سياسة

للدول حساباتها وللسوريين مسؤولياتهم/ عبد الباسط سيدا

كان الاعتقاد السائد، بعد سلسلة متسارعة من الخطوات التطبيعية مع حكم بشار الأسد التي أقدمت عليها دول عربية عدة، أن الطريق قد باتت مفتوحة أمام هذا الحكم للعودة إلى جامعة الدول العربية، وهو الأمر الذي سعى الروس، ولا يزالون، من أجله، على أمل تسويقه دولياً. ولكن يبدو أن هذا السيناريو قد اصطدم بعقباتٍ لها علاقة بالمفاوضات الخاصة بالملف النووي الإيراني، وأخرى برزت نتيجة تصاعد التوتر في التصريحات بين الروس والأميركان على خلفية الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية، والمناورات الأطلسية بثقل أميركي لافت في البحر الأسود.

وقد جاء الإعلان الفرنسي المتشدّد الخاص باحتمالية دعوة بشار الأسد إلى القمة العربية المقرّرة في الجزائر، ليؤكد عدم وجود توجه أوروبي، على الأقل راهناً، للسير في الخطط الروسية في هذا المجال، ما دام هناك تهديد روسي لأوروبا من خلال أوكرانيا. كما أن أزمة اللاجئين على الحدود البيلاروسية البولونية قد فُسّرت، هي الأخرى، من الجانب الأوروبي، بأنها محاولة للضغط على الأوروبيين، عبر استخدام ورقة اللاجئين، وأبعادها الإنسانية، وهي محاولة يقف وراها الروس، عبر حليفهم العضوي رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو. كما صدرت تصريحات من الجانب الأميركي عن عدم وجود نية أميركية بالانفتاح على حكم بشار، وعدم وجود ضوء أخضر أميركي يشجع على الانفتاح عليه؛ هذا على الرغم من الخطوات التخفيفية، إذا صحّ التعبير، التي قامت بها وزارة الخزانة الأميركية من جهة منح استثناءات للتعاملات التجارية ذات الصبغة الإنسانية في سورية، تشمل حتى بعض المقرّبين من الحكم المعني. كما أن اللهجة الحازمة الأميركية تجاه محاولات إيران التسويفية في سياق المفاوضات الخاصة بالملف النووي تشير إلى استبعاد توافق أميركي روسي، على الأقل في المدى المنظور حول الملف السوري. ويبدو أن هذا الموقف يلقى التفهم والتأييد من الأوروبيين أنفسهم الذين يدركون تماماً أن الروس ليسوا في وارد الإقرار بحق أوكرانيا في تحديد خياراتها بحريتها، فهم (الروس) يعتبرون أن الأخيرة ركيزة أساسية من ركائز مشروعهم “الأوراسي” الذي يحاولون من خلاله استعادة أمجاد دور القوة العظمى التي حازوها في المرحليتن، الإمبراطورية والسوفييتية، فالروس يعتبرون أوكرانيا وبولونيا ودول البلطيق وجورجيا، إلى جانب دول آسيا الوسطى ذات الغالبية غير الروسية، جزءا من فضائهم الحيوي الذي يعملون من أجل إعادة السيطرة عليه، والتمسّك به في مواجهة التمدّد الأطلسي. وفي المقابل، هناك تأكيد غربي، لا سيما أميركي، مفاده بأن أوكرانيا لن تُترك وحدها، بل ستحصل على الدعم المطلوب في مواجهة أي خطر روسي. ويبدو أن الجانب الأميركي، وفي سياق مساعي الضغط على الروس، قد تمكّن من تخفيف حدّة التشنج مع الصين بعد القمة الافتراضية التي كانت بين الرئيسين، الأميركي جو بايدن والصيني شي جين بينغ، والتي توافقا فيها على عدم تحويل المنافسة إلى مواجهة، وركّزا على التعاون ليكون بديل الصراع.

ما يُستنتج من هذ المستجدّات والتصريحات أن الملف السوري ما زال يمثل ورقة شدٍّ وجذب بين الأميركان والروس من جهة، وبين الأميركان والإيرانيين من جهة ثانية. كما أن الوضع السوري ما زال متداخلاً مع ما يجري في العراق ولبنان. هذا في حين أن الموضوع الأوكراني قد بات، هو الآخر، عاملا معرقلاً لإمكانية التفاهمات النهائية مع الروس في سورية.

لقد تكيّف المجتمع الدولي مع الوضع السوري الذي ما زالت مقاربته تجري بعقلية إدارة الأزمة، فما دام لا توجد معارك مفتوحة على الأرض السورية، وليست هناك قوافل جديدة من اللاجئين الباحثين عن ملاذ آمن، لينضموا إلى ما يزيد على عشرة ملايين سوري ممن تركوا بيوتهم وأرزاقهم، وتحوّلوا إلى نازحين أو لاجئين في الداخل السوري ودول الجوار، فإن هذا الوضع لم يعد يثير أهتمام المجتمع الدولي، المتمركز راهناً حول قضايا أخرى. ولذرّ الرماد في الأعين، وربما للتحرّر من عقدة الذنب، يتم التركيز على ضرورة إدخال المساعدات الإنسانية التي باتت، في جانب كبير منها، مرتعا للفاسدين من تجار الحروب والأزمات، وهي مساعداتٌ لا تغطي، في الأساس، سوء الجزء اليسير من الحاجات الفعلية للسوريين المحتاجين الذين تزيد نسبتهم وفق التقارير الأممية على 80% من السوريين. فالمساعدات، على أهميتها، فضلاً عن تقديرنا من يقدّمها بدوافع إنسانية، لم، ولن تضع حداً للمأساة السورية بأبعادها المعقدة المؤلمة؛ وهي المأساة التي يتحمّل حكم بشار الأسد ورعاته مسؤوليتها الأولى، كما يتحمّل المجتمع الدولي، هو الآخر، قسطاً كبيراً من المسؤولية نتيجة السياسة الضبابية غير الواضحة التي اعتمدها، منذ البداية، في مقاربته الموضوع السوري.

ولكن الذي يثقل كاهل السوريين المناهضين حكم بشار الأسد، المستبد الفاسد المفسد أكثر من غيره، فقدان الثقة بالتشكيلات الرسمية التي تتحدّث باسمهم، وعدم إمكانية التعويل عليها في تقديم بديل سوري مقنع للسوريين أولاً، بديلٍ كان من شأنه الإسهام في الخروج من الحلقة المفرغة التي تطحن السوريين في كل يوم. فما يحتاجه السوريون، قبل كل شيء، لتجاوز حالة الانتظار التي أثبتت عدم جدواها سنوات، قيادة وطنية متماسكة جامعة، قادرة على التواصل بالفعل، لا بالشعارات والتخريجات المناسباتية مع جميع السوريين، والتعبير عن معاناتهم وتطلعاتهم، وذلك باعتماد مشروع وطني عام يبدّد الهواجس، ويطمئن سائر المكونات والتوجهات، ومن خلال احترام الخصوصيات والحقوق، وعلى قاعدة وحدة الوطن والمشاركة العادلة في الإدارة والموارد.

ولكن العقدة الأساسية تتمثل في كيفية تقديم مثل هذه القيادة، فقد جرت محاولاتٌ عدّة لجمع السوريين، وطرحت مشاريع مختلفة، ولكن معظم تلك المحاولات قد باءت بالفشل بكل أسف، نتيجة تعارض وجهات النظر والمواقف بين المنظمين أنفسهم. أما بالنسبة إلى المنضويين تحت لواء الهيئات والمنصّات “الرسمية” فهم ما زالوا يبيعون الأوهام لأنفسهم وللناس، على الرغم من تيقنهم من عبثية ما يقدمون عليه.

هناك طاقات شبابية واعدة، وهناك خبرات وانجازات في مختلف الميادين، يحققها هؤلاء في الوطن والمهاجر؛ ولكن من دون وجود قيادة موحدة قادرة على استثمار تلك الإنجازات، والاستفادة من كل الخبرات في إطار عمل سياسي متكامل، يقدّم تصوّرا لحلٍّ يطمئن السوريين، جميع السوريين، أولاً، لن تكون هناك إمكانية للتأثير الفاعل في مواقف القوى الإقليمية والدولية التي بات الملف السوري بالنسبة إليها مجرّد ملف من الملفات التي تكون مادّة للتسويات والصفقات في ما بينها، تسويات وصفقات تراعي حساباتها ومصالحها، ولا تعطي اهتماما كثيرا، لحجم تضحيات السوريين وطبيعة تطلعاتهم، إن لم نقل إنها تتجاهلها.

جيل سوري كامل بات عرضة للتجهيل والاستغلال والآفات الاجتماعية التي لن تكون معالجاتها من الأمور السهلة. الموارد السورية تُستنزف بمختلف الأشكال. النظام ورعاته يتحدثون عن مشاريع إعادة البناء، وهم ما زالوا يقصفون ويدمرون. يتشدّقون بانتصارات وهمية، بينما هاجس غالبية السوريين يتمركز حول كيفية تأمين لقمة العيش. أما الأوضاع الصحية، خصوصا في ظل جائحة كورونا، فهي كارثية، لا مستشفيات ومراكز صحية كافية، عدم وجود الحد الأدنى من الكوادر الطبية، ونقص مرعب في الأدوية، والموجود منها بأسعار خيالية.

إنها محنة وطنية إنسانية ليس من السهل وصفها. محنة لن يتجاوزها السوريون في غياب التوافق على مشروع وطني سوري جامع، يطمئن سائر السوريين من دون أي استثناء. مشروع له حامله الاجتماعي وقيادته السياسية، قيادة لا بد أن تكون بخبرتها ونزاهتها ورؤيتها الوطنية الجامعة موضع ثقة واحترام السوريين بكل انتماءاتهم وتوجهاتهم.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى