من ذاكرة صفحات سورية

رحيل الشاعر العراقي مظفر النواب، وداعا أيها الشاعر العظيم -مقالات، مراثي، قصائد-

في الساعات الأولى من من صباح يوم الجمعة 20 مايو 2022، الشاعر العراقي مظفر النواب يغمض عينيه في مستشفى الجامعة بالشارقة بعد صراع مرير مع المرض، تاركاً وراءه إرثاً شعريّاً جمع بين قوة الكلمة وجرأة الموقف في حقبة عربية معاصرة تميزت بالتشرذم والاضطراب على كل الأصعدة.

ولد الراحل في بغداد عام 1934، وأظهر موهبة شعرية منذ سن مبكرة. أكمل دراسته الجامعية في جامعة بغداد وأصبح مدرسًا، لكنه طرد لأسباب سياسية عام 1955. التحق بالحزب الشيوعي العراقي وهو لا يزال في الكلية. ولمواقفه السياسية تعرض للاعتقال والتعذيب، وقد أصدرت محكمة عراقية حكماً بالإعدام بحقه بسبب إحدى قصائده، وخفف فيما بعد إلى السجن المؤبد. وفي سجنه الصحراوي (نقرة السلمان)  أمضى وراء القضبان مدة من الزمن ثم نُقل إلى سجن (الحلة) جنوب بغداد، قبل أن يفر منه ويعيش في منطقة الأهواز بين الفلاحين والبسطاء من الناس. وفي عام 1969 صدر بيان العفو عن المعارضين، فرجع إلى سلك التعليم، ثم غادر بغداد إلى بيروت ثم إلى دمشق، وتنقل بين العواصم العربية والأوروبية. وفي عام 2011 عاد إلى العراق، وفي إمارة الشارقة قضى آخر أيامه تحت وطأة المرض والشيخوخة.

اشتهر بقصائده الثورية القوية والنداءات اللاذعة ضد الطغاة العرب، وغالبا ما كان يلقب بـ«الشاعر الثوري». نصوصه حافل بالرموز الثورية العربية والعالمية. استخدمت كتاباته الأولى لهجة جنوب العراق، وتحول عنها إلى اللغة الفصيحة في أعماله اللاحقة.

———————————

حزنٌ مثل أسواق العراق/  رشيد وحتي

شاعرٌ مُكْثِرٌ، ولكن من دون ديوانٍ مطبوع؛ فيا لَلْمفارقةِ: كل المجلدات الضخمة التي تحمل اسم مظفر النواب، والمسوَّقة في المكتبات والمَعارض وعلى الأرض، ليست إلا تفريغا لإلقاء شفوي، في طبعات مقرصنَة، لم تنل أي واحدةٍ منها رضا الشاعر، اكتمالاً وضبطاً للنص على إلقائه.

هكذا تَكَرَّسَ اسم مظفر النواب شاعرا خَطِيباً مُفَوَّهاً وفي لغة خَطَابِيًّة، بإلقاء حماسي وحزين في الآن نفسه، حتَّى كادَ يكون منجزُه الغنائي بْلُوزاً عربيّاً، مقابلَ غناء الشجَن الزنجي الأفروأميركي.

يمكن اختزال كل شعرية مظفر النواب في تقديمه لإحدى أمسياته في نهاية سبعينيات القرن الماضي: «هذه القصائد لم تُكْتَبْ لمناسبة، كتبت لدهر من الحزن والتحدي، لا خوف أن يطول مادمنا ننبض. والأفضلون يحملون السلاح! اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية. بعضكم سيقول: بذيئة.. لا بأس، أعطوني موقفاً أكثر بذاءة مما نحن فيه».

تستند أُهْجِيَّاتُ النواب السياسية إلى معجم تطغى عليه ثِيمَتَا الشتيمة والجنس، وهو ما لا ينكره الشاعر، لكنه يضعه، عبر وعي سياسي و همٍّ شعري رهيفين، كمقابل موضوعي إزاءَ ما في الواقع والممارستين السياسية والاجتماعية من بذاءة تكاد تتفوق على ما في النصوص. بشكل من الأشكال، وفي مجازٍ بودليريٍّ، قصائد النواب «أزهار شر» في حديقة الواقع البذيئة.

كموقف ووعي سياسي، وإذا شئنا وضع خطوط توازي بين النواب وصِنْوِه سعدي يوسف، يصير بوسعنا القول إن الأول حافظ على نفس الموقف والخط البياني الثوري الحاد اللهجة منذ بداياته إلى أن اختفى، بعكس سعدي يوسف الذي عرفت مواقفه ارتدادات ومُمَالآتٍ ارتكزت إلى العصبيات العِرقية أحياناً (تجاه الكورد، وعجم العراق عموماً)، والمذهبية أحياناً (تجاه الشيعة خصوصاً، والفُرس عموماً، في مديح غريب ومستغرَب لآل سعود..).

بقيت للنواب نفس الخصومات والعداوات والانحيازات التي لم تغيرها عواذي الزمان ولا العَوَز المادي ولا الوهن الصحي (ضد مشايخ الخليج، والبترودولار، والمطبِّعين؛ مع حَمَلَة السلاح، كيفما كانوا من ثوار ظُفار حتى ثوار إيران الشاهنشاهية والمقاومتين اللبنانية والفلسطينية..)

إن شِيءَ للقارئ (المستمِع) العربي أن يختصر مظفر النواب في قصيدة واحدة، فإنها بالتأكيد الأشهر والأطول والأكثر احتداداً وبذاءةً: «القدس عروس عروبتكم»، التي تتأكد، يوماً بعد يوماً، راهنيتها وصوابية حمولتها الإيديولوجية إلى أن يزول الكيان الطَّارئ.

يبقى من اللازم الإضافة أن منجز مظفر النواب الشعري لم يتحقق في اللغة العربية الفصحى فحسب، بل أيضاً في الزجل الشعبي، الذي أَسَرَّ لي أكثر من شاعر عراقي أنه يتفوَّق فيه أكثر من الفصيح؛ ومن ذلك قول سعدي يوسف في أحد الحوارات معه: «أنا أحب شعره بالعامية العراقية. وهو بمنزلة ميشال طراد اللبناني». ورغم قلة انفتاح الصحافة الثقافية على هذا الجانب الشفوي (المحكي) من مُنْجَز النواب، ربما بسبب صعوبات في تلقي اللهجات العراقية عربياً، فإننا ارتأينا أن نضم إلى ملف هذه المنتخبات، قصيدةً من بين أزجاله، التي تم جمع أجملها في ديوان: «لَلرِّيلْ وْحَمَدْ».

مات مظفر النواب أكثر من موتةٍ في بلاغات صحافية كاذبة وشائعات غير مُحَقَّقة.. ومن الأكيد أن شعره سيحيا أكثر من حياةٍ، على أفواه محبِّيه وفي ما تختزنه الذاكرة الرقمية من إلقاءات ملتهِبة غضباً وشجناً، قَلَّ أن اجتمعا في نفس الذات الشعرية.

ملحوظة: تكاد تكون قصيدة ”البقاع، البقاع“ خلاصة شعرية لمسرحية «المحطة» الرحبانية.

رشيد وحتي

بطاقة

من مواليد عام 1934 في الكاظمية، ينتسب لأسرة ثرية، عرف عنها اهتمامها بالآداب والفن والمراسم الحسينية، أسرة هاجرت إلى العراق من الهند؛ إذ كانوا من أمراء الهند، رغم أنهم في الأساس عائلة عراقية أصيلة تنتسب إلى الإمام موسى الكاظم، هربت إلى الهند إبان ثورات العلويين، ومطاردتهم من قبل سلطات الخلافة العباسية. من هذه المنافي والتَّنكيلات القديمة، تَشَكَّلَ وعي مظفر السياسي المبكر، وخياراته الثورية المؤسَّسَة على واقع معاش أباً عن جد. ستعرض العائلة لأزمة مادية أفقرتها، ولكن أبقتها شامخة. دخل مظفر كلية آداب بغداد وتخرج منها. وبعد قيام ثورة 1958، عيّن مفتشاً فنياً في وزارة التربية في بغداد، انتسب للحزب الشيوعي العراقي، ولمّا اشتدَّ الصراع بين الشيوعيين والقوميين في 1963، تعرض للملاحقة والمراقبة، فهرب إلى البصرة، ومنها للأهواز في إيران، ومن هناك دخل الأراضي الإيرانية محاولاً الهروب إلى روسيا؛ ولكنه وقع في فخ المخابرات الإيرانية، فسلمته مخفوراً إلى الأمن السياسي العراقي، الذي قدمه إلى المحكمة العسكرية، التي أقضت عليه بحكم الإعدام، تدخل الأهل والمعارف، فخففوا عليه الحكم، وسجن في سجن نقرة السلمان الرهيب، في الصحراء القاحلة قرب السعودية، ونقل بعد ذلك إلى سجن الحلة المركزي، واستطاع مع السجناء السياسيين أن يحفروا نفقاً من زنزاناتهم يؤدي إلى خارج السجن، ولما نجحت الخطة، وهرب من السجن توّجه للأحواز العراقية في الجنوب العراقي، ومكث سنة حتى أعفي عنه في 1969، وباشر العمل في وزارة التربية كمدرس للغة العربية، ولكنه ترك التدريس وغادر العراق إلى دمشق، ومنها لعدة عواصم عربية وغربية، ثم رجع واستقر في دمشق حتى عاد للعراق سنة 2011، فلم يطب له المقال في عراقٍ مُحْتَلِّ، فغادر إلى بيروت، بيروت الفضاء العربي الفسيح الوحيد الذي يمكنه أن يقبل به وبخياراته الثورية المستندة إلى الكفاح المسلَّح بالسياسة وذم الطغاة بالشعر، قبل أن يرحل في أحد مستشفيات الشارقة أمس، على أن يوارى ثرى بلاد الرافدين.

رشيد وحتي

مظفر النواب

1. ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة (مقطع)

مَرَّةً أُخرى على شُبَّاكِنا تَبكي/ ولا شَيءَ سَوى الريح/ وحَبَّاتٍ مِنَ الثَلجِ على القَلبِ/ وحُزنٍ مِثلَ أسواقِ العِراقْ/ مِرَّةً أُخرى يَنامُ القَلبُ/ بالقُربِ مِنَ النَهْرِ زُقاقْ/ مَرَّةً أُخرى أُوافيهِم على بُعْدٍ/ وما عُدنا رِفاقْ../ لم يَعُدْ يذكُرني مُنذُ اختلفنا/ أحدٌ غيرُ الطريق/ صارَ يَكفي/ فَرَحُ الأجراسِ يأتي مِن بَعيدٍ/ وصَهيلُ الفتياتِ الشُقر/ يَستنهضُ عَزمَ الزمنِ المُتْعَبِ/ والريحُ مِنَ الرُقعةِ تغتابُ شُموعي/ رُقعةٌ الشُبَّاكِ كَم تُشبهُ جُوعي/ وأثينا كُلُّها في الشارعِ الشتوي/ تُرخي شَعرَها للنَمَشِ الفِضِّيِ/ والأشرطةِ الزرقاءِ واللذَّةِ/ هل أخرجُ للشارعِ؟/ مَنْ يَعرِفُني؟/ مَنْ تَشتريني بِقليلٍ مِنْ زوايا عَينِها؟/ تَفهَم تَنويني وضَمِّي ودُموعي../ أي إِلهي: إِنَّ لي أمنيةً/ أَنْ يَسقُطَ القَمعُ بِداءِ القَلب/ والمَنفيون يعودونَ إلى أوطانِهم/ ثُمَّ رُجوعي../ كُلُّ شَيءٍ طَعمُهُ طَعمُ الفِراقْ/ حينما ترتفعُ القاماتُ لَحناً أُمَمِيًّا/ ثُمَّ لا يأتي العِراقْ/ كانَ قَلبي يَضْطَرب/ كنتُ أستفهمُ عَمَّن وَجَّهَ الدعوةَ/ عَمَّن وَضَعَ اللحنَ/ ومَن قادَ ومَن أَنشَدَ/ أَستفهِمُ حتَّى عَن مَذاقِ الحاضِرينْ/ يا إِلهي: إِنَّ لي أُمنيةً ثانيةً/ أن يًرجعَ اللحنُ عِراقياً وإِنْ كان حَزينْ/ لم يَعُدْ يَذكُرني في الحفلَ غيرُ الاحتراقْ/ كان حفلاً أمميا إِنَّما قد دُعِيَ النفطُ/ ولمْ يُدْعَ العَراقْ/ يا إِلهي: رغبةٌ أُخرى إِذا وافقتَ/ أن تغفِرَ لي بُعديَ أُمِّي/ والشُّجيراتِ التي لم أسقِها مُنذُ سِنينْ/ وانشغالي بينما تَبحَثُ عَنِّي/ وأنا أسلكُ في الدربِ/ وإنْ كنتُ بجيشِ الضائِعينْ/ وأثينا .. آآآآآه مِنْ هذي الأثينا/ لم تُزَرِّر أيَّ شَيءٍ/ عَرضَت فِتنَتَها

والناسُ ما زالوا على أرصفةِ الأمسِ/ سُكارى مَيِّتينْ/ إِيهِ يا بَحْرِّيَةَ الأثوابِ/ أثوابُكِ تُعطي ضِعفَ ما عُريَكِ يُعطي/ وأنا ضاعَفتُ عَينيَّ/ وبعضُ النَّظرِ المُشتاقِ لمسٌ/ ولقد يَهتفُ حتَّى الكُفرُ مَهزوماً أمامَ الحُسْنِ:/ سُبحانَكَ رَبَّ العالمينْ/ قانعٌ مِنْ كُلِّ دُنيايَ بَحُبٍّ مِثلما يُفْطِرُ مَنْ صامَ/ مَدى الدَّهرِ بتمراتِ كُنوزٍ مِنْ عِراقٍ وحَنينْ

2. مو حزن لكن حزين.. (شعر شعبي)

مو حزن لكن حزين

مثل ما تنقطع جوّا المطر

شدّة ياسمين

مو حزن لكن حزين

مثل صندوق العرس ينباع خردة عشق من تمضي السنين!

مو حزن لكن حزين

مثل بلبل قعد متاخر

لقى البستان كلها بلاي تين

مو حزن.. لا مو حزن

لكن احبك من كنت يا اسمر جنين!

خذني يا بحر

خذني خشبة

خذني والبحارة لو نسيوك كلهم.. ما نسيتك!

ما نسيتك

الخشبة عاشت عمر طيب

عشقت كل المخاطر

عاندت.. مشيت بوجه الريح

لكن.. ما كسرها!

وصارت تسافر وحدها

بلا اتجاه..!

وارجع أحط خدي على خدك

يا بحر

خشبة وبحر

خشبة.. خلاص حنينة وكلش حزينة

خشبة لكن حيل أهيب من سفينة!

ما بكيتك

فارقت إنت السفينة

وأنا جايبلك بحر..

جبتلك طوفان الحلم

حلم منذور بغياب الشمس

فارقت حلم الناس

ومليت السفينة والسفر!

ما بكيتك

أنا بكتني السفينة!

منين ما طش الرذاذ.. تريد تِبْحر..

تدري نوبات السفن لو ضاق خاطرها بجبن قبطانها

تسافر وحدها!

ما بكيتك

أنا بكتنني السفينة

تدري نوبات المحبة تملّ

وأحبك للقهر

3. إلى روح سليمان خاطر

ليس بين الرصاص مسافة

أنت مصر التي تتحدى

وهذا هو الوعي حد الخرافة

تفيض وأنت من النيل

تخبره إن تأخر موسمه

والجفاف أتم اصطفافه

وأعلن فيك حساب الجماهير

ماذا سيسقط من طبقات

تسمي احتلال البلاد ضيافه

وليس قتيل نظام يكشف عن عورته

فقط

بل قتيل الجميع

ولست أبرىء إلا الذي يحمل البندقية قلبا

ويطوي عليها شغافه

لقد قبضوا كلهم

وأحقهم من يدافع عن قبضة المال

مدعيا أنها الماركسية أم العرافة..

4. الخوازيق

لله ما تلد البنادق من قيامة

إن جاع سيدها وكف عن القمامة

إن هب لفح مساومات

كان قاحلاً

قاتلاً لا ماء فيه ولا علامة

وهو السلاح المكفهر دعامة

حتى إذا نفذ الرصاص هو الدعامَه

قاسى فلم يتدخلوا

حتى إذا شهر السلاح

تدخل المبغى ليمنعه اقتحامَه

لا يا قحاب السياسة

خلوه صائماً.. موحشاً

فوق السلاح

فإن جنته صيامَه

قالوا مراحل

قولوا قبضنا سعرها سلفاً

ونقتسم الغرامَه

لكن أرى غيباً بأعمدة الخيام

تعرت الأحقاد فيه جهنما

وتحجرت فيه الغلامه

حشد من الأثداء.. ميسرة تمِجُ دما

وحلق في اليمين لمجهض دمه أمامَه

حتى قلامة أظفر كسرت

ستجرح قلب ظالما

فما تنس القلامَه

وأرى خوازيقاً صنعن على مقاييس الملوك

وليس في ملك وخازوق ملامَه

لله ما تذر البنادق حاكمين

مؤخرات في الهواء

ورأسهم مثل النعامَه

ودم فدائي بخط النار يلتهم الجيوش

كما الصراط المستقيم

به اعتدال واستقامَه

لم ينعطف خل على خل

كما سبابة فوق الزناد

عشي معركة الكرامه

نسبي إليكم أيها المستفردون

وليس من مستفرد

في عصرنا

إلا الكرامه

5. وتريات ليلية

أ. الحركة الأولى

في تلك الساعة من شهوات الليل

وعصافير الشوك الذهبية

تستجلي أمجاد ملوك العرب القدماء

وشجيرات البر تفيح بدفء مراهقة بدوية

يكتظ حليب اللوز

ويقطر من نهديها في الليل

وأنا تحت النهدين، إناء

في تلك الساعة حيث تكون الأشياء

بكاءً مطلق،

كنت على الناقة مغموراً بنجوم الليل الأبدية

أستقبل روح الصحراء

يا هذا البدوي الضالع بالهجرات

تزوَّد قبل الربع الخالي

بقطرة ماء

كيف أندسَّ بهذا القفص المقفل في رائحة الليل!؟

كيف أندسَّ كزهرة لوزٍ

بكتاب أغانٍ صوفية!؟

كيف أندسَّ هناك،

على الغفلة مني

هذا العذب الوحشي الملتهب اللفتات

هروباً ومخاوف

يكتبُ فيَّ

يمسح عينيه بقلبي

في فلتة حزن ليلية

يا حامل مشكاة الغيب!

بظلمة عينيك!

ترنَّم من لغة الأحزان،

فروحي عربية

يا طير البرِّ

أخذت حمائم روحي في الليل،

إلى منبع هذا الكون،

وكان الخلق بفيض،

وكنتَ عليّ حزين

وغسلت فضاءك في روح أتعبها الطين

تعب الطين،

سيرحل هذا الطين قريباً،

تعب الطين

عاشر أصناف الشارع في الليل

فهم في الليل سلاطينْ

نام بكل امرأة

خبأ فيها من حر النخل بساتينْ

يا طير البرقِ! أريد امرأةً دفء

فأنا دفء

جسدٍ كفء فأنا كفء

تعرق مثل مفاتيح الجنة بين يديَّ وآثامي

وأرى فيك بقايا العمر وأوهامي

يا طير البرق القادم من جنات النخل بأحلامي!

يا حامل وحي الغسق الغامض في الشرق

على ظلمة أيامي

أحمل لبلادي

حين ينام الناس سلامي

للخط الكوفيّ يتم صلاة الصبح

بإفريز جوامعها

لشوارعها

للصبر

لعليٍّ يتوضأ بالسيف قبيل الفجر

أنبيك عليّاً

مازلنا نتوضأ بالذل

ونمسح بالخرقة حد السيف

ما زلنا نتحجج بالبرد وحر الصيف

ما زالت عورة عمرو العاص معاصرةً

وتقبح وجه التاريخ

ما زال كتاب الله يعلَّقُ بالرمح العربية

ما زال أبو سفيان بلحيته الصفراء،

يؤلب باسم اللات

العصبيات القبلية

ما زالت شورى التجار، ترى عثمان خليفتها

وتراك زعيم السوقية

لو جئت اليوم،

لحاربك الداعون إليك

وسموك شيوعية

أتشهّى كل القطط الوسخة في الغربة

لكل نساء الغربة أسماكٌ

تحمل رائحة الثلج

وأتعبني جسدي

يا أيَّ امرأة في الليل!

تداس كسلة تمر بالأقدام

تعالي!

فلكل امرأة جسدي

وتدٌ عربي للثورة، يا أنثى جسدي

كل الصديقين وكل زناة التاريخ العربي

هنا أرثٌ في جسدي

أضحك ممن يغريني بالسرج

وهل يسرج في الصبح حصان وحشيٌّ

ورث الجبهة من معركة اليرموك

وعيناه الحيرة

والأنهار تحارب في جسدي!؟

قد أعشق ألف امرأة في ذات اللحظة،

لكني أعشق وجه امرأة واحدة

في تلك اللحظة

امرأة تحمل خبزاً ودموعاً من بلدي.

ب. الحركة الثانية

وجيء بكرسيّ حُفرت هوة رعب فيه

ومزقت الأثواب عليّ

ابتسم الجلاد كأن عناكب قد هربت

أمسكني من كتفي وقال،

على هذا الكرسيّ خصينا بضع رفاق

فاعترف الآنَ

اعترف

اعترف

اعترف الآنَ

عرقتُ.. وأحسست بأوجاع في كل مكانٍ من جسدي

اعترف الآن

وأحسست بأوجاع في الحائط

أوجاع في الغابات وفي الأنهار، وفي الإنسان الأوّل

أنقذ مطلقك الكامن في الإنسان

توجهت إلى المطلق في ثقة

كان أبو ذرٍّ خلف زجاج الشبّاك المقفل

يزرع فيّ شجاعته فرفضت

رفضت

وكانت أمي واقفة قدام الشعب بصمت.. فرفضت

اعترف الآن

اعترف الآن

رفضت

وأطبقت فمي،

فالشعب أمانة

في عنق الثوري

رفضتُ

تقلص وجه الجلادين

وقالوا في صوت أجوف:

نتركك الليلة..

راجع نفسك

أدركت اللعبة

في اليوم التاسع كفّوا عن تعذيبي

نزعوا القيد فجاء اللحم مع القيد،

أرادوا أن أتعهد،

أن لا أتسلل ثانية للأهواز

صعد النخل بقلبي..

صعدت إحدى النخلات،

بعيداً أعلى من كل النخلات

تسند قلبي فوق السعف كعذقٍ

من يصل القلب الآن!؟

قدمي في السجن،

وقلبي بين عذوق النخل

وقلت بقلبي: إياك

فللشاعر ألف جواز في الشعر

وألف جواز أن يتسلل للأهواز

يا قلبي! عشق الأرض جواز

وأبو ذرّ وحسين الأهوازي،

وأمي والشيب من الدوران ورائي

من سجن الشاه إلى سجن الصحراء

إلى المنفى الربذي، جوازي

وهناك مسافة وعي،

بين دخول الطبل على العمق

السمفوني

وبين خروج الطبل الساذج في الجاز

ووقفت وكنت من الله قريباً

موت علمني الدنيا

ونبي علمني أن أقتحم اللج وأحمل في الماء قناديل

الرؤيا

ألهمني الدرب السري

فلما حدقت أضأت

رأيت وجوها في بئر النور

كأني أعرفها أكثر مما أعرف ذاتي

ومددت يدي

فاختلج البئر وغابوا

6. البقاع، البقاع (مقطع)

لم يعد في المحطة إلا الفوانيس خافتة

وخريف بعيد بعيد

وتترك حزنك بين المقاعد ترجوه أن يسرق

تعطي لوجهك صمتا كعود ثقاب ندي

بإحدى الحدائق

إن فرشت وردة عينها يشتعل

وتجوز خط الحديد

كأنك كل الذين أرادوا الصعود ولم يستطيعوا

أو انتظروا

أو كهاوٍ اكتظ دفتره بالدموع

دموعك صمت

ثيابك بدعة صمت مقلمة بالبنفسج

لم يبق زر بها

وحقيبة حزنك قد ضيعت قفلها

لم تُزَرِّرْ قميصك… بنطالك الرخو

لم يبق شيء يزرر

لا أنت

لا صوتها

لا المحطة

لا الأمس

آخر قاطرة سلمت نفسها لم تقاوم

على فكرة

صوتها طائر ينهل الصبح من لوزة

سلمت نفسها

آخر القاطرات انتهت..

سلمت نفسها لم تقم

أخذت رجائي وصغرته سنتين

وأجلسته فوق مصطبة سكرت من أريج النساء

لا تقلب متاعي الحزين أمام الأجانب

فالثياب القديمة مثل البكاء

وأخذت الهوية منه

ووجه الهوية مما مسحت الإساءات

لم يبق فيها انتماء

لم يعد في المحطة إلا الفوانيس خافتة

وخريف يسير بعكاز ورد

وتترك حزنك بين التذاكر

ترجوه أن يُذْكَرَ في منزل

في طريق بطيء التذاكر

قاطرة أصبحت مسكنا

وتقدم وجهك عود ثقاب

لكل الذين قد استُهْلِكوا

وعلى علبة الأمس

تقتات

تسحب نفسك

أمسك

في نفس هادئ

ونساء ببهو الثلاثين ضاعت تذاكرهن الرخيصة

تدفع تذكرتَيْكَ وتبتاع لمسة نهد مصغرة

وعلى فكرة

أنت من أشد الحزن والصمت تقطع تذكرتين لنفسك

تقطع حزن… حزن

تقطع كل القطار تبيع دموعا وحلوى

لأن القطار بلا امرأة أو صديق أنت دخلت ليالي الشتاء

ساكنا كالصخور الحزينة في قمة الليل

تبكي بكاء الصخور المنيعة

تجتازها الريح في آخر الليل

لم يبق من نجمتيك سوى ثؤلولتين وتبتسمان

تبتسمان كثيرا

ووجهك عرش من الشهوات تهدم

طال احترام النساء له

والسكارى حزانى

كأن حصانا من الشمع قبل الصهيل يذوب

كأنك طيب من الشمع لم تنطبق شفتاه ثلاثين عاما

وتهرب من قاعة الشمع

من خطب الشمع

والحاضرون يتيهون فوق الكراسي

تمنيت لو هذه الثلاثين عاما تنظف مغسلة

أو تبلط حجرة حزن

تمد الحديقة سكتها النرجسية صوبك

أنت مرايا تصير إذا لمستك الحديقة

أو غمزة تنام بزهرتها في المساء

كيف تستأجر الانتحار بدرب طويل

وتقطع تذكرة وتمزقها وتقدر ثانية

تستدين من الصحب جرعة خمر

وتذكرة ثقب مرتين

ورقعة ود

كأنك صندوق جمع الإعانات للحزن

تخدعهم في القطار

تفضل

وتحني أمام المفتش رأسك ليس احتراما له

بل لثقوب البطاقة

مثقوبة

مرة.. مرة سيدي

مرتين

ويتلبث وجه من الشمع يأخذ منك اشتياقك

يأخذ منك البطاقة

يأخذ منك الهوية

انزل..

نزلنا

ويلقى الهوية قد مسحت مرتين

صحبك المدمنون على نفسهم غادروا مرتين

أغلقوا الحجارة والصمت ولا مبالاة أبوابهم

والغبار بلون البنفسج يا سيدي

إنهم يكنسون السكارى

مناخ من الذكريات المطيرة

من عبروا الجسر لم يعبروا

والذين غنوا الأغنيات يَرِينُ السكوت عليهم

وهذي البطاقة قد عبرت أحدا مرتين

ريقها بارد.. بارد مثل جرار قبر الحسين

كنت في حاجتين لها

تفتح الباب في كبكاء الحرير

وتفتح أفواهها وحكاياتها وبطاقتها النرجسية

في دفئك العائلي الخطير

ثم ترفعها آخر الليل قارورة من عقيق

وتسكبها في ذكاء السرير

كنت في حاجة لكتابة شيء أخير

لم يعد أحد في المحطة

عادوا لأحزانهم أو هم اختطفوا مثلما يحصل الآن في كل يوم

أو استعملوا كالقناني الجميلة

أو بالقناني الجميلة

أو استهلكت نارهم

وغفوا بين رماد السنين

لم يعد سيدي..

ورجائي رجاء البنفسج أتلفت نفسك بالشرب

أي قطار بهذا المساء الحزين

انتظر انتظر

انتظر أيها الصاحي جدا

هنالك قاطرة للبكاء تقل المغنين والحالمين

ألغيت

خذ إذن جرعة

رغم أن الجمهور والخمور بهذي المحطة مغشوشة

ربما تفهم اللغز

سوف أروي المحطة فاصبروا

تعطي دخانا بلون المناديل والقبعات

تهز قناديلها أكثر مما لنا

كتب اللّه فوق الجبين

إن تأخرت أغلق برقية الحزن للصمت

قد أخرتني

وأغلق الياسمين

أغلقت بابها

ما طرقت احتراما لغفوتها ولعشقي

وما أخرت بالباب حزني طويلا

رأيت مفاتيح غرفتها

ومشابكها

ومشداتها

وانتظاري بأيدي سكارى الموانئ

بكيت البلاد التي تقتل العاشقين

أين كانت كلاب حراستها

أم تراها تهز الذيول لمن يعتليها

وترسل أنيابها بالشحارير

إن كان صوتي أقل الشحارير شأنا فلم يرتجف

والمخالب تقدح حولي

ولا غيرت وزناتي لغير الهوى والحنين

أغرب الأمر.. بعض الشحارير

لما رأتني لست أحط على الفضلات كأحوالها

نبحت كالكلاب

إلهي إني كفيل بتلك تكفل بهذي

فأنت خلقت لها جناحا لها لتغني

فصارت تهز

تعظ وأخشى أن تعضك أنت كما الآخرين

لم تعد بلدة لا تراني كلابا مدربة

ضد من يرفعون مزاميرهم للصباح

فأين البقاع؟

أحذره من دخول الكلاب بكل انتماءاتها

ليظل بلادَ البنادق والأغنيات

وكل الذين على دهرهم خارجين

سوف أوري المحطة

بيت لنا بالبقاع أمين.. أمين

يعشي البساتين..

يملأ مخزنها بالرصاص

وبين حراساته

أغنيات عن القاعدين بحضن المنى في

أيبقون في حضنها قاعدين

ولدتنا البنادق يوم الكرامة

والأمهات لهن حقوق على البالغين

أنت يا مدفعا

يا إلها يمد بقامته بين زيتونتين بقاعتين

وينشق خطين مما ارتفاعك في الجو

لون السماء وسرب الغمام وسرب الحمام

كأن حديدك يفقد وزن الحديد لسرعته خلف أسرابهم

ليت كل المدافع تقرأ ما أنت قارئه في الظلام

ارفع الكف بصيرة جرحت نفسها

لونت وجهها وردة

في الضباب المشاغب عشقا

وأترك خطوة حب

تغرد ما بيننا بالرضا والرؤى والسلام

باليدين الفدائيتين غدوت إله

قصيدة شهادة

سعدي يوسف: عُرسُ بناتِ آوى

أمُظَفّرُ النوّاب

ماذا سوف نفعلُ، يا رفيقَ العُمْرِ؟

عرسُ بناتِ آوى.. أنتَ تعرفُهُ قديماً :

نحن نجلسُ في المساءِ الرّطبِ تحتَ سقيفة القصبِ؛

الوسائدُ والحشايا من نَديفِ الصوفِ

والشايُ الذي ما ذقتُ طعماً، مثله، من بعدُ،

والناسُ..

الظلامُ يجيءُ، مثل كلامنا، متمهِّلاً

والنخلُ أزرقُ

والدخانُ من المواقدِ كالشميمِ،

كأنّ هذا الكونَ يبدأُ..

..

فجأةً، تتناثرُ الضحكاتُ، بين النخلِ والحَلْفاءِ :

عرسُ بناتِ آوى !

***

أمظفّر النوّاب

ليس اليوم كالأمسِ (الحقيقةُ مثل حُلمِ الطفل)

نحن اليومَ ندخلُ فندقاً للعرسِ

(عرسِ بناتِ آوى)

أنتَ تقرأُ في صحائفهم قوائمَهم

فتقرأ :

يمرّونَ بالدَّهنا خفافاً عِيابُهُم ويخرجْنَ من دارِينَ بُجْرَ الحقائبِ

على حينِ ألهى الناسَ جُلُّ أمورِهم فَنَدْلاً زُرَيقُ المالَ ندْلَ الثعالبِ

**

أمظفّرُ النوّاب

دعنا نتّفقْ..

أنا سوف أذهبُ نائباً عنكَ

(الشآمُ بعيدةٌ)

والفندقُ السرِّيُّ أبعَدُ..

سوف أبصقُ في وجوه بناتِ آوى

سوف أبصقُ في صحائفهم

وأبصقُ في قوائمهم

وأُعلِنُ أننا أهلُ العراقِ

ودوحةُ النَّسَبِ

وأُعلِنُ أننا الأعلَونَ تحتَ سقيفةِ القصبِ..

لندن، 11.12.202

———————–

مظفر النواب: أيقونة «الشعر العربي» ورفيق الثوار

في الساعات الأولى من صباح يوم الجمعة 20 مايو/أيار 2022، الشاعر العراقي مظفر النواب يغمض عينيه في مستشفى الشارقة التعليمي في الإمارات العربية المتحدة عن عمر ناهز 88 عاما، بعد صراع مرير مع المرض، تاركاً وراءه إرثاً شعرياً جمع بين قوة الكلمة وجرأة الموقف في حقبة عربية معاصرة تميزت بالتشرذم والاضطراب على كل الأصعدة.

حياة منفى

ولد مظفر النواب عام 1934  لعائلة عراقية، في جانب الكرخ من العاصمة بغداد. أظهر موهبة شعرية منذ سن مبكرة، وأكمل دراسته الجامعية في جامعة بغداد وأصبح مدرسا، وانخرط في العمل السياسي بعد انتمائه إلى الحزب الشيوعي العراقي.

وبسبب ميوله ومواقفه الثورية، ومعارضته الشديدة للحكومات العراقية المتعاقبة، كان في كل لحظة من حياته يتعرض للمضايقة والاعتقال والتعذيب، منذ عام 1955 حين فُصل من عمله في التدريس، بل إن محكمة عراقية أصدرت حكماً بالإعدام في حقه بسبب إحدى قصائده، وخُفف في ما بعد إلى السجن المؤبد. وفي سجنه الصحراوي (نقرة السلمان) أمضى وراء القضبان مدة من الزمن، ونُقل إلى سجن (الحلة) جنوب بغداد، لكن فرّ منه وعاش في منطقة الأهواز بين الفلاحين والبسطاء من الناس. غادر بلده العراق عام 1963، وتنقل بين عواصم عربية وأوروبية. وفي عام 2011 عاد إلى بلده «زائرا» بعد أربعين عاما من المنفى. وقضى آخر أيامه في إمارة الشارقة تحت وطأة المرض ، بل دخل في غيبوبة قاسية وهو الذي قال جملته القاسية ونُشرت على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»: «مُتعبٌ مني، ولا أقوى على حملي». وقد لازمه في هذه الفترة الأخيرة صديقه السوري حازم الشيخ، فكان سندا له حين خذله «أنصاف الرفاق».

شاعر ثوري

اشتهر بقصائده الثورية القوية والنداءات اللاذعة ضد الطغاة العرب، مثل قصيدته «القدس عروس عروبتكم» التي شتمهم فيها بسبب تخاذلهم عن نصرة فلسطين والدفاع عن القدس، وكان يلقب «الشاعر الثوري» نظير ما يحفل به شعره من رموز ثورية مستلهمة من نضال الشعوب العربية والإنسانية، ووصفت لغته بالشرسة، حيث تلجأ إلى استخدام الألفاظ النابية من حين لآخر. وتميز بأسلوبه المتفرد في إلقاء الشعر وأقرب ما يكون إلى الغناء أحياناً، خاصة عندما كان في مواجهة الجمهور. واستخدم في كتاباته الأولى لهجة جنوب العراق، قبل أن يتحول عنها إلى اللغة الفصيحة. وكان صاحب صوت مؤثر ليس في جمهوره الذي كان يحج إلى أمسياته الشعرية وحسب، بل في أجيال من الشعراء المجايلين واللاحقين داخل العراق وخارجه.

ومن أشهر قصائده العامية والفصيحة التي حققت جماهيريته الواسعة، ووضعته في مصاف شعراء الأرض الثوريين: «القدس عروس عروبتكم، وتريات ليلية، الرحلات القصية، المسلخ الدولي وباب الأبجدية، بحار البحارين، قراءة في دفتر المطر، الاتهام، بيان سياسي، بنفسج الضباب، رسالة حربية عاشقة، اللون الرمادي، في الحانة القديمة، جسر المباهج القديمة، قمم، جرس عطلة، ندامى، اللون الرمادي، الريل وحمد، أفضحهم، زرازير البراري، بكائية على صدر الوطن، قل هي البندقية أنت، وقصيدة من بيروت…».

ورغم شهرة هذه القصائد السياسية، إلا أن شعره العاطفي والغزلي، خاصة باللهجمة العامية العراقية لا يقل جمالا وتأثيرا، لكن إلى اليوم لم تُطبع أعماله الشعرية الكاملة.

شهادات ورثاء

حسن ناظم (وزير ثقافة وناقد عراقي):

رحيله يمثل خسارة كبيرة للأدب العراقي لما كان يمثله كنموذج للشاعر الملتزم، كما أن قصائده رفدت المشهد الشعري العراقي بنتاجٍ زاخر تميز بالفرادة والعذوبة».

محمد علي شمس الدين (شاعر لبناني):

خسارة صوت شعري جارح وجميل.

محسن الرملي (روائي عراقي):

مات بحسرة وطن وأمة.. ونحن بمثل حسرته سنموت

مات الذي كان يجلدهم بصوته.. ونحن من بعده لهم لشاتمون

وداعا أيها الكبير مظفر النواب.

لطفية الدليمي (روائية ومترجمة عراقية):

أقرأ قصائد مظفر النواب الشعبية التي تحولت إلى أيقونات وجدانية لدى جيلنا والجيل اللاحق، فأنتشي طربا لبلاغة التعبير وشعرية الصورة وغناها الحسي والوجداني، وأبعادها الرمزية المتواشجة مع ذاكراتنا الجمعية.

لك البقاء والخلود في قلوب محبيك، أيها الصانع الماهر للشعر الشعبي، وأنت الذي قلت من فرط الأسى: (متعب مني، ولا أقوى على حملي). والآن حلقت بك الروح حتى الأقاصي لتحملك برهافة ورقة قصيدة وتنجيك من أوجاعك الأرضية وانخذال الجسد.

المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي:

بأسى عميق تلقينا النبأ الفاجع برحيل الشاعر الكبير والمكافح الجليل مظفر النواب في غربته القسرية. كان «أبو عادل» رمزا في الشعر وفي النضال، جسد، في قصائده وفي مواقفه، الروح العراقية الثائرة وأفقها الإنساني. وتحول مثال حياته إلى أسطورة تلهم الشعراء والمناضلين.

وكانت قصائد نزيل السجون، وشريد المنافي، وغريب الديار، تجول في مدن وشوارع البلاد، وتتألق على ألسنة الملايين من المنشدين، وهي تصور مسيرة الكفاح الثوري لشعبنا، وتمجد الشهداء، وتحتج على الظلم، وتتحدى الاستبداد، وتهز عروش الطغاة، وتغني للعاشقين، وتضيء المشاعر الإنسانية السامية. أضحت هذه القصائد سلاحا بيد الثائرين، وهي تجمع بين صور الحب والكفاح السياسي، لتتحول إلى مشعل يضيء الدروب للساعين إلى أفق الحرية والجمال والعدالة.

عادل عبد المهدي (سياسي عراقي):

عرفت النواب منذ مطلع السبعينيات. وبعد عودتي من فرنسا إلى دمشق في 1973 نزلت عنده لفترة قصيرة في قبوه في حي التجارة. ثم عندما استقر بي المقام في دمشق وغادرها هو إلى بيروت، كان يقضي فترة في داري عندما يزور دمشق. وكنت أجد عندما أزوره في بيروت مبيتاً في سكنه. ولطالما حفظ دفاتره وأشرطته وحقائبه عندي بسبب كثرة تنقله وعدم استقراره. وكنا في معظم سبعينيات القرن الماضي في تيار سياسي مشترك. فنلتقي ونتواصل وننظم مواقفنا يومها بشكل شبه دائم. ثوري بمفاهيم عصره، ويقاربها من الثورة الحسينية المباركة. محارب للاستبداد والطائفية والصهيونية والاستعمار بشدة وعناد.

محمد الكاظم (قاص عراقي):

البقاء في حياتك يا عراق.. رحل الشاعر الكبير مظفر النواب الذي يقول: «وقنعتُ بأن يكون نصيبي في الدنيا كنصيب الطير، لكنْ سبحانك، حتى الطير لها أوطان وتعود إليها، وأنا ما زلت أَطير». ها أنت تحط أخيراً أيها الطائر الغريب. هذه هي نهاية الرحلة. وهذه هي آخر محطة في هذا المشوار المُر. وداعاً أبا عادل.

راسم المدهون (شاعر فلسطيني):

مشواره مع الشعر ظل مترافقا مع الثورة والغضب: مع ذلك لا يجوز لهذا أن يختصر حضوره الفني، إذ هو شاعر النسيج الدرامي للقصيدة، وشاعر الخطابة المسرحية التي تبرع في تشكيل المشهد ورسم صورة الحياة.. زمن طويل مرّ ولم نلتق، وكنت أتابع مرضه عن بعد في العراق وأحس باقتراب خسارته.

محمد الولي (بلاغي مغربي)

القصيدة العربية مصابة في قلبها بوفاة الشاعر العربي العظيم مظفر النواب. مات في هذا الليل الحالك الذي أصبحت فيه الوضاعة الأخلاقية صاحبة النفوذ المطلق، وحيث أغلب المثقفين يتزاحمون على المدود، وبانتشاء رخيص، لنيل أقساط من العلف الوسخ.

شكري المبخوت (أكاديمي روائي تونسي):

رحم الله صاحب «عروس السفائن»… ملأ شبابنا حماسا وكهولتنا شعرا خالصا.

إبراهيم عبد المجيد (روائي مصري)

يا للحزن. مظفر النواب الشاعر المناضل يرحل..

كمال أخلاقي (شاعر مغربي):

ماذا نملك من هذي الأوطان

سوى الحزن

وننتظر الموت وصمت أولي الأمر

وتوزيع الحسنات

إلى اللقاء أيها الشاعر.. مظفر النواب

عمر أبو الهيجاء (شاعر أردني)

وداعا شاعر الثورة المختلف:

«وماذا بعد؟ سرت في اتجاهك العمر كله.. وحين وصلتك انتهى العمر».

لطفي خلف (شاعر فلسطيني):

لا إرث خلفك

لا قصور ولا خدم

لا إثم يطفو عابرا سطح الندم

لكن شعرك ما انحنى

لزعامة أبدا ولم….

بوبكر العموري (شاعر تونسي):

وداعا شاعر المتعبين.. وداعا شاعر الثوار.. وداعا شاعر العروبة والوطن الحزين

وداعا رفيقي الذي تربينا عليه في الصمود والشجاعة والكبرياء

وداعا مظفر النواب… القصيدة والوطن.

——————————

مظفر النواب

مظفر النواب بين العذوبة والبيان السياسي/ صبحي حديدي

في مطلع سبعينيات القرن الماضي كانت جامعة دمشق مرجلاً يغلي بعشرات الأحزاب السياسية والاتجاهات الفكرية والتيارات الجمالية، ذات صبغة يسارية غالبة، التي سوف تتراجع تدريجياً بتأثير قبضة القمع التي كان حافظ الأسد قد أرخى معاييرها بعد انقلابه في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1970، وعاد سريعاً إلى تشديدها بمستويات فاشية غير مسبوقة. ولم يكن السوريون وحدهم صنّاع ذلك الغليان، بل شارك في تغذيته طلاب من ظفار والبحرين وتونس والمغرب والجزائر وفلسطين والأردن والعراق، وموئل الحراك هذا كان مدرّج كلية الهندسة، وعلى منبره تربّع مظفر النوّاب: شاعر يكتب، بالعامية العراقية، قصيدة حبّ بالغة العذوبة وقصيدة بيان كفاحي نارية الرسائل؛ والشاعر ذاته الذي يكتب، بالفصحى، قصيدة الخطاب والتحريض والدعوى.

كنا نتدافع، بالمعنى الحرفي للكلمة، لحضور أمسياته الشعرية، حيث يُشتم الزناة من الحكّام العرب الذين أدخلوا القدس إلى قيعان الاغتصاب، ثمّ تنافخوا شرفاً، أو حيث تتبرأ أمّ من ولدها وأخت من شقيقها لأنه رضي توقيع البراءة، فكيف حين يأخذنا «أبو عادل» إلى ريل يصيح بقهر صيحة عشق غير بعيد عن «دكّ كهوة» وشميم «ريحة هيل»… شخصياً يصعب أن تفارق ذاكرتي أمسية قرأ فيها النواب قصيدته «صرّة الفقراء ذات اللون الأزرق الموغل» التي ترثي الفدائي الفلسطيني أبو مشهور؛ وكيف كان الشاعر لا يُقاطَع بالتصفيق والتهليل فقط، بل بالسجالات بين مستمعيه حول ما أتت به قصيدته من هجاء مرير لخيارات المقاومة الفلسطينية يومذاك. كان النواب يقول: «أدين بموتك أزياء التهريج وقاعات المؤتمرات وعرض النظريات الأزياء/ أدين بموتك عهر الشارع يقرأ فاتحة حين تمرّ جنازات الشهداء»؛ فتتدخل القاعة بين موافق متحمس ومعترض متحفظ، ولا يتوانى النواب عن صبّ الزيت على النار، فيتابع: «مَن كان مع الدولة فليرفع ياقته/ مَن كان مع الثورة فليرفع كفّيه، أكفّ الثورة أعلام…».

ولعلّ ذلك الجانب في شخصية النوّاب، وأقصد الشاعر وليس صاحب الخيارات السياسية، كان الأشدّ إشكالية من وجهة نظري شخصياً، ومن زاوية خاصة محددة هي مقدار ما ألحق من أذى بقصيدة شاعر كبير رفيع الأدوات وعالي المراس وفائق الحساسية. وليس من دليل أفضل على هذه الخلاصة سوى اضطرار الشاعر، لأسباب سياسية أو ظرفية أو جمالية أو هذه كلها معاً، إلى مراجعة نصوصه واستبدال صياغاتها وتهذيب خشونتها؛ كما في تعديل «أدين بموتك عهر الشارع يقرأ فاتحة حين تمرّ جنازات الشهداء» لتصبح: «أدين بموتك عهر الشارع/ يقرأ فاتحة وتثاؤبتين على الشهداء» على ما في التعديل من تبخيس لديناميات الأصل.

وفي العموم لست أخفي انحيازي إلى النوّاب الشاعر الكبير بالعامية العراقية، أكثر من ذاك الشاعر الداعية بالفصحى؛ ليس لأنّ مقتضيات الخيار الأخير ساقت الراحل إلى تنازلات هنا وهناك، بين النظام السوري والنظام الليبي، أو بين هذا أو ذاك من أحزاب اليسار العربي، فحسب؛ بل كذلك، وجوهرياً، لأنّ شعرية النوّاب كانت أرقى تفتحاً وانفتاحاً على مكنون القصيدة المحكية، وأشدّ مرونة في الانعتاق من اشتراطات الوزن والقافية والنبرة الخطابية، وأسلس إيصالاً للموضوعات الكبرى التي صنعت بصمة الراحل وأدنت قصيدته من ذائقة عريضة: عراقية أوّلاً، كانت في أمسّ الحاجة إلى تخفّف رقيق من تراجيديا عتيقة ملازمة؛ وعربية، تالياً، لأنّ غنائية النوّاب الطافحة كانت تربط الذاكرة بشاعر عراقي كبير آخر هو بدر شاكر السياب، و»حَدْر السنابل كَطه» عنده في الأهوار كانت تفتح شناشيل ابنة الشلبي عند مواطنه في البصرة.

كاتب سوري

القدس العربي

————————

مظفر النواب… شاعر الصور المدهشة/ علي جعفر العلاق

هكذا يرحل المبدع الكبير مظفر النوّاب، ويذهب معه جزء حميم من شبابي الشعريّ والشخصيّ، ومن فتوّة الكثيرين من أبناء جيلي. شاعر خلق رمزيته النضالية الخاصة، وجمالياته الشعرية التي لا تضاهى، والتي شاعت، بين العراقيين، شيوع الأسطورة. ولم يكن النوّاب، لمن لا يعرفه جيّدا، مجرّد شاعر معروف يكتب القصيدة بالفصحى، فهذا ما يعرفه الكثيرون، بل كان مجددا ذا تأثير كاسحٍ في فضاء شعريّ آخر. كنا في بداياتنا الشعرية، حين استيقظت بغداد كلها، ذات يوم، على هذا المجدد الجريء الجميل، الذي صارت قصيدته العامية المدهشة «للريـل وحمـد» تتردد على شـفاه الكثيرين.

ما كان يفعله مظفر النواب هو ما فعله بدر شاكر السياب تماما، لكن على الضفة الأخرى من اللغة: في فضاء القصيدة العامية العراقية، بعد أن بلغت شيخوختها الحتمية أو كادت، ووجدت نفسها في عنق زجاجة خانقة. فلم يعد في مقدور شعرائها أن يطلوا على أفق أرحب من تلك المطحنة الحافلة بالتكرار وضجيج القوافي التي أرساها شعراؤها التقليديون الكبار. كانت تدور على ذاتها دون طائل جمالي أو دلالي كبير تقريبا. فلم يكن لها، مثلا، شيء من ترف الأغنية اللبنانية أو شغفها الطفوليّ بالطبيعة أو انفعالها اللذيذ بالحياة، وليس لها من غنج الأغنية المصرية وخفتها، أو معانيها المبتكرة ما يمكنها التباهي به.

لقد ظهر مظفر النواب، في تلك البراري الشعرية المتفحمة، ظهور المبشر بالخلاص. فلم يكن منسوب المياه، قبله، كافيا لإنعاش المخيلة العامية. كانت المخيلة العامية موشكة على الهلاك: حيث الصور الجاهزة والإيقاع الرتيب والمبالغات العاطفية، واللغة المتخشبة، هي القدر المهيمن على معظم ما تنتجه. وللمرة الأولى يأتي أرض القصيدة العامية الوعرة شاعر مثقف، مقبلا من حاضنة جمالية عالية: القصيدة الفصحى، الوعي الفني والموقف الاجتماعي والترف اللغوي. ولا ننسى هنا ما يتمتع به النواب من كاريزما مؤثرة، إذ كانت شخصيته الجذابة وإلقاؤه الشبيه بنواح الذئاب الجريحة، من العوامل الكبرى التي أسهمت في شيوع قصيدته وعمقت أثرها في نفوس جمهوره الواسع.

لقد حرر مظفر النواب الكتابة بالعامية من اقترانها بعامة الناس، من محدودي الثقافة، أو معدوميها أحيانا، وارتفع بها إلى مستويات إبداعية رفيعة لم يسبقه إليها أحد إلا في القليل النادر. جدد بنيتها الإيقاعية وأخرجها من ذلك المجرى الرتيب الضيق، إلى تموج إيقاعي بالغ الثراء والنفاسة، وجدد لغتها الشعرية فأدخلها في صميم الوجع الإنساني والوطني دون مباشرة أو تسطيح أو مبالغات. وكان للنواب دور ريادي خطير في تحرير القصيدة العامية من ذكورية طاغية هيمنت عليها زمنا طويلا، حتى صار شاعر العامية لا يجد حرجا في مخاطبة أنثاه بضمير المذكر، ويأنف من مخاطبة المرأة بضميرها المخصوص، ويتعإلى على مشاعرها ورغباتها الإنسانية المكبوتة، جاء مظفر النواب ليكتب قصائده بلغة الأنثى المتيمة، والمهجورة، والعاتبة، والمنتمية إلى أحلام الناس.

كاتب عراقي

—————————-

مظفر النواب: الوجع الممتد/ نبيل ياسين

مظفر النواب وجع عراقي عميق. ميزة هذا الوجع العراقي إنه امتد في الوجع العربي العميق. تردد صداه في عدة أجيال. التقينا في أماكن متعدد آخرها في لندن قبل سنوات. ليس مرهفا في مشيته فحسب، وإنما في صوته أيضا وفي صمته المعتاد. ليس مهما أن يكون شعره الشعبي الذي أسس مدرسة جديدة منذ الستينيات قد طغى على فصحاه ووترياته، فهو يقدم وجعا في كلا الحالتين، وما الشاعر إلا وجع يتكلم.

سياسيا كان هجاؤه لسان حال ملايين العرب ومنهم من (يقدس) شتائمه لأنها التعبير الأخير عن المأساة، التي لا يمكن التعبير عنها إلا بألفاظ جارحة وغير مألوفة في المتن الخطابي العربي الحديث، قصته بسيطة وشائعة ومتكررة: سلطة غاشمة ومواطن مشرد، ضحية وجلاد، شرطي وشاعر، كلمة وقضبان السجن وطن مصادر ومنفى بديل. ذلك هو مظفرالنواب وذلك هو ما ينتظره مواطن يجد نفسه في كلمات الشاعر ونواحه ووجعه. هكذا وجد مظفر نفسه كلمة ترددها ألسن المواطنين من العرب الذين وجدوا تعبيرهم الدفين في تعبيره.

كاتب عراقي

القدس العربي

———————–

صور من التشييع

مظفر النواب: صوت الكريستال المتساقط/ هاشم شفيق

قبل عشرة أيام عنّتْ في رأسي قصيدة « أبيتنه ونلعب بي» للشاعر الكبير مظفر النواب، فذهبت باحثاً عنها كأغنية، فلم أعثر على النسخة الأصلية المغنّاة، لكنني وجدتها بكلمات أخرى، تؤدّى من قبل مغنٍّ من هذه الأيام، تلاعب بكلمات مظفر النواب، وأبقى على اللحن المميز، وهو لملحن عراقي .

حرت في أمري، فوسّعت من دائرة البحث، حتى عثرت على الكنز، لكنه بصيغة أهم وأكبر، أنه مظفر يغني الأغنية، القصيدة، بصوته المبحوح، والمجروح والمتكسّر مثل شظايا الكريستال المتساقط مع نثير لشلال.

كان مظفر قد أدّى هذه الأغنية في تسجيل خاص عام 1970، بصوت متفرّد، ثمة حزن عميق تخلل مسار الأغنية، واعتراها جرح شاعري مرهف، في الحال مسّتني كلماتها كما البرق، وجعلتني أجهش بالبكاء :» أبيتنه ونلعب بي شله غرض بينه الناس، لا بينه الغمازة ولا بينه اللمازة، ولا بينه لتحب المكتب مَيْلن غاد عن دربنا». وهناك مقطع آخر يقول فيه بحرقة ورنّة مثالية لا مثيل لها « صيحولي شيَرْدون أهل المِجَرْ». هنا الأغنية التي أداها مظفر على طريقة رقص أهل الجنوب العراقي، دوّتْ في داخلي وخضّته، وصعقني صوت مظفر، إذ كل ذلك تم أداؤه مع الهزة الجسدية، ذات الدلالة المعنوية، وبحرقة بائنة ودامعة، وذات تأثير فعال لمن يسمعها بصوت مظفر النواب. طبعاً كلمات الأغنية سيكون من الصعب فهمها كلها، بالنسبة للمستمع العربي، فمظفر بكلماته المحكية يراكم كمية هائلة من الدلالات، والمعاني والصور الجميلة

الآسرة، لكن برؤيته الفنية والشعرية هو، وعلى طريقة كلام أهل الأهوار. فصاحب ديوان « للريل وحمد» ديوانه الفذ الذي يعتبر فتحاً في شعر المحكية العراقية، قد أثّر في جيل طويل ومتعدّد، من شعراء المحكية العراقية، أو «الشعر الشعبي» كما يسمّى في العراق، وامتد تأثيره حتى على شعراء الفصحى العراقيين والعرب.

الشاعر مظفر النواب الذي غاب عنا نجمه هذا اليوم، كان الشاعر العربي الوحيد الذي تغلق الطرقات وتسدّ حين يقرأ الشعر في مكان ما، وتشهد على ذلك أمسياته الجماهيرية، في كل من بيروت ودمشق، وعواصم العالم العربي والأوروبي التي، استقبلت صوته المترنّم، والمُدين للخضوع والابتزاز والممالأة بكل أشكالها، وحيثما كانت، لمن يدقّون اليوم طبول التطبيع. لقد صرخ مظفر بكلمة «لا» ملء فمه، وبمهابة فائقة وفريدة قل نظيرها.

لقد خسر الشعر العراقي والعربي، بغياب الشاعر مظفر النواب اليوم، صوتاً شعرياً خاصاً وملهماً ولاذعاً، لم يألفه الشعر العربي من قبل. فهو شاعر ورسام ومغن، وقد تعرّض للاضطهاد من قبل السلطات السابقة، فحوكم وسُجن في « نقرة السلمان «، مع كوكبة لامعة ونادرة من المثقفين العراقيين، إبّان فترة الستينيات السياسية العراقية اللاهبة، من القرن المنصرم. وقد تعرّض كذلك للتعذيب والتهكّم والابتزاز، ثم للهروب والغياب عن بلاده لفترات طويلة، قضّاها متشرداً، ما بين بيروت وليبيا ودمشق وأخيراً الخليج العربي.

كانت قصائد الراحل الكبير مظفر النواب غذاء للمناضلين والوطنيين وسجناء الرأي السياسيين، وقوتاً لأجيال من العراقيين والمنفيين والمهاجرين العرب، قصائد يحفظها القلب قبل العين، وتردّدها الدموع والأغنيات والهلاهل، كونها قصائد مغنّاة، عذبة ونادرة، وتحمل قيمة فنية عالية. ومن هنا تلقفها الناس، وأدتها أصوات كثيرة، أبرزها صوت المطرب الياس خضر الذي غنّى تحفته «مرينه بيكم حمد واحنه بغطار الليل واسمعنه دك كهوه وشمينا ريحة هيل، يا ريل صيحْ بقهرْ صيحة عشكْ يا ريلْ ».

كاتب عراقي

—————–

شاعر البذاءة المقدسة «قرّع» الأنظمة العربية وعاش طريداً بين المنافي/ خليل صويلح

كأنّ قدر الشعراء العراقيين أن يموتوا غرباء. مات بدر شاكر السيّاب في الكويت، ورحل أحمد الصافي النجفي برصاصة قنّاص في بيروت، وانطفأ الجواهري، ثم البياتي في دمشق، ورحلت نازك الملائكة في القاهرة، ومات سركون بولص في ألمانيا، وها هو مظفّر النواب يغيب أمس في أحد مستشفيات الإمارات. لكنّ صاحب «للريل وحمد» و«القدس عروس عروبتكم» خالد خلود الدهر. فقد كان الشاعر الغاضب الذي حرّكت قصائده التعبوية الهادرة، الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج. كما كان الشاعر الملتصق بهموم ووجدان شعوب المنطقة، الساخط على سماسرة القضية، قضية فلسطين. وهو أيضاً الرائد في تجديد القصيدة العامية العراقية، بشعر مجبول بالحزن وبحضارة بلاد الرافدين

هذه المرّة كان الخبر المفجع مؤكداً. مات مظفّر النواب. انطوى زمن الهُتاف الثوري، والحناجر النازفة ببلاغة الأمل، و«زرازير البراري». طاولته في مقهى «الهافانا» الدمشقي، تفتقده منذ سنوات طويلة، الطاولة التي كانت على موعدٍ يومي مع الشاعر، احتلها لاعبو نرد غرباء. ذلك أن مظفّر النوّاب (1934-2022)، غادر دمشق مرغماً، بعد طول إقامة وعشق وحنين، إلى بيروت، ثم عاد إلى بغداد مكرّماً (2011) بعد نحو أربعة عقود من المنافي، وربما كي يُدفن هناك، بعدما أنهكه المرض والترحال والوحدة. لم يطل به المقام في العراق الجديد، فهو ليس البلد الذي انتظره طويلاً، من منفى إلى آخر، إذ وجد حطام بلاد غير التي حلم بها في منافيه، شمّ رائحة عفن لا رائحة هيل كما في إحدى قصائده العامية المشهورة، لينتهي به المطاف أخيراً، في الإمارات العربية المتحدة، بعد غيبوبة طويلة.

كان عام 1963 ــــ إثر صعود الرفاق البعثيين إلى السلطة ــــ بداية رحلته مع الشقاء والمطاردة والاختفاء، بسبب تضييق الخناق على الشيوعيين، فاضطر للهرب إلى إيران عن طريق البصرة، ليكمل طريقه إلى موسكو معقل الشيوعية العالمية، إلا أن المخابرات الإيرانية «السافاك» قرّرت تسليمه إلى الأمن العراقي ليواجه حكماً بالإعدام، انتهى إلى السجن المؤبّد. في سجن «نقرة السلمان» الصحراوي، ذاق عذاباً رهيباً، قبل أن يُنقل إلى سجن «الحلة». وهناك تمكّن مع بعض رفاقه من حفر نفق في الزنزانة، والتسلّل إلى خارج أسوار السجن، في حادثة مشهورة. هكذا اختفى فترةً في بغداد، قبل أن يتجه إلى الأهوار في الجنوب. هناك اكتشف حياةً مختلفة، وانتبه بشغف إلى رنين لهجة تضجّ بموسيقى خفية، سوف تكون في متن قصيدته العامية واشتقاقاتها المتعدّدة، القصيدة التي يشبهها الشاعر بليونة الطين وتكويناته، فيما يرى أن الفصحى تشبه النحت بالحجر. ولكن هل غيابه الشخصي عن المنابر، سحب قصيدته من التداول؟ القصيدة التي كانت أشبه بحقل ألغام، وقنبلةٍ موقوتة، ووثيقة إدانة، القصيدة التي تحتشد بمعجم من المفردات النارية، وبلاغة الرفض، والسخط على أنظمة العار، والهجاء المرير لخريطة مزّقتها الشعارات والهزائم. لا شكّ في أن قارئ اليوم، الثمل بجرعات الميديا، وما بعد ثقافة الكاسيت، سيعيش حالة اغتراب قصوى نحو قصائد صاحب «وتريات ليلية»، ولن يجد نفسه في عبارة مثل «القدس عروس عروبتكم/ أولاد القحبة هل تسكتُ مغتصبة؟»، العبارة التي تناقلتها أجيال التمرّد مثل مانفيستو ثوري عبر أشرطة الكاسيت المهرّبة، كأنّ شاعر الفصحى كائن آخر لا يشبه شاعر العامية إلا بالاسم، ذلك الذي يذوب شجناً وحنيناً وشفافية بصوته المجروح. قارئ اليوم أيضاً لم تعد تهزّ وجدانه القصائد المدجّجة بالسلاح والهتاف و«وطني هل أنت بقية داحس والغبراء»، بعدما فقد خنادقه كلها، وبات مكشوفاً مثل دريئة في حقل رمي. لعل المشكلة الأساسية هنا تكمن في ارتباط هذا الشعر بحقبة ثورية من جهة، وتغيّر الذائقة الشعرية تحت ضربات الهزائم العربية المتتالية، وتمزّق الخريطة إلى خرائط، من جهةٍ ثانية. فمظفّر النوّاب شاعر القضايا الخاسرة بامتياز من بغداد إلى القدس وحتى ظفار «قمم، قمم، معزى على غنم/ جلالة الكبش، على سمو نعجةٍ، على حمار بالقدم/ مضرطة لها نغم» يقول. هكذا دلق الشاعر كل المفردات الشنيعة في المعجم، محرّضاً على ثورات لم تحصل، وحين أتت في «الربيع الأسود»، كان الشاعر قد أطفأ شعلته واستراح.

سننتصر إذاً، لمفردات «للريل وحمد»، وسنسافر في ذلك القطار الليلي المحزون، وتلك النبرة الشجية، أكثر من انتصارنا لـعبارات مثل «يا بن الشحنة السلبية، بطارية حزبك فارغة، ماذا أعمل؟»، و«ترى أنهار النفط تسيل/ لا تسأل عن سعر البرميل/ والدم أيضاً». لعل معضلة هذا الشعر تكمن في أسباب وزمن كتابته، ومحمولاته الإيديولوجية، ففي ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، لم تتكشّف رايات الهزيمة، كما هي اليوم، ذلك أن هذا الشاعر الشيوعي المتمرّد على المعاجم، كان يأمل مدينةً أخرى، تخفق في شوارعها الرايات الحمر، وليس سحل الرفاق، ودفنهم في المعتقلات الصحراوية، وإذا بصاحب «رسالة حربية عاشقة» الذي عاش فاتورةً كاملةً من المنافي والسجون، يهدينا الوهم، من دون أن يقصد ذلك، فالحلم الثوري الذي اختبره عن كثب من بغداد إلى ظفار، إلى إريتريا، ودمشق، انطوى على خيبة أمل كبرى، وكابوس طويل، لم تتمكن قصائد التحريض من تقويضه، بأكثر من زمن إنشاد القصيدة، أو سماعها.

لنقل إذاً، إن مظفّر النوّاب كان شاعر سماع في المقام الأول، لذلك بقيت قصيدته الفصحى بمنأى عن النقد، قصيدة مرتهنة للمناسبة والمنبر والمناخ، على رغم غنائيتها المشبعة بصوفية سياسية واضحة، لم تكترث بمنجز أصوات الحداثة في الشعر العراقي، فنحن لن نجد روحاً سيابية (نسبة إلى السيّاب) في قاموس هذا الشاعر، جرياً على تجارب مجايليه. لعله كان سيّاب العامية العراقية بامتياز، ففي الوقت الذي عبرت فيه «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب، ضفاف دجلة إلى خارج الحدود مثل أيقونة شعرية، كانت «للريل وحمد» تسافر على القارب نفسه، إلى كل أنحاء العالم العربي، مثل شهبٍ ناري، لتختزل المسافة بين لهجة الأهوار في الجنوب العراقي المقهور، والعاميات العربية الأخرى. وإذا بصوت شعري استثنائي يجترح منطقة لغوية بكراً. لغة مشبعة بالتراث الشعبي لبلاد الرافدين، وبنداءات المواكب الكربلائية، والهوسات البدوية، وشجن الأهوار، كما تنطوي على طاقات روحية متأجّجة، ومنجم غني بالإحالات الوجدانية، وهذا ما جعل سعدي يوسف يقول بأن «للريل وحمد» نموذج خارق ومدهش في تاريخ العامية العراقية. على الأرجح، فإن قصيدة النوّاب هي تاريخ الحزن محمولاً على ناي اللغة في أقصى تشظياتها وعنفوانها العاطفي، وقدرتها على التحليق عالياً. لنتذكّر قصيدته المشهورة «لبراءة» التي كتبها إثر زجّه في معتقل «نقرة السلمان» (1964)، أو«زرازير البراري» إحدى علامات شعر العشق العراقي. يقول: «جفنك جنح فراشة غض/ وحجارة جفني وما غمض/ يلتمشي بيّه ويه النبض/ روحي على روحك تنسحن/حن بويه حن».

لم يخن مظفر النوّاب قصيدته السياسية يوماً، ولكن قصيدته هي من خانته، حين أغلقت الأحزاب الثورية دكاكينها، واندحرت خنادق الثوار، وانطفأت مواقد حماسة اليسار، وأُجهضت المشاريع الراديكالية، فكان على الشاعر أن يصمت، ويكتفي بحركتين بدلاً من أربع، في «وتريات ليلية»، كما كان يخطّط، لكن الأنظمة المستبدة التي طالما هجاها بخشونة وبذاءة ورفض، قطعت حبل البئر، في منتصف المسافة إلى الماء، فجفّت كلماته في الحنجرة، إيذاناً بزمن خسر أحلامه وقضاياه وتطلعاته. الصمت عبادة، وفقاً لما يقول، نائياً بنفسه عمّا أصاب عراق ما بعد الاحتلال. البلاد التي لم يعد إليها، طائر المنافي الحزين، إلا متأخراً، تحت وطأة المرض والحنين والعوز، و«التكريم» الذي أتى بغير زمانه، ليدخل هذه المرّة نفق العزلة الاختيارية، وآلام الشيخوخة، وأعباء مرض «باركنسون». هكذا بقيت قصائد هذا الشاعر المفرد، في العراء، وفي أصوات المغنّين وشماً لا يُمحى، أو في طبعات مقرصنة، سواء في كتب أم في أشرطة مسجّلة، كما لو أنها تراث جَمعي تتوارثه الأجيال. كأن قدر الشعراء العراقيين أن يموتوا غرباء في المنافي، فمنذ صرخة بدر شاكر السيّاب «غريب على الخليج» الذي مات وحيداً في الكويت، رحل أحمد الصافي النجفي برصاصة قنّاص في بيروت، وانطفأ الجواهري، ثم البياتي في دمشق، ورحلت نازك الملائكة في القاهرة، ومات سركون بولص في ألمانيا، وغاب فوزي كريم في ضباب لندن، وها هو مظفّر النواب يغيب في الإمارات العربية المتحدة، فيما يوغل «قطار الليل» في براري الوحشة، وتهبّ رائحة هيل.

قلادة في عنقه

لطالما كانت فلسطين الجمرة التي أوقدت قصائد مظفر النواب نحو بوصلة الأرض المنهوبة، إذ استنفر معجماً خاصاً في رسم تضاريس البلاد المغتصبة، وإذا بحياته الشخصية تتقاطع مع نصوصه المتفجّرة بحمم اللغة وبلاغتها النافرة. وكأن هوية الشاعر لا تكتمل من دون أن يؤرخ وقائع التحولات السياسية والهزائم الرسمية، فيما كانت فلسطين القلادة التي تطوّق عنقه مثل تعويذة تحمي روحه من اليأس. هكذا كتب «القدس عروس عروبتكم» في هجاء مرير للسلطات المتخاذلة، وقصيدة «تل الزعتر»، و«من باع فلسطين»، و«عرس الانتفاضة»، مستدعياً قاموساً شتائمياً في فضح الحكّام المتخاذلين. إذ شكلت مفردات مثل خيانة، وخصيان، وأبناء الكلب، وعرب الصمت، جوهر نصوصه المضادة في هتك رداءة اللحظة، بحنجرة لا تقبل المساومة. هكذا أضحى الكاسيت بصوت مظفر النواب، في زمنٍ مضى، إنجيلاً للثوّار، وبياناً نارياً، ونشيداً لفلسطين. هذا شاعر اختلطت عليه الهويات: حزن العراقي المنفي، وأمل الفلسطيني بتحرير بلاده، وحداء العربي في صحراء التيه، كما لو أنه نوع من نيرودا أو لوركا آخر، ولكن بنبرة شجن عربية لن تتكرّر «ترى أنهار النفط تسيل/ لا تسأل عن سعر البرميل/ والدم أيضاً/ مثل الأنهار تراه يسيل».

—————————-

جثمان الشاعر العظيم مظفر النواب في مطار بغداد”

آخر القرامطة/ صلاح حسن

هل يحتاج مظفّر النواب إلى تقديم؟ حسناً لنترك ذلك لكم لأنّ مظفر المتعدّد لا يمكن حصره في موقع واحد، فهو شاعر وفنان ومناضل ومنفيّ منذ أكثر من أربعين عاماً، جاب العالم طولاً وعرضاً. هذا القرمطي الشيوعي الشيعي صاحب علي بن أبي طالب وأبي ذر الغفاري يرتبط بالناس بعلاقة خاصّة لا يمكن تفسيرها ببساطة. جمهوره لا يأتي أمسياته لكي يستمع فقط ولكنّه يأتي لكي ينفجر ويتألّم ويصرخ ويسبّ ويبكي. جمهور مظفّر لا يجلس بشكل طبيعي على الكراسي لأنّه قلق وتراه مرة يقف أو ينحني أو ينضغط لأنّه يعرف أن ما سيسمعه يسبّب ضغط الدم أو الذبحة الصدرية أو ضيقاً في التنفس. في المقابل، فإن مظفّر لا يبدأ أمسيته إلا بقارورة مليئة بالفودكا أو الجن يضعها أمامه على الطاولة لكي يخفّف من فرط توتره وهو يقرأ، لأنه عندما يقرأ لا يقرأ فحسب بل يتشظّى.

يمكن تشبيه شعر مظفر النواب بالطين… ليس لأنّه قريب من الطبيعة والناس فحسب، لكن على صعيد البناء والتقنية أيضاً. فالطين طبقات فيها الخشن وفيها الناعم، ويمكننا أن نقول إنّ الخطاب السياسي في شعريّة مظفّر ينتمي إلى طبقة الطين الخشنة، خصوصاً في نصوصه باللغة الفصحى. أمّا نصوص الحب المكتوبة بالعامية، فيمكن اعتبارها من طبقة الطين الناعم، ذلك النوع المسمّى «كلي لوم» يشبّه نعومتها خبراء التربة بنعومة حلمة نهد المرأة. في الطبقة الخشنة، يستخدم مظفر اللغة البذيئة والألفاظ الجارحة من دون أن يكون بذيئاً بالطبع، ولكن كي يكون الخطاب بمستوى الحدث. والأمثلة أكثر من أن تعدّ. لكن لا يفوتنا أنّ هذه التجربة الشعرية الصادقة تنمّ عن انسجام مع الذات والتزام أخلاقي فريد لا يمكن التعبير عنه إلا بطريقة مظفّر الخاصة. في الطبقة الناعمة – وهنا تكمن عبقرية مظفّر – يتحوّل الخطاب الشعري إلى ما يشبه السحر. لا ليس السحر ولكنّه شيء آخر تحت الجلد يشبه الرعشة أو الإغماء أو أحلام اليقظة لأنّه غير مسبوق ويحدث للمرّة الأولى. الصورة الشعرية عند مظفر باللغة العامية ينطبق عليها كل شيء ولا شيء. إذ إنّها سريالية ورمزية وواقعية وحلمية وحداثية وكلاسيكية.

من المؤسف أنّنا لا نستطيع أن نورد أمثلة لشعره في العامية هنا لخصوصية اللهجة العراقية التي لا يفهمها القارئ العربي، وهي خسارة حقيقية لأنّ شعر مظفر العامي مذهل ونادر في خصوصيته وحساسيّته وجدّته. تحضر في نصوص مظفر العامية أكثر من شخصية، فإضافة إلى شخصية الشاعر، هناك شخصية الموسيقي والرسام والمناضل. ومن هذه المكوّنات النادرة تنبجس قصائده التي تحفل بالرموز التاريخية والأسطورية عميقة وواضحة ومتجانسة، بالرغم من أن مظفر لم يعِش في بيئة الأهوار في الجنوب العراقي سوى أقل من سنة إلّا أنه امتصّ (كما الإسفنجة) لهجة أهل الهور وكدّسها في مخيّلته الخارقة، وهذه القضية مثار جدل لم ينتهِ حتى الآن، حيث مظفّر نفسه لا يجد جواباً حقيقياً لها.

يعتمد مظفر في كتابة قصيدته على الدراما. والدراما هنا «درامتان»، الأولى بالمعنى الشكسبيري الكارثي، والثانية بالمعنى الأرسطي التقني (بداية، صراع، نهاية). وأفضل مثال لتوضيح مفهوم الدراما في شعر مظفر بشقّيها هي قصيدة «وتريات ليلية»: «في تلك الساعة من شهوات الليل/ وعصافير الشوك الذهبية/ تستجلي أمجاد ملوك العرب القدماء/ وشجيرات البر تفوح بدفء مراهقة بدوية/ يكتظّ حليب اللوز/ ويقطر من نهديها في الليل/ وأنا تحت النهدين، إناء/ في تلك الساعة حيث تكون الأشياء/ بكاءً مطلق،/ كنت على الناقة مغموراً بنجوم الليل الأبدية».

القصيدة في «مقهى الهافانا»

كانت لمظفر النواب طاولة خاصة في «مقهى الهافانا»، عندما يكون منشغلاً بالقصيدة لا يقربه أحد ولا حتّى ليلقي عليه التحية. يُشير برأسه لأصدقائه ومحبّيه، فيجلسون بعيداً عنه حتى ينتهي من الكتابة. يستخدم أوراقاً صغيرة حجمها لا يزيد عن عشرة سنتمترات مع قلم بحبر أسود وأحياناً يستخدم قلم الرصاص ويكتب القصيدة بكلمات صغيرة للغاية بخط جميل جداً ولا يكثر من الشطب أو يبدّل الكلمات، فكأن القصيدة عنده وحي تأتي كاملة في أغلب الأحيان.

الهرب من «سجن الحلة»

سُجن مظفر النواب أكثر من مرة مع رفاقه الشيوعيين وفي سجن الحلة المركزي خطّط مع هؤلاء الرفاق للهرب من السجن عن طريق نفق سيقومون بحفره بالملاعق والسكاكين الصغيرة. كان طول النفق 25 متراً وعرضه وارتفاعه 75 سنتمتراً. ولم يكن مستقيماً بل متعرجاً في الزوايا لسلامة سطحه وجدرانه من الانهيار. وكان من المؤمّل والمتّفق عليه أن تحضّر هويات مزوّرة وملابس مدنية للذين سيهربون وأن تهيّأ سيارات لنقلهم، إضافة إلى احترازات أخرى مثل معالجة حارس المرأب وغيرها من التفاصيل التي قد تستجد.

بدأ السجناء بالخروج من النفق ومظفر واحد من هؤلاء السجناء الذين بلغ عددهم ثلاثة وأربعين. الطريف في الأمر هو حارس المرأب الذي كان يجلس على كرسي في الباب ويردّ التحية على كلّ من يخرج منهم ببدلاتهم الجديدة وهم ينفضون عنها التراب. شعر أن شيئاً غريباً يحدث، إذ لم تدخل المرأب أي سيارة ولا أي شخص. فمن أين جاء هؤلاء الأشخاص الذين يخرجون من الباب أو يتقافزون فوق السياج ثم يهرولون صوب البستان المقابل؟ لم يجرؤ الحارس على دخول المرأب والتحقق بنفسه، وتحت تأثير هذا الذهول والاستغراب والفضول لمعرفة السبب، ذهب إلى شرطي المرور في الكابينة المقابلة وسأله:

ـ «لم تدخل أي سيارة ولم أرَ أحداً دخل المرأب منذ الظهر وحتى الآن ولكن أرى أن أناساً كثيرين يخرجون منه فمن أين جاؤوا؟ الله وحده يعلم بذلك…

انتبه الشرطي ورأى بعينيه أشخاصاً يتراكضون ويتقافزون فوق سياج المدرسة القريبة أو يهرولون في الشارع فنادى على السجّان الموجود فوق سطح السجن أن يلاحظ ماذا يحدث؟ لكن السجّان أصيب بالذهول عندما رأى أناساً يخرجون من حفرة خلف جدار السجن.

* شاعر عراقي

————————–

مظفر النواب

أين مظفر؟/ إنعام كجه جي

لم نكن نعرف أين نشتري دواوينه، لكنّ قصائده كانت تصلنا منسوخة بخطّ اليد ومخبأة في جيوب زملائنا في كلية الآداب، مثل المنشورات السريّة. ففي تلك الظهيرات الساطعة لبغداد 1970، حين كانت الثنائيات العاشقة تتمشّى تحت الأشجار الرؤوم لحي الوزيرية، بين كلية التربية وأكاديمية الفنون، فإنّ البنات لم يكنّ ينتظرن سماع كلمات غزل تقليدية بل أبياتاً عامية لم يطرق الآذان مثلها من قبل. من الشاعر؟ مظفر النواب.

كنا نحفظ عن ظهر قلب أبياتاً للرصافي والجواهري والسياب، إلى أن جاءنا زميلنا رياض الوادي، في جيب قميصه الملاصق للقلب، بتلك القصيدة الملعونة المباركة الشتّامة المقذعة المارقة الغاضبة الجارحة المتمرّدة السافرة المحرّضة والمختلفة. مختلفة عن كلّ ما عرفنا من شعر، وخارجة عن كلّ اللياقات والنصوص. ومن يومها، انزرعت «القدس عروس عروبتكم» على الألسن وأخذت مكانها بين المحفوظات. كان سعيد العويناتي، زميلنا البحريني في قسم الصحافة، أكثر المأخوذين بالقصيدة. دفع حياته ثمناً لانتمائه لليسار. ثم صارت قصائد مظفر النواب تأتينا على الحنجرة الملتاعة الياس خضر، مغنّي «للريل وحمد» الذي يستحق أن يكتبوا في هويته، في خانة المهنة: مقطّع نياط القلوب.

ثم جاءت «جنح غنيدة» و«ألمح عمتي من بعيد/ وتضمني بعبايتها/ عمّة الشمس ماتت وأنت ما ردّيت/ عمة الشمس ماتت وآنا ما ردّيت/ رديلي الفرح/ ردّيت/ معضد باب يبجّيني وأحن حنّة حمامة بيت». كم كررناها بالغناء حيناً، وبالهمس الرهيب تارة، وبالدمع مرّات. صار مظفر النواب أُسطورة أول الشباب، نتلفّت نبحث عنه، فنسمع أنه في بيروت، في دمشق، في عدن، مع ثوار إريتريا، مع فدائيي فلسطين، هو في الخرطوم… المنافي تدور والسنوات تترى والشاعر الذي عبر ثلاثينه على «جنح عصفور» بلغ الثمانين ولم يعد «العمر طوفة طين»، كما كتب لغنيدة، حلوة الحلوات. وبغداد دخلها الأميركان وبابها كان مردوداً وقفله مستعصياً و«ما رهمن ولا مفتاح».

في بيته الريفي في النورماندي، أهداني الرسام أرداش كاكافيان نسخته المهترئة من ديوان مظفر. كان ثملاً دامع العينين وهو يروي وقائع اعتقالهما في بغداد، مع حشد من الرفاق. لم يكن الفنان الأرمني يومها سوى فتى بسروال قصير، راح مع رفاقه الكبار «بين الرجلين». وفي ذلك البيت الذي استضاف شعراء كثيرين، قرأنا قصيدة بلند الحيدري التي يسأل فيها: «أصحيح يا مظفر/ ظل ذاك الغصن رغم الموت/ أخضر؟». فقد ظلّ مظفر النواب الغائب الحاضر في كل مكان.

كم ارتفعت قامتي، وأنا أصل إلى باريس للدراسة، أن أجد زملائي من تونس وموريتانيا والجزائر وسوريا يحفظون قصائد مظفر النواب ويتغنون بها في الجلسات. هذا شاعر من عندنا منح لمفرداتنا العامية فصاحة نابعة من بلاغتها. وكانت صديقة عراقية تفرش أمامي، رسائل ومناديل ورقية موقعة بخط الشاعر، كتب لها فيها ما يقوله الرجل وهو يبحث عن المرأة المستحيلة والوطن المستحيل. لماذا لا تنشرين هذه المخطوطات؟ تلملم «فاء» كنزها الصغير وتسكت كما سكتت شهرزاد عن الكلام المباح.

ما أيسر القفز من باريس إلى لندن. نسمع أن مظفر النواب سيقيم أمسية هناك فنسرع ونحجز أماكننا في القطار السريع. قطار حديث يعبر تحت بحر «المانش» في ساعتين ونيف، لا يشبه «الريل» المذكور في القصيدة المشهورة إلا في طيف الشجن الذي يرافق قاطع المسافات، السارح وراء النافذة. نصل ونتوجه من المحطة إلى القاعة الفخمة للجمعية الملكية. نجلس في المقاهي ننتظر موعد الحفل. لم نأتِ لنتفرج على المدينة بل من أجله وحده. نصغي إلى الشاعر الذي عثر على الحنجرة المثقفة للباحث سعدي الحديثي، دكتور برتبة مُنشد، وشكّل معه ثنائياً لطيف الانسجام. لم يعد يقرأ شعره كما نحيب الندابين. يلقيه بصوت أجش تاركاً لحادي العيس التغزل بـ «زين الأوصاف» في البادية.

لست أفضل من يكتب عن مظفر النواب ولم أعرفه عن قرب. لكنني مثل كلّ العراقيين أحببت شعره وشغلتني صورة الشاعر المنفلت الضارب في المتاهات. في المنامة، سمعته مع سعدي الحديثي لآخر مرة، وقد احتشدت الصالة بجمهور خليط. وجهاء جدد وسياسيون معتزلون ومناضلون مخضرمون ومثقفون توّابون تطربهم الكلمة وتشجيهم أصداء ما فات. وعندما ارتفع صوت الشاعر بمطلع «مرينا بيكم حمد»، انفجر التصفيق وصرخة الاستحسان. كنا كلّنا نحفظ القصيدة، وننتبه لمفارقات الاسم.

* روائية عراقيّة

————————–

في آخر الليل… حين يأتيه شيطان الشعر/ جمعة الحلفي

الكتابة طقس خاص، حسب تعبير الأدباء. والمقصود بالعبارة هو قدسية فعل الكتابة، ولا سيّما الإبداعية منها. ومن أفعال الكتابة ما هو صارم ورصين وأنيق، ومنها ما هو عفويّ وفوضويّ. ومن النمط الفوضويّ كتّاب وشعراء كبار، فالجواهري حين يأتيه شيطان الشعر (أو ملاكه) يكتب على أقرب قصاصة ورق يجدها في طريقه. فيما يكتب مظفر النواب شعره على ورق مصقول وملون، غاية في الأناقة.

ومن يرى الحروف الصغيرة، التي يكتب بها مظفر قصائده، يتعجّب من قدرته على إعادة قراءة ما يكتب. وفي مرة من المرات، نسي مظفر واحدة من كراساته الأنيقة تلك في بيتي في دمشق، بعد سهرة طويلة، وعندما وجدت الكراسة مركونة على أحد الكراسي، في صباح اليوم التالي، شعرت كأنّني وجدت كنزاً، لكنّني أعدتها له صباح اليوم نفسه، لأنني فشلت في فكّ طلاسم الحروف.

كيف تكتب الشعر؟

سألت مظفر ليلتها، كيف تكتب الشعر، هل تحزن أم تفرح، هل تصمت أم تغنّي أثناء الكتابة، هل يمكن وصف لحظة الكتابة الشعرية وظروفها المحيطة وطبيعتها النفسية والحسية؟ قال مظفر: في الواقع ليس هناك شكل محدّد للكتابة الشعرية ولا مكان أو وقت معين، لكن ربّما كان آخر الليل هو من أفضل الأوقات، بسبب الهدوء وانتهاء المرء من مشاغل اليوم. وأنا شخصياً كتبت معظم قصائدي أو بداياتها، في أوقات الليل. أمّا لحظة الكتابة الشعرية فهي تشبه، كما أرى، الطريقة القديمة لعمل الخمرة. فقد كانوا، حين يريدون تقطير الخمرة، يجرحون النخلة من عند الرأس ويضعون حول الجراح وعاءً أو كيساً، ثم تبدأ النخلة تقطّر شيئاً فشيئاً وبعد أن تتجمّع هذه المادة أو هذا السائل، يتركونه فترة من الزمن حتى يتخمّر. الشاعر كذلك، يستطرد مظفر، حين يستفزّه مشهد ما، أو حدثٌ ما، اجتماعياً كان أم جمالياً، فإنّ ذلك يؤدّي إلى إحداث ذلك الجرح في أعماقه، وكما يحدث للنخلة، تبدأ مادة الشعر بالتقطّر والتسرّب ثم تصبح شكلاً جمالياً محدّداً. وبالنسبة لي حين يحدث ذلك الجرح، أحتاج إلى الصمت في البداية، بل إنني أنفر من القلم والورقة، في تلك اللحظات، لأنها، باعتقادي، تعيق أو تفسد اللحظة الشعرية، ولكن بعد ذلك، بعد أن أقطع مسافة، في ما يمكن تسميته بالكتابة الداخلية، أبدأ بوضع المادة على الورق.

ومظفر النواب بالنسبة إلى العراقيين شاعر شعبيّ من طراز رفيع، لكنّه بالنسبة إلى العرب شاعر الفصحى المتمرّد، والهجّاء. وربّما كان مظفر الوحيد الذي ظلّ يجمع بين الكتابة بالفصحى والكتابة بالعامية، ثم إن هناك، كما أعتقد، فارقاً روحياً ونفسياً بين القصيدتَين لدى مظفر، فهو يكتب الفصحى بمداد العقل ويكتب العامية بمداد القلب، وهو فارق كبير لا يعرفه سوى العشاق الكبار. قلت لمظفر في تلك الليلة: هناك من يفضّل شعرك المكتوب بالعامية على شعرك الفصيح، أو بالعكس أحياناً، كيف تنظر إلى هذه المفارقة، وهل ترى أن هناك فوارق في الكتابة، وأين تجد أنت، متعتك في الكتابة؟ قال مظفر: كلّ معنى من المعاني وكلّ حسّ من الأحاسيس يكوّن لغته الخاصة، أي أن هذا المعنى أو هذا الحسّ، هو الذي يأتي بمفرداته، سواء من الفصحى أو من العامية، ولذلك تختلف قصيدة عن قصيدة أخرى بمفرداتها. ونحن، بسبب طبيعة التطوّر الحضاري العربي، حصلت لدينا هذه الازدواجية بين الفصحى والعامية. فعلى صعيد الكتابة الشعريّة، قد تجد أحياناً، أن الفصحى لا تفي بغرض الكتابة أو بغرض ما تريد كتابته أو قوله، وأحياناً يحدث العكس. أي أن تجد العامية لا تفي بهذا الغرض، ولهذا فلكي تعبّر عمّا تريد فإنّك ستستخدم الأداة التي تفي بغرضك وبحاجتك وبشحنتك العاطفية، سواء كانت هذه الأداة اللغة أو اللهجة. وبرأيي (وما زال الحديث لمظفر) ما دام هذا هو واقع الحال فإنّ استخدام الأداتَين أمر طبيعي، على الرغم من الفارق بين القصيدة المكتوبة باللغة الفصحى وتلك المكتوبة بالعامية، فالأولى يمكن أن تسمع من المغرب العربي إلى الخليج، أمّا الثانية فحدودها البلد نفسه، أو بعض البلدان التي تنتشر فيها هذه العامية.

وسألت مظفر عن العراق، فتأمّلني بجزع ثم ترقرقت دمعتان في مقلتيه، كلّ العالم جميل، قال مظفر، بعدما غالب الدمعات أو غافلهن، لكن الأجمل هو العراق، وكلّ المدن جميلة، لكن الأجمل هي بغداد. ثم أضاف قائلاً: بعد مغادرتي العراق، وأنا في الطائرة فوق بغداد، كان عندي إحساس داخليّ بأني لن أعود إليها لزمن طويل، فكتبت، في تلك اللحظات، مقاطع قصيرة، بهذا المعنى، وأنا أشاهد، لآخر مرة، أبنية بغداد وجوامعها وجسورها من الطائرة. هذا الإحساس الداخلي، يضيف مظفر، كان بمثابة تمهيد بالنسبة لي. تمهيد لتحمّل الزمن والغربة التي عشتها بعد ذلك. وقد يكون ذلك الشعور متأتّياً من فهمي لطبيعة الأوضاع في العراق ولطبيعة السلطة الدموية، التي جاءت آنذاك، بسبب، أو نتيجة لأخطاء القوى السياسية.

—————–

صور من تشييع الشاعر

ساحر الكلمة النابضة وشيطان المفردة الحيّة/ سلام عبود

عام 1956 كتب مظفر النواب أولى وأشهر قصائده العاميّة «للريل وحمد»، ثم استكمل كتابتها عام 1958، بعد قيام ثورة 14 تموز، التي أطاحت النظام الملكي في العراق. بُني مضمون القصيدة على حدث واقعيّ، تعرّف النواب إلى معايشيه شخصياً، حينما التقى امرأة ريفية في القطار النازل إلى البصرة. روت له المرأة قصة حبها لشخص اسمه حمد. وبسبب فشلهما في الزواج، اضطرت إلى الهرب من بيت أهلها ومن مدينتها، التي يمرّ بها القطار كلّ يوم. هذه الحادثة العابرة كوّنت الأساس الذي ألهب خيال وعواطف النواب، وجعله يعيد تحويل القصة المحزنة إلى قصيدة، أضحت ثورة تجديدية في أسلوب ومضمون الشعر الشعبي (العامي) العراقي. وفي وقت لاحق تحوّلت القصيدة إلى أغنية شعبية محببة، عمّقت من تأثير القصيدة في مشاعر الناس، وجعلتها مؤهّلة للخلود في ذاكرة العراقيين التواقة لاستقبال المآسي:

مرينا بيكم حمد واحنا بغطار الليل اسمعنا دك كهوة وشمينا ريحة هيل.

مررنا بكم حمد ونحن في قطار الليل سمعنا دق القهوة وشممنا رائحة الهيل.

في غير مناسبة، يؤكّد النواب الرواية الغريبة، التي شكّلت الأساس لولادة قصيدته الأولى. ولكن على الرغم من أن المجتمع العراقي تكوين غرائبي بامتياز، إلّا أن كثيرين ربما لا يجرؤون على تقبّل رواية اللقاء بالمرأة الريفية، ويميلون إلى إنكار تفاصيل الحدث. لأن حديث امرأة ريفية في قطار الدرجة الثالثة عن علاقاتها الغرامية، وهربها من بيت أهلها، فيه قدر كبير من الاجتراء، ربما لا تتيحه علاقات عابرة في مجتمع منتصف الخمسينيات العراقي.

ولكن بصرف النظر عن تفاصيل الحكاية، إلّا أن ما أنتجه النواب تاريخياً كان بداية طفرة الحداثة في الشعر العامي العراقي. خطوة فنية عملاقة توازي في حجمها طفرة السياب ونازك الملائكة في مجال الشعر الفصيح.

لقد أردتُ في هذه المقدمة التوضيحية المشاكسة أن أفصل النصّ عن الحدث، وأن أبيّن أن النصّ المبدع أعلى شأناً من الواقع، وربما يكون أقوى من الحقيقة التي أنتجته. ومن المفيد هنا أن نشير إلى أمر تاريخي يتعلّق بالأدب العراقي، وأعني به علاقة النصّ بالقطار. فمن المعروف أن العراق لا يملك شبكة واسعة للسكك الحديدية، سوى خطّ واحد يخترق العراق طولاً، بدءاً من البصرة في أقصى الجنوب. يحتلّ هذا الخطّ مساحة مهمّة في الذاكرة الشعبية والأدبية لسكان بغداد وشمالها، وسكان الجنوب العراقي المحاذي لنهر الفرات. وهذا يعني أيضاً أن الجنوبيين من سكنة ضفاف دجلة لا يملكون العلاقة ذاتها مع القطار، نظراً إلى بُعدهم عن خطّ سيره. وربما لهذا السبب أيضاً لعب القطار دوراً مميزاً في قصص البصريين. لقد أسهم القطار في خلق عدد من النصوص القصصية المبكرة المتميّزة، منها قصة «القطار الصاعد إلى بغداد» لمحمود عبد اللطيف، المكتوبة عام 1953، والمنشورة ضمن مجموعة «رائحة الشتاء» عام 1997. وقبل ذلك، كتب فؤاد التكرلي أبرع قصصه القصيرة «العيون الخضر»، التي تتحدّث عن رحلة عاهرة شابّة من بغداد، في القطار الصاعد إلى الشمال. كُتبت هذه القصة عام 1950، ونُشرت ضمن مجموعة «الوجه الآخر» عام 1960. وفي منتصف المسافة بين بغداد والبصرة، كتب عبد الرحمن مجيد الربيعي قصته «أبواب الليل، أبواب النهار» عام 1978، وظهرت ضمن مجموعة «الأفواه» الصادرة عام 1979. وفي السكّة ذاتها، سار عام 1963 «قطار الموت» العراقي، الصاعد إلى سماوات القتل الجماعي والنفي، محمّلاً بأربعمئة وخمسين سجيناً سياسياً، كُتبت عن رحلتهم المرعبة قصص وأشعار وذكريات كثيرة.

اتّخذ جلّ من كتب في هذا الموضوع القطارَ وسيلة للخلق الفني، باعتباره رحلة سردية متحرّكة، وبيئة اجتماعية مصغّرة. لكن قطار النواب لم يكن وسيلة خالصة فحسب، بل كاد أن يكون كياناً فاعلاً، مشاركاً في صناعة الحدث أيضاً. فقد جعل النواب منه عنصراً ناطقاً، يعبّر بصراخه عن ألم الفراق، وحرقة العشق.

في واقع مشحون بالقسوة والصراعات الحادة والغرائب، ولدت قصيدة مظفر النواب، التي أخذت منحيين: عامي أولاً، وفصيح حينما طال ابتعاد الشاعر عن الوطن. يحمل المنحيان، كلاهما، بصمتهما الخاصة المميزة. فقد مالت قصيدة النواب الفصيحة إلى الطول – طول الجملة وطول النص – وإلى التحريض الخطابي، الموجّه إلى مستمع مترهّل، يدّعي الثورية وهو يتثاءب في سرير المهمشين. وهي قصيدة هجومية ثائرة، تنال من خصمها من طريق تسفيهه، ومن طريق رسم صورة هجائية، تجريحية، هزلية وتدنيسية. قصيدة ظاهرها هجوم خشن لا يُبقي للخصم شيئاً، وباطنها انكسار مرعب، يكاد لفرط عمقه وذوبانه في هتافات المستمعين، يبدو نصراً متوهماً.

أمّا قصيدته العامية، وهي عامية جنوبية، مطعّمة بلهجة بغدادية وفصيحة أحياناً، فقد كانت متعدّدة الأغراض. قصائد حب خالصة مثل «للريل وحمد» و«زرازير البراري» و«نكضني» (انهكني)، أو قصائد التحريض مثل «مضايف هيل» و«عشاير سعود»، ومنها ما يجمع بين الغزل والتحريض مثل «سفن غيلان ازيرج».

في قصائده العامية، يتّخذ النواب من مركزية المفردة أساساً للترابط اللغوي وتداعياته الذهنية، أو لنقل يجعل المفردة وسيلة جذب مغناطيسيّة تلمّ حولها أطراف النص الشعري، بصوره وأخيلته ووسائل خطابه. ففي كلّ قصيدة، نجد تركيزاً للقاموس اللغوي، يكثّف من ترابط المشاهد والصور ويصنع وحدتها الشعورية. في «زرازير البراري»، تحتلّ مفردات الخلط القسري (الغصب) قوام القصيدة ومفاتيحها السريّة: «تنسحن»، «تنمرد»، «تنعجن». وهي صور متنوعة لفعل واحد، يتمحور حول خلط الأشياء بعضها بعض وجعلها قواماً واحداً، خاضعاً لأقصى أنواع الضغط. السحن لدق وتكسير المادة الصلبة وطحنها، والمرد لهرس المواد اللينة والرخوة، والعجن لخلط السائل بمسحوق دقيق. وربّما تكمن هنا، في هذا التنويع اللغوي الهادف إلى استنطاق المفردة، فكرة النواب اللغويّة، التي تُشبّه العاميّة بالطين الحريّ (النقي) والفصحى بالحجر. بيد أن المفردة هنا، برغم تفرّدها وقوّتها الدلاليّة الصادمة، لا تعمل بذاتها منفردة، بل تفتح الباب لمرور طائفة أخرى من زمر المفردات، تتلاقح في ترابط وثيق مع بعضها، كأن تكون العين وملحقاتها في قصيدة (زرازير البراري): «كت (انهمار) الدمع، الجفن، عيونك، غمض». ثم تتفاعل المفردات معاً لتوليد صورة شعورية في بيئة لغوية منتقاة بحساسية عالية. كأن تكون، على سبيل المثال، بيئة بريّة نموذجية: جنح فراشة، زرازير البراري، السحر، عوسجة بر، النده (الندى)، كطرة (قطرة)، مطر، النباعي، تفيض، الكمر (القمر)، نهر، ورد، عنابة، دفو (دفء)، برد، الماضي الجدب، زهرات بيض من الوفه (الوفاء)، سواجي (سواقي) من الحنين.

يقود هذا القاموس المنتخب إلى حدوث تصعيد عالٍ للحنين ولوعة الشوق وقسوة الهجر، يخلق بتفاعله الوحدة التعبيرية للنص ومداها الشامل. وفي «عشاير سعود»، تكون مفردات الإضاءة والاشتعال قوام الفعل الشعوري والمرئيات، ومفتاح خزائن الروح: جدح الحوافر، زهر النجوم، تتجادح (تتقادح) عيون الخيل، عيون الزلم بارود، تبرج (تبرق) نار، نجم ذويل، عيون مشتعلة، نجمة، الشمس، بنادقنا تطرز الليل، تضوي. باتّحاد المفردات وتفاعلها، من طريق التنويع في مزج مفردتَي الخيل والعين، ينتج تصعيد عالٍ للغضب والتحدّي: صهيل الشكر (صهيل الخيول الشقر)، عيون الخيل، جدح (قدح) الحوافر، عيون الزلم، مهرك، تشوف، كحلنا، عيون مشتعلة، عين الذيب، تنام. هذا التفاعل الشرطي بين جماعات، أو زمر المفردات، يعطي للنصّ ترابطاً عضوياً داخلياً، وكثافة عالية، شديدة التركيز، تتبادل الحركة فيه دائماً من الخارج: المحيط الطبيعي، إلى الداخل: مجرى الدم والروح. بهذه الطريقة ينتظم عقد مجاميع الكلمات والصور وتتآلف في وحدة عنقودية مترابطة، ومتحرّكة. لذلك قد تبدو بعض القصائد شديدة القسوة ومغرقة في الكآبة في أعين القارئ الغريب على وجه خاص. لكنّها ملمح مألوف في الوجدان العراقي. فليس غريباً على ذائقة العراقيين تصعيد الأخيلة العنفية المرتبطة بالدم. لقد مدّنا أيضاً أبرز شعراء العراق في العصر الحديث، محمد مهدي الجواهري، بمنظومات شعرية دموية مماثلة.

يقول النواب: «خلي الدم يجي طوفان كلنا نخوض عبريّة (عابرين)». في هذا النص تحريض علني يدعو للخروج على سلطة الدولة العاجزة أو المتقاعسة. سببه في نظر الشاعر أن «حكام المدن دفله». وشجرة الدفلى في العراق رمز شعبي للغش والمظاهر الخادعة والنفاق. لو قدر لنا أن نعمّم هذا المشهد عقائدياً لعثرنا على صورة مجسّمة، ثلاثية الأبعاد، للطبيعة المكوّنة لمزاج تلك المرحلة السياسية. لكم يشبه هذا المشهد مأزق الشيوعيين القاتل: التأرجح بين الحاكم والمحكوم، وخسارة الطرفين! وكم يشبه حيرة زعيم الثورة عبد الكريم قاسم، الذي سعى عبثاً للوقوف في وجه صراع الكتل المتناحرة، مرة بالتقريب وأخرى بالتضييق، فكان مصيره الموت!

لم تكن جدة قصيدة النواب محصورة في نظام توظيف المفردات، بل تعدّتها إلى تجديد أشكال بناء الصورة الشعرية: «سرجنا الدم عله (على) صهيل الشكر (الخيول الشقر)». هنا يرسم النواب صورة غير نمطية: الدم يمتطي صهيل الخيول الشقر، في مزيج فريد لحركة الغضب، صوتاً ولوناً وانفعالاً. وهي صورة عقلية خالصة، ولكن بمفردات شديدة الحسيّة. بهذه الطريقة الحاذقة يتمكّن التصعيد، الذي يصنعه تشابك المفردات، من إنتاج وحدات تعبيرية جديدة، لم تكن مألوفة في الشعر العامي من قبل، جعلت من عامية النواب، عامية مجدّدة، ومثقفة، ولكن من دون ترفّع أو استعلاء.

في السنة الثانية لثورة 14 تموز كنت تلميذاً في الصف الثالث الابتدائي. ولكن، برغم صغر سني، شهدت لسبب جغرافي خالص، معارك سياسية كثيرة حدثت في مدينتي الجنوبية الفقيرة العمارة (ميسان). موقع بيتنا القريب من «قصر المتصرف» ومن بناية مركز اللواء، ساعدني على رؤية كثير من الأحداث السياسية الكبيرة والمثيرة. من هذه الأحداث اليوم الذي زحفت فيه الجماهير الغاضبة نحو بيت المتصرف لتطويقه، رافعين الحبال وهم يصرخون بصوت جماعي غاضب: «عدنا (عندنا) مصرّف (متصرف) خاين ونريد سحله بالحبال». كان المتظاهرون يريدون من المتصرف أن يسلّمهم شخصاً متّهماً بقتل أحد الفلاحين الشيوعيين لصالح إقطاعيي المنطقة. وكان المتصرف يحاول إقناعهم بأن ما حدث جريمة سياسية يتوجّب أن تقوم السلطة، وليس الناس، بالتعامل معها قضائياً. هذه الصورة المرعبة لم تزل منحوتة في مخيلتي، وربما في مخيلة كثيرين أيضاً. وأبشع ما في الصورة هو أنني كنت أرى الناس من الأسفل، بأشكال مخروطية، بسبب طولهم، وأسمع الصراخ من دون أن أرى أو أعقل. المتصرف ومعه بعض الشخصيات الحكومية، أبرزهم مدير التربية، سعوا من شرفة بيت المتصرف إلى تهدئة الناس، ولكن من دون جدوى. ظلّت الجموع تزداد، والغضب العارم يتصاعد بشكل جنوني، ولم تعُد مطالب الغاضبين تقتصر على سحل المتصرف الخائن، بل توسّعت لتشمل كلّ من كان يقف معه في الشرفة من الخونة. لا أعرف كيف انتهى الأمر. فبعد ساعات طويلة ورهيبة من الكرّ والفرّ، بدأ الناس بالتفرّق، وانسحب حاملو الحبال. بعد مرور خمسة عشر عاماً على وقوع حادثة الحبال، فسّر لي «أبو عبدالله» المشهدَ الملتبس. و«أبو عبدالله» أحد الأصدقاء الطيبين، ممن كانوا في قلب تلك التظاهرة الجنونية. وهو كادر شيوعي متقدّم في محلية العمارة، شغل مسؤولية ما عُرف بالعمل الوطني، أي تمثيل الحزب في لجنة الارتباط مع البعث في مرحلة التحالف، أرسِل مع غيره من كوادر الحزب الشيوعي لتهدئة الجماهير الغاضبة. لكنّه تعرّض للعنف الجسدي من قبل الجموع الثورية المستفزّة، ظناً منها أنه أحد المندسّين. لم تكن الجموع الثائرة تصدّق أن المتصرف أحد رجال ثورة تموز، وأن الخائن الآخر، مدير التربية، الذي يقف إلى جواره، هو الدكتور حسين قاسم العزيز، المؤرّخ الماركسي المعروف، صاحب أطروحة «البابكية»، ومؤلّف «موجز تاريخ العرب والإسلام»، الذي يُعدّ رائد منهج البحث التاريخي على أساس ماديّ جدليّ في العراق. تجربة الحبال علمتني أن العنف قوة عمياء.

التداعيات التاريخية المرتبطة بيوم الحبال قادت مظفر النواب إلى كتابة واحدة من أشهر وأجمل قصائده العامية التحريضية «مضايف هيل» عام 1959. يقال إن النواب رأى امرأة ريفية قرب وزارة الدفاع العراقية، تحمل عريضة تريد تسليمها إلى الزعيم عبد الكريم قاسم، تتعلّق بابنها الذي قتله الإقطاعيون. جاءت المرأة إلى بغداد بحثاً عن العدل والإنصاف لدى قيادة الثورة، ولكن لم يستمع إلى شكواها أحد. لأنّ الدولة شجرة دفلى، ظاهرها زهر متفتّح، وباطنها رائحة كريهة وعصارات لزجة. كان النواب هو المستمع الوحيد، الذي وثّق أحزان تلك الأم بطريقته الفريدة:

«ميلن (ابتعدن)، لا تنكطن كحل فوق الدم. ميلن وردة الخزامى تنكط (تسكب قطرات، تقطّر) سم. جرح صويحب بعطابة (خرقة محروقة لتضميد الجراح) ما يلتم. لا تفرح بدمنا، لا يالقطاعي، صويحب من يموت المنجل يداعي».

لقد شاعت هذه القصيدة لأسباب عديدة أبرزها: صورها التجديدية الفوّارة، وقوة صياغتها التحريضية، النارية، والحساسية العالية في رسم أجواء البيئة الريفية العراقية. وهنا أيضاً تبرز موهبة النواب الكبيرة. فهو لا يكتفي بالكتابة عن قضية فلاح، بل يرسم بيئة عاطفية، فلاحيّة خالصة، ثم يضع دماء بطله القتيل فيها، ويجعله يتحرّك بيسر في محيطه الطبيعي. لقد أسهم المغزى الاجتماعي للقصيدة في جذب المزيد من القراء إليها، لأنّها سلّطت الضوء على بيئة مهمّشة، مهملة، ظلّت تعيش قروناً تحت تقاليد مالكي الأراضي الجائرة وشدّة ظلمهم للفلاحين. كان «الفلاح صويحب»، في القصيدة وفي الواقع، تجسيداً فريداً حيّاً للصراع الطبقي بين الفلاحين والإقطاعيين. ومن مفارقات التاريخ المحيّرة أن يقوم «أبو عبدالله» بكشف سرّ آخر من أسرار معارك الحبال. في ذلك اللقاء المتأخر عرفت، لأوّل مرة، أن الفلاح القتيل، الذي تعاطفنا معه، المسمى «صويحب» – تصغير كلمة صاحب للتحبب- لم يكن فلاحاً. هو في حقيقة الأمر المعلم الشيوعي صاحب بن ملا خصاف، الذي رأى فيه الإقطاعيون محرّضاً كبيراً وخصماً عنيداً، فأردوه قتيلاً. في مناخ الشقاق والنفاق يكون الشعر أحياناً أقوى من الواقع.

في «مضايف هيل»، حافظ النواب شكلاً على نمط شعري تقليدي معروف، قوامه رباعية شعرية وبيت خامس يتكرّر في القصيدة كلازمة. لكنه، برغم اختياره شكلاً تقليدياً في البناء الخارجي، مارس تثويراً عنيفاً في البناء الداخلي للنصّ، وصل فيه إلى قمة التحريض الطبقي:

«حاه… شوسع جرحك! ما يسدّه الثار. يصويحب… وحك (وحق، أي قسماً) الدم، ودمك حار. من بعدك مناجل غيظ ايحصدن نار. شيل بيارغ (بيارق) الدم، فوك (فوق) يلساعي. صويحب من يموت المنجل يداعي (يطالب بالحق، أو يثأر)».

لذلك، لا غرابة في أن يكون قاموس القصيدة ومفاتيحها اللغوية عظيمة القسوة: دم (تكرّرت مرات عديدة بصور متنوعة)، سم، جرح، جروح، عطابة، غيظ، ثار، نار، ناعي، ذل، ذيب، موت، خناجر.

يفتخر النواب بالاستقبال الذي حظيت به قصيدته الأولى من قبل الشاعر سعدي يوسف. لكنه لا يكشف الوشيجة التي تربطه بقصيدة سعدي يوسف. بين الشاعرين صفة مشتركة، ولا أعني بها العناد السياسي فحسب، بل أعني رهافة التعبير، ودقّة تخصّصه الدلالي، وامتلاءه. فالشاعران يميلان إلى صناعة قصيدة مُشبِعة، خالية من الزوائد التعبيرية الضارة، تمنح القارئ كفايته من المشاعر والأحاسيس والأفكار، إلى حدّ الارتواء والشبع. وهو شبع لا يشبه الشبع من الأكل، الذي يوقع في الكسل البليد، بل يشبه إلى حد كبير الشبع الجنسي، الذي يترك وراءه تطميناً، وفراغاً محيّراً، غامضاً، تأمليّاً. ولا يختلف الشاعران أحدهما عن الآخر إلّا في طريقة استخدام الكلمة. فسعدي يصنع جملة مشبِعة، هادئة الوقع، بينما يميل النواب إلى صناعة كلمة ملتاعة، مشحونة إلى حد الانفجار، تشبه الألغام الأرضية، التي تنفجر كّلما رفعنا أرجلنا عنها. وأنت تقرأ بصوت عالٍ تخشى أن تنفلق جدران الكلمات في فمك، أو تنفجر في وجهك وأنت تقرأ صامتاً أو تقف مستمعاً، وفي دماغك وأنت تتمعّن بها متأملاً، متتبعاً هزّاتها الراعدة في أعماق روحك.

حينما نقرأ قصيدة «كالولي» (قالوا لي)، التي كُتبت في بيروت: «واغمّض عود (كلمة اعتراضية للتوكيد، شديدة الدقة، لها معانٍ عديدة منها: على افتراض أن، حينئذ يكون، رغم أنه) اجيسك (ألمسك) يا ترف (رقيق)، تاخذني زخة لوم، واكلك (أقول لك) ليش وازيت (حرضت) العمر يا فلان». لا نقوى إلا أن نغمض أعيننا، ونمد أيادينا لملامسة رقة حبيب لا وجود له، فتنهال علينا، من داخلنا المضطرب، وليس من خارجنا، زخات من مطر التبكيت. في هذه الصورة تنتقل المشاعر من الداخل إلى الخارج وبالعكس من دون جسور. لأن الحاجز بين الواقع والخيال لم يعد قائماً، فقد تم تحطيمه على يد ساحر الكلمات الفريد. الداخل يحرّك الخارج، الذي يعيد شحنة التوتر مرة ثانية إلى الداخل. سلسلة انفعالية مترابطة، مبنية على فعل وجواب، تخلق بدورها فعلاً جديداً، وإحساساً جديداً، مباغتاً.

من طريق المفردة المفتاح، وتآلف جماعات المفردات، وخلق البيئة الشعورية الحيّة، والصور العقلية المتحركة، يبرز أمامنا التلاقح الانفعالي بين الخيال والواقع، بين الوهم والحقيقة، بين المحسوسات والمجردات، بين الهجوم المتعالي المكابر والانكسار الباطني الخفي المرعب. إنه ساحر الكلمة النابضة، شيطان المفردة الحيّة، المفعّلة. إنه محيي الموؤودات اللغوية، الذي يجعلك تتوهم أن كلماته المطبوعة على الورق تنبض، تتحرك، وقد تقفز من بين السطور إذا غفلت عن إمساكها. كلّ هذا الرصيد التجديدي حملته قصيدة النواب العامية، صانعة من نصّه مدرسة شعرية كبيرة، لا ينتسب إليها سوى شاعر فرد، اسمه مظفر النواب.

* باحث وروائي

————————–

 كم ضيّع العراق؟/ ضياء العزاوي

تعرّفت إلى مظفّر عام 1969، بعد خروجه من معتقل «نقرة السلمان» الصحراوي الذي ارتبط بتاريخ الحركة السياسية وبشكل أساس اليساري منها طيلة عشرات السنين إلى حين إغلاقه قبل سنوات. سمعت عنه الكثير من الفنان حافظ الدروبي حيث كان أحد الناشطين في استوديو كلية الآداب، وحيث ظلّ الدروبي مشرفاً عليه لسنوات طويلة. كانت قصيدته «للريل وحمد» قد بدأت بالتداول بين المثقفين ومحبي الشعر، وبعد أشهر من تعارفنا، طلب مني تصميم غلاف ورسوم لقصائده بغية نشر المجموعة في بيروت، كان ذلك أول ديوان يصدر له وأشرف عليه الصديق المشترك ابراهيم الحريري.

منذ معرضي الأول عام 1964، شكّل الشعر مصدراً لأعمالي في البداية، وبحكم دراستي للآثار كانت اختياراتي من الأدب العراقي القديم وخاصة الأسطوري منه إلى جانب نصوص أخرى كالحلاج ونشيد الأنشاد. كان طلب مظفر ليس بالمستطاع رفضه، ليس بحكم الصداقة وإنما بالتحدّي الذي وضعني فيه: نصوص شعبية تعكس الوجدان الغني بالحب وروح التحدّي السياسي، نصوص تقدّم مناخات ريفية مضادة للمدينة، إلّا أنّها بحكم لغتها الجديدة وما فيها من مخيّلة تجمع بين الرسم والموسيقى لتحوّل كلمات لم يحلم البغدادي أن تكون ضمن قاموسه الثقافي. من هنا بدت لي المهمة أبعد من إنجاز رسوم لنص شعري، فقد أغرقتني قصائده وأنا أقرؤها للمرة الأولى في عوالم غاية في التنوع، مخلفة مزيجاً استثنائياً لروح تدمغ كلّ مجالات الحياة. منذ رسومي لذلك الديوان، ظلّ شغفي بنصّه الشعري، خصوصاً بتلك القصائد التي ترتبط بتاريخ العراق وتحدّياته، أبرزها قصيدة «حسن الشموس» التي سمعتها منه مغناة في سنوات تعارفنا الأولى والتي ظلّت معي، أسمعها بين الحين والآخر برغم كلّ تلك السنوات التي مرّت. في كلّ ما رسمته لأعمال مظفر، ظلت حريتي تنحاز لسماع القصيدة لا لقراءتها، السماع لقرابته الروحية للموسيقى، يمنح المخيلة بعداً وفضاءً يبعد شكلية الرسم إلى جمالية تحفر مجراها في عمق النصّ، تجعله حميمياً، مبهراً من دون أن يفرض نفسه على حواسنا، إن مهمّة التعامل مع النصّ الشعري مهمّة تحدّدها في الغالب تقنيات الرسم.

فرق بين مخيلة اللغة وبين أدواته، بحكم تبادل العلاقة بين الورق والأحبار، بين سطح ورقة الديوان المطبوع والتي هي نتاج تقنيّ له حساباته المعروفة وبين سطح المخطوطة، حيث يكون الورق مصنّعاً يدوياً وبحسابات تحتمل الاجتهاد والإضافة. النص المسموع أو المقروء كلاهما ذو مديات متحركة، في الرسم يتجمّد إلّا إذا حملته الوسائط التقنية الجديدة. هذه التعريفات جعلتني أكثر ميلاً لإنجاز ما أسمّيه بالمخطوطة الشعرية، نسخه فريدة تحتمل التنوع والذهاب إلى فضاءات لا تتحدّد إلّا بقدرة الفنان على تجاوز نفسه.

في آخر ليلة له في بغداد قبيل مغادرته العراق، اجتمعنا في شقة الشاعر صادق الصائغ، يوسف الصائغ، ومحمد عارف وأنا، يوم قرّر مظفر المغادرة بعد إطلاق سراحه من توقيف قصير. وفي تلك الليلة، برغم غناء مظفر لبعض من قصائده وخاصّة رائعته «حسن الشموس» التي أخذتنا إلى انقلاب 1963 بكلّ تداعياته، كان المناخ حزيناً. ولكي يغطّي يوسف بكاءه لفراق مظفر، هذا الشاعر المشاكس الذي لا يحلو له في كل جلسة من جلساتنا إلا واستهدف أحد الحضور، قرأ قصيدته المهداة إلى مظفر والتي كتبها في معتقل نقرة السلمان. كان ردّ مظفر قراءة مقاطع من قصيدة ما زالت معي، أعتبرها نشيداً داخلياً لكلّ من أُجبر على مغادرة العراق لسبب ما ولكل القادمين الجدد من عراق غارق بقسوة القتل اليومي، بالمفخّخات وسرايا الذبح الوحشي: «غرّب نجمتك ما يلوكله فلك/ غوّب وان لاكيت سفينة ليل بجّاها الغُرب/خاويها يا ابن الناس ضيعوك وضيعوها هلك». كم من المبدعين يا ترى من لم تتلاءم نجمته وسماء العراق بزرقتها المقدسة ليحمل روحه وسنوات عراقه الجميل.

* تشكيليّ عراقي

—————————–

مسّ جراحاتنا بلغته الشفّافة وخياله المُحَلِّق/ سعدي الحديثي

في الساعات الأولى من وجود مظفر في المدرسة، علم أنني أقوم بتدريس التربية الفنية أيضاً، فجاء إلى مرسمنا الصغير وأبدى اهتمامه بأعمال بعض الطلبة وراح يتحدث معي حديث العارف بالرسم وبالفنون عامة. وبرغم أنني كنت المدرّس الرسمي للتربية الفنية إلى جانب اللغة الإنكليزية، فقد تولى هو شؤون المرسم وحرّك الطلبة، وصار ذلك المكان الصغير ملتقى للفنانين بل والأدباء من الطلبة. ومن نتائج ذلك أن توطّدت علاقاتنا ونشأت بيننا رابطة صداقة استمرت أكثر من خمسين عاماً. كان بيتنا قريباً من المدرسة فدعوته لتناول الغداء معي فلم يتردد وجاء إلى بيتنا، ومنذ اللحظة الأولى تصرف وكأنه واحد منا، فأحبه أهلي واعتبروه واحداً من أفراد العائلة. منذ ذلك اليوم أيضاً، صرنا نخرج يومياً من المدرسة، نتناول الغداء في بيتنا أو بيت أهله ونمضي إلى اتحاد الأدباء نقضي المساء أو ننتقل إلى بيت من بيوت أحد أصدقائنا.

في بيت بلند الحيدري في بغداد في عام 1959، سمعت مظفر يغني للمرة الأولى. فقبل أن يتوغل المساء في ليل ذلك اليوم إثر محاضرة لعلم الجمال، تحرك بلند ووافقه مظفر ولم أعارض أنا. بعد ساعة، كان المجلس قد التأم في بيت بلند؛ تعرفت إلى الطبيب الرسام قتيبة الشيخ نوري وزوجته الدكتورة سميرة والطبيب رافد صبحي أديب وناظم رمزي، وكان الرسام جواد سليم حديث الجميع، إلا أنا، فقد كنت حديث عهد بالأجواء الثقافية، ولكني كنت مستمعاً متطلعاً بلهفة إلى ما كان يقال. استنفد حديث الرسم أو اختُصر فانطلق مظفر يغني، ففوجئت بصوته ينطلق بالغناء على طبقة عالية فدوّى صوته، ومن دون أي مقدمات. كانت مادة الغناء موّالات من جنوب العراق كنت قد مررت عليها من دون اكتراث ولم أتمعّن في معانيها قبل تلك الجلسة. لا أذكر كيف بدأتُ أنا بالغناء، إنما هكذا وجدت نفسي أُغني وأجرُّهُم معي إلى عالم الغناء البدوي وألحظ عليهم الانتباه الشديد والتطلع المبتهج. وحين أتيتُ على بعض الأغاني المعروفة رافقني مظفر، وكان يداريني ويتبعني كي لا أتراجع عن الغناء. في تلك الليلة أيضاً ترسّخت بيني وبين مظفر علاقة غنائية، إذ كان أسلوب غنائه جديداً عليَّ ومثيراً لي. وربما في تلك الجلسة سمعت منه اسم المغني بول روبسن لأول مرة. أما هو فقد أنِسَ لألوان الغناء البدوي الذي قدمتُهُ ولم يستغرق وقتاً طويلاً في الجلسات اللاحقة حتى قبض على ناصية اللهجة البدوية وحفظ بعض النصوص الشعرية القصيرة. ما كان بلند في حينها جدياً في استماعه إلى الشعر أو الغناء البدوي، ولكنه كان يستلطف طريقتي في الأداء ويطلب مني دائماً أن أغني له نصاً من لون «النايل» يخاطب «التيل» أي أسلاك الهاتف الممتدة عبر الصحراء، قال إنه كان يحفظه منذ صباه:

«يا تيل يابو عمَدْ، إسرعْ وْجيبْ اخبارْ

فارقتُهم من جَهَلْ ، مدري ورايْ شصارْ»

تكررت تلك الليالي المثيرة لنا جميعاً، فقد وجدت فيهم قوماً أتعلم منهم كل لحظة شيئاً كنت أحتاج إليه وأبحث عنه، أما هم فربما وجدوا فيَّ كشخص قروي، جانباً إنسانياً وفنياً غريباً عن عالمهم المديني. المهم أنني كنت أشعر بالراحة وأجد الترحيب والودّ الصادق.

صرنا أنا ومظفر نغني سويةً كثنائي أو نتجاوب في الأداء، وكثيراً ما ندخل في أجواء ملحمية تتحول إلى شكل درامي يوهم السامع أن أوبرا عربية تولد في طيات تراثنا الغنائي المهمل. فكلانا يملك صوتاً قوياً مطواعاً لأداء ألوان الغناء العراقي الريفي والمَديني. وكلانا يمتلك ثقافة غنائية مناسبة. المهم أننا طوّرنا هذا الشكل الحواري شكلاً ومضموناً وخاصة أثناء وجودنا سوية في سجن النقرة، إذ كنا نقدم أمسيات للشعر والغناء مرة أو مرتين في الشهر في الأقل. كما كنا سوية في لجنة الأدب التي ضمّت عناصر معروفين على نطاق البلد، ما أعطاها زخماً ملحوظاً وأكسبها احترام السجناء. فرئيسها المحامي والشاعر المعروف ألفريد سمعان وأعضاؤها من الشعراء والقصّاصين والنقاد والفنانين المعروفين على نطاق العراق، بل وعلى نطاق الوطن العربي أبرزهم مظفر ويوسف الصائغ. لم تقتصر أعمال اللجنة على إقامة الأمسيات الأدبية، بل امتدت باتجاه المسرح الدرامي والفعّاليات الموسيقية والغنائية، وتوزعت المسؤوليات حسب الاختصاصات، فكان نصيبي تقديم الأمسيات التي تُعقد حول المواضيع التي ترتبط بحياة البدو والفلاحين وشؤون الزراعة انطلاقاً من علاقتي بالفولكلور وشعر البوادي والأرياف، ما أكسبني شعبية واسعة بين الفلاحين الذين كانوا يكوّنون نسبة عالية من السجناء. تركزت هذه الشعبية وزاد اتساعها بفعل الأمسيات الغنائية التي كنت أقدمها مع شاعر عملاق يحفظ الجميع قصائده الشعبية والفصحى ويحظى هو منهم بكل الحب والاحترام وهو مظفر النواب، ذلك الشخص المتعدّد المواهب: فهو مفكر كبير ومناضل صامد وشاعر فذّ. وهو رسام موهوب وكاتب مسرحي ومخرج فني. هل يكفي أن نقول هذا ونسكت؟ لا.. فهذا الإنسان الواسع القلب أثبت أيضاً أنه قائد قدير في أحلك الظروف وأعقد الأوقات. كل هذه المواهب العظيمة قطعته عن الوظائف الرسمية فظَلَّ، في الخمسين سنة الأخيرة من عمره منقطعاً لعالمه الواهب، وخصوصاً للشعر والرسم. قدّم مظفر عدداً لا يُحصى من الأمسيات الشعرية النوعية وقرأ فيها ما لا يُحصى من القصائد الجديدة التي حفظها الجمهور ومنعتها السلطات.

حقيقة أن بيت النواب كان مسرحاً فعلياً لطقوس الأحداث التاريخية المأساوية في استشهاد سيدنا الحسين وآل بيته، وما توحيه تلك الطقوس في نفوس الأطفال؛ بفعل الحركة الدرامية والنصوص الشعرية والإيقاعات الموسيقية، قد أثرت في إغناء خيال مظفر الطفل الموهوب ذي الحساسية الفنية العالية. تزامنت بدايات الموهبة الشعرية لدى مظفر مع نمو وازدياد الحركة السياسية في العراق في بداية الخمسينيات من القرن الماضي. وكانت لفترة الدراسة الجامعية في كلية الآداب ببغداد، نكهة خاصة في حياة مظفر الرسام، إذ كانت من الفترات الغنية بالنشاط الفني المنطلق إلى أبعد من الحدود الوطنية والقومية.

معترك الحياة العملية في خضم الأحداث السياسية هيّأ الفنان الأديب مظفر لكي يأخذ مكانه في الصفوف الأولى بين أبناء جيله، لكن الطاقة الشعرية المترقّبة بعثت أهم رسائلها عبر قصيدة الحب الشهيرة «الريل وحمد»، حين نشرتها مجلة «المثقف» عام 1959. هنا أفسح الرسم مكاناً للشعر، فتوالت القصائد التي أبهرت القرّاء بما قدمته لهم من لغة محكية رفيعة المستوى نقلت ما كان يدعى بالشعر الشعبي إلى مراحل أعلى وفرضت احترامه على محبّي الأدب والفن.

لا يمكن، لمن يتحدث عن مظفر أن يتجاهل سنوات التشريد والسجن، ففي قلب الصحراء الجنوبية في العراق وعلى مسامع السجّانين تجاوبت وهاد الهضبة النجدية مع صفاء صوت مظفر في قصائده الملحمية باللغة العربية الفصحى، تلك القصائد التي سجّلت أهم أحداث تلك الفترة الدامية من حياة العراق فكانت شاهداً على أن الشعر يتخطى حدود اللغات واللهجات.

عام 1969، رحل مظفر إلى بيروت واستقر هناك إلى أن بدأت الحرب الأهلية اللبنانية فراح يتنقل من بلد إلى آخر حتى استقرّ في ليبيا. ولكنه غيّر مقره إلى دمشق وظل لا يغادرها إلا ليعود إليها. هذه المرحلة الطويلة نسبياً قدّمت مظفر شاعراً عربياً يحفظ قصائده الشباب العربي الغاضب على الأوضاع السياسية السائدة في كل مكان. وهذه المرحلة أيضاً حدّدت موقفه وعيّنت مكانه في الأحداث السياسية العربية وقضية فلسطين محور هذه السياسة.

لا يمكن إغفال الجانب الإنساني العاطفي لدى هذا الشاعر؛ لأنه لم ينسَ يوماً أنه إنسان يملك قلباً عامراً وقادراً أن يحب بصدق وعمق، الأمر الذي مكّنه من الغور في نفوس المحبين والتعبير عن مشاعرهم وعواطفهم ومسّ جراحاتهم بلغته الشفّافة وخياله المُحَلِّق.

وفوق هذا وذاك، فمظفر النواب شاعر لم يدركه شاعر عربي آخر من أبناء جيله في الوصول إلى المواطن العربي بهذه الشهرة المطلقة ومن غير التسويق الإعلامي الذي تتبناه الحكومات، بل بالرغم من منع دواوين شعره أن تباع في الأسواق.

*باحث ومطرب وأكاديمي عراقيّ

————————–

«مواويله» طَبعت الأغنية العراقية!/ حسين السكاف

«الفترة الذهبية» تسمية أطلقها العراقيون على فترة السبعينيات التي عاشت في كنفها الأغنية العراقية أحلى سنواتها. هذه التسمية التي راقت كثيراً للمشتغلين في عالم الموسيقى والأغنية العراقية منذ ذلك الحين، هي اليوم تؤرّق مطربي وملحّني وحتى شعراء وقتنا الحالي، كونها أصبحت طموحاً يحاول فنان اليوم الوصول إليه. لكن ما الذي يميّز تلك الفترة حتى تحظى بكل هذا الاهتمام؟ إنّها ببساطة ظاهرة الصورة الشعرية الجديدة التي حملتها الأغنية السبعينية. في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، ظهر على الساحة الغنائية العراقية شعراء تميّزت قصائدهم بحسّ شعري رقيق وصور حديثة لم تعرفها الأغنية العراقية من قبل، وبالتالي فإنّ الأذن العراقية صارت تسمع مفردات وجملاً ذات وقع خاص،ولا سيما تلك التي تحكي قصص العشق وتستعير مفردات الطبيعة لتكون صورة تحاكي عيون الحبيب وشعره وأحلامه الليلية. وقد مثّلت الأغنية السبعينية بالفعل الوجه المضيء للثقافة العراقية بقصائد شعراء مثل ذياب كزار «أبو سرحان» الشهير بأغنيتي «القنطرة» و«بنادم»، وزامل سعيد فتاح «المكير»، وزهير الدجيلي «الطيور الطايرة»، وكاظم الركابي «يا نجمة»، وطارق ياسين «لا خبر»، وجبار الغزي «يكولون غني بفرح»، وناظم السماوي «يا حريمه»، وغيرهم. إنهم في الحقيقة شعراء أغنية بامتياز، منحت قصائدهم المغناة الأذن العراقية دروساً في التذوّق الشعري، وحرّرتها من بكائية ونواح الغناء الريفي، إلّا أننا نجد الشاعر مظفر النوّاب وقد تصدّر قائمة شعراء أغنية الفترة السبعينية رغم أنه لم يطرح نفسه يوماً، شاعراً غنائياً!

إنها الحقيقة، النواب لم يطرح نفسه شاعراً غنائياً، ولم يكتب قصائد غنائية بالشكل المتعارف عليه، إلا أننا نجد العديد من قصائده وقد تحوّلت إلى أغنيات سرعان ما تملّكت موقع الصدارة في الذاكرة العراقية، ومنها ما تحول إلى أمثال شعبية يتداولها الناس. لكن، هل قصائد النواب ـــ العامية منها على وجه الخصوص ـــ صالحة لتكون أغنيات يسمعها أبناء المجتمع على اختلاف مستوياتهم؟ وهل تأخذ الأغنية المكانة الرفيعة نفسها التي تتمتّع بها قصيدة النوّاب، الشاعر المعروف بقصائده الغاضبة المليئة بالدمع والدم وطلب الثأر والحثّ على الثورة، والجرأة في شتم الحكام وتعريتهم؟ الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها تتوقف بكل تأكيد على ثقافة الملحن ومعرفته الموسيقية وحسّه الشعري الذي يختار على أساسه النص الشعري. هناك من نجحت اختياراتهم لقصائد النواب مثل الملحّن الراحل كمال السيد الذي لحّن قصيدة «يا ريحان» للمطرب فاضل عواد، وقصيدة «مضايف هيل» للمطرب سامي كمال، وكان قد سبقه الملحّن محمد جواد أموري في لحن قصيدة «الريل وحمد» التي أدّاها ياس خضر. هذه القصيدة التي لحّنها أيضاً الملحّن كوكب حمزة وقدمها للمطرب الشاب علي رشيد، ثم نجح الملحّن طالب القرغولي في اختيار قصيدة النواب «زرازير البراري» أو «حن وآنه أحن» كما تسمى شعبياً، وقد سمعها الجمهور بصوت ياس خضر الذي يتمتّع بخصوصية حزن الطقوس الحسينية وبكائها. طالب القرغولي اختار أيضاً قصيدة «روحي» للنواب، لكن رغم التغييرات التي أجراها على القصيدة لتنسجم مع جوّ الأغنية العراقية آنذاك، إلّا أنها بقيت بخصوصيتها بعيدة عن مجال الأغنية وغير مؤهّلة لتكون أغنية يسمعها عامة الناس، كونها كُتبت على شكل رسالة عتاب إلى الحزب الشيوعي العراقي في ذكرى ميلاده. لهذا نجد الأغنية قد وقعت في فخ الفهم الخاطئ، حين غناها ياس خضر بصوته البكائي الحزين، حيث تلقّف الناس جملة شعرية وردت في القصيدة «الأغنية»: «عمر واتعدى الثلاثين… لا يا فلان». شاعت هذه الجملة بين الأوساط العراقية وجعلت العراقي يخاف أن يتجاوز عمره الثلاثين عاماً، كونه ــ وكما فهم ببساطته ــ يشكل بداية الشيخوخة، فالمطرب وتماشياً مع اللحن كان يؤديها بحزن وأسف… قصيدة أخرى اختارها القرغولي وقدّمها بصوت ياس خضر أيضاً هي «ليل البنفسج» ليستمر التعاون مع القرغولي وخضر حتى فترة قريبة، قدموا للمستمع العراقي والعربي العديد من الأغاني المغرقة بكلمات الحزن والأسف والبكاء. اختيارات القرغولي غالباً ما تكون من نصيب القصائد الحزينة والبكائية، مثل قصيدة «يا ليل» للشاعر زامل سعيد فتاح وغيرها من الأغنيات الغارقة بحزنها وشكوتها، حتى صار الملحن والمطرب، عنوان الحزن في الأغنية العراقية على عكس طبيعتها وأجوائها الحقيقية… أما المطرب فؤاد سالم، فقد غنّى من قصائد النواب، قصيدة «عودتني» و«أيام المزبَّن» وقصيدة «ترافه وليل» من ألحان كمال السيد.

ما من قصيدة لمظفر النواب تحولت إلى أغنية إلا وكان الجدال وبعض المشاكل مرافقةً لها، فقصائد النواب في العشق والغزل وذكريات الأيام الجميلة، لا تخلو من كلمات وجمل يصعب إدخالها إلى جو الأغنية لو أخذت منفردة، وهذا ما يتطلب بعض التغييرات عليها. تغييرات تأتي غالباً بعيداً عن مصلحة القصيدة وبنائها. هذا ما حدث مع المطرب سعدون جابر الذي اختار قصيدة «مو حزن» ذات الخصوصية العالية، التي يصعب تقديمها كأغنية تطوف أرجاء مجتمع تتغلب فيه نسبة البسطاء والأميين على غيرها، فلا ندري كيف ستقنع الأغنية الفلاح العراقي بأن هناك بلبلاً يستيقظ من نومه متأخراً كأنه موظف كسول! كما جاء في أحد مقاطعها: «مو حزن/ لكن حزين… مثل بلبل كعد متأخر/ لكَه بالبستان كله بلايا تين…» وكيف سيقتنع العارف بقصة البلبل الذي علَّم البابليين صناعة الخمر من التمر، حين تطرح الأغنية ثمرة التين بديلاً عن التمر.

والحقيقة أن أجمل ما قدّم مظفر النواب من قصائد في الأغنية العراقية، هي تلك التي جاءت على شكل مواويل، فالموال العراقي يعتمد الحزن والأنين والمغالاة بإظهار الوجع، تماماً كما هي قصائد النواب. وقد كان للمطرب الراحل رياض أحمد حصة الأسد من إعجاب الجمهور بقصائد النواب، لما أضاف إليها صوته من حلاوة وقدرة أداء عالية.

لسان حال العربي المقهور

في ذلك الوقت، كان يعرف أن العربي الحامل لهمّه على جوعه وعوزه، قارئ غير جيد. ويعرف أيضاً، أن الهمّ الذي تعتمره دواخله على شكل قصائد، لا يمكن أن يكون مرحّباً به في مهرجانات وقاعات «الشرطة الحاكمين». في ذلك الوقت، اهتدى مظفّر إلى صوته، ليحمل قصائده على أشرطة الكاسيت ويدخل البيوتات العربية. وعلى حين غرّة، صار العربي المقهور بأحلامه وجوعه وأوجاع النكسة، يسمع من رحم آلة صغيرة صوت شكواه ويرى حمم بركان روحه المقهورة تتقاذف أمام عينيه، صار يسمع كأنه هو الذي يردّد «الآن أعرّيكم/ في كل عواصم هذا الوطن العربي، قتلتم فرحي/ (…) تعالوا نتحاكم قدام الصحراء العربية كي تحكم فينا/ (…) يا شرفاء مهزومين/ ويا حكاماً مهزومين/ ويا جمهوراً مهزوماً…». هكذا أدخل مظفر النواب الشعر إلى بيوت الأميين والبسطاء الكسبة، حطب الثورات ونارها ورمادها.

استطاع بقصائده زحزحة العديد من الجدران والحواجز، وتجاوز المحظورات التي بُنيت بوجه أيّ مُنتَج إبداعي «تحريضي» تحت ذريعة قدسية السلطة. تهاوت الحواجز (داخل الروح البشرية القلقة الخائفة) أمام قصائده، ليس بفعل قسوة الكلمة، ولكن بقوة موقف اتّخذ من الشعر وسيلة تعبير وإن بقي محض شعار تحريضي. صحيح أن قصائده تميّزت بالشتائم، إلّا أنها كانت متنفّس البسطاء، ومصدر تهدئة غضبهم الداخلي، وكانت أيضاً، سبباً في اتّساع جماهيرية النواب عربياً، حتى صار مثار اهتمام الشارع العربي. لقد أضافت «شتائمه» قيمة الشجاعة لقصائده، تلك الشجاعة التي كانت خافية في العديد من نتاج الشعراء. قصائد النواب وإن تجاوزت الخطوط الحمر، وأحدثت ثورة في المفهوم «التعبوي» للقصيدة، إلّا أن بعضهم يرى في قسوتها وجسارتها في كشف عري الدسائس والمهادنات والتنازلات التي يقدّمها العرب بشكل مستمر، إنها في الحقيقة ثورة لم تتجاوز حدود النفس البشرية. ثورة داخلية قمعت حسّ الثورة الحقيقية التي كان لها أن تُترجم على أرض الواقع: «الشعور المر داخل روح المواطن العربي الغاضب، تبخر بفعل سخونة القصيدة الشاتمة…».

ما من شك أن مظفر النواب يشكّلُ ظاهرة شعرية خاصة في الشعر العربي المعاصر. إنه شاعر معارض بامتياز، ومن يعرف النواب، يعرف موهبته في الرسم، ويعرف أيضاً حلاوة صوته، فهو مطرب من طراز خاص أثنى عليه الملحّن كوكب حمزة عندما سألناه عن أجمل «قرار» في الأصوات الغنائية العراقية فقال: «مظفر النواب». يضاف إلى هذا أن النواب يمتلك موهبة التمثيل. لذا فإنّ إلقاءه لقصائده يمتلك تأثيراً خاصاً على روح المتلقّي، فقصائده الملقاة من منصة المسرح غالباً ما تأتي بإيقاع طربي مؤدّى بمهارة الممثل.

——————-

مظفر النواب

ثورة تسير على قدمين وعكازة/ حامد المالكي

التقيته للمرّة الأولى في مقر «الحزب الشيوعي» العراقي في دمشق، ربما قبل عقد تقريباً. كان يسير بصعوبة، يتكئ على عكازة قديمة، فمه مذهول وعيناه تنتقلان في المكان، كما لو كان يبحث عن دهشة. جلس على أحد المقاعد الأمامية، كان يوم تكريم الرسام العراقي جبر علوان، وبسبب صغر القاعة وعدد الكراسي القليل، وقفت على الجانب أنظر إليه، بعد دقائق، شعر بالتعب، غفا على الكرسي، لم أشأ أن أوقظه، تركته يحلم، ورحت أسترجع برأسي سيرته الطويلة. أينما هنالك من ثورة، تجد مظفراً، أهوار العراق والهرب إلى قرى الجنوب التي ستحوله بلهجتها إلى شاعر شعبي أشهر منه شاعر حرِّ، درابين بغداد الموغلة بأسرار الانقلابات العسكرية والمؤامرات السياسية، وأوراقه المليئة بالشتائم الثورية الغاضبة. هذه الشتائم التي أجد أنها هي التي جعلت من مظفر النواب ينال هذه الشهرة عربياً، فالعربي يحب الشتم والشتائم، ولأن «العربي» أخرس أمام حاكمه، أحب النواب الذي شتم كل الحكام العرب بــ «أولاد القحبة»، هذه الكلمة التي تناقلتها الذاكرة العربية الشعبية على أنها نصر خجول. تجد مظفر في ظفار، وفي إريتريا، وفوق جبال كردستان، وإذا هدأ، يذهب إلى السجن. لكن هذا الهدوء يتحوّل إلى نفق سري، يحفر في سجن الحلة، يهرب منه مظفر ليجد نفسه في مرأب نقل عام. السجن كان أقرب إلى المدينة ممّا كان يظن، يواصل ثورة هربه إلى إيران، كان هذا بعد أحداث الحرس القومي في ستينيات العراق الحارقة. كان يريد الوصول إلى روسيا، قلعة الشيوعية، وصل إلى البصرة ومنها إلى إيران. هناك يعتقله الشاه ويودعه السجن، السلطات الإيرانية تسلّمه إلى السلطات العراقية من جديد، يُحكم عليه بالإعدام، تخفّض العقوبة إلى السجن المؤبد، ثم يطلق سراحه. ينشقّ الحزب الشيوعي العراقي إلى قيادة مركزية تؤمن بالثورة، ولجنة مركزية بقيادة عزيز محمد. هذا القسم اشترك مع حزب البعث الحاكم عام 1969 بما يعرف بالجبهة الوطنية، أين تتوقع أن تجد مظفر النواب؟ بالتأكيد مع الجماعة التي تبحث عن الثورة، أي مع القيادة المركزية. يودع السجن من جديد، يزوره صدام حسين، كان في وقتها نائباً لرئيس الجمهورية، أخرجه من السجن، أعطاه مسدساً شخصياً ليحمي نفسه من بقية رفاقه المنشقين – كما برّر صدام سبب هذه الهدية – رفض مظفر قبولها، طلب بدل المسدس أن يُسمح له بالسفر إلى بيروت لطبع ديوانه الشعري. سمح له صدام بذلك، سافر إلى بيروت واستقرّ بينها وبين دمشق، ليجد عش راحته في عمارة قديمة في الطابق الثاني منها في شارع الباكستاني. عندما التقيته في هذه الأمسية الثقافية، شعرت بأن ثورة هذا الرجل ــــ كان يومها تجاوز السبعين من العمر ــــ قد هدأت، إلّا أن أصابعه التي كانت تضغط على عصاه بقوة حتى وهو نائم، توحي بأن ما زال هنالك متّسع من الغضب بداخل الرجل. مظفر النواب روح أبية، فقد زاره سياسي عراقي كبير وقدّم له مبلغاً كبيراً من المال إلّا أنّه رفضه. لم يأخذ من الحكومة العراقية إلا جواز سفر ديبلوماسياً أرسله إليه صديقه التاريخي رئيس العراق السابق مام (عم) جلال، يشترك مظفر مع جلال بخفة الدم وروح النكتة والدعابة. وربما هذا سبب التقارب بينهما، إضافة إلى ما عُرف عن الرئيس جلال حبه للشعر العربي والشعراء خاصة من رافقه في منافي المعارضة. أرسلت إحدى القنوات الإخبارية العربية الشهيرة رسولاً ومعه مبلغ ماليّ كبير لمظفر النواب لإجراء حوار تلفزيوني، الرجل رفض، لأنّ توجّهات هذه القناة لا تنسجم مع حقائق الأمور في العراق وتغيير النظام السياسي فيه بعد عام 2003. كان آخر لقاء تلفزيوني له في قناة عربية عام 1996 مع MBC وقد اشترط عدم قطع ما قاله في اللقاء. رفضت القناة ــــ ربما تحدث بما هو خارج حدود النص العربي ــــ رفض هو بدوره السماح لهم بعرض اللقاء ولم يُعرض. زار العراق عام 2011، تجوّل في سيارة، لعدم قدرته على المشي في شارع المتنبي. كانت عيناه حزينتين من وراء نافذة السيارة التي يحيط بها العشرات من محبيه. كان ينظر إلى الشارع بصمت وألم، كأنّه ينظر إليه نظرة الوداع الأخيرة. وربما، كان ينظر إلى حصاد سنين عمره التي ضاعت في المنافي والسجون والثورات الشعبية، وبين أسطر أشعاره التي صارت أغانيَ عراقية دافئة خالدة في الذاكرة العراقية. تُرى، أكان سعيداً بما حصل للعراق بعد 2003؟ هل توقّع أن ينتقل العراق من فم ديكتاتور، ليقع فريسة اللصوص من السياسيين والإرهابيين القتلة؟ وربما يفكّر بصمت، هل ثمة بقية من العمر لنضال جديد… ولعله يردّد بصمت: «روحي ولا تكلها: شبيج، وانت الماي، مكطوعة مثل خيط السمج روحي، حلاوة ليل محروكة حرك روحي».

* سيناريست عراقيّ

——————————

 صعلوك عصري بنبرة مجروحة/ علي كريّم

عُرف مظفّر النواب كأحد أبرز الأصوات الشعرية الثورية في القرن العشرين، إن لم يكن الأبرز. عوامل عدّة أنتجت تلازماً كبيراً حدّ الاتّحاد بينه وبين الرفض والانقلاب والمنفى ومفرداته وتجليّاته في الحياة الحديثة. يمكن لنا بالنظر إلى تجربة الشعر عند مظفر أن نُعاين ملامح صورة مكتملة لصعلوك عصري، حيث الكائن مُشبع بالخيبة والمثالية، ولا أدلّ على ذلك من نبرته المجروحة الحالمة. وفي لومه الدائم، طوال مسيرته مع الشعر، للواقع الخائب والهزائم المتتالية للإنسان الحالي بشكل عام توصيفٌ واضح لتلك الحالة.

بغضّ النظر عن مفردات النقد الأدبي وما لها من تحليلات، على قلّتها، في الحالة النوابية، فإنّ أبرز ما يميّز ظاهرته، وهو ما يُعتبر أساساً في التعاطي مع شعره وفهمه، هو صوته وطريقته في قراءة شعره. فقد عمد إلى إلقاء قصائده برفقة العود أحياناً كثيرة، فضلاً عما تركّز في أدائه صوتياً من غنائية وحساسية مفرطة تتناسبان مع مفردات القصيدة، وما فيها عند النواب من حزن وحنين وتفجّع، وصولاً إلى هجائه الفاحش للأنظمة العربية وحكّامها، وبهذا لا تسهل مقاربة نصه الشعري من دون الالتفات إلى هذا الجانب الأصيل في قصائده. يمكننا بالرجوع إلى سيرته أن نستشفّ مرجعيات هذه النبرة الغاضبة المشبعة بالحزن، وأن نفهم كيف انحاز إلى القصيدة المنبرية الدائمة التقريع، خصوصاً السياسية منها، فما تحفل به حياته من تأثّر بالموروث العراقي الحزين بكل تشكّلاته من موسيقى ومواويل وقصائد شعبية وشعر ومواكب عاشورائية، إضافة إلى ما تعرّض له من قمع وسجن وما مرّ عليه من أزمنة العراق والمنطقة العربية من تخبّط على جميع المستويات كفيل بأن يكشف لنا الكثير مما تحتويه شخصية النواب وشعره على حدّ سواء. ففي ستينيات القرن الماضي، حُكم عليه بالإعدام، بعد سلسلة مُضنية من الملاحقات والتخفّي، على خلفية الصراعات ما بين الشيوعيين والنظام الحاكم آنذاك، وقد قضى فترة منها في الأهواز هارباً؛ ما أتاح له فرصة للتعمّق في النسغ العراقي أكثر فأكثر، ويُشير النواب إلى تلك الفترة بتفاصيلها في قصيدته «بكائية على صدر الوطن»، إذ يقول: «قاومتُ الاستعمار فشرّدني وطني/ غامتْ عيناي من التعذيب/ رأيتُ النخلةَ… ذات النخلة/ والنهر المتشدّق بالله على الأهواز/ وأصبح شط العرب الآن قريباً مني/ والله كذلك كان هنا/ واحتشدَ الفلاحون عليَّ».

انتفض النواب بالقصيدة إذاً، شتم الذات العربية المتهالكة، وشكّلت قصائده سجلاً لفضيحتها وكشف تستّرها بالشعارات الواهية، كما في قصائده «القدس عروس عروبتكم» و«وتريات ليلية» و«الأساطيل» التي تناولت تزلّف الحكام والنكبات العربية والصمت والتخاذل الشعبي، بلغة منسابة متفجّرة تفيض فيها صور متفاوتة الجمالية، إلّا أنّ لها ذروات خاطفة دقيقة التعبير. ولم تقتصر تجربته على الشعر الفصيح، فله الكثير من القصائد العامية حتى إن بدايات شهرته كانت مع تلك القصائد وقد أخذت حظّها من الشهرة والدراسة من خلال تحوّلها إلى أغنيات شعبية مثل قصيدة «الريل وحمد» الشهيرة التي كُتبت بين عامَي 1956 و1958 ويقول النواب نفسه إنّها فتحت بمفرداتها المتداولة بين الناس أبواباً جديدة للقصيدة العامية وإنه كتبها متأثراً بممارسته للرسم والأجواء الموسيقية في عائلته، ذلك أن القصيدة تتابع برسم صور متعدّدة عن العراق وبيئته الشعبية كما يُظهر مطلعها: «مرّينه بيكم حمد/ واحنه ابقطار الليل/ واسمعنه دكّ اكهوه/ وشمّينه ريحة هيل»، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الدراسة المهمّة التي أعدّها حسين سرمك حسن بعنوان «الثورة النوابية» التي تناولت إبداعية النواب في شعره العامي خصوصاً.

تُخرج القصيدة عند النواب في كثير من تفاصيلها من عباءة التراث العربي، بمطالعها الغزلية في عدد كبير منها، وبتوصيفات للخمر والسُكر تتشابه مع نماذج في القصيدة العربية التقليدية، وذلك طبعاً بأسلوبه ومغايراته الخاصة، وفي بداية قصيدته «أيها القبطان» وصف جليٌّ لذلك: «اسقنيها وافضحي فيَّ الظلاما/ بلغت نشوتها الخمرةُ في خديك نثر الورد في كأسك الندامى/ وروت مبسمَ ورد نزعَ التاج وألقاه بأرواح السكارى». كذلك كانت للنواب تطرّقات إلى موضوعات تتقاطع بشكل أو آخر مع التصوّف والمتصوفة، وفي هذه المواضع تغلب على خطاب النواب لغة أشبه بالمناجاة والبوح السرائري الخافت وفيض الحميمية في التساؤل والتفكّر في الكون والإله واسترجاع فطرة ما في ذاكرة الشعور، وهذا كلّه أوضح ما يظهر في قصيدته «قافية الأقحوان» التي يقول فيها: «ها أنا أرفع وجهي لسماواتك/ لكن لا أرى شيئاً!/ وها أنت تراني/ فأنا الآن ضرير/ أترى يُبصر من لست تراه؟».

مظفر النواب القصيدة والنبرة الغاضبة حتى التحشرج وتاريخ الحزن المتجذّر الصادق بدأ تاريخ المنافي عام 1963 واستمرّ منفياً. فمروراً بمنفى الداخل والخارج، تأصّلت هذه الحالة وانسحبت على حياته كلّها وعلى شعره الذي كان مصداقاً لها.

————————–

رحيل مظفر النواب.. إعادة تشكيل الواقع على نحو أجمل/ راسم المدهون

أن نقول إن مظفر النواب، الذي غادرنا أمس (الجمعة)، ولد في بغداد عام 1934، فهذا يعني أنه عاش تاريخ العراق الحديث كله، هو الذي اختار منذ صباه أن يكون شاهدًا فاعلً،ا وأن لا يكتفي بالمشاهدة المحايدة، أو عن بعد. فتجربته الشعرية حملت دومًا حمَى تفاعله اليومي، واحتدام روحه بكل تلك الآمال التي جاشت في نفوس أهله وأبناء وطنه في الريف العراقي الجنوبي بالذات، كما في المدن الكبرى التي عاش فيها، فوزّع صوتيه على نغمتين تجود أولاهما بالشعر العامي الذي صار من أهم روّاده ومطوريه، كما بشعر الفصحى الذي واصل فيه ومعه رحلته مع الغضب، خصوصًا بعد أن غادر العراق، وصار يخاطب بشعره العرب كلهم.

لافت أن بداياته الشعرية عاصرت بدايات حركة الشعر العربي الحديث، التي كان العراق أبرز ساحاتها، ولكننا مع ذلك نلحظ غيابه عن ذلك المشهد التجديدي العاصف بسبب انشغاله خلال تلك المرحلة بالقصيدة العامية التي كرّس كل طموحاته في التجديد فيها، فأعاد الشعر العامي العراقي إلى المعاصر والحداثة، ونجح في زجه في أتون الوقائع الجديدة، ومكنه من مواكبتها والتعبير عما فيها من آلام، ومن صراعات كبرى منحت هذا اللون من الشعر مكانة أعظم وأكثر اهتمامًا، وجعلته أداة فنية لها جمهورها الواسع الذي ما لبث أن تجاوز العراق إلى البلدان العربية الأخرى.

مظفر النواب شاعر عرف كيف “يستنفر” اللغة، وكيف “يستفز” الكلمات كي تكون حاضرة في مقام التحريض، وأن لا يكون حضورها عابرًا يتلاشي، بل متواصلًا في نفوس قرائه ومستمعيه في “لعبة فنية” استفادت من فني الخطابة والمسرح في ارتباط حيوي بالحياة ذاتها: في الذاكرة قصيدتاه العاميتان الأشهر “البراءة”، و”سعود”، مثلما في الذاكرة أيضًا، وبالقوة ذاتها، قصيدته الملحمية الفصيحة “وتريات ليلية”، من دون أن تغيب من البال قصائده “العاطفية” التي أخذها الجمهور على محملي المباشر والرمزي، ومنها بالذات “البنفسج”، التي أبدع في تلحينها الراحل طالب القرغلي، وغناها بأداء آسر ياس خضر، فظلت حاضرة في النفوس، وقابلة للاستعادة والجدل حولها وحول معناها وضفاف معانيها وغاياتها.

سيلحظ قارئ شعر مظفر النواب أن غضب شعره حمل دومًا روح الحزن في نفوس العراقيين وأرواحهم، فامتزج بالغناء والمواويل الشعبية، لكنه عند النواب أخذ قوة تضعه في مقام الجمال، خصوصًا وقد امتزج ذلك الحزن بتأمُل عميق في المحيط الواقعي، كما في الذاكرة الجمعية، وأطلق رؤى الشاعر الذاتية الفردية على نحو عميق لم تعرفه القصيدة عند غيره؛ تلك اللغة المنسوجة من وجع زمان العراقيين وعذاباتهم وجدت بحّة صوتها في شعر مظفر الذي كان يتنهد ويقول “مو حزن لكن حزين”.

هي قصائد المخيلة المفتوحة على التاريخ، وما تركه لنا من وقائع كبرى، لكن أيضًا ما تركه من أبطال وصل بعضهم حد الأسطورة، فعادوا يطلون من خلال قصائدهم وكأنهم شخصيات الحاضر الراهن ورموزه، يستعيدهم الشاعر في اتصال بين الأزمنة ينبئ عن وحدة الصراع وتواصله بالرغم من القرون.

في “الريل وحمد”، وجع الريف العراقي، وحنين الفلاحين إلى الحياة البسيطة، ولكن العميقة، التي تجعل القطار، أو “الريل” بالعامية العراقية، رمزًا للترحال، مثلما هو رمز للحنين وعلاقة الريف الفقير والمهمل بالمدينة الكبرى وصراعاتها. تلك البدايات الأولى رفعت الراحل مظفر النواب إلى مكانة خاصة في شعر العامية العراقية، بل في شعر العامية العربي الذي ضمّ كوكبة من الكبار، منهم بيرم التونسي، وصلاح جاهين، وعبد الرحمن الأبنودي، في مصر، والرحابنة، وميشيل طراد، في لبنان.

بين هؤلاء جميعًا كان حضوره مختلفًا، إذ هو ذهب إلى أقاصي الرؤية العميقة للحدث الاجتماعي، كي يأتي من هناك بالصور الفادحة، والغضب الأشد فداحة، الذي جعل كثيرًا من تلك القصائد لا تجد طريقها إلى النشر بيسر، ولكن مع ذلك تنتشر انتشار النار في هشيم الحياة ذاتها، وتتمكن في كل مرّة من التأثير بقوة في من يقرؤون، أو يستمعون، خصوصًا وقد جاء نسيج قصائده من يوميات الحياة البسيطة، ومن عاداتها المألوفة للناس، حيث نجح في التعبير بطلاقة عن ملامح صور الناس، كما عن حالاتها، وهي صور كانت ركيزتها الأهم أنها لم تكن صورًا ساكنة، بل مشهدية تحاكي المسرح، وتتكئ على الدراما، فتخلق فضاءها المفتوح على المخيلة من جهة الراهن، وعلى القادم من جهة الآمال والأحلاف والأهداف الكبرى.

قصيدة مظفر النواب الشعرية توحدت إلى حد بعيد مع أهوار العراق، وروح الفلاحين في جنوبه، وجسدت ملحمة تمجيد للعذاب الإنساني، وقوة الإرادة والثبات على الموقف.

هي، أيضًا، علاقته بالسياسة، أو إذا شئنا الدقة علاقته بفكرة الثورة والتغيير، التي شكلت قوام حياته كلها، وهي علاقة تجاوزت في مراحل كثيرة تبني الأفكار نظريًا إلى الالتزام الحزبي، وما حمله له من مخاطر، ومن أذى شخصي، جعله “يرتاد” السجون، و”يسكن الزنازين”، ويأتي من هناك ببعض أهم قصائده وأشدها حضورًا، مثلما حوّلته إلى منفي دائم خارج حدود وطنه العراق. تلك حياته العاصفة التي كانت لا تشبه شيئًا قدر شبهها بوطنه العراق، وما مرّ به خلال تلك العقود الطويلة من الألم والمعاناة، وحتى الكوارث والنكبات، واشتداد الصراع في العراق وحوله، وما حمله له ولكثر من أبناء جيله من عذابات كبرى.

مظفر النواب الذي عاش تجربته الشعرية أكثر من نصف قرن يصعب تصنيفه مع آخرين، فهو يقف وحيدًا في مدرسته الشعرية، وكان لافتًا في علاقته بعنصري التاريخ والتراث معًا، ويحرص على استحضار ما في التاريخ من وقائع مشرقة دفعت بعض النقاد إلى اعتباره “شاعرًا عباسيًا حديثًا”، بالنظر لقوة عبارته الشعرية، وجزالتها، وفي الوقت ذاته صلتها العميقة بالراهن. على نحو متميز، سبر الراحل النواب الألم بوصفه “إكسير” الشعر وروحه التي تشبه نارًا لا تنطفئ ولا تخبو، بل تظل توسوس في صدور القراء الذين رآهم دائمًا يتجاوزون حالة القارئ إلى حالة الثائر الغاضب الذي يشتعل لتغيير الواقع العربي وإعادة تشكيله على نحو أجمل:

يا طير البرقِ

أخَذتَ حمائم روحي في الليل

ِإلى منبَع هذا الكَون

وكانَ الخَلق يفيضُ

وكنتَ عليّ حزين

وغسَلتَ فضاءك في روحٍ أتعَبها الطين

تَعب الطِينْ

سيرحَلُ هذا الطينَ قريبًا

تعبُ الطينْ

عاشَرَ أصنافُ الشارعِ في الليل

فهم في الليل سلاطين

نام بكل امرأة

خبّأ فيها مِن حرّ النَخلِ بساتين

يا طَير البرق أريد امرأة دفئًا

فأنا دفء

جسدا دفئًا، فأنا دفءٌ

تَعرق مثلَ مفاتيحَ الجنة بينَ يدي وآثامي

وأرى فيكَ بقايا العمرَ وأوهامي

يا طيرَ البرق القادِمَ من جنّاتِ النخل بأحلامي

يا حاملَ وحي الغسق الغامض في الشَرقِ

على ظُلمة أيامي

أحمل لبلادي

حين ينام الناس سَلامي

للخطّ الكوفي يتم صلاة الصبح

بإفريزَ جوامعها

لشَوارعها

للصَبر

لِعليٍّ يتَوَضأ بالسيفِ قبيلَ الفجرِ

أنبيكَ عليًا

ما زلنا نتوضأ بالذل

ونمسَحُ بالخُرقةِ حدَّ السَيف.

حياة مظفر النواب سمتها الأبرز الغربة والتنقل بين المنافي الكثيرة، ومنها إقامته المتقطعة في بعض المدن والبلدان الأوروبية، وصولًا إلى عودته بعد غيبة طويلة إلى وطنه العراق، وهي عودة عاشها الشاعر الراحل مريضًا غالبًا حتى أن شائعات كثيرة تحدثت عن وفاته أكثر من مرة بسبب غيابه عن الإعلام، أو غياب الإعلام عنه، هو الذي عاد إلى بغداد في ظروف لا تشبه تلك التي غادرها فيها مطلع ستينييات القرن الفائت.

مظفر النواب مغاير ومختلف، حقق تجربة شعرية فريدة، فأثار الجدل والاختلاف حول تلك التجربة، واتفق الجميع على حضوره الشعري الكبير، وأهمية ما حققه هو حضور قصيدته مسموعة بدرجة أكبر من قراءتها بسبب من كثافة الخطاب المسرحي فيها، واحتدامها بالوقائع التي تتحرك وتقص ما حدث. ليست تلك في رأيي ملاحظة عابرة بقدر ما تشير إلى علاقة تربط قصيدته بانتباهات عاشق الشعر، كما بلحظة تواصله المباشر تمامًا كما يحدث في المسرح حين تتحول “الخشبة” إلى منصة حوار يغني العلاقة مثلما يغني الحياة ذاتها.

رحل مظفر النواب في مستشفى في الإمارات العربية المتحدة، بعيدًا عن وطنه وأهله، وترك لنا إرثًا شعريًا سيظل حاضرًا في ثقافتنا وفي وجداننا.

ضفة ثالثة

————————

وائل السواح.. عرّفني مظفر على عالم القلق المرعب الجميل

متى تعرّفتُ على مظفر النوّاب؟ تفلت هذه الذكرى مني دائماً. أيكون بعد الأمسية النارية التي أحياها في مدرّج جامعة دمشق سنة 1974، فألهب بها السوريين كما كان يفعل بقصائده وإلقائه المسرحي الفاتن؟ أيكون عبر الصديق محمد عنتبلي، الصديق القديم لمظفر؟ أم أن صديقي الشيوعي العراقي العتيق، صالح الكردي، هو من عرفني عليه؟ لا أجزم. لكنني أجزم أن علاقتي به توطّدت لدى عودتي من حمص في خريف 1975. ولعلّ سبب ذلك أنني في واحد من لقاءاتنا قلت له إنني أحب شتائمه، لكني مولع أكثر بقصائده الوجدانية ومطالع قصائده أكثر؛ أحب “القدس عروس عروبتكم، فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟” ولكنّي أحب أكثر

ألقيت مفاتيحي في دجلة

أيام الوجد وما عاد هنالك

في الغربة مفتاح يفتحني

ها أندا أتكلم من قفلي

من أقفل بالوجد وضاع على أرصفة الشام سيفهمني

وافقني مظفر وقتها، بصمت، ومن دون أن يجيب، لكنه في مناسبة أخرى، قال لي إن كتابة المقاطع الصارخة من قصائده أيسر بكثير من سكب قلبه في قالب على الورق.

عرّفني مظفر على عالم من القلق المرعب الجميل، عن طريقه عرفت أميرة وسوسن شيحا (شقيقتي غياث شيحا الذي كان أعدم قبل أشهر لانتمائه إلى المنظمة الشيوعية العربية)، وعن طريقه عرفت سوسن العابد، الصبية السمراء النحيلة التي تحمل في سواد عينيها عالماً من الأسرار لا قاع له، وعرفني على فاطمة اللاذقاني التي ستصبح بعد عامين زوجتي لمدّة عامين، وستعرف أكثر باسم فادية. وانضمّ إلينا جميل حتمل ونجوى بشور، ومحمد عنتبلي، فيما سيشبه أخوية سرّية، مغلّفة بصوفية شعرية وحسّية، ستأخذنا إلى بساتين حسّان عزّت في الغوطة، وإلى الفج العتيق الذي عمره مليون سنة في معلولا، ولكنها أخذتنا أيضا إلى سراديبَ وكهوفٍ في دواخلنا بدأنا نستكشفها شيئاً فشيئاً، وندهش في كلّ مرّة نكتشف فيها سرّا جديا أو رغبة نائمة.

لكن مظفر عرّفني أيضاً على الثورة بمعناها الحقيقي. كان يروي لنا تجربته في العراق واعتقاله وتعذيبه ثم هروبه الأسطوري من السجن، فنفغر أفواهنا، في رهبة وإعجاب وتأمل. وعرفني مظفر على تجربة الحزب الشيوعي العراقي – القيادة المركزية، الذي انشقّ عن التيار الرئيسي (الانتهازي للحزب) وقاد ثورة في أهوار العراق انتهت بمذبحة كبيرة واعتقال قائد الحزب عزيز الحاج وانهياره التاريخي.

(*) مدونة نشرها الكاتب السوري وائل سواح في صفحته الفايسبوكية

—————————

صور من تشييع الشاعر نحز مثواه الأخير

الشيوعي الهادئ ابتكر مدرسة جديدة في الكتابة/ جعفر حسن

في منتصف ستينيات القرن الماضي، كنت لا أزال طالباً في معهد الفنون الجميلة وفي قسم الموسيقى حيث تتلمذت على أيدي كبار الفنانين العراقيين كالفنان الأستاذ جميل سليم والفنان جميل بشير وغانم حداد وسالم حسين وفؤاد رضا وروحي الخماش. كان شغفي بالغناء إلى جانب التلحين والتوزيع الموسيقي قد جرّني للبحث عن كلّ قديم في التراث العراقي القديم والموشّحات وكذلك الألحان العراقية الحديثة وأساليب التلحين بكلّ مدارسه ومتابعة شعراء الأغنية والتلحين لهم منذ بدايات حياتي الفنية، وكنت ألقى الرعاية والدعم في ذلك من أساتذتي في المعهد.

وأخيراً عثرت على قصيدة «للريل وحمد» للشاعر مظفر النواب بواسطة أحد الأصدقاء المهتمّين الذي حدّثني كثيراً عن النواب الشاعر الثائر المناضل الذي لم ألتقِ به بعد. فقد شدّني الحديث عن النواب أكثر لقصيدة «للريل وحمد» التي لمست فيها روحاً جديدة في نَظم الشعر الشعبي العراقي بل أسلوباً جديداً لم أعهده عند بقية الشعراء الشعبيين من حيث الصياغة والأوزان والصور. بعدها، صرت أبحث عن مؤلّفاته الأخرى بأيّ شكل؛ لأنّها كانت ممنوعة بعد الانقلاب الفاشي في 1963 وصعوبة الحصول عليها زاد من قيمتها لدى الناس، وبالأخص بيننا نحن من نحمل ذات الأفكار التقدمية الإنسانية.

عام 1965، لحّنت قصيدة «للريل وحمد» وكنت لا أزال طالباً في المرحلة النهائية للمعهد، فقد اخترت منها بعض المقاطع كي تصبح أغنية متداولة وتُذاع في الإذاعة بحدود خمس دقائق كوقت مقبول لدى لجنة فحص الأغاني في الإذاعة والتلفزيون. أسمعتُ اللحن لأساتذتي جميل سليم وروحي الخماش أحد أعضاء لجنة فحص الألحان بدار الإذاعة، حيث أبدى إعجابه كثيراً، بل وقال لي هذا اللحن يسبق عصره من ناحية الجمل الموسيقية والانتقالات، كذلك الأستاذ جميل والأستاذ الملحن وعازف القانون سالم حسين، ما شجعني كثيراً على أن أسجّل اللحن في الإذاعة، إذ كنت أعمل ضمن فرقة أبناء دجلة للموشّحات الأندلسية إلى جانب مطربين كبار يوم كان يقودها الأستاذ روحي الخماش.

لجنة فحص النصوص الغنائية وافقت على النصّ فوراً من دون نقاش لأنه مظفر النواب. أمّا اللحن، فقد قدّمته أمام لجنة فحص الألحان وكانت تتكوّن من الأساتذة روحي الخماش وعز الدين صدقي وعبد الحليم السيد ووديع خوندة وبرئاسة مدير برامج الموسيقى الملحّن علاء كامل. جميع أعضاء اللجنة وافقوا فوراً على اللحن بل أثنوا عليه إلا علاء كامل الذي رفضه وقال بالحرف الواحد: «مو زين قبلنه انرجعك للإذاعة؟ إنته شيوعي وجايب النه هالمرة مظفر النواب الشيوعي؟ هذا اللحن ما يتسجل ومرفوض»، ومن يومها ولأسباب مشابهة لم تقُم لي قائمة في الإذاعة وحوربت بشتى الوسائل والمضايقات الممكنة حتى عام 1973 حين مُنعتُ من دخول الإذاعة والتلفزيون لمواقفي وأفكاري بل ومُسحت كلّ أغنياتي ولم أعثر عليها لاحقاً وضاع كل أرشيفي الغنائي والموسيقي.

وبعد سنوات عديدة لُحنت وسُجلت الأغنية من قِبل آخرين، وغنيت وأُذيعت واشتهرت، كونهم كانوا قريبين من أصحاب القرار والمسؤولين في الإذاعة والتلفزيون ولم يعترضوا على اسم مظفر النواب، في حين بقي لحني لأغنية «للريل وحمد» خارج الإذاعة والتلفزيون وكنت أغنيها في الحفلات الخاصة فقط وبين الأصدقاء وفي المعهد.

عام 1999 تمكّنت أخيراً من إنتاج ألبوم «الغريب» على حسابي الخاص الذي يضمّ مجموعة أغاني من ضمنها أغنية «للريل وحمد»، وكان لا بدّ لي من التواصل مع شاعرنا الكبير مظفر النواب للحصول على موافقته الخطيّة لشركات التوزيع كي يتم ذلك. ومن خلال بعض الأصدقاء اهتديت أخيراً لشاعرنا وتم التواصل معه وقدّم لي مشكوراً الأغنية كهدية منه ولم يوافق على تقاضي أيّ أُجور عنها. كذلك الشاعرة الكبيرة لميعة عباس عمارة والشاعرة وفاء عبد الرزاق والشاعر رسول الصغير، ولأن الكلّ من المغتربين أسميت الألبوم بالغريب.

ومرة أخرى تعرّضت لمحاربة من نوع آخر حيث امتنعت شركة «روتانا» بعد الاتّفاق معها عن توزيع ألبوم «الغريب» الذي يضمّ أغنية «للريل وحمد» لمظفر النواب و8 أغانٍ أُخرى لشعراء آخرين ذكرتهم أعلاه. وكان سبب الرفض واضحاً كوننا معارضين أنا ومظفر النواب.

بعدها اتّفقت مع شركة «سي دي» العالمية للإنتاج الفني لتوزيع الألبوم وتصوير أغنية «للريل وحمد» بالذات. وقبل التصوير الذي كان مأمولاً أن يتم في سوريا في دير الزور ومناطق أخرى لوجود قطار وقرى وأجواء مشابهة لأجواء العراق.

وإذا بالشركة وقبل التصوير بيوم تمتنع أيضاً عن تصوير الأغنية وإلغاء المشروع كلّه بحجة أنني معارض للحكم في العراق وكذلك مظفر النواب، وأن أغنية «للريل وحمد» هي أغنية سياسية و…و… إلى آخر الحجج والحكايات، وأخبروني أن بعض الفنانين العراقيين الموجودين في الإمارات ممن أخبروهم بذلك، وقالوا لهم بأننا أنا ومظفر النواب معارضون للحكومة العراقية. وبالرغم من خسارتي ومحاربتي، فرحت جداً لهذه التهمة والشهادة القيّمة بانتمائنا للشعب العراقي كمعارضين وليس للحكومة الديكتاتورية.

كنت على الدوام أذكر في مقابلاتي التلفزيونية والإذاعية وفي الصحف «أن هناك شعراً شعبياً قبل مظفر النواب وشعراً شعبياً بعد مظفر النواب»، لأن الشاعر مظفر النواب برأيي كملحن ومغنٍّ يعدّ مدرسة جديدة في الشعر الشعبي العراقي وجاء بصور وأوزان ومفردات شعرية جميلة جديدة لم تكن معروفة قبل ذلك. عام 2000 التقيت بشاعرنا الكبير مظفر النواب لأوّل مرة حين زار دولة الإمارات حين كنت أعمل مستشاراً في مجمعها الثقافي لسنوات وكان لقائي به حدثاً كبيراً لن أنساه واكتشفنا أننا نعرف بعضنا البعض من دون أن نلتقي قبلاً، بل من خلال الأفكار والاستماع لأعمال بعضنا البعض والهدف المشترك الذي يجمعنا في الحياة. أسمعته لحن أغنية «للريل وحمد» بتوزيعها الجديد. ابتسم وقال هذا ما كنت أنتظره، إنه لحن جميل ومعبّر. تكرّر لقاؤنا أكثر من مرة بل كنا طيلة بقائه في الإمارات نلتقي يومياً تقريباً إما في منزلي أو عند بعض الأصدقاء في سهرات ولقاءات فنية وأمسيات شعرية لا تُنسى. وتكرر لقاؤنا في زيارات أخرى للإمارات وكذلك في دمشق حين زرته عام 2008 في بيته المتواضع وفي أمسيات فنية أخرى جمعتنا ببعض الأصدقاء والفنانين. يمتاز الشاعر الكبير مظفر النواب بصوت غنائي جميل ومن محبيّ كوكب الشرق أم كلثوم كما يسميها ويردّد أغانيها بشوق وقد رافقته كثيراً بآلة العود في أمسياتنا.

سيبقى مظفر النواب قامة شعرية كبيرة وقصائده وأشعاره تراثاً وطنياً تفتخر به كلّ الأجيال المقبلة.

* مطرب وملحن عراقي

————————

مظفر النواب شاعر العراق الغاضب يثير الجدل حياً وميتاً/ إبراهيم الجبين

وجه بغداد المسافر الذي رفض الاستبداد والطائفية والغزو.

الحاجة ستبقى ملحة باستمرار للنظر في هذا الشاعر

رغم صمته الإجباري خلال السنوات الماضية، والذي فرضه عليه مرضه، فحوّله إلى تمثال حي عاجز عن القيام بما كان يفعله طيلة سنوات عمره، لم يسلم الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب من سهام النقد والتشكيك والطعن حتى حين فارق جسده الحياة. فقد ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالمنشورات التي تناقلت قصائده مبدية الحزن على رحيله حيناً، وفي أحيان أخرى تلقي اللوم عليه على مواقف نسبت إليه منها ما تم استحضاره من الماضي، قبل أن تتغير المعطيات الحالية وتصل إلى ما وصلت إليه من شروخات طائفية مزقت شخصية قارئ الأدب العربي وجعلته غير قادر على التعاطي معها كمنتج إبداعي بعيداً عمّا يجري على أرض الواقع. والكثير مما تم تناقله قصص وأساطير مختلقة لا تمت إلى الحقيقة بصلة، فمن افتراء قصائد قيل إنها للنواب بعد مماته، ومحاكمته عليها، كما كان يحصل في حياته، سواء كانت تلك القصائد سياسية أو حتى غنائية عاطفية.

والأكيد بين هذا وذاك، أن النواب لم يكن طيفاً عابراً حاله حال الكثيرين ممّن مروا في المناخ الأدبي العربي عبر العصور، لقد حرص ابن ”شريعة النواب“ على أن يحفر أثره على صخر من الصعب أن يمحوه الجدل ومن المستبعد أن يطويه النسيان.

”شريعة النواب“ مكان عريق رددت اسمه الحناجر، ومن لم يسمع بـ ”بشريعة النواب يسبح حبيبي، وبجاه خضر الياس هو نصيبي“. ومن لم يطرب لذكرها في أغنية المطرب العراقي الراحل يوسف عمر ”رابط ماريده يا بابا ماريده الميرابط، يا البلام جدمن جدمن يا بابا جدمن يالبلام، بشريعة النواب أنا ماريده النوب“.

قصر النواب، حيث عاشت عائلة تنتمي إلى الطائفة الإسماعيلية عادت من سفر بعيد قاده أسلافها إليه حين كانوا ممثلين للسلطان العثماني على أقاليم الهند، لتعود بعد مقاومتها للاحتلال البريطاني وتستقر أخيراً في بغداد.

كان جده الأعلى محمد علي خان النواب الذي توفي عام 1871 في بغداد صاحب ثروة هائلة امتدت على مساحات شاسعة، وضمت البساتين والبيوت التي عرفها العراقيون مثلما عرفوا أبناء الأسرة ممن اشتهرت أسماؤهم مثل أحمد آغا ونادر آغا النواب وغيرهما، عرف الناس قصصهم وحكاياتهم وتهامسوا عن خوانم منهم مثل ثريا خانم وصفية خانم وكل هؤلاء كانوا جزءاً أصيلاً من وجه بغداد المتمدن، بما حملوا من اهتمامات وميول ونشاط تجاري وشغف بالفنون والآداب.

بيئة تخلق مبدعاً

● بغداد بأغواتها وخوانمها، واهتماماتها وشغفها، شكلت خيال النواب ● بغداد بأغواتها وخوانمها، واهتماماتها وشغفها، شكلت خيال النواب

وسط المدينة العريقة، وفيما كانت تمرّ المواكب الحسينية كان مظفر الطفل يطلّ من شرفات القصر، ويرسم بعيني ذاكرته التي سيفتك بها المرض أخيراً، صورة لنسوة متلفعات بالسواد، سيكتب عنهن كثيراً فيما بعد ويروي كيف فهم الشعر العربي القديم من خلال المشاهدة، حين فسّرت له العباءات السود والعيون التي تسترق النظر إلى المواكب من كوى القصر أبيات عمر بن أبي ربيعة ”وَكُنَّ إِذا أَبصرنَني أَو سَمعنني، سَعينَ فَرقَّعنَ الكُوى بالمَحاجِرِ، فَإِن جَمحَت عَني نَواظرُ أعيُنٍ، رَمينَ بَأَحداقِ المها وَالجآذرِ، فَإِنِّيَ مِن قَومٍ كَريمٍ نِجارُهُم، لِأَقدامهم صيغَت رؤوسُ المنابرِ“. ولم يكن ثمة مكانٌ للطائفية آنذاك لا في العراق ولا في غيره من فضاء العالم العربي. كان المنبر للأدب الرفيع وحده.

أما هو فقد صاغ لنفسه رأس المنبر منذ ذلك الحين، وعرف أن حياته ستمتزج حوادثها كما لو كانت ألواناً كتلك التي تولّع بها في ساعات الرسم والعزلة، وهو ما مضى عليه بين طَيَرَانَيْنِ، الأول في اللغة والثاني في الرسم.

كتب الكثيرون عن رحلة النواب المثيرة والإشكالية، وسيكتب الكثيرون، وستبقى الحاجة ملحة باستمرار للنظر في هذا الشاعر الذي ارتبط اسمه بالعراق وارتبط اسم العراق به، حنيناً وشوقاً وغضباً وتشكيلاً وزخرفة. وكل ذلك نشأ معه وتطوّر انطلاقاً من ذلك البيت وتلك المدينة وتحت ظلال جد كان يلقنه في ظهيرات بغداد اللاهبة قصائد الشعر العربي القديم في هيئة بقي مظفر يشبهها بهيئة شاعر الهند الكبير رابند رانات طاغور.

أول بيت كتبه كان في سن مبكرة، لم يكن يدرك أنه يمتلك تلك الموهبة، درس في مدارس بغداد وشغلته مناظرها، وانتسب إلى كلية الآداب في جامعة بغداد، وكان مستغرباً منه أن يتجه فكرياً نحو الماركسية، لأنه ينتمي إلى أسرة أرستقراطية بعيدة كل البعد عن معاناة الفقراء والكادحين. غير أنه آمن بالتغيير ولم يكن من باب له سوى الرفض الجذري للواقع، وهو ما كانت تمثله الحركة الشيوعية آنذاك التي عاداها الجميع، النظام الملكي والقوميون العرب والمجتمع، ولم تجد لنفسها متنفساً سوى في وسطين متنافرين، النخب والقواعد الشعبية المسحوقة.

عاش في السجن السياسي على طريقته، يدوّن ما يسمعه من ترانيم المساجين من غير السياسيين، العتالة والعمال البسطاء ومن يحفظون الشعر الشعبي العتيق، وأسهم في تنظيم المسرحيات وإعداد الاستعراضات مع مجموعة من الرفاق ستقودهم خطاهم إلى العالم لاحقاً وسيكون لكل منهم شأن كبير في مجاله، وكل ذلك قبل أن يقرّر مع مجموعة منهم حفر نفق سجن الحلة الشهير والهرب إلى الحرية، فراراً من أحكام الإعدام.

هرب من العراق في طريقه إلى روسيا، فكان في استقباله عناصر السافاك الإيرانيون الذين أنزلوا بها أقسى ممارسات التعذيب وأكثرها وحشية، وسلموه مجدداً إلى السلطات العراقية.

مرحلة التخفي والتواري عن أنظار السلطة حوّلها النواب إلى عالم شاسع زاخر بالتجارب، من العلاقة مع تراب العراق وأنهاره وأعشابه، إلى العلاقة مع سكّانه ومشاربهم المختلفة، لهجاتهم وأهازيجهم، معاناتهم مع الإقطاعيين التي استعار منها صوراً سيكتب عنها لاحقاً وتتحول إلى أيقونات في الذاكرة العراقية كما في قصة ”حجام البريس“ أو ”سعود“ الذي نقله النواب من ضحية كان سيتم تجاهلها إلى أسطورة شعبية.

دفتر المطر

 كانت قصيدته ”للريل وحمد“ أكثر من نقلة نوعية ليس فقط على مستوى القصيدة المكتوبة بالعامية، بل أيضاً حين لحنها طالب القره غولي وغناها ياس خضر، فعبرت بالأغنية العراقية إلى مزاج جديد، مزاج يضع الشاعر في موقع درامي داخل قصيدته فيتقمص الشخصيات الأخرى، وفي تلك القصيدة كانت الأنا الشعرية تعود إلى امرأة تعبر على متن قطار، فتنهمر مع عبورها في منطقة معينة كل الصور والذكريات والمشاعر التي أحبها الناس وتأثروا بها.

احتفلت الأوسط الأدبية العراقية بالنواب كشاعر بالمحكية، وأعجبه أنه لم يتوقف عن القصائد البغدادية الخفيفة لكنه استعار اللهجات من بقية المناطق العراقية لا سيما الجنوب، ما ساعد قصيدته على الانتشار أكثر.

غير أنه في لحظة معينة، وبعد أن تطورت لغته وأخيلته، قرّر الكتابة بالفصحى، فكانت ”قراءة في دفتر المطر“ أواخر الستينات من محاولاته الأولى:

”ولماذا استأجرتم لغة أخرى

وأبحتم وجه مدينتنا لليل

وتركتم في الهجر حروفي

كأصابع أيتام في الشباك

كزوايا فم طفل يبكي

من أقصى الحزن أتيت

لأغلق أبواب بيوت المهزومين

وأبشّر الإنسان بالإنسان“.

تلتها ملحمته الشهيرة ”وتريات ليلية“ وفيها انتقل النواب من شخصية عاشق رقيق منكسر إلى غاضب متفجر يكسّر الأفكار ومفردات اللغة ويستحضر التاريخ وإشكالاته إلى الراهن ومتاهاته.

رفض النواب لجميع الأنظمة العربية، يبرز جلياً في النقد اللاذع لها عبر قصائده، ولم تكن اللغة الجارحة، التي كان لسانه في الحياة نقياً منها، إلا وسيلة استعملها لينطق بما في نفوس الناس

وكان تغيير كبير قد طرأ عليه آنذاك، أنه اختار المنفى عن العراق بإرادته بعد لقاء جمعه مع نائب رئيس الجمهورية آنذاك صدام حسين، الرجل الذي بقي النواب معارضاً له ولسياساته في ما سيلي من مراحل زمنية، غير أنه رفض إسقاطه بالاستعانة بالاحتلال الأميركي واعتبر أن الغزو الأميركي للعراق ضياعٌ نهائي للبلاد.

لقد كانت لحظة سقوط بغداد شديدة القسوة على روح النواب، اعتبر أن مذاقها يختلف عن كل ما سبق من معاناة، وتلك لحظة نقلته مجدداً إلى برزخ لن يعود منه.

أعلن رفضه لجميع الأنظمة العربية، وكال لها النقد اللاذع عبر قصائده، ولم تكن اللغة الجارحة، التي كان لسانه في الحياة نقياً منها، إلا وسيلة استعملها لينطق بما في نفوس الناس:

”كنتُ على الناقة مغمورا بنجوم الليل الأبدية

أستقبلُ روح الصحراء

يا هذا البدويّ الضالع بالهجرات

تزوّد قبل الربع الخالي

بقطرة ماء“.

لم يتزود بقطرة الماء تلك، ولم يُصغِ إلى نصيحته الذاتية، فقطع مع الجميع، وكانت قضاياه هي قضايا الأمة العربية والعالم، لا وطنه وحسب، وحين هاجم الجميع، عرف أنه يغلق على نفسه الدائرة ليصبح محظوراً لدى الحكومات العربية وممنوعاً من دخول البلدان العربية، ولكن أيضاً مطلوباً ومحبباً في الشارع العربي وفي أوساط البسطاء، يتم تداول قصائده في النشرات السرية وفي أشرطة الكاسيت، وتعلّق نصوص قصائده إلى جانب صورة الثائر الأممي تشي غيفارا.

شبح غريب

● العراقيون طردوا المسؤولين من جنازة النواب، وهتفوا في وجوههم “برا برا” و”مظفّر للشعب مو للحرامية” ● العراقيون طردوا المسؤولين من جنازة النواب، وهتفوا في وجوههم “برا برا” و”مظفّر للشعب مو للحرامية”

كان يدرك أن هذا المسار يصنع حكايته ويحوّله إلى أيقونة من طراز خاص، مع ما عليه أن يدفع من أثمان، سيبقى يشكو منها في قصائده، لكن شكواه تلك كانت متعالية ساخرة، متهكّمة ممن يظنون أنهم بوسعهم منع صوته. وكان هذا يغريه أكثر فيواصل كسر المحرمات أكثر.

رحل إلى القاهرة فلم يجد فيها ملاذاً، وإلى بيروت التي عاش فيها جزءاً من الثورة الفلسطينية، وواحداً من مقاتليها، وصوتاً من أصواتها، وقاتل في ظفار وفي أرتيريا، وصادق الملاحقين السياسيين من مختلف الجنسيات، استضافته طرابلس الغرب، لكنه انتقل إلى دمشق لينتشر طيفه في كل مكان من تضاريسها، وهو الذي تعلّق بها وبأهلها ومناطقها المعتمة. فكتب عنها وعنهم ما لم يكتبه في أي مدينة أخرى:

”دمشقُ عدتُ بلا حزني ولا فرحي

يقودني شبح مضنى إلى شبح

ضيّعت منكِ طريقا كنتُ أعرفه

سكرانَ مغمضة عيني من الطفح

أصابحُ الليل مصلوباً على جسد

لم أدر أي خفايا حسنه قدحي

أسى حريرٍ شآميّ يداعبه

إبريقُ خمرٍ عراقيّ شجٍ نضحِ

أصابحُ الليل مصلوباً على أمل

أن لا أموت غريبا ميتة الشبح“.

لكنه مات غريباً ميتة الشبحِ. بعد أن فضّل حياة مختلفة عن حياة الشعراء المعاصرين، لم يكترث بإصدار دواوين متلاحقة بين العام والآخر، وكان كتابه المشترك شعراً ورسماً مع الفنان العراقي ضياء العزاوي إنجيلاً شعرياً بين الأيدي.

تتالت قصائده التجديدية التي قدمها كبار المغنين العراقيين، رياض أحمد، سعدون جابر، فؤاد سالم، سامي كمال، وآخرون كثر أرادوا أن يشاركوه نبرته، ويستلهموا حسه العالي. وفي المسرح كانت تجربته البديعة مع المخرج والممثل العراقي باسم قهار في مسرحية ”العربانة“. وفي الأداء قدّم مع الخبير العراقي المخضرم سعدي الحديثي سلسلة من الأمسيات الشعرية والغنائية حول العالم، عرض فيها جديده مع قديم الفنون العراقية التي حرص على ألاّ يبتعد عنها العراقيون في منافيهم.

رفض العطايا التي كانت تعرض عليه، ولم يرغب بأن تنتج عنه الأفلام الوثائقية، وكان يقول إن حياته لا تستحق، لا تعرف هل يتحتم التواضع في قراراته تلك أم النفور من الضوء، حتى حين جاء إلى دمشق المخرج العراقي القدير فيصل الياسري وعرض عليه إنتاج مسلسل عن حياته، اعتذر عن قبول الفكرة.

وفي ذروة سطوة حافظ الأسد في الثمانينات وجهت إليه دعوة لزيارة القصر الجمهوري ولقاء الأسد، غير أن النواب اعتذر عن قبول الدعوة، كي لا يحسب عليه أنه وضع يده في يد نظام فرّ من شبيهه في العراق.

كانت طريقه القصيرة من بيته في شارع الباكستان بدمشق إلى مقهى الهافانا القريب تمر على باعة الصحف وكتب الرصيف، وكان يفاجأ بطبعات لأعماله الكاملة لم يسمع عنها من قبل ولم يستأذنه أحد بنشرها.

حين عاد إلى العراق، أراد أن يلبي رغبة العراقيين، وبعد أن أعلن الاحتلال الأميركي عن شروعه في الانسحاب، فقد كان يرفض زيارة العراق وهو تحت الاحتلال، ولم يرد البقاء في ظلّ ما اعتبره حكومة مناقضة للحلم الذي طالما طارده، دولة مدنية ديمقراطية لكل مكوناتها، لا دولة محاصصة طائفية. ففضل البقاء في الشارقة نائياً عن كل شيء، بينه وبين العالم جدار ”الباركنسون“ الذي انهار يوم الجمعة برحيله.

صوت النواب هو صوت العراقيين اليوم، هم أنفسهم الذين طردوا المسؤولين الذي حاولوا المشاركة في جنازته، فرفعوا ضدهم الهتافات الساخطة، وفي مقدمتها إيران “برا برا” و“مظفّر للشعب مو للحرامية” مرفقة برشقهم بالحجارة ما اضطر رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى مغادرة التشييع وترك النعش للعراقيين مكانه الطبيعي والأول والأخير بعد أن أوصى النواب أن يدفن إلى جوار أمّه في مرقدها.

وبعيداً عن مواقفه السياسية التي قد يتفق معه البعض فيها أو يختلف، يبقى مظفر النواب صوفياً من مقام كبار الشعراء الذين مروا بتاريخ الأدب العربي، وليس أدل على ذلك من قصيدته ”المساورة أمام الباب الثاني“ التي يقول في مقطع منها:

”نخلةٌ في الزاب

كان يأتي العمر يقضي صبوة فيها

ويصغي للأقاصيص التي من آخر الدنيا

هنا يفضي بها الأعراب

هبّ عصف الريح واه يوماه يوم

وانتهى كل الذي قد كان من دنيا

ومن عمر ومن أحباب

هاهنا ينهال في صمت رماد الموت

يخفي ملعب الأتراب“.

كاتب سوري

—————————-

نيابةً عنّي وعنك: مو حِزن لكن حزين/ محمد هديب

عرفتُ مظفّر النواب مثل كثيرين غيري عبرَ أشرطة الكاسيت المَمنوعة. شريط لونه أخضر في مسجّلٍ تُضغط أزرارُه من فوق، وإذا انقطع نلصقه بمانيكير.

لا أتذكّر أنّني رأيتُ أمّي أو بنتاً من بنات الدار تمنكَرت، لكن هذا الطِّلاء الأحمر موجودٌ، للصق ما ينقطع من صوت مظفّر، الذي كُنّا مؤمنين بأنّه يصعد إلى المسرح سكرانَ حتّى يفقدَ سيطرتَه على لسانه، وهو يجوح بصوت مشروخ: “هذا وطن أم مبغى؟”

بصوتٍ واطئٍ للمُسجِّل والنافذة مُغلقة، احتجنا دائماً لشخصٍ يُفقدنا صوابَنا، ويُعلّمنا درساً في التخريب، قبل أن نتمكّن ـ أنا وغيري ـ من قراءته بالفصيح والعامّية ونتعرّف إلى عوالم أُخرى تفيض بشجنِ عاشق مُصاب إصابةً قديمةً.

وبسببٍ من جماهيرية القصائد المَمنوعة، تقاسم إرثَ الشاعر مُريدون في فسطاطَين مُتدابِرَين، فهو من جانبٍ شاعرُ الهِجاء السّياسي الذي لا يُدانى، كما تبدو قصائده أشدّ لزوماً كلّما نظر الناظر، فوجد الحال قبل عقود، مقارنةً مع الدَّركات التي سنهبط إليها فيما بعد، أقلَّ رداءة وربّما وصفوه بـ”الزمن الجميل”.

ومن جانب هناك من أدار الظهر، نفياً لأيّ تبعات سياسية تضرّ بالقصيدة، وبما يذكّر بمقولة شاعرٍ آخر عن “الشِّعر الضّروري”، أي الذي ينبغي قولُه في ظرفٍ تاريخي معيّن، فوجد الضّالة الثمينة في شعره بالدّارجة العراقية.

ظلّ هجاءُ مظفّر النواب السياسي المرير صوتاً في شريط كاسيت، وعبر عقوداً طويلة، وظلّ إلى يوم الناس رسالةً واضحةً إلى الوطن “الممتدّ من البحر إلى البحر. سجونٌ متلاصقة. سجانٌ يمسك سجان”.

وبقيت قصيدته حتّى مماته، اليومَ، في مدوّنة الشعر العربي بما فيها من خُصوصيّة تأخذُها كلّها، مرحّباً أقلّه باختلافها لجهة الشّعر المطواع في لغته، والحضور المونودرامي الذي لا يُنتزَع من المشهد.

بدا مظفّر على الدوام صوتَ الشاعر الجوّال، السَّاخط في حاراتنا، والماجن في الحانات والحزين نيابةً عن كلّ عربي يُنادي “مو حِزن لكن حزين”.

العربي الجديد

———————————-

رحيل مظفّر النوّاب.. جسارة الكلمة التي لم تسقط يوماً/ أمير داود

يكاد مظفّر النوّاب، الذي غادر عالمنا اليوم الجمعة، يكون آخر شعراء السرديات الكبرى العرب. غادر معظم الشعراء القضيةَ الكبرى، وانحازوا إلى الهمّ الشخصي الموغل في الفردانية بكل خساراتها وهزائمها وطموحاتها، في حين ظلّ، إلى جانب قلّة، متمسّكاً بجسارة الكلمة التي لم تسقط يوماً من حسابات الثورة والقدرة على التغيير، وهي الكلمة ذاتها، التي ذهبت به إلى قلب دائرة التورُّط؛ منفيّاً ومهدَّداً بالإعدام وممنوعة كتبه من التداوُل، ليس على صعيد القُطر العراقي فحسب، بل في أكثر من بلدٍ في المنطقة العربية.

سيذهب النوّاب (بغداد 1934 – الشارقة 2022) في منفاه القسري الطويل، عبر نفق محفور بسكّين مطبخ. نجح الشاعر العراقي، ذات ليلة باردة من ليالي شتاء 1967 في مغادرة سجن “الحلّة” ببابل، هرباً منه ومن الإعدام شنقاً؛ ليشرع في تلك الرحلة الطويلة من الشعر والألم والخسارة الشخصية، مسكوناً بهواجس الوطن البعيد بنخيله ومقاهيه وبالفرات ودجلة، قارئاً على آذان الناس بعدها:

ولكنّها بلادي

لا أبكي من القلب

ولا أضحك من القلب

ولا أموت من القلب إلّا فيها.

لم يكن صاحبُ “وتريات ليلية” منشغلاً، على طريقة السياسيّين المدرَّبين، برسم جداريات الخطابة اللائقة التي لا تُزعج أحداً، بل كان محمولاً على قلب الشاعر، شديد الهشاشة والانفعال، يشتم هنا، ويسخر هناك، ويبكي:

أفل الليل

وكبرق في الأفق الشرقي يوازي السعف

يوازي همسات السعف.

الحالة إياها، التي جعلته في ليلة وضحاها، شاعراً بموقف إشكاليّ عندما رحّب بسقوط نظام صدّام حسين، مُدلياً بصوته في أوّل انتخابات تجري في “العراق الجديد”، ثم رافضاً أن يستقرّ في عراق ما بعد الاحتلال.

شكّلت لغتُه المتفرّدة، بكلّ ما تحتويه من اللامألوف في اللغة الشعرية ومفردات الرفض والغضب والتحريض، ميزةً لافتة لتجربته الطويلة، وخصوصاً في الشعر السياسي والعامّي؛ ميزةٌ أثارت العديد من عواصف النقاش بين جماهير المشتغلين بالنقد والأدب حول الملاءمة والأصالة في شعره. لكنّها، في ذات الوقت، جعلت جماهير واسعة تُصغي إلى ما يقوله، قبل أن يصبح علامة ثوريةً فارقة لجيل السبعينيات والثمانينيات يُشار إليه باعتباره منظّراً ومحرّضاً ضدّ أنظمة القمع في المنطقة. يقول في إحدى قصائده:

احترق الخنصر

أعطى ضوءاً عربيّاً

ليس لإصبعي الوسطى في الليل أمان

وأدير على هذي الإصبع حكّام الردّة قاطبةً

سوف أُحدّثكم في الفصل الثالث عن أحكام الهمزة

في الفصل الرابع عن حكّام الردّةِ

أمّا الآن فحانات العالم فاترة

مللٌ يشبه علكة بغي لصقته الأيام بقلبي.

لم يتوقّف مظفّر النوّاب عند هذه الحدود، بل حاول التأصيل أيضاً لجمالية اللغة العامّية وصُوَرها. يقول: “الكلام ضدّ العامية يسود في لغة التنظير، أمّا في لغة الحقيقة فهي أُخرى، بدليل أنّ الذين يهاجمونها يطربون حينما تغنّي أم كلثوم وفيروز بها. يطربون لصورها، ولكنهم حين يتحدّثون عن العامية يتحدّثون بلغة الإدانة، وهذه ازدواجية عجيبة”.

كما لم ينشغل صاحبُ “قُل هي البندقية أنت” أيضاً باقتراح قالبٍ شعريّ محدَّد في إطار انزياح الشعراء إلى نمذجة تجاربهم الشعرية، سيذهب بعيداً في كلّ الممكن من أدواته؛ قارئاً للواقع: “وإذاعات العرب الأشراف تبول على النار”، ومتنبّئاً بما سيأتي، بما تمليه اللحظة الراهنة وبكلّ ما تفعله بقلب الشاعر المسكون بالإنسان وقضاياه:

سيكون خراباً

هذي الأمّة لا بدّ لها أن تأخذ درساً في التخريب.

ومحرّضاً:

أسنِد كوعك للكوّة

أسند كوعك للكوّة يا عبد الله

مدّ الرشّاشة في الفجر الشاحب.

سنرى مظفَّر النوّاب، في ما بعدُ، كهلاً ضعيفاً، يُعينه رجالٌ حوله على الحركة، عبر صُوَر قليلة ونادرة تتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي، تستدرّ بكل اقتدار مشاعر التعاطف مع الرجل الذي شكّل، وحتى وقتنا الحاضر، أيقونة في الشعر العربي الحديث، ومَعلَماً شعرياً شاهداً على قسوة التبدّلات السياسية والاجتماعية في المنطقة العربية كلّها.

* كاتب من رام الله

العربي الجديد

————————–

العراق يودّع مظفر النواب بتشييع يعكس تاريخه الثوري

بغداد: ودّع العراقيون السبت في بغداد الشاعر العراقي الكبير والأيقونة الثورية مظفّر النواب، بتشييع رسمي وشعبي مهيب، عكس التاريخ الثوري والنضالي للشاعر الذي عُرف بمناهضته للأنظمة العربية وانتقاداته اللاذعة، فيما ندّد مشيعون بمشاركة رئيس الوزراء.

وتمهيداً لمواراته الثرى في النجف تكريماً لوصيته بدفنه قرب والدته، نُقل جثمان الشاعر الذي فارق الحياة عن 88 عاماً في الإمارات، بالطائرة الرئاسية إلى مطار بغداد الدولي في وقت سابق.

هناك أقيمت له مراسيم رسمية بحضور رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي. وحمل حرس الشرف نعش النواب الذي كُلّل بالورود، بينما رفع أحدهم صورة له بالأبيض والأسود.

ثم نُقل بموكب رسمي إلى مقر اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، حيث تجمّع المئات من الأشخاص من أجيال مختلفة، من نساء ورجال للمشاركة في الوداع الأخير للنواب.

    🌐مراسيم استقبال جثمان الشاعر الراحل مظفر النواب في مطار بغداد pic.twitter.com/XT9KDOKN7u

    — شبكة الراصد الاخبارية (@SAlhakika2018) May 21, 2022

على أطراف الطريق المؤدي إلى الاتحاد، تجمّع المئات ممن توشحوا بالعلم العراقي، تعبيراً عن حزنهم لفقدان هذا الرمز العراقي. وحمل النعش ستّة من عناصر حرس الشرف عند إدخاله إلى باحة الاتحاد حيث قوبل بالهتافات وبترداد أبيات من قصائده وبزغاريد النساء.

مع ذلك، بالكاد كان لدى الأسرة الوقت للتجمع حول النعش في الباحة، فيما تمكن رئيس الوزراء المحاط بحراسه الشخصيين، من الاقتراب منه سريعا قبل المغادرة.

واختُصرت المراسم بعدما بدأ بعض الشباب بترداد شعارات ضدّ الكاظمي وضدّ السلطة مثل “كلكم حرامية” و”كلا كلا للعملاء” و”برا برا”، في أجواء ذكّرت بالاحتجاجات المناهضة للسلطة قبل عامين.

ورفع بعض المشاركين الأعلام العراقية، وآخرون صوراً للنواب، فيما حمل مناصرون للحزب الشيوعي راية حمراء كبيرة.

وقال الناطق باسم اتحاد الأدباء عمر السراي قبل وصول النعش إلى المقرّ إن هذا “الاستقبال الكبير لا يعني الأدباء فقط بل يعني المواطنين، فهو شاعر شعبي وليس شاعر نخبة”.

وأضاف من مقر الاتحاد “هو يمثل موقفاً لدى المتظاهرين والثوريين لدى جميع محبي الوطن الحقيقيين، يمثل موقف عدم الاصطفاف مع السلطة لمقارعة الطغيان والديكتاتورية”.

وأعرب جزء من المشاركين في المقابل عن استيائهم مما جرى من احتجاجات خلال التشييع، واعتبروا أنها كانت مسيئة للحدث.

“إيقاظ وعينا”

واشتُهر النوّاب الذي ولد في بغداد في الأول من كانون الثاني/ يناير عام 1934، وتخرّج من كليّة الآداب في جامعتها، بقصائده الثورية بعد سنوات في السجن والغربة أمضاها صاحب قصيدتي “القدس عروس عروبتكم” و”قمم” اللاذعتين. أمّا أوّل قصيدة أبرزته في عالم الشعر فهي “قراءة في دفتر المطر” في عام 1969.

أول طبعة كاملة باللغة العربية لأعماله صدرت في العام 1996 عن دار قنبر في لندن. وأبرز دواوينه في الشعر الشعبي “الريل وحمد”، في حين كان آخر بيت شعري له على فراش المرض “متعبُ مني ولا أقوى على حملي”.

وأمضى النواب سنوات عمره بغالبيتها خارج بغداد، لكنه بقي حاضراً في وجدان العراقيين الذين ودّعوه بتداول صوره وقصائده على مواقع التواصل الاجتماعي منذ إعلان خبر وفاته.

في العام 1963، اضطر الشاعر الذي كان شيوعياً، إلى مغادرة العراق، بسبب الظروف السياسية والصراع بين الشيوعيين والقوميين. هرب إلى إيران عن طريق البصرة، قبل أن تسلّمه السلطات الإيرانية إلى الأمن السياسي العراقي حينها، وفق نبذة عنه نشرها موقع “أدب” المختصّ بالشعر العربي.

حُكم على النوّاب حينها بالإعدام، لكن خُفف حكمه إلى السجن مدى الحياة، وانتهى به المطاف بسجن في الحلة في وسط العراق. وقد فرّ حينها من السجن، لكنه اعتُقل ثانية بعد سنوات.

بعد الإفراج عنه، غادر بغداد الى بيروت ثمّ دمشق، وتنقّل بين العواصم العربية والأوروبية، قبل أن يُصاب بالمرض ويفارق الحياة في الإمارات حيث كان يتلقى العلاج. لم يتزوّج قط وليس له أولاد.

العودة الأولى للشاعر الذي كان منفياً في ظلّ نظام صدام حسين، إلى العراق كانت في العام 2011، تزامناً مع الانسحاب الأمريكي إثر الغزو في العام 2003، فهو كان يرفض العودة إلى بلده في ظلّ “الاحتلال”.

وفي حين برز كشاعر، كان النواب أيضاً فناناً تشكيلياً، و”واحداً من أجمل الأصوات العراقية” الغنائية، وفق تعبير الشاعر والكاتب عبد الحسين الهنداوي، مضيفاً أنه “كان أساساً شاعراً غنائياً … أعطى اللغة العامية العراقية بعداً جمالياً إضافياً”.

وعلى الرغم من أنّه من جيل سابق، لكن قصائده انتشرت على نحو كبير خلال الانتفاضة الشعبية غير المسبوقة التي هزّت العراق في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وتناقلها الشباب تعبيراً عن رفضهم للواقع السياسي وأملهم في التغيير.

ومن اتحاد الأدباء، قال المصوّر محمد هشام البالغ 27 عاماً، المشارك في التشييع “مظفر وضع لنا مسار ورؤية لجيلي والأجيال التي سوف تليني … مظفر النواب جزء من الأشياء التي ساهمت بإيقاظ وعينا السياسي والاجتماعي ووعينا بحقنا”.

وبعد التشييع، ردد متظاهرون في الشوارع المجاورة هتافات منددة ورشقوا الحجارة على سيارات مسؤولين.

(أ ف ب)

    نقل جثمان الشاعر الكبير مظفر النواب من دولة الامارات الى العراق بالطائرة الرئاسية#العراق pic.twitter.com/8bhkU1Jx1u

    — ABDULLAH AL_BAYATI (@AbdallahAlbayat) May 21, 2022

    #الكاظمي يغادر تشييع جنازة #مظفر_النواب بعد هتافات مناهضة. pic.twitter.com/LP5YKkFlNn

    — عمر المنصوري (@Omar_alMansuri) May 21, 2022

    من تشيع جنازة #مظفر_النواب

    الشعب يقول الى المسؤولين:

    بره بره

    شلع قلع كلكم حرامية. pic.twitter.com/svXyXSlZye

    — al araby al iraqy 🇮🇶 (@hani88664747) May 21, 2022

    📌هروب الكاظمي مع جنازة الشاعر #مظفر_النواب بعد مهاجمتهِ من قبل متظاهرين pic.twitter.com/0bYuU7Fk3L

    — ((الحساب الثاني))يرجى الدعم لحسابي الجديد J.S.Hadi (@jafaralaaraji82) May 21, 2022

————————————

هوامش على دفتر فلسطين/  عبد الرحمن جاسم

لم تؤثّر القضية الفلسطينية في «قلب» النواب فحسب، بل إنه كان أمراً متبادلاً. بمقدار ما أثرت به، أثّر فيها وفي شعرائها حدّ الثمالة. اعتبره كثيرون الوريث الشرعي للشاعر الفلسطيني الكبير عبد الكريم الكرمي «أبو سلمى» (1909-1980) فضلاً عن تأثيره على جيلٍ بأكمله من الشعراء الفلسطينيين (بحسب كتاب «الصوت والصدى… مظفر النواب وحضوره في فلسطين» لأستاذ الأدب والنقد في جامعة «النجاح الوطنية» في غزة عادل الأسطة). الشاعر الناقم صاحب معلّقة «هوامش على دفتر النكسة»، التي تعرفها غالبية الناس عبر اسمها الشعبي «القدس عروس عروبتكم» عرفه الجمهور الفلسطيني نجماً. كانت تلك القصيدة، هي التي أرست علاقته بالجمهور العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً مع جملٍ شديدة القوة، والجزالة، فضلاً عن مشاعر وانفعال حميم اللهجة عميقها: من باع فلسطين سوى أعدائك أولئك يا وطني/ من باع فلسطين وأسرى بالله سوى قائمة الشحاذين/ على عتبات الحكام ومائدة الدول الكبرى/من باع فلسطين سوى الثوار الكتبة ؟!/ القدس عروس عروبتكم !!/ فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها/ وسحبتم كل خناجركم… وتنافختم شرفاً/ وصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرض/ فما أشرفكم أولاد القحبة… هل تسكت مغتصبة؟!

لم يسكت مظفّر كثيراً، الشاعر الذي تعرَّض للحكم بالإعدام أكثر من مرّة، ولخطر الموت مراراً، كان يعرف أن سلاحه هو الكلمة. اختلف عن معظم شعراء مرحلته، كان مباشراً أكثر، شغوفاً بمواقفه، لا يحيد عنها، ولا يغيّر رأيه إطلاقاً. هذه الصفة جعلته في المخيال الشعبي الفلسطيني جزءاً من التراث الثقافي؛ فحكي الكثير عن تشابهات بينه وبين معين بسيسو مثلاً في كتابه «دفاتر فلسطين»، خصوصاً في لعبة «الذاكرة» التي يدور حولها الشاعران: الجلاد أمام الضحية، السجين أمام سجانيه، كل هذه الخطوات كانت تقود لعلاقةٍ أكبر مع فلسطين. عرف السيّاب كذلك بأنه يقع حكماً في مكانٍ «مجازي خاص» بين شاعرَي فلسطين الكبيرين محمود درويش وسميح القاسم، ومكانته الخاصة تلك لربما كانت لأنهما – كليهما – كتبا بِنَفَسِهِ أحياناً، وإن «تراجعا» عن تلك القصائد في لحظةٍ لاحقةٍ ما. كتب درويش قصيدة «أنا الآخر» مثالاً، وكتب القاسم قصيدة «السلام» (التي تنتقد اتفاقيات السلام الموقّعة ومن يوقّعها)؛ لاحقاً حذف درويش «أنا الآخر» من مجموعته الكاملة، كما أبعد سميح «السلام» عن دواوينه المنشورة. عرف النوّاب غضباً كثيراً أثناء حديثه عن فلسطين والقضية، فكان صوتاً صارخاً حين حديثه عن مجزرة «تل الزعتر» فقال: «فعاصمة الفقراء لقد سقطت/ حاول طفل أن يسـتـر جثة جـدته/ فمن المخجل أن تعرض أفخاذ الجدة/ أردوه على فخـذيها/ لا بأس بني فذاك غطاء/ هل تلد المرأة في الخيمة إلا جيشاً؟/ أولاد فلسطين/ سوف تعودون إلى أرض فلسطين ولكن جثثاً». فتن الشاعر العراقي بناجي العلي لا كرسامٍ فحسب، بل كشخصٍ صاحب مبادئ وفكر، هزّه رحيله المفاجئ شهيداً، فرثاه بقصيدة جميلة، كان يبدو فيها التأثر والشجن أكثر من الشعرية. لكن مع هذا، باتت من معالم وداع ناجي قائلاً مثلاً: «ألا أيها العربي القليل المحارب/ في الزمن الأجنبي/ فتلت تمائمهم لاصطيادك حبلاً/ وألقيته في المدى/ قنصا قانصيك/ تخططهم في الخطوط فتصطادهم/ وكأن الخطوط شباك/ وأنت أمير الصراط الجميل».

أبدع النوّاب في توصيف عملية «قبية» (1987) التي استشهد فيها المقاوم خالد أكر من «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة» حين طار بطائرته الشراعية ليحطّ في موقع «غيبور» الصهيوني ويقتل أكثر من عشرة جنودٍ صهاينة من لواء النخبة «غولاني»، ويجرح عدداً كبيراً وهو لما يتجاوز التاسعة عشر من عمره، فكتب النواب قصيدته: «قل هي البندقية أنت»: «الدجى والمدى جنحه/ نجمة للصباح الجميل/ كرياح الأعالي اختفى/ ما أحسست به غير زيتونة/ ألف قلب على كل غصن بها/ في الجليل/ شفرته إلى الأرض/ فارتفعت فقبلت قدميه/ لقد جاء في الزمن المستحيل».

https://www.youtube.com/watch?v=vtTD5XokO4g&t=1s&ab_channel=%D9%85%D8%B8%D9%81%D8%B1%D8%B9%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%8A%D8%AF%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%A8

—————————-

مظفر النواب يترجّل غريباً بعد رحلة شعرية متفجرة/ شريف الشافعي

سعى إلى جعل الشعر بيانا سياسيا ناريا بالفصحى والعامية

الكلمة في تجربة الشاعر العراقي مظفر النواب، الذي رحل عن دنيانا اليوم الجمعة 20 مايو(أيار) عن عمر يناهز 88 عاماً، هي موقف ورأي وتجربة حياة متوهجة متفجرة. تبحر قصائده دائماً في الهم الإنساني بغير اشتراطات ولا حدود، متجاوزة الظرفي والمؤقت والعابر والخاص، لتصير انشغالاً عامّاً، وقيمة مجردة موجودة بذاتها. وعلى الرغم من أن “البيان السياسي” قد يبدو للوهلة الأولى غالباً لديه، كما أن إحدى قصائده الشهيرة جاءت بعنوان “بيان سياسي”، فإن شعريته المتدفقة، في الفصحى والعامية، مرهونة في مجملها بفنيّاتها الخالصة، وأبجدياتها التعبيرية الجاذبة المتجددة. فما هو إبداعي جمالي هو الباقي، وهذا هو سر تفاعل الجماهير مع نصوصه في سائر الأقطار والأرجاء، عبر الأجيال المتعاقبة.

إن الشاعر العراقي المخضرم، الذي رحل في مستشفى الجامعة في الشارقة بعد صراع مع المرض ومسار طويل من النفي والسجن والمعارضة والملاحقة لأكثر من ستين عاماً، تمكّن من تحصين أعماله الشعرية ضد الغربة والغرابة والقيود. فهي نصوص سهلة سلسة، على عمقها وطبقاتها المتعددة، تصل سمعيّاً وشفاهيّاً إلى المتلقي بقدر مناسب، وبقدر أعلى عند القراءة البصرية المتأنية. وهي نصوص متحررة، تمارس التحرر الكامل “فعلاً” في مضمونها وشكلها “الثورة ليست خيمة”. ولا تكتفي بالدعوة إلى التحرر أو ممارسته “قولاً” كما لدى الكثيرين من البلاغيين والخطابيين. وبالتالي فإنها قصائد ذات مصداقية وتأثير، وقدرة على تغيير الساكن المستقر، وإنجاز الحراك الفردي والجماعي، وتحقيق التمرد على الأوضاع الراكدة.

انتماء شبه إيديولوجي

اتخذ مظفر النواب من مواقفه وآرائه وانتمائه الإيديولوجي والسياسي إلى اليسار والحزب الشيوعي العراقي وتجاربه الحياتية في المعارضة والمقاومة وميوله الثورية، منصة لإطلاق تجربته الشعرية، بجناحيها الفصيح والشعبي. وهي تجربة تنفتح على كل القواميس والمفردات المتاحة، بما في ذلك البذاءة نفسها، بعد التعاطي معها جماليّاً وصهرها في توليفته الخاصة البركانية، وذلك من أجل نقد الواقع؛ بما يليق بقسوته، والسعي إلى تغييره إلى الأفضل؛ بما يليق بالمتعطشين إلى حياة حرة كريمة عادلة، في عالم مليء بالظلم والاضطهاد والجفاف والجفاء: “اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية/ بعضكم سيقول بذيئة/ لا بأس، أروني موقفاً أكثر بذاءة مما نحن فيه”.

إن ألوف العراقيين والعرب الذين يحفظون أشعار مظفر النواب، لا يحفظونها لأنها سرية أو ممنوعة، فهي لم تعد هكذا في عصر التقنية والاتصالات والفضاءات المفتوحة، لكنهم تفاعلوا وتماهوا معها لأنها شجاعة، وقادرة على أن تنوب عنهم، وتتحدث بألسنتهم، وتحمل ضوت الضمير الإنساني في ثيمة شعرية مخلصة صادقة، كطلقة تختصر طريقها إلى الهدف “ليس بين الرصاص مسافة”.

هي القصائد المرايا، إذا جاز التعبير، مرايا للذات المعذبة، والخرائط الممزقة، والكيانات الفاسدة، والكون الخرب، الذي يفقس البيض الفاسد فيه أوساخاً، والذي لا يسمع أحدٌ فيه الآخر حتى في أوج صراخه: “أما الآن، فحانات العالم فاترة/ ملل يشبه علكة/ بغيٌ لصقَتهُ الأيام بقلبي”. ولعل ذلك الإحساس بتعاظم الخطر واقتراب النهايات هو ما ينعكس على هذه النبرة العالية لديه، والموسيقى الصاخبة الإيقاع. فالصوت كفعل فيزيائي حتى وليس كمعنى، لم يعد يصل، لكنه لابد أن يصل قبل أن يتحول الجميع إلى أشلاء: “الوطن الآن على مفترق الطرقات/ وأقصد كل الوطن العربي/ فإما وطن واحد/ أو وطن أشلاء”.

الإشتعال المباشر

إن الشعرية في قصائد مظفر النواب، الذي تنقل خلال حياته بين دول عربية كثيرة منها سوريا ومصر ولبنان وليبيا وغيرها، هي نارية الوهج، بمعنى الإضاءة الجمالية في المقام الأول، إلى جانب نارية الاشتعال المباشر، بمعنى تفجير الغضب وإعلان الموقف الحماسي وتمرير الرسالة الاحتجاجية ضد الطغيان. وما إلى ذلك من معانٍ ترتبط في الأصل بوقائع جزئية ومشهدية محددة، لكنها تتسع لديه لتصير انتصاراً للحق والخير والجمال والعدالة والكرامة وسائر القيم الإنسانية الصالحة لكل زمان ومكان. وهذا ما يؤكد أن الشعر الحقيقي لا يمكن حبسه وراء القضبان: “لا تخشوا أحداً في الحق/ فما يلبس حقٌّ نصف رداء”.

وفي القصائد الشعبية، باللهجة الدارجة، ينطلق مظفر النواب من الأبجديات ذاتها، فهو يكتب القصيدة التحررية الإنسانية، التي تتقصى ما وراء الحالة وما خلف الأسطح الخارجية، لإدراك جوهر المشاعر لدى الذات والبشر جميعاً. وكذلك حقيقة الظواهر الطبيعية من حولنا، التي تبدو متفاعلة مع قوانين الحياة، ومتصلة بالطبيعة الإنسانية: “مو حزن لكن حزين/ مثل ما تنقطع جوّا المطر… شدّة ياسمين/ مو حزن لكن حزين/ مثل صندوق العرس ينباع خردة عشق… من تمضي السنين”.

هذه النزعة لدى مظفر النواب إلى عالم الطبيعة، تقوده إلى ثقب من البياض اسمه الأمل، رغم كل ما يحاك في الكون من مؤامرات (لم ينعطف خلٌّ على خلّ كما سبّابة فوق الزناد)، ورغم كل ما يستجد في الوجود من طبقات السواد. ففي أمنياته على بوابة السنة الجديدة ينفث آماله متعطشاً إلى الضوء الغائب “رقعة الشباك كم تشبه جوعي”، ومن قلب السكون الجاثم فإن “فرح الأجراس يأتي من بعيد/ وصهيل الفتيات الشقر، يستنهض عزم الزمن المتعب”.

هذا الثقب التفاؤلي الذي يقود إلى الضوء والانفلات، يقود أيضاً إلى تحقيق الانتصار. وهنا، في تجربة مظفر النواب، فإن الانتصار للشعر في التجربة الفنية المتجاوزة، الصامدة، الباقية، جنباً إلى جنب مع إعلاء فكرة أن الكلمة هي المنتصرة في صراعها الأبدي مع القوى المتسلطة، والرجعيات البالية، وهذه الكلمة هي التي ستظل تصنع مذاق الحياة حتى آخر لحظة: “كم قليل من الناس، يترك في كل شيء مذاق”.

———————–

رحيل مظفر النواب.. الشاعر الذي لم يمتدح الأنظمة

توفي اليوم الجمعة الشاعر العراقي المعروف مظفّر النوّاب عن عمر ناهز الـ88 عاماً، بعد صراع مرير مع المرض، في مستشفى “الشارقة التعليمي” بالإمارات العربية المتحدة.

ونعت وزارة الثقافة العراقية الشاعر النوّاب بالإضافة إلى العديد من حسابات الكتّاب والأدباء على منصات التواصل الاجتماعي، نظراً للمكانة الخاصة التي يحتلها مظفّر النوّاب بين شعراء العراق والعالم العربي، والخصوصية التي نالها شعره من بين قصائد وأشعار الحقبة المعاصرة، سواء في اللهجة المحلية للعراق أو في اللغة العربية الفصحى.

    بعد سنوات طويلة من اختفاء مظفر النواب بسبب وضعه الصحي ، ظهر منذ عام و كتب على صفحته في الفيسبوك ” مُتعبٌ منّي .. ولا أقوى على حملي ” .. بهذه الكلمات التي تعد على اصابع اليد الواحدة استطاع اختزال كل وجعه ! واليوم أبا عادل يفارق الحياة. ” pic.twitter.com/sTufKRcvoj

— جفرا فلسطين (@palestine_jafra) May 20, 2022

الشاعر مظفر النوّاب

مظفّر عبد المجيد النواب، شاعر عراقي ومعارض سياسي بارز وناقد، ولد في بغداد عام 1934، وهو ابن عائلة تقدر الفن والشعر والموسيقى، وتنحدر أصولها من الهند. كان جده حاكماً لإحدى ولايات الهند قبل أن يتم نفيه منها من قبل الإنجليز بسبب مقاومته لهم، فقصد العراق.

وفي سنّ مبكرة، أظهر مظفّر موهبة شعرية استثنائية. وبعد إكماله الدراسة الجامعية في جامعة بغداد، عمل مدرساً ولكنه طرد عام 1955 بسبب انتمائه إلى الحزب الشيوعي. وظل مظفر عاطلاً عن العمل لمدة ثلاث سنوات، في حين كانت فيه أسرته تعاني من ضائقة مالية.

تعرض الراحل للتعذيب على يد حكومة المملكة الهاشمية في العراق. وبعد الثورة العراقية عام 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي، تم تعيينه مفتشاً في وزارة التربية والتعليم. واضطر في عام 1963 لمغادرة العراق إلى إقليم الأحواز (عربستان) في إيران عن طريق البصرة بعد اشتداد المنافسة بين القوميين والشيوعيين الذين تعرضوا للملاحقة والمراقبة الصارمة من قبل النظام الحاكم.

اعتُقل وعُذب من قبل المباحث الإيرانية (السافاك) وهو في طريقه إلى روسيا، قبل إعادته قسراً إلى الحكومة العراقية. وبسبب إحدى قصائده أصدرت محكمة عراقية حكماً بالإعدام بحقه ثم خفف فيما بعد إلى السجن المؤبد.

“مرّينا بيكم حمد”.. مظفر النوّاب وإحياء الشعر الشعبي في ذاكرة المشرق العربي

وقضى النواب مدة من الزمن داخل سجنه الصحراوي (نقرة السلمان) القريب من الحدود السعودية – العراقية، ثم نُقل إلى سجن (الحلة) الواقع جنوبي بغداد. ومن سجن الحلة، تمكن النواب من الهرب بشكل مثير بوساطة نفق تمكن من حفره، ثم توارى عن الأنظار في بغداد قبل أن يغادرها إلى منطقة الأهوار في جنوبي العراق ويعيش مع الفلاحين والبسطاء قرابة العام.

وفي عام 1969 صدر بيان العفو عن المعارضين فرجع النواب مجدداً إلى سلك التعليم ثم غادر بغداد إلى بيروت في البداية، وبعدئذ انتقل إلى دمشق. وظل يسافر بين العواصم العربية والأوروبية قبل أن يستقر به المقام في دمشق ثم بيروت.

    موت #مظفر_النواب

يقل الشعراء المناصرون لتطلعات الشعوب، بينما يزداد عدد الشعراء الملمعون للحكومات، الذي يكتبون المعلقات بحق السلطان على اللاشيء .. رحمه الله. pic.twitter.com/B9UKQ0OGXl — نحو الحرية (@hureyaksa) May 20, 2022

ويعد مظفر النوّاب من أشهر وأهم شعراء العراق والمنطقة العربية في العصر الحديث. ونتيجة مواقفه الشخصية والسياسية من الأنظمة والحكومات في العالم العربي؛ كتب الشاعر الراحل العديد من قصائد الهجاء والنقد اللاذع والشتم بحق رموز تلك الأنظمة وقادتها، ولم يكتب أو يلقي قصيدةَ مَدْح بحق أحد منهم على الإطلاق.  

كما عُرفت قصائده باللهجة المحلية العراقية، من خلال تلحينها وأدائها كأغان نالت شهرة واسعة في المشرق العربي.

ومن قصائد مظفر النوّاب الشهيرة:

    القدس عروس عروبتنا

    جسر المباهج القديمة

    قراءة في دفتر المطر

    بحار البحارين

    بكائية على صدر الوطن

    براءة الأم

    الاتهام

    براءة الأخت

    قمم قمم

    اصرخ

    البراءة

    سوف نبكي غدا

    بالخمر وبالحزن فؤادي

    وأنت المحال

    لحظة في حمام امرأة

    أيام العشق

    رحيل

    جزر الملح

    وتريات ليلية

    باب الكون

    مرينا بيكم حمد

    العب العب

    عروس السفائن

    يوميات عروس الانتفاضة

    زنزانته وما هم ولكنه عشق

    موت العصافير

    في رثاء ناجي العلي

    قل هي البندقية أنت

    المساورة أمام الباب الثاني

    الرحلات القصية

    قصيدة من بيروت

    اعترافتان في الليل والإقدام على الثالثة

    الأساطيل

    عبد الله الإرهابي

    يا قاتلتي

    رباعيات

    في الحانة القديمة

    طلقة ثم الحدث

    المسلخ الدولي وباب الأبجدية

    فتى اسمه حسن

    الخوازيق

    تل الزعتر

    زرازير البراري

 ———————–

“يا أبواب الأهواز أموت حنيناً”… ماذا جرى بيني وبين مظفر النواب؟/ مريم حيدري

كم علي أن أؤمن بالرؤيا، بالنوم حتى الضحى، بالارتجافات الخفيفة في القلب تأتي في شوارع عريضة فأصرف النظر عنها، وبالدلالات التي تبدو لي صغيرة مثل ثانية من الوقت ثم تتسع وكأنها عام؟

كنت في بيروت، وكنا في مهرجان شعري، أنا ومحمود درويش. كان من المقرر أن نعود إلى لا أعرف أين، فترافقنا في سيارة “فان”. تحدثنا عن كثير من الأشياء، عني وعنه. تبادلنا أرقام الهواتف في منتصف الطريق، ثم واصلنا الحديث بحميمية وكأننا نعرف بضعنا بعضاً منذ وقت طويل، والوقت الطويل في الحلم هو “الأزل”. كنا نعرف أن الطريق سينتهي، غير أنها كانت بداية تعرف من قرب، فغمرتني الغبطة أنني سأكون على تواصل معه.

وأفقت من الحلم برنة جرس البيت. بقيت لساعات في البيت وفي الحلم الذي لم يستند ولو بقدر رأس اصبع على السريالية، فأكاد أن ألمس تضاريسه وأنا أفتح الستائر المطلة على الزقاق لتفيق النباتات حتى تبين لي أن محمود درويش توفي منذ سنوات.

هو الذي كنت في الأهواز موعودة باتصال به، قد يتبعه لقاء. وكنت قد نشرت ترجمة لقصيدته في صحيفة إيرانية مرموقة: “سيجيء يوم آخر”، حين سمعت الخبر تلك الليلة. كان عام 2008.

***

تمرّ ليالٍ كثيرة في طهران، نسير بالسيارة عند نهاية الليل من شمالها إلى جنوبها ونستمع إلى أغانٍ، غالباً ما أكون أنا “الدي جي” في اختيارها. أستمتع كثيراً بهذا الطقس، وبأنانية أبث أغاني عربية، كثير منها عراقية، أعرف أنني وحدي التي أفهمها.

يحاول صديقي أو أصدقائي أن يستشفوا منها بعض الكلمات ليفهموا معناها، وأفكر هل يخطر ببال أحد غيري أن يسمع في هذه المدينة الكبيرة، بين شوارعها وطرقاتها السريعة، وفي هذه الساعة من الليل مثل هذه الأغاني؟

سعدون جابر؛ أحبّ هذا المطرب، وأسمعه كثيراً. قال صديقي: فهمتها، وترجم إلى الفارسية “مو حزن لكن حزين”، ليكون حديثنا عن مظفر النواب. استمع صديقي بشغف، مثلما كان يسمعني نوري (الجراح) ذات مساء ونحن نتمشى في شوارع تونس، قبل أمسية شعرية، وكنت أعبّر عن حبي لمظفر، وأهميته في الشعر الشعبي. أتذكر أن نوري سمعني باهتمام أيضاً، وكان ربيع تونس منعشاً عام 2017.

وقبل كل هذا، وحين أتذكر في هذه اللحظة تلك الأيامَ كأنها حدثت في “الأزل”، رغم أننا كنا على عتبات القرن الواحد والعشرين. في الأهواز كنا، وكنت يافعة بدأت منذ سنوات كتابة الشعر بالعربية، وأقرأ بوجدٍ وبخجلٍ، في بعض الأمسيات والاحتفالات التي كانت تقام بالعربية في ظلّ الجو المفتوح آنذاك وخلال فترة رئاسة محمد خاتمي.

بدأ شوقنا منذ سمعنا الخبر: مظفر النواب سيأتي إلى الأهواز، ليقيم أمسية شعرية. وكأننا في حلم. في اليوم الموعود اتجهنا نحو قاعة البلدية في مركز المدينة، أنا وجمع غفير بما تحمل عبارة “جمع غفير” من معنى. انتظرنا أمام القاعة، ثم انتظرنا، ولم يأت الشاعر.

قيل إنه مُنع من المجيء إلى الأهواز، فلا أمسية ستكون له ولا تنتظروا. كان في إيران، في طهران، ولكن ليس في الأهواز.

كان يحدث في بعض الأحيان أن يتم وقف أمسية عربية ما، دون أن يُشرح السبب، ولكن بالنسبة لمظفر النواب؟ كان أمراً غير متوقع أبداً. ربما كان يدور في خلَده أنه سيزور المدينة التي وقف على أبوابها قبل عقود، عندما هرب من بطش الظلم في العراق، ونادى: “يا أبواب بساتين الأهواز

أموت حنيناً

يا أبواب الأهواز… أموت حنيناً”.

“نسيتُ على أبواب الأهواز عيوني”. نسيتها، وهل كنت بدورك تتوق إلى زيارة الأهواز مرة أخرى يا مظفر؟ وهل حلمت بها بعد ذلك؟ في أحلامٍ آتية ربما سيجيبني، ولكن في ذلك اليوم لم يكن هناك أحد ليردّ على سؤال تلك الطفلة التي كنتها: ماذا كان يهدّد أمن المدينة أن يأتي مظفر النواب ونراه؟

كنا كأعلام منكّسة نمشي في شوارع الأهواز نحو بيوتنا أو أي مكان آخر. أتذكر أننا لم نركب السيارات. كأننا كنا في مظاهرة سلمية نمشي صامتين وصامتات، أنا والجمع الغفير، وصديقتي فاطمة التي تكبرني ببضع سنوات، وكانت تكتب الشعر أيضاً، وتشجعني دائماً. كان جلياً على ملامحنا أننا كم نحب بعضنا بعضاً.

قالت فاطمة: “لنتجه إلى مركز اتصال بالقرب من حيّنا، ونتصل به”. وكنا نقصده في حال وجود اتصالات بهواتف خارج المدينة. كان مظفر قد بقي في طهران. لا أعرف كيف حصلنا على رقم الفندق الذي كان يقيم به في طهران. دخلنا الحجرة معاً، وطلبنا الرقم، وكان صوته يأتي من بعيد. قلنا فقط إننا كنا ننتظرك. قلنا إننا نكتب الشعر بالعربية، ونحبّ شعرك، ونحبّك.

كنا نحب شعره ونحبه. في بيتنا كان ديوانه “للريل وحمد”، وكتاب يضم قصائده بالفصحى. كثيراً ما كنت أدخل غرفة أخي التي تحتوي على كتب عربية وأشرطة موسيقية، بينها شريط واحد مكتوب عليه بخط النسخ: “مظفر النواب”. أضع الشريط في الجهاز فيقرأ، وأفتح الكتاب. أنظر إلى الكلمات وأنظر إلى صوته، ثم إلى الغلاف وعليه صورته واضعاً سلسلة ذهبية حول عنقه. تلك السلسلة التي لم أقل له إنني أحبها على ذلك الغلاف، رغم أنني لم أحب السلاسل الذهبية. ولم أكن لأقولها حتى إن كان ذلك اليومُ اليومَ، وقد كبرت وتخلصت من بعض ذلك الخجل.

انتظرناه ولم يأت؛ هو الذي وقف في الأهواز قبل عقود عندما هرب من العراق إلى الأهواز عام 1963 إثر تعرّض الشيوعيين لحملات اعتقال واسعة، وكتب صارخاً: “في العاشر من نيسان بكيتُ على أبواب الأهواز”.

وها أنا، أسمع خبر رحيله، وليس لي إلا أن أتلو معه على مدينتي التي لا تحث اليوم سوى على الحزن:

“يا أبواب الأهواز… أموت حنيناً”.

كما وليس لي إلا تلك الأشياء التي قالها لي محمود درويش في الحلم، ما لم يكتبها في دواوينه وفي أي مكان آخر، منتظرة حلمي الأول الذي سيُتبع بأحلام يحدثني فيها مظفر النواب عن أمور غير مندرجة في أي ديوان، فأذهب نحو الستائر، أفتحها، وأحدث نفسي: “يا للسعادة! كان معي”. ثم ما يعتريني طوال النهار هو “مو حزن، لكن حزين”.

رصيف 22

———————

ميت منذ 2005″.. مظفر النواب “شاعر القصيدة المهربة

“هو ميت منذ عام 2005” يقول الكاتب والروائي السوري إبراهيم الجبين في تعليقه على وفاة الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب.

وأعلنت وفاة النواب، الجمعة، في أحد مستشفيات الشارقة في دولة الإمارات عن عمر ناهز 88 عاما بعد صراع طويل مع المرض.

عرف النواب، المولود في أحد أحياء بغداد القديمة عام 1934، بإسلوبه الفريد في نظم الشعر وإلقائه باللغة الفصحى واللهجة العامية.

مظفر النواب هو أحد أبطال رواية “عين الشرق” التي كتبها الجبين وتحدث في بعض أجزائها عن جوانب “حياة النواب غير المعروفة” بالنسبة للكثيرين وعلاقته مع والدته.

غياب والدته

يقول الجبين لموقع “الحرة” إن والدة النواب كانت سيدة بغدادية “فريدة من نوعها” وعازفة بيانو وهي من ربته على تذوق الفنون.

استمرت صداقة الجبين، الذي يعيش اليوم في ألمانيا، بالنواب منذ عام 1989 عندما كان الشاعر العراقي يسكن في المنفى في دمشق.

عندما التقاه آخر مرة كان يشكو من صدمة مستمرة في حياته وهي السبب في رحيله اليوم، وفقا للجبين، الذي يشير إلى أن النواب كان قويا جدا جسديا ويهتم بصحته كثيرا، لكن وفاة والدته كان لها الأثر الأكبر في وفاته اليوم.

ويضيف أن “اللحظة التي تبلغ فيها بوفاة والدته كانت لحظة صادمة، لم يكن يتوقع أن تموت هذه المرأة”.

يروي الجبين اللحظات الأولى التي عاشها النواب عند سماع نبأ وفاتها وكيف أثرت بعد ذلك عليه بحيث أصبح إنسانا مختلفا.

“اتصل ليطمئن عليها في بغداد في أحد أيام عام 2005.. أخبروه أن لا أحد في المنزل.. فسألهم أين ذهبوا، أجابوه أنهم في طريقهم من المقبرة لأنهم كانوا يدفنون والدته”.

يتابع الجبين “مباشرة أصيب بصدمة، وهذه الصدمة حسب وصفه وتعبيره اختارت أضعف ركن من أركان جسمه وهو جهازه العصبي”.

بعد تلك الحادثة الحزينة على قلب النواب تم تشخيص إصابته بمرض الشلل الرعاشي وظل عليلا مذاك.

يقول الجبين “هو مات من تلك اللحظة، ولم يعد مظفر الذي اعتدنا عليه، الإنسان الفرح حتى في قصائده الحزينة تتلمس الفرح والاحتفال بالمحبوب والتفاؤل ولا يوجد عنده يأس.. فقدانه لوالدته دمر روحه من الداخل”.

الشعر الثوري

بسبب ميوله السياسية وشعره الثوري قضى النواب أكثر من نصف حياته في المنفى بعيدا عن بلده الأم متنقلا بين سوريا ولبنان وليبيا ودول أخرى.

بدأت موهبة النواب الشعرية تظهر منذ أن كان في مرحلة الدراسة الابتدائية وحتى الثانوية قبل أن يدرس في كلية الآداب التي تخرج فيها عام 1956 ويتم تعيينه بعدها مفتشا فنيا بوزارة التربية. انتمى في شبابه إلى الحزب الشيوعي العراقي وناضل في صفوفه.

شهدت تلك الحقبة من تاريخ العراق فترة انقلابات وصراعات شديدة بين الشيوعيين والقوميين الذين سيطروا على الحكم بعد انقلاب عام 1963 لتتم ملاحقة النواب ورفاقه، مما اضطره إلى الهرب لإيران محاولا التوجه للاتحاد السوفيتي السابق في حينه.

لكن المخابرات الإيرانية اعتقلته وسلمته للسلطات العراقية ليحكم عليه بالإعدام ومن ثم يخفف الحكم للسجن المؤبد.

دخل السجن في نهاية عام 1963 حيث كتب قصيدته الشهيرة (البراءة) التي تعد واحدة من أهم ما كتب.

احتجز النواب في سجن “نقرة السلمان” سيئ الصيت المخصص في حينه للمعتقلين السياسيين، وبعدها نقل إلى سجن الحلة في محافظة بابل حيث تمكن من الهرب بطريقة مثيرة بعد حفر نفق من زنزانته إلى خارج أسوار السجن.

استمر هاربا حتى عام 1969 عندما صدر عفو عام عن المعارضين السياسيين فغادر بعدها العراق وتنقل بين عدد من العواصم العربية منها بيروت ودمشق وعمان.

الريل وحمد

خلال تلك الفترة أنهى النواب أول دواوينه وكان باللهجة العامية العراقية وحمل عنوان قصيدته الشهيرة “الريل وحمد” والتي بدأ في كتابتها عام 1956 وانتهى منها عام 1958.

خرجت من هذا الديوان أشهر الأغاني العراقية، ومنها “الريل وحمد” و”البنفسج”، التي غناها المطرب العراقي المعروف ياس خضر.

اهتم كثيرا بالقضية الفلسطينية وكتب عنها عشرات القصائد منها قصيدة (القدس عروس عروبتكم) التي هاجم فيها القادة العرب بألفاظ حادة وبسببها منعته معظم الدول العربية من دخول أراضيها فكان يلقب بـ “شاعر القصيدة المهربة”.

في عام 1976 أثارت قصيدة “تل الزعتر” عن أحداث مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين في لبنان موجة غضب جديدة ضد الشاعر العراقي مما اضطره للترحال من جديد وانتقل إلى ليبيا.

دأب على انتقاد قمم جامعة الدول العربية فكان يكتب قصيدة عقب كل قمة يهاجم فيها المواقف السياسية لقادة المنطقة ومن هذه القصائد (دوامة النورس الحزين) و(القمة الثانية) و(تكاثرت القمم).

من قصائده أيضا (بنفسج الضباب) و(في الحانة القديمة) و(قراءة في دفتر المطر) و(يا حزن) و(عائلة القطط) و(يا جهيمان). ورغم تأثره بالأوضاع السياسية التي عاصرها وكتب عنها جاءت قصائده الأخرى في الحب والغزل عذبة ورقيقة.

صدام والأسد

بعد صعود حزب البعث إلى السلطة في عام 1968 وإصداره عفوا عاما عن السجناء السياسيين التقى النواب بصدام حسين، الذي كان يشغل في حينه منصب نائب رئيس الجمهورية.

عن هذه الحادثة يقول النواب في مقابلة متلفزة سابقة إن اللقاء استمر لنحو ساعتين في بغداد حيث أبلغه صدام أن الشيوعيين يجب أن يتعاونوا مع البعثيين وعرض عليه تولي منصب رسمي لكنه رفض. هرب النواب بعدها لخارج العراق ولم يعد للبلاد حتى عام 2011 لبضعة أيام ومن ثم غادرها مجددا.

يقول الروائي السوري إبراهيم الجبين إن النواب أبلغه ذات مرة أن أحد المقربين من صدام حسين انشق عن النظام وروى كيف كان الرئيس العراقي السابق يستمع لقصائد النواب الشعبية ويبكي.

ويضيف أن “هذه الحادثة أثرت بمظفر كثيرا على اعتبار ان أحد ألد أعدائه والذي حكم عليه بالإعدام، يستمع لأشرطته الممنوعة في العراق ويبكي متأثرا”.

ليس هذا فحسب إذ يشير الجبين إلى أن النواب كان له موقف مع الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، إذ يؤكد أنه رفض مقابلته على الرغم من أنه كان يعيش في دمشق، في ظل نظام سياسي دكتاتوري وشمولي.

يقول الجبين إن النواب “قبل الضيافة والبقاء في سوريا لكنه رفض الدعوة الرسمية، التي جاءته لزيارة القصر الجمهوري ولقاء الأسد”.

يشير الجبين إلى أن النواب كان “يتمتع بطاقة هائلة يريد تفريغها بالشعر والسياسة والعمل النضالي ومناوءة الأنظمة الدكتاتورية”.

ويرى الجبين أن “النواب أثر كثيرا على الشعر العربي، بمستوى لا يقل عن تأثير الشاعر الكبير نزار قباني، بل ربما أكثر لأنه كان يكتب بالفصحى والعامية معا”.

يختتم الجبين بالقول “أنا لست حزينا اليوم لوفاته، لأني مدرك تماما أن تأثيره باق ومستمر وسيصل أكثر لمن عرفه ولمن لم يعرفه من الأجيال القادمة”.

الحرة


===================

تحديث 23 أيار 2022

————————

مظفّر النوّاب: الصيحة والبشارة/ عباس بيضون

رحل مظفر النوّاب الذي طالما تردّد خبرُ رحيله في الأعوام الأخيرة التي اختفى فيها عن الجمهور، وعن الشِّعر الذي أحدث فيه دويّاً حقيقيّاً في حقبةٍ تردّدت أشعارهُ الغاضبة الصارخة، والشاتمة أحياناً.

كان مظفّر النوّاب، حينذاك، صيحةَ مرحلةٍ اختلط فيها الشعور بالعار الوطني مع الحماس والتبشير بمرحلة جديدة ليست الكلمة وحدها من أسلحتها؛ بل السلاح الفعلي والمقاومة المتفجرة والثورة التي على الأبواب.

كان النوّاب، يومها، بحجم ذلك العنف الكامن وتلك البشارة الواعدة. لا يمكننا أن نفصل لذلك بين مظفّر الشخص ومظفّر الداعية الذي كانت أمسياته المنتشرة في كلّ مكان جزءاً من مستقبل مشرف من بعيد، جزءاً من حدث يتمخّض ويكاد ينفجر وسط الصراع، ووسط الغضب الجماعي.

لم يكن في المستطاع أن نفرز ظاهرة مظفّر النوّاب من هذا الحدث الذي يتململ في الأفق. لم يكُن شعره، آنذاك، ماثلاً للأدب أو الشعر بقدر ما كان جزءاً من لحم الواقع ومن دمه، جزءاً من مستقبل موعود، من حدثٍ هو على الطّريق، من معركة. لم يكُن في المستطاع تناوُل الشعر “النوّابي” وحده، تناوُله فقط كشعر، أو قراءته بمعايير أدبية، أو عرضه هكذا على النقد الأدبي، على شعريةٍ ما بالمفهوم اليوناني للكلمة. لم يكُن ممكناً حتّى قراءة مظفّر كنصّ وفصله هكذا عن الأحداث. بل كان لا بدّ من تناوُله هو نفسه كحدث. كان أغنيةَ المعركة. لمرّة لم يكُن الأغنية فحسب، بل كان في صميم المعركة. كان هكذا، على نحو ما، المعركة نفسها.

كان هناك، بالطبع، من أنِفوا من قراءة مظفّر على النحو هذا. هؤلاء كانوا قلّة وقضيّتُهم، بالدرجة الأولى، كما ادّعوا، كانت الشعر. تصدّوا للدفاع عن الشعر الذي خافوا عليه من أن يغرق في الواقع وأن تلتهمه الأحداث. خافوا عليه من أن ينزل عن مستواه وأن يتحوّل هكذا إلى حكي شوارعي، إلى مباشَرة فظّة وإلى مجرّد سرد ومجرّد تزيين للواقع وقولٍ آخر له.

كان على الشعر هكذا أن يكون له مستواه وأن يحفظ درجته، أن يكون لنفسه فحسب. أن يكون همُّه فيها وألّا يسمح لحكي آخر أن يتغلغل فيه ويحرفه عن ذاته. كان على الشعر، بالنسبة إليهم، أن يبقى في نفيه، أن تكون قضيّته هناك. لم يكن ذلك يعني ألّا تكون له دعوى أو قضية. إذا كنّا، ذلك الوقت، نتكلّم عن الحداثة، فإنّ ذلك لا يحيلها إلى سياسة أو إلى دعوة أو إلى قضيّة اجتماعية. كان لها اشتراكُها مع الشعر في سماء واحدة. كان لها تساميها بحيث يمكن لها أن تماهي الشعر، وأن تكون هكذا، مفردة أُخرى له، مصطلحاً ثانياً واسماً آخر. كان الشعر حين يسمّي الحداثة يسمّي نفسه. كان الشعر هو أيضاً الرفض والثورة والتغيير. يمكننا القول إنّ الشعر يتحوّل هكذا إلى بديل كامل شامل. الشعر يتحوّل إلى نظريّة بذاتها، وإلى مستوى أعلى وإلى عالَم. لم يكن هؤلاء الذين أنِفوا من شعر مظفّر إلّا من يُريدون أن تُقال الأشياء ذاتُها، ربما، بطريقة أُخرى وبمستوى آخر.

كان لي حظٌّ أن أحضر مظفّر؛ وحين أقول أحضر أعنيها تماماً، الإصغاء إليه مشهدٌ كامل. ليس الشعر وحده هو الذي يلعب. معه يلعب الشخص بصوته وجسده. كان هناك ما يشبه العرض، اليدان تجسّدان وتؤدّيان والصوت يقارب أن يغنّي. أذكره وهو يؤدّي كلمة “تمطر” بصوته ويديه، يلعبُ بالكلمة إلى حدّ أن نشعر بها تمطر في فضاء الصالة.

كان، وهو الشاعر الشعبي، يشبه أن يكون من الشعراء المغنين، نوع من التروبادور. لعلّ هذا في أصل شعره. كان يومها يُلقي، وأقول يتغنّى بأولى قصائد “وتريّات ليليّة”؛ هذا العنوان الذي يجمع بين الشعر والغناء. لم يكن الديوانُ كلّه غضباً وعنفاً وسباباً؛ أو ما يُشبه السباب، كما شاع شعر مظفّر. كان في الديوان ارتعاشات شهوانية مقرونة بهمس وبنبض يشبه الزفير والخفقان. هذا الجانب في شعر مظفّر الذي، على فرادته، لم يدرج وكأنه لم يُقرأ. كان في “وتريّات ليليّة” الكثير مثله. الكثير الذي يكاد أن يكون بوحاً وارتجاجاً وارتعاشاً جسدياً.

في “وتريّات ليليّة” أيضاً كلام مكشوف مغتاظ ينفث تأنيبات وغضباً وحتّى شتائم. بالطبع، يأخذ كثيرون على مظفّر شتيمة من مثل “أولاد القحبة”، لكن سباباً كهذا يُفهم إذا ورد في كلام شعبي. إنّه ما يقذفه الفم ساعة غضب، ما ينبس به المواطن البسيط عن حنقه. لا أستحبُّ أن يتضمّن الشعر كلاماً كهذا، لكنّي أفهم أن يتضمّنه. أفهم أن يرد في كلام، بل لا أجد ما يدعو إلى تحريمه، خاصّةً إذا كان هذا التحريم بحجّة أنّه إساءة إلى الآداب وفجور شائن. لا أجد محلّاً لهذا النوع من الأخلاق في عمل أدبي.

مع ذلك، فإنّ هذا الشعر، بخلاف السائد، بعد أن حصد دويّاً وانجذابات في كلّ مكان، ما لبث أن توارى، في نوع من القصاص على شعبيته هذه. وجد من يردّ ذلك إلى خطابيته السياسية. إلى استغراقه السياسي، في نوع من النقد الذي يُنزّه الشعر عن الدعاوى السياسية، لكنّ نقداً كهذا، وإن عرف ودرج أحياناً، بقي حبراً على ورق ولم يؤثّر في قراءة الشعر أو رواجه وصيت صاحبه. إذ إنّنا لا نعرف شاعراً اشتهر بفضل شعره فحسب، ومن دون أن يردف ذلك دعوة ما سياسية، أو تتّصل، من بعيد أو قريب، بالسياسة، كتلك الدعوة إلى التحديث أو الاعتراض كما أسلفنا.

قد يكون مظفّر، الذي كان شعرهُ تظاهرة سياسية، هو الوحيد الذي عوقب على ذلك. ربّما لأنّ معركته هي التي انطفأت أو فقدت زخمها.

* شاعر وروائي من لبنان

العربي الجديد

—————————

مظفّر النوّاب.. قصائد من طين الأهوار/ سومر شحادة

أمس، رحل مظفّر النوّاب (1934 – 2022) بعد أن لاحقته شائعة الموت طويلاً. ورحيلُ الشعراء بصورة خاصّة يترك في ثقافتنا العربية حزناً طالما عرفناه مع رحيل شعراء مؤثرين في الوجدان الجمعي؛ إذ لا يزال الشعر يحمل الوجدان العامّ لهذه الثقافة، وهو ما يتأكّد عند رحيل الشعراء الذين عاشوا نجوماً، والنوّاب أحد النجوم الغاربة الآن.

وصل مظفّر النوّاب إلى القارئ غير العراقي من خلال القصائد المسجَّلة، وقد أثّر في المتلقّي إلقاءً، ذلك لأنّ إلقاءه ذلّل إلى درجة كبيرة صعوبة التقاط العامّية التي كَتب بها إلى جانب الفصحى؛ إذ ما إن يلتقط المتلقّي كلمات قليلة، حتّى يلحق بالشاعر الذي يبدو قادماً من مكان خاص في اللغة والتجربة. ذلك أنّ حزن النوّاب يقيّدُ المرء ويأسره، ونزقه وغضبه في القصائد السياسية يستنفر قوى المتلقي. كما يخلق النوّاب لدى من يسمعه ذلك الفضول لمعرفة كلّ المفردات التي يقولها، كلّ تلك التراكيب والصُّوَر التي تتدفّق بدءاً من أهوار العراق من غير أن يبدو أنّ لها نهاية. فالنوّاب شاعر غزيرٌ بالفطرة، وهو من القلّة الذين استطاعوا إشاعة العاميّة العراقية في الشعر والأدب عموماً. وقد ساهمت طريقته في الإلقاء في نجاحه الكبير في القصيدة الشعبية. يُلقي قصيدته كما لو أنّها آخر شيء يريد أن يفعله في حياته. ينفعل وينكسر، يصرخ ثمّ يقرأ بصوتٍ شجيّ يكاد يصير همساً.

يمكن لإلقائه أن يؤثّر حتّى في من لا يعرف العربية، فكيف بمن يتوق إلى معرفة مفردة أو مفردتين بالعاميّة العراقية حتّى يتمّ المعنى الذي أراد إيصاله إلى العاشق أو المشتاق، إلى من فقد وطنه أو نُفي عنه؛ إذ ينقل إلى متلقّيه، أو يزرع في متلقّيه، ذلك الوعي المتولّد من طاقة شعورية صادقة؛ بأنّ عليك أيضاً أن تعرف ألمي، لأنّه ألم يعنيك، لأنّه عنك، ولأنّه ألمك.

النوّاب شاعر غاضب، وغضبه سياسيّ بالدرجة الأولى. قصيدة “القدس عروس عروبتكم” من أشهر القصائد السياسية، وتمثّل فلسطينُ جوهرَ موضوعاته في هذا الشأن، إلى جانب ما لحق بها من جرّاء الأنظمة العربية وطغيانها. وكان النوّاب قد خرج من سورية إلى لبنان على خلفية قصيدته “تل الزعتر”، بمساعدة إحدى المنظّمات الفلسطينية، وهرب بجواز سفر يمني إلى ليبيا. وتمثّل هذه الحادثة للعراقي المنفيّ صورةَ الشاعر الذي تنفيه أوطانه، وتُحاول إنقاذَه في آنٍ واحد. وقد انتشر شعره على النحو نفسه؛ إذ مُنِعَت قصائده في العراق وخارجه في ظروف مختلفة، لكنها انتشرت مع المنع، وقُرِئت مع المنع حتّى قهرته.

ولربما يكون من أكثر الشعراء الذين كالوا للأنظمة القصائد الهجائية التي استمرّت تعرّي تخاذلها من جهة، وتُنصّب الشاعر في ذلك الموقع المتفرّد من الوجدان الشعبي والشعري العربي من جهة أُخرى. ويمكن للقارئ أن يلتقط لديه ذلك الفارق بين شاعرٍ هو حنجرة الناس، بما تحمله سليقتها من شتائم ضدّ حكّامها، وبين شاعر ينمّق لغته كي تتلاءم مع مقولة الناس. ما يشبه فكرته عن استخدام العاميّة في الشعر، فهو يشبّه العامية بصناعة التماثيل من الطين، حيث يجد امتداد الحضارة العراقية، على عكس الفصحى التي يشبّهها بالنحت في الصخر. لكن، في الوقت نفسه، قصيدة النوّاب قصيدة بلاغية، والصورة الشعرية أبرز محدّداتها.

يذكر مظفّر النوّاب، في أحد حواراته، أنّ المنافي التي كان يدور الحديث عنها بصورة دائمة في عائلته، هي أحد منابع شعره، إلى جانب عيشه إلى جوار النهر، وما النهر سوى كناية عن الارتحال. من قصيدته “في الحانة القديمة” نقرأ: “سبحانك كلّ الأشياء رضيت سوى الذُّل/ وأن يوضع قلبي في قفص في بيتِ السُّلطان/ وقَنِعتُ يَكونُ نَصيبي في الدُنيا كنصيب الطير/ ولكن سُبحانَك حتّى الطيرُ لها أوطانْ… وتعود إليها/ وأنا ما زلت أطيرُ/ فهذا الوطن الممتدّ من البحر إلى البحر/ سجونٌ متلاصقةٌ/ سجّانٌ يمسكُ سجّان”.

هكذا كان مظفّر النواب يرى نفسه، طائراً مرتحلاً خارج السجون، بين المنافي، لا بين الأوطان.

* روائي من سورية

العربي الجديد

——————————

مظفّر النوّاب.. كان هكذا شاعر الأغلبية/ محمود الحاج

نُفاجأ حين نعثر، بالصدفة، على الأعمال الكاملة لـ مظفّر النوّاب (1934 – 2022) في مكتبة دمشقية أو في معرض كتابٍ بيروتيّ. أعمالٌ كاملة نراها، فوق ذلك، في أكثر من طبعة وعن أكثر من دار نشر: طبعاتٌ بأغلفة مصمّمة على عجَل، كما يبدو، أو بشكلٍ هاوٍ، مطبوعة على ورقٍ رخيص، ومغلّفة بكرتون تلمع طبقة البلاستيك الشفّافة عليه. كيف يمكن لشاعر لم ينشر، حسب علمنا، إلّا ديواناً عامّياً (“للريل وحمد”) وآخرَ فصيحاً (هو عبارة عن قصيدة واحدة طويلة – “وتريّات ليليّة”)، أن يُصبح من هؤلاء الذين تَجمع دور النشر أعمال حياتهم وتقترحها على القرّاء؟

ليس التساؤل إنكارياً. فالقصائد التي وضعها النوّاب كثيرة، وهي حَريّة بديوان كامل. نُفاجأ، فقط، لأننا لا نتخيّل الشاعر العراقي – الذي رحل عن عالمنا أوّل أمس الجمعة عن 88 عاماً – واقفاً في صورة جماعية بين الشعراء الذين عادةً ما تُطبع أعمالهم الكاملة؛ الشعراء الجدّيين، المؤنّقين، الذين يستيقظون كلّ يوم عند ساعة معيّنة، يتناولون فطورهم ويبدأون بالكتابة – عند ساعة معيّنة أيضاً – قبل أن ينتقلوا إلى مهامّ أُخرى في برنامجهم اليومي. صورته في بالنا، وفي بال كثيرين ممّن عرفوه وعرفوا تجربته، هي صورة شاعر هامشيّ، يصعب جمع آثاره. وللشاعر الهامشيّ اسمٌ في التراث الشعريّ العربيّ: صعلوك. ليس في الكلمة تحقير. فالصعلوك، كما عرفته العرب، وكما نعرفه اليوم، هو ذاك الخارج عن أعراف أقرانه، وهو، بلغة كولن ويلسن، ولغة المثقّفين العرب في الستّينيات والسبعينيات، غير منتمٍ.

رغم المكانة التي وصل إليها النوّاب بدءاً من ثمانينيات القرن الماضي عند قوسٍ من المستمعين والقرّاء العرب، إلّا أنه لم يكن، بالمعنى الحرفيّ، منتمياً إلى أقرانه من الشعراء. لا نتخيّله، بالتأكيد، جالساً إلى طاولة، عند ساعة معيّنة، ليكتب. ولا نتخيّله جالساً أمام ناشر أو ممضياً ساعة معه على الهاتف للحديث عمّا سيُصدره. بل قد لا نتخيّله كاتباً أبداً. ما نراه، هو شاعر يتكلّم، يقول ما يريد قوله، يلقيه ربّما أمام آلة تسجيل أو يُفضي به إلى أحدٍ ما من أصدقائه ومريديه الشباب، كي يدوّنه عنه. وإذا صارَ وكتب، فقد يكون واقفاً، في غرفةٍ أو في الشارع؛ قد يكتب على يده ربّما، على منديل ورقيّ، أو على وصفة طبّية يُسندها إلى ركبته أو إلى كتابٍ ما، كي لا تتمزّق تحت رأس القلم.

ذلك أنّ الشاعر الراحل كان، قبل كلّ شيء، شاعراً شفاهياً. لا نقول هذا لأنه قال شعراً عامّياً – ربّما عُرف به ونال استحساناً أكثر من شعره الفصيح – بل لأنّ علاقته بالقصيدة، حتّى تلك التي وضعها بالفصحى، هي علاقة كلامٍ وحديث، كما لدى قدماء العرب. والحديث، كما يعلّمنا الفلاسفة، أقلُّ ضبطاً للعواطف من الكتابة. إنّه ابن الحدث، ابن اللحظة، بما يعنيه ذلك من فوريّةٍ وفوَران، من عفويّة ومن غيابٍ لسُلطة الوقت وإعادة القراءة (إن لم نقلْ لسلطة العقل). إنّه أقلّ دبلوماسيةً من الكتابة. وهو، قبل كلّ شيء، أكثر رنيناً، غنائيةً ولحناً. لهذا ربّما، ولأسباب أُخرى بلا شكّ، لم يجد عدد من المغنّين العراقيّين صعوبةً في تلقُّف قصائده. “مرّينا بيكم حمد”، التي غنّاها ياس خضر، بدت أغنيةً حتى قبل أن تُلَحَّن وتتحوّل إلى أغنية.

لا نبالغ هنا في الحديث عن شفاهية صاحب “للريل وحمد”، ولا نريد بذلك اختزال تجربته أو التقليل منها. نلاحظ، فقط، اختلافاً في مسيرته الشعرية عن كثيرٍ من مجايليه. ليس فقط لأنه جمع، طيلة مسيرته، بين الفصحى والعامّية، ضمن مستوى شعريّ واحد – وهو شيءٌ نادر لدى الشعراء العرب البارزين في وقتنا. بل لأنّ تجربته تدين قبل ذلك، في رأينا، إلى الفم والأذن، فمه وآذان مَن يصغون إليه، أو إلى تسجيلاته، قبل دَينها إلى النظَر الذي ترتبط به الكتابة والقراءة عادةً.

فالشاعر، الذي لوحق في بلده، وسُجن فيه، ومُنع شعرُه فيه، وحُكم فيه بالإعدام، ونُفي منه، بسبب معارضته وشيوعيّته، ظلّ حاضراً في العراق عبر صوته. كما أنه ذهب بصوته إلى سورية، ولبنان، وليبيا، وغيرها من البلدان العربية، حتى قبل أن يقيم فيها. كان يزور كلّ هذه البلدان بأشرطة كاسيت سُجّلت عليها قصائده الشعبية، وقصائده السياسية أو الغزلية. وكانت تلك الأشرطة مادّةً شائعة في العراق، وكذلك في سورية، وفي غيرهما.

في سهراتهم، يشرب المثقّفون، يتحدّثون عن الشعر والكتابة والسياسة، وليس غريباً، في مشهدٍ كهذا، أن يكون داخل المسجّلة، على طاولة في زاوية الصالون، شريطٌ لـ”القدس عروس عروبتكم”، لـ”للريل وحمد”، لـ”تلّ الزعتر”، لـ”الحانة القديمة” أو حتى شريط أغانٍ لمطربين عراقيّين يؤدّون قصائده.

مظفّر النوّاب كان هكذا، شاعراً تسمعه وتقرأه الأغلبية: “سواد” الشعب، كما يُقال، والنخبة – أو قسمٌ منها على الأقلّ. بالتأكيد، لم تكن قصائده تروق للجميع. فثمّة مَن قد يرى مباشرةً سياسيةً في كثير منها، وثمّة مَن قد يرى، في قصائد أُخرى، غنائيةً وإنشاءً سهلَيْن. قد يكون هذا هو الثمن الذي يدفعه شاعرٌ لم يشأ الفصل بين قصيدته والواقع الساخن – سياسياً كان أو شخصياً.

لكنْ، عندما كان النوّاب يلقي، في أحد مقاهي دمشق، قصيدته التي شاعت بين المثقّفين السوريّين (“دمشقُ عدتُ بلا حزني ولا فرحي/ يقودني شبحٌ مضنىً إلى شبحِ”)، كان الجوّ بعيداً عن نقد النخبة، بل لحظة يصل فيها الشعر إلى ذات المستمع من دون حواجز العقل والأسئلة. فالتجربة، بعُريها، تمثُل هنا، في هذه الاعترافات:

“دمشق عدتُ وقلبي كلُّه قُرَحٌ

وأين كان غريبٌ غير ذي قرحِ

هذي الحقيبة عادت وحدها وطني

ورحلة العمر عادت وحدها قدحي

أُصابحُ الليل مصلوباً على أملٍ

ألّا أموتَ غريباً ميتةَ الشبحِ”

شفافيةٌ تذكّر، على سوداويّتها، بقصائده الأُولى التي تغنّى فيها بلحظاتٍ من شبابه العراقي: مثلاً، قطار الليل الرخيص ذاك، الذي بات أشهر من أن نعيد روْي قصّته.

——————————————

مظفر النواب.. رثاء مرحلة/ رائد وحش

لا يوجد أخطر من الكتابة عن شاعر مشهور، لأنّ كل فكرة أو تأويل معرضان للاصطدام بتأويلات أخرى لدى جمهوره. ولهذا تبدو قلة الكتابة التي تغامر بفهم جديد للمشاهير من الشعراء محاصرة بأكثر من وهم، كالاعتقاد بأنه مفهوم بشكل كامل لدى الجميع، أو الرغبة بالابتعاد عن التصادم مع تصورات راسخة عنه.

وحين نتحدث عن مظفر النوّاب فلا يمكن أن نتحدث عنه شاعرًا قدّم تجربة جمالية وحسب، بل عن كونه ناطقًا شعبيًّا باسم حلم، ومن عادة الأحلام أنها لا تقبل النقاش، فهي إما تُؤخذ في كُلِّها أو تُترك. ومع شاعر مثل مظفر نكون معه أو ضده، لأنّ الموقف يتعدى الشعر كفن إلى حيث يكون تعبيرًا عن إيمان سياسي وأخلاقي.

ميزة النوّاب في ترجمته وتعبيره وتمثيله ذلك الحلم أنه جعل معناه مرتبطًا بالغاضبين من المقاومين، ولأنّ الغضب حالة انفعالية تركز على أمر واحد، ولا يسعها سواه، كان المنطوق يتحدث عن بطولات شهداء ومقاومين مثل الشهيد السوري خالد أكر، بطل عملية الطيران الشراعي، أو أحداث مأساوية مثل مجزرة مخيم تل الزعتر. يقول في أكر: “اهبطْ عليهم فإنك قرآننا/ قل هي البندقية أنتَ/ وما لك من كفءٍ أحد”.

بذلك الغضب عبّرت قصائده عن التطلع إلى تحرير فلسطين من الاستعمار والبلدان العربية من الاستبداد. وبه قامت بالتنكيل بالخونة والفاسدين والمخبرين. وفوق هذا وذاك، منحَ هذا الانفعالُ الناريّ صاحبَه كاريزما الثائر.

الاستثنائي أن ذلك جاء عبر تسجيلات صوتية، غير واضحة في كثير منها، لجلسات شعرية نسمعه فيها يقرأ ويترنم ويغني، وأصواتُ من حوله من طربهم توحي أنهم في أعلى أعالي التجلي.

بالأداء فقط تواصل ضخ هذا الشعر، وبسبب براعة ذلك الأداء حفظه الملايين عن ظهر قلب، لكن قلما سأل السائلون عن قصائد منشورة في صحيفة أو مجلة، أو في مجموعة شعرية. الجميع مسلّم بأنه شاعر الأُذن، وشعرُهُ وجد كي يُسمع لا كي يُقرأ، وهو بذلك راح يعيد الشعر إلى زمنه الذهبي، زمن المشافهة، حيث يُلقي الشاعر ما في جعبته وعلى من يسمع أن يستمتع ويحفظ معًا. ومع الأحداث الجسام، في فترة تصخب وتميد، كثيرًا ما مال شعره إلى السهولة، بل إلى السهولة المفرطة، حتى باتت المشافهة عند مظفر في بعض القصائد أقرب ما تكون حديث فم لأذن. لكنه حتى في أكثر قصائده فجاجة في المباشرة استطاع أن يحتفظ بمطالع تقطر شعريةً، كما في قصيدة قديمة مثل “مزاح على سفينة الترحال”: “واختَلطَ البحرُ/ المُتَنفسُ في العَتمِ/ بريحِ الليلِ الفضيةِ”، أو في قصيدة أحدث مثل “اعترافان في الليل والإقدام على ثالثة”: “في الليل جفاني اللؤلؤ/ في الوصل رعاني الصَّدفُ/ كن أنت حضوري مولاي/ تعذبني الصُّدف/ لوثني عسل الليل وغام قميصي الصيفيُّ/ ونهنهني السعفُ/ وتمارس كل فراشات المرج بأكمامي/ شغل الليل/ ومن عبقي شبعا ترتشفُ”.

يشبه مظفر النواب في هذا المنحى الصوتيّ زياد الرحباني، الذي راح يحضر في تلك المرحلة الصاخبة بالطريقة ذاتها، فهناك نصوص قصصية، أو في مدار القص، إلى جانب مسرح كامل، وصل إلى الناس سماعًا، وربما تكون مسرحية “فيلم أمريكي طويل”، التي سُجلت صوتيًّا وجرى تداولها على هذا النحو، واحدةً من نوادر المسرح الصوتي في التاريخ.

هي مرحلة الخروج من الصمت الذي فرضته عوامل موضوعية كالقمع أو التشتت، وقوّته عوامل ذاتية كالضياع أو العجز. لهذا حين بدأت مرحلة القول والتعبير بدأت عاتية وصاخبة. وسارت في لجة كبرى من الأصوات المتلاطمة، والتي تتكلم بألف طريقةٍ وطريقةٍ، من البندقية إلى العمل السياسي والنقابي، وصولًا إلى الفن والكتابة.

ليس الشعر المهموم بالسياسة والمجتمع أمرًا طارئًا، ففي تاريخ الأدب العربي يحضر الشعر في المعارك الاجتماعية لكل العصور، منذ شعراء المعلقات، وربما من قبلهم بمسافات زمنية، وحتى زمن الشعر المكتوب على الفيسبوك. ومن المعروف أن عصرنا الحديث بدأ مع شعراء أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الذين كتبوا بكثرة في مقاومة الاستعمار والاستبداد، وحضّوا على النهوض القومي، ومحاربة التخلف الاجتماعي.. وغيرها. وذلك كله بطريقة مباشرة سهلة، تجعلنا نرى من شعر النوّاب، ومن يشبهه من شعراء مرحلته أو غيرها، يقعون في هذا السياق الذي يريد جعل الشعر وسيلة لتحريض، أو تأكيد رسالة سياسية.

ندر أن نعثر على خلاف فكري أو أخلاقي مع منظور النواب السياسي، بمقابل وجود اعتراضات، تقل وتزيد، على البذاءة اللفظية التي طبعت قصائده، وحضرت في مفرداتها وتشابيهها من باب السخرية والتحقير. ولعل هذه البذاءة هي الإضافة النوابيّة غير المسبوقة في الشعر الحديث، مع التأكيد على أن جذورها موجودة بكثرة في الهجائيات القديمة، لا سيما لدى أبي نواس، وهي مع ذلك كله جزء من شفهية شعره عمومًا، دون أن نغفل ما فيها من ذكورية وتنميط ضمن فهم زماننا.

ثمة أمر لافت يتصل بشفهية هذا الشعر وانعدام الصيغة المكتوبة منه، أعاد إلينا موضوع موثوقية النص، لأننا نجد القصيدة متغيرة، ونقرأها بأكثر من صيغة بين مكان وآخر، الأمر الذي يعيد إلينا مشكلة الشعر القديم الذي احتاج إلى رواة متخصصين، بينما ظلّ شعر مظفر النواب دون راوٍ، إلى أن جاء زمن الإنترنت وبدأ بعض الحريصين برفع التسجيلات التي يمتلكونها، وربما لولا هذا لكنا حيال شعر ضائع. بمنطق النقد القديم، يمكن النظر إلى يوتيوب بوصفه أهم الرواة الثقات.

أظنّ، وليس كل الظنّ إثم، أن ثمة علاقةً معطوبةً بين قصائد النواب وذاكرة من حفظوها. فحيث تلقوها طازجةً في مرحلتها، وآمنوا بما جاء فيها، راحوا يبتعدون عنها نتيجة المرارات التي وصل إليها الحلم، حلم التغيير الكبير، الذي مثّله شعر مظفر خير تمثيل. فمن انكسار الثورة الفلسطينية وخروجها من بيروت 1982، والتوقف العملي لزخم النضال الثوري مع انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية ذلك العقد من الزمن، ومن ثم بدء حرب الخليج، فمؤتمر مدريد للسلام، الذي أفضى إلى اتفاقية أوسلو المشؤومة.. كل ذلك أثر على ذاكرة حفظة تلك القصائد، وأصحابها أيضًا، على اعتبار أن الحلم الجماعي الذي تقوم عليه يبيح لكل من شارك فيه ملكية تلك النتاجات.

ربما جاء عطب الذاكرة لأنهم لا يريدون استذكار حلم تعرض للاغتيال. أو ربما لأنهم راحوا ينظرون إلى تلك المرحلة على أنها شيء من ذكريات مراهقة تثير الضحك من الذات، أو تثير مشاعر الاستخفاف بها. عملًا بالمقولة الغربية الشائعة: “إذا بلغت العشرين ولم تكن يساريًا فأنت بلا قلب، وإذا بلغت الأربعين وأنت يساري فليس لديك عقل”. كأنَّ كوننا يساريين شيء ساذج يستوجب الخجل! ولهذا فالذين تحولوا إلى اليمين، أو درجة من درجاته، يريدون ألا يعترفوا بأن الحلم مات، وأنه من الواجب العمل على إحيائه، بل يُعفون أنفسهم كليًّا من الأعباء كلها حين يعتقدون أن المشكلة كامنة في أنهم اختاروا الجبهةَ الخطأ. ولا شكّ أن هذا يتصل بسيطرة نفسية تمارسها الرأسمالية، خصوصًا في صيغتها الليبرالية الجديدة، حيث تربط اليسار بكل ما هو رومانسي، لأنها تدرك جيدًا أن يسارية أربعينات وخمسينات البشر تكون أشدّ خطورة منها في عشريناتهم، لأنها ترتبط بوعي أعمق، لا للسياسة وحسب، بل للحياة كلها.

ألا يبدو موت الشاعر اليساريّ فرصة لإمعان النظر في القيم الأخلاقية التي أوهمونا أننا تجاوزناها، مع أننا لا نزال نصارع الأعداء ذاتهم في الميدان ذاته؟

مظفر أول من صنع شعرًا أدائيًا في العالم العربي. الإلقاء هدف قصائده. وبه يأخذنا باتجاه اجتماع مدهش للأسلوب والصوت في تجويد الكلام وترخيمه وغنائه، مُحولًا القراءات إلى جلسات من زمن الشعر المفقود، ولعل أهم ملامح أسلوبه الأدائي هذا أنه مستمد من تراث الندب والنواح العراقي، ولهذا ما إن نسمع صوته حتى يطير بنا إلى عالم المعابد القديمة، أو الفلكلور العراقي في لحظات امتزاج الهُوْسات البدوية باللطميات الدينية.

المداخل إلى هذه التجربة كثيرة، والذي يقال فيها أكثر من كثير، وعلى الرغم من المفاضلات بين شعره العامي والفصحى، وبين شعره السياسي وغيره، فإن سرّه في صوفيته المتحولة، التي تجعل من الذات الكبرى التي تروم الذوبان فيها إلهًا مرّةً، وثورةً مرّةً أخرى، وخمرةً وندامى مراتٍ.

ليس مظفر النواب شاهدًا على مرحلة شعرية عربية وحسب، لكن لعله آخر من مثّلوها؛ مرحلة ميزتها العلاقة الشائكة والمعقدة بين الجمالي والسياسي، بين الذاتي التأملي والجمعي الصاخب، بين الشعر الذي يُلقى ويُسمع، والصور التي يدوّنها في النفس. حتى في آخر لحظاته انعزالًا لم ينسحب من العام، بل بقي مشتبكًا معه، وحين وصل إلى لحظات صمته استُخدِمت قصائده كل مرة كأنها رأي في كل حدث جديد وراهن. لذلك لا يبدو رثاء مظفر النواب ممكنًا إلا برثاء حقبة شعرية، ربما يكون آخر من حملوها على أكتافهم.

الترا صوت

—————————-

في رحيل مظفّر النواب.. صنع اسمه.. ومضى

حسين بن حمزة، علي لفتة سعيد

صنع اسمه.. ومضى

حسين بن حمزة

حيًا، أو ميتًا.. ليس هنالك فرقٌ حاسم وجوهري في حضور مظفر النواب. لقد صنع الشاعر اسمه وانتهى مبكرًا من تسجيله في وجدان القرّاء وذاكرتهم. لعلّ ذلك حدث منذ أن انتشرت التسجيلات الصوتية لقصيدته الأكثر شهرة “وتريّات ليلية”، التي لا يزال كثير منا يحفظ مقاطع كاملةَ منها، خصوصًا ذلك المقطع الذي يبدأ بسؤاله الاستنكاري المدوّي: “القدسُ عروسُ عروبتكم؟!”، ويتضمن تلك الشتيمة التاريخية للزعماء والمسؤولين العرب، بل لعلّ مظفر النواب نفسه كان في بال الجماهير وعموم القرّاء مساويًا لتلك القصيدة الجريئة والفريدة، ومتطابقًا مع شتائمه التي كانت تشفي غليلهم، وصارت مسجلة باسمه. الزمن الذي تلا ذلك لم يُضفْ كثيرًا إلى ما صنعه الشاعر، باستثناء أن الزمن نفسه تغير، وسمح لنبرته السياسية الشتّامة، ولغته المباشرة والغاضبة، أن تتراجع وتُفسح المجال لشعره المكتوب بالعامية العراقية، وباللهجة الريفية لأهوار العراق وجنوبه، أن يظهر جنبًا إلى جنب، أولًا، مع شعره السياسي والفصيح عمومًا، ثم أن تميل الكفة بالتدريج لصالح هذا الشعر العامي. حدث ذلك مع عدد من القراءات والآراء النقدية المتأنية التي راحت تكشف أن شعر النواب السياسي والهجائي نجح في كسب الجمهور العريض، ولكنه تضمّن التضحية بكثير من الشعرية ومتطلباتها.

قبل ذلك، كان صاحب قصيدة “عبد الله الإرهابي” قد انتهى من صنع اسمه. كأن الزمن الذي تلا صناعة اسمه لم يُضف كثيرًا الى اسمه وحضوره. كان شعره قد صار متداولًا ومعروفًا ومقروءًا ومسموعًا على نطاق واسع. كأنه حصل على مجده الشخصي. كأن كل ما جاء بعد ذلك كان بمثابة وقت إضافي لم يحدث فيه شيء تقريبًا سوى ترسيخ الاسم وتثبيت المجد.

لسنا هنا في وارد إعادة هذه المقارنة بين شعره الهجائي (وبين شعره المكتوب بالفصحى عمومًا)، وبين شعره العامي، ولكن تجاهل ذلك تمامًا ليس ممكنًا أيضًا. خلاصة القول إن الافتتان بشعره الهجائي والسياسي انحسر مع مرور الزمن، وتغير الظروف والأيديولوجيات. الشعر الخطابي والمباشر لا يصمد فنيًا وشعريًا ضد الزمن وتغير الذائقة. ولكن في حالة مظفر النواب، بقي شعره السياسي محتفظًا ببريقه وتأثيره، وإن كان ذلك يحدث مع تراجع هذا النوع من الشعر. ولعل هذا ينطبق، بطريقة ما على كل شعره المكتوب بالفصحى، إذْ ظل هذا الشعر محتفظًا بالوزن والإيقاع والاحتجاج والتعبئة والاعتراض والتنامي الدرامي والغنائي المعهود في تجربته. وهو شعرٌ أقلّ ثراءً وتأثيرًا من شعره المكتوب بالعامية.

لا ننسى هنا أن بعض قصائد النواب السياسية والاحتجاجية كُتبت بالعامية أيضًا، وأشهرها هي قصيدة “البراءة”، ولكننا حين نتحدث عن شعر النواب العامي، فإننا نقصد مساحة أخرى ومعجمًا آخر ونبرة أخرى. نتحدث عن إمكانات شعرية وتخييلية هائلة، وعن موهبة فريدة في استدراج اللغة الريفية المحكية والعادية إلى مناطق شديدة الشعر، ومحمّلة بتاريخٍ طويل وثريّ من الشجن العراقي الذي تذوّق كثير منا أجزاء منه من خلال الأغنية العراقية. مظفر نفسه لُحّنت له قصائد وغُنّيت مثل “حن وآنه حن”، و”البنفسج”، و”للريل وحمد”، وهي أغنيات غنّاها ياس خضر بصوته الذي أضاف طبقات أخرى من الشجن والعذوبة إلى قصائد النواب، وهي قصائد تبدو ولا تزال صعبة على المساحات الضيقة للأغاني عمومًا. قصائد فيها صور واستعارات ولعبٌ باللغة وبلاغات أعمق وأقوى مما هو سائد في الأغنية العادية والدارجة، ولكن ـ ينبغي القول ـ إن شعر صاحب “للريل وحمد” لم يكن غريبًا تمامًا عن مناخات الأغنية العراقية، فهي مليئة بالشجن ذاته، والحزن عينه، وبكثير من الصور الشديدة الشعرية.

النواب نفسه كان يغني بعض هذه الأغاني والمواويل والأبوذيّات في سهرات خاصة مصحوبة بالشراب والأنس والحزن، وبالألم أيضًا، فهو نادرًا ما يغيب في مزاج العراقيين عمومًا.

هكذا، صارت قصيدة مثل “مو حزن.. لكن حزين” هي التعويذة البديلة عن تعويذة “وتريات ليلية” في ذاكرة قراء مظفر النواب ومريديه، خصوصًا من الأجيال التي جاءت لاحقًا. لم يشمل هذا التبديل الاستغناء كليًا عن التعويذة الأولى طبعًا، ولكن منسوب الشعر والشجن والتخييل جعل حضور الثانية (العامية) أثقل وأقرب إلى الذائقة القرائية التي تغيرت مع الزمن.

نعود مجددًا إلى حضور مظفر النواب وغيابه، لنقول إن حضوره يكاد يكون شفويًا. لقد صدر ديوانه “للريل وحمد”، ولكن قلة قليلة كانت تمتلك نسخة منه. وصدر ديوان آخر له بالفصحى لاقى مصير الأول نفسه. نُشرت له قصائد هنا وهناك، ولكن اسمه ظل مَدينًا لصوته في تسجيلات “وتريات ليلية”، بحيث بدا وكأنه شاعر بلا كتاب. ظل شعره مثل شائعة تتداولها الألسن والآذان، ظل شعره مثل منشور سري، أو مثل بضاعة مهرّبة. النواب نفسه لم يهتم بنشر شعره، ولا بجمعه حتى. لم يصدر هذا الشعر لدى دور نشر معروفة يمكن من خلالها نشر نصوصه مدققة ومطبوعة بطريقة مناسبة ولائقة بتجربته واسمه. كل ذلك لم يحدث. كأن مظفر النواب ظل اسمًا فقط. مجرد ذكر الاسم كان كافيًا لاستعادة تاريخ وتجربة وسيرة شخصية وسياسية ونضالية وشعرية. لعل هذا هو السبب في أننا نجد صعوبة في تحقيب تجربة النواب زمنيًا، وتحديد نسبه وانتمائه إلى جيل شعري عراقي، أو عربي، محدد، أو إلى سياق شعري، أو حساسية شعرية معينة، إذا استخدمنا لغة نقدية أحدث تتجاهل مصطلح الجيل الشعري.

مظفر النواب هو حالة تكاد تكون فريدة في الشعر العراقي والعربي. إنه ماركة وعلامة خاصة. إنه ابن نفسه. ابن تجربته. ابن حزنه وشجنه وعراقيّته. إنه صنيع نفسه وسليل مزاجه. إنه حالة ظلت محتفظة بسخونتها وحضورها رغم مرور الزمن. لا ننسى هنا أن النواب كان غائبًا منذ سنوات طويلة. قبل أن يصلنا خبر رحيله، كان يُقال إنه مريض، منزوٍ، معتزل. كنا نسمع بين حين وآخر خبرًا عن وفاته، ثم يأتي نفيٌ للخبر. كان ذلك يشبه سيرته وشعره. كان الشاعر شائعة ومنشورًا سريًا. كان قد صنع اسمه وانتهى من ذلك. كان قد حصل على الشهرة والثناء الذي يستحق قبل وفاته بكثير. ما جرى بعد صناعة الاسم والحصول على المجد لم يُغير شيئًا في حضوره العصيّ على الموت والغياب.

مظفر النواب.. لا بد أنه الآن في مكان ما، يواصل حضوره كما كان في حياته، شائعة تتداولها ألسن القراء، منشورًا سريًا، وديوانًا مطبوعًا، ولكنه غير موجود على رفوف المكتبات!

***

شهادات من العراق.. حوّل القصيدة إلى كائن بأظافر وأنياب ولسان طويل!

بغداد ـ علي لفتة سعيد

شيّع العراق، وخاصة طبقاته المثقفة والكادحة، الشاعر مظفر النواب، الذي مات عن عمر يناهز الثامنة والثمانين، في أحد مستشفيات دولة الإمارات العربية، بعد معاناة مع المرض. وقد وصل جثمانه صباح السبت إلى مطار بغداد الدولي ليستقبله رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، وبعض من أفراد عائلته، والأمين العام لاتحاد الأدباء والكتاب، لينقل بعدها إلى مقر الاتحاد، حيث بدأت مراسم التشييع الرسمية التي شارك فيها عشرات الآلاف من المشيعين التي ربما هي الأولى من نوعها منذ عقود. وبحسب تصريح وزير الثقافة، الدكتور حسن ناظم، فإن الراحل سيتم دفنه في مدينة النجف الأشرف، بحسب وصيته التي طالب فيها بدفنه في قبر إلى جوار أمه..

ويُعدّ النواب آخر الشعراء المحدثين في القصيدة العربية، وخاصة في جانبها السياسي، وواحد من أشهر الشعراء الذين استخدموا القصيدة في الواقع السياسي، وفي مواجهته للأنظمة العربية في العقود الماضية، وكانت أشهرها قصيدته التي حملت عنوان “القدس عروس عروبتكم”.

ولد النواب عام 1934 في بغداد لعائلة ينتهي نسبها إلى الإمام موسى الكاظم، هاجرت من العراق إلى الهند ليصبح أحد أجداده حاكمًا لإحدى الولايات فيها. قاوم الإنكليز هناك، فنفيت العائلة وعادت إلى أصولها العراقية. أكمل الدراسة الجامعية في جامعة بغداد، وهناك انتمى إلى صفوف الحزب الشيوعي، ثم أصبح مدرسًا. وخلال معارضته للحكم الملكي، طرد عام 1955 لأسباب سياسية، وتعرّض إلى التعذيب، وبعد ثورة 14 تموز التي قادها عبد الكريم قاسم عين مفتشًا في وزارة التربية والتعليم. وبعد التغيير الذي قاده حزب البعث عام 1963، غادر العراق إلى إيران، حيث اعتقلته المباحث الإيرانية (السافاك) وعذبته، وهو في طريقه إلى روسيا، قبل إعادته قسرًا إلى الحكومة العراقية التي أصدرت إحدى محاكمها حكمًا بالإعدام في حقه بسبب إحدى قصائده. خفف الحكم في ما بعد إلى السجن المؤبد. وأودع في أشد سجن عراقي حراسة، في صحراء مدينة السماوة، وهو الذي يطلق عليه (سجن نقرة السلمان)، قبل أن ينقل إلى سجن (الحلة) وسط العراق. تمكن من الهرب في أغرب حادثة تشهدها السجون العراقية، حين حفر مع سجناء آخرين نفقًا تحت السجن، واختفى متواريًا عن الأنظار، وسكن الأهوار جنوب العراق. عاد إلى الوظيفة عام 1969، حين أصدر نظام الحكم عفوًا عامًا عن المعارضين. غادر بغداد إلى بيروت، ثم إلى دمشق، وظل يسافر بين العواصم العربية والأوروبية، واستقر بهِ المقام أخيرًا في دمشق.

ونعى اتحاد الأدباء في العراق الشاعر، وقال في بيان صادر عنه: فقد العراق والعالم اليوم رمزًا أدبيًا كبيرًا، ومناضلًا مهمًا، لم يحنِ رأسًا أمام الطغاة، وظل ممثلًا لموقف عظيم ضد السلطات الغاشمة، كما ترك النواب بحياته أدبًا عميقًا، إذ كان محلقًا بجناحي الشعر، فصيحه وعاميّه، فضلًا عن المسرح، والرسم. ولفت البيان إلى أن النواب مدرسة هائلة للصمود، ودرس بليغ يعطي العبر بثباته وشموخه، فهو المثال الحرّ والأصيل للمثقف الرافض للانحناء، وقصائده ما زالت مشهودة تكبّد عبيد الظلم وذيوله ما يستحقون من المستويات الرثّة. وبيّن أن النواب كتب عن القضية الفلسطينية، وكان المدافع الأكثر ثباتًا عن حق الشعب الفلسطيني، فنصوصه ضد المحتلين تحملها القلوب وجدران المدن العتيقة، فالقدس ظلت حاضرة في روحه الشعرية الوثّابة، كما وقف مع الإنسانية والإنسان مطرزًا أجمل الأشعار نصرة للحياة.

وقال الكاتب والصحافي، فلاح المشعل، إن العراق فيه شعراء بعدد نخيله، وهو كلما تناسلت فسائله أثمر شعراء. وأضاف أن مظفر النواب ربّان سفينة الجرح العراقي ومساراته في شواطئ الغربة والاغتراب وسنوات الحريق والمحنة. وزعيم الصوت المتمرّد للعراقي المنفي في مدن الصمت والاحتجاج الأخرس، وهو رائد في حكايا السجن والشهوة الجامحة للثورة.

وقال الناقد الدكتور أحمد الزبيدي: مات النواب الوطني المعارض معزّزًا مكرّمًا، ولكن هذا الموت لو كان في العراق للطمه أحد (الرفاق) على خدّه، كما لطم عبد الجبار عبد الله، أو لطرد من الوظيفة كطه باقر، والمخزومي، أو لطرد من الحياة أصلًا، أو لمات كما مات الأب أنستاس الكرملي في منزل قديم رث المنظر، ومسجى فوق سرير حديدي منصوب وسط غرفة عارية من كل أثاث. وأشار إلى أن هذه الأوصاف السيئة “ليست مني ولا متخيلة، بل هي واقعية ذكرها الدكتور جليل العطية في كتابه “عراقيون في القلب”… فيا لقذارة الأحزاب كيف تستغل المثقفين وتجعلهم موظفين يعملون عندهم بأجور يومية، ويتخلون عنهم عندما يعلنون إفلاسهم”.

وتقول الأديبة، وفاء عبد الرزاق، إن النواب لم يكن شاعرًا ومناضلًا وصوتًا صادحًا من أجل الحق والإنسان فقط، بل كان متواضعًا، وحين يقابله أحد يحدثه بإجلال وتقدير.. وأضافت أنه كان يحمل النقيضين: الثورة والهدوء، وكأنك حين تجالسه لتتزود من معينه المعرفي، ترى بهدوئه شخصًا آخر..

أمّا الأديب محمد الكاظم، فقال إن النواب يمثل مدرسة خاصة في التمرّد والرفض، إنه حالة شعرية ثورية أخذت الشعر السياسي إلى أبعد مدياته، بعد أن كان الشاعر التقليدي يلف ويدور، ويستخدم كل ما يستطيع من أساليب الترميز والتورية ليوصل فكرة ناقدة مرتجفة إلى قارئ مرتجف. ويضيف أن النواب كان ساخطًا كبيرًا وشجاعًا حد التهوّر حينما وضع عينه في عيون الطغاة وشتمهم، ولم يعبأ، ولم يدخل قارئه في دوامة التأويل، بل تحمل لوحده تبعات شعره. ومضى قائلًا إنه كان حالة شعبية تجاوزت حدود الخريطة، ووصلت إلى الشعب العربي بكل فئاته، وتماهت مع قضاياه الكبرى، ولذا كانت قصائده ممنوعة في العراق، وكنا نتعامل مع قصائده كمنشورات، مؤكدًا أنه أخرج القصيدة من أناقتها، وأجبرها على أن تترك دور قطة المنزل، أو سعدان المناسبات، وحوّلها إلى كائن له أظافر وأنياب ولسان طويل. وقد التصق بالوجدان العراقي والعربي، لأنه كتب قصائد تحولت إلى أغان ذات طابع أيقوني لا يمكن تجاوزها، عادًا النواب حالة لا تتكرّر، وكان يعاني التشرّد والغربة لمواقفه الثورية.

ضفة ثالثة

————————-

رفيق مظفّر.. الشَّبابيكُ تكتظُّ/ علي صلاح بلداوي

رفيق مظفّر،

قرأتكَ أوَّل مرَّة خلف ماكينة الخِياطة، عصرَ يومٍ قائظٍ، وكنتَ أوَّل مَن أُصادفُه في عالمٍ موبوء، فكانت مباركةً هي الصُّدفة التي قادتني إليك.

قرأتُ قصائدكَ فلم أفهم الكثير، كنتَ عَصيًّا على صبيٍّ يطرق باب الشِّعرِ على استحياء ويخاف منه. لم تكن تلك اللّحظة سوى ظِلٍّ لقطرةِ ماءٍ من بحرك. صادفتُكَ كثيرًا، وتعرَّفت عليك مِرارًا، وكنتُ أجدُكَ في كلِّ نوبةٍ من نَوبات الحُزن أو الوَجْد. “مو حزن… لكن حزين”… نشيدٌ أحفظه لأنّ ما أريدُه ليسَ أكثر من قصيدةٍ تفضحُ ما بداخلي دفعةً واحدةً، وتُشرّع الباب لآهةٍ حبيسةٍ.

آهاتُكَ كثيرةٌ يا رفيق، وعندي مثلها كذلك، لكنَّك كنت تتولّى المهمّة في كلِّ مرّة.

ديوانُك “الرّيل وحمد” حين وجدتُه على “بسطيَّةٍ” في شارع المتنبّي قبل أعوامٍ طويلة، هو أوّلُ ما حملتُه وتباهيتُ به هناك، فصارت صداقتُنا العابرة للمكان والزمان وطيدة. على ورقته الأولى كتبتُ اسمي بجانب اسمِك حتّى قبل أن أدفع ثمنَه للبائع، هكذا شعرت كأنَّني أُجاورُ اسمكَ، ثم صرتُ أُجاورُ اللوعة العراقيَّة في صوتكَ وأنت تغنّي: “هضيمة تحنّنْ الشّامتْ عليّه”.

يبحثُ بعضٌ عن هفوةٍ في قصيدةٍ صَرْخَتَ بها، وآخرونَ منشغلون بمنفاكَ في بلدٍ لم يكن في قواميسِ محطّاتك الكثيرة، وأبحثُ فيكَ عن الإنسان العراقيّ في صدقِه الخالص ونسختهِ الفريدة، عن الصوفيِّ في غربتهِ وعن الثائرِ في مِحنته، وعن العاشقِ في بُعدهِ وعجزه. غريبًا لم تَمُتْ من كلِّ قلبكَ كما أردْتَ: “لكنَّها بلادي… لا أموتُ من القلبِ إلّا فيها”، وغريبًا في بلادك التي وصلتَها، وقد تحقَّقت نبوءةٌ قلتها ذات يوم: “يجي يوم نْرد لهلنا”، فعُدتَ.

لم يكن موتُكَ قبيحًا كما قلتَ: “قبيحٌ أن أسير إلى الموتِ بدون عيونٍ عراقيَّةٍ في الشَّبابيك”. كنتَ تسير إلى محطَّتكَ الأخيرة، والشَّبابيكُ تكتظُّ.

* شاعر عراقي من مواليد 1996

————————–

مظفّر النواب.. الممنوع والكاشف/ علي أبو عجمية

رحل الشاعر الطوّاف إذن. رحل كأنه يحقّق إشاعة موتهِ التي لازمته في السنوات الأخيرة الماضية. اسمُه الشهير ارتبط بسياسة الشِّعر أكثر من كونه رمزاً لشِعر سياسي هجّاء؛ إذ قاد الكلمات إلى القضايا الكبرى، وعمّد الرسالة بالرفض الغاضب، ولاسن النقد بالنقد، مطالِباً بالتثوير.

شاعرٌ طوى حياته بين نوستالجيا السماح بالتسلُّل إلى تاريخ المنع ونهايات الاغتراب وتحوُّلات المنفى بالإقامة بين الصمت والمرض أو منازعتهما. كأنّه شهادة موثّقة، ووثيقة، على تحوُّلات السلطة العربية، ومخاضات الولادات العسيرة للدولة في العراق، ومنطقتنا العربية عموماً، واحتدام الأيديولوجيات في صراعاتها.

ثمانية وثمانون عاماً عاش تعدادها بالخسارات الشخصية والجماعية. ولا ندري أيّ سَأَمٍ أحالته إليه اللغة باستدعاء أحد أجداده المعمّرين: زهير بن أبي سلمى الذي ثمّن ثمانينه كمعلّقة. لكن في تجاوُز الثمانين لدى مظفّر النوّاب عقود من المنافي المتعدّدة، احتماءٌ بالأرض من الأرض، وكشفٌ مستمرٌّ في سبيل الممنوع الذي انتهى مرغوباً ورائجاً ومحرّضاً على اقتناء الحرية الصغيرة حتى لو على شريط تسجيل صوتي. الشريط الذي سيصبح، مع الوقت، صيغة وجدانية لأجيال أنجزت دورها الطليعي، بما تذلَّل لصعابها وأمكن لها، فقدّمت ميراث الهزيمة بما تُراهن فيه على من أتى بعدها لإزاحته حيناً، أو تذريره في المعاني الراهنة أحياناً أُخرى.

عريساً لهزائم العربي زُفّ مظفّر النوّاب. ظَفرهُ الذي في الاسم كان يمانع جدار الهزيمة مبشّراً بالنصر. عريساً في عرس الكلمات الجريحة التي لو اعتملت؛ تعالج ندوبها بالشتيمة بوصفها فطرة العنفوان الأوّل. وبوصفها البذاءة المنشّاة باللغة، وما أطهرها وأعمقها وأقربها من بذاءة. فالقدس عروس مخذولة. “القدس عروس عروبتكم”. وكأنّ الشِّعر هو الشعار. والجملة الوصمة هي ضمير الفاعل السياسي في مواجهة العار الكبير.

“واخجلي من بيت مهزوم.

وسيخجل من باعوا لغتي؛

فأنا مكتوب في الأرز وفي العسل الأخضر في التين.

وأن أطعم بالسكر نخلات “الكوفة”

والأطفال على رابع جسر في “العشّار”

أنا لا أملك بيتاً أنزع فيه تعبي

لكنّي كالبرق أُبشّر بالأرض

وأُبشّر أنّ الأمطار ستأتي

وستغسل من لوحتنا كلّ وجوه المهزومين”

وكما ارتبط مظفّر، اسمه الأول، بالعام والعريض والجماهيري؛ ارتبط النوّاب، اسمه الثاني، بنوبات الحزن العميقة. كانت قصائده الفصيحة وقصائده باللهجة المحكيّة تبعث حالات استثنائية من التجريب العميق والتجريد الجمالي المحمّل بالأنفاس السكرانة في محاكاة تهدج صوته الغنائي، وحضوره الشخصي كعلامة أساسية للقاء نصّه وتلقّيه. يقول في قصيدة “باللون الرمادي”:

“لقد سكرتُ من الدنيا ويوقظني

ما كان من عنبٍ فيها ومن بَلحِ

تهرّ خلفي كلابُ الليل ناهشةً

أطراف ثوبي على عظم من المنحِ

ضحكت منها، ومنّي، فهي يقتلها

سُعارها، وأنا يغتالني فرحي”.

هكذا واصل فرح الغناء اغتيال المغنّي. عراقيّاً كما تمنح الولادة صبغتها الأولى انبعث الشاعر، وعربيّاً كما تشترك الأوطان في روحها واتصالها ووحدتها تنقّل كقصيدته المهرّبة، وكونيّاً كما شاءت ثقافته في معركتها ورهانها كان ويبقى. إنّنا برحيلهِ نخسر أحد أعلام ديواننا المهزوم، وتخسر العربيّة نخلةً رقّ سَعَفُها من الحزن، لكنّها بقيت ثابتة بالرفض والهجاء والغضب.

الهزيمة على حالها، والرثائيات كذلك.

* شاعر من فلسطين

العربي الجديد

——————————

رحيل مظفر النواب.. وعودة لسجال المثقف والسلطة/ إياد العنبر

كنت أنوي الكتابة عن خطاب جنين بلاسخارت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، الذي ألقته أمام اجتماع مجلس الأمن حول الوضع في العراق، الأسبوع الماضي. لكنّ حدثين تداخل فيهما السياسي والثقافي طغيا على أهمية كلمة بلاسخارت. الأول هو إقامة معرض بغداد الدولي للكتاب وافتتاحه من قبل السيد نوري المالكي زعيم ائتلاف دولة القانون، وما أثاره من سخط لدى أوساط ثقافية. والثاني وفاة الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب، وما حدث في مراسيم تشييع جنازته من مقر اتحاد الأدباء والكتاب في بغداد. وكلتا الحادثتين كانتا سببا لعودة السجال والنقاش بشأن المثقف والسلطة.

من قصيدتي “الريل وحمد” و”ليلة من ليل البنفسج”، إلى قصيدتي “القدس عروس عروبتكم” و”قمم”، يمكن لي أن أختزل بها ذاكرتي عن الشاعر الكبير مظفر النواب الذي رحل عن عالمنا الجمعة. النواب ليس ظاهرة شعرية فحسب، وإنما هو مثقف ثوري بوجه الاستبداد والظلم والطغيان، لذلك يستمد حضوره في ذاكرة الأجيال الشبابية من مواقفه السياسية التي يجسدها الكثير من قصائده الشعرية، وهذا تفسير لحضورها في هتافات وشعارات حركات الاحتجاجات التي شهدها العراق في الأعوام الماضية.

مظفر النواب كان حاضرا في مخيلتنا رغم أنه لم يعد منتجا للشعر منذ سنوات، ورغم أنه ينتمى إلى جيل الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، الذي كان مشغولا بالصراعات الآيديولوجية، لكننا نردد قصائده المغناة وأشعاره الثورية وكأنها تعبر عن موقفنا ضد السلطة، وضد جورها وظلمها وضد الحكومات وفسادها، حتى وإن كانت تتبجح بأنها أتت إلى السلطة عن طريق الانتخابات. ولذلك كانت قصائد النواب حاضرة في كثير من شعارات شباب احتجاجات تشرين 2019 في نقد الطبقة السياسية، كونها تعبر عن أفكار للثورة ضد الظلم والفساد والتسلط، ويمكن القول إن مظفر النواب ينتمي إلى جيل المثقفين الذين تأثروا بالوعي الماركسي في القرن العشرين، الذين كانوا مؤمنين بأن وظيفة المثقف كصاحب رسالة في المجتمع هي التغيير، تأثرا بمقوله كارل ماركس، “إن الأفكار لا تتحول إلى قوة مادية إلاّ حين تمتلكها الجماهير”. وتأثروا بمفهوم المثقف الملتزم الذي حدد لينين وظيفته بالوسيط بين المعرفة والجماهير، فينقل للأخيرة وعيا يطابق مصلحتها في الثورة. ومن يؤدي هذا الدور، ينتسب إلى فئة المثقفين الثوريين الذين هم جزء من قوى التغيير الثوري إلى جانب البروليتاريا والفلاحين والفقراء.

وكان الشاعر النواب وفيا ومخلصا لهذه الأفكار عن المثقف ودوره، وجسدها في واحدة من قصائده عن رفضه لهيمنة النظام الاقطاعي في العراق، في قصيدة “مضايف هيل” أو “جرح صويحب” كما باتت تعرف في ذاكرة العراقيين، “لا تفرح ابدمنه لا يلگطاعي (الاقطاعي).. صويحب من يموت المنجل يداعي”. 

وفي تشييع جنازة مظفر النواب في بغداد، كان حضور النواب واضحا في هتافات المشيعين (مظفر للشعب مو للحرامية)، وكأنهم يستحضرون مقطعا من قصيدته: (أنا ذلك الشعب الممزق.. كل ما في الشعب.. في قلبي). وبالتي عبروا فيها عن رفضهم حضور رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وبعض المسؤولين في الحكومة  لمراسيم التشييع. إذ يبدو أن كثيرا من الحاضرين كانوا يمتلكون حماس الشباب المعبر عن رفض واضح وصريح لمحاولة الحكومة الاحتفاء برمزية رمز وطني كبير، اقترن اسمه بمقارعة الاستبداد والدكتاتورية. ويبدو أن الكاظمي كان مخطئا عندما أصر على حضور مراسيم التشييع الشعبي باعتباره صديقا للنواب، وتجاهله كونه رئيس حكومة تتهمه كثير من فئات الشعب بالتقصير والعجز عن الاستجابة لمطالبها. 

أرادت حكومة الكاظمي الاحتفاء بالشاعر الكبير مظفر النواب، وتكريمه باستعادة جثمانه إلى أرض العراق الذي غادره منذ ستينيات القرن الماضي، وبقي يراوده حلم العودة، وينشد: 

يجي يوم.. نرد لهلنه

ويجي يوم إنلم حزن الأيام

وثياب الصبر ونرد لهلنه 

يجي يوم 

الدرب يمشي بكيفه 

وياخذنا لوطنه. 

لكن احتفاء السلطة بشاعر ومثقف ثوري، لا يعني أن تنسى الجماهير سخطها وغضبها عن غياب المنجز وتخاذل الحكومة وتواطؤها مع مافيات سياسية على سرقة ثروات الدولة ونهب مواردها. ومن حق الجماهير أن ترفض مشاركة وزير الثقافة في مراسيم التشييع، وقبل يومين يقف ماسكا بيده شريط افتتاح معرض الكتاب في بغداد لزعيم حزبي لا يتمتع بأي صفة رسمية في الدولة العراقية! إذ لا يمكن الجمع بين الأضداد، أن تكون مثقفا ملتزما بقضايا شعبك وهمومه وتقف مشيعا لشاعر معروف بمواقفه الثورية، وتقف متصاغرا أمام سياسي تحوم حوله كثير من شبهات الفساد ومساهمته في الخراب والفوضى التي تعمّ البلاد. 

ولا يمكن للمثقف أن يكون عقل السلطة، ولسانها، وحسامها المستلّ للمنافحة والمدافعة، ضد الناقمين عليها، ويريد أن يسوق نفسه مثقفا رسالية، وأنه صوت المستضعفين والمحرومين. فلا يمكن أن يكون- كما وصفه عبد الإله بلقزيز في كتابه نهاية الداعية- “فقيه الحاكم، ونبي المحكوم، حسام الخليفة ودرع الخليقة”!

لذلك لم يحظَ الشاعر مظفر النواب بهذه الشعبية لعذوبة كلماته الشعرية، ولا لمخيلته في الوصف والسرد، وإنما لأن مواقفه وشاعريته كانت تعبر عن التزامه إزاء قضايا وهموم شعبه ومطالبهم بالعدالة والحرية. لذلك بات النواب رمزا وطنيا للثورة. ومن ثم، من الطبيعي أن تحتفي به الجماهير؛ لأن كل كلمة من قصائده تعبر عن روح العراق وألم شعبه ومعانتهم، حتى في قصائده الغزلية والوجدانية تجد الروح العراقية، فهو القائل:

أقسمت باسمك يا عراق 

بأن أُحارب

حيثُما وجد المُحارب

أو أموت محاربا وحدي.

الحرة

—————————

دفع ثمن كلماته سنوات في السجن والمنفى.. الموت يغيّب شاعر الثورة والتمرد على الواقع مظفر النّواب

———————-

================

تحديث 24 أيار 2022

———————

لم يمت مظفر النواب/ معتز حميد

الشاعر الوحيد الذي يمكننا وضعه إلى جانب السياب، في الشعر العراقي، هو مظفر النواب.

لماذا؟

كان النواب (آدم) محكيتنا العراقية، كما كان السياب آدمها في الطرف الآخر.

منهما، ابتدأت حكاية جديدة استردت بها اللغة جمالها وسحرها الآفلين.

مهمة أحدهما، كانت، أصعب، من مهمة الآخر؛ هذا مثقل بقرون من فصيح القول الواثق من نفسه، رغم ميتاته السريرية. وذاك مثقل بعبء لسان لا صوت له. أعطى النواب لمن لا صوت لهم صوتاً حياً مديداً مدى الدهر. آدم محكيتنا أسمعنا كلاماً لا عهد لنا به من قبل، أليس هو القائل بمحكية ظنناها ميتة، فلكلورية، متحفية:

ثيابي عليّ غربة

قبل جيتك

ومستاحش من عيوني»

هذا شعر لا يقوله إلا شعراء من طراز لوركا والمتنبي والسياب في أفضل حالاتهم… شعر لا يقال بطريقة آخرى غير الطريقة التي قيل بها. من هنا عبقرية النواب.

ولأنه آدم، فقد احتفظ شعره بعذرية من اكتشف الأشياء أول مرة؛ نعم؛ جاء من بعده وبتأثيره، شعراء كبار، بما لا عهد لنا به، من قبل، لكن ما جاء به له بكورة الدهشة الأولى. شعره يتجدد مع كُلّ شاعر يولد، في قصيدة جديرة باسمها. ولأنه شاعر محكية، فقد كانت مهمته أصعب، إن جاز لنا القول؛ إذ كُلُّ مفردةٍ، فيها، هي ما يردده الناس ملايين المرات في اليوم الواحد، كيف له أن ينتشلها، من طين استخدامها اليومي دون أن تفقد رائحة الطين؟

من طينها أم وحلها؟

شاعر من طراز بودلير وحده له حق الإجابة على سؤالٍ كهذا.

ثم جاء ملحنو أرض السواد ومغنوها، ليكملوا فتنة القول الذي ما جاء به قبله، أحد في العالمين. هكذا اكتملت دائرة السحر الحلال في حناجر الناس، وفي ضمائرهم، من أقصى البلاد إلى أقصاها. ولأنه غريبٌ كنبي مخذول، فقد وجد في فلسطين ضالته الأخيرة، إليها انتهت ناقته… ناقة العربي الآخير.

للنواب موعد مع فلسطين لا يخلفه الفلسطينيون، ولن.

كان شعره بصقة في وجه من باعها واشترى في السوق.

في وجه كُلِ من باع واشترى.

———————-

ضجّة الانقسام في رحيل مظفّر النواب/ سيّار الجميل

رحل الشاعر العراقي، مظفر النواب، في الشارقة، ودفن جثمانه في بلده. وثارت موجة من الضجيج بين من جعله عملاقاً لا يُبارى ومن وجدها مناسبة للتعبير عن سخطهِ عليه لأسباب سياسّية وأيديولوجية، ولولا بعض “قصائد” بصوته وصورته لما صدّق أحد أقوالاً لهؤلاء. وقد كان مظفر كلما ألقى مقطعاً كيدياً وجارحاً جوبه بالتصفيق، وغالباً من دون أن يفهم سامعوه “خطورة” ما كان يقول.

التقيت بالرجل مرتين، في دمشق 2001 وفي أبوظبي 2005، وحادثته وحاورته، وهو معروف براديكاليته ودفاعه عن الحرّيات والتقدّمية. أما أدبه، فهو شاعر نجح بمهارة في شعرهِ الشعبي في العراق، لكنّ شعره الفصيح لا يرقى إلى قوة شعراء من رصفائه. كنا نسمع أشعاره الشعبية، ولم أكن أفهم ما يريد قوله، كونه يستخدم مفرداتٍ من لهجة جنوب العراق، فكان يسعفني أصدقاء من هناك، لأعرف ما يقول، وأنا ابن الموصل. وحتى اليوم، من الصعب أن تُفهم لهجات العراق المحلية بين العراقيين، فكيف سيفهم أبناء العربية ما يقول مظفر النواب؟

ليس مقصد هذه المقالة أن تكون عن النواب نفسه، وإنما النظر في الضجّة المثيرة للجدل بانقسام العراقيين إلى من معه ومن في الضدّ منه، ويشكّل انقسام المثقفين العراقيين هذا ظاهرة خطيرة، كما التعبير سياسياً عمّا يريدونه، خصوصاً في مناسبات مثل هذه، وكأنهّم ينتظرون حدثاً معيناً كي يزيدوا من غلوائهم في التعبير مدحاً أو قدحاً، وهو انقسام يعبّر عنه سياسياً وأيديولوجياً، لكنّه اجتماعي وثقافي عميق له تعقيداته المركّبة. وهنا تطرح ملاحظاتٌ نقدية توجب التفكير في البحث عن أجوبة لها، وثمّة من يردّد ناصحاً بابتعاد أيّ مثقف ومبدع عن التخندق السياسي واستحضار التاريخ على طريقته لأنّه في هذا يؤذي مجتمعه. لكنّ النصيحة لن تجدي نفعاً، فالسياسة مستنقع آسن، يجد المثقف، وحتى المبدع، بضاعته فيه، أكان مع التيار أم يعوم ضدّه.

نشرت جملة هائلة من المعلومات بعيْد رحيل الرجل، توجب التحرّي عنها، فلم تكن معروفة، ولم يكتبها أصحابها في حياته، فلماذا تنشر اليوم بعد ساعات من دفنه؟ وقد أحدث استقبال جثمانه وتشييعه حكومياً في بغداد موجة صاخبة إعلامياً وسياسياً، وقد دهش بعض من المثقفين من كلّ هذه الحفاوة الحكومية التي استقبل بها جثمان الفقيد، والتشييع الرسمي الذي لم تفعل مثله الحكومة الحالية عند وفاة أدباء وعلماء ومثقفين مبدعين عراقيين كبار، ما أثار موجة اتهامات وردود فعل مضادّة.

لم يكن الناس يدرون أنّ مظفر النواب التقى صدّام حسين، الذي منحه جواز سفر خلال 48 ساعة من طلبهِ، إثر الإفراج عنه من السجن الذي اعتقل فيه عام 1969، وكان للشاعر الوزير شفيق الكمالي فضلٌ في الإفراج عنه ولقائه بالسيد النائب وقت ذاك، كما كانوا يطلقون على صدّام. ثم غادر مظفر العراق بعد رفضه أيّ منصب دبلوماسي عرض عليه، وبدأ حملته ضد النظام السابق، بمعنى أنّ الرجل لم يشتره النظام السابق.

ربما يختلف معه كثيرون بسبب مواقفه السياسية أو استخدامه لغة نابية فظّة وألفاظاً بذيئة وجارحة، لكن هناك من يعتقدون أنّ السبب الحقيقي وراء هذه الموجة الصاخبة ضدّه أبيات من شعرهِ، أعلن فيها، ضمن قصيدته “وتريات ليلية”، استخفافه بزوجات النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وتهكّمه بـ”الردّة تخلع ثوب الأفعى” بالخليفة عثمان بن عفان، وعورة “ابن العاص” و”سوءة الشورى”، كما وصفها. وتسميته نفسه القرمطي، وتعبيره “وللقرمطية كلّ انتمائي” وغيرها. وقد أحرقت نعوته هذه التي اختارها، عن قصد وسبق إصرار، رصيده الشعري والسياسي في مجتمعاتٍ عربيةٍ كاملة، تأتي من مبدع مثقف وشاعر شهير، وليس من رجل دين طائفي مسعور. فضلاً عن صمتهِ عمّا جرى في العراق من مجازر حدثت بعد 2003 بحجّة المرض والشيخوخة.

ويضاف إليها عدم إدانته القتلة المجرمين والمليشيات القذرة التي قتلت مئات من الشباب العراقيين المتظاهرين. كما لم تسمع منه أيّ إدانة شعرية للاحتلالين الأميركي والإيراني، في حين عرف الرجل بصلابتهِ ضد الاستعمار وكلّ أعوانه الخونة، وكان مناضلاً حقيقياً في السجون التي أنزلوه فيها، ومنها “نقرة السلمان” الصحراوي، أو بقاؤه محكوماً بالإعدام في سجن الحلة قبل حفره، مع سجناء مثله، نفقاً، والهرب إلى الحرية، فراراً من أحكام الإعدام، فهرب وجرت ملاحقتهُ من بلد إلى آخر، حتى استقر في سورية. فضلاً عن غرابة التناقض بين من سفّه وجودهم من “الأعراب” في الجزيرة العربية والخليج العربي، كما سماهم غير مرة، ووجوده محتضناً منهم حتى رحيله في لحظاته الأخيرة. ووصل شتمه العرب صراحة “بين بغداد وجدّة”. وثمّة ثوابت على أيّ مبدع المحافظة عليها في حياته، بمثابة خطوط حمراء، فسوف يحرق أوراقه كلّها إن لم يكن اليوم، حيث عواطف الناس معه، لكنّه يسجل نقاط ضعفه أمام الأجيال المقبلة.

ليست المشكلة فقط في شعر مظفر النواب، والحاجة إلى دراسته ونقده بعناية. وقد قال سعدي يوسف عنه إنّه بارع في شعره الشعبي واللغة المحكية، وليس في نثره الشعري بالفصحى، مع استخدامه المفردات الجارحة والتوصيفات المبتذلة التي روّجها بمتعة، حتى في الأوساط العربية، وإنّما المشكلة في الانقسام الثقافي العراقي اليوم، ذلك أنّ مؤيديه وعشّاقه لا يعترفون بأنّ دور مظفر النواب المبدع انتهى مع عام 2003، ولم يعترفوا بأنّه لازم الصمت على ما حدث من فجائع في العراق، مقارنة بمعارضيهِ ومنتقديه الذين يدينون عليه صمته، ويتهمونه بأسوأ الصفات، ويسقطون ذلك على نضاله وصفحات حياته، بل واتهامه أيضاً باتهاماتٍ شتى، في مقدّمتها “الطائفية”، وقد منحهم بنفسه أسانيد على ذلك بصوته وصورته في لحظة خاطئة، استحضر فيها التاريخ متمايزاً من دون مراعاة مشاعر الملايين.

أتمنّى مخلصاً أن تهدأ مشاعر كلّ الأطراف، احتراماً للرجل، وقد رحل عنّا، والتعامل مع إشكالاتٍ كهذه بهدوء وحكمة.

—————————–

مظفر النواب مجهولاً ومظلوماً/ معن البياري

تسأل المذيعة في التلفزيون السوري ضيفها في الاستوديو، مظفر النواب، عن سبب عدم زواجه، فيجيب إنه حمايةُ أبناءٍ قد ينجبهم من عسف الطغيان في بلده العراق. كان هذا في مقابلةٍ معه، أظنّها الوحيدة التي استُضيف فيها على شاشة التلفزيون السوري، في عامٍ بعيدٍ من الثمانينيات. ولا تُفتتح هذه المقالة المحبّة للشاعر الكبير حقا، بالعامي وبعض الفصيح، بتلك الواقعة، للتجريح به، وإنما للقول إن الصورة الذائعة عن صاحب الوتريات الليلية تحتاجُ إلى شيء من الواقعية، أي تنزيل الرجل من علياءَ ثوريّةٍ إلى إنسانٍ شاعرٍ وحسب، له سقطاتُه، البائسة مثل تلك على شاشة حافظ الأسد، ومثل تغنّيه بجهيمان العتيبي (مثليْن، وثمّة غيرهما)، كما له من حميد الأوصاف كثير، فهو الزاهد القنوع، النائي عن الأضواء والمهرجانيات، الفقير الغنيّ النفس، الذي لم يسقُط يوما في مديحٍ نفعيٍّ لأي رئيسٍ أو وزيرٍ أو حاكم. وكان في وسعه أن يعيش في ظروفٍ أحسن، سيما في العشرين عاما الماضية، في مواقع محترمة، غير أنه آثر الانسحاب إلى عزلته وصمته، واكتفى بحدودٍ دنيا من العيش الكريم، من دون أن يتزلّف لأحدٍ أو يتملّق شيخا أو رئيسا أو مسؤولا.

تزدحم في حياة الشاعر، بل وفي مماتِه أيضا، مفارقاتٌ حادّة، قد لا يخصُّ كثيرٌ منها ما يتعلق بشخصه وحسب، من قبيل مواساة السفارة الأميركية في بغداد الشعب العراقي في وفاته، وتسميتها له شاعرا بارزا، وهو الذي أقام على يساريةٍ عتيقةٍ ظلّت فيه، وكان مناضلا شيوعيا في شبابه. ومن قبيل إقامته في خريف عمره في الشارقة التي لقي فيها كل اهتمام، وقد أنفق بعضَ شعره في هجاء دول الخليج وحكّامها. غير أن المفارقة الأهم، والأوضح، أن الشاعر الراحل أخيرا عن 88 عاما كان مشهورا ومجهولا في آن، ما يجعله مظلوما لا شك. يختزله قرّاءٌ محبّون له ولشعره، ومخاصمون له أيضا، في بضع قصائد شتّامةٍ، ذاعت في شريطي كاسيت قبل أزيد من أربعة عقود، وسمعها بعض العتاقى في أمسياتٍ ومناسباتٍ في بيروت ودمشق وطرابلس ولندن (وغيرها)، وحفظ كثيرون مقاطع شهيرةً من قصيدتين أو ثلاث له، وتردّدت وصارت كأنها علاماتٌ دالّة عليه، من دون أن يأخذ شعرُه العريض (كل الحديث هنا عنه شاعرا فصيحا) حقّه في القراءة المعتادة، في التعرّف عليه في عمومِه، فمظفر النواب شاعر غزلٍ مُجيد، شاعر حبّ، وأظنّه هنا بالضبط (أو فقط؟) كان شاعرا كبيرا وصانع صورةٍ وعبارةٍ مبتكرة. وأبدا لم يكن شاعرا مهما في قصائده ذات البذاءات الجريئة، والشجاعة التي لا بدّ مقدّرة في زمنها. طُبعت دواوينه (كم عددها؟) ولم توزّع جيدا، لا تلقاها في معارض الكتب إلا نادرا. وقيل إن ثمّة طبعاتٍ مزوّرةً مشوّهة لها. كما أن شعره حُرم من إضاءات درسٍ نقديٍّ عليه، بل حتى من المتابعات الصحافية السيّارة. عدا عن هذا وذاك، لم يُحاوَر مظفر النواب في مقابلاتٍ صحافيةٍ كافية، وذات قيمة، يتحدّث فيها عن تجربته في كتابته قصيدته، عن مصادر ثقافته الشعرية، عن تصوّراته الفنية والجمالية، عن قراءاته، عن.. وها نحن نصادف لذوّاقين ذوي درايةٍ في الشعر والأدب، يكتبون إن مظفر شاعرُ صورة، شاعرٌ سيّابيٌّ في عاميّ شعره. وهذا جديدٌ، لم نقع عليه سابقا في متابعاتٍ تحليليةٍ، مطالعاتٍ نقدية، قراءاتٍ ناقدة، جدّية وجادّة، وما انكتب، في غالبه الأعم، عن شعر مظفر ليس من أيٍّ من هذه كلها.

يزيد من صفة مظفر النواب شاعرا مجهولا الحبْس الذي وضعه الجميع فيه، أنه شاعرٌ ثوري. وهذا صحيحٌ في شطرٍ بعيد من حياته، غير أنه يُظلَم إذا أبقيناه في تصنيفٍ كهذا، وها هم ناقدون له، محقّون على ما أؤكّد هنا، يؤاخذونه على ما كان منتظرا أن يقوله ولم يفعل، أمثلةً: في شأن احتلال العراق، وفي شأن ثوراتٍ قامت ونهضت بها شعوبٌ في السنوات العشر الماضية، وفي شأن جرائم يرتكبها غير نظام عربي، السوري نموذجا. مع التسليم بداهةً بأن مظفّر لم يكن داعيةً سياسيا، ولا ناشطا حزبيا، ولا مفكّرا عقائديا، وإنما صفتُه تلك تجيز انتقادَه (أو محاسبته؟) في هذا المطرح.

خسارةٌ كبرى أن مظفر النواب لم يكتُب (ولم ينشر) مذكراتٍ أو ذكرياتٍ أو يوميات. ولم تتوجّه إليه الصحافة بهذا المطلب، أو ربما هو من استنكف. لو فعل هذا لأفصح عن نفسه، لجالَ في أطوار حياته مراجِعا ومسائلا ومتأمّلا، في ما أحدثته تصاريف الزمن فيه مثلا.. ستكون مفاجأة أكثر من سارّة لو عثر قريبون منه على نصوصٍ بثّ فيها لواعجَ منه، لربما أسعفتنا بمعرفةٍ أوضح به، ربما.

—————————————–

==========================

تحديث 26 أيار 2022

————————–

دفاعا عن الشعراء وعن الحق في انتقادهم/ إبراهيم الجبين

قبل نحو عشرين عاماً كتبتُ مقالاً عن الطائفية في سوريا التي استهدفت إرث الأمويين في عاصمتهم دمشق وقد انتشر بشكل كبير وما يزال يُقرأ حتى اليوم، كان عنوانه آنذاك ”البحث عن بني أمية في سوريا الأسد“، وقد سئلت عنه وحوسبت عليه رسمياً من قبل مخابرات الأسد وأجهزته، اخترتُ له مطلعاً مستعاراً من أمير الشعراء أحمد شوقي بك يقول فيه:

 ظمئتُ ومثلي برّيٍّ أحقُّ

كأنّي حسينٌ ودهري يزيدْ

وكان استحضار شوقي للحسين ويزيد بعيداً كل البعد عن الطائفية، فلم يُعرف عن الرجل أنه كان طائفيا رغم استخدامه لرمزية الحسين في مواضع عدة، وهو البعد الذي أومأت إليه في المقال بين الحريات والطائفيات.

اليوم أرى أنه كلما مات شاعرٌ انحسر الكون في بعده الجمالي على الناس، وتراجعت الذائقة التي تنمو كما في كل زمان ومكان على أيدي الشعراء وحدهم. ولكن أيضاً يترافق غياب الشعراء الكبار مع توق لدى الجمهور باستبدال من رحلوا بآخرين جدد يواصلون خفق اللغة مع الخيال والتجربة لتبقى الشعرية مستمرة، لأنها جزء أصيل وأساسي من الهوية الثقافية لكل أمّة.

وكثيراً ما استوقفني ما ينتهزه البعض من فرصة حين يرحل شاعر للطعن فيه أكثر من التوقف لبرهة تأمّل تفيد الجميع، تستعرض ما قدّمه ذلك الشاعر من فتوحات، أوما تورّط فيه من مواقف أو حتى انزلاقات أدبية. هذا ما حصل قبل أيام مع رحيل الشاعر العربي الكبير مظفر النواب.

لم أكن أقرب الناس إلى مظفر، وكان لديه العديد من الأصدقاء ممن رافقوه حتى أواخر أيامه أو من كانوا من قبل على صلة يومية به قبل مرضه، لكن الأمانة التي تقضي عليّ أن أكون وفياً لسنوات طويلة احتفظت بها بصداقة خالصة وندية معه، رغم فارق العمر والتجربة، دفعتني للرد على ما اتهمه به من سارعوا إلى إلصاق قصائد مزيفة به، أو سرد حكايات لا أساس لها ولا علاقة لها بالواقع للقول إنه كان طائفياً أو غير ذلك مما طاب لهم واشتهوا دون أن يرف لهم جفن. فلا أكون إلا عند حسن ظن صديقي القدير الذي بات في العالم الآخر الآن ولن ينفعني بشيء، وهو الذي عرفته عن كثب وعرفت آراءه وانفتاحه على الجميع دون تمييز طائفي أو قومي، وسمعتُ منه أول انتقاد موثّق لأدونيس وميوله الطائفية في وقت مبكر جداً، قبل أن يكتشفه الناس في هذه السنوات.

لا بأس. الحق في انتقاد الجميع مكفول، على أن يكون ذلك النقد مبنياً على أصوله، فالنقد الأدبي يحتاج منك أن تتسلح بعدّة الناقد الأدبي، وأقلها الاطلاع الكافي على ما تتحدث عنه وما تضعه على طاولة التشريح. عندئذ يمكنك أن تمنح ذاتك حريتها كاملة مع حياء يفرض عليك أن تقول أن هذه هي حدود معرفتك وأن رأيك قد يكون صواباً وقد لا يكون.

أما النقد التحليلي المتصل بالعقائد والمذاهب والايديولوجات، فهذا يتطلب ترسانة أخرى، عليك أن تتزوّد بها قبل أن تقول إن هذا المنتج النصي يعود إلى إيمان صاحبه بتلك العقيدة أو تلك، أو أن هذا الاستخدام للرمز التاريخي أو الديني، القصد منه تكريسه أو السخرية منه أم توظيفه لقول فكرة ما بعيدة عن المباشرة. وهكذا يسري الأمر ذاته على بقية صنوف النقد وتخصصاته. إلا أن بوابة الهراء التي فتحتها وسائل التواصل الاجتماعي على العالم كله، جعلت من السهل على أي مستخدم أن يكيل النقد لشاعر أفنى حياته في العناية بعبارته وشحن عقله بالمعرفة وحياته بالتجربة المرة، ويشطبه بجرة قلم ويحيله إلى عنصر في “الحشد الشعبي” أو “حزب الله”. وهذا نوع من الانتحار يصوّب المرء فيه لا على الشاعر وحده بل على ذاكره هو وعلى مخزونه من الوجدانيات.

منذ متى كان الشعراء يُحاسَبون على الرموز التي يستحضرونها من التاريخ؟ ومن الصراعات التي عصفت به، ومن إشكالياته حين يريدون إسقاطها على إشكاليات الراهن؟ ولماذا لا يُحاسب شعراء وأدباء تناولوا القضايا ذاتها بالطريقة ذاتها حين يكون انتماؤهم المذهبي مطابقاً لمذهب من ينتقدهم؟ مع أن كل هذا النهج نهجٌ مضلّل لن يقود إلى شيء. حينها يمكننا التخلّص من المتنبي الشيعي، أعظم الشعراء العرب دون منازع، الذي يقول عنه المستشرق الفرنسي جوزيف بلاشير وفقاً لعميد الأدب العربي طه حسين في كتابه “مع المتنبي” إنه: “كان بما عُرف عنه من ميل إلى علوم الشيعة الذي خلفته الوراثة والنشأة الأولى في مدرسة العلويين، قادراً على الموازنة بين ما يعتقده وبين الاتجاهات المذهبية الأخرى”. تعال نقرأ مما كتبه المتنبي الذي يقول:

إذا علويٌ لم يكن مثل طاهرٍ

 فما هو إلّا حجةٌ للنواصبِ

أو حين يخاطب سيف الدولة الحمداني بقوله:

يا سيف دولة ذي الجلالِ ومن له

خير الخلائقِ والأنامِ سَمي

انظرْ إلى صفّين حين دخلتها

 فانحازَ عنكَ العسكرُ الغربي

فكأنه جيشَ ابن هندٍ رُعته

 حتى كأنكَ يا عليُّ عليّ

وذاك أبو فراس الحمداني الشيعي الآخر الذي لا يتصوّر أحدٌ أن يفرّط به العرب المسلمون بكافة طوائفهم ويجرّدوه من مكانته لاختلافهم اليوم مع فصيل من الشيعة تستخدمه إيران لاستعادة نفوذها الفارسي. يقول أبو فراس:

شافعي أحمدُ النبيّ ومولا

يَ عليٌ والبنتُ والسبطانِ

وعليٌ وباقرُ العلمِ والصا

 دقُ ثم الأمينُ ذو التبيانِ

دعك من التشيّع وفكّر في الاتجاهات الأخرى التي ترفضها اليوم، التشدّد والتطرف الديني الذي ادعى النطق باسم السنة، فهل ستتخذ موقفاً من قطري بن الفجاءة الخارجي (الداعشي قبل داعش بقرون) صاحب القصيدة التي تحفظها كل الطوائف والمذاهب العربية دون تردّد وتدرّسها في مناهجها التربوية لكافة الأجيال:

أَقولُ لَها وَقَد طارَت شَعاعاً

مِنَ الأَبطالِ وَيحَكَ لَن تُراعي

فَصَبراً في مَجالِ المَوتِ صَبراً

فَما نَيلُ الخُلودِ بِمُستَطاعِ

ماذا بعد؟ هل هي لحظة تحريم وتكفير أدبي يُحاكم فيها الشعراء على توظيفهم لما أرادوا خدمة لفكرة أو جمالية قصيدة؟ كم سيقيّد هذا القدرة على الإبداع والخلق ناهيك عن حرية الرأي والتعبير.

ومن جهة ثانية أجد أن كتاباً وفلاسفة يحتكمون على معرفة كافية هم الذين يحق لهم رفض ما يشاؤون، بينما لا يحل لمن لا يمتلك ما لديهم أن يخوض في ما خاضوا فيه، لأنه لا يعرف ولا يستطيع، وحينها سيكون نقده تهجماً وسفاهة لا تحليلاً وتفكيكاً للنصوص يمكن أن يستفاد منه.

وهي فرصة من نوع آخر أيضاً، لرصد الإحداثيات التي وصلت إليها المجتمعات في المستنقعات الطائفية، وكذلك مستنقعات الشعر العربي ذاته الذي بات بعض شعرائه ينشرون شعارات وهتافات على أنها قصائد.

مثل ماذا؟ مثل ما نشره أدونيس عن الخميني، وما نشره نزيه أبو عفش عن بوتين.

لنقرأ في ذلك. أدونيس شاعر عربي كبير، لأنه كان واحداً من جيل خاض تجربة مهمة في تطوير القصيدة العربية واجتراح جرأة غير مسبوقة في تحديث لغتها وقوالبها ومواضيعها، غير أن أدونيس ذاته هو من ضمّن شعره لافتات من خارج الشعر تدينه وتجعل من السهل علينا فضح استغلاله لمكانته الشعرية وتوظيفها حسب المصالح السياسية والطائفية ونموذج قصيدته الشهيرة عن انتصار الخيمني كافٍ لقول كل شيء:

كيفَ أروي لإيرانَ حبي

والذي في زفيري

والذي في شهيقي

تعجزُ عن قولِهِ الكلمات

مقام اتضح أكثر بعد الموقف العدواني الذي اتخذه أدونيس من ثورة الشعب السوري التي عاب عليها أن تخرج من الجوامع.

نزيه أبو عفش شاعر صدع رؤوس الناس بالحديث عن الحرية والشكوى من الاضطهاد وتكميم الأفواه، وحين قامت الثورة السورية سارع إلى تضمين شعره لافتات سياسية منحازة إلى انتمائه الديني المسيحي ترى في بوتين مخلّصاً.

أعترف أني أجد صعوبة في بذل مشقة لا لزوم لها لبناء جدار عازل يفصلني عن الإصغاء لمن تغنوا بآل البيت وسردوا المآسي التي تعرضوا لها، هل علي فعل ذلك فقط لأني أستعمل أداوات السياسة والتأريخ بدلاً من أدوات الأدب، ولأني أرى في الدولة الأموية (العربية المدنية) مثالاً حضارياً رفيعاً. أما الموقف النقدي، ابن هذه اللحظة، مما حصل في الماضي من صراعات، فلا يجوز أن يمحو إرثاً إبداعياً ضخماً هو كلّ ما تمتلكه الأمة العربية والثقافة العربية التي تواجه اليوم حرب وجود وتهديداً بالزوال والاضمحلال.

لم يمتدح النواب حسن نصرالله، كما أشيع، بل عباس الموسوي الذي اغتالته إسرائيل حين كانت المقاومة في وعي الناس كلهم عملاً جليلاً، وما يتم ترويجه هو كتابة ركيكة لا يكتبه طالب في الابتدائية، بالمقابل فقد كان ينتقي من يريد امتداح أفعالهم على أساس تمردهم، ماذا سنقول عن قصيدته التي يمتدح بها جيهمان العتيبي السني الوهابي الذي احتل الحرم المكي وثار على الدولة السعودية في الحادثة المعروفة، وماذا سنقول عن امتداح النواب لخالد الإسلامبولي السني السلفي الذي اغتال أنور السادات، وماذا سنقول عن امتداحه لسليمان خاطر الجندي المصري الذي قتل السياح الإسرائيليين في سيناء أو امتداحه للشهيد خالد أكر السوري الحلبي الذي انطلق بطائرة شراعية لشن هجوم على الإسرائيليين، وماذا سنفعل بقصيدته عن سناء محيدلي اللبنانية التي شنت عملية انتحارية ضد الإسرائيليين؟ وكل تلك القصائد موجودة ويمكن العودة إليها بسهولة.

وإن كان النواب، الإسماعيلي المذهب، قد استعار في ملحمته “الوتريات الليلية” شخوص تاريخ الفتنة الأولى في الإسلام كما رآها كل الماركسيين حينها صراعاً بين الأثرياء والفقراء، وحرب علي مع معاوية ومبارزته لعمرو بن العاص، التي هي بالمناسبة حادثة تاريخية موثقة لا يختلف عليها أحد أوردها نصر بن مزاحم الكوفي، وجاءت في “الأخبار الطوال” ص 177 و”المناقب” للخوارزمي: 236 و 240 و “الفصول المهمة” ص 89 و”مروج الذهب” 2/397، وأوردها العقاد في كتابه “عمرو بن العاص” ص238- 239- طبعة دار الكتب، حين قال: “وكان علي – رضي الله عنه – كثيرًا ما يتقدم بين الصفوف داعيًا إلى المبارزة، فبدا له يومًا أن يدعو معاوية لمبارزته فأيهما غلب فالأمر له، وتحقن دماء الناس، فنادى: يا معاوية، فقال هذا لأصحابه: اسألوه ما شأنه؟ قال: أحب أن يبرز لي فأكلمه كلمة واحدة. فبرز معاوية ومعه عمرو، فلما قارباه لم يلتفت إلى عمرو، وقال لمعاوية: ويحك علام يقتتل الناس بيني وبينك؟ ابرزْ إليّ، فأينا قتل صاحبه فالأمر له، فالتفت معاوية إلى عمرو فقال: ما ترى يا أبا عبد الله؟ أبارزه؟ فقال عمرو: لقد أنصفكَ الرجل، واعلم أنك إن نكلت عنه لم تزل سُبّة عليك وعلى عقبك ما بقي عربي، فقال معاوية: يا عمرو ليس مثلي يخدع نفسه، والله ما بارز ابن أبي طالب رجلاً قط إلا سقى الأرض من دمه. ثم تلاحيا وعزم معاوية على عمرو ليخرجن إلى علي، إن كان جادًا في نصحه، ولم يكن مغررًا به طمعًا في مآل أمره، فلما خرج للمبارزة مكرهًا وشد عليه عليٌّ المرهوبة، رمى عمرو بنفسه عن فرسه، ورفع ثوبه وشَغَرَ برجليه فبدت عورته فصرف عليُّ وجهه عنه وقام معفرًا بالتراب هاربًا على رجليه، معتصمًا بصفوفه”. وهي حادثة لا تسيء لعمرو بل تظهر دهاءَه ليخلص نفسه من القتل، وهو الذي كان يعرف أن عليا لا ينظر إلى عورة أحد، وهو عمرو الشهير بحكمته التي كان عمر بن الخطاب يقدّرها وكان يحبه شخصياً ويعجبه منطقه، وروى المؤرخون أن الفاروق عندما كان يرى رجلاً لا يُحسن الكلام كان “يصكّ فاه”، ويقول: “سبحان الله، إن الذي خلقَ هذا خلقَ عمرو بن العاص”. إن فعل النواب ذلك فقد سبقه آخرون إلى تناول السيرة ذاتها سواء في الرواية أو الشعر ومثال ذلك فقط في الأدب المصري الحديث كتاب عباس محمود العقاد “أبو الشهداء..الحسين بن علي”، وكتاب عبدالرحمن الشرقاوي “ثأر الله” بجزأيه “الحسين ثائرًا” و”الحسين شهيدًا”، وكتاب خالد محمد خالد “أبناء الرسول في كربلاء”.

 ومن بين الشعراء السوريين من استعمل التيمة ذاتها كمحمد الماغوط في قصيدته التي يقول فيها:

“بردى أيها الحسين المتناثر هنا وهناك. سأستردك من النوافير والصنابير والأقداح. وقدور الحساء في المطابخ. ومطرات الجنود في المعارك، وغرف الإغماء والإنعاش في السجون والمستشفيات لأردّ لكَ اعتبارك على طريقتي”.

 وقد انتقدتُ شخصياً توظيفه لذاك الرمز حينها، لا لاعتباره رجع إليه لأسباب طائفية صرفة، بل لانعدام التمدّن بخياله في التعامل مع مدينة مثل دمشق وعجزه عن رؤية عاصمة الأمويين إلا من خلال “نظارة الحسين”. فماذا سنفعل بهؤلاء إن طبقّنا عليهم المسطرة ذاتها التي يرفعها البعض اليوم، وكأننا نطلب من الناس التخلّي عن مفردات ذاكرتهم بدلاً من تطويرها وعدم توظفيها في طريق الكراهية والحقد؟

وخير ما يُختم به مثل هذا الكلام استحضارٌ جديد لشوقي وقصيدته بعد زمان بعيد:

سُنونٌ تُعادُ وَدَهرٌ يُعيد

لَعَمرُكَ ما في اللَيالي جَديد

نَعُدُّ عَلَيهِ الزَمانَ القَريبَ

وَيُحصي عَلَينا الزَمانَ البَعيد

ظَمِئتُ وَمِثلي بَرِيٍّ أَحَقُّ

كَأَنّي حُسَينٌ وَدَهري يَزيد

————————————

مظفر النواب: شاعر ثوري أم شتّام طائفي؟/ حسام الدين محمد

اشتكى مظفر النواب لصديق مشترك زاره قبل مدة قصيرة من وفاته، نسيان الناس له وعدم زيارة أحد له منذ سنوات.

الشاعر، المنسيّ حيا، صار فجأة، بعد أن مات، موضوعا للتنازع على ملكيّة تراثه، حيث خصصت الحكومة العراقية طائرة رئاسية لنقل جثمانه، وإقامة جنازة رسمية يحوطها حرس الشرف، فيما استنكر شباب الحراك العراقي محاولة السلطات الاستحواذ على المناسبة، واستقبلوا رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، ومسؤولين آخرين، حاولوا المشاركة في التشييع بالحجارة، ورددوا أن «مظفر لنا وليس للحرامية» وتجمهروا في انتظار نعشه أمام مقر اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، حيث أكد الناطق باسمه أن النواب «يمثل لدى المتظاهرين والثوريين موقف مقارعة الطغيان والديكتاتورية».

أعاد رحيل مظفر النواب تأجيج نيران معارك سياسية ـ ثقافية قديمة – جديدة، وتراوح قطبا النقاش بين التنازع على اسمه وتاريخه، كما حصل في بغداد، أو قراءة ظاهرته الفريدة التي تجمع بين الشعبية الهائلة لدى أجيال عديدة، وتداول شرائطه الصوتية كعمل سري، والأثر الكبير الذي تركه في الشعر المحكي العراقي، وحضوره الملوع الغنائي الحزين والغاضب والمقذع في أمسياته الجماهيرية.. من جهة، والتنقيب في «مكبوته الديني» ونقد الإقذاع والبذاءة في شعره، وصولا إلى اعتباره طائفيا وشتاما، من جهة أخرى.

مرحلة انحطاط أيديولوجية؟

في الجدل الذي امتد أيضا إلى وسائط التواصل الاجتماعي، تراوح الهجوم أو الدفاع عن النواب، كما حصل في تاريخه السياسي وشعره والانتقادات الموجهة له، بين المنطق العقلي الصارم، والعواطف الجياشة والإقذاع والطائفية، وصولا إلى نشر الأشعار والأخبار المزيفة (كما حصل في نشر مقطع شعر ركيك قال ناشروه، إن النواب قاله في حسن نصر الله، زعيم «حزب الله» اللبناني). على المقلب الناقد لمظفر النواب، استعيدت مقالة نشرها أحمد نسيم برقاوي الكاتب والشاعر وأستاذ الفلسفة، في مجلة «نزوى» العُمانية، اعتبر برقاوي فيها مظفر نموذجا عن مجموعة من «شعراء المرحلة الأيديولوجية القومية والشيوعية» الذين هم «أقرب للانحطاط الشعري» لتعبيرهم، في الغالب، «عن وعي أيديولوجي لشعراء ريفيين خيالهم الشعري ضعيف، وثقافة فقيرة». يظهر النواب، في قصيدته «وتريات ليلية» حسب برقاوي، «كل تناقضات انتمائه الطائفي والعروبي» حيث يكتب مقطعا يحدث «هزة ما في وجدان المتلقي» لكنه في مقطع آخر» ينحدر بحس طائفي شيعي مظهرا «مكبوته الحاقد متخفيا وراء يسارية فجة».

انتقل النقاش، بالطبع، إلى وسائل التواصل الاجتماعي، فكتب زياد بركات الكاتب والإعلامي الفلسطيني، عدة تعليقات منها قوله: «هل المنفى قيمة إضافية في الشعر، ونبض الجماهير رتبة أعلى، والسجن وصف للشعرية» و»ما هذا الذي نقرأه في رثاء شاعر هجاء يكتب بيانات حزبية؟ ثم ماذا عن شيوعيته؟ هل تؤهله لدكتوراه فخرية في الأدب» واصفا فصيح شعره بـ»كارثة نووية، إنشاء سوقي بلا معنى». وقال الكاتب الفلسطيني حسين شاويش، إن شعر النواب الفصيح «لم يضف إلى الشعر العربي سوى قاموس من الشتائم» وإن «قصائده الهجائية فجة وفيها مباشرة وتخلو من الفن وصورها أقرب إلى الزقاقيات والزعرنة» وإنه «شرعن الغوغائية الشعرية وأعطاها لبوس الأدب».

نزيه أبو عفش يتهم مظفر بالطائفية

إضافة إلى هذه القراءات التي تقدم نقدا لمرحلة ثقافية ـ سياسية، وتنتقد ما تعتبره طائفيا ومقذعا ومتناقضا في شعر النواب، ناقش محمد الخليل الأكاديمي والكاتب السوري، صحة إطلاق صفة «الشاعر الثوري» على النواب، خلص الخليل إلى أن النواب لم يحدث ثورة في بنية الشعر العربي، وأن أفكاره السياسية متناقضة، فلا منطق في الثورة على نظام في العراق والاحتماء بديكتاتور في بلد آخر، ولا ثورية في تقديم نموذج سياسي شيعي وتأييد «صنوف التطرف الإسلامي». قدّم الخليل أيضا، لإظهار التفاوت بين مستويين متفارقين لدى النواب، جهدا كبيرا في مراجعة الأداءات الصوتية، والتحرير لقصيدة للنواب مذهلة في جمالياتها بعنوان «سلّفيني» وبذلك خلق الخليل مقارنة بين مستويات شعرية وفكرية وسياسية متفارقة لدى النواب. في رد على برقاوي، قدمت لينة عطفة الشاعرة السورية، وقائع عديدة لاستخدام رموز إسلامية كالحسين وعلي لدى شعراء عرب آخرين، لم يتهموا بالطائفية، كمحمود درويش ومحمد الماغوط، لكنّها، من حيث لا تحتسب، قدّمت أيضا بعضا من الصدقية لمسألة أثر الطائفية لدى الشعراء العرب، حين استشهدت بحادثة غضب الشاعر السوري نزيه أبو عفش، من شعبية النواب لدى الجمهور، بعد أمسية مشتركة لهما، حين اتهم أبو عفش زميله النواب، والجمهور الذي صفق له، في مدينة السلمية السورية، بالطائفية (وهي تهمة اتهم بها أبو عفش الذي قام بمواقف فجّة يسارية وطائفية كثيرة لاحقا!).

على المقلب الآخر، كتب البعض، كما فعل سعد الياسري، بطريقة تمزج شرح شخصية الشيوعي العراقي، والدفاع عن مقاصد النواب، والهجوم على من انتقدوه، حيث قال إن «اتهام النواب بالنفاق والتشيع (رغم ماركسيته) لا ينضج إلا في ذهنية تنطلق من حقد طائفي/ قومي» وأن تخيل شخصية مثل علي بن أبي طالب «بصفات تتجاوز الرسولية وتقارب الربوبية أحيانا» هو «فلكلور عراقي ريفي قائم بذاته، وحمولته الدينية تكاد أن تكون صفرا».

الوحيد الذي اختفى وعوقب؟

في مقابل هذا الهجوم أو التفريق بين الثوري أم اللاثوري في فكر النواب، والشعري أم الهابط في قصائده، والماركسي أم الطائفي في سياسته، اتخذ البعض، مثل خضر الأغا الكاتب السوري، موقفا يرى أن الشاعر يجب أن «يدرس بوصفه ظاهرة متكاملة لا يمكن تجزيئها» وأنه «لا يصح دراسة شعره الا بالارتباط الوثيق مع شخصيته وتاريخه ومواقفه وأثره».

أشار الشاعر العراقي هاشم شفيق، إلى تأثير مجموعة «الريل وحمد» بالمحكية العراقية، على جيل طويل ومتعدد، وإلى امتداد أثره إلى شعراء الفصحى، ورأى الروائي علي بدر أن شعر مظفر «كتب التاريخ السياسي للعراق» وأنه أنتج في شعره الفصيح «صورا لم ينتجها الشعر العربي أبدا».

في مقالته «مظفر النواب: الصيحة والبشارة» رأى الشاعر والكاتب اللبناني عباس بيضون، أن الشاعر العراقي كان «أغنية المعركة» وأنه لم يكن ممكنا بالتالي «قراءة مظفر كنص وفصله هكذا عن الأحداث» ورأى بيضون في مخاوف منتقدي مظفر من تحول شعره «إلى حكي شوارعي، إلى مباشرة فظة» فكرا يرى أن على الشعر «أن يكون له مستواه وأن يحفظ درجته» ما يعني أن يبقى الشعر «في نفيه» حيث لا تتحول الحداثة إلى سياسة أو دعوة أو قضية اجتماعية.

يرى محمد شاويش، الكاتب الفلسطيني أن «الوعي الذي يتجلى في شعره هو الوعي العربي في زمنه، لا أفضل ولا أسوأ» وأن «مظفر النواب الذي نعرفه سحقته هزائم الحركة الوطنية العربية» غير أن بيضون يرى أن تواري شعر النواب كان «نوعا من القصاص على شعبيته» وأن الكلام عن تنزيه الشعر عن السياسة مضلل، لأننا «لا نعرف شاعرا اشتهر بفضل شعره فحسب، دون أن يردف ذلك دعوة ما سياسية».

لقد كان النواب هو «الوحيد الذي عوقب» وهو ما يفسّر، ربما، نسيانه لسنوات طويلة، في ما يثبت تجدد المعارك حول إرثه واسمه، وتنقّل الناس بين الهجوم والدفاع الشديدين، على أن أسباب الصراعات الثقافية ـ السياسية، على أشكالها، ما تزال فاعلة بقوة.

كاتب من أسرة «القدس العربي»

القدس العربي

————————-

مظفر النواب: سيرة مفعمة بالحب/ جاسم عاصي

هل رحلت يا شاعر الصدق في الموقف الوطني؟ لا أرى في ما حدث رحيلاً، فقد تركت وراءك سيرة يفتخر بها الشعب وقواه الخيّرة، يردد ما كتبت بصوته الزاخر بحب الوطن. فسيرتك من مسيرة نضالك مع رفاقك وصحبك وأُخوتك، متنقلاً من سجن إلى آخر، ومن غرفة تعذيب جسدي ومعنوي إلى أُخرى تتبارى خلالها شطارة المحققين. من نقرة السلمان وقطار الموت، اجتزت مع رهط المنفيين، عابرين صحراء السماوة الحارقة والشاسعة في شاحنة (أُم الزرازير) كما كان يطلق عليها السجناء. ثم إلى سجن بغداد المركزي، وصولاً إلى سجن الحلة، وحصراً في الجناح الجديد، حيث حدثت ملحمة نفق الحلة الشهير، كما رواها عقيل حبش.

حفر السجناء بآلات بسيطة، وأناة وحذر من كشف العملية المهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي. كان دورك أساسياً يا أبا عادل، ومهمتك صعبة، لأنها تتصل بحرفة الهندسة والفراسة. فكم مرة صعدت إلى المجال الذي يتصل بالسياج الخارجي للسجن بحجة تفقد منسوب الماء في الخزانات. والحقيقة أنك عملت على رسم مخطط للذين يحفرون تحت الأرض ويسيرون باتجاه المرآب المحاذي لسياج السجن. مرات .. ومرات صعدت طالما هناك محاولة للتواصل، واستجابة لأوامر اللجنة الحزبية في الجناح، خاصة حين دخل ياسين حسين لتفقد ما وصل إليه الحفر قبل انتهائه إلى المرآب، حيث سمعوا صوت قطة تموء، فاستغربوا من ذلك، وسألوا: من أين أتت هذه القطة؟ وعند البحث وجدوا أن النفق أثناء الحفر ترك فجوة في السقف تحت كابينة الحراسة، ما دفعهم إلى الإسراع في جلب الإسمنت والرمل والحديد، وعالجوا السقف على عجالة. وكم كانت فرحتكم وأنتم تكتشفون مخزنا داخل الأرض، بعد أن كنتم محرجين في الكيفية التي بواسطتها التخلص من التراب المنزاح من تحت الأرض. وبسرعة عرفتم وجود الغرفة الواسعة، فقد كان الحفر يجري من مكان كانت تشغله مرافق صحية، وهذا المخزن يتصل بمجرى النفايات الجاف جراء عدم الاستعمال. لقد جاء استبدالكم غرفة الصيدلية صغيرة المساحة بهذا المكان الواسع وغير المثير للشك فتحاً لكم.

عملتم بكل دأب حتى أنجزتم المهمة، وغادرتم السجن هرباً وفق خطة مدروسة، وكان طريقك نحو أهزار الجنوب حيث منطقة (الغموكَة) الشهيرة بنضال أهلها. هكذا تكون المسيرة التي تصقل سيرة الرجال وتعمق إيمانهم بالمبادئ وبشعبهم. هذا جزء من سيرتك يا أبا عادل، يتحدث فيها الجميع، ويتندر المحبون ببسالتك وإقدامك، شعراً وسيرة. شعراً باللهجة العامية العراقية، الشعر الذي تتداخل فيه الصور الشعبية ونكهة اللهجة التي يفهمها الجميع، كذلك المثقفون. شعرك الفصيح فيه رؤى وأصوات الموقف الجماهيري. فقد تداخل فيه صوتك مع أصوات الناس، فأحبوه لأنه منطوق بلسانهم، وغير بعيد عن تصوراتهم ورؤاهم وآمالهم في العيش الرغيد بعيداً عن المناكفات السياسية.. في غضبهم وفرحهم وثورتهم. ألم نقل أنك لم ترحل، لأننا نؤمن بأن ما نعرفه جزء ضئيل من الذي يعرفه الكثيرون. في سيرتك تتعدد الأصوات ويكثر الرواة. لقد أبقيت سيرتك أمانة في أعناقنا، سيدونها المحبون، ويعيدون لشعرك (ولريلك) و(حمدك) و(مكّيرك) الحياة من جديد، كي تعرف الأجيال من هم الأكثر إخلاصاً لشعبهم. زاد طول قاماتنا ونحن نرى مظهر تشييعك في بغداد، حيث استقبل موكبك السيّد رئيس الوزراء وسار خلف نعشك الجميع، حتى دفنت في أرض العراق خلافاً للشعراء (الجواهري، البياتي، مصطفى جمال الدين، سعدي يوسف ونجله حيدر، عبد الرزاق عبد الواحد. ولم يُفكر أحد بنقل رفاتهم من مقبرة الغرباء في دمشق، بل عاشوا غرباء وماتوا غرباء ودفنوا في أرض غريبة باعتبارات اجتماعية. نم قرير العين في سريرك الأرضي بيننا ـ تحف قبرك عيوننا وضمائرنا.

كاتب عراقي

———————

الجنازة التي تحوّلت إلى تظاهرة…“مظفر للشعب مو للحرامية”/ مبين خشاني

تحولت جنازة مظفر النواب إلى فعل احتجاجي كبير كان سيعجبه، لأنه امتداد لمشروعه المعارض ومحاولته استعادة الوطن من بين أيدي لصوص استحكموا به جراء مصادفة غاشمة واحتلال دموي.

ليس غريباً أبداً أن يثار الجدل بعد موت مظفر النواب، فهو صاحب سيرة شعرية وسياسية طويلة، مملوءة بالمواقف السياسية الاحتجاجية والمعارضة للحكومات العربية، ومثلما تعجب هذه المواقف طبقات واسعة من أبناء الشعوب العربية، فإنها تزعج كثيرين ممن يرفلون تحت أجنحة الحكومات مستمتعين بنعيمها. إضافة إلى المختلفين معه سياسياً، الذين وجدوا في موته فرصة للنيل من صوت شعري احتجاجي لطالما أزعجهم، صوت حاولوا كتمانه بالحبس والتعذيب والنفي، لكنه بقي عصياً حياً تملأ الدنيا قصائده التي تنزل عليهم مثل الرعد.

كان لقصائده تأثير جبار حاولوا كسره مراراً بالحبس والمطاردة لكنهم عجزوا. في أعقاب انقلاب 1963 الذي أطاح بعبد الكريم قاسم، تعرض الشيوعيون واليساريون لحملات اعتقالات وملاحقة من القوميين العرب الذين وصلوا إلى الحكم، فاضطر النواب الى مغادرة العراق إلى الاتحاد السوفييتي وقتها، مروراً بإيران، لكن قوات “السافاك” الايرانية، اعتقلته وعذبته وأعادته إلى العراق. خلال فترة حبسه واجه المعتقلون الشيوعيون كل وسائل التعذيب، حتى إن السلطات العسكرية كانت تخيرهم ما بين البراءة من الحزب أو بقائهم في الحبس، وكانت تنشر بعض هذه البراءات الملفقة لمعتقلين شيوعيين في الصحف، لتقويض عزيمة بقية المعتقلين وتجعلهم يتبرأون من حزبهم، لكن مظفر وقتها كتب قصيدته الخالدة “البراءة”، باللهجة الشعبية على لسان أم معتقل وأخته تحذرانه من “عار البراءة”.

قلبت هذه القصيدة موازين السلطة لأنها جاءت مباغتة وأحدثت تأثير كبيراً بين صفوف المعتقلين وجعلتهم متماسكين صامدين أمام التعذيب والترهيب، لذلك اقتيد مظفر إلى غرفة جانبية وحُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، وحكم عليه بعد ذلك بالإعدام حتى تم نقله الى سجن الحلة جنوب بغداد، وهناك حفر هو ورفاقه نفقاً وهربوا من خلاله، وتركوه فتوحاً ليتمكن آخرون من الهرب.

يذكر النواب أنه في لقائه مع صدام حسين رفض هدية عرضها عليها صدام وهي مسدس، وحين سأله صدام عن سبب الرفض أجابه، “لو خرجت ومعي هذه الهدية معناها انت اشتريتني”.

تعرض لمحاولة اغتيال في اليونان ونجا منها بأعجوبة، وقال عنها في حوار له “ربطوني بحبال وأعطوني إبراً منومة، ولكن كان لدي إحساس داخلي بأنني سأنجو، ونجوت”. وعن تجربته القاسية في السجن قال النواب في حواره مع سنان انطوان، “بمقدار ما هي غنية فهي مريرة جداً لأنها سلسلة حرمانات. بالرغم من وجود رفاقك وأصدقائك معك، إلا أن الناس يختلفون. هناك عقليات مختلفة وهناك من هو ضيق الأفق ويتخاصم من أجل لحمة. كنا نأكل معاً ويكون هو واع سياسياً لكنه يختلف معك من أجل قطعة لحم. فلا يمكن أن تتحمل هذا الجو”. من غير الطبيعي أن ينظر شخص ما إلى ما تحمله النواب من معاناة طوال مسيرة حياته المملوءة بالسجون والمنافي، ويشكك بصدقيته، فهو قد نذر عمراً كاملاً في سبيل قضية آمن بها وهو صبي وتحمل لأجلها شقاء لا يمكن تحمله، برغم أنه من عائلة غنية حتى إن الشيوعي الكبير ناجي العطية، كما وصفه النواب، قد سأله في إحدى مرات اعتقاله وهو لا يزال شاباً صغيراً، “ما الذي أتى بك إلى الشيوعية وأهلك عندهم خيول تتنافس في الريسز- السباق- وأموالكم ما شاء الله؟”.

برغم هذه السيرة الناصعة التي يتجلى فيها صدق وإيمان قل نظيرهما، إلا أن كارهي النواب وجدوا في موته مناسبة لتصفية الحسابات، فعمدوا إلى بث الأخبار المشوهة والاشاعات، محاولين أن يحطوا من قيمة رمز حفر اسمه في قلوب أبناء الشعوب العربية. من بين هذه الإشاعات أن مظفر النواب جامل نظام الحكم الحالي في العراق ولم يعارضه وهذا الأمر غير حقيقي بالمرة، فهو منذ عام 2004، استحكم بجسده مرض الشلل الرعاشي وصار طريح الفراش لا يقدر على الحركة بسهولة، لكنه زار العراق برغم مرضه بينما امتنع كثر من القادرين دونما سبب معقول. وحاولوا أيضاً إشاعة أن النواب امتدح حسن نصرالله أمين عام “حزب الله” اللبناني في إحدى قصائده، ونشرت حسابات وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي قصيدة تمدح نصرالله ونُسِبت للنواب. لكن الحقيقة أن هذه القصيدة لشاعر لبناني هو محمد مقدسي العاملي، وردت في بحث نشرته مجلة “جامعة أهل البيت” في آذار/ مارس 2012، عنوانه “السيد حسن نصر الله في الشعر العربي المعاصر”. وذكر البحث أن مصدر المقطع الشعري هو كتاب اسمه “قناديل النصر” لمؤلفه محمد قدسي العاملي، والمطبوع في “دار الولاء” في بيروت عام 2006. هذه المحاولات لم تستطع من النيل من سيرة النواب، لأن ما بذله من عمره وصحته في السجون والمنافي ليس بالإمكان محوه بادعاءات كاذبة من أناس يجدون في مظفر وأمثاله تهديداً لمصالحهم ورمزاً مقاوماً لفسادهم، يحاولون كسره. مثلّت جنازة النواب فرصة للساسة العراقيين لغسيل سمعتهم، لذلك لم يفوتوا مناسبة أن يحضروها معتقدين أن حضورهم هذا سيلهي الجماهير عن فشلهم طوال هذه السنوات، التي عجزوا خلالها عن تقديم ابسط الخدمات للمواطن العراقي، ففاجأتهم هذه الجماهير بغضبة شديدة، وتمكنوا من طرد السياسيين الذي حضروا الجنازة بدءاً من رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي حتى أصغر نواب البرلمان، مروراً بوزير الثقافة الذي رافق قبل أيام قليلة فقط نوري المالكي في افتتاح معرض بغداد للكتاب.

تحولت جنازة مظفر النواب إلى فعل احتجاجي كبير كان سيعجبه، لأنه امتداد لمشروعه المعارض ومحاولته استعادة الوطن من بين أيدي لصوص استحكموا به جراء مصادفة غاشمة واحتلال دموي.

نجح المشيعون في تنظيف الجنازة من دنس السياسيين، ورفعوا خلال التشييع صور ايقونة ثورة تشرين صفاء السراي التي أصبحت مع صورة مظفر النواب أيقونتَي احتجاج وراية معارضة يرفعها المحتجون في كل تظاهرة أو اعتصام في العراق. طارد المشيعون الشباب أرتال السياسيين بالحجارة وهم يرددون “مظفر للشعب مو للحرامية” في لحظة وطنية شديدة التأثير كان سيكتب عنها مظفر قصيدة تفتخر بهذا الفعل الثوري، الذي أحال جنازته إلى حدث احتجاجي سيتذكره كل عراقي، إنها لحظة عراقية من شأنها أن تجعل كل سياسي يفكر أكثر من مرة قبل حضور أي تجمع وطني، خصوصاً مع استمرار تدهور المشهد السياسي وانسداده.

درج

———————————-

مظفر النواب: قمت بعمليّة في فلسطين… كتبت عن الحشاشين… وأكلت مع فلاحي الأهوار

حسام الدين محمد

اختبأت هذه المقابلة في أوراقي قرابة ربع قرن.

كان مظفر النواب في زيارة إلى لندن أواخر تسعينيات القرن الماضي، وكنت، أنا والصديق الشاعر الراحل أمجد ناصر، نعمل على ملف يتضمن إقامة حوارات مع الشخصيات الثقافية العراقية المؤثرة لاستفتائها حول كيفية الخروج من الاستعصاء الذي كانت البلاد تقبع فيه. كان صدام حسين ما زال على سدة السلطة، وكان العراقيون يعانون من وطأة العقوبات الغربية والاستبداد. وكان «انتظار البرابرة» كما تقترح قصيدة قسطنطين كافافيس، هو الحلّ الوحيد!

بدا الشاعر، خلال المقابلة، رقيقا أنيسا. اختفت صورة المسرح العالي والشتائم السياسية، والقصائد الشيوعية التي «يداعي» فيها المنجل «الإقطاعي» ويرفض المناضل إعلان «البراءة» من الحزب.

بدا الشاعر اللطيف بعيدا عن أسباب شهرته، التي اعتدنا على سردها في الحكايا التي كنا نتداولها عنه، ومنها رفضه الصارم لطلب مسؤول عربي خلال أمسية شعرية بأن «يستثني» (أي يستثني زعيم البلاد) من تعميمه الذي لا يستثني فيه أحدا من الشتيمة.

لم أعرف، يقينا، السبب الذي جعلني أحجم عن نشر المقابلة (وهذا، على أي حال، شأني عموما في شؤون الكتابة والنشر) لكن وفاته، وحيدا، بضيافة كريمة من أحد أمراء الخليج الذين كانوا أحد مواضيع هجائه، وحديث صديق مشترك لي عن عزلته ويأسه قبل وفاته جعلاني أبحث عنها.

انضافت بعد ذلك المعارك التي ثارت حول مظفر، والاتهامات له بقصور الوعي الأيديولوجي، والريفية، والطائفية، والشتائمية، وتجريده من دور مفترض له في تطوير الشعر العربي، وتقويم أثره على الشعر العراقي المحكي، والعربي الفصيح، ثم بحثي في مسار حياته الغرائبي، كلها أمور جعلتني أرى أن استنهاض أجواء المقابلة الآن، والتعليق عليها، مناسبة مفيدة، نقديا وتاريخيا، لإعادة قراءة النوّاب، سيرة وشعرا.

كان ضروريا أن أسأل مظفر، في بداية الحوار، عن تاريخ أسرته، فقال إن القصص التي سمعها من العائلة أن أصلها من الجزيرة العربية، وأنها هاجرت في أيام العباسيين إلى العراق، ثم هاجرت مجددا، بسبب الاضطهادات الدينية إلى الهند، حيث شاركت في حكم المناطق الشمالية منها حتى دخول الاستعمار البريطاني، حين خيروهم بمنفى فرجعوا للعراق.

استعدت، وأنا أقرأ هذا الرد، الآن بعد أن مرت مياه كثيرة تحت الجسور، متابعتي مسلسلا تاريخيا هنديا، عن الهند بعد سنوات قليلة من الاستقلال عن بريطانيا، على «نتفلكس» مؤخرا، حيث تظهر إحدى شخصيات الدراما، في شخص زعيم لأحد أقاليم الهند تحت اسم عائلة النواب وكان في تلك الدراما أيضا مظاهر اضطهاد للشيعة في هند الاستقلال.

من الضروري الإشارة أيضا إلى أن لفظة نواب، كانت ما تزال تستخدم، في اللغة الهندية، موروثة من الإمبراطورية المغولية، للإشارة إلى الحاكم المحلي المسلم لمنطقة من الهند، أثناء وبعيد الاحتلال البريطاني للهند.

سألت النواب إن كانت هناك نظرة إليهم، كعائلة، كغرباء، فقال إن تلك النظرة كانت تواجه كثيرين في العراق، وأن سلطات الاحتلال المتكررة، من عثمانيين وفرس، كانت تقوم بإقصاء جزء من العراقيين بدعوى تبعيتهم لتركيا أو إيران، وهو ما فعلته سلطة صدام أيضا بطرد الكثير من العراقيين واعتبارهم إيرانيين.

السياسة والدين في تاريخ عائلي

وجهت أسئلتي بعد ذلك للتقصي حول كيف تشكّلت الأساسات الأدبية لشخصيته وكتاباته. قال مظفر إن «من الصعب أن أنسب كتاباتي لأشخاص محددين» لكنّه أكد إعجابه بشاعر بعينه: المتنبي. لماذا؟ سألت مظفر. «لأنه في شخصية المتنبي تبلورت صراعات عصره».

ألا ينسحب هذا الجواب على النواب نفسه؟

سلّطت المقالات التي نشرت أخيرا أضواء لم يذكرها النواب في مقابلته معي، ومنها ما نشره الروائي السوري ابراهيم الجبين، في مقالة له عن أن النواب اسماعيلي المذهب، ولم يكن معلوما لي، أن جد النواب كان ممثل الأغا خان في العراق، وأن منزلهم في شريعة (جادة) النواب في بغداد، كان مركزا رسميا للمذهب.

تفحص هذا التاريخ الطويل الديني – العائليّ، الذي تندمج فيه السياسة بالدين بشكل يصعب فصمه، يمكن ان يقدّم تفسيرا مهما لشخصية النواب الشعرية والسياسية، بما في ذلك النزوع الجارف لديه للانشقاق عن السرديّات الدينية – السياسية الكبرى، والتحاقه بالمهمشين، كما حصل في انضمامه لـ»القيادة المركزية» المنشقة عن الحزب الشيوعي الرسمي.

تبدو حياة النواب هنا فصلا من كتاب كبير للتداخل، أيضا، بين الشيوعيين، والشيعة عموما، بالتبادل بين قراءة ذلك ضمن سياق التمرّدات التاريخية الشيعية على السلطات المركزية الإسلامية، وقراءته ضمن التأثر المتبادل بين الحزب والشيعة، الذي وصل ذروته في دخوله مدن «العتبات المقدسة» وانخراط بعض الشيوخ فيه، بحيث أصبحت عاشوراء وسيرة الإمام الحسين وواقعة الطف في كربلاء مناسبات للعمل الجماهيري الشيوعي.

تتناسب، ضمن هذا السياق، الشخصية التاريخية لآل النواب، الإسماعيليين القادمين من الهند، مع الانشقاق اليساري على الحزب الشيوعي، والذي قاد تمردا فاشلا في الجنوب، وتندرج في ذلك تجربة النواب في أهوار العراق، مرورا بسجنه والحكم عليه بالإعدام وفراره إلى إيران ثم إعادة تسليمه لسلطات العراق، وتحوّله كذلك إلى رحالة ثوري أممي، في ارتريا وظفار واليمن (يحكي النواب عن مشاركته حتى في عملية فدائية واحدة في أغوار فلسطين).

بالعودة إلى المتنبي، يمكن اعتبار جواب النواب تقليديا، فهناك عدد كبير من الشعراء العرب صرّحوا عن إعجابهم بالمتنبي، أو اعتبروه مثالهم الأعلى، لكن جذور النواب «التاريخية» للاقتراب من نار المتنبي اللاهبة تبدو أكثر إقناعا.

كنت قد ترجمت مادة لولفهارد هاينريش، بروفيسور اللغة العربية في جامعة هارفرد، نشرت في مجلة «نزوى» عام 1999، يناقض فيها آراء باحثين قبله، مثل بلاشير، ماسينيون، وطه حسين، تعتبر المتنبي قرمطيا، قائلا إنه لا معنى لادعائه النبوة «إلا إن كان يأمل أن يعتبر الإمام السابع محمد بن إسماعيل» متسائلا في أي فرقة دينية يمكن أن يكون لمزعم النبوة معنى؟

كانت الكوفة، في مراهقة المتنبي، «حاضنة للغنوصية الإسلامية» وكانت «الفرقة الإسماعيلية، قد بدأت بإعادة كتابة أساطيرها الغنوصية» لكن فكرة تجلي شخص بشري كاشفا عن ألوهيته لم يكن معروفا في الإسماعيلية، لكن في فرق غنوصية أخرى من «الغلاة» ومنهم أتباع اسحق الأحمر وابن نصير، الذي انتشروا في منطقة حلب واللاذقية.

يتجاهل هذا التحليل أن الإسماعيلية أنتجت وقائع يتم فيها تأليه أشخاص، كما حصل في شخص الحاكم بأمر الله، كما تتجاهل النزوع الشخصي لشاعر من طراز المتنبي، والذي أصبح طرازا يتتبعه شعراء آخرون، وأن النزوع لتأليه للشخصيات المقدسة دينيا يعبّر عن نزوع شعبيّ دينيّ موجود حتى ضمن كافة الأديان والمذاهب.

غير أن ما يهمّ في التدليل على إحساس النواب العميق بقرابته مع المتنبي، ليس الاجتهادات اللاهوتية، أو «الحاضنة الغنوصية» الإسماعيلية فحسب، بل العلاقة العضوية للشخصين بالتاريخ السياسي – الديني للمنطقة العربية عبر الشعر والسيرة العجيبتين.

اختار النواب في مقابلتي القديمة هذه معه على اعتبار النزوع «النبوي» لدى المتنبي أمرا متعلقا بشخص الشاعر لا ميوله الدينية، حيث قال إن «الاعتداد الكبير بنفسه كان في مواجهة التفكك. هذه لم تكن غطرسة. حين يظهر شاعر معتد بنفسه ويتكلم بصدق فهذا ناتج عن ضرورة.» وأكد النواب إن المتنبي «لم يكن مغرورا بل كان يحتج بكبريائه على الانحطاط الحاصل». الكبرياء، بهذا المعنى، «كبرياء تواجه فيها عصرك. لكن التكبر على الناس هذه قضية أخرى».

تقدّم سيرة المتنبي، في الحقيقة، إضاءات أعمق على قضايا أخرى في شخصية وسيرة النواب، وبينها مسألة الإقذاع في الشتم، ومعلومة لكل قراء المتنبي أن القصيدة التي تسببت في قتله، كانت قصيدة مشينة لتاريخه، ففيها هجاء شائن ومتشف في شخص كان ذنبه أن قوما قتلوا أبيه وسبوا أمه، فكتب فيه قصيدة «ما أنصف القوم ضبّة وأمه الطرطبة» وعيّره في «القصيدة القاتلة» (والبائسة) تلك بالوصف الذي اشتهر النواب باستخدامه ضد الزعماء العرب.

مشهورة أيضا قصيدة المتنبي في هجاء كافور الإخشيدي، وفيها ما يسيء لشخص بلونه، وهذا كان، حتى في مقاييس ذلك الزمن، معارضا لأخلاق الإسلام.

القدس عروس: إشكاليات الرؤية الجندرية

يثير التأمل، في هذا السياق، أن انتقاد النواب تركز على مسألة إقذاعه وهبوط الشعريّة لديه حين تصعد السرديّة الطائفية، كما أشار إلى ذلك الأكاديمي الفلسطيني – السوري أحمد نسيم برقاوي، أو التناقض الكبير في مستويات شعره السياسي وغير السياسي، كما أشار كثيرون، بينهم الأكاديمي السوري محمد الخليل، لكنني لم أقرأ، ضمن ما قرأت من آراء، نقدا له على تهافت الرؤية الجندرية لدى شاعر كانت الشيوعية واليسار مصادره الفكرية، كما حين يُشتم الزعيم الذكر باعتبار أمه الأنثى مومسا، أو حين تعتبر فلسطين «عروسا» تغتصب.

تضاعف هذه الاستعارات الجندرية المزعجة من تهافت تلك الأشعار التي انتُقدت، ولا يفيد كثيرا الدفاع عنها باعتبارها نسيج السياق الزمنيّ لصاحبها، فنحن نتحدث عن شخص شيوعيّ من عائلة دينيّة (أي يُفترض، أخلاقيا، ألا تشتم الناس بأمهاتهم) كما أننا نتحدث عن شخص كان شائعا عنه أنه لم يكن «تقليديا» في أهوائه الجنسية، ولا يمكن ألا يدرك مطاحن «الصراع الطبقي» والفقر، وأن الحروب تخلّف، بالضرورة، ظروف بيع الأجساد والأرواح.

أما تمظهرات الطائفيّة في سيرته أو شعره فتحتاج مبحثا طويلا، ولا بأس مع ذلك، أن نشير إلى فكرة أن الهويّات الثقافية، بما فيها الدين والمذهب، تخترق مظاهر السياسة في عالمنا العربي (كما يمكن تتبعها، بيسر، في ثقافات عالمية أخرى) لكن هذا لا يعني أن ظواهر السياسة الحديثة لم تخترق، بدورها، آليات اشتغال الهويات الثقافية، وأن تنتج عن ذلك حواصل هجينة من أنماط غريبة، كتأثر الحركات السياسية الإسلامية، وخصوصا الراديكالية منها، بنماذج الشيوعية وأفلام الرعب وألعاب الفيديو.

أشار مظفر أيضا إلى أهمية الجواهري حيث رأى أنه «يختلف عن كل شعرائنا العراقيين». يشترك مظفر مع الجواهري في الإعجاب بالمتنبي لكنه يعتبر أيضا أن «أثر التراث عظيم عليه. من المعري والحطيئة والشنفرى وغيرهم». يدافع النواب أيضا عن قصائد المديح لدى الجواهري حيث يرى إنه كان يعتبرها «ردا للجميل» ودائما، بالعودة للاستشهاد بالمتنبي: «فليسعد النطق إن لم تسعد الحال». يرى أيضا أن الجواهري كان قريبا من اليسار «لكنه نسيج بيئة معينة وتربية معينة جعلت منه الجواهري».

يفيد أيضا تفحص إشارات النواب إلى الشعراء الذين أثروا فيه، ومنها تخصيصه للمعرّي، الذي كان أيضا على المذهب الإسماعيلي (هناك مصادر تاريخية تقول إنه ذهب إلى بغداد للكشف عن أحوال الدعوة الإسماعيلية فيها وأن الحاكم بأمر الله دعاه إلى القاهرة) ويمكن، مع بعض التطفيف، سحب رد المعرّي على الشريف المرتضى بتلميح من قصيدة للمتنبي، على مواقف النواب التي ميّزته في السياسة والشعر عن التيّار الشيوعيّ – الشيعيّ العام.

تجنب مظفر الحديث عن شعراء عرب يحبهم. «أحب قصائد معينة وليس شعراء». «أحب القصائد التي تلائم فهمي ومزاجي ومقدار استيعابي للقصيدة. أحس من بدايتها أنها قصيدة جيدة تدل على خيال الشاعر». وهذه القصائد التي أحبها مظفر كثيرة، لكنّه، على الأغلب، قال هذا، كنوع من حسن التخلص.

قال النواب إنه تأثر بكل ما في التراث العربي – الإسلامي وكذلك بالآداب المترجمة للأمم الأخرى، وإن اهتمامه الأساسي هو الشعر، وأن اشتغاله تركز على تكثيف المعنى والصيغ اللغوية، والإحساس باللغة وبموسقة دلالاتها وإيحاءاتها، لكنه لم يكتف بالشعر، بل كتب أيضا مسرحية، وكان يرسم، وعضوا في جمعية الفنانين العراقيين، و»شاركت بمعارضة عديدة كان آخرها معرض في الكوفة».

لعب الرسم، كما يقول دورا كبيرا في شعره، لكن تنقله باستمرار أثّر على قدرته على الرسم. «أنا متنقل باستمرار والرسم يحتاج لاستقرار، ولذلك اكتفي بالأشياء التي أستطيع حملها سريعا».

يتذكر النواب أستاذه حافظ الدروبي ويقول إنه كان من جيل الرواد الأول من الرسامين في العراق الحديث. «كان في بعض المحاضرات في مرسم في كلية الآداب يستخدم فانوسا سحريا، ويضع كونشرتو بيانو لبيتهوفن أو تشايكوفسكي ويقوم الطلاب بترجمة هذا كله على شكل دوائر وألوان حيث يربط بين اللون و»التون مال الصوت» (تدرجات الصوت)!

كان الطلاب يقومون بترجمة الصوت العريض بلون فيه عرض وسعة، وهذه، كما قال النواب، كانت رابطة استفاد منها في رسمه وشعره.

عن المسرحية التي كتبها يقول مظفر إنها تتناول الفترة التي عاشها معتقلا مع سياسيين وسجناء عاديين بينهم سرّاق وحشاشون ومجانين. «لم نكن نرى السماء بسبب الضباب وأنفاس المساجين».

أثّرت على النواب، كما يقول، «جماليات بعض أقوال المتصوفة وأشعارهم، مثل الحلاج وابن عربي ورابعة وأبو يزيد البسطامي، وكان لها تأثير واضح على فهمي للحياة والإنسان» و»لكن قبل الآداب العالمية والرسم كانت التجربة الحياتية».

جلجامش في الأهوار

سألت النواب إن كان اتجاهه للشعر قد جاء استجابة لطرح سياسي فرأى إنها لم تكن استجابة سياسية تماما مشيرا إلى الأثر الكبير الذي تركته العاميّة عليه حين ذهب إلى أهوار العمارة. «أعطاني سماعي للمغنين. الأهوار والقصب وعالم المياه الذي يشبه بدء الخليقة». رأى الشاعر أنه في تلك المنطقة كان يمكن «أن تحس بجلجامش أكثر من أي مكان في العراق».

وجد الشاعر في الأهوار «عالم موسيقى» وشبهه بـ»الطين المختمر» يعجن النحات الطين عدة مرات حتى يصبح طينا مختمرا و»بمجرد أن تأخذ طينة وتشتغل عليها تجد مواضيع كثيرة» رأى في الأهوار «سيولة ورقة في عالم مائي» لكن أيضا الآلام: «الجوع والقصب ومتاعب المعيشة وكلها تنعكس قسوة في الألفاظ وصور تعبّر عن الألم بشكل حاد».

وصف النواب وضع فلاحي الأهوار وعلاقتهم القاسية بالطبيعة. «يجرح القصب الفلاح بكثافته، ويخوض الناس في الماء خلال الشتاء القارس شبه عراة. يأخذ حزمة يسميها البور يلبسه كغطاء للمنطقة السفلى من جسمه». لا تنفصل قسوة الطبيعة على الفلاحين عن قسوة البشر. «كان هناك إقطاع يبطش بأولئك الفلاحين بطشا شديدا ويسومهم أجورا زهيدة لأنه يمتلك الأرض وما عليها» والآن، كما يقول النواب، «وصلنا لشخص يمتلك الأرض ومن عليها أيضا».

أشار النواب في المقابلة إلى أنه لا يشعر، رغم كل شيء، بالعبث، وذلك فـ»الخلاص صار ممكنا».

يستعيد النواب تجربة «الكفاح المسلح» ويعيد القول إن «البؤرة الثورية» التي تم بناؤها في الأهوار «تم التآمر عليها من كل الجهات، بمن فيهم السوفييت، فاستشهد أشخاص وسجن آخرون بأحكام ثقيلة» لكن تلك التجربة، كانت برأيه، «تركت بصمة مهمة في التاريخ العراقي الحديث» وربما كان «الضياع وإشكاليات المعارضة العراقية تأكيد على صحة ما استنتج في ذلك الوقت حول الكفاح المسلح».

استذكر النواب التفاف «جماهير واسعة» حول ذلك التيار، وقال إن رفاقه «صمدوا مع الفلاحين وأكلنا وشربنا معهم شاي وخبز».

نقلت له رأي البعض الذي يقول إن شعره الأفضل هو المكتوب بالعامية العراقية فقال إنه يجد نفسه في المكانين. «هناك قضايا تكتب بالفصحى وأخرى تكتب بالعامية.» يجد هذا الاتهام مناسبة للنقد فيقول: «هناك تيار عام يدعي الحداثة. ليست الحداثة أن أريد أن أصير حديثا وأكتب بل أن أفهم معطيات العصر. أن أشعر بمشاعر الناس. أن تكون على إلمام باللون والموسيقى. هذا الاختمار هو ما يصنع الحداثة». انتقد النواب أيضا «الموضات» التي تنتهي في الغرب فإذا بها تظهر في بلادنا. «أنا أصنع حداثتي التي أفهمها والتي آخذها من شعبي وليس من صور مصنوعة في الغرب».

أكد النواب، في حينه، إنه كان لا يزال يكتب بالعامية، أما عن عودته للوزن والقافية فلا يعني «عودة للكلاسيكية». يقول: «أنا أستخدمها كضربات مثل «ضربات القدر».

قلت له إننا «كأننا أمام مظفرين»! فقال: «الوتريات مطبوعة والمسامرة مطبوعة. هناك تفعيلة وإيقاع مستعملة في الأماكن التي أريد. لا يوجد شعر يبتدئ من الصفر ومن العدم. الشرط هو ألا يخضعني الشكل لقيمه». ينتقد النواب مقولة نزار قباني «تفجير اللغة» فيقول: «ماذا يعني تفجير اللغة. اللغة تكتب بها كيف تفجرها؟».

لماذا لا تنشد قصائدك القديمة؟

أشرت على النواب إلى أن رواية «وليمة لأعشاب البحر» للروائي السوري حيدر حيدر، قدّمت تلك التجربة روائيا، فقال إن الرواية ذكرتهم بالأسماء لكنهم كانوا بعيدين عن بعضهم البعض، واكتفى حيدر بالتواصل مع قسم من الشباب الذين شاركوا بالتجربة «وصاغ عمله الروائي».

هل رأى النواب أنه كان هناك «إغماط لحقه» في السياسة والشعر؟

رد قائلا: «يهمني أن أكتب كما عشت تجربتي. قريب من الناس ومفهوم منهم ولي جسور معهم».

استنكر النواب أن يقول بعض الشعراء عن بعض أعماله «هذا مو شعر» وقال «أنا لا أقول إن شعرهم ليس شعرا لكنني أقول إنني لست ضمن إطارهم».

هل يضيرك هذا؟ هل تشعر بالأسى منه؟ سألت النواب.

«لا يضيرني» قال. «المسائل لابد أن تفهم يوما ما. عندما كتبت الوتريات كانت مفاجأة للناس ثم صارت متداولة في كل البلدان العربية وحتى إيران».

فوجئ النواب بوجود طبعات لكتبه «مثل دار صحارى. طبعوا الكتاب في القدس لكنهم بعثوا لي بنسخة، وجاءتني طبعة جديدة من إيران مغلفة غلاف كرتون».

يحتج النواب على تثبيت الناس له ضمن حقبة «الوتريات». «يأتي أحيانا أشخاص في أمسية فيطالبونك بقراءة الوتريات فأقول لهم: يا با الوتريات صار لها 20 سنة. هناك قصائد جديدة. في أمسية بلومزبري (منطقة وسط لندن) ناس قالوا لماذا لم تنشد قصائدك القديمة لنردد معك؟

حين سألته عن البلاد التي أحبّها لجأ مجددا إلى شعر المتنبي قائلا: «وكل امرئ يولي الجميل محبب وكل مكان ينبت العز طيب» مضيفا: «المكان الذي يحافظ فيه الإنسان على كرامته حتى الصحراء هو أفضل من أي مدينة تعيش فيها وحولك ذئاب تتناهشك».

يستذكر النواب إقامة قصيرة في مصر. «عشت سنة ونصف هناك. أحب القاهرة جدا ولي أصدقاء كثر. وصلتها صدفة وأنا مريض جدا فاعتنت بي عائلة الفنانة محسنة توفيق».

سألته عن «بلاد الشام» فقال: أول مكان طلعته من العراق هو لبنان ثم سوريا. كان لديه، كما قال، «معارف في سوريا لا أستطيع أن أصف الود الذي يحيطونني به» أما عن مواقف السلطات منه فيقول إنه كان «حرا في ما أقوله. أحكي بقسوة أحيانا ولا يتعرضون لي».

أقام الشاعر أيضا في ليبيا حيث حاول، كما قال، «خلق حركة أدبية. لكن الناس كانت عندها مشاغلها».

أما اليونان وفرنسا، «اليونانيون أقرب لنا بالعادات والتقاليد والمجتمع فيه بساطة المجتمعات العربية. الصديق يزورك دون موعد وهم عاطفيون» لكن، «الفرح الحقيقي هو العراق».

كان الشرق يغري الشاعر أكثر من الغرب. «ليس لديّ ولع بالبلدان الأوروبية لولا الأصدقاء. عالم أراه في السينما. أما عالم الشرق ففيه غموض إيحائي وتوازن كما فيه أناس تموت من الجوع. في بومباي عربة تلمّ الأموات يوميا. عالم يثيرك للكتابة عنه لتحكي عن هموم الناس».

تعرضنا طبعا لشؤون السياسة أيام المقابلة فسألته عن مفارقة أن الشيوعيين كانوا يتهمون البعثيين بالقدوم إلى السلطة بـ»قطار أمريكي» وأن أحد أقطابهم، علي صالح السعدي ذكر ذلك صراحة، وكيف أنهم آلوا إلى التنسيق مع الأمريكيين لإزاحة صدام، ففتح النواب باب الذكريات عن السعدي، قائلا إنهما كانا معا في دورة ضباط وكانا يعرفه من أيام العهد الملكي، فقال إن الأمريكيين يريدون رأس الشعب العراقي، وأن «الذين يستنجدون بالأمريكان ليسوا معارضة».

بقي النواب بقي على موقفه هذا، وقام في أمسية شعرية عام 2004 بإلقاء قصيدة بالمحكية خاطب العراق فيها بالقول «كأنك كربلاء كبيرة» وقال لأمريكا: «يا أمريكا حربنا وياك كسر خشوم»!

القدس العربي

———————————-

==========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى