سياسة

المسكوت عنه في التفاعلات الدولية الجارية/ حسن نافعة

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن تطوراتٍ جديدةٍ يشهدها النظام الدولي في المرحلة الراهنة، خصوصا ما يتصل منها بتفاقم الصراع بين الولايات المتحدة والصين، ما ينذر بحربٍ باردةٍ لن تقلّ ضراوة عن التي اندلعت في أعقاب الحرب العالمية الثانية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وامتدّت أكثر من أربعة عقود، ولم تنته إلا بتفكّك الاتحاد السوفييتي وانهياره في بداية تسعينات القرن الماضي. وقد لفتت انتباه المحللين مؤشراتٌ عدة، تدلّ على أن الولايات المتحدة بدأت في إعادة ترتيب أوراقها استعدادا للمواجهة المتوقعة مع الصين. من هذه المؤشرات: انسحاب الولايات المتحدة الكامل من أفغانستان، تخفيض حجم قواتها العسكرية الموجودة في منطقة الشرق الأوسط، زيادة أنشطتها وتحرّكاتها العسكرية في منطقة المحيطين، الهندي والهادئ، وفي بحر الصين نفسها، إبرام تحالفات أمنية جديدة مع القوى دولية قريبة جغرافيا من الصين، كأستراليا التي وقعت معها اتفاقية أمنية تضمّ المملكة المتحدة أيضا (اتفاقية أوكوس AUKUS)، وتوجه واضح نحو تدعيم العلاقة بكل من الهند واليابان.

في مقابل هذه التحرّكات الأميركية الموجهة ضد الصين، يبدو واضحا أن الأخيرة تأخذها على محمل الجد، وبدأت تعمل على إعادة ترتيب أوراقها وتحالفاتها الدولية، استعدادا لتلك المواجهة المحتملة، وذلك من خلال العمل، من ناحية، على بناء علاقة استراتيجة صلبة مع روسيا الاتحادية، وتمتين علاقتها، من ناحية أخرى، مع كل الدول المعنية والمرتبطة، بشكل أو بآخر، بمبادرة الحزام والطريق، خصوصا دول العالم الثالث.

إذا صحّت هذه التحليلات، فمعنى ذلك أن النظام الدولي بدأ يدفع دفعا نحو الدخول في عملية استقطابية من نوع جديد، طرفاها هذه المرّة: الولايات المتحدة وحلفاؤها، من ناحية، والصين وحلفاؤها من ناحية أخرى. ومن ثم يتوقع أن تجري التفاعلات الدولية خلال المرحلة المقبلة وفق قاعدة “من ليس معي فهو ضدي”. وفي هذه الحالة، قد تجد الدول الأخرى نفسها في وضعٍ لا تُحسد عليه: فإما الانضمام كرها إلى أحد المعسكرين الجديدين المتصارعين، بكل ما يترتب على ذلك من أعباء، نتيجة الصراع المحتوم مع المعسكر الآخر، أو النأي بالنفس بعيدا عن كليهما، بكل ما يترتب على ذلك من احتمالات العزلة، وربما مواجهة الضغوط القادمة من كلا الاتجاهين. ولأن الصراع بين المعسكرين الجديدين يقوم على أسس قومية واقتصادية، وليس عقائدية، سوف يكون من الصعب على الدول غير المنضمّة لأي منهما تشكيل كتلة ثالثة مماثلة لكتلة عدم الانحياز التي هدفت إلى التخفيف من حدّة الصراع بين المعسكرين، الرأسمالي والاشتراكي، وللحيلولة دون تحوّل الحرب الباردة بينهما ساخنة. وإذا صحّ هذا الاستنتاج، يتوقع أن يتسم النظام الدولي في المرحلة المقبلة إما بالاستقطاب الثنائي بين معسكرين كبيرين في حالة تماس أو احتكاك مباشر، في غياب كتلة عازلة، الأمر الذي سيؤدّي، حتما، إلى إدارة العلاقة بينهما، بالاستناد إلى موازين القوى وحدها، وبلا أي مرجعيات قانونية أو أخلاقية أو أيديولوجية، أو الدخول في حالة سيولة وفوضى شاملة، بسبب وجود عدد كبير من الدول الصغيرة والمتوسطة غير الراغبة في الانضمام إلى أي من المعسكرين المتصارعين، وغير القادرة، في الوقت نفسه، على تشكيل قوة ثالثة متجانسة، تعمل على تقليل فرص الاحتكاك بينهما. وفي الحالتين، يتوقع أن تكون المؤسسات الدولية العالمية، وفي مقدمتها منظومة الأمم المتحدة، الخاسر الأكبر من هذا الوضع، وتلك هي القضية المسكوت عنها في كل التفاعلات الجارية على المسرح الدولي في المرحلة الراهنة، ولا يتحدّث عنها أحد. وربما يكون من المفيد هنا ذكر حقائق أساسية متعلقة بطبيعة المؤسسات الدولية التي تأسست في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكثيرا ما يجري تغافلها أو نسيانها، بقصد أو بدونه:

الأولى: التحالف المنتصر في هذه الحرب، وضم الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي اللذين وقفا معا في خندق واحد ضد النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية، هو الذي صاغ القواعد الخاصة بنظام الأمن الجماعي الذي تضمّنه ميثاق الأمم المتحدة، وهي قواعد يفترض أنها ما تزال سارية المفعول، ولم يدخل عليها أي تعديل.

الثانية: انقسام هذا التحالف الذي تشكّل إبّان الحرب إلى معسكرين متصارعين بعدها أضعف نظام الأمن الجماعي وحال دون تطبيقه بالكامل، لكنه لم يؤد إلى انهيار الأمم المتحدة نفسها، ربما بسبب توازن الرعب النووي الذي تحقّق بين المعسكرين، الرأسمالي والاشتراكي، في مرحلة لاحقة.

الثالثة: البنية المؤسسية الحالية للأمم المتحدة، بما في ذلك ما يتعلق منها بنظام الأمن الجماعي. نمت وتطوّرت في ظل ظروف الحرب الباردة وملابساتها، ولم يطرأ عليها أي تغيير، على الرغم من انتهاء الحرب الباردة منذ أكثر من ثلاثين عاما.

الرابعة: لاحت فرص عديدة لتطوير هذه البنية في أكثر من مناسبة، خصوصا إبّان أزمة احتلال الكويت التي لعب فيها مجلس الأمن دورا مختلفا تماما عن الذي لعبه في كل الأزمات السابقة واللاحقة، لكن الولايات المتحدة تعمّدت إجهاض تلك المحاولات، ربما بسبب إصرارها على الانفراد بالهيمنة على النظام الدولي، وتحويل الأمم المتحدة إلى مجرّد أداة قابلة للاستخدام في تحقيق الأهداف والمصالح الأميركية وحدها.

الآن، وبعد تآكل الوزن النسبي للولايات المتحدة في النظام الدولي، واتضاح عجزها التام عن قيادة النظام الدولي في المرحلة الراهنة، خاصة بعد فشل غزوها لكل من أفغانستان والعراق، وهزيمتها العسكرية فيهما، بدأت تلوح في الأفق فرصة جديدة لإصلاح البنية المؤسسية للأمم المتحدة، الأمر الذي يتطلب إجراءاتٍ محدّدة، يمكن تلخيص أهمها على النحو التالي:

أولا: توسيع نطاق العضوية في مجلس الأمن، بما يتناسب مع التوسع الكبير في عضوية الأمم المتحدة، والتي زادت من 50 عند النشأة إلى 193 حاليا، بما في ذلك عضوية الدول الدائمة التي ينبغي أن تعدّل بما يتناسب مع التغير الذي طرأ على موازين القوى العالمية والإقليمية، وكذلك إلغاء حق الفيتو، أو على الأقل إعادة تحديد شروط استخدامه ومجالات هذا الاستخدام، بما يحول دون تمكين دولة واحدة، أو مجموعة صغيرة من الدول المتحالفة، من تعطيل إرادة المجتمع الدولي وشلّها.

ثانيا: إعادة صياغة القواعد والمبادئ الأساسية التي يقوم عليها الميثاق، لكي تصبح أكثر تحديدا وإحكاما، وبما يحول دون تمكين أي دولةٍ من التهرّب من التزاماتها أو انتهاك الميثاق. من أهم المبادئ والقواعد التي تحتاج إلى كثير من التحديد والتدقيق: مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، حق الدفاع الشرعي عن النفس .. إلخ.

ثالثا: زيادة السلطات والصلاحيات الممنوحة لمحكمة العدل الدولية على النحو الذي يمكّنها من الفصل في المنازعات الدولية ذات الأبعاد القانونية، كالمنازعات المتعلقة بالحدود والمياه وغيرها، أي اعتماد مبدأ الاختصاص الإلزامي. وبما يمكّنها أيضا من الفصل في مدى دستورية القرارات الصادرة عن كل أجهزة الأمم المتحدة وفروعها الرئيسية، بما في ذلك مجلس الأمن.

رابعا: إعادة تحديد سلطات المجلس الاقتصادي والاجتماعي وصلاحياته، لتمكينه من التمتع في مجالات اختصاصه، السلطات والصلاحيات نفسها التي يتمتع بها مجلس الأمن في الأمور المتعلقة بتسوية المنازعات السياسية بين الدول، وبما يؤدّي إلى تمكينه من الإشراف الفعلي والفعال على كل المنظمات والوكالات العالمية المتخصّصة.

خامسا: إعادة هيكلة الجهاز الإداري لمنظومة الأمم المتحدة بطريقة تسمح بإزالة مظاهر الترهل والبيروقراطية التي علقت به، وبما يسمح، في الوقت نفسه، بتصحيح العلاقة المؤسسية وتقويتها، وهي التي تربط بين الأمم المتحدة، وكل من المنظمات الإقليمية ومؤسسات المجتمع المدني العالمي (المنظمات الدولية غير الحكومية).

ومعروفٌ أن المجتمع الدولي اهتم كثيرا بقضة إصلاح منظومة الأمم المتحدة خلال الحقبة الأخيرة من القرن الماضي والحقبة الأولى من القرن الحالي، وتمكّن من بلورة أفكار عديدة لا تخرج كثيرا عن الأفكار الإصلاحية المشار إليها آنفا، غير أن هذا الاهتمام تراخى كثيرا في السنوات الأخيرة. وللأسباب التي سبقت الإشارة إليها أيضا. اليوم، ومع اندفاع الولايات المتحدة نحو إشعال حرب باردة جديدة في مواجهة الصين، تبدو الحاجة ماسّة، أكثر من أي وقت مضى، لإعادة إحياء الاهتمام بهذه القضية المسكوت عنها حاليا، خصوصا وأن الأمم المتحدة ستحتفل، بعد أيام بالعيد الماسي لدخول ميثاقها حيز التنفيذ يوم 24 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1946.

بقي أن يُشار هنا إلى أن الأمم المتحدة هي أول منظمة دولية تتمكّن من تحويل حلم العالمية إلى واقع ملموس، فلأول مرة في تاريخ البشرية يصبح لكل دولة من دون استثناء إطار مؤسّسي، تتفاعل من خلاله ومن داخله. ولكن متى تصبح هذه المنظمة اسما على مسمّى، أي منظمة لشعوب وأمم متحدة فعلا، وتتحوّل من ثم إلى إطار مؤسّسي في خدمة الإنسانية كلها، وليس إلى مجرّد أداة في خدمة القوى الطامحة إلى الهيمنة على النظام الدولي، كما هو واقع الحال اليوم؟ تلك هي القضية المسكوت عنها في التفاعلات الدولية البشرية، والتي آن الأوان لإدارة حوار حقيقي وجادّ حولها!

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى