سياسة

على ضوء الحاضر السوري الكئيب/ راتب شعبو

لأمد طويل، لن يملّ السوريون من استعادة قصتهم والتمعّن فيها، فيروا الماضي مجدّداً على ضوء الحاضر، كما نفعل الآن. الحاضر السوري الكئيب يدفع إلى استعادة القصة مرّة بعد مرّة .. لا يحتاج المرء اليوم إلى “تحليلاتٍ عميقة” كي يرى ما بات واقعاً مريراً في كل بقعة من سورية. لنذكر بعض المؤشرات مما وصلت إليه سورية اليوم.

قدرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا)، في تقرير صدر في سبتمبر/ أيلول 2020، الخسائر المباشرة وغير المباشرة لسورية بنحو 442 مليار دولار (للتذكير، كان الناتج المحلي الإجمالي لسورية عام 2010 حوالي 60 مليار دولار، أصبح في 2020 حوالي 16 مليارا). وتذكر منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونسيف)، في بيان أصدرته في مارس/ آذار 2021، أن 90% من الأطفال في سورية يحتاجون مساعدة إنسانية، وأكثر من نصف مليون طفل تحت سن الخامسة يعانون من التقزّم نتيجة سوء التغذية المزمن، مع تزايد كبير في حالات الانتحار بين الأطفال. وبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يشكل السوريون اليوم أكبر مجموعة من اللاجئين في العالم، وصارت سورية ثالث أخطر بلد في العالم بعد أفغانستان واليمن، بحسب مؤشّر السلام العالمي لعام 2020. وتزداد اللوحة سواداً إذا أكملنا المؤشّرات في التعليم والصحة والفساد وعدد الضحايا والمعاقين… إلخ.

تشمل هذه المؤشّرات الكارثية كامل مناطق سورية، على اختلاف أيديولوجيات السلطات المسيطرة فيها، وعلى اختلاف قوى النفوذ الدولية. ولملاحظة شمولية الحال المأساوي للشعب السوري في كل مكان من سورية، يفيد الاطلاع على الدراسة التي صدرت في الشهر الأول من العام الحالي عن “مشروع التماسك والاستقرار المجتمعي” ومنتدى الاقتصاديين العرب، لمجموعة من الاستشاريين المستقلين والباحثين الميدانيين تحت إشراف سمير العيطة، بعنوان “الاقتصاد السياسي والتداعيات الاجتماعية في ثلاث مدن سورية، طرطوس وأعزاز والقامشلي”، بهدف سبر آليات معيشة السكان في خلال دراسة أحوال ثلاث مدن سورية متقاربة في الحجم والموقع (كلها حدودية) والظروف (بقيت بعيدة نسبياً عن الدمار)، وتخضع كل منها إلى سلطة مختلفة.

تبين الدراسة تشابه آليات “الاقتصاد السياسي” في المدن الثلاث التي تشكل كل منها منطقة نفوذ لدولة خارجية مختلفة، بدءاً من تداعي آليات الإنتاج فيها إلى سيطرة أمراء الحرب والتحوّل إلى “مهنة” القتال لتأمين المعيشة، إلى سيطرة السلع المستوردة الإيرانية والتركية… إلخ. الصادرات التركية إلى سورية لم تتراجع كثيراً عقب اندلاع الثورة السورية، واللافت أن ذروة الصادرات التركية إلى المناطق السورية خلال السنوات العشر المنصرمة كانت في 2014، في الفترة التي سيطر فيها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على جزءٍ كبير من الشمال السوري، فيما تراجعت كثيراً الصادرات السورية، وهذا مفهومٌ بسبب تراجع الإنتاج بما في ذلك الزراعي.

تبين الدراسة المذكورة تقطّع آليات التكامل الاقتصادي الإنتاجي بين المناطق، وأن لأمراء الحرب في المدن الثلاث نفوذ محلي فقط، لا يتجاوز المدينة ومحيطها، وأن الحاجات الاقتصادية الأساسية تفرض نوعاً من التواطؤ بين سلطات الأمر الواقع المسيطرة، لمصلحة احتكاراتٍ ذات صلة بالسطات، وأنه يجري استخدام الحاجات الأساسية من مياه وكهرباء ووقود .. إلخ، كسلاح ضغط بين هذه السلطات، والنتيجة دائماً هي مزيدٌ من البؤس للشرائح المفقرة من السوريين، ومزيد من تفكيك التواصل الاقتصادي السوري.

يمكن لطفلٍ أن يسأل: إذا كان هذا ما وصلنا إليه، على الرغم من اكتشاف النظام المؤامرة الكونية، والتصدّي لها والانتصار على المتآمرين، فماذا كان للمؤامرة أن تفعل ببلدنا أكثر؟ لم يكن ما وصلت إليه سورية اليوم من حال بائس وكارثي على الشعب، في كل مكان، خارج إطار التوقعات. على العكس، ارتفعت أصواتٌ كثيرة تحذّر مبكراً من أن المسار الذي تتخذه طغمة الأسد في معالجة خروج السوريين متظاهرين في الشوارع والساحات، سوف يقود بخط مستقيم إلى كارثة ٍعلى الشعب وعلى عموم البلاد.

لكن ظهرت أيضاً أصوات سورية كثيرة حينها، ليس فقط من داخل الآلة الإعلامية والأيديولوجية السياسية للنظام، دافعت، بصيغ صريحةٍ أو مواربة، عن الخيار القمعي، بناء على أن هناك استهداف للدولة السورية وليس للنظام، وأن هناك مؤامرة على البلاد، تقف وراءها قوى خارجية تستند إلى عملاء في الداخل. وتوفّر لدى بعض هذه الأصوات ما يكفي من “العقلانية” للقول: نعم مطالب المتظاهرين محقة وهناك عيوب كثيرة في النظام، وكثيرة جداً حتى، لكن لا ينبغي أن نسمح لمؤامرة أن تتستر بهذه العيوب. معالجة العيوب تبدأ بعد أن ندحر المؤامرة… من بين هذه الأصوات، أصوات لها تاريخ طويل في معارضة النظام، ودفعت، جرّاء ذلك، أثماناً باهظة، الأمر الذي عزّز هذا المنطق، فكان بمقدور هؤلاء أن يقولوا: حين كنا في السجون كان هؤلاء المتظاهرون يخرجون في مسيرات التأييد، وأن يضيفوا إن المعارضة شيء والاندراج في مؤامرة ضد البلاد شيء آخر.

مهما يكن الإطار السياسي (رهاب الإسلاميين مثلا) أو الإطار النفسي (رهاب التغيير مثلاً) لهذه الأصوات، فإنها ساهمت في تسهيل مهمة طغمة الأسد في تدمير الثورة (لم تعترف بها الأصوات المذكورة)، وتحويلها إلى صراع سلطاتٍ بدعم خارجي، وكان هذا مقدّمة للتدمير المستمر للبلاد.

منذ وقت مبكر بعد اندلاع الثورة السورية، انتهى الاصطفاف في العمق إلى تيارين سياسيين رئيسيين. يتلخص أحدهما في “المهم أن يرحل الأسد” والثاني في “المهم أن يبقى الأسد”. لكل تيار أولوية أساسية تمتصّ ما دونها من تباينات، وتحيل المعركة إلى صراع وجود خال من السياسة. استقر المنطق البسيط التالي: يؤجّل كل شيء إلى ما بعد إسقاط النظام، أو يؤجل كل شيء إلى ما بعد إسقاط المؤامرة. ومنه خرجت النتيجة الكارثية التالية: يجوز فعل كل شيء لإسقاط المؤامرة، ويجوز فعل كل شيء لإسقاط النظام… ومن البديهي، والحال هذه، ألا يكون هناك أي حوار ممكن، وأن الحوارات التي فرضتها الإرادة الدولية كانت مجرّد شكل.

يبقى أنه لا يمكن مساواة مسؤولية نظام يمتلك كل قوة الدولة، ويمتلك (افتراضاً) المسؤولية السياسية والأخلاقية عن المجتمع الذي يحكمه، مع مسؤولية معارضين، مهما كانوا جذريين ضد النظام. هذا فضلاً عن أن ما أظهره نظام الأسد، طوال تاريخه، من سياسة إنكارية واحتكارية و”تأبيدية”، يكمن في أساس “تطرّف” المعارضين. الحق، مع ذلك، أن الجانب المعارض لم يكن موحّداً، وكان ثمّة كثيرون يريدون حلاً وسطاً، ولكن النظام ظل واحداً موحداً طوال الخط في رفض الحلول، وفي رمي معارضيه بالخيانة الوطنية، والحال إنه لا يمكن لكلمةٍ غير هذه أن تصف سياسة نظام أوصلت سورية إلى هذه الحال.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى