نقد ومقالات

يوسف عبدلكي يفك شفرة رباعيات جاهين/ شريف الشافعي

لا تزال “رباعيات” الشاعر والرسّام صلاح جاهين (ديسمبر/ كانون الأول 1930-إبريل/نيسان 1986)، التي كتبها بالعامية المصرية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، تمثّل إلى يومنا هذا أيقونات مُلهِمة ومثيرات تحفيزية لخيالات الفنانين والأدباء والناشطين، من سائر أرجاء العالم العربي، الذين يجدون في محنتهم الذاتية ومآسيهم المجتمعية وجراحهم الوطنية ما يشتبك مع تلك الرباعيات بقوة، ويتقاطع معها في نقاط الوجع والنزيف والهمّ الإنساني العام.

هذا التناصّ العربي مع رباعيات جاهين، قد يأتي شعريًّا، أو موسيقيًّا، أو غنائيًّا، أو أوبراليًّا، أو مسرحيًّا، كما في أعمال سابقة معروفة. كذلك، قد يكون التفاعل الإبداعي مع الرباعيات بصريًّا، لفكّ شفرة الجرح الفردي والجماعي الذي لا ينغلق أبدًا، والغوص في طبقاته الظاهرة والكامنة، وتصويره من داخله، كما في معرض التشكيلي يوسف عبدلكي (71 عامًا) المنعقد في غاليري مشربية في القاهرة (إبريل/ نيسان 2022) تحت عنوان “رباعيات صلاح جاهين”، بعد غياب طويل للفنان السوري المخضرم عن الحركة التشكيلية المصرية، التي شهدت خطواته الأولى في بداياته منذ قرابة أربعين عامًا، ومن بعدها معارضه المتميزة في أتيليه القاهرة ومجمع الفنون بالزمالك.

في معرضه الجديد، يزهد عبدلكي في الألوان، مكتفيًا برهافة الفحم وخطوطه الداكنة والشاحبة في اللوحات المكثفة، التي تستوعب عصارة تجربته الطويلة الخصيبة؛ كمتمرس في الرسم والغرافيك والحفر الفني، وأيضًا كمتعمق في الحفر في التربة السورية المليئة بالحروب والتصدعات والانهيارات والصراعات والطائفية، والمشحونة بالأشباح والجثث والأعضاء المبتورة والألغام والبارود. ويفتح الفنان والمشاغب السياسي السوري، الذي تعرض أكثر من مرة للتوقيف والتضييق والاضطهاد بسبب رسومه ومواقفه المعارضة، لوحاته الأحدث على تجربة موازية في الفن والتمرد والحماسة والانتقاد الجريء، هي رباعيات صلاح جاهين، التي تعد الأبرز في مسيرته الشعرية، والأكثر انتشارًا بين جملة أعماله المطبوعة.

أحدى لوحات معرض يوسف عبدلكي

تلتقي الصور والحروف، الجماجم والقصائد، في معرض “عبدلكي – جاهين”، فتتفجر أنهار الدم، السورية المصرية، وتتجسد شواغل المواطن العربي الغارق في معاناته وأزماته اليومية الطاحنة، التي لا تقل ضراوة عن نيران المعارك الحربية. ينتقي الفنان بعناية خمسًا وثلاثين رباعية ليعيد اكتشافها واشتغالها بصريًّا تحت مظلة مقولة أحمد شوقي الخالدة “كلنا في الهمّ شرقُ”. وفي الوقت نفسه، فإنه يعتبر معرضه بمثابه تحية إلى صلاح جاهين، وإعادة توجيه لمجموعة من التحيات المهداة إلى شخصيات فنية ونضالية وإنسانية مؤثرة وبارزة ورائدة في التاريخ الفني والبشري.

ومن هذه التحيات التشكيلية – الشعرية في معرض “عبدلكي – جاهين”، واحدة إلى المثّال محمود مختار (1891-1934)، وثانية إلى الرسّام الياباني هوكوساي (1760-1845)، وثالثة إلى التشكيلي محمود سعيد (1897-1964)، ورابعة إلى الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب (1887-1968)، وخامسة إلى الموسيقار والمنشد المصري إمام عيسى “الشيخ إمام” (1918-1995).

تعكس انتقاءات عبدلكي للرباعيات، وكذلك للإهداءات، انحيازاته الجمالية والحياتية معًا، كمثقف عضوي يرى أن التثوير الإبداعي، والانفلات الاجتماعي والسياسي، هما وجهان متلازمان لعملة واحدة، ففي الفن معركة وفي الحياة معركة، والمعركتان كلتاهما من أجل التجاوز والتغيير وتحطيم الأنساق البالية وتحريك الأوضاع الراكدة، وللإبداع دائمًا أدوار متنوعة على أرض الواقع، لا تنتهي عند الإدهاش والإمتاع والقيم الخالصة والمجرّدة، لكنها تمتدّ إلى الزراعة في المناطق البور، واستشراف الحصاد المأمول، رغم الأجواء البائسة والمحبطة.

وفق هذه المفاهيم، يرسم عبدلكي الرباعية المهداة إلى النحّات محمود مختار، صاحب تمثال “نهضة مصر”، وباعث الروح المتوثبة والهوية المصرية في الفن المحلي، والمراهن دائمًا على المقوّمات الخاصة للشخصية كشرط للتحقق والتقدم، وتقول الرباعية “خوض معركتها زي جدك ما خاض/ صالب وقالب شفتك بامتعاض/ هي كده… ما تنولش منها الأمـل/ غير بعد صدّ وردّ ووجع مخاض”. وبالجسارة ذاتها، من أجل خوض معركة أخرى، في البحر هذه المرة، يصطحب عبدلكي برسومه كلمات جاهين الملتهبة، المحرّضة على الالتحام والمقاومة، والإهداء هنا إلى المعلّم الياباني هوكوساي “الموج تلول تهبط وتطلع تلول/ يا بحر خدني الشط صاحبك ملول/ ولا بلاش.. الشط حاعمل به إيه/ ده ريحته طحلب مهري وأمّ الخلول”.

وإلى تجليات الدادية وفنون ما بعد الحداثة، حيث يتجه عبدلكي إلى مارسيل دوشامب، برفقة رباعيات جاهين، لتكون التحية هنا إلى التجديد كضرورة للفن، مهما تكن غرائبيته “وسط الحطام اتفرجوا يا أنام/ تمثال ملك.. ومبولة م الرخام/ الاتنين نحتهم نفس أسطى الحجـر/ وكانوا ذات يوم كتلتين لسه خام”. وكذلك تأتي التحية الموجهة إلى التشكيلي المصري الطليعي محمود سعيد، بعنوان “أوقات أفوق”، إذ تصوّر استنفار الحواس، وتحرض على اليقظة والتعمق في الفهم.

أما اختيار الشيخ إمام، الذي اقترن بقصائد الشاعر أحمد فؤاد نجم، فيبرز بوضوح تلك النزعة الثورية في معرض عبدلكي، والرغبة في الانتصار للحرية والغناء، وتحدّي القيود والسكوت، وتقول الرباعية المهداة إلى الشيخ إمام “يا عندليب ما تخافش من غنوتك/ قول شكوتك واحكي على بلوتك/ الغنوة مش ح تموتك إنما/ كتم الغنا هو اللي ح يموتـك”.

ولا تمضي رسوم عبدلكي في المسار السهل؛ مكتفية بأن تكون خلفية أو ترجمة لرباعيات صلاح جاهين على مستوى رصد الصور ميكانيكيًّا وتتبعها والتعبير عنها بصريًّا بأسلوب فوتوغرافي، وإنما تأتي هذه الرسوم إبداعًا ذاتيًّا رائقًا، مغايرًا، نابعًا من خصوصية في الرؤية والتجربة والأرضية السورية المختلفة، مع إضاءة مناطق الالتقاء والتفاعل الفني والإنساني مع نصوص جاهين، من دون الاختباء خلفها.

ولا يلجأ عبدلكي إلى الحروف والكلمات اللغوية المصاحبة إلا في أضيق الحدود، في لوحات قليلة، مكتفيًا بالتكوينات التشكيلية ذات العناصر والمفردات الثرية، على تقشفها وبساطة خطوطها وظلالها وتدرجاتها اللونية بين الرمادي والأسود. ويخطف الفنان الحواس بتشكلات جاذبة، تحيل إلى دوّامات الصراع اللامنتهية، التي تتنازع الإنسان على مختلف الأصعدة: الجسدية والنفسية والمعنوية، وتمزقه بدنيًّا ومن داخله، وتحوّل أوصاله وأفكاره ومزاجه إلى شظايا.

يتخذ عبدلكي من الحالة الخاصة (الشأن السوري في خضم الحرب) منطلقًا لتوسعة فضاءات لوحاته، وفتحها على سائر أشكال الحروب التي يواجهها المواطن العربي والإنسان المقهور في كل مكان وزمان (الحالة العامة). وهذا التوجه هو سر التقائه؛ الضمني لا الحَرْفيّ، مع رباعيات جاهين المتحررة بدورها من ظرفها الضيّق المقيَّد.

وتتعاطى رسوم الفنان السوري بحساسية ورهافة مع هذه الحالات والمواقف المتعددة للضعف الإنساني والانكسار، في مواجهة الوحوش الضارية، وألسنة النيران والأدخنة، والأمواج العاتية، وقبضة القدر المستأسدة، والأسلاك الشائكة، والأشباح الكابوسية، وبوابات الزنازين المغلقة، وغيرها من القوى القاهرة. لكنْ يبقى دائمًا في المشهد ما يوحي ببقاء الطاقة الإنسانية، واستقرارها في الأعماق والضمير، وحضور الوهج الكوني الذي لا ينطفئ، واحتشاد جمرات الربيع الحية تحت الأوراق الخريفية المتطايرة.

المدن

————————————

أحدى لوحات معرض يوسف عبدلكي

يوسف عبدلكي يستوحي رباعيات صلاح جاهين تشكيليا/ ياسر سلطان

معرض في القاهرة يضم أعمالا للرسام السوري بجماليات الأبيض والاسود

رسم بالأبيض والأسود يمثل ثلاثة كائنات مخيفة وشرسة، لا يربطها بالطبيعة البشرية سوى سلاح وقيد حديدي في يد أحدهم. هذه الكائنات الثلاثة المرسومة تتأهب للانقضاض على رجل ضئيل الحجم، لا يملك سلاحاً سوى أقلام للرسم والكتابة ومكبر للصوت. أسفل الرسم نقرأ هذه الأبيات لشاعر العامية المصري الراحل صلاح جاهين: “أنا قلبي كان شُخشيخة أصبح جرس/ جلجلت به صحيوا الخدم والحرس/ أنا المهرج… قُمتو ليه خُفتو ليه/ لا في إيدي سيف ولا تحت مني فرس/… عجبي!!” وهي واحدة من الرباعيات الشهيرة التي كتب غالبيتها صلاح جاهين بين عامي 1959 و1962، وتحمل عدداً من الإسقاطات الاجتماعية والسياسية والإنسانية.

يلتقط الفنان السوري يوسف عبدلكي هذه الومضات الشعرية ويحوّلها ببراعة إلى نصوص بصرية موازية تحاكي انسياب الكلمات واختزال المعاني في رباعيات جاهين. يعرض عبدلكي هذه الرسوم في قاعة مشربية في القاهرة حتى 28 أبريل (نيسان)، مهدياً إياها إلى روح صلاح جاهين، الذي تمر ذكرى رحيله هذا الشهر. 35 عملاً متوسطة الحجم رسمها عبدلكي بين عامي 2015 و2019 من وحي هذه الرباعيات. في هذه الرسوم الغرافيكية، يستحضر عبدلكي كذلك أسماء بارزة لخمس شخصيات مؤثرة في عالم الفن والغناء، وهم: المثال المصري محمود مختار في رباعية “خوض معركتها” والمصور محمود سعيد في رباعية “أوقات أفوق” والرسام الياباني هوكوساي في رباعية “تلال الموج” والدادائي الفرنسي مارسيل دوشان في رباعية “وسط الحطام” والمغني المصري الشيخ إمام عيسى في رباعية “يا عندليب”، وهي أشبه بتحيّة يرسلها عبدلكي إلى هذه الشخصيات عبر إشارات بصرية مستلهمة من أعمالهم.

أحدى لوحات معرض يوسف عبدلكي

الأعمال التي يعرضها يوسف عبدلكي هنا تحمل جانباً دلالياً غنياً بالرموز، أبعد من كونها ترجمات بصرية لنصوص شعرية أو أدبية. يخلق الفنان لنفسه نسقاً موازياً ومستقلاً، فالعناصر المرسومة في لوحاته تتحوّل إلى رموز، وهي رموز تؤدي دورها ببراعة في سياق رؤيته الاحتجاجية إلى العالم من حوله. يرسم الفنان عناصره تلك وحيدة وغارقة في فضاء رمادي كي تؤدي دورها ببراعة في سياق رؤيته الاحتجاجية إلى العالم من حوله. فهو حين يرسم على سبيل المثال لوحة كبيرة، لا يرسم فيها سوى جمجمة وحيدة لحيوان، نجد المشهد مغلفاً بمشاعر الفناء والوحدة، وحين يرسم فردة حذاء في لوحة أخرى، يستدعي حالة سلطوية تتلذذ بقهر المخالفين وإذلالهم. بينما يؤكد في أعمال أخرى معاني الفقد أو الرحيل أو سلب الإرادة. وعلى الرغم من جماليات المشهد الذي صاغه عبدلكي ببراعة، إلا أن رائحة الفقد هذه التي غلفت العناصر المرسومة، تستدعي في كل مرة يُلقى النظر عليها كثيراً من المشاعر والأحاسيس المشابهة، من فراق ولوعة وأسى، وتشتبك مع عبثية الواقع على نحو ما.

ذا الفراغ الرمادي الذي يعكس رؤية تراجيدية للحياة، والمتكرر في أعمال الفنان، هو نفسه المحيط بصورة الشهيد الملقى على الأرض والتي رسمها عبدلكي بعد اندلاع الثورة السورية. جثة وحيدة ملقاة على الأرض، لا يعرف هويتها أحد، الملامح الحادة لا تنبئ بعقيدة أو انتماء بعينه، تلك العيون المحدقة ربما ظلت معلقة على ملامح القاتل، أو مشهد الجموع وهي ترسم مشهداً جديداً للوطن. هي جثة وحيدة تائهة في فراغ المكان، تحيط بها الرماديات ويحتضنها ضباب أبدي، بينما يستمر المشهد العبثي ويزداد اشتعالاً مع مرور الأيام. فلوحة الشهيد تشارك بدورها على نحو ما في أعمال عبدلكي الرمادية الأخرى، في تبنّيها منطق الاحتجاج.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى