الديني الذي تتواطأ مؤسساته الرسمية مع “دين السلطة” هذا، وتصبح خادمة له من موقعها كممثلة للدين الإلهي.

يتأتى انحطاط هذه النسخة العلمانوية من انحطاط السلطات التي تعتمدها. الحق أن صلة هذه السلطات مع العلمانية تقتصر على أنها سلطات ليست دينية، بمعنى أنها لا تفرض تطبيق الشرع (وإن كانت تفرض أن يكون رئيس الدولة متحدراً من دين أو مذهب معين)، وبذلك فإنها تحمي جوانب من الحرية الفردية مثل عدم فرض الحجاب وعدم فرض تحريم الخمر .. الخ. ينظر كثيرون إلى هذه “الحريات” بوصفها علامات تقدم، في الوقت الذي أنتج ترافق أمثال “الحريات” المذكورة مع سيطرة سلطة مفروضة على المحكومين وتعمم القمع والفساد وأشكال التمييز الضمني والمعلن، رد فعل ضد هذه الحريات نفسها التي غدت في الوعي العام جزءاً من منظومة الاستبداد. وقد لوحظ في سورية ميل شعبي لرفض هذه الحريات في العودة إلى الدين والعودة للباس الديني وعودة الالتزام بالطقوس الدينية والمطالبة بفصل الجنسين ..الخ، في السنوات الأخيرة السابقة لاندلاع الثورة. وقد كان لهذه العودة إلى الدين “الإلهي” حضور صريح في جسد الثورة السورية منذ بداياتها، عودة إلى الدين الإلهي كشكل لرفض “الدين الدنيوي” أو “دين السلطة” الذي سخر الدين الإلهي لصالحه عبر سيطرته على مؤسساته الرسمية التي تأقلمت بدورها مع هذه السيطرة من موقع المصلحة المشتركة. على هذا كانت العودة إلى الدين الإلهي نوعاً من رفض السلطة السياسية ورموزها. يلفت النظر التركيز على “الرموز” في الهدف الثابت (الكليشي) الذي استخدمته وكررته مؤسسات المعارضة السورية لفترة طويلة وهو “إسقاط النظام بكامل مرتكزاته ورموزه”، وكانت هذه المفردة الأخيرة تشمل العلم والنشيد الوطني والأغاني الوطنية التي كان يستخدمها النظام ..الخ، كما لو أن هذه الرموز انعكست في وعي الثائرين على أنها طقوس لدين السلطة “العلمانية”.

اصطفافات غريبة

هكذا أبرزت الثورة السورية اصطفافات غريبة وسط نخبة المثقفين والناشطين والمهتمين بالشأن العام، فالقمع الوحشي الذي لجأ إليه النظام “العلماني” دفع إلى التطرف في رفضه جملة وتفصيلاً بما في ذلك “علمانيته“. وبالمقابل، فإن الطابع الديني الذي راح يسيطر أكثر فأكثر في المظاهرات ثم في التحول المسلح، دفع آخرين إلى رفض الثورة “الدينية“.أولوية الموقف ضد النظام دفعت علمانيين إلى الاقتراب من قوى غير علمانية في مواجهة النظام، وأولوية الموقف ضد الإسلام السياسي، دفعت معارضين تاريخيين للنظام إلى الاقتراب من النظام في مواجهة قوى إسلامية غير علمانية أو في مواجهة “الفاشية الإسلامية”،كما يسمونها. هكذا أصبحت لوحة الصراع مركبة وغريبة، وأغرب ما فيها أن قوى إسلامية دينية تتصدر ما يفترض أنه ثورة ديموقراطية، وأن علمانيين ديموقراطيين يجدون أنفسهم بجانب قوى تكفّر الديموقراطية والعلمانية، فيما يجد علمانيون ديموقراطيون آخرون أنفسهم بجانب نظام مستبد وحشي يشن حرب إبادة ضد شعبه. ومهما يكن المنطق السياسي لكلا الطرفين، ولكل منهما منطقه الخاص وحججه الثابتة، فإن الخاسر الأكبر في هذا الاصطفاف هو هؤلاء العلمانيون الديموقراطيون أنفسهم، مع قضيتهم المهملة.

بماذا تتميز العلمانية عن الحكم الديني؟

العلمانية تتضمن أمرين جوهريين، الأول هو إنشاء مرجعية انتماء موحدة لكل أبناء البلد، وهي مرجعية الانتماء إلى البلد (الوطن)، وجعل هذا الانتماء أولياً في الشؤون الدنيوية أو السياسية، أي جعله فوق كل الانتماءات من الناحية الدستورية والقانونية. والثاني هو تحصين المجال السياسي من هيمنة الدين وحماية هذا المجال من “ممثلي الله على الأرض”، الذين يحاسبون الناس على عقائدهم الروحية، ويفرزونهم بحسب ذلك، فلا يبقى مكان في البلاد لملحد مثلاً. ينتج عن هذين الأمرين أن أهل البلد متساوون أمام القانون بصرف النظر عما يحملون في رؤوسهم من عقائد روحية أو دينية، وأن شأن إدارة بلدهم يعود لهم، ولما يرونه مناسباً لتطورهم، دون ارتهان لأي مرجعية سوى مرجعية العقل وإرادة الغالبية. من الطبيعي أن هذا يوحد أهل البلد بوصفهم مواطنين بدلاً من أن يفرقهم بوصفهم أتباع مذاهب وأديان، كما هو الحال في الحكم الديني. ومن شأن هذا، أيضاً، أن يفتح أمام أهل البلد كل إمكانات التفكير الحر في حل المشاكل التي تواجههم، مع الاستفادة من تجارب العصر دون الحاجة إلى “جواز مرور” من نصوص أو من جهات “فقهية” تستقر فوق الدستور بدعوى زائفة هي احترام الدين والهوية.

من ناحية أخرى، تميز العلمانية بين مجال عام (المجال السياسي) يتساوى فيه أهل البلد بوصفهم مواطنين بحقوق وواجبات يحددها الدستور والقوانين، وبين مجالات خاصة يتمايز فيها الناس بحسب معتقداتهم الخاصة، فيمارسون في مجالهم الخاص سلطاتهم الدينية وأنشطتهم الروحية وطقوسهم وتقاليدهم بكامل الحرية. هذا يعني أن العلمانية ليست ضد الدين إلا بقدر ما يسعى الدين إلى اقتحام المجال العام، أي بقدر ما يتحول إلى إيديولوجيا لسلطة سياسية. “الدين دين في حدوده، وهو إيديولوجيا خارجها”، بحسب تعبير عزمي بشارة في كتابه (الدين والتدين)، الجزء الأول من ثلاثية بعنوان (الدين والعلمانية في سياق تاريخي)، يدافع فيها بشارة عن فكرة أساسية تقول إن العلمنة هي عملية تاريخية طويلة من التمايز بين الدين والدنيا.

غير أن عقدة مناقشة العلمانية في المجتمع المسلم هي أن الإسلاميين لا يقبلون التمايز بين الدين والدنيا. يصر الإسلاميون على أن الإسلام دين ودنيا، وأنه لا يمكن الفصل في الإسلام بين العبادات والشريعة، وأن العلمانية تعتدي على الإسلام لأنها تستبعد الشريعة (يوسف القرضاوي). ينتهي هذا القول الثابت عند الإسلاميين إلى نتيجة واحدة تقول، إذا استعرنا من شعر لبيد: “ألا كل شيء ما خلا (الحكم الديني الإسلامي) باطل”.

هل يمكن علمنة الخطاب الديني الإسلامي؟

حاول عدد من المفكرين حل العقدة السابقة بأن يقبلوا بارتباط الدين والدنيا في الإسلام وأن يعملوا على توسيع الدين إلى الحد الذي يجعله قادراً على استيعاب الدنيا في تطورها وتطلباتها المتزايدة، والعلمانية من متطلباتها. أي حاول هؤلاء “علمنة” الخطاب الديني الإسلامي، مرة بالاعتماد على علوم اللغة، كما فعل السوري محمد شحرورفي كتابه “الكتاب والقرآن، قراءة معاصرة”، ومرة بالاعتماد على استخلاص المعنى من الخطاب الديني برده إلى ظروف نشأته “أسباب النزول”،وبالتالي أخذ العبرة والمعنى دون التقيد بحرفية النص، كما فعل المصري نصر حامد أبو زيدفي كتابه “مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن”، ومرة بالعودة إلى الإسلام المكي دون المديني كما فعل السوداني محمود محمد طه. وهي محاولات توفيقية يصعب أن تنافس التيار الإسلامي السائد على الجمهور، لأنها تسعى إلى محاربته في ساحته وبأسلحته.

هذه المحاولات تنطوي على تناقض عميق هو الجمع بين المقدس غير الخاضع للعقل، والعقلاني. فهي تقر بقداسة النص وإعجازه من جهة، وتنتصر للعقلانية من جهة أخرى. هذا مسعى معاق، فهو يريد أن يزرع العقلانية في ما هو غير عقلاني، يريد من الدين أن يتخلى عن دينيته بقدر ما يريده أن يكون عقلاً.

لا يمكن حل هذه المشكلة إلا بفصل المجال السياسي (النسبي والمشترك والمتغير والدنيوي) عن المجال الديني (المطلق والثابت والخاص والروحي). وتبقى حدود الفصل بين المجالين محلاً للبحث والتداول لأنها تتعلق بالمجتمع المشخص وتاريخه وتركيبته، حتى يمكن القول إن لكل مجتمع علمانيته الخاصة.

علمانية أرضية مقابل علمانية سماوية

ما أنجزته الدعوة المحمدية من الناحية السياسية، وما شكل أساس نجاحها، هو إنشاء رابط واحد بين أبناء القبائل العربية المختلفة، استطاع من خلاله توحيد الجميع والظهور بهم على العالم في تلك الحقبة. الجميع متساوون في هذا الرابط الذي هو “الإسلام”، والذي شكل قاسماً مشتركاً للجميع لا يتعارض مع الروابط والانتماءات القبلية. كان ذلك، قبل أن يصبح الإسلام نحلاً وفرقاً عديدة، ويتحوّل بالتالي إلى مصدر تقسيم وليس مصدر وحدة، كما كان عليه الحال في مطلع الدعوة.

على هذا كان الفعل السياسي للانتماء الجامع الذي جاء به محمد، هو تماماً ما نريده نحن من العلمانية. أي تحييد الانتماءات الدينية (الانتماءات القبلية) أمام الانتماء إلى الوطن (إلى الإسلام)، ومساواة الجميع في الدستور وأمام القانون بصرف النظر عن منابتهم الدينية والمذهبية. هذا يقول إنّ “أتباع” محمد اليوم، من أنصار الحكم الديني، وهم يعملون، في الحقيقة، على الضد مما عمله محمد، فهم يقسمون أبناء البلد الواحد، بحسب مذاهبهم وأديانهم، ويقودون إلى تشتيت الناس بدلاً من توحيدهم. التمسك بقاسم مشترك بين الناس يحميهم من صنوف التمييز فيما بينهم، مع احترام القواسم الخاصة بكل جماعة، هو ما يكافئ الفعل السياسي الذي أنجزه الرسول، بفارق أن الرسول ربط الانتماء بالسماء، فيما العلمانية تربطه بالأرض.

أما التمسك بالانتماءات الدينية في هذا العصر وإعلاؤها على غيرها، فإنه يكافئ التمسك بالانتماء القبلي في زمن الرسول وإعلاءه على الانتماء الإسلامي الذي كان جامعاً في حينها.

علمانية الأقليات الدينية والمذهبية

الأقليات المذهبية الموجودة في سورية لا تمتلك “شريعة” ولا تنتج تعبيرات سياسية تتكلم باسم “الأمة”، فهي غير مؤهلة لذلك، لا من حيث التكوين العددي ولا من حيث البنية المذهبية. لا يوجد مشاريع حكم ديني لدى هذه الأقليات. مشروع الحكم الديني في سورية هو مشروع إسلامي سني بالتحديد، ولذلك فإن أبناء الأقليات المذهبية يؤيدون العلمانية في وجه الحكم الديني، ذلك لأن هذا الأخير يجعل منهم رعايا أو محميين أو ذميين أو مواطنين من درجة ثانية في بلدهم. هذا مفهوم وثابت.

في مواجهة سعي الإسلاميين إلى إقامة “حكم الشرع”، سوف تميل الأقليات إلى القبول بأي خيار آخر، حتى لو كان التمسك بنظام يستبد بهم، ولو كان يقيم “ديناً دنيوياً” يكرس فيه إلها ملموساً ومشخصاً اسمه “السلطة“. يقبلون أن يتساووا مع الجميع تحت سيف قمع “علماني”، على أن يطالهم سيف التمييز الحتمي للحكم الديني الإسلامي الذي سوف يميزهم بحسب ولادتهم. فما بالك إذا كانوا يشعرون أن السيف “العلماني” أقل قسوة عليهم من قسوته على أهل الأكثرية التي يخشى دائماً من أن تقوم للمطالبة بحكم الشرع؟ ولن يكون مفاجئاً أن تميل الأقليات إلى القبول حتى بالأجنبي، في مواجهة محاولة “حكم الشرع” الوصول إلى السلطة، كما نرى في الموقف من التدخل الإيراني والروسي.

على هذا، حين يصبح مشروع الحكم الديني في حالة هجوم، ويدخل في نزاع مباشر على السلطة، سوف تتحول الأقليات إلى قوة محافظة ضد هذا المشروع، وسوف يصبح المذهب العلماني وسيلة إيديولوجية تعتمدها في موقفها ضد الإسلاميين. وقوف الأقليات مع الاستبداد السياسي “العلمانوي” ضد محاولة التغيير الإسلامية، لا تنبع من “تقدمية” جوهرية لدى الأقليات، كما يمكن أن يقال، بل من موقف دفاعي ينتهي، في الحالة العيانية السورية، إلى تكريس الاستبداد وخنق العلمانية نفسها، بقدر ما نفهم العلمانية على أنها مقدمة ضرورية للمساواة. الموضوع لا يتصل إذن بتقدمية أو رجعية الأقليات، بقدر ما يتصل بحسابات مصلحية واضحة.

لاحظنا في سياق الثورة السورية، أن الأقليات عموماً، بدرجات متفاوتة فيما بينها، (العلويون بصورة أبرز لأسباب كثر تناولها والحديث عنها وباتت معروفة كما أعتقد)، توجست منذ البداية، وراحت تستقصي اللون الإسلامي منذ الأيام الأولى، واصطفت إلى جانب النظام أكثر مع بروز الطابع الإسلامي للثورة أكثر. كان هذا الاصطفاف نهائياً، بمعنى أن الأقليات تخلت بالكامل، بتأثير الخوف من تقدم المشروع الإسلامي، عن موقفها النقدي من النظام، أو، بدقة أكبر، حصرته تحت سقف دعم النظام باسم دعم الدولة أو دعم الجيش الوطني أو دعم “العلمانية” ..الخ. ولم يكن لهذا الموقف أن يتبدل رغم كل شيء، رغم تمادي النظام في القمع والقتل والتدمير، ورغم الارتهان لدول خارجية مثل إيران وروسيا، ورغم التواطؤ المتبادل بين النظام ومؤسسة الدين الإسلامي الرسمي المتحالف مع النظام. لم تجرؤ الأقليات على مراجعة جدية لموقفها من النظام حتى حين مارست أجهزة النظام البطش والتشبيح ضد أبنائها أنفسهم، وحتى حين أعطى النظام وزارة الأوقاف سلطات غير مسبوقة في الرقابة على التعليم وعلى مؤسسات الدولة. لقد أصبحت الأقليات، والعلويون بوجه خاص، مرهونة للنظام بقدر ما هو مرهون لها.

الواقع يقول إن علمانية الأقليات لا تعبر عن تقدمية أقلياتية، فهي دعمت استبداداً “علمانياً” ولم تدعم ديموقراطية علمانية، كما أن لا علمانية الإسلاميين لا تعبر عن رجعية أكثرية، فهؤلاء قاموا ضد استبداد يتاجر بالعلمانية ويدوس مبادئها بممارسات طائفية مستورة ومعلنة.في الحالتين يندفع كل طرف وراء ما يعتقد إنه يحمي وجوده ومصالحه. في الانقسام الحاد الذي أفرزه الصراع الجاري في سورية، أظهر الطرفان احتقاراً لكرامة الإنسان ولمبادئ حقوق الإنسان. والواقع أن الجمهور السوري منقسم اليوم ليس على أساس علماني ومضاد للعلمانية، بل على أساس مع أو ضد النظام، مع أو ضد الإسلاميين. لا حضور للحديث العلماني في الأمر، ولا يوجد في سورية اليوم طرف مؤثر يعبر بشكل حقيقي عن المبادئ الديموقراطية والعلمانية.

إذا صح وصفنا السابق، فإن مهمة المثقفين والمهتمين بمستقبل سورية، إنقاذ العلمانية من التشويه الذي يمارسه النظام السوري، والتعبئة المضادة التي يمارسها الإسلاميون، لأن الديموقراطية العلمانية هي، في اعتقادنا، الأفق الوحيد الممكن لسورية موحدة وكريمة.

عن موقع جدلية

——————————-

================================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى