سياسة

ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة- 2-

نتيجة حصول خطأ فني في القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة” نستمر في تغطية هذا الملف الحيوي هنا

تحديث هذا الملف يومي، نضيف العديد من المقالات المهمة والمختارة التي تناولت الحدث.  أنظر في الأسفل

====================

تحديث 11 أذار 2022

——————–

استذكار اجتياح العراق ويتامى “النظام الدولي” البائد/ صبحي حديدي

تقول النكتة السوداء، لأنها إذْ تُضحك فهي أيضاً تبعث على الكرب، إنّ أحد أقطاب “النظام الدولي الجديد”، الذي ترعرع مع جورج بوش الأب قبيل عمليات “درع الصحراء” و”عاصفة الصحراء”، ثمّ انقرض لأنه لم يكن بالجديد ولا بالنظام أصلاً؛ سُئل عن العلاقة الأكثر سوريالية بين الغزو الأمريكي/ البريطاني للعراق سنة 2003، والغزو الروسي لأوكرانيا هذه الأيام، فأجاب: غزونا العراق للاشتباه في وجود أسلحة دمار شامل، ونمتنع عن التدخل في أوكرانيا لأنّ روسيا تمتلك ترسانة هائلة من تلك الأسلحة. وبمعزل عن التنكيت، المفيد تماماً في حالات كهذه، لن تعدم معلقاً عربياً كان مع “النظام الدولي الجديد” من رأسه حتى أخمص قدميه، لكنه اليوم يلوم الولايات المتحدة، والغرب عموماً من خلفها، لأنها لا تردع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بما يكفي؛ أو لأنها (وهنا بعض ذرى التنكيت الأسود التلقائي!) إنما تخون “القِيَم” التي نهضت عليها فلسفة التدخل الإيجابي لصالح الديمقراطية وحقوق الإنسان على امتداد العالم. وأمّا ذروة السخف، الذي لا يضحك البتة هذه المرّة، فإنّ المعلّق الهمام إياه لن يستعيد أحداً أكثر من إدوارد سعيد، ليعلّق على كتفَيْ الأخير مسؤولية “شحن” الشعوب بالضغينة ضدّ الغرب عبر بوابات نقد الاستشراق!

وللمرء أن يدع أمثال هذا النموذج يواصل تيهه أمام مآلات العالم ما بعد 1990، ثمّ ما بعد اندثار نظريات نهاية التاريخ وصعود إنسان اقتصاد السوق الأخير، وما بعد 11/9 والكوارث التي انتهت إليها ردود أمريكا في أفغانستان والعراق؛ فالتوقف عند اجترار الماضي على سبيل مضغ الحاضر عند هؤلاء لا يجدي فتيلاً، حتى حين يقترب السجال من المأساة الأوكرانية الراهنة، بعد أن مرّ على مآسٍ أخرى في سوريا وفلسطين المحتلة واليمن وليبيا… للمرء، في المقابل، أن يتوقف عند التصريحات الأخيرة التي أدلى بها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، ضمن سياق ما يجري راهناً في أوكرانيا؛ وخاصة إقراره بأنه “قد يكون أخطأ” في قرار غزو العراق وأفغانستان، ولكنه بالطبع أصرّ على أنه “كان الأمر الصحيح” الذي يتوجب القيام به. وبين “أخطأ” و”الصحيح”، لا يجدي فتيلاً هنا أيضاً البحث عن الحلقة المفقودة، أو المضيّعة بالأحرى؛ خاصة وأنّ بلير كان يتحدث صحبة أسقف كانتربري جستن ولبي، وأضاف التالي بالحرف: “سواء كنتَ على حقّ أم لا مسألة أخرى. في تلك القرارات الكبرى فعلياً، فإنك لا تعرف ماهية كلّ المكوّنات المختلفة، وعليك في النهاية أن تتبع غريزتك”.

في السياق أيضاً، يتوجب أن يُضاف لقب “سير” إلى اسم بلير لأنّ الملكة منحته الوسام الأرفع للفارس الأنبل في الرباط، كما يتوجب التذكير بأنّ أعداد الموقعين على عريضة شعبية تطالب بسحب الوسام منه، بسبب “جرائم الحرب” التي ارتكبها في العراق، تجاوزت الـ500,000 خلال أيام قليلة أعقبت إعلان لوائح الأوسمة. وجاء في العريضة أنّ بلير “ألحق ضرراً لا يمكن إصلاحه، بدستور المملكة المتحدة وبالنسيج المباشر لمجتمع البلاد”، و”كان مسؤولاً بصفة شخصية عن التسبب في وفاة أعداد لا حصر لها من المدنيين الأبرياء ورجال الجيش”؛ وبدل تكريمه بهذا الوسام الأرفع، يتوجب أن “يُحاسَب على جرائم الحرب” لأنه “الأقلّ استحقاقاً لأي تكريم عام، لاسيما إذا منحته الملكة”. ومن غير الجائز، إذْ لا يتقبل التاريخ، إغفال إصرار بلير على صحة قراره بزجّ بريطانيا في غزو العراق، بل لقد أعلن مراراً وتكراراً أنه سيفعلها مرّة ثانية إذا اقتضى الأمر، ولن يكون في أيّ حال “تابع أمريكا” كما يتهمه خصومه. ذلك من منطلق إيمانه بأنّ “الولايات المتحدة وأوروبا يجب أن تعملا سوياً في خلق العالم الجديد”، وأخشى ما يخشاه أن “تعود الولايات المتحدة إلى سياسة العزلة والتقوقع”، وأن “تترك أوروبا وحدها لمجابهة الإرهاب والفقر والأوبئة الكونية”…

ومراراً، أيضاً، تفاخر بلير بأنه كان سيشارك واشنطن في الإطاحة بنظام صدّام حسين حتى من دون الحاجة إلى تأكيد وجود أسلحة الدمار الشامل، وبلغ به الصلف حدّ التصريح علانية بأنّ عدم العثور على تلك الأسلحة كان تفصيلاً “فنّياً” محضاً؛ وأمّا “الصورة الأهمّ” في المشروع بأسره، أي الغزو والاحتلال وقلب النظام، فإنها كانت ثقته القصوى بصواب قراراته، ومشروعيتها وأخلاقيتها. وبالفعل، فقد زاود بلير على الأمريكيين أنفسهم في تصعيد الحرب النفسية، خصوصاً حين نشرت حكومته ما أسمتها “تقارير سرية خطيرة” عن وجود ترسانة عراقية مرعبة: صواريخ سكود سليمة مصانة، وأطنان (نعم، أطنان!) من المواد الكيماوية الجاهزة للتحوّل إلى أسلحة كفيلة بإبادة “سكان الأرض بأكملهم”، كما جاء في النصّ الحرفي حينذاك. وقبل الانخراط التامّ في صفوف الفيالق الأمريكية الغازية للعراق، لم يترك بلير فرصة تفوته للإعراب عن متانة التوافق الأنغلو ـ أمريكي الذي جمعه مع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، ثمّ خَلَفه جورج بوش الابن. ولم يكن بلير سعيداً بتكديس المدائح على كلينتون فحسب، بل تعيّن أيضاً أن يسكت عن فضائح الأخير الجنسية؛ مراهناً على رئيس مثخن بالجراح، مقامراً بخيانة مدوّنة السلوك التي بشّر بها بلير نفسه طويلاً، خاصة بصدد القِيَم العائلية وتجسيد المعجزة الأخلاقية للبريطاني النيو ـ فكتوري السائر على سبيل ثالث بين اليمين واليسار!

اليوم يقول إنّ “الهجوم على أوكرانيا، وهذه ديمقراطية مسالمة انتُخب رئيسها في انتخابات نزيهة وحرّة، لا تبرير له كلياً، والمملكة المتحدة وحلفاؤنا كانوا على صواب حين رأوا فيه اعتداء علينا جميعاً، وعلى قِيَمنا”؛ ثمّ يمجّد “شجاعة الشعب الأوكراني”، ويطالب أن يستمدّ الغرب “الدروس الأعرض مما وقع”. وحين يطلق هذه التصريحات فإنّ الآلاف من رافضي منحه الوسام الأرفع يذكّرونه بموقفه في سنة 2014 حين اندلع أوّل اللهيب الأمريكي/ الأطلسي مع روسيا حول أوكرانيا، واعتبر بلير أنّ “على الفريق الأوّل وضع الخلافات جانباً”، والتركيز على “تنامي ظاهرة الإسلام المتشدد” في الشرق الأوسط وباكستان وأفغانستان وشمال أفريقيا، لأنها تمثل “تهديداً كبيراً للأمن الدولي في القرن الحادي والعشرين”. ولقد ختم بنصيحة ورجاء: “مهما كانت المشاكل الأخرى التي تلقي بثقلها علينا، ومهما كانت خلافاتنا، علينا ان نكون جاهزين لبذل الجهود والتعاون مع الشرق خصوصاً روسيا والصين”. نعم، “مهما كانت” إذن، بما في ذلك ضمّ شبه جزيرة القرم وغزو أوكرانيا، أو إذا صغّرت الصين عقلها وحذت حذو الكرملين فضمّت تايوان أو اجتاحتها؛ فلا خطر، في المقابل، يعادل ظاهرة “الإسلام المتشدد”.

ولقد كُتب الكثير في باب المقارنة بين العراق وأوكرانيا، وتلمّس البعضُ الفوارق العديدة بين الملفّين، وانزلق البعضُ إلى مطابقات سطحية قاصرة؛ غير أنّ مزيجاً من عناصر التشابه والتنافر فرض طرازاً بسيطاً من منطق ابتدائي يدفع بلير إلى الإقرار بخطأ في العراق من جهة أولى، والإعراب من جهة ثانية عن حماس مشبوب في ذمّ اجتياح أوكرانيا. وهو ذات الطراز الذي يحثّ على استدعاء النكتة السوداء سالفة الذكر، ثمّ توسيع نطاقها لتشمل المقارنات بين لاجئ سوري أو أفغاني أو أفريقي حالك البشرة داكن العينين، وآخر أوكراني أبيض البشرة أزرق العينين. ولا عجب، والحال هذه، أن تلتقي أفكار بلير، أحد أبرز أشباح “النظام الدولي الجديد”، مع يتامى ذلك النظام البائد لجهة ترحيل الخيبة إلى تنظيرات المحافظين الجدد في أمريكا وأوروبا تارة، أو تارة أخرى معاكسة إلى… إدوارد سعيد، دون سواه!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

———————-

سورية وأوكرانيا

سوريا هي مستقبل أوكرانيا؟

لوحظت عناصر تشابه كثيرة بين المسألتين السورية والأوكرانية، ومنها أن استراتيجيات الغزو الروسيّ لأوكرانيا، العسكرية منها والسياسية، تكاد تتطابق مع الاستراتيجيات التي مارستها القوات الروسية على الأرض السورية منذ التدخل الروسي عام 2015 حتى الآن.

استعاد السوريون صور الحصار والقصف الروسي، وتعاطف أغلبهم مع الأوكرانيين، واستقبل بعضهم أشرطة فيديو ومقاطع صادرة عن نشطاء وحسابات أوكرانية أو عالمية على وسائل التواصل الاجتماعي، تؤكد للسوريين مقتل ضابط كبير أو طيار روسيّ في أوكرانيا كان مشاركا في العمليات الحربية في سوريا.

ردود فعل النظام السوري، الذي ساهم التدخّل الروسي في منعه من السقوط، تجاوزت المعقول سياسيا، بدءا من إعلان فيصل المقداد، من موسكو، تأييد “العملية الخاصة” الروسية، مرورا باعتراف رئيس النظام بشار الأسد بـ”جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك”، ثم قيام مؤسسات الأمن بتسيير مظاهرات تأييد لبوتين وعقوبات لمن لا يشارك فيها، وإعلان بعض جهات “الدفاع الشعبي” استعدادها للقتال بجانب روسيا في أوكرانيا، وصولا إلى إعلان رياض حداد، سفير النظام في موسكو، أن “أوكرانيا ستتحول إلى إدلب كبيرة”.

كان ملفتا، ضمن الأنباء الواصلة من جبهات الحرب الأوكرانية الكشف عن مشاركة جنرالات روس كبار كانوا في سوريا، ومنهم الجنرال أندريه سوكوفيتسكي، نائب قائد الجيش الحادي والأربعين للقوات المشتركة، الذي قتل الشهر الحالي، والجنرال فيتالي غيراسيموف، الذي أعلنت كييف مقتله أيضا.

كما في سوريا، التي تعرضت مدنها وبلداتها في حلب وإدلب لغارات روسية استهدفت المدارس والمشافي والأسواق، تستخدم روسيا حاليا استراتيجية حصار المدن، واستهداف البنى التحتية والمرافق الخدمية والصحية (التي كان آخرها مشفى ماريوبول للتوليد) بقصف جوي ومدفعي ومنع إدخال المساعدات الإنسانية لدفع القوات المقاومة في تلك المناطق للمغادرة، وكذلك لترويع المدنيين وجعل حياتهم مستحيلة، ثم تفعيل “ممرّات آمنة” لإجلاء المدنيين، واستهدافها أحيانا، لتعميم الفوضى والرعب واليأس.

كانت سوريا، عمليا، حقل الرماية والتدريب على حصار المدن وترويع المدنيين وتجربة منظوماتها العسكرية، فحسب وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، فإن الجيش الروسي “اختبر جميع الأسلحة الروسية في سوريا”، وأن “جميع قادة الأفواج وقادة الفرق والجيوش وكل قادة المناطق وكل رؤساء الأركان والخدمات، شاركوا في معارك سوريا”، وحسب قناة “زفيزدا” الروسية فإن الجيش الروسي اختبر 359 سلاحا حديثا في سوريا ضمن ظروف قتالية، وأن بعضها “اكتسب شهرة عالمية بفضل جودته”!

استنسخ الجيش الروسي، بهذا المعنى، الهجمات التي نفذها في إدلب والحسكة والرقة والقنيطرة واللاذقية وريف دمشق وحمص وحماه بالهجمات الجارية اليوم في إيزيوم وبتروفسكي وهروتشوفاكا وسومي وأختيركا وخاركيف وماريوبول، من دون أن يغيّر في الأمر شيئا أن سلطات الكرملين كانت تبرر تدخلها في سوريا بدعم “نظام شرعي” وأن تدخّلها في أوكرانيا يحاول احتلال بلد وإسقاط نظام ديمقراطي وحكومة منتخبة.

أدت العمليات الحربية الروسية في سوريا منذ تدخلها في 30 أيلول/سبتمبر 2015 حتى الآن، حسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، إلى مقتل 6910 مدنيين بينهم 2030 طفلا، وسجلت 1231 حادثة اعتداء على مراكز حيوية، بينما وثق مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، حتى يوم الأربعاء الماضي، مقتل 516 مدنيا بينهم 71 طفلا، لكن المكتب أعلن أنه يتوقع أن تكون الأرقام الحقيقية “أعلى بكثير”.

إلى الفرق بين أسباب التدخّل، ووجود اختلافات عديدة سياسية وعسكرية مهمة (منها أن القوات البرية الروسية تشارك في العمليات الأوكرانية)، فالأغلب أن قرار بوتين باجتياح أوكرانيا ما كان سيحصل لو لم تتواطأ المنظومة الدولية مع تدخّله في سوريا، وما لم يقم جيشه بتجريب أسلحته في أجساد السوريين.

القدس العربي

—————————

الشرق الأوسط في عين العاصفة الأوكرانية/ بشير البكر

يتابع الشرق الأوسط بقلق شديد مجريات الحرب الروسية على أوكرانيا، وما يمكن أن تسفر عنه من تغييرات على حال المنطقة التي تعيش صراعات حادّة. وهناك أكثر من مؤشّر على حصول تطوراتٍ لم تكن في حسابات أحد، أولها التحرّكات الإسرائيلية تجاه موسكو، وكان لافتا زيارة وفد إسرائيلي كبير إلى موسكو، يضم رئيس الحكومة نفتالي بينت ووزير الخارجية يائير لبيد وشخصيات أخرى، مثل زعيم حزب إسرائيل بيتنا، أفيغدور ليبرمان، المتحدر من مولدوفا إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي، والذي يشكل اليهود الروس خزانه الانتخابي. وقال مسؤول سياسي إسرائيلي كبير إن تنسيق الزيارة جرى مع واشنطن وبرلين ولندن وباريس والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وهناك من أراد أن يضعها في إطار وساطة، بينما اعتبرها بعضهم من أجل بحث وضع اليهود الأوكرانيين، ولكن أكثر التقديرات قربا من الواقع أنها نابعة من القلق على التفاهمات الروسية الإسرائيلية في سورية. وهذا ما يفسّر عدم الرد من تل أبيب على ضغوط واشنطن من أجل تحديد موقف إسرائيلي رسمي من الغزو الروسي لأوكرانيا، ويصبح الأمر أكثر وضوحا، إذا أخذنا في الاعتبار ما جاء في صحيفة يديعوت أحرونوت، التي قالت إن قيادة الجيش الإسرائيلي ضغطت على حكومة بينيت لاتخاذ موقف محايد من الحرب.

والمؤشّر الثاني التقاطعات التي بدأت تظهر بين غزو أوكرانيا والمسألة السورية التي تعاني من الجمود منذ حوالي عامين. وفجأة، بدأ مسؤولون من إدارة الرئيس جو بايدن يتحدّثون عن المأساة السورية، التي لم يكلفوا أنفسهم عناء تحديد خطوط سياسية عريضة تجاهها منذ وصولهم إلى البيت الأبيض منذ أكثر من عام. ومهما يكن، أمر إيجابي أن يغادر المسؤولون الأميركيون الصمت، ويعترفوا بأن أحد أهم أسباب المأساة السورية هو التدخل الروسي في سبتمبر/ أيلول 2015 لحماية نظام بشار الأسد والحيلولة دون سقوطه، وكان ثمن ذلك المجازر التي ارتكبها الروس في كل سورية، وهم يتحمّلون مسؤولية التدمير والتهجير. والأهم ألا تكتفي واشنطن بالكلام، بل عليها التكفير عن أخطاء إدارة الرئيس الأسبق، باراك أوباما، الذي سلم الملف السوري إلى روسيا في عام 2013، وقاد عملية عدم محاسبة النظام بسبب مجزرة الغوطة التي استخدم فيها النظام السلاح الكيماوي وقتل أكثر من 1600 مدني.

ويتمثل المؤشّر الثالث في موقف تركيا من الغزو الروسي لأوكرانيا، فهي من جهة دولة عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومرشّحة لعضوية الاتحاد الأوروبي منذ نصف قرن. ومن جهة ثانية تربطها علاقات متينة مع كل من روسيا وأوكرانيا. وسواء صمدت هذه المعادلة أم لا، فالمؤكّد أن تركيا سوف تتأثر تبعا لتطورات الحرب وتداعيات العقوبات الغربية على روسيا. ومن هنا، يمكن رؤية تحرّك أنقرة للقيام بوساطة بين موسكو وكييف، وهذا دورٌ مهم جدا، يمكن أن تلعبه أفضل من غيرها، ولكن النجاح مشروطٌ بتنازلات روسية أميركية.

أما المؤشّر الرابع، فإنه يتجلى بالموقف الإيراني. ومن غير المستبعد أن طهران كانت على اطلاع، بما سوف تُقدم عليه موسكو، وربما كانت صلاة الرئيس إبراهيم رئيسي بين جدران الكرملين في التاسع عشر من يناير/ كانون الثاني الماضي، من باب الدعاء بالتوفيق. وما تطمح إليه طهران هو مزيد من التمكين والهيمنة في الشرق الأوسط، وخصوصا في سورية الساحة التي تتشارك فيها العمل مع موسكو، ولا يمكن هنا تجاهل الاتفاق النووي الذي كان يقترب من اللحظة الحاسمة قبل اجتياح أوكرانيا، وهناك دعوات اليوم لوضعه على الرفّ، وهذا أمر لا يزعج إيران مرحليا، فهي كلما تأخر الاتفاق تقدّمت خطوات نحو صناعة السلاح النووي الذي باتت حاجتها إليه اليوم أقوى من أي وقت مضى.

العربي الجديد

—————————

سورية وأوكرانيا… آلة قتل روسية واحدة/ عبد الله البشر

في الثلاثين من سبتمبر/ أيلول من عام 2015، تغيّرت “منهجية الانتقام” من المناطق المنتفضة على النظام السوري، بعد تدخّل آلة القتل الروسية، فارتفعت وتيرة القصف الجوي لتبلغ معدّلات غير مسبوقة. وقد استُخدمت في ذلك أسلحة فتاكة جديدة لقتل المدنيين وتدمير البنى التحتية والمدارس والملاجئ وغيرها في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. ومنذ الأيام الأولى من الحرب الروسية على أوكرانيا التي انطلقت في 24 فبراير/ شباط 2022، راح سوريون يقارنون ما تعرّضوا له من جرّاء القصف الروسي بالمشاهد التي تردهم من أوكرانيا، مؤكّدين أنّ الوحشية ذاتها والقتل ذاته.

يشبّه الشاب السوري عامر جمعة ما يجري اليوم في أوكرانيا بالقصف الذي شهده على بلدة حر بنفسه في ريف حماة الجنوبي، قائلاً لـ”العربي الجديد” إنّ “القصف المركّز وصوت القنابل والغبار الذي غطّى السماء لا يوصفان. الوضع كان جنونياً بكلّ ما للكلمة من معنى، إذ لا مفرّ من القنابل”. يضيف: “عشت أسبوعاً كاملاً تحت قصف الطائرات الروسية المتواصل ليلاً نهاراً، فيما بيني وبين الموت شعرة”، مشدداً على أنّ “الإجرام الروسي ذاته يحدث في أوكرانيا اليوم، مع قصف الأبرياء من دون سبب”.

بدورها، تحكي خديجة رسلان، أمّ يونس، المهجّرة من ريف حماة لـ”العربي الجديد” عن “الدمار التي أحدثته الطائرات الروسية في بلدتي كفرزيتا”. وإذ تؤكد أنّ “الغارات الجوية كانت مخيفة جداً”، تذكّرها فيها “مشاهد الدمار الذي يحدثه القصف الروسي في أوكرانيا”. وتوضح: “عشنا الرعب بسبب قصف الطائرات. لا أتخيّل أنّ أحداً قد يصمد أمام قصفها. والأمهات في أوكرانيا يشعرنَ بالخوف على أطفالهنّ، ونحن عشنا هذا الخوف في ما سبق وما زلنا نعيشه حتى يومنا هذا”.

أمّا محمد العبود النازح من مدينة كفرنبل، فيقول لـ”العربي الجديد” إنّه “خلال ستّة أعوام من التدخل الروسي، لم نشهد إلا الإجرام والقتل”. وفي الإطار نفسه، يقول علاء الياسين، معالج فيزيائي يقيم حالياً في مدينة إدلب، لـ”العربي الجديد” إنّه “على الرغم من اختلاف المكان ما بين سورية وأوكرانيا، فإنّ الإجرام واحد”. يضيف أنّ “كلّ الإجرام الذي مارسه النظام السوري لا يرقى إلى ذلك الروسي. فعندما يقصف الطيران الروسي، يشعر المرء بأنّه لن ينجو أينما اختبأ. بالتالي كنّا ننتظر حتفنا، حين تشير المراصد إلى قصف روسي”.

بالنسبة إلى محمود المرّ المهجّر من مدينة معرّة النعمان، فإنّ “خسارتي كانت قاسية من جرّاء القصف الروسي”. ويؤكد لـ”العربي الجديد” أنّ “القصف الروسي على مناطقنا استُخدمت فيه كلّ أنواع القذائف والذخيرة. لم يوفّر الروس أيّ نوع من أنواع الأسلحة في قصفنا. شوارع بالكامل كانت تُدمَّر بصاروخ واحد، وبنى تحتية كاملة تُدمَّر”. ويشير المرّ إلى أنّ “أمّي وابني استشهدا في قصف روسي على معرّة النعمان، علماً أنّ القصف استهدف حياً شعبياً لا يضمّ أيّ مقرّ للثوار أو الفصائل. القصف استهدف المدنيين… كان يتركّز بنحو 99 في المائة منه على المدنيين، وحتى الأموات في المقابر طاولهم القصف الروسي”.

يضيف المرّ: “لسنا في أوكرانيا لنعلم ما يحدث، لكنّ الشعب السوري الذي طالب بالحرية متعاطف مع الشعب الأوكراني، كون الاحتلال واحد والقاتل واحد والسمّ ذاته الذي تجرّعناه من (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين يتجرّعه الشعب الأوكراني”. ويتابع المرّ “أنا واثق من أنّ القصف الروسي الذي استهدفنا في سورية هو ذاته يتكرّر في أوكرانيا، لكنّ المفارقة هي في أنّ المجتمع الدولي لم يقف معنا الوقفة ذاتها التي يقفها مع أوكرانيا… يبدو أنّ الأوروبيين يزوّدونهم بالسلاح للدفاع عن أنفسهم. كذلك ثمّة مفارقة أخرى وهي تصوير أيّ مقاومة للشعب السوري على أنّها إرهاب فيما تُعَدّ أيّ مقاومة للشعب الأوكراني عملاً بطولياً”.

يُعَدّ ريف حمص الشمالي المسرح الأوّل لعمليات القصف الجوي الروسي في سورية، ومن بين الذين شهدوا ذلك القصف خضر العبيد الذي هُجّر مع عائلته من بلدة الدار الكبيرة. ويقول لـ”العربي الجديد” إنّ “الفارق من وجهة نظري كبير. مذ تذخّلت روسيا في سورية كان الهدف واضحاً، وهو التدمير وقتل المدنيين… قتل أكبر عدد منهم وتشريدهم، مع الاعتماد الرئيسي على سياسة الأرض المحروقة. كان يستهدف تجمّعات المدنيين بشكل مباشر، ومن المجازر الشاهدة على ذلك مجزرة الفرن في بلدة تيرمعلة، ومجزرة الزعفرانة التي استهدف الطيران الروسي فيها السوق، ومجزرة الغنطو التي راح ضحيتها أفراد من عائلة عساف عندما استهدف الروس ملجأ يؤوي نساء وأطفالاً… وكانت الحصيلة 45 شهيداً”.

دمار هائل بمستشفى الأطفال في ماريوبل الأوكرانية (تويتر)

يضيف عبيد: “أمّا في أوكرانيا، فثمّة قصف واستهداف لأماكن عامة مثلما نشاهد في وسائل الإعلام. صحيح أنّ ثمّة قتلى من المدنيين، لكنّ الفظاعة ليست ذاتها التي وقعت في سورية. هنا، كان استهداف المدنيين يتمّ بعد تخطيط، فيما الأسلحة المستخدمة متنوعة وكثيرة. وقد كانت سورية حقل تجارب، إذ استخدمت روسيا القنابل العنقودية والفراغية وقنابل الفوسفور والصواريخ البالستية ضدّنا نحن المدنيين. أمّا في أوكرانيا، فالأسلحة بمعظمها تستهدف نقاطاً عسكرية”.

ويخبر العبيد أنّ “الروس في ريف حمص الشمالي لعبوا على وتر الرعب لدينا. الطيران الروسي لم يكن يحلّق في النهار، وفي فترة معيّنة، في الساعة التاسعة ليلاً، كان سرب من الطائرات، خمس أو ستّ، يقصف الريف بالكامل. وعند الساعة 11 من قبل منتصف الليل، كانت تتكرّر العملية نفسها. حينها لم نكن نعرف النوم، وكان القصف يستهدف فقط التجمعات السكنية. والأمر نفسه عند الساعة الثالثة فجراً، قبل أن يمرّ السرب الأخير عند الساعة الخامسة فجراً”.

ويؤكد العبيد أنّ هذه الحال “استمرّت لنحو عام ونصف عام في ريف حمص الشمالي، إذ يكون القصف ليلاً وسط خوف كبير لدى الناس، الأمر الذي تسبّب في أزمة نفسية لعدد كبير منهم”.

في السياق نفسه، يتذكّر يوسف الخالد من أهالي بلدة حريتان في حلب كيف أُجبر على مغادرة بلدته مع عائلته من جرّاء القصف، قائلاً لـ”العربي الجديد” إنّ “مشاهد القصف بالصواريخ الفراغية مرعبة جداً. شهدت قصف مركز تجاري في المنطقة مؤلف من أربع طبقات، سُوّي خلال ثوانٍ معدودة بالأرض إذ قُصف بصواريخ فراغية. الروس لا يبالون بالمدنيين ولا بغيرهم ولا يهتمون لطفل أو شيخ أو امرأة… همّهم الوحيد القتل والترهيب لإرضاخ الخصم. وهذه السياسة ذاتها ألحظها في مشاهد الدمار الواردة من أوكرانيا”.

العربي الجديد

—————————

فوكوياما: حرب بوتين تنهي «نهاية التاريخ»/ سعدون يخلف

ما زال العالم يعيش على وقع خطابات نهاية الحرب الباردة، التي وإن كانت متعددة، إلا أنّ أشهرها كان خطابين اثنين: الأول متفائل، والآخر موغل في التّشاؤم، كان الأول يرى أنّ العالم بانتصار الولايات المتحدة الأمريكية يكون قد دخل إلى مرحلة ما بعد التاريخ، وأنّ البشرية وجدت ضالتها في النموذج الرأسمالي والديمقراطية الليبرالية. إيقاع هذا الخطاب ضبطه الفيلسوف فرانسيس فوكوياما، أمّا الثاني فيتمثل في أطروحة صموئيل هنتنغتون، التي ترى أنّ العالم بعد سقوط الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفييتي، تجاوز الأيديولوجية، وهو بعد الآن مقبل على صدامٍ بين الحضارات، جاعلا من الدين أو الثقافة العامل الأساسي المتحكم في هذا الصدام؛ على هذا الأساس، قسّم الحضارات بحسب نوعها إلى سبْعٍ حضارات أو ثماني حضارات، لكن، الحضارات التي تستطيع أن تنافس الغرب، وتتصادم مع قيمه، وتحدُّ من هيمنته، حددها في ثلاث حضارات، هي مرتبة على هذا الشكل: حضارة الإسلام، الحضارة الكونفوشوسية (الصين)، وروسيا (الأرثوذكسية).

يتميز خطاب نهاية التاريخ بالسعي إلى تحقيق السلام، أو هكذا يبدو، في حين يتسم خطاب الصدام بإشاعة الحرب، واللافت أنّ العالم بعد نهاية الحرب الباردة انزلق إلى وحل الحروب في العديد من مناطق العالم، لتزداد وتيرتها بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، خاصة في المنطقة العربية؛ كانت مبررات الغرب آنذاك أن مهمته الحضارية تقتضي أن يؤديها في المناطق، التي تعيش في ظل الديكتاتورية والقهر، فكان التدخل الغربي من أجل نشر قيم الديمقراطية والحرية والسلام، ولأجل أداء هذه المهمة الحضارية والغاية النبيلة، يجوز الاستعانة بكل الوسائل حتى العنيفة منها، فكان غزو العراق في 2003، وقبله أفغانستان 2001.

يمكن القول إن تقارباً حدث بين الخطابين: الصدام (الحرب) والنهاية (السلام) في هذه الفترة، ذلك أن فوكوياما، داعية السلام، كان من بين المحافظين الجدد، الذين صاغوا بيان القرن الأمريكي، حيث كانت هذه الجماعة لا تستبعد خيار القوة لفرض الهيمنة الأمريكية.

كان كل ما يجري من حروبٍ ونزاعاتٍ، يحدث بعيداً عن جغرافية الغرب؛ فالغرب يعيش في مرحلة ما بعد التاريخ، حيث الديمقراطية والحرية واحترام حقوق الإنسان، وحيث أجواء السلام والأمن والاستقرار، لأن الديمقراطيات، كما يقال، لا تتحارب في ما بينها، فهناك طرائق دبلوماسية لحل المشكلات، وفضّ النزاعات.

غير أنّ اشتعال الحرب في البيت الأوروبي (قلب الغرب) هذه الأيام، نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا، يضع مقاربات الغرب على المحك، ويفتح النقاش حول جدوى يقينياته، إذ تصبح قيمه ويقينياته تحت مشرط النقد. ينبغي الإشارة، في هذا السياق، إلى أنّ فوكوياما قام بالعديد من المراجعات حول أطروحته، ولعل ذلك راجع، في الأساس، إلى الأزمات والحروب التي نشبت في العالم، منذ دخوله إلى القطبية الأحادية؛ فالبشرية لم تنعم بالعيش السعيد في الفردوس الغربي، الذي سوّق له فوكوياما، وأنه لم يستطع أن يُسكت أصوات المدافع، ولم يقضِ على الجوع والفقر، ولم يحقق العدالة والمساواة.

الأزمة الأوكرانية

تأتي الحرب الروسية ضد أوكرانيا، لتضع خطاب فوكوياما حول نهاية التاريخ في مأزق جديد وصعب، معرّيةً الغرب أمام العالم، فهو ما عاد ينعم بالسّلام والأمن، وأن ذلك الانسجام الذي أظهره، بادعائه أنه تخلّص من التناقضات الموجودة فيه، لم يكن حقيقياً، وها هو ذا اليوم يستدعي لغة الحرب لحل الخلافات بين دوله؛ قد يقول قائل إنّ الحرب جاءت من خارج الغرب، أي أن المعتدي هو روسيا، والمعتدى عليه هو أوكرانيا، لكن، هذا لا ينفي بأنه فشل في نقل نموذجه إلى التّخوم المحاذية له، القريبة منه، في عاداته وقيمه، فكيف له أن ينجح في نقله إلى الأماكن البعيدة، المختلفة عنه في قيمه وثقافته؟!

عالم بوتين

لقد شكلت الحرب التي شنها بوتين ضد أوكرانيا صدمة كبيرة في الغرب، ما جعل فوكوياما يصفها بأنها «حرب بوتين على النظام الليبرالي»، هذا الوصف هو عنوان مقاله الجديد المنشور في صحيفة «فايننشال تايمز» الأمريكية، إذ يرى أننا: «نعيش جميعاً في عالم فلاديمير بوتين الآن»، واصفاً ما أقدم عليه في 24 فبراير/شباط، عندما غزا أوكرانيا بأنّه «نقطة تحول حاسمة في تاريخ العالم»، من شأنها أن تنهي حقبة مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ما يعني، في التحليل الأخير، عودة التاريخ، في هذا الصدد يكتب عن هذه اللحظة: «أنها تشير إلى نهاية حقبة ما بعد الحرب الباردة، وتراجع أوروبا الكاملة والحرة، التي اعتقدنا أنها ظهرت بعد عام 1991، أو في الواقع، نهاية نهاية التاريخ».

تداعيات حرب أوكرانيا

يرى فوكوياما أن تداعيات الهجوم الروسي ضد أوكرانيا ستتجاوز حدودها، وتأثيره سيمتد إلى بقاع أخرى من العالم، نافياً، في الوقت ذاته، أن يكون بوتين قادراً على تحقيق أهدافه، حتى لو استطاع كسب الحرب، وتمكن من تحقيق نصر سريع، لكن، المعركة ستطول، فالأوكرانيون لن ينظروا إلى بوتين كمخلص أو محرر، بل كمغتصب لأرضهم، ومحتل لوطنهم: «لقد أثار بوتين عش الدبابير الغاضب، حيث أظهر الأوكرانيون من جميع الأطياف درجة غير مسبوقة من المثابرة والوحدة الوطنية، حتى لو استولى بوتين على كييف، وعزل الرئيس فولوديمير زيلينسكي، فلن يتمكن على المدى الطويل من إخضاع دولة غاضبة»، بالإضافة إلى المقاومة الشعبية، يعول فوكوياما على المقاومة الخارجية، من طرف العالم الديمقراطي وحلف الناتو، لأجل إفشال طموحات بوتين التوسعية، وذلك بالاستعانة بكل الوسائل المتاحة، لعل أبرزها حتى الآن العقوبات الاقتصادية، حيث يقول: «سيواجه (بوتين) عالماً ديمقراطياً وحلف الناتو موحداً ومعبّأ كما لم يحدث من قبل، الأمر الذي فرض عقوبات مكلفة على الاقتصاد الروسي». بوتين، بحسب فوكوياما، متعلق بالأوهام، ويعيش في حالة فوبيا من حلف الناتو والغرب، ذلك أن انضمام أوكرانيا إلى الحلف، إلى حدِّ هذه اللحظة، كان مجرد «كلام نظري»، والتسويق بفاشية ونازية أوكرانيا، أو أن هناك أعمال إبادة جماعية ضد السكان الناطقين بالروسية في دونباس هي، في الحقيقة، «تبريرات كل واحد منها أكثر سخافة من الآخر».

لكن، ما هو مؤكد، بحسب فوكوياما، أن بوتين يخشى أوكرانيا الديمقراطية، لأن من شأن ذلك، أن يثير شهية الشعب الروسي في النموذج الديمقراطي، وهذا يشكل تهديداً كبيراً على نظام بوتين. أمّا عن تأثير حرب بوتين في العالم، فيرى فوكوياما أنّ الحرب إذا حققت أهدافها، فإنها ستلهم الصين في تنفيذ مخططها في ضم تايوان، في المقابل، ستزيد في إذلال أمريكا، بإظهار أن وعودها والناتو «مجرد وعود جوفاء»، و«التعاون بين الديمقراطيات مجرد سراب».

عودة التاريخ

ينهي فوكوياما في مقاله حياة نظريته، التي أثبت الزمن بأنها لا تصمد أمام مفاجآت التاريخ ومكره، فالتاريخ ليس له نهاية في العالم الأرضي، ما دام ينبض بالحركة والحياة؛ فالبشر مفطورون على حبِّ السيطرة، وعلى السعي نحو المجد، والتطلع إلى الاعتراف، وهذا كله يقتضي التدافع والصراع، ولعل الحرب من بين الأدوات الضرورية لتحقيق هذه الغايات، كما أنّه من الصعب أن تقولب البشرية وفق نظام حياتي واحد؛ فضلا عن أن أي نظام، مهما كان، هو معرض لأزمات، قد تخلق فيه روحاً جديدة للاستمرار في الحياة أو العكس، لذا، يرى فوكوياما أنّ الأزمة الحالية أظهرت: «أننا لا نستطيع أن نأخذ النظام العالمي الليبرالي الحالي كأمرٍ مسلَّم به. إنه شيءٌ يجب أن نكافح من أجله باستمرار، وسيختفي بمجرّد أنْ نخفّف من حذرنا».

على ضوء ما سبق، فإن المشكلات أمر طبيعي في أي مجتمع، والمجتمعات الليبرالية لا تشذ عن هذه القاعدة، معترفاً، في الوقت نفسه، بأن بوتين لن يكون التّحدي الأخير؛ إذ يقول: «المشكلات التي تواجه المجتمعات الليبرالية اليوم لم تبدأ ولم تنته مع بوتين، وسنواجه تحدّيات خطيرة للغاية»، وبالنسبة للتحدي الأكبر الذي يواجه النظام الليبرالي، بالإضافة إلى الأنظمة الاستبدادية، كالصيني والروسي، فيتمثل في تراجع الحرية نتيجة صعود الشّعبوية والليبرالية والقومية في الديمقراطيات العريقة، في هذا الصدد يكتب: «تعرّضت الليبرالية للهجوم منذ بعض الوقت، من اليمين واليسار. تشير فريدوم هاوس في استطلاعها (الحرية في العالم) لعام 2022 إلى أن الحرية العالمية قد تراجعت في المجمل الآن مُدّة 16 عاماً على التوالي، لم تتراجع فقط بسبب صعود القوى الاستبدادية مثل روسيا والصين، ولكن أيضاً بسبب التحوُّل نحو الشعبوية الليبرالية والقومية داخل الديمقراطيات الليبرالية القديمة مثل، الولايات المتحدة والهند».

وعلى الرّغم من هذه النهاية غير السعيدة لـ«نهاية التاريخ»، إلا أن فوكوياما يُبقي الأمل قائماً، فالنهاية قد تعود من جديد، ذلك أن«روح 1989»، في إشارة إلى انتصار الرأسمالية، ما «تزال حية في ركنهم من العالم، بالنسبة لبقيتنا، كانت نائمة ويتم إيقاظها من جديد».

الليبرالية الجديدة

لم يفوت فوكوياما الفرصة لكي يرافع للنظام الليبرالي، باعتباره النظام الأفضل، على الرّغم من الأزمات التي تعرض لها أو المساوئ التي يتميز بها، مبيناً، في الوقت ذاته، الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة، حيث يرى أنّ تقويض الليبرالية الكلاسيكية على مر سنين، يعود في الأساس، إلى التفسيرات المتعددة، التي لم تراع مستوى الرفاهية والمساواة، محملا مسؤولية ذلك إلى الليبرالية الجديدة، التي ألّهت الأسواق وشيطنت الدولة، باعتبارها عدواً للنمو الاقتصادي والحرية، هذه النظرية مستوحاة من أفكار ميلتون فريدمان ومدرسة شيكاغو، ما أدى، في الأخير، إلى تقليص دولة الرفاهية والتنظيم، حيث أصبح الأفراد بلا حماية أمام تقلبات السوق، فكان من نتائج تخفيض الإنفاق الاجتماعي اتساع هوّة عدم المساواة، وازدياد الظلم الاجتماعي، في هذا الصدد يقول: «أدت التخفيضات في الإنفاق الاجتماعي وقطاعات الدولة إلى إزالة الحواجز التي تحمي الأفراد من تقلبات السوق، ما أدى إلى زيادات كبيرة في عدم المساواة على مدى الجيلين الماضيين». وهو هنا، يحاول أن يقلل من حجم الأزمات، التي واجهت النظام الليبرالي، أزمات قوّضت أسسه، وزعزعت أركانه، وشككت في يقينياته، وعلى الرغم من كل ذلك، فإن هذا النظام ما زال صالحاً للبشرية في حالة ما إذا تصالح مع الدولة، ووضع قيوداً تحدّ من الأسواق، وجعل من مسألة الرّفاهية والمساواة أولويةً في إصلاحاته.

كاتب جزائري

القدس العربي

—————————

فلاديمير بوتين

سوريا – أوكرانيا.. أوجه التشابه والاختلاف/ العقيد عبد الجبار عكيدي

رغم مرور أقل من أسبوعين على انطلاقة الغزو الروسي لأوكرانيا إلا أن الكثيرين بدؤوا بعقد مقارنات بين صمود الجيش والشعب الأوكراني بمواجهة هذا الاجتياح وبين ما قدمه السوريون خلال أحد عشر عاما من المواجهة مع قوات النظام وحلفائه، وعلى رأسهم الجيش الروسي نفسه، هذه المقارنة قد تبدو وجيهة من جانب وغير وجيهة وظالمة من جوانب أخرى، ولا يمكن أن تكون موضوعية بأي حال من الأحوال بالنظر إلى:

أولاً- إن ما يجري في سوريا هو ثورة شعب انتفض على نظام جائر، استقوى بقوى دولية وإقليمية تتقاطع مصالحها مع استمرار بقائه، ليواجهوا مجتمعين الشعب السوري بكل وحشية، بينما في أوكرانيا قامت قوات روسية غازية بالاعتداء على دولة ذات سيادة، وبالتالي التف الشعب الأوكراني حول قيادته للدفاع عن دولتهم وحياتهم.

ثانياً- في سوريا ثمة ثورة شعب يريد انتزاع الدولة من طاغية مستبد، بينما في الحالة الثانية دولة عظمى أرادت افتراس دولة أخرى، علما أنه يمكن أن نلاحظ في الحالة الأولى هناك نزاع على شرعية نظام الحكم بين مغتصب للدولة يسانده حلفاء خارجيون وبين شعب يريد استرداد الدولة باعتبارها ملكا له، وهذا الأمر يختلف عن الحالة الثانية التي تجري فيها المواجهة على السيادة أو على الدولة بين مواطنين ملتحمين مع نظام الحكم يدافعون عن سيادة دولتهم أمام عدو خارجي.

ثالثاً- حالة الإجماع الدولي على مناصرة القضية الأوكرانية ودعم شعبها وحكومتها بكل الوسائل السياسية والعسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، والتقاء المجتمع الغربي في موقف موحد وحاسم وداعم للشعب الأوكراني.

رابعاً- لا يمكن المقارنة بين أوكرانيا، الدولة القائمة بكل مؤسساتها ومواردها المادية والبشرية، وجيشها المنظم والمدرب، بكامل قوامه العسكري، من قوات برية، ومنظومات دفاع جوي متطورة، وطيران حربي ومروحي، ربما لا يضاهي الطيران الروسي، ولكنه قادر على مواجهته، وهذا ما شاهدناه في الأيام الماضية من خلال إسقاط عدد كبير من الطائرات الحربية والمروحية الروسية المتطورة، بينما واجه الثوار السوريون الآلة العسكرية الروسية المتوحشة بأسلحة خفيفة ومتوسطة من جيل الستينيات والسبعينيات، بعد أن تقاعس ما يسمى بأصدقاء الشعب السوري تزويدهم حتى بذخائرها.

خامساً- في سوريا اجتمع على قتل الشعب السوري جيش النظام والشبيحة وعشرات الميليشيات الطائفية المدعومة من الحرس الثوري الإيراني، بإسناد جوي روسي من مختلف صنوف الطيران، فيما أوكرانيا تتصدى لعدو واحد يساعدها على مواجهته العالم بأكمله عسكرياً واقتصادياً.

سادساً- في أوكرانيا وقبل أن يشن بوتين الحرب عليها، تدفقت المساعدات العسكرية من صواريخ مضادات طيران (ستنغر) ومضاد دروع (جافلين)، وربما أسلحة أحدث وذات فاعلية أكبر، ومعلومات استخباراتية، وتسخير الناتو لأقماره الصناعية لخدمة القيادة الأوكرانية، وعقوبات على روسيا لم يشهد التاريخ أن تعرضت لها دولة من قبل، بينما في سوريا تم إطلاق يد إيران وروسيا والنظام وحزب الله، والتغاضي عن كل الجرائم التي ارتكبوها بحق الشعب السوري.

سابعاً- في سوريا كان الروس يستهدفون بالدرجة الأولى المدنيين (أسواق، مدارس، أفران، مشافي، سيارات الإسعاف، الخوذ البيضاء)، للضغط على المقاتلين نفسياً، بينما في أوكرانيا ركزت روسيا استهدافها على البنية التحتية العسكرية، وتجنبت سقوط ضحايا مدنيين أو إلحاق دمار واسع خوفا من رد فعل غربي.

هذا من ناحية، أما على الجانب الآخر فيعتبر الكثيرون أن التورط الروسي في معركة أوكرانيا والتصعيد الدولي الكبير ضد موسكو يمكن أن يكون فرصة جيدة للسوريين من أجل شن عمليات عسكرية تستهدف القوات الروسية في سوريا، إلا أن هذا الكلام يبدو غير موضوعي للاعتبارات التالية:

– ما تزال معركة أوكرانيا في بدايتها ولم تتضح ملامح النصر للروس أو الهزيمة، وبالتالي من السابق لأوانه الحكم على نتيجتها ومدى ارتداداتها على وضع الروس في سوريا.

– عدم تبلور الموقف التركي حتى الآن، ما يعني أن اتفاقيات أستانا وتفاهمات سوتشي ما زالت قائمة، ولا يستطيع أي من فصائل المعارضة العسكرية خرقها.

– حتى إن وجدت النية لدى بعض الفصائل لفتح الجبهات ضد قوات النظام، على اتجاهي إدلب والساحل، فستكون هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) عائقاً في وجه أي عمل عسكري، لأنها تُعتبر الأمين على تنفيذ كل التفاهمات الدولية، بالإضافة لالتزامها باتفاقية المدن الأربعة الموقعة مع الإيرانيين عام 2017، وسيشكل وجودها وتصنيفها عائقا إذا ما فكرت أميركا والغرب بإعادة تسليح ودعم فصائل الجيش الحر.

– لدى روسيا قدرات عسكرية هائلة، وطيرانها قادر على تغطية سوريا وأوكرانيا وأوروبا، وهي أصلا ليس لديها قوات برية على الأرض السورية، ما يعني أن بضع طائرات حربية في قاعدة حميميم قادرة على إحداث مجازر كبيرة في البقعة الجغرافية الصغيرة المكتظة بالسكان، في شمال وشمال غرب سوريا وتدميرها وتهجير سكانها، ما يتسبب بعامل ضغط إضافي على تركيا وأوروبا.

– إذا ما فكر الغرب بشكل جدي في إزعاج الروس في سوريا وتقليم أظافرهم بإسقاط حليفهم الأسد، فستكون جبهة البادية السورية الممتدة من الباغوز شرقاً إلى حدود محافظات حمص وحماة والسويداء وصولا إلى القلمون الشرقي، هي الأكثر ملاءمة وتأثيرا، وذلك من خلال دعم الفصائل الموجودة في قاعدة التنف (جيش مغاوير الثور)، غير المرتبطين بأي اتفاقيات أو تفاهمات مع الروس، وذلك بتقديم الدعم المادي والعتاد والسلاح النوعي، لمحاصرة العاصمة دمشق.

هذا التطور الفارق الحاصل اليوم على وقع هذا الغزو يفرض على قوى الثورة والمعارضة السورية استجابات من نوع آخر تتجاوز الأداء السياسي والعسكري في التعامل مع الوجود والدور الروسي بسوريا وفق الخطوات والآليات التالية:

أولاً- استغلال حالة الارتباك التي تواجه نظام بوتين في صراعه الحالي مع الغرب، من خلال حرمانه في الملف السوري من سيطرته وتحكمه بالمسارين السياسي والعسكري، واتخاذ موقف رافض بحزم للترتيبات التي فرضتها روسيا في السنوات الماضية.

ثانياً- مراجعة أدوار الفصائل والقوى العسكرية للثورة في هذه المرحلة ومطالبة العالم بدعمها وتزويدها بالأسلحة النوعية القادرة على زعزعة الوجود العسكري الروسي في سوريا واستنزافه والتصدي له في حال اتجه بوتين للتغطية على فشله في أوكرانيا بتحقيق ضربات انتقامية بسوريا.

ثالثاً- إعلاء صوت السوريين في هذه المرحلة التي تتلقف فيها الآذان الدولية كل من يدين ويرفض السياسات الروسية في المنطقة والعالم، لإعادة تسليط الضوء على القضية السورية المغيبة عن جدول الأعمال الدولي، من خلال استنهاض الحاضنة الشعبية للثورة، ولفت أنظار الرأي العام العالمي للجرائم التي ارتكبها بوتين وجيشه في سوريا، بالتوازي مع تحضير السوريين الواقعين في مناطق سيطرة النظام والمتضررين من الاحتلال الروسي للتعبير عن رفضهم لهذا الاحتلال.

رابعاً- تشكيل لجنة طوارئ سورية مؤلفة من سياسيين وعسكريين، لوضع خطة تحرك، والتوجه إلى المؤسسات الدولية لفضح جرائم روسيا وتفعيل مسار المحاكمات الدولية لملاحقة ومحاسبة مسؤوليها وقادتها المتورطين بجرائم الحرب في سوريا.

لعل تركز أنظار السوريين إلى ما يجري في أوكرانيا يعكس بصورة كبيرة مدى تعويل أو حجم الآمال لدى السوريين على هزيمة روسيا في هذه المعركة التي سيتوقف عليها تغييرات عميقة في الملف السوري، لكن كل ذلك مرهون بمسارات ومجريات المعركة وما سيتلقاه الجيش الروسي في أوكرانيا من ضربات موجعة لا تقل بأضرارها عن تداعيات العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب على نظام بوتين في الداخل الروسي.

————————–

هل يستفيد السوريون من احتلال أوكرانيا؟/ عمار ديوب

تداول سياسيون سوريون فكرة، مفادها أن تستفيد المعارضة من انشغال روسيا بأوكرانيا، وتحدثوا عن الأمر في منتهى الجدية. لنقاش الأمر، سنختار أيضاً تلك الجدية، وهناك من يختار السخرية والهزء أيضاً. أين هي المعارضة المستقلة، الائتلاف وقسد ومسد ومختلف هيئات المعارض المكرسة، فإذا لم تكن مستقلة، وهي التابعة لتركيا أو أمريكا أو هذه الدولة أو تلك، فكيف يطلب منها ذلك الاختيار المشتهى؟

لا شك أن اختيار اللحظة المناسبة لتغيير السياسات هو أمر سليم، ولكن ذلك يتطلب معارضة مستقلة، وثورية ووطنية بحق، وليس معارضة تابعة، ومفككة، وفاسدة بامتياز، وساعية إلى مصالح قادتها، وتتبادل المناصب بين تلك القيادات ضمن مؤسسات المعارضة، ولا سيما قيادة الائتلاف، اللجنة التفاوضية، وهناك من يحتكر وفد المعارضة إلى أستانا، أحمد طعمة، وإلى اللجنة الدستورية، هادي البحرة.

رغم ذلك، إن الفكرة تستحق النقاش، ولكن ضمن أطر المعارضة الهاربة من جنة المعارضات المكرسة. إن العالم بعد حرب أوكرانيا ليس كقبله، وهذا سيفرض تغييرات كبرى في سياسات الدول العظمى، بدءاً بروسيا والاتحاد الأوربي والإدارة الأمريكية والصين وألمانيا واليابان والهند، وستكون نحو الاستفادة من النزعات في العالم، ومن أجل إكثار أوراق التفاوض لدى هذه الدولة أو تلك، وقد يتم الاستثمار في النزعات من أجل توسيع مناطق النفوذ لهذه المعارضة، أو لذاك النظام، وهكذا.

المعارضة المكرّسة منزوعة الإرادة، وهي مناهضة لأي حراك سياسي جاد، أو بديل عنها، ولاحظنا أن ندوة الدوحة تمّ مصادرتها، وحُولت إلى مجرد لقاء للنقاش؛ تركيا هي من لجم إمكانية أن تطيح بالائتلاف ومؤسساته. وغير الائتلاف لا يختلف كثيراً عنه في مصادرة حق السوريين في التعبير والحريات والمشاركة السياسية؛ في مناطق قسد، تمنع حتى قوى المجلس الوطني الكردي من الفاعلية، وتشطب الاتفاقات معه.

هناك متغيرات عالمية، ولكن ليس هناك قوى سياسة سورية جادة، سيما أن أغلبية نشطاء المعارضة وكوادرها الأساسية أصبحت في الخارج، ومن ظل في الداخل، مراقب جيداً من النظام وقسد، وهيئة تحرير الشام والفصائل التابعة لتركيا، وبالتالي العمل السياسي الفاعل ستكون انطلاقته في الخارج.

حدثت منذ أسابيع تظاهرات محدودة في مدينة السويداء، ولكنها لم تتطور إلى بقية المحافظات، والجدير ذكره أن المظاهرات تتكرر في هذه المدينة، ودون تلقى صدىً لها في بقية المدن السورية. أيضاً، يمكن أن تحدث بعض المظاهرات “المطلبية” في مناطق قسد أو هيئة تحرير الشام أو الفصائل، ولكنها تحدث دون تزامن مع بقية المناطق، وهذا يعني أن التفكيك كبير في الداخل، وهناك عوامل كثيرة تمنع ذلك التآزر، وأول تلك العوامل القمع الشديد، من قِبَل سلطات الأمر الواقع، وكثرة ما عايشه السوريون من دمار وقتل وتهجير وفقر، وبالتالي المُجرب لا يُجرب ثانية.

تعويل بعض المعارضين على الداخل لا معنى له إذاً، وأيضاً لا معنى للتعويل على المعارضة المكرّسة. العمل الجاد يتم إذاً عبر الخارج، فهل قوى المعارضة الخارجية وغير المكرسة قادرة على الفعل والثورية وإعادة المسألة السورية إلى دائرة الاهتمام الداخلي والإقليمي والدولي؟

لنقل إن العامل الدولي مناسب، كما أوضحنا، ولكن هل تملك الدول الإقليمية والمحيطة والمتدخلة بسوريا رؤية جديدة، وفهماً عميقاً للوضع لما بعد احتلال أوكرانيا، وأن مرحلة جديدة تنتقل إليها البشرية، ونحو تعددية قطبية؟ لا، بالتأكيد، وليس هناك دولة قادرة على تغيير استراتيجياتها، وإنصاف الشعب السوري؛ فلا تركيا تثق بالناتو، ولا الاتحاد الخليجي بوارد التغيير في سياساته، وبالتأكيد مصر والعراق خارج الفاعلية الإقليمية، وإيران تحاول رفع العقوبات عنها للاستمرار بسياسات التخريب المجتمعي للدول العربية، والسيطرة عليها؛ إسرائيل مناقضة كلية لمصالح الشعب السوري وسوريا أيضاً.

إن غياب قوى ثورية جادة، يساوي عدم القدرة على الاستفادة من الشرط الدولي الجديد، ويشكل هذا الغياب سبباً لبقاء الوضع السوري بحالة استنقاع وتفكيك واستنزاف؛ ما هو جديد في كل ذلك، إن حدة الأزمة الاقتصادية في ازدياد، وكذلك آثارها الاجتماعية، وسيكون لنتائج الحرب في أوكرانيا آثار إضافية، حيث ستخرج روسيا منها منهكة، وبحاجة لنهب “مستعمراتها” وأولها بالطبع سوريا. إذاً العامل الدولي والوضع المحلي في غاية الجاهزية لأية مشاريع وطنية وثورية، ولكن الأخير خارج الفعالية، وبالتالي، سوريا إلى مزيدٍ من التأزّم، ولن تستفيد من المتغيرات الدولية.

هناك اجتماعات جديدة، تسعى إليها واشنطن، وبدأت ترفع من تنديدها بسياسات النظام كذلك، ولن توفر أوربا الفرصة للضغط على خواصر روسيا في سوريا وسواها، وربما تتجه الدول المذكورة نحو تخفيف التوتر مع تركيا، الدولة الأكثر فاعلية في سوريا، ولكن هل سيفضي ذلك إلى شروط جديدة، يتم فرضها على روسيا؟ وهل ستحرك تلك الدول شرق وشمال سوريا أو تدعم الجنوب من أجل تخريب الاستقرار الهشّ الذي خلقته روسيا في سوريا منذ تدخلها في 2015، وتحديداً بعد 2018.

لا نضيف جديداً حينما نقول: لا يمكن للدول الإمبريالية أن تقف إلى جانب حقوق الشعوب، والآن تتم التضحية بأوكرانيا، كي لا تنتقل الحرب إلى أوربا، وباسم دعم المقاومة في هذا البلد، والذي يتعرّض لأسوأ غزو، ولأسوأ تدمير ممنهج أيضاً؛ سوريا أيضاً تركت لمأساتها منذ 2011.

رغم الفكرة السابقة، فإن زيلنسكي، يحاول أن يستفيد من الدعم الأوربي والأمريكي، ولكن ضعف الدعم وهمجية النظام الروسي لن يسمحان له بالانتصار، وأغلب الظن سيتم احتلال أوكرانيا في وقت قريب. مشكلتنا في سوريا أن الوضع في تأزمٍّ شديدٍ، وهناك خراب كبير في المعارضة المكرّسة والخارجة عنها، وهذا يعني أن سوريا لن ترى خلاصها قريباً؛ وإذا استطاعت روسيا احتلال أوكرانيا في الأسابيع القادمة ستتشدد في سوريا أكثر فأكثر، وبالتالي، ستنتظر المسألة السورية مفاوضات جادة، ودقيقة بين الروس والأمريكان، وهذا خارج الاحتمالات حالياً.

—————————

الحرب في أوكرانيا.. ما الذي يعني سوريا؟

ساهمت بداية الحرب الروسية في أوكرانيا في إثارة قضايا عديدة، وإلقاء الضوء على أماكن أخرى من العالم، وحجبه عن غيرها. جاء ذلك في معظمه نتيجة الاستقطاب الحاد في العالم حاليًا. وبينما تتصدر قضية الحرب في أوكرانيا عناوين الأخبار، تخفُت تلك القادمة من سوريا، وهو مسار دخلت فيه البلاد التي اندلعت فيها ثورة ضد نظام الأسد قبل 11 عامًا، خلال السنوات الأخيرة، بعد انخفاض في التحرك على الأرض، وتحولها إلى قضية إنسانية في الكثير من الأحيان مرتبطة باللاجئين ومصيرهم، فيما يبدو أن النظر في مستقبل النظام السوري ضمن النظام الدولي الحالي، لم يعد أولويةً في الفترة الحالية.

حضور سوريا في الحديث الإعلامي اقتصر على كونها هامشًا للإشارة لبعض التكتيكات الروسية الحربية، أو كمدخل من أجل استقاء العبر وتعلم الدروس في التعامل مع بوتين. كمثالٍ على ذلك، قال وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا خلال اجتماع استثنائي لوزراء خارجية دول الناتو، “لا تسمحوا لبوتين، بتحويل أوكرانيا إلى سوريا ثانية”.

أما الحرب الروسية في أوكرانيا، فاستدعت مباشرةً الحرب التي تخوضها موسكو في سوريا أيضًا، فقد كانت سوريا أول تدخل عسكري روسي كبير في العالم منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، كما أنها كانت المرة الأولى التي تخوض فيها روسيا القتال في دولةٍ لم تكن ضمن الدول التي حصلت على استقلالها إثر تفكك الاتحاد السوفيتي. كما أنه في قراءات استرجاعية عدة، تم الربط بين الصمت الدولي على التدخل الروسي في سوريا، وتمدد القوة الروسية “وغطرسة القوة لدى بوتين”، مما أعطى حافزًا لموسكو من أجل غزو كييف.

المواقف السورية من الغزو جاءت متوقعةً إلى حدٍ كبير، دون أن تحمل أي مفاجآت كبيرة. قد يكون موقف النظام السوري من الحرب الروسية في أوكرانيا هو الأكثر دعمًا لموسكو في حربها ضد أوكرانيا، فقد اعتبر الأسد الحرب “تصحيحًا للتاريخ وإعادة التوازن إلى العالم الذي فقده بعد تفكك الاتحاد السوفياتي”، واصفًا القرارات الدولية التي اتخذت ضد روسيا عقب غزو أوكرانيا بأنها “هيستريا غربية تأتي من أجل إبقاء التاريخ في المكان الخاطئ لصالح الفوضى التي لا يسعى إليها إلا الخارجون عن القانون”.

الأسد الذي أكد على وقوف نظامه مع روسيا أشار إلى أن ذلك يأتي “انطلاقًا من قناعته بصوابية موقفها، ولأنّ مواجهة توسع الناتو هو حقٌ لروسيا لأنه أصبح خطرًا شاملًا على العالم وتحول إلى أداةٍ لتحقيق السياسات غير المسؤولة للدول الغربية لضرب الاستقرار في العالم”. وفي تبنٍ كامل للخطاب الروسي حول مبررات الحرب، قال الأسد، “العدو الذي يجابهه الجيشان السوري والروسي واحد، ففي سوريا هو التطرف وفي أوكرانيا هو النازية”، بحسب ما جاء في بيان لرئاسة النظام السوري.

أما الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية فقد أدان الحرب الروسية في أوكرانيا، قائلًا “إن حياة ملايين الناس ليست رخيصة لتكون مجرد أرقام في بازار السياسة أو مجرد أوراق يقامر بها بوتين ويخوض بها مغامرات إجرامية ستسفك أنهارًا من دماء الشعب الروسي قبل أي شعب آخر”، مضيفًا “لا يريد الشعب السوري أن يشهد المزيد من الإجرام الروسي المقترن بخذلان دولي في أي جزء جديد من العالم، بعد ما عانى وما يزال يعاني من مجازر روسيا وجرائمها في سوريا”، مشيرًا إلى أن الشعب السوري يعرف مآسي الحرب، لذلك يقف إلى جانب الشعب الأوكراني ويدعم مقاومته للعدوان الروسي ويدعم دفاعه الشجاع عن وحدة بلاده وسيادتها.

مقاطعة شاملة.. لكن ليس في سوريا

على المستوى الميداني، وبالنسبة لأمريكا، تبدو سوريا خارج الحرب وحتى خارج الصراع مع روسيا والتضييق عليها. فرغم العقوبات وقطع التواصل الأمريكي مع موسكو، إلّا أنّ قنوات تواصل الجيش الأمريكي مع القوات الروسية المتواجدة في سوريا ما زالت فعالة من أجل ما سمي “بمنع تضارب المصالح”. إذ إن الخطاب الصارم ضد روسيا، والمجازات التي تصف زعماءها بالنازيين، ولغة القطيعة الشاملة معها، لا تشمل سوريا، فقناة اتصال وتنسيق مفتوحة بين القوات الأمريكية والروسية في سوريا منذ بداية الدخول الروسي إلى البلاد لا تزال متواصلة. فيما يبدو، أن الإدارة الأمريكية غير معنية بالتصادم مع القوات الروسية في سوريا.

وسوى المقارنات والمجازات، كانت الإشارات الأمريكية الوحيدة إلى سوريا مرتبطة بما نقلته مصادر من الإدارة الأمريكية عن كون موسكو تعمل على تجنيد مقاتلين سوريين شاركوا في قمع الثورة السورية، بهدف المساهمة في الحرب الروسية في أوكرانيا. وحسب المصادر، يساعد هؤلاء على التقدم الروسي بشكلٍ كبير تجاه مناطق حضرية أوكرانية، أبرزها العاصمة كييف. وتسعى روسيا للاستفادة من خبرات المقاتلين السوريين في القتال داخل المدن.

لمصادر الأمريكية أشارت إلى تواجد بعض هؤلاء المقاتلين في روسيا حاليًا، وهم على استعداد للدخول إلى الحرب، مع استمرار المحاولة الروسية لتجنيد المزيد من المقاتلين، ووجود تقارير أشارت إلى عروض مالية روسية للمقاتلين تتراوح بين 200-300 دولار أمريكي من أجل المشاركة في القتال داخل المدن.

بنفس المنطق، أشير إلى أن القتال الروسي في سوريا كان مفيدًا لموسكو على المستوى العسكري، بما في ذلك الضربات الجوية “المُركزة”، ودمج القوات الجوية والبرية، والحرب الإلكترونية، كما ساهمت التجربة السورية، حسب هذه التصريحات، في رفع جاهزية الجيش الروسي باستمرار، حيث اختبرت روسيا 300 نوع جديد من الأسلحة خلال حربها في سوريا. واختبرت طريقة الحرب “متعددة المجالات”، بما في ذلك الأسلحة بعيدة المدى وحملات القصف الواسعة، واستخدام قوات شبه عسكرية/ نظامية.

نفوذ إسرائيلي أكبر وصراعات روسية إيرانية محتملة

الثابث الذي لم يتغير، هو الغارات الإسرائيلية المستمرة، ففي يوم الاثنين 7 مارس/ آذار، سمع دوي انفجارات في محيط مطار دمشق الدولي، قتل خلالها عنصرين وأصيب 6 آخرين من المليشيات الإيرانية المتواجدة في سوريا، نتيجة قصف إسرائيلي نفذ من الأجواء اللبنانية. وهي جزئية أكدت العديد من التحليلات الإسرائيلية على أهميتها، وربطت جزءًا من الموقف الإسرائيلي الحذِر من حرب أوكرانيا، في ضرورة استمرار التنسيق الإسرائيلي- الروسي، من أجل إعاقة التموضع الإيراني في سوريا.

في السياق ذاته، يبدو أن صراعات النفوذ في سوريا بين حلفاء الأسد يمكن أن تتمدد. إذ يمكن أن تكون الأحداث الجارية فرصةً لإيران من أجل زيادة نفوذها على حساب الحليف الروسي. فقد أشارت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية، إلى أن إيران نشرت منظومات دفاعها الجوية في سوريا، وبدأت باستخدامها مؤخرًا في مواجهة الغارات الإسرائيلية المستمرة منذ سوات في سوريا، من أجل منع عمليات تهريب السلاح.

ومن ناحية أخرى، تعتبر إيران الحرب في أوكرانيا فرصة لتوسيع تعاونها مع أطراف داخل النظام السوري، في ظل صراع النفوذ في سوريا، خاصةً أن إيران قد تحظى بقبول دولي أكبر، في حال إتمام المفاوضات الدولية حول برنامجها النووي بنجاح. هذا التطور الذي يعتمد على نتائج مفاوضات فيينا، بالتزامن مع العقوبات على روسيا والمساعي لعزلها، قد يعيد ترتيب بعض الحسابات في سوريا، خاصة فيما يتعلق بمساعي النظام إلى تطبيع علاقاته عربيًا ودوليًا. يبقى ذلك بالتأكيد مرتبطًا بالحسابات الإسرائيلية، حيث إن العلاقة بين موسكو وتل أبيب مفتوحة على خيارات عديدة، بالنظر إلى الموقف الإسرائيلي القريب إلى الحياد، على خلاف نسبي مع مواقف الدول الغربية.

مصير غامض للمفاوضات السورية

في سياق متصل، فإن تزايد العقوبات العالمية على روسيا، باعتبارها لاعبًا رئيسيًا في سوريا، خاصةً مع انعدام شرعية رئيس النظام السوري بشار الأسد دوليًا وعدم تفضيل التعاون مع إيران، قد يعيق المفاوضات الدولية حول سوريا، وسيقلل من إحراز التقدم حتى في المواضيع الإنسانية.

كما أن العملية السياسية التي يقودها المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا جير بيدروسون من أجل “إنهاء الحرب” واتبعت استراتيجية “خطوة بخطوة” من خلال عمل دبلوماسي متعدد الأطراف، والتي كانت آمال نجاحها ضئيلة أصلًا، تتعرض الآن إلى ضربة أكبر.

آثار على اقتصاد منهار

على المستوى الاقتصادي، ظهرت آثار الغزو الروسي لأوكرانيا على سوريا بشكلٍ سريع. ففي أول أيام الحرب، قرر النظام السوري خفض الإنفاق الحكومي العام وتغطية الأولويات فقط، واستمرار إدارة احتياطيات المواد الأساسية مثل القمح والسكر وزيت الطهي والأرز في الشهرين المقبلين، وتكثيف الرقابة على السلع وتقنينها، خاصةً أن سوريا تعتمد على روسيا في واردات القمح.

ولعل هذا ينذر في تفاقم الكارثة الإنسانية في سوريا، فقد أشار آخر تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أن عدد المحتاجين للمساعدات الإنسانية في سوريا قد وصل إلى 14.6 مليون شخص، في زيادة 9% عن العام الماضي بمقدار 1.2 مليون شخص. فيما تصنف سوريا من بين أول 10 دول في العالم تعاني من انعدام الأمن الغذائي، مع تضاعف تكلفة إطعام أسرة من 5 أفراد بالمواد الغذائية الأساسية خلال العام الماضي، حيث تنفق الأسرة 50% أكثر مما تكسب على احتياجاتها الغذائية.

لاجئون جدد و”أوروبيون”

أثر حرب روسيا سيظهر أيضًا على مستوى واضح آخر، وهو ملف اللجوء. فنتيجة التكتيك العسكري الروسي الذي كان يقوم على قصف مكثف للمدن مع إطباق الحصار عليها، ولاحقًا فتح باب التسويات والتهجير للمناطق التي تسيطر عليها قوات المعارضة، إلى جانب العنف الذي استخدمه الأسد في مواجهة الثورة، فقد نتج حوالي 5.7 مليون لاجئ مسجل لدى الأمم المتحدة يحتاجون إلى إعانة ومساعدات، كانوا يعانون بالفعل نتيجة تقلصات في التمويل من قبل الدول المانحة، وبالأخص من قبل بريطانيا.

 ومع ظهور أزمة اللجوء الأوكرانية، وتفاقمها، وظهور ما يزيد عن 2 مليون لاجئ حتى الآن، فإن جزءًا كبيرًا من التمويل سيتجه نحو شرق أوروبا من أجل معالجة الأزمة الطارئة، خاصة مع البلاغة العنصرية التي انتشرت في خطاب الرسميات الغربية، وفي وسائل الإعلام وتدخلات المراسلين والمحللين، والتي اعتمدت على التأكيد على أن اللاجئين الأوكران أهم، وأن معاناتهم أجدر بالاهتمام.

فرص محدودة

شكلت الحرب في أوكرانيا والموقف الدولي المضاد لها، دافعًا للائتلاف السوري المعارض، من أجل زيادة تحركاته الدولية، في محاولته تحقيق مكاسب سياسية. فقد طالب الائتلاف خلال اجتماعه مع الفريق الفرنسي المختص في الملف السوري، بضرورة تغيير السياسات الغربية تجاه الملف السوري ومنحه أهميةً أكبر. وفي الوقت الذي يظهر فيه الحديث عن إعادة عدة دول عربية عملها على إعادة تطبيع العلاقات مع النظام السوري، أكد الائتلاف خلال زيارته لجامعة الدول العربية، على ضرورة استمرار عزل النظام السوري وعدم الانخراط في شرعنته، أو إعادة قبوله في جامعة الدول العربية، والمطالبة بتسلم الائتلاف المقعد السوري في الجامعة، باعتباره الممثل الشرعي للشعب السوري.

لقد كانت سوريا نقطة التقاء للمصالح الاستراتيجية لإدارة بوتين، فقد كانت ساحةً من أجل تجارب الأسلحة الروسية الجديدة، بالإضافة إلى حصولها على موطئ للمياه الدافئة، واختبارًا لقدرتها على التدخل العسكري في مكان بعيد عن حدوده، والنظر إلى رد الفعل العالمي عليه. وربما ساهم التدخل الذي مر في سوريا دون ردود أفعال ضخمة عالمية أو بهدوء، في زيادة الدافعية الروسية نحو غزو أوكرانيا.

أما في المستقبل، وفي ظل الخيارات المفتوحة في الحرب، وفي حال تعززت العقوبات على روسيا، فقد تكون سوريًا مخرجًا للروس، من خلال تحويلها إلى سوق سوداء سعيًا منها لترويج الصادرات النفطية من خلال تحايلها على العقوبات المفروضة عليها. كما أن إعادة إعمار سوريا، لو حدثت، قد تكون فرصةً للشركات الروسية هي في أمس الحاجة إليها، من أجل الحصول على هذه العطاءات وتعويض الخسارات التي تعرضت لها نتيجة غزو أوكرانيا.

————————-

تظاهرات ضد الغزو الروسي لأوكرانيا

بوتين خان وممراته “الإنسانية الآمنة”/ عبد القادر المنلا

هل يمكن لمشعل الحرائق أن يكون إطفائياً؟ سؤال يمكن أن يكون كلمة السر لفهم شخصية فلاديمير بوتين والنماذج المستنسخة عنه من قادة المافيات المنتشرة في العالم، وأتباعه المغرمين بقدرته على ارتكاب الجريمة والتباهي بها، فالأسد في سوريا، ولوكاشينكو في بلاروسيا، وفي كوريا الشمالية نسخة معدلة تنتظر الفرصة السانحة لإشعال الفتيل.

حيثما تحركت في نطاق الدول التي يحكمها طغاة، تجد مشعلي الحرائق يتنكرون بلباس رجال الإطفاء..

قبل أقل من أسبوعين، لم تكن أوكرانيا بحاجة لتلك الممرات الآمنة التي يمنّ بها بوتين على ضحايا نيرانه، لم تكن حرباً ضرورية تلك التي شنها القيصر الروسي على بلد لم يكن ينتظر حرباً، ولم يصدق رئيسه أن ثمة سبباً لتلك الحرب رغم كل ما حشده بوتين حينئذ على حدود أوكرانيا من جنود وعدة وعتاد، ورغم كل تصريحاته وإنكاره نيات الغزو في حالة كذب ومداورة لم تدم طويلاً حتى تحولت إلى حقيقة صارخة.

فجأة بات الأوكرانيون بحاجة إلى ممرات إنسانية آمنة ليتمكنوا من الهرب بعيداً عن مرمى النيران، وليتمكنوا -مرغمين- من مغادرة بلادهم إن استطاعوا ذلك، ثم يخرج الغازي بكل صفاقة ليفضّل على الأوكرانيين بمنحهم فرصة للتشرد بعيداً عن بلدهم وعن منازلهم، لقد حول بوتين أوكرانيا إلى منطقة خطر، منطقة موت، ثم أخذ يتحدث عن ممرات إنسانية، فأية إنسانية تلك التي يريد الوحش منحها لضحاياه؟

إنه من الغريب حقاً أن يقبل المجتمع الدولي بمناقشة فكرة الممرات الإنسانية، كان عليه أولاً أن يستنكر ويرفض حق بوتين في الحديث عن الإنسانية، لأن قبول ذلك يعد نوعا من التطبيع مع الجريمة، ولا سيما أن غدر بوتين يطول الممرات الإنسانية ذاتها والتي وضعها بنفسه.

يعتمد بوتين، مثل كل أتباعه ونسخه الإجرامية، على الذريعة، ولكنه يقوم أيضاً باستنساخ الذرائع ذاتها التي كان يدينها لدى الآخرين، وفي هذا السياق يمكن العودة إلى  إدانته لذريعة الأميركيين في احتلال العراق، والتي كررها على مدار سنوات، وتبناها نظام الأسد أيضاً، ولكنه لم يجد بداً من الاختباء خلف ذريعة مماثلة في غزو أوكرانيا، وهنا نستطيع الحديث عن  حزمة ذرائع ابتدأت بخطر الناتو على أمن روسيا، ومن ثم المفاعلات النووية الأوكرانية، فضلاً عن أنه  لم يتردد في ابتكار ذريعة سوريالية حين ادّعى أنه يحارب “النازيين الجدد”.

    يعتمد بوتين، مثل كل أتباعه ونسخه الإجرامية، على الذريعة، ولكنه يقوم أيضاً باستنساخ الذرائع ذاتها التي كان يدينها لدى الآخرين

تستند الذريعة عادة إلى وجود بعض العناصر الأولية التي تقرّبها من التصديق ثم تضخيمها من قبل المعتدي، غير أن بوتين لا يتوانى عن اختراع ذريعة لا أصلَ لها، إنه في الحقيقة يتجرأ على ابتداع ذريعة مقطوعة الصلة تماماً مع الواقع، مستنداً إلى منطق القوة وحده.

يشعر بوتين اليوم أنه يقود العالم، ولكنه ينسى أن التخاذل، وربما التواطؤ الأميركي هو الذي أوصله إلى هذه المنطقة من القوة، يعي بوتين جيداً ذلك التخاذل، ويعي أكثر ضعف أوروبا، وربما عجزها التام وخصوصاً على المستوى العسكري واعتمادها الكلي على حلف الناتو، والذي أكد عدم نيته الانخراط في حرب مع روسيا، تماماً كما كان يؤكد عدم نيته التدخل في الشأن السوري منذ العام 2011، مما يعطي الضمانة لبوتين كما أعطاها سابقاً للأسد، ولو أن ثمة تهديداً أميركياً جدّياً لما تجرّأ بوتين على خوض أي حرب.

 يشكل وقوف أميركا اليوم مع أوكرانيا ودعمها سياسياً وعسكرياً ومالياً أكبر خطر على مستقبل أوكرانيا لأنه ببساطة يذكرنا بالسيناريو السوري حينما هبّ المجتمع الدولي بزعامة أميركا لمناصرة السوريين واعتمد برنامجاً خاصاً للدعم مشابهاً في كثير من جوانبه للدعم الحالي لأوكرانيا، ثم ما إن تورط الشعب السوري تماماً في مواجهة النظام، حتى انسحبت أميركا من المشهد بعد أن ضمنت غرق السوريين واكتفت ببعض العقوبات الاقتصادية التي لم تؤثر حتى الآن على العصابة الحاكمة في دمشق، وتبدو مقدمات الدعم لأوكرانيا اليوم متشابهة إلى حد كبير مع نتائج الدعم الذي قدّم لسوريا، ولهذا فإن سقف مطالب المجتمع الدولي قد ينخفض إلى المطالبة بتوفير ممرات إنسانية آمنة لا أكثر..

 تؤكد الروايات التاريخية أن جنكيز خان تزوج عدداً لا يحصى من النساء من معظم الجنسيات في العالم وخلّف جيشاً من الأولاد، وأن حفيداً له لا يزال يعيش بيننا من بين كل مئتي شخص، ويبدو أن فلاديمير بوتين هو أحد أولئك الأحفاد بدليل المورثات الهمجية التي لا يمكن أن تنتمي إلاّ لسلالة كسلالة ذلك الجنكيز..

غير أن بوتين جمع العنف من أطرافه، فجينات الإجرام التي يحتوي عليها تركيبه السلطوي تضاهي غرور يوليوس قيصر، وجنون كاليجولا، وحماقة نيرون، وطموحات هتلر ووضاعة إيفان الرهيب الذي لم يتردد في قتل ابنه بضربة من صولجانه لمجرد خلاف بسيط معه..

ربما كان العنوان الأبرز الذي يختصر تعريف شخصية فلاديمير بوتين، أو بوتين خان، هو نزعة النذالة والغدر، فطغاة العالم كانوا لا يترددون في مواجهة خصوم أقوياء، ويخوضون حروباً مع قوى مكافئة لقوتهم، أما بوتين فهو يختار دائماً الخصم الضعيف والسهل بحيث تكون حربه مضمونة النتائج، ومعظم الخصوم الذين شن بوتين حروبه ضدهم لم يكونوا من القوة بحيث يشكلون طرفاً، بوتين باختصار يشن حروباً من طرف واحد، من دون أن يفارقه الإحساس بالبطولة وكأنه أنجز ما لم ينجزه الإسكندر الأكبر.

ربما هي المرة الأولى التي يحارب فيها بوتين دولة تعدّ من الدول القوية، ولكنها لا يمكن أن تكسب حرباً ضد القوة الروسية الضاربة، ولذلك فإن نتائج هذه الحرب محسومة سلفاً، ولا سيما أن أميركا لن تطالب بأكثر من ممرات إنسانية رغم أن عدد اللاجئين الأوكرانيين قد تجاوز مليونين في أقل من أسبوعين على بدء الحرب -بحسب آخر إحصاء لمفوضية شؤون اللاجئين في الأمم المتحدة- وتلك إشارة واضحة إلى أن الوضع في أوكرانيا قد يذهب باتجاه السيناريو السوري، حرب مدمرة طويلة الأمد، تهجير متتابع، تمزيق لجسم جغرافي مهم، وجلسات متتابعة في مجلس الأمن، تصريحات وإدانات، وإصرار أميركي على المطالبة بممرات إنسانية آمنة، وربما تطالب أميركا في فترة لاحقة بمناطق خفض التصعيد، وبهدنات وهمية تصل إلى منطق المصالحات، ومن ثم تثبيت بؤرة توتر دائمة في أوروبا، هذا إن لم يكمل بوتين خان حلمه الجنكيزي المعلن ومغامرته الدموية التي تهدد العالم برمّته.

—————————

صراع الوساطة وخلفياته… لماذا تستعجل تركيا وإسرائيل إنهاء الحرب في أوكرانيا؟/ يامن المغربي

تزدحم هذه الأيام سماء مدينتَي إسطنبول وأنقرة، بالطائرات الدبلوماسية من القارتين الأوروبية والآسيوية، في ظل الغزو الروسي لأوكرانيا وتأثيرات الحرب على دول العالم كلها تقريباً، وعلى الأخص الاتحاد الأوروبي.

نجحت تركيا بعد مرور أسبوعين على بدء الحرب، في جمع وزيري خارجية البلدين على طاولة واحدة في مدينة أنطاليا جنوب البلاد، وهو أمر عدّته تركيا قوةً ونجاحاً دبلوماسياً كبيراً في ظل ظروف الحرب الحالية، والتي يمتد تأثيرها المباشر إلى القارة الأوروبية وآسيا.

تركيا شهدت نشاطاً دبلوماسياً كبيراً خلال الأسبوع المنصرم، سيمتد إلى الأسبوع المقبل، تجلى في زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ إلى أنقرة في زيارة مقررة سلفاً، والإعلان عن زيارات مشابهة لكل من المستشار الألماني أولاف شولتز، ورئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، بالإضافة إلى المكالمة الهاتفية التي جمعت الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والأمريكي جو بايدن، وكلها لا تنفصل عن الملف الأوكراني.

وجهود الوساطة التركية بين روسيا وأوكرانيا، سارت بالتوازي مع جهود إسرائيلية مشابهة، إذ التقى رئيس الحكومة الإسرائيلية، نفتالي بينيت، بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو، في اجتماع قالت إسرائيل إنه استمر ثلاث ساعات، قبل أن يعود بينيت ويتحدث هاتفياً مع الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي.

المصالح تحكم

على الرغم من النجاح الظاهري لأنقرة، إلا أن لتل أبيب مصالح عدة في التهدئة بين روسيا وأوكرانيا، وهي المصالح ذاتها التي تملكها تركيا، كما أن كلا البلدين لديهما موقف حساس من الحرب في أوكرانيا وإن كان بنسب متفاوتة.

فتركيا لديها مصالح تجارية واقتصادية واسعة مع أوكرانيا وروسيا، كذلك لديها علاقات متشابكة مع روسيا في ملفات إقليمية في سوريا وليبيا، وفي العمق الآسيوي (أذربيجان وأرمينيا)، الذي تعدّه موسكو حديقتها الخلفية. وفي المقابل لدى أنقرة علاقات إستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي والناتو والولايات المتحدة الأمريكية.

من جهتها، وجدت إسرائيل نفسها في موقف حساس، وعلى الرغم من أنها حليفة واشنطن الأولى في منطقة الشرق الأوسط ولديها علاقات مميزة مع الاتحاد الأوروبي، إلا أن لديها تفاهمات مهمة مع موسكو في ما يخص الملف السوري، واستهدافها الدائم عسكرياً للوجود الإيراني في سوريا، وهذا أمر لن يتم من دون موافقة روسيا بطبيعة الحال.

يرى الصحافي السوري المختص بالشؤون الإسرائيلية، خالد خليل، في حديثه إلى رصيف22، أن “إسرائيل من الدول التي اتخذت الخط الثالث إلى جانب تركيا، وهي الدول التي لم تدعم أياً من طرفي النزاع بشكل مباشر. ومع أن إسرائيل محسوبة بشكل مباشر على الدول الغربية، إلا أن تدخلها جاء بعد طلب مباشر من زيلنسكي”.

وإسرائيل في موقف حرج، لكنها لم تفرض عقوبات على روسيا، وفي المقابل لم ترسل أسلحةً طلبها الأوكرانيون، وعلى رأس هذه الطلبات، نظام القبة الحديدية. وحسب خليل “هي يهمها بشكل مباشر الحفاظ على تفاهماتها مع موسكو في سوريا، وفي الوقت نفسه لا تريد إحراج القوى الغربية، لذا أدانت الغزو الروسي شكلياً، وجلّ ما يهمها في الملف الأوكراني هو الجاليات اليهودية في أوكرانيا ودول البلطيق”.

وكانت قناة “الجزيرة” قد كشفت في وقت سابق أن الحكومة الإسرائيلية بدأت بتنفيذ خطة لاستقدام مجموعات يهودية أوكرانية، ووفق أرقام الوكالة اليهودية، يوجد نحو 200 ألف يهودي في أوكرانيا “مستحقٍّ للهجرة”، كما أعلنت في اليوم التالي للعمليات العسكرية عن ترحيبها بهجرة اليهود الأوكرانيين إلى إسرائيل.

الجدير بالذكر أن الرئيس طلب الوساطة الإسرائيلية مع روسيا بشكل مباشر من رئيس الوزراء الإسرائيلي، إلا أن التحرك الإسرائيلي باتجاه موسكو لم يحدث إلا بعد مرور نحو أسبوع من العمليات العسكرية.

ونقلت شبكة “سي أن أن” الأمريكية عن السفير الأوكراني في إسرائيل، يفغين كورنيتشوك، أن كييف طلبت من تل أبيب أن تجري المفاوضات لديها بدلاً من بيلاروسيا حيث اقترح الطرف الروسي، وعلى الرغم من ذلك لم تفوّت أوكرانيا فرصة مهاجمة إسرائيل بسبب تعامل طيران “العال” الإسرائيلي مع النظام المصرفي الروسي.

الأيادي المقيّدة

الموقف الإسرائيلي الذي يبدو شكلياً أنه يميل إلى التضامن مع أوكرانيا، ليس كذلك ضمنياً، فإلى جانب عدم تجاوب تل أبيب مع مطلب إرسال الأسلحة إلى كييف، رفض وزير القضاء الإسرائيلي جدعون ساعر، اتهام بوتين بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، كما وافق الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) على قبول الاستماع إلى خطاب متلفز للرئيس الأوكراني في الأيام المقبلة من دون تحديد موعد واضح، بعد أن تم رفض هذا الأمر في وقت سابق.

من جهته، يرى المحلل السياسي مصطفى أوزجان، أن يدَي إسرائيل مقيدتان في الملف الأوكراني بفعل التفاهمات مع الروس في سوريا، إذ تسمح موسكو لتل أبيب بالاستهداف العسكري للمصالح الإيرانية في سوريا، وتالياً فإن مصلحتها تكمن في الحفاظ على علاقاتها مع موسكو من دون الاهتمام بأمر أوكرانيا كثيراً”.

وعلى الرغم من هذا الموقف المتردد والمتخبط لتل أبيب، إلا أن نجاحها في الوساطة بين أوكرانيا وروسيا إن حصل، فيعني اكتسابها سمعةً دوليةً في ما يخص فض النزاعات والوساطة بين الدول، وهو أمر لم تفعله إسرائيل مسبقاً، ويُشكل مفارقةً كبيرةً خاصةً بدولة احتلال.

إلا أن هذا الأمر يحتاج وفق خالد خليل، إلى “شخصية لديها الخبرة والقدرة على إدارة مفاوضات كهذه، وهو شخص لا تملكه إسرائيل في الوقت الحالي، كما أنها تعرف أن بوتين ماضٍ في معركته والنتائج لن تكون مرضيةً”.

مكاسب أنقرة

تتجه عيون العالم إلى تركيا مع النشاط الدبلوماسي الذي تكلل في جمع طرفي الحرب على طاولة واحدة على هامش أعمال منتدى أنطاليا الدبلوماسي. ولتركيا أيضاً، وإلى جانب موقفها الحساس، مكاسب كبيرة قد تحصل عليها، فمن جهة ستكتسب سمعةً عالميةً مهمةً في فض النزاع، ومن جهة ثانية ستحافظ على مكتسباتها خلال العقد الماضي عبر التفاهمات السياسية والاقتصادية المقبلة للمنطقة.

ومن جهة ثالثة فإن إيقاف الحرب يعني نقطتين أساسيتين: الأولى إيقاف التوسع الروسي والثانية الحفاظ على المصالح الاقتصادية مع أوكرانيا وروسيا على حد سواء، بالإضافة إلى المكتسبات الجديدة التي ستحصل عليها من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وإثبات أنها لاعب أساسي ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل كذلك في البلقان وهو ما يعني المزيد من النفوذ التركي هناك، والذي تحرص أنقرة على تقويته.

ويرى المحلل السياسي التركي، مصطفى أوزجان، أن “سيناريو الحرب هو أسوأ كوابيس تركيا، واستسلام أوكرانيا يعني أن روسيا أصبحت جارةً مباشرةً لتركيا، وهو ما يعني تصادم مصالح مباشر وخطر على الأمن القومي لأنقرة”، مشيراً إلى “الصراع التاريخي بين تركيا أيام الدولة العثمانية مع روسيا القيصرية قبل 500 عام، والذي يعود اليوم بشكل أو بآخر”.

ويفصل بين الدولتين حالياً، البحر الأسود من الشمال (حيث تحتل روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية)، وجورجيا من الشمال الشرقي.

واستحضر الرئيس الروسي في آخر خطاباته قبل إعلان بدء العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، عندما هاجم الزعيم السوفياتي الأسبق، فلاديمير لينين، عادّاً أن الأخير عمل ضد مصالح روسيا “بشكل فجّ جداً”، من خلال فصل أراضي روسيا التاريخية وتمزيقها وفق نص الخطاب.

تعي أنقرة جيداً نتائج نجاح روسيا في غزو أوكرانيا على أمنها القومي، خاصةً وصول روسيا بشكل كامل إلى كامل سواحل البحر الأسود الذي يبشّر بدوره بمئات المليارات من الغاز الطبيعي، والذي يدخل ضمن ما تطلق عليه أنقرة (الوطن الأزرق)، والذي يمثّل ملفاً بالغ الحساسية لتركيا دخلت على إثره في صراع إقليمي كبير مع دول المنطقة كمصر والإمارات واليونان، واشتبكت مع الروس والإماراتيين في حرب بالوكالة في ليبيا.

في المحصلة، ترى أنقرة حال نجاحها في الوساطة بين روسيا وأوكرانيا أنها ستحصل على مكتسبات سياسية واقتصادية كبيرة في المرحلة المقبلة، ربما تساعدها على حلحلة ملفات مهمة لأمنها القومي، وتكريس حضورها الإقليمي والدولي وتصنيفها كأحد اللاعبين المهمين في المنطقة، وهو أمر تحاول أنقرة فعله منذ سنوات طويلة، عدا عن تخفيف آثار الحرب الاقتصادية عليها. أما إسرائيل فيبدو أن جلّ همها هو عدم خسارة تفاهماتها مع الروس في سوريا، وعدم الإضرار بمصالحها الاقتصادية مع موسكو.

—————————-

كيف كسب بوتين معركة الخبز؟/ عبد التواب بركات

القمح هو المادة الأساسية في صناعة الخبز. والخبز هو الغذاء الرئيس لمعظم سكان العالم. وفي دول عربية كثيرة، يسمى الخبز بالعيش الذي يعني الحياة. فهو المصدر الأساسي للطاقة والبروتين في تلك الدول، فيوفر 70 بالمائة من السعرات الحرارية للفرد، وتعتمد عليه الشعوب العربية الغفيرة في ملء البطن وإقامة الصلب.

ولأهميته الاستراتيجية، تحول القمح من مجرد سلعة غذائية إلى سلعة سياسية، استخدمته الدول الكبرى سلاحاً لترويض الشعوب وتقويض حركات التحرر. وفي عام 1943، منع رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل متعمداً الأسطول التجاري البريطاني من توصيل القمح والأرز إلى سكان ولاية البنغال الهندية لتقويض حركة استقلال البلاد، ما أدى إلى موت 3.5 ملايين هندي. واستخدمت الولايات المتحدة هذه السياسة في حصار العراق مدة 13 سنة حتى احتلاله في 2003.

وفي سنة 1973، منع الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز البترول عن الغرب من أجل القضية العربية العادلة، فرد هنري كسينجر، وزير خارجية الولايات المتحدة، بقوله “سنعطيهم بكل قطرة بترول حبة قمح”. وفي سنة 1974، قال كيسنجر إن نقص الحبوب في العالم من شأنه أن يمنح الولايات المتحدة سلطة لم تكن تملكها من قبل، إنها سلطة تمكنها من ممارسة السيطرة الاقتصادية والسياسية تفوق تلك التي مارستها في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية. 

وتُعزى سياسة “استخدام الغذاء سلاحاً” بشكل عام إلى هنري كسينجر وإيرل بوتز، وزير الزراعة في عهد الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، وتقوم الفكرة على أن الولايات المتحدة يمكن أن تجوع دولة أخرى لإخضاعها، ليس بحصار عسكري، ولكن ببساطة عن طريق رفض بيعها أو إعطائها القمح.

وقد برع برنارد شو في تصوير هذه السياسة بقوله “السعادة مثل القمح، يجب ألا نستهلكه إذا لم نساهم في إنتاجه”، لأن الاعتماد على الغير للحصول على الخبز سيؤدي إلى التبعية وإهدار السيادة والاستقلال السياسي. ولخص السياسي الفرنسي الكونت دي ميرابو أهمية القمح الاستراتيجية بقوله إن جميع مشاكل السياسة تخرج من حبة القمح.

وبعد نجاحها في استنباط بذور قمح غزيرة الإنتاج في بداية الثورة الخضراء، استخدمت الولايات المتحدة الأميركية القمح ضمن السياسات التي ساعدتها في إنشاء النظام العالمي الجديد في منتصف القرن الماضي. وكانت معونات القمح أحد الأسلحة التي استخدمتها لإسقاط الأنظمة القديمة والتمكين للأنظمة العميلة وتجنيدها ضد الشيوعية. وفي سورية، عندما كانت تفشل الأسلحة العسكرية في حسم المواجهة، كان فلاديمير بوتين يستخدم سلاح القمح وتجويع المدنيين لمساومة المقاومة. 

وفي هذه الأيام، زادت أسعار القمح بنسبة 50 بالمائة بسبب توقف صادرات القمح من روسيا وأوكرانيا التي تمثل ثلث المتاح في السوق الدولية تقريبا. وفي المنطقة العربية، زادت أسعار الدقيق والخبز بنفس النسبة، ليكتشف المواطن العربي لأول مرة تقريبا أن الحكومات العربية تستورد 60 بالمائة من القمح من روسيا ومن أوكرانيا، وأن كل ثلاثة أرغفة يأكلها المواطن، يأتي اثنان منها من روسيا وأوكرانيا.

أما كيف تحولت روسيا من الاعتماد على القمح الأميركي إلى أكبر مُصدر للقمح في العالم، متفوقة على الاتحاد الأوروبي المكون من 28 دولة والولايات المتحدة التي ظلت أكبر مصدر للقمح في العالم منذ وراثتها الإمبراطورية البريطانية، فهي قصة جديرة بالدراسة، لارتباطها مباشرة برغيف خبز المواطن العربي، ولأنها قصة فريدة لم تتكرر في التاريخ من قبل، أو في العصر الحالي على الأقل، وربما تكون عبرة للحكومات العربية للاستفادة منها في أزماتها المتكررة.

مر الأمن الغذائي في الاتحاد السوفييتي وروسيا بست مراحل خلال القرن الماضي. الأولى، تراجع فيها إنتاج الاتحاد السوفييتي من القمح والحبوب بسبب سياسات جوزيف ستالين الشيوعية في العشرينيات، ما أدى إلى مجاعة مروعة قتلت 4 إلى 10 ملايين شخص. 

في المرحلة الثانية، تحول الاتحاد السوفييتي إلى الاكتفاء الذاتي من القمح، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وخلال الستينيات، وهي مرحلة القوة. 

وفي المرحلة الثالثة، أهمل الاتحاد الإنتاج الزراعي مرة أخرى، وتراجع إنتاج القمح بدرجة كبيرة ليصبح أكبر مستورد للقمح في العالم منذ بداية السبعينيات وحتى تفككه في سنة 1991. 

ومن المفارقات السياسية أن الاتحاد السوفييتي كان يحصل على احتياجاته من القمح والسلع الغذائية الأخرى من عدوه اللدود، الولايات المتحدة، بطرق غير مباشرة. وبلغت ذروة اعتماده على الولايات المتحدة في سنة 1985 عندما اشترى 55.5 مليون طن من القمح والذرة، وهو رقم قياسي لدولة واحدة في عام واحد. ومن الدروس المهمة هنا أن أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي هو التبعية الغذائية وتراجع الإنتاج الزراعي. 

وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، انتهجت وريثته روسيا سياسات زراعية مغايرة للنظام الاشتراكي. ورغم تحسن الإنتاج الزراعي، ظلت روسيا تستورد نصف احتياجاتها الغذائية من الخارج حتى تولى فلاديمير بوتين سدة الحكم في سنة 2000. ومما تنقله وسائل الإعلام الروسية أن بوتين، عندما صار لتوه رئيسا، قيل له في أول اجتماع وزاري إن روسيا استوردت أكثر من نصف احتياجاتها من الغذاء والقمح من الخارج فامتعض. 

ومنذ هذه اللحظة، قرر بوتين تغيير واقع التبعية والاعتماد على الغرب إلى الاكتفاء الذاتي من القمح والذرة واللحوم لامتلاك السيادة الغذائية، وهي المرحلة الرابعة. 

وقامت سياسة بوتين للاكتفاء الذاتي على التوسع الأفقي بزيادة المساحة المزروعة بالقمح بنسبة 50 بالمائة، والتوسع الرأسي بالاستثمار في تكنولوجيا البذور غزيرة الإنتاج، فتضاعفت الإنتاجية ثلاث مرات، ودعم المزارعين بالأسمدة الزراعية والقروض المالية والمعدات الزراعية اللازمة للزراعة والحصاد. 

وأتت سياسته الجديدة أكلها بعد سنتين فقط، وزاد إنتاج القمح إلى 30 مليون طن في البداية، رغم صعوبات المناخ والجليد الذي يغطي الأرض والأمطار الغزيرة طوال فصول السنة. ثم دخلت روسيا المرحلة الخامسة حيث تحولت من الاكتفاء الذاتي إلى التصدير. بدأت روسيا بداية متواضعة بتصدير 696 ألف طن من القمح. وبعد خمس سنوات من حكم بوتين، أصبحت روسيا خامس أكبر دولة مصدرة للقمح في العالم. 

وفي العام 2009، أصدر الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف قرارا بإنشاء شركة حكومية تقوم ببناء البنية التحتية لنقل وشحن وتخزين القمح في الصوامع الحديثة بتكلفة 3.3 مليارات دولار. وفي سنة 2010، أصدر بوتين “ميثاق الحبوب” كمشروع قومي لمضاعفة إنتاج القمح. وبالفعل، تضاعف الإنتاج إلى 60 مليون طن.

المرحلة السادسة، وهي تصدر روسيا الدول المصدرة للقمح لأول مرة في التاريخ، وذلك بعد ست سنوات من ميثاق الحبوب، وتربعت روسيا على مقعد أكبر مصدر للقمح في العالم في سنة 2016. وتفوقت على الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي الذي يضم 28 دولة. واحتفل بوتين في مؤتمر صحافي بتصدير 41 مليون طن من القمح، وكشف عن هدف شخصي للسيطرة على تجارة القمح في العالم بقوله “أصبحنا رقم واحد، لقد هزمنا الولايات المتحدة وكندا”.

في سنة 2012، تحدى بوتين نفسه بالإعلان عن خطة لمضاعفة صادرات القمح خلال ثمان سنوات، يعني في سنة 2020. ولكن بحلول عام 2018، حقق بوتين هدفه وضاعفت روسيا صادرات القمح بأكثر من الضعف إلى 41 مليون طن. ولا يزال يمثل رقماً قياسياً عالميا، لم يحققه أحد سوى الولايات المتحدة الأميركية التي بلغت ذروة صادراتها 47 مليون طن في 1981 عندما كانت تستخدم القمح سلاحاً سياسياً ولا تزال.

ومنذ ذلك الحين، تحافظ روسيا على موقع الصدارة بتصدير 35 إلى 40 مليون طن من القمح سنويًا. وتفوقت أيضا بعرض أسعار أقل مما تعرضه الولايات المتحدة والدول المصدرة الأخرى. حيث استغلت الجودة المنخفضة للقمح الروسي بسبب محتواه العالي من الحشرات والفطريات السامة في تخفيض السعر عن القمح الصادر من الولايات المتحدة وكندا بحوالي 50 إلى 100 دولار في الطن الواحد. 

استهدف بوتين، ضابط المخابرات السوفييتية السابق، بيع القمح للدول الحليفة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط بأسعار زهيدة، وأغرق السوق التقليدية للقمح الأميركي بالقمح الروسي. إلى درجة أن الولايات المتحدة أغلقت مكتب مؤسسة القمح الأميركي المسؤولة عن تسويق القمح الأميركي في مصر في ديسمبر/كانون الأول 2017 بعد أن ظل يعمل لعقود. وذكرت وكالة رويترز أن هذه الخطوة تأتي بعدما خسرت الولايات المتحدة حصة تصدير القمح إلى مصر وتحولها للاستيراد من روسيا.

وهي سياسة ماكرة وخطيرة، أدت إلى اعتماد الحكومات العربية اعتمادا شبه كلي على القمح الروسي الرخيص، ونسيان خطط الاكتفاء الذاتي، وعدم الاكترات لإطعام شعوبها غذاء صحيا. لدرجة أن وزير التموين في مصر قال بصراحة في مقابلة تلفزيونية، لماذا ننتج القمح ونحن نشتريه بتكلفة أقل من أن ننتجه محليا؟

وفي لحظة تاريخية فارقة في منتصف 2010، حظر رئيس الوزراء في حينه، فلاديمير بوتين -خلال جلسة متلفزة لمجلس الوزراء- تصدير القمح والدقيق والذرة والحبوب الأخرى. وقال إنه اتخذ القرار لمنع زيادة الأسعار المحلية، وتوفير احتياطيات للعام المقبل بسبب الحرائق التي دمرت 20 بالمائة من محاصيل القمح.

ومن المفارقات أن صحيفة (آسيا نيوز) التي نقلت الخبر قالت إن القرار يمكن أن يتسبب في تجويع مناطق بأكملها في الشرق الأوسط. وبالفعل اشتعلت ثورات الربيع العربي، وخسرت الولايات المتحدة الأنظمة الحليفة. وها هي الأزمة تتكرر بعد عشر سنوات، فهل يأخذ الحكام العرب العبرة من الحرب على أوكرانيا، والدرس من التجربة الروسية؟

العربي الجديد

—————————-

الأزمة الأوكرانية وبنية النسق الدولي/ عصام عبد الشافي

اعترفت روسيا الاتحادية، في 20 من الشهر الماضي (فبراير/ شباط) باستقلال جمهوريتين انفصلتا عن أوكرانيا، لوهانسك ودونيتسك. وفي 24 من الشهر نفسه، قامت القوات المسلحة الروسية بغزو عسكري للأراضي الأوكرانية، وهنا توالت ردود الأفعال الدولية السياسية والاقتصادية والإعلامية، بل والعسكرية أيضا، تجاه هذا الغزو. ومع تشابك الأطراف وتعقد المشهد الدولي، برز السؤال: إلى أي مدى يمكن أن تؤثر الأزمة الأوكرانية بعد الغزو الروسي على بنية النسق الدولي؟

ينطلق منهج “النسق الدولي” من أن السياسة الدولية تنشأ وتتطور في إطار نسق معين، وتنطلق من عناصره الرئيسية، ومن ثم فإن تحليل السياسة الدولية في مرحلة تاريخية معينة يتطلب التعرّف على ماهية تلك العناصر وكيفية تفاعلها، والتي تقوم على أربع ركائز رئيسة هي: الوحدات الدولية، البنيان الدولي، المؤسسية الدولية، ثم العمليات الدولية.

وتشمل الوحدات الدولية الفاعلين الذين يقومون بأدوار معينة داخل النسق، فكل نسقٍ ينطوي على فاعليْن أو أكثر في حالة من التفاعل، كما ينطوي على أنساقٍ فرعيةٍ متفاعلةٍ سواء مع بضعها بعضا، أو مع النسق الكلي. ونقطة البدء في فهم السياسة الدولية هي معرفة الوحدات السياسية الفاعلة في النسق الدولي، والقوى الجديدة التي ظهرت على المسرح الدولي، والقوى التي اختفت، ويؤثر عدد الفاعلين الدوليين على السياسة الدولية عبر مستويين، مباشر من خلال تأثيره على السياسات الخارجية للفاعلين، وغير مباشر من خلال تأثيره على استقرار النسق الدولي.

والبنيان مفهوم تنظيمي ينصرف إلى ترتيب وحدات النسق الدولي في علاقاتها ببعضها بعضا. ويتحدّد على أساس كيفية توزيع المقدّرات بين الوحدات الدولية، وعلى درجة الترابط بين تلك الوحدات. ويقصد بتوزيع المقدرات نمط توزيع الموارد الاقتصادية والاتجاهات والقيم السياسية بين مختلف وحدات النسق الدولي. وفي إطار البنيان الدولي، يتحدّد شكل النظام الدولي، سواء كان أحادي القطبية، أو ثنائي القطبية، أو متعدّد الأقطاب.

ويُقصد بالمؤسسية بناء أنماط مستقرّة يمكن الاعتماد عليها لممارسة الأنشطة المختلفة، أي إقرار مجموعة من القواعد والأعراف والإجراءات التي يقبلها الفاعلون إطارا شرعيا لممارسة النشاط عبر فترة زمنية، أي أن المستوى المؤسسي للنسق الدولي يهتم بمدى وجود قواعد وأطر وأعراف دولية مقبولة لممارسة مختلف الأنشطة الدولية، ويشمل ذلك مدى توافر: التنظيمات الدولية الفعالة، أي المؤسسية التنظيمية، الأطر القانونية الدولية لممارسة العلاقات الدولية أي المؤسسية القانونية.

وتنصرف العمليات الدولية إلى حركة الوحدات الدولية لتحقيق أهدافها الخارجية، فهي تمثل الجانب الحركي من النسق الدولي، حيث تشكّل مجموعة من الأنشطة المتعاقبة المترابطة التي تقوم بها الوحدات الدولية لتحقيق أهدافها في إطار قواعد معينة. ويتضمّن النسق الدولي مجموعة ضخمة من العمليات الدولية التي تختلف من حيث ماهيتها، ومركزيتها، والتي تتراوح بين أقصى أشكال التعاون إلى أقصى أشكال الصراع.

وفي إطار هذه الأركان، وفي ظل تطورات ومعطيات وسياقات الأزمة الأوكرانية، 2022، يمكن الوقوف على عدد من الخلاصات الأساسية:

أولاً: فيما يتعلق بالوحدات الدولية، كشفت الأزمة الأوكرانية عن حدود (وطبيعة) الدور الذي يمكن أن تقوم به الأطراف الأساسية في النسق الحالي، مثل روسيا الاتحادية التي حرّكت الأحداث. وكانت المبادر بالفعل في كثير من تحولاتها، سواء في مرحلة ما قبل الحرب أو في أثناء الحرب. وفي المقابل، برز دور كل من الولايات المتحدة وما يدور في فلكها من أطراف أوروبية، وجدت في الحرب تهديداً كبيراً لكثير من قيمها ومبادئها ونموذجها الحضاري، بل وفي مرحلةٍ من مراحل الحرب، وجدت فيها تهديداً حقيقياً لوجود دول وأطراف عديدة تدور في الفلك الأميركي، وفي مقدمتها دول أوروبا الشرقية، سواء التي انضمت إلى الاتحاد الأوربي أو إلى حلف الناتو بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي وانهياره 1991.

وفي إطار الوحدات الدولية في مرحلة ما بعد الأزمة الأوكرانية، يمكن القول إن هناك احتمالات قوية بظهور دول جديدة، وقد تختفي دول بحدودها التي كانت قائمة قبل الأزمة، وقد نشهد اتجاهاً نحو بناء تحالفات جديدة، قد تصل في بعضها إلى درجة الاندماج، وخصوصا بين بعض دول شرق أوروبا (بولندا، إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) قامت بتفعيل المادة الرابعة من ميثاق حلف الناتو فيما بينها، أمام ما وجدته من تهديداتٍ وجوديةٍ لأمنها واستقرارها.

ثانياً: فيما يتعلق بالبنيان الدولي، قد تدفع تداعيات الأزمة إلى تغير جذري في بنية النظام الدولي الراهن، ولكن نحو نظام غربي أكثر هيمنة وأحادية، في ظل الأضرار الكبيرة التي ستطاول روسيا وحلفاءها في المواجهة الحالية إذا طال أمد الحرب في أوكرانيا، فالعقوبات الاقتصادية التي جرى فرضها على روسيا يمكن أن تعود بها إلى ما كانت عليها عام 1999، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولن يساعدها الارتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز، أهم مصادر دخلها القومي، في ظل العقوبات عليها، من الدول والشركات العملاقة والمؤسسات المالية والاقتصادية الضخمة. ولا أعتقد أن الصين يمكن أن تتورّط في تقديم دعم عسكري مباشر لروسيا حال تمدّدت الحرب خارج المسرح الأوروبي، لأنها أكثر حرصاً في الحفاظ على مقدّراتها وتأمين نموذجها على الأقل مرحلياً، حتى تحتوى التداعيات المباشرة للأزمة الأوكرانية.

ثالثاً: فيما يتعلق بالمؤسسية، سواء التنظيمية أو القانونية والمعيارية، واتساقاً مع الملاحظة السالفة، يمكن القول إن العالم سيتجه، بعد الأزمة الأوكرانية، نحو مزيد من هيمنة المؤسسات الغربية، وهذا ما وضح جلياً، حيث تحرّكت معظم المؤسسات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، بل والصحية والرياضية والشركات الفنية والإعلامية أيضا، بتناغم كامل في توجهاتها وممارساتها وإجراءاتها ضد روسيا وسياساتها وحلفائها، وجرى حشد الأغلبية العظمى من الهيئات والمؤسسات والشركات التابعة للمنظومة الغربية، في مواجهة السياسات الروسية. وكان في مقدمة هذه المؤسسات منظومة الأمم المتحدة، وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي ومحكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، والمؤسّسات المالية الدولية، بل وتوجيه رسائل نصية وخطابات رسمية إلى معظم النظم السياسية في العالم، بتحديد مواقفها من الغزو الروسي لأوكرانيا.

رابعاً: فيما يتعلق بالعمليات الدولية في مرحلة الأزمة الأوكرانية وما بعدها، فإنها تقوم على الجمع بين أقصى أشكال التعاون داخل المنظومة الغربية (وحدات ومؤسسات) وأقصى أشكال الصراع بين المنظومة الغربية ومن يدور في فلكها من ناحية، وروسيا الاتحادية ومن يدور في فلكها من ناحية ثانية، وستستمر هذه الثنائية (التعاون + الصراع) عدة سنوات، حتى تعود بنية النسق الدولي إلى حالة من الاستقرار المؤقت، قبل أن تبدأ موجة صراعية جديدة مع بقايا روسيا الاتحادية أو مع الصين التي تنتظر الفرصة للقفز على قمة النظام الدولي.

خامساً: التأكيد على أن التحولات والتطورات التي تحدُث في بنية النسق الدولي تنعكس، بالتبعية، سلباً وإيجاباً، على كل الأنساق الإقليمية الفرعية التي يقوم عليها هذا النسق، وهذا يرتبط، بطبيعة الحال، بدرجة السيولة والتداخل الكبيرين بين الدولي والإقليمي، بل والدولي والمحلي في أزمات إقليمية عديدة، كما يرتبط بأنماط التفاعلات التي تربط بين الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، وطبيعة هذه التحالفات ومتانتها، والأطر والضوابط الحاكمة لها، وهو ما يعني إمكانية تعرّض بعض الأطراف الإقليمية لضغوط وعقوبات سياسية واقتصادية وأمنية، إذا حاولت أو فكرت في الخروج عن الصف، وتجاوز الأدوار الوظيفية المرسومة لها سلفاً، والمستقرّة من عقود واقعاً.

———————–

“الحرس الثوري” الروسي/ مهند الحاج علي

قبل 18 عاماً، وصل ضابطا الاستخبارات الروسية أناتولي بلاتشكوف وفاسيلي أناتولي الى الدوحة لتنفيذ مهمة خاصة، هي اغتيال الرئيس الشيشاني السابق سليم خان بندرباييف. قبلها بشهور، صيف عام 2003، كانت الاستخبارات الروسية بدأت بالتحضير للعملية من خلال رصد تحركات ضحيتها باستخدام الأقمار الاصطناعية وبعض المعلومات الأمنية بشأنه. زرع العنصران الروسيان قنبلة موقوتة في سيارة الضحية بعد خروجه من صلاة الجمعة، وفرّا بعد تفجيرها ومقتل الهدف.

كانت العملية ناجحة، لكنها أسفرت عن اعتقال الضابطين، ومن ثم الإفراج عنهما بعد شهور نتيجة ضغوط روسية.

بعدها بثلاث سنوات، اغتيل الجاسوس الروسي السابق ألكسندر ليتفينينكو (43 عاماً) وسط لندن في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2006، بعد تسميمه بمادة البولونيوم-210 المشعة التي زرعها أحد عملاء الاستخبارات الروسية في كوب شاي. كانت العملية كميناً، لكنها ونتيجة موقعها الجغرافي واستخدام المواد المشعة، تحولت إلى قضية رأي عام وأمن قومي في المملكة المتحدة. كذلك محاولة اغتيال الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته يوليا في ساليزبري بالمملكة المتحدة عام 2018 باستخدام غاز الأعصاب.

هذه العمليات الروسية ليست وحيدة بل هناك غيرها في أنحاء الأراضي الأوروبية. لكن لماذا علينا إعادة التدقيق فيها اليوم؟

كانت الاعتداءات الروسية خلال تلك الفترة على ارتباط بما تراه موسكو تهديداً للأمن القومي الروسي، أكان من خلال مواجهة التمرد الشيشاني ورموزه، أو عبر اسقاط المعارضة الخارجية التي كانت تتشكل ملامحها في المنفى الأوروبي. عملياً، مزّقت الاستخبارات الروسية الإحساس بالأمان لدى المعارضين الروس عبر اغتيال وجوه بينهم وبطرق شنيعة لبعث رسالة لكل من تُسول له نفسه معارضة الرئيس فلاديمير بوتين. وكانت هذه الحملة رمزية لناحية إظهار روسيا كلاعب على مستوى العالم، على الولايات المتحدة وحلفائها احترام اعتباراته الأمنية والسيادية ووقف التمادي باتجاه أراضيه ومحيطه المباشر. وبالتالي كان فيها نوع من رد الاعتبار بعد سنوات الإهانة في ظل الرئيسين السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف والروسي الراحل بوريس يلتسين.

اليوم نحن أمام مشهد أكثر تعقيداً، ذاك أن روسيا لا تُواجه فحسب حرباً طويلة الأمد في أوكرانيا، لكنها أيضاً تحت حصار دولي يتطلب تحصيل أوراق للتفاوض بشأنها مقابل بعض المكاسب المالية أو الاقتصادية المرتبطة بحرب أوكرانيا، وليس بالملف النووي.

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف كان أعلن أن بلاده طلبت من واشنطن ضمانات بأن العقوبات التي تستهدفها على خلفية عملياتها العسكرية في أوكرانيا لن تطاول تعاونها مع إيران، قبل إعادة العمل بالاتفاق النووي. هذه ورقة في يد روسيا، وهي مصممة على استخدامها لتحصيل بعض التنازلات الأميركية. ولدى روسيا تقاطع مع إيران في أكثر من مكان، وأيضاً نفوذ في الداخل الإيراني لإيجاد تماهٍ أو بعض التناغم بينه وبين الموقف الروسي.

وهذه دفعة أولى على طريق طويل من التخريب السياسي والأمني، تماماً كما حصل مع الجانب الإيراني في أعقاب انسحاب إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي عام 2018. بيد أن البنية التحتية للقدرة التخريبية الروسية بالمنطقة العربية، وسواها باتت أكثر تعقيداً في ظل وجود عناصر غير نظامية (مرتزقة فاغنر في قارتي آسيا وافريقيا)، وبعد اتساع رقعة تأثير موسكو نتيجة سياسات العقدين الماضيين والتدخل في سوريا.

 وفي حال فشل إيران في استعادة الاتفاق النووي، قد تكون هي الأخرى على طريق العودة الى عمليات التخريب التي تلت العام 2018 لبضع سنوات. وبالتالي قد نكون أمام قوتين تخريبيتين محرومتين من بيع النفط بالأسواق الدولية، وعليهما مفاوضة المجتمع الدولي على نوافذ ضيقة للحصول على عملات صعبة. إنه حرس ثوري بنسختين إيرانية وروسية أيضاً.

المدن

——————–

مظلات الطيارين الروس التي لم تفتح

أزمة أوكرانيا تكشف الفساد في الصناعات العسكرية الروسية

كشف الغزو الروسي لأوكرانيا عن حجم الفساد الموجود في الصناعات العسكرية الروسية وضمن الجيش الروسي نفسه، ما دفع رئيس “الوكالة الوطنية لمنع الفساد في أوكرانيا” أوليسكندر نوفيكوف، إلى إرسال رسالة شكر إلى وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو عدد فيها أمثلة عن الفساد ضمن الجيش الروسي والتي اكتشفها الجيش الأوكراني منذ 24 شباط/فبراير.

وفي الحالة الأولى اكتشف الجيش الأوكراني أن أجزاء الحماية الخاصة بدبابات “T-72″ و”T-80” مصنوعة من الكرتون المقوى المستخدم لتخزين البيض.

وفي الحالة الثانية أظهرت صور أن بعض السترات المضادة للرصاص والتي استخدمها الجنود الروس كانت مصنوعة من الورق المقوى بدلاً من لوحات مدرعة. وتم ارتداء تلك السترات من قبل أفراد طاقم روسي في السيارة المدرعة الروسية “Barnaul-T” ألقي القبض عليهم من قبل الجيش الأوكراني.

والحالة الثالثة تعود لمركبات نقل الجنود الروس “ZIL-130” والتي طليت بلون أزرق براق ما يجعلها هدفاً سهلاً للنيران المعادية حتى بالنسبة لمستخدمي أسلحة عديمي الخبرة.

—————————–

بايدن يعلن قطر “حليفاً رئيسياً من خارج الناتو

أصدر الرئيس الأميركي جو بايدن قراراً تنفيذياً قضى بتعيين قطر حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة من خارج حلف شمال الأطلسي “ناتو”.

وقال بايدن في مرسومه الرئاسي الذي نشره البيت الأبيض عبر موقعه، إن قراره أتى بموجب السلطة المخولة له كرئيس وفقاً لدستور وقوانين الولايات المتحدة الأميركية وعملا بالمادة 517 من قانون المساعدة الخارجية لعام 1961.

وأكد الرئيس الأميركي رسمياً أن دولة قطر أصبحت حليفاً رئيسياً من خارج الناتو للولايات المتحدة. وكان بايدن قد قال، في كانون الثاني/يناير، في ضوء زيارة أجراها أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى العاصمة واشنطن، إنه سيبلغ الكونغرس عزمه إدراج قطر حليفاً رئيسياً غير عضو في الناتو.

واعتبر المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي حينها، أن هذا القرار من شأنه أن يفتح مجموعة جديدة كاملة من الفرص للعلاقات الدفاعية بين واشنطن والدوحة والحلفاء الآخرين.

والحليف الرئيسي من خارج الناتو هو تصنيف بموجب قانون الولايات المتحدة يوفر للشركاء الأجانب مزايا معينة في مجالات الدفاع والتجارة والتعاون الأمني، وفقاً لوزارة الخارجية، وهو رمز للعلاقات الوثيقة التي تشترك فيها الولايات المتحدة مع هذه البلدان.

مع ذلك، لا يحق لهذه الدول الحصول على الضمانات الأمنية التي يتمتع بها الأعضاء الكاملون في حلف الناتو، حيث إن الدول الأعضاء في الناتو ليست ملزمة بالدفاع عن حليف رئيسي من خارج الناتو يتعرض للهجوم.

———————————

الاتحاد الاوروبي يخيب آمال زيلينسكي بالعضوية السريعة

استبعد اجتماع قادة الاتحاد الأوروبي في فرنسا الخميس، تلبية مطلب أوكرانيا بالتكامل السريع مع الكتلة، وناقشوا سبل مساعدة الأوكران في مواجهة الغزو الروسي لبلادهم.

واتحدت دول الاتحاد الأوروبي بشكل كامل في دعم المقاومة الأوكرانية، وتبنت عقوبات اقتصادية غير مسبوقة ضد روسيا، لكن القادة منقسمون حول السرعة التي يمكن أن يتحرك بها الاتحاد لقبول أوكرانيا كعضو، ومدى سرعة قيام الكتلة المكونة من 27 دولة بقطع علاقات الطاقة مع موسكو.

ويريد الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي أن تنضم بلاده بسرعة إلى الاتحاد الأوروبي، لكن لن يتم التوصل إلى اتفاق بشأن هذه النقطة هذا الأسبوع خلال القمة التي استمرت يومين واستضافتها فرنسا في قصر فرساي غرب باريس.

المسار بطيء

وفي أحسن الأحوال، من المتوقع أن يتفق زعماء الاتحاد الأوروبي على لغة داعمة للمسعى الأوكراني للانضمام إلى الأسرة الأوروبية، لكنهم لن يتمكنوا من المضي قدماً في هذه العملية.

وتلقى عرض المسار السريع الأوكراني دعماً حاراً في دول أوروبا الشرقية، لكن مسؤولي الاتحاد الأوروبي شددوا على أن العملية قد تستغرق سنوات، مع ضرورة الإجماع بين الأعضاء الحاليين لقبول الوافد الجديد في النادي.

وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن على الاتحاد الأوروبي إرسال “إشارة قوية” لدعم أوكرانيا، لكنه استبعد احتمال انضمام البلاد إلى التكتل في أي وقت قريب. وقال ماكرون: “هل يمكننا اليوم فتح إجراء الانضمام (إلى الاتحاد الأوروبي) مع دولة في حالة حرب؟. لا أعتقد ذلك. هل نغلق الباب ونقول (لأوكرانيا): أبداً؟ سيكون ذلك غير عادل”.

وعند وصوله إلى فرساي، قال رئيس الوزراء الهولندي مارك روته إنه أخبر زيلينسكي أن انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي لا يمكن الإسراع فيه. وقال روته: “لا يوجد شيء مثل المسار السريع، إجراء سريع. علينا أيضاً أن نأخذ في الحسبان دول غرب البلقان، التي تعمل أحياناَ منذ أكثر من عقد لتصبح مجرد دولة مرشحة للعضوية. فكروا في ألبانيا ومقدونيا. دعونا نرى ما يمكننا القيام به من الناحية العملية”.

قمة أزمة

وكان يفترض للقمة المنعقدة في قصر فرساي أن تمثل أهم محطة في رئاسة فرنسا الدورية للاتحاد الأوروبي. لكن بدلا من ذلك ترأس ماكرون قمة أزمة في أعقاب الحرب على أوكرانيا، والتي قلبت رأساً على عقب عقوداً من الاستقرار في أوروبا.

وقال ماكرون لدى استقباله قادة الدول في قصر الملك لويس الرابع عشر، إن “أوروبا تغيرت مع الجائحة، وستتغير بشكل أسرع وأقوى مع الحرب”.

وساهم النزاع في تصاعد التأييد داخل الاتحاد الأوروبي للرئيس الأوكراني، غير أن القادة بددوا أمال زيلينسكي، الذي سبق أن تخلى عن الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي “ناتو”، عندما أكدوا أن مساراً سريعاً للعضوية في الاتحاد، غير ممكن.

وحذر رئيس وزراء لوكسمبورغ كزافييه بيتي من إعطاء كييف الانطباع بأن “كل شيء يمكن أن يحدث بين ليلة وضحاها”.

مواجهة أزمة الطاقة

وحتى قبل الحرب، كان يطمح ماكرون من خلال القمة وضع مسار لتعزيز مكانة أوروبا على المسرح الدولي. واتخذت المسألة مزيداً من الأهمية مع حرب روسيا على الجناح الشرقي للتكتل الأوروبي، وسيسعى القادة لاستكشاف السبيل لتعزيز اعتماد أوروبا على نفسها في عالم غير مستقر، وخصوصا في مسألة الطاقة.

وتسببت الحرب في ارتفاع أسعار الطاقة بشكل هائل وهددت الاقتصاد واستدعت نقاشات عاجلة بشأن الجهة التي يمكن أن يتوجه لها الأوروبيون للتزود بالغاز والنفط. وأصبحت المسألة أكثر إلحاحاً مع موجة عقوبات غربية على روسيا شكلت ضغوطاً أيضاً على أسواق الطاقة.

وقال رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي: “يجب أن نستجيب لدعم القوة الشرائية للعائلات بنفس سرعة استجابتنا للخطوات الروسية”.

ويستورد الاتحاد الأوروبي قرابة 40 في المئة من احتياجاته من الغاز الطبيعي من روسيا. وتعتمد ألمانيا، أكبر اقتصاد في أوروبا، خصوصا على إمدادات الطاقة إلى جانب إيطاليا والكثير من دول أوروبا الوسطى. وتأتي قرابة ربع واردات الاتحاد الأوروبي من النفط من روسيا أيضاً.

——————————

واشنطن تتهم روسيا بالإعداد لاستخدام أسلحة كيماوية وبيولوجية

واشنطن: علي بردى

حذرت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن من أن روسيا يمكن أن تسعى إلى استخدام أسلحة كيماوية أو بيولوجية في حربها على أوكرانيا، رافضة ادعاءات موسكو عن تطوير أميركي لهذه الأسلحة المحرمة دولياً داخل الجمهورية السوفياتية السابقة. وردت الناطقة باسم البيت الأبيض جين ساكي بوصف ادعاء روسيا بأنه «مناف للعقل»، مضيفة أنه يمكن أن يكون جزءاً من محاولة روسيا لوضع الأساس لاستخدامها لأسلحة الدمار الشامل ضد أوكرانيا. وكتبت على ”تويتر“ أن «هذه كلها حيلة واضحة من جانب روسيا لمحاولة تبرير هجومها الإضافي المتعمد وغير المبرر على أوكرانيا». وأضافت: «الآن بعدما قدمت روسيا هذه الادعاءات الكاذبة، يبدو أن الصين أيدت هذه الدعاية، ويجب علينا جميعاً أن نكون حريصين على إبقاء أعيننا مفتوحة على احتمال استخدام روسيا لأسلحة كيماوية أو بيولوجية في أوكرانيا، أو للقيام بعملية رفع راية كاذبة عن استخدام» هذه الأسلحة. وأكدت أن الولايات المتحدة «تمتثل بشكل كامل لالتزاماتها بموجب اتفاقية الأسلحة الكيماوية واتفاقية الأسلحة البيولوجية ولا تطور أو تمتلك مثل هذه الأسلحة في أي مكان». وكذلك قال الناطق باسم وزارة الخارجية نيد برايس إن «روسيا لديها سجل طويل وموثق جيداً في استخدام الأسلحة الكيماوية، بما في ذلك محاولات الاغتيال وتسميم أعداء بوتين السياسيين مثل أليكسي نافالني». ووصف الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية، البنتاغون جون كيربي، الادعاء الروسي بأنه «حفنة من الهراء»، علماً بأن تقديرات المجتمع الدولي تفيد منذ سنوات أن روسيا استخدمت الأسلحة الكيماوية سابقاً في محاولات اغتيال ضد أعداء الرئيس فلاديمير بوتين مثل أليكسي نافالني والجاسوس السابق سيرغي سكريبال، فضلاً عن أن موسكو تدعم الرئيس السوري بشار الأسد الذي يواجه اتهامات باستخدام أسلحة كيماوية.

وردا على سؤال من صحافي روسي عن الادعاءات في شأن معامل تدعمها الولايات المتحدة لإنتاج الأسلحة غير القانونية في أوكرانيا، قال الناطق باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك إنه «في هذه المرحلة ليست لدينا معلومات لتأكيد هذه التقارير أو هذه الادعاءات حول هذه الأنواع من المعامل». ونقل عن «زملائنا في منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، الذين يعملون مع الحكومات الأوكرانية، أنهم ليسوا على علم بأي نشاط من الحكومة الأوكرانية يتعارض مع التزاماتها بموجب المعاهدات الدولية، بما في ذلك الأسلحة الكيماوية أو الأسلحة البيولوجية».

ورداً على سؤال من السناتور ماركو روبيو عما إذا كانت أوكرانيا تمتلك أسلحة بيولوجية أو كيماوية، أدلت وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند بشهادة في الكونغرس، قائلة إن «أوكرانيا لديها مرافق أبحاث بيولوجية، والتي في الواقع، نحن قلقون للغاية من أن القوات الروسية والقوات الروسية قد تسعى للسيطرة عليها». وأضافت: «لذلك نحن نعمل مع الأوكرانيين حول كيفية منع أي من تلك المواد البحثية من الوقوع في أيدي القوات الروسية في حالة اقترابها». ووصفت الادعاءات الروسية بأنها «أساليب كلاسيكية في إلقاء اللوم على الآخرين فيما يخططون للقيام به بأنفسهم».

——————————

موسكو تصعّد هجومها على «البيولوجي الأميركي» وتتحدث عن تقدم ميداني محدود

استعداد لتأميم أصول الشركات الأجنبية رداً على مصادرة ممتلكات روسية في الخارج

موسكو: رائد جبر

اتجهت موسكو نحو تصعيد المواجهة مع الغرب، مع فشل إحراز تقدم في أوكرانيا على الصعيدين الميداني – العسكري والسياسي. إذ فشل وزيرا الخارجية سيرغي لافروف وديمتري كوليبا في تحقيق اختراق أمس، بعد جلسة محادثات مطولة جرت بوساطة تركية. وبدا أن التصعيد يتجه إلى مسارين، الأول اقتصادي تمثل في إطلاق تحضيرات تأميم أصول الشركات الغربية الكبرى التي انسحبت من الأسواق الروسية أخيراً، والثاني ضد الولايات المتحدة في إطار المعطيات التي قدمتها موسكو حول قيام واشنطن بنشر مختبرات لصناعة أسلحة جرثومية وبيولوجية في أوكرانيا.

ونشرت وزارة الدفاع الروسية معطيات قالت إنها حصلت عليها خلال العمليات العسكرية في أوكرانيا، حول مشروع أميركي ضخم لتطوير أسلحة محرمة تحمل تسمية «يو بي 4»، وقالت إنه تم تنفيذه بمشاركة مختبرات في كييف وخاركوف وأوديسا خلال فترة سنوات امتدت حتى العام 2020.

ووفقاً للوزارة، كان هدف المشروع دراسة إمكانية نشر أمراض تتميز بقدرتها على الانتقال على شكل عدوى فائقة الخطورة من خلال الطيور المهاجرة، بما في ذلك إنفلونزا الطيور، التي تصل نسبة فتكها إلى 50 في المائة، وكذلك مرض «نيوكاسل». وخلال ذلك تم تحديد نوعين على الأقل من الطيور المهاجرة، التي تمر طرقهما بشكل رئيسي عبر روسيا، كما تم تلخيص معلومات عن طرق هجرتها عبر دول أوروبا الشرقية. وأضافت الوزارة أن «من بين جميع الأساليب التي تم تطويرها في الولايات المتحدة لزعزعة استقرار الوضع الوبائي، تعد هذه الطريقة من أكثر الأساليب تهوراً وعدم مسؤولية، لأنها لا تسمح بالتحكم في تطور الوضع». ووفقاً للوزارة، تم هناك أيضاً تطوير مشروع يعتمد على الخفاش كناقلات محتملة لعناصر الأسلحة البيولوجية.

وتؤكد الوزارة أن لديها معطيات تدحض التأكيد الأميركي بأن هذه التجارب أجراها العلماء الأوكرانيين في مختبرات البنتاغون البيولوجية في أوكرانيا من دون تدخل علماء الأحياء الأميركيين. ولفتت إلى أن إحدى الوثائق تثبت أن جميع الأبحاث عالية الخطورة يتم إجراؤها تحت إشراف مباشر من جانب مختصين أميركيين. وتؤكد الوثيقة أن البنتاغون كان يسدد بشكل مباشر نفقات هذه البحوث. وتضمنت الوثائق مقترحات لتوسيع البرنامج البيولوجي العسكري الأميركي على الأراضي الأوكرانية.

وقال إيغور كيريلوف، قائد قوات الحماية من الإشعاعات ومن السلاح الكيماوي والبيولوجي في الجيش الروسي، إن البنتاغون أبدى الاهتمام بالحشرات التي تحمل العدوى خلال التجارب في مختبرات أوكرانيا، وتم نقل أكثر من 140 حاوية، بها براغيت وقراد، إلى الخارج من المختبر البيولوجي في خاركوف، قبيل اقتراب القوات الروسية من المنطقة.

وأضاف: «اهتم البنتاغون كذلك بالحشرات الناقلة للأمراض المعدية الخطيرة». بدوره، قال عضو مجلس الدوما (النواب)، نيكولاي نوفيتشكوف، إن روسيا قد تطلب عقد محكمة دولية بشأن المختبرات البيولوجية في أوكرانيا. وأضاف نوفيتشكوف أن «هذا أمر مخيف للغاية، وخطير جداً، ومن المهم جداً الآن الحصول على إفادات الشهود والعثور على دلائل مقنعة على البحوث التي جرت هناك».

مع هذا التطور، بدا أن موسكو تستعد لتصعيد تحركها في مواجهة التداعيات الاقتصادية القاسية التي سبّبتها العقوبات الغربية، بما في ذلك على صعيد انسحاب كبريات الشركات العالمية من السوق الروسية.

وأعلن أمس، أوليغ بافلوف، رئيس مؤسسة «مبادرة المستهلك» الحكومية، أن الحكومة الروسية ومكتب المدعي العام قد أرسلوا قائمة تضم 59 شركة يمكن تأميمها بسبب توقفها عن العمل في روسيا. ووفقاً للمسؤول، فهناك «59 شركة في القائمة حتى الآن، لكنها تتوسع اعتماداً على البيانات الجديدة من الشركات الأجنبية. ومن بين أولئك الذين ظهروا بالفعل في الوثيقة؛ فولكس فاغن، وأبل، وإيكيا، ومايكروسوفت، وآي بي إم، وشل، وماكدونالدز، وبورش، وتويوتا، وإتش آند إم، وغيرها». وأضاف أن «العمل جارٍ لإشراك وكالات إنفاذ القانون ووزارة الصناعة والتجارة والهيئة الفيدرالية الروسية لحماية المستهلك في العمل على هذه القائمة». ووفقاً له، فإن الحجم الإجمالي لجميع أصول هذه الشركات يتجاوز 6 تريليونات روبل، وهو ما يعادل عائداتها في روسيا على مدى السنوات الثلاث الماضية.

موضحاً أن «وضع هذه الشركات في القائمة السوداء لمكافحة العقوبات يعني بالنسبة للشركة المخالفة وإدارتها تحقيق المخاطر التالية؛ مصادرة الحسابات والأصول، وإدخال الإدارة الخارجية، وتأميم الممتلكات. كما يجوز للإدارة الخارجية التي تفرضها الحكومة الروسية لمتابعة عمل هذه المؤسسات، تحميل أطراف المسؤولية الجنائية عن الإفلاس المتعمد والاحتيال على نطاق واسع».

في وقت سابق، اقترح حزب «روسيا الموحدة» في البرلمان تأميم كل أصول الشركات الأجنبية التي أعلنت انسحابها من روسيا على خلفية الوضع في أوكرانيا. ووصفت موسكو فرض العقوبات الغربية بأنه «حرب اقتصادية شاملة شنّها الغرب على روسيا بمشاركة كل من الحكومات والشركات الخاصة». وقال مجلس الدوما إن المهمة الأساسية المطروحة تتمثل في «إنقاذ وظائف ملايين الروس ومنع الاقتصاد والإنتاج من الانهيار من الداخل». وشمل الاقتراح البرلماني «تأميم أصول الشركات». وقال برلمانيون روس: «نعلم أن هذا إجراء مشدد، لكننا لن نتسامح مع الطعنات في الظهر، وسوف نحمي شعبنا». في الوقت ذاته، حذّر الكرملين من «عواقب» سوف تتبع عمليات مصادرة الأملاك الروسية في الخارج.

وقال الناطق باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، إن «التأميم المحتمل للشركات الغربية في روسيا ومصادرة العقارات الروسية في الخارج يمكن أن يؤديا إلى تبعات سلبية متبادلة». ووفقاً لبيسكوف، فإن الحكومة الروسية تدرس «الخيارات كافة» للرد على العقوبات المفروضة على روسيا، وتتحسب لجميع سيناريوهات تطور الأحداث. وأشار بيسكوف إلى أن روسيا تواجه «حرباً اقتصادية غير مسبوقة». وفي هذه الظروف تتراجع قضايا الحفاظ على الجاذبية الاستثمارية لشركات الدول التي تشن تلك الحرب «إلى المرتبة الثانية أو الثالثة حتى الرابعة» في سلم الأولويات.

في غضون ذلك، عكست تصريحات وزير الخارجية سيرغي لافروف بعد لقاء مطول مع نظيره الأوكراني في أنطاليا، أمس، أن الطرفين فشلا في تقريب وجهات النظر في أول لقاء يجمعهما منذ اندلاع الحرب. ورفض لافروف اتهامات لبلاده بأنها «هاجمت أوكرانيا»، وقال إن موسكو «لا تنوي مهاجمة أي طرف، كما أنها لم تهاجم أوكرانيا، لكنها اضطرت للتحرك لصدّ تهديدات مباشرة لأمنها».

ميدانياً، واصلت القوات الروسية ومجموعات الانفصاليين تقدماً بطيئاً أمس، في بعض البلدات قرب دونيتسك، مع مراوحة الوضع العسكري حول المدن الكبرى المحاصرة. ونقلت وسائل إعلام أمس أن ماريوبول في الجنوب شهدت عمليات قصف مركزة خلال ساعات النهار، لكن الجانب الأوكراني أكد أنه أحبط محاولة للتقدم داخل المدينة. وأفاد صرح إيغور كوناشينكوف، المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية، في إيجازه الصحافي اليومي، بأن القوات المسلحة الروسية دمرت ما يقرب من 3000 منشأة عسكرية في أوكرانيا منذ بداية العملية العسكرية. وقال كوناشينكوف: «نتيجة للهجمات على منشآت البنية التحتية العسكرية الأوكرانية، دمرت 2998 منشأة عسكرية، منها 68 موقعاً أصابه الطيران العملياتي والتكتيكي الروسي خلال الساعات الـ24 الماضية، حدد منها منشأتين تابعتين لأنظمة القيادة والسيطرة، و12 موقعاً لوجستياً، و3 منصات لإطلاق صواريخ المضادة للطائرات». وقال الناطق العسكري إنه «إجمالاً، منذ بداية العملية، بلغت خسائر القوات الأوكرانية 98 طائرة، و110 طائرات بدون طيار، و144 صاروخاً مضاداً للطائرات للدفاع الجوي، و88 مركزاً للرادار، و1007 دبابات ومركبات قتالية مصفحة أخرى، و109 أنظمة إطلاق صواريخ متعددة، و374 مدفعية ميدانية وقذائف هاون، و793 وحدة من المركبات العسكرية الخاصة».

—————————

روسيا: لدينا مشترون للنفط حتى مع العقوبات

لافروف ينفي استخدام سلاح الطاقة

لندن: «الشرق الأوسط»

قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إن روسيا لديها عدد كافٍ من المشترين للنفط والغاز حتى مع فرض دول الغرب وحلفائها عقوبات رداً على غزو أوكرانيا، مؤكداً أن روسيا لم تستخدم قط إنتاجها من النفط والغاز كأسلحة.

ووفقاً لوكالة «بلومبرغ» للأنباء، قال لافروف يوم الخميس في إفادة صحافية في تركيا عقب اجتماع مع نظيره الأوكراني دميترو كوليبا «لن نقنع أحداً بشراء نفطنا وغازنا… إذا أرادوا استبدال شيء ما به، فنحن نرحب، وسوف يكون لدينا أسواق توريد، ولدينا بالفعل».

ومن جانبه، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اجتماع حكومي بعد أن حظرت الولايات المتحدة واردات النفط الروسية، إن بلاده تفي بالتزاماتها فيما يتعلق بإمدادات الطاقة. وأضاف، أن العقوبات الغربية على روسيا غير مشروعة، وأن الحكومات الغربية تخدع شعوبها، مؤكداً أن روسيا ستحل مشاكلها بهدوء. وفي كلمة له في الاجتماع نفسه، قال وزير المالية أنطون سيلوانوف، إن روسيا اتخذت تدابير للحد من تدفق رأس المال إلى الخارج، وإنها ستفي بالتزاماتها فيما يتعلق بالديون الخارجية بالروبل.

وتأتي البيانات في الوقت الذي تبحث فيه أوروبا، أكبر مشترٍ منفرد للطاقة الروسية، احتمالية حدوث اضطرابات في إمدادات الغاز مع استمرار الحرب في أوكرانيا.

وتحاول القارة، التي تعتمد على روسيا في نحو 30 في المائة من الغاز الذي تستهلكه، تقليل هذا الاعتماد من خلال الاستفادة من إمدادات جديدة، وتحسين الكفاءة واستخدام المزيد من مصادر الطاقة المتجددة.

وحظرت الولايات المتحدة الواردات الروسية من النفط وأنواع الوقود الأحفوري الأخرى، في خطوة أدت إلى ارتفاع أسعار السلع من الطاقة إلى المعادن وحتى الحبوب. وسارت المملكة المتحدة على النهج نفسه جزئياً، دون الوصول إلى حد فرض حظر كامل على واردات الغاز. وتتردد الدول الأوروبية الأخرى، التي تعاني بالفعل من أزمة في الإمدادات منذ أشهر، في اتخاذ خطوات مماثلة. ولكن هناك تجاراً وشركات نفط فرضوا عقوبات من تلقاء أنفسهم وأوقفوا حتى عملياتهم في روسيا تماماً.

وتجري روسيا، التي ترسل حالياً الغاز الطبيعي إلى الصين عبر خط «باور أوف سيبيريا» للغاز، محادثات مع الدولة الآسيوية حول اتفاق كبير آخر طويل الأجل للإمدادات عبر منغوليا.

وفي شأن ذي صلة، تقول شركة تكرير النفط المجرية «مول»، إن قرار الاتحاد الأوروبي المحتمل بقطع النفط الروسي يجب أن يأخذ في الاعتبار التأثير الاقتصادي الأوسع نطاقاً، حسبما قال عضو مجلس الإدارة جيورجي باكسا في مقابلة مع صحيفة «بولس بيزنيسو» في وارسو.

ونقلت «بلومبرغ» عن باكسا، إنه «لا ينبغي أن يحدث ذلك بناءً على قرار سريع؛ لأننا سوف نخاطر بنقص خطير وفوضى وتداعيات على القطاع». وأشار المسؤول إلى أن شركة «مول سوف» تلتزم بأي عقوبات، وهي مستعدة لسيناريوهات مختلفة، بما في ذلك إمداد مصافيها بالنفط عبر البحر الأدرياتيكي. وأدان باكسا بشدة القرار الروسي بشأن الحرب مع أوكرانيا.

وفي مقابل القطيعة الغربية، قال لافروف، إن بلاده لا تريد نهائياً الاعتماد على الدول أو الشركات الغربية مرة أخرى، مضيفاً أن الغرب يستخدم أوكرانيا لتقويض روسيا.

وفي هذا المسار، أضافت روسيا أكثر من 200 مفردة إلى قائمة السلع والمعدات التي كانت تستوردها روسيا في السابق من الخارج، والتي يحظر تصديرها من البلاد حتى نهاية 2022، بحسب وكالة أنباء «إنترفاكس».

ويعد تصدير السلع المدرجة على القائمة مقيداً بشكل مؤقت لكل الدول الأجنبية باستثناء الدول الأعضاء بالاتحاد الاقتصادي الأوراسي وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، بحسب وكالة ما نقلته «بلومبرغ». واتخذت روسيا أيضاً قراراً بتقييد تصدير أنواع معينة من الأخشاب.

كما أعدت وزارة النقل الروسية مشروع قرار حكومي يتيح لروسيا حيازة أسطول من الطائرات أجنبية الصنع، رغم العقوبات الغربية. ووفقاً لما نقلته وكالة «إنترفاكس» الروسية، فإن إعادة أي طائرة أو محركات طائرات مستأجرة سيتطلب موافقة من لجنة حكومية خاصة إذا ما أنهى المؤجر عقد الإيجار مع شركة الطيران بشكل مبكر وطلب بإعادة الطائرة أو المحرك.

وسيكون بإمكان شركة الطيران مواصلة استخدام الطائرة إذا لم توافق اللجنة الحكومية على الإعادة. كما يتيح القرار للشركات تسوية المعاملات مع المؤجر بالروبل. وينص مشروع القرار على سريانه على العقود كافة التي تم إبرامها قبل 24 فبراير (شباط) الماضي.

وكان الاتحاد الأوروبي حظر نهاية الشهر الماضي تسليم الطائرات المدنية وقطع غيارها إلى روسيا. وسيضطر المؤجرون إلى إنهاء العقود الحالية مع شركات الطيران بحلول نهاية مارس (آذار). تجدر الإشارة إلى أن معظم الطائرات التي تشغلها خطوط الطيران الروسية أجنبية الصنع، وخاصة من جانب «بوينغ» و«إيرباص».

—————————-

زيلينسكي: على الاتحاد الأوروبي أن يفعل المزيد من أجل أوكرانيا

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، اليوم الجمعة، إن على الاتحاد الأوروبي «فعل المزيد» من أجل أوكرانيا بعدما استبعد زعماء الدول الـ27 انضمامها السريع إلى الكتلة في اليوم السابق.

وصرح زيلينسكي في مقطع فيديو على «تلغرام»: «يجب بذل جهد أكبر… هذا ليس ما نتوقعه… يجب أن تتطابق قرارات السياسيين مع مزاج شعوبهم، الشعوب الأوروبية… على الاتحاد الأوروبي أن يفعل المزيد لنا، من أجل أوكرانيا».

وبدد رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي (الخميس) آمال أوكرانيا في انضمام سريع لعضوية التكتل، خلال اجتماع عاجل في فرساي لمناقشة انعكاسات الغزو الروسي لأوكرانيا.

وقال رئيس الوزراء الهولندي مارك روته لدى وصوله للمشاركة في المحادثات: «ليس هناك من مسار سريع». وأضاف: «أود التركيز على ما يمكننا فعله لفولوديمير زيلينكسي الليلة وغداً، وانضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي مسألة للمدى البعيد، إن حدث ذلك أصلاً»، وفق ما نقلته وكالة الصحافة الفرنسية.

وفي الفيديو نفسه، ندد زيلينسكي بروسيا وقال إنها تتعاقد مع مرتزقة سوريين من أجل «تدمير» أوكرانيا، بعدما أعلنت موسكو أنها ستسمح بإرسال مرتزقة سوريين للقتال إلى جانب القوات الروسية في البلاد.

وقال: «إنها حرب مع عدو عنيد جداً… قرر استخدام مرتزقة ضد مواطنينا… قتلة من سوريا، من بلد دمر فيه المحتلون كل شيء، كما يفعلون بنا».

واقترح وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو (الجمعة) إرسال سوريين إلى الجبهة الأوكرانية على الرئيس فلاديمير بوتين الذي وافق على الاقتراح في اجتماع لمجلس الأمن القومي.

—————————–

الملفات الإيرانية أمام تحديات الحرب الروسية على أوكرانيا/ فاطمة الصمادي

منذ بدء الحرب في أوكرانيا شهدت إيران نقاشات أخذت مسارات مختلفة في تفسيرها لأسباب الحرب وإسقاطاتها علی المصلحة الإيرانية في جوانبها الإقليمية والنووية. تسلِّط هذه الورقة الضوء علی المواقف الإيرانية من الحرب في جانبيها، الرسمي والنخبوي، وتبحث في إثرها عن الرابط المنسوج -بشكل حقيقي أو ذهني- مع إيران، كما يراه الإيرانيون، مجيبةً في النهاية بناء علی تنوع الرؤی عن الفرص والتحديات النابعة من تلك الحرب.

أنزل اجتياح القوات الروسية الحدود الأوكرانية، ولأول مرة منذ أشهر، ملف إيران النووي ومفاوضات فيينا من صدارة الأخبار الدولية وحَدَّ بشكل ملحوظ من التركيز الداخلي علی ذلك الملف. هي أزمة تعصف بأوروبا إلا أنها تضخ بإسقاطاتها علی إيران علی صُعُد مختلفة وبمستويات متفاوتة. فالأطراف الرئيسية الجالسة علی طاولة فيينا والمشغولة بالتفاوض حول النووي الإيراني هي ذاتها الأطراف المتحاربة في أوكرانيا. كما أن ذات الأطراف ترتبط بعلاقات شدٍّ وجذب في منطقة الشرق الأوسط -علاقات تعني إيران وأمنها القومي بشكل مباشر. ولذلك، ومنذ بدء الحرب شهدت إيران نقاشات مستمرة أخذت مسارات مختلفة في تفسيرها لأسباب الحرب وإسقاطاتها علی المصلحة الإيرانية في جوانبها الإقليمية والنووية. لذلك يجب الوقوف علی محاور تلك النقاشات لتكوين فكرة عن إسقاطات الحرب علی مصلحة وأمن إيران القوميين كما يراها الإيرانيون. نحاول في هذه الورقة تسليط الضوء علی المواقف من الحرب في جانبيها، الرسمي والنخبوي، ونبحث علی إثرها عن الرابط المنسوج -بشكل حقيقي أو ذهني- مع إيران كما يراها الإيرانيون، مجيبين في النهاية، بناء علی تنوع الرؤى، عن الفرص والتحديات النابعة من تلك الحرب.

محاور الموقف الإيراني وأسبابه

أتی الموقف الإيراني الرسمي في منطقة بين معارضي روسيا ومناصريها في حربها علی أوكرانيا؛ فقد كان التفهم الإيراني لمخاوف روسيا من تمدد حلف الناتو عنوانًا رئيسيًّا تخلَّلته تفاصيل أخرى. فقد غرَّد وزير الخارجية الإيراني، أمير عبد اللهيان، مثلًا ملقيًا اللوم علی الدول الغربية وحلف شمال الأطلسي “لإجراءاتهم الاستفزازية” موضحًا في الوقت ذاته أن “الحرب ليست حلًّا” وأنه يجب التركيز علی الحلول السلمية والديمقراطية(1). وكان الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، قد أعلن تفهمه لقلق روسيا الأمني “نتيجة إجراءات الولايات المتحدة وحلف الناتو المزعزِعة للاستقرار” في مهاتفة للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين(2). وكان المرشد الإيراني أكثر وضوحًا في طرحه الرؤية الرسمية لإيران بإلقائه اللوم علی الولايات المتحدة مباشرة بالقول: إن سياسة واشنطن هي التي أوصلت أوكرانيا للوضع الحالي وذلك عبر “التدخل في شؤونها الداخلية، وتأليب الشارع ضد حكوماتها، والقيام بحركات مخملية وانقلابات ملونة، وحضور نواب مجلس الشيوخ الأميركي في مظاهرات المعارضة، والذهاب بتلك الحكومة والإتيان بهذه الحكومة”، وغيرها(3). وإلی جانب ذلك، فقد أعرب عن معارضة إيران الحرب في أي مكان في العالم كموقف مبدئي.

2 آية الله خامنئي: “نظام المافيا” الأمريكي خلق أزمة أوكرانيا (الأناضول- مكتب المرشد الإيراني)

عند التمعن، يمكن رؤية ثلاثة أبعاد تتخلَّل تلك المواقف العامة. ويأتي عدم إدانة روسيا لشنِّها الحرب أولًا. ويمكن تحليل ذلك بالتركيز علی سببين: توخي إيران الحذر في علاقتها بالقوى الحاضرة علی طاولة فيينا وتلك القريبة من موقف طهران بشكل خاص، أولًا، والنأي بالعلاقات الثنائية عن الأزمة الأوكرانية خاصة في ظل استمرار العقوبات الأميركية علی إيران، ثانيًا.

أما البُعد الثاني في الموقف الإيراني فيتمثل بإدانة الدول الغربية وتمدد حلف الناتو كسبب رئيسي للحرب الأوكرانية. وإذ يمكن وصل هذا الموقف بالعداء المستمر بين طهران وواشنطن، إلا أن وقوف طهران إلی جانب القوى الصاعدة ومناصرتها لتلك القوى؛ وذلك لموازنة القوة المسيطرة (واشنطن) في المرحلة الانتقالية للنظام العالمي، سياسة لا تُخطئها العين فيما يخص الموقف من الحرب الأوكرانية وفي ملفات أخرى.

ويرتبط البُعد الثالث بعدم دعم روسيا وهو ما ظهر في تصريحات مسؤولي إيران كما في امتناعها عن دعم روسيا أمام قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المندِّد بالحرب علی أوكرانيا. فعلی الرغم من إدانتها الغرب لإثارة الأزمة عبر تمدد حلف الناتو وتفهمها لمخاوف روسيا الأمنية، لا يمكن لطهران تأييد انتهاك سيادة دولة مستقلة لوطأته الثقيلة علی الذاكرة الجماعية للإيرانيين، من جهة، ولمخاطر شرعنة هذا الانتهاك عليها وعلی محيطها، من جهة أخری.

ويمكن القول بأن الموقف الإيراني يعكس اهتمامات البلاد الدولية في المرحلة الحالية وهو ما يعكس مصالحها وأمنها القوميين. فالحياد حري بإبعاد إيران عن الولوج في مشادات غربية-روسية هي في غنی عنها. ورغم أنه يأتي غير ملائم مع قولها بضرورة احترام سيادة الدول المستقلة، إلا أنه لا يعني بالضرورة تأييدًا للحرب والطرف البادئ بها، أي روسيا. فتغليب المصلحة الوطنية يعني بالنسبة لطهران موازنة السياسة الأميركية المعادية عبر إقامة علاقات استراتيجية مع الأقطاب الصاعدة في النظام الدولي دون الانجرار خلف سياساتها، وجرى التذكير بذلك ردًّا علی اشتراطات موسكو الجديدة لتوقيع الاتفاق النووي(4). فذلك يدخل في خانة الأحلاف الاستراتيجية وغني عن القول: إن العلاقة الإيرانية-الروسية لم تصل لهذا المستوى.

محاور النقاشات الإيرانية

بينما يأتي الموقف الرسمي من الحرب منسجمًا مع علاقات طهران بالقوى الكبرى، تختلف الرؤى النخبوية في الداخل الإيراني حول الحرب وأثرها علی إيران ومصالحها. ويمكن تقسيم تلك الرؤى إلی عنوانين عريضين يضمان منتقدي السياسة الروسية -والموقف الإيراني من الحرب من جهة والمتمسكين بالحسابات الجيوسياسية المعقلنين سياسة طهران الرسمية تجاه الحرب- الذين نضعهم هنا تحت اسم الجيوسياسيين للاختصار.

يرى منتقدو السياسة الإيرانية أنه من الضروري لدولة كإيران مبدئيًّا، وذلك بناء علی استقلالها المرسوم في شعار “لا شرقية ولا غربية” ونظرًا لتاريخها الحديث -واحتلالها وانتهاك سيادتها وحيادها في الحربين العالميتين- أن تكون سبَّاقة في إدانة الحرب علی أوكرانيا باعتبارها انتهاكًا لسيادة دولة مستقلة. يرد الطرف الآخر بتأييد انتهاك الحرب لسيادة أوكرانيا لكن برفض اعتبار روسيا سبَّاقة في التطورات المنتهية للحرب؛ إذ من وجهة نظر هؤلاء، فقد وضع انقلاب 2014 وتمدد حلف الناتو روسيا أمام واقعين: القبول بمجاورة الناتو أو منع أوكرانيا من الانضمام له. لذلك، وفي ظل الانقسام القائم حول الحرب فإن أية إدانة تعني الوقوف في معسكر معاد لروسيا -ولإيران في ملفات عدة- وهو موقف يخرج من الإطار العام للمصلحة الوطنية.

ويرد المنتقدون بأن الوقوف في خانة روسيا أيضًا قد يضع إيران أمام عواصف مستقبلية ويتلقون الإجابة بأن إيران محايدة ولم تقف لجانب روسيا إذ نأت بنفسها في خطابها وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة. وترى المجموعة الجيوسياسية أن الحرب القائمة ذات أبعاد عابرة لمنطقتها الجغرافية في شرق أوروبا وقد تؤثر علی محيط إيران الجغرافي خاصة في الشرق الأوسط عبر انتقال إسقاطات التنافس علی مستوى النظام الدولي إليها. لذلك، يركز هؤلاء علی ضرورة عدم مجابهة روسيا -الطرف الأكثر قربًا بمواقفه من سياسة إيران-. كما تزداد أهمية روسيا في ظل علاقة العداء بين إيران والولايات المتحدة.

هذا، بينما يعوِّل المنتقدون علی انفراجة في الملف النووي تنهي عداء واشنطن تجاه إيران -ولو إلی حين- ويرون في السياسة الإيرانية تجاه الحرب الأوكرانية سببًا آخر لاستمرار الدول الغربية في معاداة إيران. وإذ يركز هؤلاء علی الاحتمالات المستقبلية في رؤيتهم تلك، يرد الجيوسياسيون بأن الواقع الحالي يفرض ضرورة عدم استعداء روسيا لأنها أحد الأطراف الداعمة لإيران في المفاوضات النووية -وتأتي بثقلها إلی جانب الصين لتوازن الضغوط الغربية- كما أن بمقدورها عرقلة المفاوضات إن هي أرادت.

وفي ذات السياق، يرىى المنتقدون أن الميل نحو موسكو يمكن أن يأتي علی فرص العودة للاتفاق النووي، ويقولون بناء عليه بضرورة اتخاذ إيران موقفًا أكثر توازنًا بين موسكو وواشنطن للحد من إسقاطات المواجهة الأوكرانية علی المفاوضات النووية. هذا، بينما يرد عليهم الفريق الآخر بأن الأطراف الغربية معادية لإيران بكل الأحوال ولن يغيِّر الموقف الإيراني من الحرب سياستها التفاوضية في فيينا. لذلك، وبدل التركيز علی إرضاء أطراف معادية، وجب عدم إثارة مشاكل في العلاقة مع الأطراف القريبة من الموقف الإيراني.

2 طهران شهدت تظاهرات مؤيدة لأوكرانيا (الأناضول)

بشكل عام، يمكن إعادة تقسيم الفريقين إلی فريق متفائل يری الموقف الإيراني موقفًا لابد منه تدفعه حقائق اللحظة الراهنة في السياق الدولي من جهة وفريق متشائم يرى في السياسة المتَّخَذة حاليًّا مساوئ قد تأتي علی مصالح إيران في المفاوضات النووية وكذلك علی مستوى الإقليم. يتلقف هؤلاء المتشائمون/المنتقدون أية فرصة للتذكير “بمطامع روسيا التاريخية” و”تصيدها الفرص ضد إيران” و”تركيزها علی مصالحها فقط” التي قد تأتي علی مصالح إيران وأنها في النهاية قوة دولية تبحث عن فرض الهيمنة والسطة. يرد الفريق المتفائل بأن البحث عن المصلحة وتصيد الفرص لبسط النفوذ إنما هو جزء من حسابات كل القوى العالمية وليست حكرًا علی روسيا. كما يشيرُ هولاء إلی تطورات النظام العالمي ووضع إيران الإقليمي والدولي قائلين بأن مرحلة الضعف الإيراني التي استخدمتها القوى الكبرى انتهت وأن النظام متعدد الأقطاب الصاعد سوف لن يترك مجالًا لأية قوة دولية للاستفراد بقوة إقليمية كإيران، وهي الدولة التي تركز في سياستها الدولية علی الموازنة بين القوى الكبرى بغية زيادة حيز المناورة لديها. وبين الفريقين تبقی الأسئلة عالقة حول الفرص والتحديات التي تأتي بها الحرب الأوكرانية علی إيران علی المستويات الإقليمية والدولية وعلی مفاوضاتها النووية.

الفرص والتحديات

زادت الحرب الأوكرانية الطين بلَّة بالنسبة لإيران المنهمكة في حياكة “اتفاق جيد” في فيينا. فهي لا تريد تعقيد علاقاتها بموسكو عبر أوكرانيا من جهة وتنظر إلی الحرب باعتبارها انتهاكًا لسيادة دولة مستقلة من جهة أخرى. وحتی لو نأت طهران بنفسها عن مساوئ الحرب المباشرة، فمن المرجح أن تصيبها شظايا الاصطفافات الدولية حول أوكرانيا عبر الاتفاق النووي علی أقل تقدير. وتطرح نقاشات الدوائر الاستراتيجية في إيران مجموعة من الفرص والتحديات تَمْثُل أمام إيران جرَّاء الحرب الأوكرانية. وكما هي الحال في النقاشات سالفة الذكر، تختلف الرؤى حول مخرجات الحرب علی المصالح والأمن القومي الإيرانيين.

تمحور حديث الفرص المنبثقة من الحرب حول ثلاث نقاط وتحليلات رئيسية. فالنقطة الأولی ارتبطت بواقع فرض الدول الغربية عقوبات جمَّة علی الاقتصاد الروسي؛ ما يضعها في نفس خانة الاقتصاد الإيراني المعاقَب بشكل واسع. ومن شأن ذلك تنشيط التجارة الإيرانية-الروسية بعيدًا عن هيمنة الدولار، وهي تجارة وصلت في العام الماضي إلی أربعة مليارات دولار. ويشير البعض إلی الفرص التي تأتي بها آليات مالية بديلة بين إيران وروسيا قد تشمل دولًا أخرى مستقبلًا وقد تشكِّل كتلة مالية مهمة أمام الدول الغربية خاصة إن انضمت لها الصين وإن بجزء من قدراتها المالية.

ثانيًا: مع تقليص أو قطع صادرات الطاقة الروسية إلی الدول الغربية -وهو أمر لم تتضح معالمه حتی الآن- تطمح طهران لسدِّ جزء من الفراغ في الأسواق العالمية(5). وإذ يتوقع الإيرانيون إلغاء العقوبات المفروضة علی صادراتهم من النفط والغاز، يركز المشككون بهذه الأطروحة علی واقع أن كلفة نقل الطاقة شرق الأوسطية والأميركية الباهظة إلی أوروبا ستؤدي إلی عودة أوروبا إلی الطاقة الروسية كما كانت قبل الحرب. كما يرى البعض أن لروسيا أدوات مهمة تمكِّنها من منع هذا التطور في سوق الطاقة وأنها ستمنع انتقال الأوروبيين إلی مصادر أخرى لاستيراد الطاقة. لكن وبشكل عام، يمكن توقع تصدير إيران كميات من الغاز والنفط إلی دول أوروبية كما كانت تفعل قبل إعادة فرض العقوبات الأميركية منذ 2018. بالإضافة لذلك، فإن الحرب بحد ذاتها قد أدت إلی ارتفاع اسعار الطاقة العالمية وهو ما يأتي لإيران بأرباح مهمة(6).

ثالثًا: وفي إطار أوسع، يرى بعض استراتيجيي إيران في الاصطفافات الدولية حول الحرب الأوكرانية مبعثًا لتسريع وتيرة الانتقال علی مستوى النظام الدولي وظهور نظام متعدد الأقطاب. وكدولة مأزومة العلاقة بالقوة المهيمنة علی النظام، ترى طهران في العودة لنظام تعدد الأقطاب مكسبًا استراتيجيًّا يرفع من قيمتها كقوة إقليمية، من جهة، ويضاعف حيز المناورة لديها بين القوى الدولية، من جهة أخری. وإذ يتفق السواد الأعظم من النخب الإيرانية علی تلك الأطروحة، إلا أن ثمة من يشكِّك في اعتبار روسيا قوة دولية. ويرى هؤلاء أن النظام الدولي الصاعد سيكون ثنائي الأقطاب تديره وتتنافس فيه كل من الولايات المتحدة والصين. والواضح أن هذه الملاحظة لا تأتي متعارضة مع تسريع الاصطفافات الدولية عملية الانتقال في النظام الدولي.

وتأتي التحديات بثقلها لتقلص مستوى التفائل لدى المركِّزين علی الفرص؛ فأولًا قد تغيِّر روسيا نهجها الداعم لإعادة العمل بالاتفاق النووي في مفاوضات فيينا، محاولةً استخدام المفاوضات النووية كورقة ضغط أمام الدول الغربية في المواجهة الأوكرانية والعقوبات المفروضة عليها. والواضح أن بمقدور روسيا وضع عراقيل في مسار فيينا، إن هي أرادت فعل ذلك، كإطالة أمد المفاوضات حتی انسحاب الأطراف الغربية لعدم جدوى التفاوض مثلًا. فهاهو وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يشترط(7) ضمان الولايات المتحدة عدم تأثير العقوبات المفروضة حديثًا علی روسيا سلبيًّا علی إلغاء العقوبات الإيرانية -أي ألا تتأثر تجارتها مع إيران نتيجة العقوبات الجديدة- كشرط لنجاح المفاوضات في فيينا.

وينظر الكثير من الإيرانيين بتوجس لهذا الشرط الذي يُبدي تغيرًا في نظرة موسكو تجاه المفاوضات النووية. وكانت طهران قد طالبت موسكو بتقديم إيضاحات حول هذا التصريح(8) -وهو ما لم يُقدَّم حتی كتابة هذه الورقة-. وبينما رأى البعض أن المطلب الروسي يخدم المصلحة الإيرانية في العلاقة مع موسكو أيضًا، إلا أن ثمة انزعاجًا إيرانيًّا كبيرًا من الشرط الروسي إلی حدِّ اعتبار البعض أن روسيا تحتجز الملف النووي كرهينة لأهدافها الخاصة(9). فهل يمكن أن تضحي روسيا بعلاقاتها مع إيران للضغط علی الدول الغربية أم إنها بحاجة إلی توسيع دائرة الدول الصديقة أمام الواقع المستجد من عقوبات وعزلة اقتصادية محتملة مستقبلًا. يتذكر الإيرانيون أن توقيع الاتفاق النووي لعام 2014 لم يأت إلا بعد انتهاء الأزمة الأوكرانية عام 2014. فهل سيبقی إحياء الاتفاق أيضًا رهن انتهاء روسيا من حربها في أوكرانيا؟ وماذا ستفعل روسيا إن لم تقبل واشنطن باشتراطاتها؟ يزداد التخوف في إيران بعد وصول أنباء -غير مؤكدة- عن طرح الصين شرطًا مماثلًا أمام الولايات المتحدة(10).

وثانيًا: تأتي الحرب الأوكرانية علی حلفاء الولايات المتحدة من الدول العربية ببواعث جديدة للقلق إثر مشاهدتها تردد واشنطن في مناصرة أوكرانيا أمام الاجتياح الروسي. فقد أدى حديث الانسحاب الأميركي من المنطقة سابقًا -وهو ما تكلَّل بالانسحاب من أفغانستان- إلی ارتفاع منسوب القلق وهو ما دفع بعض الدول العربية إلی البحث عن بدائل للولايات المتحدة لابتياع الأمن -وهو ما رشَّح إسرائیل لدی بعضها-. فالحرب الأوكرانية يمكن أن يكون لها مفعول مشابه للانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط من حيث دفع العرب للاحتماء بالمظلة الأمنية الإسرائيلية، وإن كان مبنيًّا علی حسابات خاطئة تضخِّم من مقدرة تل أبيب الأمنية والعسكرية ولا تأخذ بالحسبان إسقاطات المواجهات الإسرائيلية-الإيرانية عليها مستقبلًا. فباتضاح ضعف الالتزام الأميركي بأوكرانيا -وبصديقاتها العربيات بالتالي- وجب لبديل أن يحل محلها. أما نتائج ذلك مستقبلًا فيبدو أنه متروك للمستقبل لحله.

وثالثًا: فمن شأن الحرب الأوكرانية إدخال إيران في متاهات ضرورة الاختيار بين هذا وذاك إن طال أمد الأزمة، وهو ما تسعی طهران جاهدة للنأي بنفسها عنه حتی الآن. فازدياد شدة المواجهة وتوسعها سيؤدي بالضرورة إلی تحديد خطوط طرفيها إقليميًّا ودوليًّا وينهي إمكانية ترف الوقوف في خانة الحياد. بذلك، ومن المرجح حسب الخطاب الإيراني الذي تبنَّاه كل من المرشد الأعلی ورئيس الجمهورية أن تُعقِّد إطالة أمد الحرب العلاقة الإيرانية بالطرف الأوكراني وداعميه الغربيين أكثر من ذى قبل، وهو ما يمكن أن يأتي بإسقاطاته علی قضايا إيران الرئيسية في ملفها النووي وسياستها الإقليمية. 

ورابعًا: هناك من يتخوف من تمدد الحرب واتساعها وزيادة القوة المستخدمة فيها التي قد تصل لاستخدام السلاح النووي، كما لوَّح الرئيس بوتين(11) ، بينما يستبعد البعض الآخر أن تمتد الحرب للمناطق المحيطة بإيران. إلا أن الواضح أن تأزيم الموقف سيأتي بإسقاطات قد تعصف بالقوقاز وتأتي بثقل المواجهة إلی حدود إيران. وللموروث التاريخي وطأة مؤثِّرة علی المخيال السياسي الإيراني عند النظر إلی الحرب الأوكرانية؛ إذ بمجرد حصول مواجهات في أوروبا في الحربين العالميتين ورغم إعلان حيادها في الحربين الأوروبيتين، جرى احتلال إيران والتنكيل بمقاوميها من قبل القوى الأوروبية.

وخامسًا: إن الأمل بتصدير كمٍّ أكبر من النفط والغاز الإيرانيين في ظل الفراغ الحادث في الأسواق العالمية، وهو ما أدى لارتفاع أسعارها، يبقی تابعًا لمتغيرات أخرى كإلغاء العقوبات المفروضة علی إيران وهو مرتبط بإمكانية إحياء الإتفاق النووي في ظل الحرب الأوكرانية، ومدى تقبل روسيا ملئ الفراغ من قبل مصدِّرين آخرين دون محاولة عرقلة ذلك، ومدى ترحيب الدول الغربية وقبول واشنطن بشكل خاص ومدی تمكن إيران من ذلك خاصة في ظل حاجتها الملحَّة لاستثمارات هائلة في قطاعي النفط والغاز. من هذا المنظور، فإنه رهان غير جدي ومن شأنه تعقيد العلاقة بين إيران وروسيا دون الإتيان بالمرجو.

هو إذن تطور محفوف بالمخاطر علی إيران ومصالحها وأمنها وإن أتی ببعض الفرص غير المضمونة في نهاية المطاف.

خلاصة

لم تقم طهران بإدانة الحرب الروسية علی أوكرانيا بشكل واضح لكنها وفي نفس الوقت لم تعبِّر عن تأييدها لتلك الحرب بل ودعا قادتها لاتخاذ الطرق “السلمية والدبلوماسية” لإنهائها. أما بالنسبة لمسبِّبات الحرب، فقد ركزت إيران الرسمية علی إدانة الغرب، والولايات المتحدة بشكل محدد، لدأبها علی التمدد بحلف الناتو شرقًا وهو ما أدى لنشوب الحرب. أما علی المستوى النخبوي، فقد اختلفت الرؤى حول أسباب نشوب الحرب والموقف الرسمي لإيران كما حول الفرص والتحديات التي تطرحها الحرب بالنسبة لإيران. وثمة تخوف من تأثير الحرب الأوكرانية علی القضايا الإيرانية وبشكل محدد علی المفاوضات النووية في فيينا وهي المفاوضات التي تحضرها الأطراف المتجابهة في أوكرانيا. وكان المستجد في الموقف الروسي تجاه تلك المفاوضات قد أثار نقاشًا في إيران وصل لحد اتهام روسيا باحتجاز الاتفاق النووي كرهينة لتأمين مصالحها. وبين الرؤى المختلفة يبقی الأمل بإعادة العمل بالاتفاق النووي دون أن تؤثر عليه الحرب الأوكرانية أو بعد انتهاء الحرب في القريب العاجل، وهو أمر حدث له سابقة إذ لم يوقَّع الاتفاق النووي إلا بعد انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية في 2014.

نبذة عن الكاتب

باحثة وأستاذة جامعية أردنية مختصة في الشأن الإيراني، حاصلة على درجة الدكتوراه من جامعة علامة طباطبائي في إيران. لها عدد من الكتب والأبحاث المتعلقة بالشأن الإيراني. تعمل حاليا باحثا أول في مركز الجزيرة للدراسات وتشرف على الدراسات المتعلقة بإيران وتركيا ووسط آسيا.

مراجع

    بحران اوكراين ريشه در اقدامات تحريك آميز ناتو دارد (جذور الأزمة الأوكرانية تكمن في إجراءات الناتو الاستفزازية)، وكالة مهر للأنباء، 5 اسفند 1400. (تاريخ الدخول: 4 مارس/آذار 2022): https://bit.ly/3tAS8ZP

    رؤساي جمهوري إيران و روسيه درباره اوضاع اوكراين و مذاكرات وين گفت و گو كردند (حوار بين رؤساء جمهورية كل من إيران وروسيا حول الأوضاع في أوكرانيا ومفاوضات فيينا)، وكالة أنباء إرنا، 5 اسفند 1400. (تاريخ الدخول: 4 مارس/آذار 2022):  https://bit.ly/3hCwa2Z

    بيانات در سخنراني تلويزيوني به مناسبت عيد مبعث (تصريحات في خطاب متلفز بمناسبة عيد البعثة)، موقع خامنئي.آي آر، 10 اسفند 1400. (تاريخ الدخول: 5 مارس/آذار 2022):  https://farsi.khamenei.ir/speech-content?id=49680

    تهديد جديد در مسير مذاكرات وين/ درخواست دقيقه نودي روسيه (تهديد جديد في مسار مفاوضات فيينا/طلب روسي في الدقيقة تسعين)، صحيفة دنياي إقتصاد، 17 اسفند 1400. (تاريخ الدخول: 8 مارس/آذار 2022):  https://bit.ly/3vOs3sF

    فرصتها و تهديدهای جنگ اوكراين براي اقتصاد إيران (فرص وتحديات الحرب الأوكرانية للاقتصاد الإيراني)، وكالة أنباء تسنيم، 14 اسفند 1400. (تاريخ الدخول: 6 مارس/آذار 2022):  https://bit.ly/3vOsQK9

    المصدر السابق.

    لاوروف: از أميركا در مورد برجام تضمين كتبي خواسته ايم (لافروف: طلبنا من الولايات المتحدة ضمانات مكتوبة حول الاتفاق النووي)، 14 اسفند 1400. (تاريخ الدخول: 7 مارس/آذار 2022):  https://bit.ly/3HRpn00

    واكنش رسمي به سخنان لاوروف (رد رسمي علی كلام لافروف)، صحيفة دنياي إقتصاد، 17 اسفند 1400. (تاريخ الدخول: 8 مارس/آذار 2022):  https://bit.ly/37dxgjI

    روسیه برجام را گروگان گرفته است (روسيا تحتجز الاتفاق النووي كرهينة)، دنياي إقتصاد، 16 اسفند 1400،(تاريخ الدخول: 7 مارس/آذار 2022):  https://bit.ly/3hLbSnY

    محمد خواجوئي، “غيوم روسية في سماء «فيينا»: التفاؤل بالمفاوضات النووية لا يتبدد”، صحيفة الأخبار، 7 مارس/آذار 2022، (تاريخ الدخول: 7 مارس/آذار 2022):  https://bit.ly/376Vv2N

11-“Putin signals escalation as he puts Russia’s nuclear force on high alert,” The Guardian, February 28, 2022. https://www.theguardian.com/world/2022/feb/27/vladimir-putin-puts-russia-nuclear-deterrence-forces-on-high-alert-ukraine

ملامح العلاقات المغربية الإسرائيلية في سياق التطبيع: أصدقاء أم حلفاء؟

9 مارس 2022

الانسحاب الفرنسي من مالي: تحولات ميزان القوى أم حسابات جديدة؟

7 مارس 2022

الموقف التركي من الأزمة الأوكرانية وتداعياته على العلاقات مع روسيا والغرب

1 مارس 2022

——————————–

آثار القصف الروسي لمناطق في أوكرانيا

نتيجة حصول خطأ فني في القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة” نستمر في تغطية هذا الملف الحيوي هنا

=========================

تحديث 12 أذار 2022

———————–

بوتين ودكتاتورية الديمقراطية/ حسين عبد العزيز

يعدّ إجراء الانتخابات العتبة الرئيسية التي تفصل بين نظامين، استبدادي وديمقراطي. مع ذلك، ثمة فرق كبير بين إجراء الانتخابات وإن كانت منتظمة، وديمقراطية مرسّخة سياسيا وقانونيا واجتماعيا. وقد وصف عالم السياسة الأميركي، لاري دايموند، الديمقراطية الروسية بـ “الانتداب الديمقراطي”، فهي نمط من الديمقراطية الشكلية التي تخوّل الرئيس مركّزة السلطة بيده بشكل قوي إلى درجة تشل فيها الحياة السياسية.

اعتمدت استراتيجية بوتين، منذ وصوله إلى سدة الرئاسة، على منع تشكل قوى سياسية مؤسساتية أو اجتماعية تهدّد سلطته، فألغى الانتخابات الشعبية لاختيار الولاة في 98 منطقة، ثم أضعف بشكل قوي المجلس الفيدرالي، عبر تنحية 89 محافظا إقليميا انتخبوا بشكل مستقل، ورؤساء المجالس التشريعية الإقليمية المنتخبين، مستعينا بنموذج طبق في عهد إيفان الرابع (1530 ـ 1584)، مكونا من سبع مناطق، يرأس كلا منها مفوّض، معظمهم من الضباط العسكريين.

انتقل بوتين بعدها إلى ضبط المجتمع المدني، فأصدر عام 2006 قانونا لتنظيم شؤون المنظمات غير الحكومية، يطالب هذه المنظمات بتقديم تقارير سنوية عن أعمالها، وإلا تعرّضت للتصفية. في أثناء ذلك، توجّه بوتين إلى ضبط وسائل الإعلام ورجال الأعمال، فاستولت الحكومة عام 2003 على آخر شبكة تلفزيونية مستقلة TVS. وبعيد الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام 2004، اتجه إلى إضعاف المجتمع المدني، والمنظمات الفاعلة فيه، لمنعها من أن تتحوّل إلى قوة قادرة على حشد التأييد الشعبي.

يصف عالم السياسة الأرجنتيني، غييرمو أودونل، هذا النمط من الديمقراطية بـ “الديمقراطية التفويضية”، والتي بموجبها تتركّز السلطة في منصب الرئاسة، وتحول دون نشوء عمليات سياسية في المؤسسات التشريعية والقضائية، إنها محاولة مدروسة لإلغاء الفصل بين المؤسسات الديمقراطية الثلاث. وبحسب أودونل، تعني هذه “الديمقراطية” أن من يفوز بالانتخابات الرئاسية يستطيع حكم البلد بالطريقة التي يراها مناسبة، وبالحدّ الذي تسمح به علاقات السلطة القائمة طوال فترة الحكم التي انتخب فيها. والرئيس هنا تجسيد للأمة والوصي على المصلحة القومية التي يتحتم عليه تحديدها، وليس ضروريا أن يشبه ما يفعله في أثناء فترة الحكم، من قريب أو من بعيد، ما قاله أو وعد به خلال الحملة الانتخابية، فقد مُنح التفويض كي يحكم على النحو الذي يراه ملائما.

تنطبق “الديمقراطية التفويضية” انطباقا دقيقا على الحالة الروسية في عهد بوتين، كما على حالات عالمية أخرى (مصر عبد الفتاح السيسي مثال آخر). وفي هذه الحالات، ينظر إلى المؤسسات التي تجري فيها العملية السياسية (برلمان، أحزاب سياسية) بنظرة الريبة، لأنها أن تقوض الاستقرار والتنمية إذا ما قويت وبدأت تطالب بدولة القانون والمؤسسات وبليبرالية إلى جانب الديمقراطية.

عاشت روسيا نوعا من الليبرالية في ظل بوريس يلتسين، غداة انهيار الاتحاد السوفييتي، لكنها سرعان ما انتهت مع وصول بوتين إلى الحكم، وامتلاكه رؤية تعتبر الليبرالية خطرا يهدّد الحياة السياسية في روسيا القائمة على تقاليد تاريخية غير منسجمة معها. وعلى مدار العقد السابق، واظب بوتين التنديد بهذه الليبرالية، على اعتبارها منتجا غربيا لا يستقيم مع الثقافة الروسية.

في أول خطاب له بعيد تسلمه الرئاسة عام 2000، قال بوتين “تأسّست روسيا دولة شديدة المركزية منذ البداية، فهذا أمرٌ متأصل في جيناتنا وتقاليدنا وعقلية الشعب”. .. إنه منطق الأنظمة الاستبدادية التي تقدّم الاستقرار على مذبح الحرية، وهو منطق ما زال حيا من التجربة السياسية السوفييتية، حيث وجدت انتخابات تجري بشكل منظم، لكنها انتخابات لم تسمح لغير الحزب الشيوعي بالوصول إلى السلطة، ما يعني أن أحد أهم شروط الانتخابات الديمقراطية (التنافس بين قوى مختلفة) لم يكن موجودا على الإطلاق.

ما هي الأسباب التي منعت روسيا من تحقيق انتقال ديمقراطي جدّي خلال الثلاثين سنة السابقة؟ لا مكان هنا للإجابة. لكنّ ثمّة إرثا استبداديا وبنى سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تاريخية ما تزال تلعب دورا رئيسيا في منع هذا التحوّل، وهو ما يتضح على المستوى الشعبي بشكل قوي، حيث لم تنشأ قوى مجتمعية رافضة للبنية السياسية القائمة، على الرغم من التطور الذي حصل في الوعي المجتمعي الروسي. وهذا الوعي السياسي المجتمعي الضعيف هو الذي سمح لبوتين بسهولة العام الماضي بإجراء تعديلات دستورية تتيح له الترشّح لولايتين رئاسيتين إضافيتين، ما يفتح باب بقائه في الكرملين حتى العام 2036. وبموجب التعديل الدستوري الذي أقرّه البرلمان، “إن الحد لتولي ولايتين متتاليتين لا ينطبق على من شغلوا منصب رئيس الدولة قبل دخول تعديلات الدستور حيز التنفيذ”، ما يعني بداية جديدة لبوتين الذي أصبح رئيسا إلى الأبد عبر نفق الديمقراطية الروسية.

العربي الجديد

—————————-

القيصر فلاديمير بوتين

“الأوكرنة” في معجم الحروب/ بيار عقيقي

تعدّدت المصطلحات المنبثقة من لبّ النزاعات حول العالم، خصوصاً التي نشبت في الربع الأخير من القرن الماضي. ولم يكن غريباً إدراج مصطلح “اللبننة” في معجم لاروس الفرنسي، لتلخيص الصراعات في لبنان بين مجموعات في وطن واحد، تؤدّي إلى تفكك أركان الدولة. أما “الصوملة” فباتت مرادفةً للصراعات التي لا تنتهي في الصومال، بينما درجَ مصطلح “العرقنة” للإشارة إلى التراكمات المكثفة للنزاعات في العراق وتفرّعها. وفي البلقان، نشأ مصطلح “البلقنة” للدلالة على تفكّك دولة محورية إلى سبع دول، في ترجمة لتاريخ النزاعات الإثنية والدينية في مداخل أوروبا الجنوبية الغربية.

في أوكرانيا، لم ينبت المصطلح الرسمي بعد، المفترض أن يكون مغايراً لكل ما سبق. قد تكون “الأوكرنة” مزيجاً من مقاومة مدعومة من الغرب اقتصادياً وعسكرياً وإعلامياً. في المقاومة، يُقاتل الأوكرانيون قتال داود في مواجهة غوليات، يقودهم “قائد شجاع. ليبرالي وحرّ في العاصمة كييف”، رفض الفرار، مثل ما هرب قبله الرئيس الأفغاني، أشرف غني، في أغسطس/ آب الماضي من كابول. قد يُقال الكثير عن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ومنها أنه “عديم الخبرة، ومسرحيّ، وكوميدي، ويهودي، ونازيّ، وكان من الواجب عليه الخضوع لروسيا بدلاً من مواجهتها، وأنه دمية بيد الغرب”، وغيرها. في الواقع، كل ما كُتب ليس تهمة، باستثناء “النازية”، فزيلينسكي يمثّل كل عناصر الإنسان الذي يريد الحفاظ على حرية بلاده ومجتمعه بمقاومةٍ ستبقى في الذاكرة فترة طويلة، أمام جيش يريد “تصحيح التاريخ”، بحسب رئيسه فلاديمير بوتين. التاريخ وجهة نظر ويُكتب بأقلام المنتصرين، لا حقيقة ملزمة.

أظهرت “الأوكرنة” لنا نقاط ضعف الجيش الروسي بعد أكثر من أسبوعين على الغزو. اقتصادياً، لم يجر دعم أي بلد، سواء بمدّه بالأموال أو عبر فرض العقوبات على عدوّه، كما دُعمت أوكرانيا، خصوصاً في سياق فرض العقوبات على روسيا بشكل هائل، إلى درجة أنه لم يعد أمام موسكو مجالات واسعة للتحرّك، فإما أن تتحوّل إلى دولة فاشلة سريعاً، أو توسّع ساحات المعارك، أو الانسحاب الفوري من أوكرانيا. وكل كلام آخر عن “قدرة روسيّة على الاستمرارية الاقتصادية” ذرّ للرماد في العيون. والعقوبات الغربية، مع أنها نوع من تضامن دولي مجتمعي، إلا أنها مصلحيّة في زوايا عديدة لسببين. الأول أن الناس في الدول الداعمة لأوكرانيا قادرة، وبموجب الديمقراطية المعمول بها في أنظمتها، على محاسبة كل من يقصّر بمساندة أكبر دولة أوروبية أمام ثاني أكبر جيش في العالم. والثاني أن انتصار الروس في أوكرانيا يعني مزيدا من الضغط على العالم الغربي، وأوروبا تحديداً، وهو ما لا قدرة للمسؤولين الغربيين على تحمّله. الدعم ليس مجّانياً، فالغرب رأسمالي فاقع.

في “الأوكرنة” أيضاً، زخمٌ إعلامي واسع، لم تشهد مثله أي حرب في التاريخ، خصوصاً لجهة الاهتمام بالمواطنين الأوكرانيين ولجوئهم إلى دول الجوار، وملاحقة كل تفاصيل المعارك والقصف. في هذا الزخم، شَطَح إعلاميون غربيون بمصطلحاتٍ عنصريةٍ عن لاجئين شقر وبيض وأوروبيين “يشبهوننا”، في مأساة فكرية تُظهر فراغاً في التفكير المنطقي لكثيرٍ منهم، واعتمادهم فقط على صناعة الصورة من دون إدراك ما خلفها أو التمتع بثقافة مجتمعية. “الأوكرنة” ستُكرّس كـ”فطرة” مزروعة في مفهوم المقاومة، كما سبقتها مقاومة “الفييتكونغ” في فيتنام. لكن أيضاً سيُسجّل أن الأخبار والصور الزائفة انتشرت بقوة أكبر بكثير من السنوات الماضية. وفي المقابل، ارتفع مفهوم التدقيق في الأخبار المنتشرة، في مؤشّر إيجابي على عدم انسياق بعضهم سريعاً خلف أي قصة من دون التأكد منها.

قد تسقط كييف أو لا، لكن سقوطها لا يعني انتهاء القتال. كابول 1979 وكابول مجدّداً في 2001 وبغداد 2003 سقطت في البدايات، ثم استمر القتال سنوات طويلة قبل انسحاب الغزاة. لن تختلف أوكرانيا.

العربي الجديد

—————————

حرب أوكرانيا .. انكشاف الغرب أيضاً/ محمد ديبو

جاء في نهاية مقال سابق لي في “العربي الجديد”، حمل عنوان “معضلة بوتين“، “إن كان من خطيئة ما ارتكبها الغرب في هذا السياق، فهي في تغليبه البعد الأمني على مسألة الديمقراطية التي تتراجع في كل أنحاء العالم اليوم، نتيجة خذلان السياسات الغربية وتواطئها وهي تحصد ثمن هذا في أوكرانيا اليوم”.

ونظراً إلى أهمية المسألة في هذا الوقت الحسّاس الذي يعيشه مركبنا الأرضي، لا بد من توضيح أن ما يحصل في أوكرانيا اليوم، وإن كانت دكتاتورية الرئيس الروسي بوتين سببه المباشر، فإن ثمّة أسباباً غير مباشرة، وتصل إلى مرتبة الأخطاء الكارثية، كان قد ارتكبها الغرب الليبرالي خلال العقود الأخيرة، وهي على خلاف ما يجري الحديث بشأنه اليوم بكثافة، لا تكمن في الجيوبوليتيك (تمدّد حلف الناتو وعدم مراعاة مسألة الأمن القومي الروسي و…)، بل في البنية العميقة الحاكمة لتفكير العقل الغربي، فيما يتعلّق بماهية عالمنا كله، ومنه جنوب الكرة الأرضية وشرقها، وهي البنية التي ساهم غزو روسيا أوكرانيا في انكشافها وفضحها على الملأ اليوم.

أول هذه المسائل تتجلّى بما يمكن أن يُطلق عليه خيانة الديمقراطية، إذ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكّكه، لا سياسياً وجغرافياً فحسب، بل أيضاً فكرياً وإيديولوجياً عبر تهافت البنى الفكرية الشمولية المسفيتة التي حملت المشروع الاشتراكي برمته، خصوصاً في بعده التوتاليتاري الأمني (اعتقال، سجون، انعدام حرية الرأي ..)، لصالح تمدّد أفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان وانتشارها عالمياً، إذ أضحت (وبفعل من تسارع حركة العولمة والاتصالات وانفتاح العالم على بعضه) منذ تسعينيات القرن الماضي بمثابة مطلب عالمي جمعي أممي، يعمل أهل الشمال على ترسيخه وأهل الجنوب والشرق على الوصول إليه، ليس لأنها إيديولوجية المنتصر كما يرى بعضهم، بقدر ما إنّ التجربة بيّنت للبشرية بأسرها أنها حاجة عالمية ليستقرّ وضع العالم ويخرج من ميراث الحروب نحو أفق السلام، عدا عن أنّ الديمقراطية أفضل النظم التي اخترعها التفكير السياسي رغم كل مثالبها، ولعل المعاناة التي تعيشها الشعوب في ظلّ الأنظمة الشمولية (ونظام بوتين منها) في جنوب الكرة الأرضية وشرقها خير مثال على قوّة (وأحقية) المطالبة بها.

هنا، كان المأمول، أو المفترض، أن يعمل الغرب المنتصر بعد تسعينيات القرن الماضي على تعزيز مطالبات بلدان الجنوب والشرق بالديمقراطية ومساعدتها لتخطو خطواتها الأولى نحو برّ الأمان، لكن ما حصل هو العكس تماماً، إذ كان للغرب فيما يتعلّق بالديمقراطية سياستان، واحدة داخلية تختصّ بأهل الشمال والثانية خارجية تختصّ بأهل الجنوب، ففيما يتعلّق بالأولى جرى العمل على تعزيز الديمقراطية في بلدان الشمال وتطويرها، مع الجنوح نحو لبرلةٍ تميل لصالح رأس المال على حساب البعد الاجتماعي، الأمر الذي عزّز الديمقراطية وحقوق الإنسان في بلدان الشمال من جهة، وأظهر حدودها وضعفها وتراجعها من جهة أخرى أيضاً، وهو ما رأينا مؤشّرات عليه في وصول أمثال دونالد ترامب إلى السلطة وصعود اليمين وازياد التفاوت الطبقي وانحسار الحقول السياسية وشعبية الأحزاب السياسية، بالتوازي مع ضمور التفاعل الشعبي معها بعدما تحوّل الحقل السياسي إلى ساحة محتكرةٍ من مجموعة أحزاب لم تعد الفروق كبيرة بين يمينها ويسارها.

مقابل هذا التعزيز للديمقراطية غربياً، جرى التعامل مع باقي الكوكب على أنه باحة خلفية لهذه الديمقراطيات الغربية، وذلك عبر سياسة ازدواجية يعكسها خطابٌ ظاهري يطالب باحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان، فيما باطنه سياسات يومية تغلّب البعد الأمني ومكافحة الإرهاب ودعم الدكتاتوريات وخطاب المصالح في علاقتها مع دول الجنوب على خطاب حقوق الإنسان والحريات، ولعل السياسة الغربية (وتحديداً الأميركية) خلال الربيع العربي خير مثال على ذلك، حيث لم تعمل أيّة ديمقراطية غربية على تقديم دعم حقيقي لأي شعب لأجل تحقيق ديمقراطيته إلا بالكلام ولغة المصالح. هنا أخطأ الغرب كثيراً، إذ افترض أنه قادر على حماية ديمقراطيته بمعزل عن تمدّد الديمقراطية عالمياً، وهذا التراجع الغربي أو التلكؤ الغربي في دعم الديمقراطية والنضال لجعلها حقاً لكل أهل الكوكب، ساهم في انتعاش الشموليات وسمح للدكتاتوريات العالمية القوية (روسيا، الصين، إيران ..) بالتمدّد وتخريب المنطقة، إلى أن فوجئ الغرب بالغزو الروسي لأوكرانيا.

والحقيقة الماثلة هنا أن هذه السياسات الغربية قد تكون ناجمة عن أمريْن: الأول كيفية وعي المركزية الغربية ذاتها، والتي ترى أنها الأصل فيما الباقي فروع، فالذهنية الحاكمة للعقل السياسي الغربي لا تزال في كثير من أسسها قائمةً على افتراض أن شعوبها تستحق الديمقراطية وتقبل بها ضمناً، في حين أن شعوب المعمورة غير مؤهلة للديمقراطية، وهي تتشابك بهذا الوعي مع وعي الدكتاتوريات شعوبها. وعليه، يتم ترك هذه الشعوب “الثانوية” و”الزائدة عن الحاجة” لمصيرها وحروبها التي لا تكون من دون دور دول الشمال فيها أيضاً، وهو ما يوصلنا إلى المسألة الثانية، إلى أنّ الغرب لم يخرج كلياً من ميراث الاستعمار في نظرته إلى منطقتنا ومناطق الجنوب، بل إن مراقبة حركة السياسة الغربية تجاه منطقتنا وحركتها فيما بينها فيما يتعلق بقضايا منطقتنا يبين هذا الأمر، وهذا ما يفسّر تساهل السياسة الغربية مع التدخل الروسي في سورية، وصدامها مع التدخل نفسه في ليبيا، فضلاً عن الاعتراف بالدور الفرنسي الاستعماري في أفريقيا والوصائي في لبنان.

أيضاً، ثمّة مسألة أخرى تتعلق بهذا السياق، وأساءت لمسألة الديمقراطية كثيراً، وهي تغليف المصالح والحروب الغربية في منطقتنا بالدعوة إلى الديمقراطية، وهو ما بات يطلق عليه سخرية “ديمقراطية الدبابة” كما شهدنا في غزو العراق 2003، وفي غزو حلف الناتو ليبيا. وعلى مقربة من هذا، هناك تحالفات الحرب على الإرهاب التي تتشكل هنا وهناك أيضاً، وهي في العمق مجرّد عصا غربية استعمارية لخدمة مصالح السياسات الغربية، الأمر الذي يبيّن حقيقة السياسات الغربية فيما يتعلّق بمسألة نشر الديمقراطية في الجنوب، وهو ما أساء للديمقراطية من جهة، وشكّك بكل الدعوات الصادرة عن الغرب في هذا الشأن من جهة ثانية، وأضعف من مسألة تعزيز الديمقراطية في العالم، وهو تراجع يشهده العالم، حتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا (مؤشّر الديمقراطية لعام 2021)، الأمر الذي يبيّن الدور الغربي في مسألة تراجع الديمقراطية هذا، وهو تراجعٌ سكت عنه الغرب تحت وطأة نظرة المصالح الضيقة، متوهّماً أنها لن تطاوله إلى أن فوجئ بالحرب على أبوابه.

المسألة الثانية التي كشفتها الحرب الأوكرانية اليوم، وهي ناجمة بهذا القدر أو ذاك عن نظرة المركزية الغربية لذاتها، العنصرية والتفرقة بين البشر بناء على لونهم أو عرقهم أو أصلهم، فعملية فرز البشر على الحدود بين أبيض وأي لون آخر، لا مسمّى لها سوى العنصرية، وليست صادرة إلا عن فكرٍ يؤمن بالعمق بأنّ حياة الأبيض أفضل وأحق وأوْلى وأجدى بالحماية من حياة الآخرين، فدول الشمال التي فتحت حدودها للاجئين الأوكرانيين هي ذاتها من تموّل مخيمات احتجاز اللاجئين في ليبيا، وهي من تدفع إلى تركيا ودول أخرى كي تبقيهم لديها، الأمر الذي يجعل من حقوق الإنسان مجرّد نكتة سخيفة هنا، خصوصاً إذا عرفنا أنّ السياسات الغربية ذاتها لعبت دوراً كبيراً في تخريب هذه البلدان، كما في تدخل “الناتو” في ليبيا وفرنسا في أفريقيا، وأميركا في العراق وتحالفات الحرب على الإرهاب التي تضرب هنا وهناك مخلّفة الضحايا والمجازر من دون حساب أو رقابة (من يحاكم أميركا على مجازرها في العراق والصومال وليبيا واليمن وسورية؟ من يحاكم فرنسا على سياستها في إفريقيا وليبيا؟…). وهذا كله ليس ناجماً إلا من رؤية الغرب إلى ذاته مركزاً فيما باقي العالم هوامش له، وعن هذا تنجم السياسات التي ترى في حقوق الإنسان والديمقراطية حقاً أصيلاً لشعوبها فيما ليست هي كذلك لباقي الكوكب، إلا على مستوى الخطاب الذي انكشف زيفه اليوم بوضوح، وتعامى عنه الغرب، حتى بات مهدّداً في عقر داره من الشموليات التي سكت عنها بنفسه من جهة، ونتاجاً لسياساته الازدواجية من جهة أخرى.

يطرح هذا الواقع أسئلة كثيرة، منها: هل يقدر الغرب على الخروج من رؤيته هذه تجاه أهل الجنوب والشرق؟ خصوصاً أن الأمر بعمق محكومٌ ببعده الاقتصادي الذي يميل صالحه إلى أهل الشمال؟ وهل يمكن لهذه الديمقراطيات الغربية أن تنعم بالرفاه الاقتصادي الذي عرفته، وتستمر باستقرارها لولا الاتفاقيات الاقتصادية المجحفة بحق دول الجنوب والشرق، ومنع توطين التكنولوجيا وتطوير اقتصاداتها إلا من داخل نمط الهيمنة الغربي؟

تتطلب الإجابة عن الأسئلة السابقة قبول الغرب بالاعتراف المتوازي والمتساوي لكل سكان هذه المعمورة بحقوق اقتصادية متوازية (العمل، التأمين الصحي، الغذاء الجيد..)، وهذا لا يمكن أن يكون مع الاتفاقيات الاقتصادية المجحفة، والتي تميل لصالح دول الشمال، كما تتطلب الاعتراف بأن الديمقراطية حقٌّ لكل سكان الكوكب، بعيداً عن ديمقراطية الدبابة أو الحرب على الإرهاب، وبعيداً عن دعم الدكتاتوريات وحمايتها في مجلس الأمن بحق الفيتو (وهو أمر تستخدمه الدول الخمس كلها ليس روسيا وأميركا فحسب)، وبعيداً عن بيع السلاح وأدوات المراقبة والضبط. هل يمكن لمن يبيع السلاح الذي يحقّق رفاهاً اقتصادياً في الشمال، ومجازر وحروباً ودكتاتوريات في الجنوب والشرق، أن يكون ديمقراطياً وملتزماً بحقوق الإنسان حقاً؟

لا يمكن تحقيق أي نظام عالمي جديد يجرى الحديث عن ولادته اليوم بكثرة من دون النظر إلى الكرة الأرضية بأسرها على قدم المساواة، عبر حق الجميع بالعمل والصحة والتعليم والأمان، وهذا (كما أثبتت التجارب) لا يتحقّق إلا بعولمة الديمقراطية ودمقرطة العالم، وهذا يتطلّب من الغرب التخلّي عن مركزيته وعدم استغلال قضية الديمقراطية في إطار مصالحه الضيقة، والتي يدفع ثمنها اليوم في أوكرانيا. وقد يدفع ثمنها غداً من أمنه وعلى أراضيه، خصوصاً أنّ أكثر من ثلث سكان العالم يعيش في ظل أنظمة دكتاتورية (مؤشّر الديمقراطية) محكومة من دول مثل روسيا والصين وإيران اللاتي تعتبر الداعم الأكبر لدكتاتورياتٍ أخرى، وهي دولٌ يقيم الغرب الديمقراطي علاقاته معها من تحت الطاولة، ويتغاضى عن جرائمها وسجونها وانتهاكها حقوق الإنسان، بل ويبيعها الأسلحة ومعدّات المراقبة، وذلك بحجة محاربة الإرهاب.. وهذا ما يجب إنهاؤه، إن كنا نريد حقاً نظاماً عالمياً جديداً. ما عدا ذلك ليس سوى قديم يعيد إنتاج نفسه. وفي المرة الثانية، ودائماً، على شكل مهزلة، فهل هناك شيء أشد مهزلةً مما يحصل الآن، دولة تغزو دولة أخرى في القرن الواحد والعشرين، لنحصد مليوناً ونصف مليون لاجئ خلال أسبوع؟!

————————–

معضلة بوتين/ محمد ديبو

على خلفية تصاعد الصدام بين الغرب وروسيا، وبعد دخول روسيا إلى أوكرانيا في احتلال عسكري يذكّر بأزمنة الاستعمار ومناخات بداية الحرب العالمية الثانية، تتحدث أصواتٌ كثيرة عن مشروعية التحرّكات الروسية أو أحقيتها لمواجهة تقدّم حلف الناتو ودول أوروبا باتجاه حدودها أو تهديد أمنها القومي، مضافة إليه تبريرات كثيرة تتعلّق بعدم احترام الغرب تعهداتٍ قطعها لموسكو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بعدم ضمّ الدول المستقلة إلى منظومته الأمنية والعسكرية، بل ذهبت تحليلاتٌ أبعد من ذلك، حين رأت أن حلف الناتو كله لم يعُد له مبرّر، وبالتالي، فإن السلام العالمي يتطلّب حل هذا الحلف.

قد تكون الحجج أو الذرائع السابقة محقّة وقد تكون لا، وعلى افتراض صحتها، نكون أمام سؤال: هل حقا تُحل مسألة روسيا والرئيس بوتين لو احترم الغرب تعهداته وابتعد عن الحدود الروسية؟ وهل المسألة هنا أساسا أم في مكان آخر؟ تتعامى أغلب هذه التحليلات عن جوهر المشكلة، إن المشكلة القائمة اليوم في روسيا، وهي مشكلة عالمية بامتياز أيضا، تتجلى في المعاندة الروسية لروح العصر المتمثلة بالديمقراطية، وفي قيادتها إلى جانب الصين المعسكر المعاند للثورات والتغيير، وذلك تحت شعارات شتى، لا تذكّرنا إلا بشعارات الأنظمة العربية، التي شنقتنا باسم تحرير فلسطين والقومية العربية والأمن العربي وغيرها من مفردات يستمدّها فلاديمير بوتين اليوم من أرشيف الحرب الباردة، ومن مفردات المعجم السوفياتي العقيم، محاولا بث الروح فيها لشدّ وشحذ الهمم.

مشكلة بوتين الأساسية لا تكمن في أنّ الغرب قد أخلّ بتعهداته تجاه موسكو، أو في عدم أخذه المصالح الروسية بالاعتبار، فهذا طالما كان جزءا أساسيا من عالم السياسة وصراعاتها، حيث تسعى كل دولة إلى تحقيق مصالحها. وعليه، ومن هذا الباب، يحقّ لبوتين الدفاع عن مصالح روسيا بوجه خصومها، ولا شك في هذا. المشكلة الأساس ليست هنا، بل في كيفية خوضه تلك المعركة، ومن أي موقع.

يخوض بوتين معركته ضد الغرب الديمقراطي من موقعه دكتاتورا يسعى إلى تثبيت أركان حكمه، بل هو لا يتورّع عن الإعلان عن إفلاس الديمقراطية الليبرالية، ساعيا إلى فرض نظام بديل عنها، هو النظام الدكتاتوري الفردي الأمني الذي أقامه في بلاده، والذي لا يتورّع عن تغيير الدساتير والقوانين بما يتلاءم مع شخصه في البقاء إلى الأبد في سدّة الرئاسة، بما يعني أن بوتين لا يتورّع عن توظيف كل شيء في خدمة هذه المعركة التي لها الأولوية على أيّة معركة أخرى، وكأنّ كل الدروس المستفادة من هزيمة التوتاليتارية السوفياتية، وفي كل أنحاء العالم، ومن الأثمان التي نراها أمام أعيننا من هيمنة السلطويات العربية، قد ذهبت هباءً، حيث علمتنا التجارب أنّه لا يمكن لشعب مقموع مواجهة “المؤامرات المحاكة” ضد بلاده، وأن “الطغاة يجلبون الغزاة” وليس العكس أبدا، لأن الاستبداد لا يفعل إلا تجفيف منابع المقاومة في الداخل، وتحويل الشعوب إلى أدوات لمشروع الدكتاتور الذي تتعاظم حاجته يوما بعد يوم إلى معارك خارجية وبهلوانيات سياسية لتحفيز الشعور القومي وشحذ الهمم خلف قيادته. أليس هذا ما تقوم به بهلوانيات بوتين التي يطلّ بها علينا بين فينة وأخرى؟

قد ينتصر بوتين في معركته في أوكرانيا وقد يخسر، وقد يهين رؤساء آخرين، كما أهان مرؤوسيه وفعل مع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وقبله الدكتاتور السوري بشار الأسد في أكثر من مناسبة، ولكن هذا كله وغيره لا يغيّر من حقيقة أن بوتين دكتاتورٌ يسعى إلى إقامة إمبراطورية دكتاتورية تحت اسم استعادة المجد السوفياتي أو القيصري، أو استعادة كرامة روسيا الدولية، ولو كان هذا على حساب الشعب الروسي والشعوب المجاورة، ففي مثل هذا العقل، لا تغدو الشعوب أكثر من بيادق لتحقيق الطموحات القومية التي تتخفّى في ظلها إرادة الدكتاتور للقبض على الحكم. هذه هي المسألة، وسواء انسحب بوتين من أوكرانيا لاحقا أم لا، وسواء تراجع الغرب أمام المطالب الروسية أم لا، فإن بوتين مهزومٌ في نهاية المطاف وعلى المدى الطويل، لأن التاريخ، علمنا، وبالتحديد التاريخ السوفياتي، أن من يصادر حرية شعبه لا ينتصر أبدا، ولو غزا العالم بأسره، أو ليس هذا ما فعله، حين اعتقل المعترضين على حربه على شعبٍ كان مائة عام، وربما أكثر، شعبا واحدا مع شعبه!

وإن كان من خطيئة ما ارتكبها الغرب في هذا السياق، فهي في تغليبه البعد الأمني على مسألة الديمقراطية التي تتراجع في كل أنحاء العالم اليوم، نتيجة خدلان السياسات الغربية وتواطئها (ولهذا حديث طويل)، وهي تحصد ثمن هذا في أوكرانيا اليوم.

————————–

فلاديمير بوتين وبشار الأسد

أرباح بشار الأسد من أوكرانيا/ عمر قدور

لو خرج بشار الأسد نفسه في مقدمة المسيرات المؤيدة لبوتين في مدن سورية لما كان ذلك مستغرباً؛ إنها مسيرات تعبّر عن فرح حقيقي، تعبّر عن فرح بشار بالحرب الحالية على أوكرانيا، وليست فقط على سبيل مجاملة “الحليف” الروسي. تفاصيل أخرى من قبيل إجبار الطلاب والموظفين على الخروج فيها ينبغي ألا تكون مدعاة للضحك أو السخرية بحكم رسوخها كتقليد معمول به منذ عقود، وحتى “طرافة” الخروج في مسيرات تؤيد الحرب والعدوان على بلد آخر، بدل ستر الفرحة بالصمت، ستكون مألوفة في بلد شهد في الأمس القريب تشجيعاً علنياً على إبادة سوريين آخرين.

في الأيام الماضية تفاقمت حدة الغلاء المتفشي أصلاً بالقياس إلى الدخل، والتبرير هو الحرب في أوكرانيا، وكما هو معلوم كانت من قبل الأوضاع المعيشية المزرية سبباُ لانتفاضة الأهالي في السويداء. أكثر من ذلك، يتداول السوريون في مناطق سيطرة الأسد تبريراً للغلاء وفقدان بعض السلع بأنه جراء إرسال مساعدات إلى روسيا. أن يرسل بلد منكوب بالمجاعة مساعدات غذائية، هذه بدورها ليست نكتة أخرى، ولا هي بالمفارقة المحرجة لبشار أو بوتين إن حدثت. المكسب الذي جناه بشار بلا جهد أو مقابل أن تُرمى أسباب الغلاء على حدث خارجي دولي، ليكون الحل معلّقاً على تطورات ذلك الحدث وآفاقه، وكأنه في الأصل قدر لا مسؤولية له عنه ولا حيلة له إزاءه.

وأن يطول أمد الحرب في أوكرانيا، أو أن تطول المواجهة بين روسيا والغرب على مختلف الأصعدة، ففي ذلك استفادة للأسد تتجاوز رمي أزمته الاقتصادية على أزمة أخرى. إنه يستفيد من أي توتر بين بوتين والغرب، بقدر ما يخشى تقارباً بينهما قد يؤدي إلى التضحية به كحد أقصى، أو إلى إجباره على تجميل وجهه بما لا يطيقه. بدءاً مما هو عام، يستفيد بشار، ومن هم على شاكلته، من عالم فيه أزمات وحروب دولية وداخلية أكثر مما يناسبه عالم مستقر تتصدره لغة السياسة والسعي إلى الاستقرار. الاستبداد وصفة مجرَّبة لنشوب الحروب والأزمات، وللتعيش عليها لاحقاً.

الحالة الأوكرانية أقل عمومية، فهناك سعي مكشوف من بوتين إلى تعيين دمية أوكرانية في منصب الرئاسة، طُرح مثلاً اسم الرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا والذي فرّ إليها بعد إطاحته من منصبه وطُرح أيضاً اسم موراييف البرلماني السابق والخاسر في انتخابات الرئاسة الماضية بجدارة. مكسب بشار من هذا السعي أن مَن يريد تعيين دمية في أوكرانيا لن يضحي به في سوريا، فتكرار تدخلات بوتين لدعم قادة موالين له أو احتلال بلدان لتنصيبهم يعزز من هذا النهج كعقيدة، وقبل غزو أوكرانيا قدّم بوتين مثالاً آخر في مطلع العام بدعمه عسكرياً رئيسَ كازاخستان قاسم توقاييف في مواجهة المحتجين على حكمه.

من المؤكد “إذا فكر على هذا النحو” أن يفرح بشار بالقرابة بين سلطته وبين نظام بوتين، حيث “مع حفظ الفروقات بين حجمَي الدب والنملة” هناك في الطرفين حكم القلة الأوليغارشية التي لا مشروع لها على الإطلاق سوى معاداة الحرية والديموقراطية. القرابة المستجدة بخضوعهما للعقوبات الدولية لن تكون مثار اعتزاز مصدره التشابه الشكلي فحسب، فهي أيضاً ستدفع بوتين أكثر من أي وقت مضى للتمسك بأماكن نفوذه، ومن يمثّل سطوته فيها، وليس أفضل ممن امتُحن مرات ومرات بابتلاع الإهانات البروتوكولية واللفظية المتعمدة. 

وكما نعلم، لا تربط بين هذا النوع من الحلفاء علاقات قائمة على الثقة ولا على الإخلاص. ومع تذكر الجهود التي بُذلت لإبعاد بشار عن طهران، والعصا الإسرائيلية والجزرة العربية الموضوعتين على الطاولة، يجوز له تخيّل سيناريو لاحتدام المواجهة بين بوتين والغرب تدفع الأخير إلى محاولة اجتذابه في تكرار لمحاولات إبعاده عن طهران. العبرة لن تكون في نجاح مثل هذه المحاولات، هي في تقويته أمام بوتين لا أكثر.

ثم إن المواجهة الحالية تأتي في وقت تشارف فيه الإدارة الأمريكية وطهران على العودة إلى الاتفاق النووي، وهذا مدخل متوقع لتتساهل إدارة بايدن أكثر فأكثر مع النفوذ الإيراني عليه على حساب النفوذ الروسي، على عكس ما كان سائداً لسنوات. ولئن كان اللعب بين الحليفين هو أفضل وضع متاح من أجل بقائه، فإن مواجهةً بسبب أوكرانيا مع اتفاق نووي مع إيران هما بمثابة فرصة لبشار كي يستفيد من اللعب على الحبلين، يسانده من دون قصد استهداف واشنطن واحداً منهما واستهداف إسرائيل الحليفَ الآخر.

لكن لأرباح بشار من أوكرانيا حدود، أهمها التراجع غير المسبوق لفرضية الانسحاب الأمريكي من سوريا، وهي فرضية توارت قبلاً مع المآخذ على طريقة الانسحاب من أفغانستان، لتصبح غير متوقعة إطلاقاً في الظروف المستجدة طالما أن أي انسحاب من سوريا سيكون لمصلحة بوتين. على صعيد متصل، ربما تفرض المستجدات عودة قليل من الدفء إلى العلاقات بين واشنطن وأنقرة، مع غيابه عن خط واشنطن-موسكو، ما يقلل من قدرة بوتين على ابتزاز أردوغان في مناطق نفوذه في سوريا. أي أن خريطة تقاسم النفوذ مرشّحة للبقاء على حالها طالما بقيت الأوضاع الدولية متأزمة، وبموجبها سيبقى بشار خاسراً مناطق الثروات النفطية والمائية والزراعية.

واحد من الاحتمالات أن ينهي الغرب تفويض بوتين في سوريا من دون الصدام معه، فيكتفي بإغلاق تمثيلية العملية السياسية، وهو غير منخرط فيها أصلاً، ويغلق معها الأحاديث عن إعادة تدوير الأسد وإعادة الإعمار، خاصة أن دوله لم تعد مستعدة اقتصادياً لتحمل أعباء إضافية. ولا يُستبعد الدفع إلى الواجهة بجرائم الحرب ومنها استخدام الكيماوي في سوريا، إذا تكرر استخدامه في أوكرانيا مع تلميحات موسكو إلى وجوده لدى الأوكرانيين، بمعنى أن بوتين سيؤذي مستقبل بشار بقدر ما يسلك هو سلوكاً أسدياً في حربه. الواقع أن الاحتمالات على المدى البعيد، في حال حدوث المواجهة لن تكون مربحة لبشار بقدر ما تبدو الآن، ومؤقتاً، وأهونها ألا يحدث شيء على الإطلاق، فتترك له مناطق سيطرته ليتنازع عليها مع طهران وموسكو، مع التنويه بأن تكرار الغارات الإسرائيلية لم تعد حدثاً يحظى بالاهتمام.

المدن

——————————–

في بعض أسباب الحرب الروسية على أوكرانيا/ حسان الأسود

بدا من المفاجئ لمعظم القادة الأوروبيين هذه الحرب التي شنّها الرئيس الروسي على أوكرانيا، فعلى سبيل المثال كانت صدمةُ قادةِ ألمانيا وسياسييها كبيرة جداً، فلم يكن أحدٌ منهم يتوقّع أن تنزلق الأمور إلى هذا الحد من التصعيد. فألمانيا التي كانت السبب في حربين عالميتين، والتي ابتعدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عن الانخراط في سباق التسلّح، والتي تربطها بالاتحاد الروسي علاقات اقتصادية كبيرة ومتشعّبة – ليس أقلّها أنّ المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر يرأس حالياً شركتي روس نفت ونورد ستريم 2 – أخذ برلمانها يوم الأحد بتاريخ 27/2/2022 في جلسة استثنائية قرارين هامين، أولهما إقرار مبلغ مئة مليار يورو لتسليح الجيش الألماني من موازنة 2022 ووضع خططٍ لرفع الميزانية المعتمدة للدفاع، وثانيهما البدء بإنشاء محطتين في مدينة هامبورغ الساحلية لاستقبال الغاز المُسال بهدف الخروج من العباءة الروسية.

لو استعرض المرء مجمل الخطوات التي أقدمت عليها دول أوروبا المنضوية في الاتحاد وغير المنضوية أيضاً، وحتى الحيادية منها مثل السويد والنرويج وفنلندا، سواء لناحية إغلاق المجال الجوي لهذه الدول أمام الطيران الروسي، أو تجميد الأصول الروسية، أو سحب الاستثمارات الأوروبية من روسيا، أو إخراج بعض بنوكها من نظام سويفت للعلاقات المصرفية، وصولاً إلى إرسال الأسلحة النوعية من مضادات طيران ودروع، وحتى من دعم الدعوات لتطوّع المقاتلين الراغبين بالقتال في صفوف الأوكرانيين كما فعل رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، لوجد أنّ هذا الأمر يدلّ على التغيّر الجذري في المزاج العام الأوروبي تجاه روسيا والأزمة الراهنة في أوكرانيا. لقد اندثر الوهم الأوروبي القائم على الاعتقاد بعدم إمكانية اندلاع أية حروب أوروبية داخلية.

يطرح هذا الأمر أسئلة كثيرة عن أسباب لجوء الروس للحل العسكري، وعن سر هذا التصلب الروسي في مواجهة أوكرانيا. وللإجابة على هذه الأسئلة لا بدّ من استعراض المشهد في كل من أوكرانيا وروسيا وطبيعة العلاقات التاريخية بينهما ولو بشكل سريع. فالروس من جهتهم يعتبرون أوكرانيا جزءًا من روسيا، وقد صرّح بذلك الرئيس فلاديمير بوتين في خطابه المتلفز الأخير قبل الهجوم بليلة واحدة. وفي أحسن الأحوال يعتبر الروس أنّ أوكرانيا جزء من المحيط الاستراتيجي الروسي، وهم لا يقبلون بأن تنقلب من حليف إلى عدوّ بأي شكل من الأشكال.

كما يعتبر الروس أنّ من حقّهم إبعاد شبح التهديد العسكري والأمني الذي يمثله حلف الناتو عن حدود روسيا، وهم يستشهدون لذلك بردّ فعل الأميركيين في ستينيات القرن الماضي على محاولة خروتشوف نشر صواريخ نووية في كوبا رداً على نشر أميركا مثلها في بريطانيا وإيطاليا وتركيا. كذلك يرى الروس أنّ أوكرانيا قد استفادت من العلاقات مع روسيا كثيراً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وقد ذكر الرئيس الروسي أنّ ما أنفقته روسيا على مساعدة أوكرانيا منذ ذلك الوقت يزيد على 100 مليار دولار، أمّا قبل الانهيار فكان الرقم على مدى عقود أكثر من مئة وخمسين ملياراً، وبالتالي لا يجب أن تكون أوكرانيا ناكرة للجميل، ويجب ألا تشكّل منصّة لضرب المصالح الروسية. لا شكّ أيضاً أنّ للروس أهدافاً اقتصاديّة من وراء إصرارهم على السيطرة على أوكرانيا، فأراضيها – على مساحتها الشاسعة – تعتبر ممراً هاماً وضرورياً للغاز والنفط اللذين تزوّد بهما أوروبا.

أمّا على الناحية الأوكرانية، فلا بدّ للمرء من قراءة التنوّع العرقي والمذهبي الأوكراني، فالمناطق الشرقية من أوكرانيا تقطنها غالبية عرقية روسية وأكثر من 70% من سكان إقليم الدونباس يتحدثون الروسية حتى ولو لم يكونوا من الروس أصلاً، وهم بغالبيتهم الساحقة من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. كما لا يغيب عن البال أنّ الأوكرانيين الغربيين الذين هم بالغالبية الساحقة من أتباع الكنيسة الغربية الكاثوليكية، قد ساهم قسم منهم في حرب هتلر على الاتحاد السوفييتي، فهم يكنّون ضغينة وكرهاً للروس لا يمكن إخفاؤهما. إضافة إلى ذلك، لا ينسى الأوكرانيون أنّ روسيا كانت على الدوام نصيرة الحكّام الديكتاتوريين الذين كانت تنصّبهم لإبقاء بلدهم تحت وصايتها. من ناحية ثانية، فقد ألجأ الأوكرانيون الروس لشراء مخزونهم من الأسلحة النووية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، ووقعوا مقابل ذلك على اتفاقية عدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، وتنصّلهم من هذه الاتفاقية الآن لم يرق للروس بكل تأكيد.

لا يغيب عن البال هنا قراءة المصالح الأميركية في هذا التصعيد، فالمتابع للموقف الأميركي يرى توجّساً كبيراً من التقارب الاقتصادي الألماني الروسي خاصّة، وكأنّ نظريات الجيوبولتيك السياسي للقرن الماضي تعود للواجهة، ألم يتمّ إنشاء حلف الناتو أساساً لمنع ألمانيا من النهوض عسكرياً مرّة جديدة! ترى الولايات المتحدّة أنّ من مصلحتها الإبقاء على التهديد الروسي قبضة مرخيّة على عنق الأوروبيين، فلا هي تتركها تخنقهم، ولا هي تحررهم منها نهائياً. فالمصلحة الاستراتيجية تقتضي أن يبقى البعبع الروسي حاضراً لتبقى القوات والقواعد الأميركية في أوروبا من جهة، ولتبقى العلاقات الاقتصادية مع الشقيق الأكبر مفتوحة على كل المستويات من جهة ثانية.

شهد العالم فترة التفرّد الأميركي والغربي إثر سقوط المعسكر الشرقي، لكنّ التوازن بدأ يعود للنظام العالمي بعد صعود الصين بشكل كبير من جهة، وبعد تعافي الاتحاد الروسي من صدمة السقوط نسبياً من جهة ثانية، يُضاف إلى ذلك كلّه مجموع الهزائم التي منيت بها الولايات المتحدة من حروبها في العراق وأفغانستان، والتي أنفقت عليها الكثير دون طائل يذكر. فهل نحن أمام مشهد استكمال انهيار النظام العالمي الراهن الذي جاء ثمرة لاتفاق الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية؟

يبدو الآن وكأنّ الانهيار قادم بخطوات حثيثة، فهذه أوّل حرب أوروبية تخوضها دولة نووية تملك حق النقض ضدّ جارة أوروبية، أي ليست حرباً في حديقتها الآسيوية الخلفية كما حصل في الشيشان. هي حرب بين دولتين، وليست حرباً أهلية كما حصل بين الصرب والكروات والبوسنيين عند تفكك يوغسلافيا السابقة. إنها حربٌ مباشرةٌ وليست حرباً بالوكالة، وهي بين الأوروبيين وليست بينهم وبين الأفارقة أو الآسيويين!

هل هي لعبة بين الروس والأوكرانيين، أم إنها أكبر من أن يلعبها اثنان وتحتاج فرقاً متعددة من المتبارين؟

مجمل ما ذكرنا من أسباب يجعل من الحرب الدائرة أحد أشكال تخلّق النظام العالمي الجديد، عالم المصالح والمطامح بين الفيلة والدببة، ونحن الواقفين على خطوط النار وحدود الخرائط والثروات، يبدو أننا مجرّد أرقامٍ أو بأفضل الأحوال شهودٌ صامتون على عبث البشر بمصائر البشر، شهود أو ضحايا لا فرق، ما دام الجميع منّا معدومي الحيلة، خاصّة في شرقنا الأوسط المنسي والبائس.

تلفزيون سوريا

————————-

بوتين يطلِّق العالم/ بسام مقداد

آخر أنباء خروج الشركات الأجنبية من روسيا أو إخراجها، كان أمس صدور قانون روسي يعتبر الشركة المالكة لشبكات التواصل الإجتماعي فيسبوك، واتس أب وإنستغرام مؤسسة متطرفة يلزمها بوقف عملها. لكن الخروج الكثيف للشركات الأجنبية من روسيا، أو وقف أعمالها المؤقت، لم يترك، على الأقل قبل حظر شبكات التواصل الإحتماعي،  أثراً على الشارع الروسي كالأثر الذي تركه وقف أعمال شركة المأكولات السريعة ماكدونالد. وقد أثارت ردة فعل الشارع هذه حفيظة الناطقة بإسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، واستغربت إعتبار العديد من الشخصيات الروسية البارزة الأمر “تراجيديا قومية وضياع الأمل”. وذكرت زاخاروفا هؤلاء بكل ما تسوقه روسيا من إتهامات للغرب والقيادة الأوكرانية بالمجازر الجماعية وحرق البشر أحياءاً  وهجمات الإرهابيين وارتكابات المتطرفين، وقالت بأن كل هذا لم يقتل الأمل، بل قتله التهديد بفقدان قطعة لحم مع البطاطا المقلية.

موقع الخدمة الروسية في “الحرة” الأميركية أفرد نصاً خاصاً لتعليقات الروس على خروج ماكدونالد بعنوان “إشتر بيغ ماك للمرة الأخيرة. شبكات التواصل تودع ماكدونالد الروسي”. قال الموقع بأن قائمة الشركات التي تغادر أو توقف أعمالها في السوق الروسية تتزايد بسرعة يصعب اللحاق بها. 

ينقل الموقع عن إحدى الناشطات قولها بأن إقفال ماكدونالد في روسيا أمر تافه، بالطبع، لكن فجر الحياة الطبيعية بزغ في الإتحاد السوفياتي مع مجيء ماكدونالد، وينتهي مع مغادرته ويعود الإتحاد السوفياتي.

ناشط آخر قال بأن العد التنازلي للزمن قد انطلق، غدا حين يقفل ماكدونالد سنقفل عائدين إلى مطلع التسعينات. قفزتان كهذه ونعود إلى العام 1937( ذروة الإرهاب الستاليني).

علق ناشط قائلاً بأن العجوز (بوتين) انسجم بالتاريخ لدرجة لم يلاحظ إلى أي حفرة تاريخية يدفع شعبه وبلاده. مع هذه الوتائر يمكن أن نتوقع إستعراض قردة الكاميرون وهم يتخلون عن ذريتهم في … موسكو.

موقع Rosbalt المعارض المدرج على قائمة “عميل أجنبي” نشر نصاً بعنوان ” روسيا بدون الغرب: للمرة الأولى منذ 300 عام”. قال الموقع بأن الإمبراطورية تقوم بأكبر محاولة منذ قرون للتخلص من الناس ذوي التفكير الغربي كشريحة إجتماعية. ويرى أن الأمر يبدو وكأن القضاء على الروس الأوروبيين يتم بجهود مشتركة من السلطة الروسية والعالم الغربي المعادي لها.

ينقل كاتب النص عن صديق قوله منذ سنوات بأن الأشد كارثية في تاريخ السنة الأخيرة، هو التخلي الإستعراضي الواضح عن عن ذلك المنحى في التاريخ الروسي الذي خط له بطرس الأكبر منذ 300 عام. لكن التقاليد الروسية الحقيقية والتاريخ الروسي والثقافة تناهض ذلك بشدة. ويشير إلى أن صديقه هذا كان أحد واضعي الأيديولوجيا الجماهيرية لنظام بوتين في مطلعه، والتي تكونت من خليط من الليبرالية والمحافظة، ومن الأوروبية والوطنية. ويقول بأن صديقه توفي ولم يتسن له أن يشهد بأي شمولية وجذرية يتم الإفتراق عن الغرب.

يقول الكاتب بأن منتقدي التغريب ودعاته كانوا يقفون جنباً إلى جنب مع ذوي النزعة السلافية في القرن التاسع عشر. ولذلك ليس من قبيل الصدفة أن يكون الغربيون والسلافيون في حالة رعب مما يجري الآن.

ويشير الكاتب إلى أن الكثيرين من الروس الأوروبيين وذوي المفاهيم الغربية يتنكرون الآن لمحمولهم الفكري، إما بحكم الوظيفة أو عن بقناعة، ويرددون النكات حول المؤامرة العالمية وطوق الأعداء وفوائد العزلة وحسنات العقوبات الشاملة. أما أولئك الذين يرفضون التأقلم مع كل ذلك فإما يجبروهم على الصمت أو مغادرة البلاد. مثل هذا التخلي الشامل عن الحضارة الأوروبية لم بحدث حتى في عهد ستالين. وكان رأي الإختصاصيين في إمبراطوريته مسموعاً أكثر مما هو الآن. في أربعينات القرن المنصرم، وفي سياق النضال ضد المنحنين أمام الغرب، كانوا ينوون حظر نظرية النسبية وعلم الميكانيكا الكمية. لكن الفيزيائيين الذين كانوا يعملون على القنبلة الذرية أقنعوا القيادة بأنه لا ينبغي الإقدام على ذلك، لأنه لا يمكن صناعة سلاح غير تقليدي بواسطة هذه “النكات”.

منذ فترة قريبة طلب الإقتصاديون والماليون الروس من القيادة أن تقارن بين قرارها وحجم العقوبات التي سترتب عليه، وقدموا تصوراً  لمستقبل العزلة المحكمة على الإقتصاد، ومن ثم على القدرة الدفاعية. لكن القيادة لم تنصت إلى هذه الحجة المحترفة، وفضلت الإنصات إلى النكات التي تطرب لها.

يخلص الكاتب للإستنتاج بأن الإمبراطورية على إمتداد 300 عام، وبغض النظر عن التعرجات، إلا أنها لم تكن على هذا البعد من أورويا. ويؤكد أنه منذ سنة كان ليقول بأن هذا الذي يجري مستحيل، ومنذ شهر، إذا كان هذا ممكناً فهو سيسقط بسرعة، أما الآن “فلا أجرؤ على قول شيء”.

كاتب سياسي في وكالة نوفوستي نشر نصاَ خاطب فيه الشركات الأجنبية التي غادرت أو أوقفت عملها في روسيا بالقول “لا طريق إلى الوراء” وتساءل: “هل نسمح للفارين من روسيا بالعودة”. يطنب الكاتب في سرد “النكات” المحببة للسلطة، ويعدد حسنات العقوبات الشاملة على الاقتصاد الروسي، والإستدارة التاريخية لروسيا عن الغرب التي ستسمح بترسيخ التقاليد والقيم الروسية الحقة بعيداً عن أي أثر غربي.

موقع Meduza المعارض والمدرج على قائمة “عميل أجنبي” يقول بأن روسيا هي البلد الرائد في العالم بحجم العقوبات المفروضة عليه. وينقل عن مصادر قريبة من إدارة الرئيس والحكومة بأن حوالي ربع المسؤولين رفيعي المستوى وموظفي شركات الدولة فكروا بالإستقالة بعد إندلاع الحرب. لكنه لم تحدث حتى الآن أية إستقالات، وذلك لأن الإستقالة تعادل الآن الفرار الذي يعاقب عليه بالإعدام.

مدير المجلس الروسي للعلاقات الدولية أندريه كارتونوف، وبعد أيام على اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، نشر نصاً بعنوان “هل إنتهى وقت الدبلوماسية؟ سبع سمات للمرحلة القادمة”. يرى في السمة الأولى أن روسيا إختطفت من الصين راية “الشرير الدولي الرئيسي” وخصم الغرب. وعلى الرغم من أن الصين لن تتخلى عن طموحاتها الخارجية، إلا أن تغيير أولويات الغرب تتطلب من الصين حل مسألة تايوان عسكرياً، و”هذا قليل الإحتمال حالياً”.

السمة الثانية يرى فيها الكاتب أنه لم يعد لموسكو في الغرب حلفاء أو حتى مراقبون متعاطفون معها. وإذا كانت قد بقيت بعد العام 2014 قوى معتبرة في الغرب تدعو إلى إرفاق الضغط على الكرملين بتنازلات ما، فإن هذه القوى موحدة الآن في إدانة الأعمال الروسية.

ويرى أن روسيا تنتظرها مقاطعة دبلوماسية طويلة، سوف تترافق في حالات ما بوقف عمل الممثليات الدبلوماسية واستدعاء السفراء، بل قطع العلاقات الدبلوماسية كما في حالة أوكرانيا. كما ينتظر روسيا سباق تسلح طويل ومكلف، سوف يستكمله الغرب بتوظيف مميزاته الإقتصادية والتكنولوجية البارزة من أجل تخفيض القدرات العسكرية الروسية في نهاية المطاف. ويرى الكاتب أن روسيا سوف تبقى لفترة طويلة مستهدفة بالعقوبات الغربية، وسوف يزداد ضغط العقوبات عليها تدريجياً وبصورة متواصلة. وسوف يتبع التخلي عن “غاز الشمال 2”  تخفيض مشتريات الغاز الروسي، حتى لو كانت البدائل أرفع كلفة. ويرى أن روسيا سوف يتم إبعادها عن الحلقات الجديدة من التطور التكنولوجي المتسارع، والتي ترسم إنتقال الإقتصاد العالمي إلى مستوى تكنولوجي جديد، مما يهدد بتحول روسيا إلى بلد منبوذ. وينهي الكاتب نصه بمجموعة من التساؤلات ما إن كانت روسيا ستتمكن من تحمل هذا الضغط لفترة طويلة، ويترك أسئلته بدون أجوبة.

—————————-

آثار القصف الروسي لمناطق في أوكرنيا

نتيجة حصول خطأ فني في القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة” نستمر في تغطية هذا الملف الحيوي هنا

ماذا لو خسرت روسيا الحرب؟/ ليانا فيكس ومايكل كيماج

هزيمة موسكو لن تكون نصراً ناجزاً للغرب وكلفته باهظة

ارتكب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطأً استراتيجياً باجتياحه أوكرانيا. فقد أساء تقدير السياق السياسي لذاك البلد، الذي لم يكن ينتظر أن يتحرر على أيدي الجنود الروس. كما أساء بوتين تقدير موقف الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وعدد من البلدان -بينها أستراليا، واليابان، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية- التي كانت قادرة على التحرك جماعياً قبل الحرب والتي هي الآن جميعها مصممة على إلحاق الهزيمة بروسيا في أوكرانيا. وتفرض الولايات المتحدة وحلفاؤها وشركاؤها في هذا السياق كلفة قاسية على موسكو. كل حرب تمثل ساحة معركة للرأي العام، وقد جاءت حرب بوتين في أوكرانيا -بعصر الإعلام الجماهيري وما ينتجه من صور- لتربط روسيا بهجوم غير مبرر على جار مسالم، وبمعاناة إنسانية هائلة، وجرائم حرب متعددة. وعند كل منعطف سيكون الغضب المترتب على ما يحصل عثرة في مسار السياسة الخارجية الروسية مستقبلاً.

وما لا يقل أهمية عن خطأ بوتين الاستراتيجي هو تلك المخاطر التكتيكية التي يقحم بها الجيش الروسي، إذ مع الأخذ في الاعتبار تحديات عمليات التقييم في المراحل الأولى للحرب، يمكن للمرء أن يكون متأكداً من أن الخطط الروسية واللوجستيات لم تكن ملائمة، وأن المعلومات المنقوصة التي يزود بها الجنود الروس وحتى الضباط في المراتب العليا كانت كارثية من الناحية المعنوية. كان يفترض أن تنتهي الحرب بسرعة، بهجوم صاعق يطيح الحكومة الأوكرانية أو يجبرها على الاستسلام، فتقوم موسكو على الأثر بفرض الحياد على أوكرانيا، أو بتكريس هيمنة روسية على البلاد. الحد الأدنى من العنف كان سيقابله حد أدنى من العقوبات. ولو أن الحكومة (الأوكرانية) سقطت سريعاً كان بوسع بوتين الزعم أنه كان محقاً في كل ما ادعاه: لأن أوكرانيا لم يكن بمقدورها الدفاع عن نفسها ولم تكن عازمة على ذلك، لذا هي ليست بلداً حقيقياً – تماماً مثلما قال الرئيس الروسي.

لكن بوتين لن يكون بوسعه الانتصار بهذه الحرب وفق شروطه المفضلة. وبالتأكيد ثمة طرق عديدة قد يخسر فيها بنهاية المطاف. فهو قد يقحم جيشه في أوكرانيا باحتلال مكلف وعقيم، يفتك بمعنويات الجنود الروس، ويستهلك موارد روسيا، من دون أن يحظى بشيء في المقابل سوى بشعارات جوفاء عن العظمة الروسية وببلد مجاور أغرق بالفقر والفوضى. يمكنه أن يبسط السيطرة إلى حد ما على بضعة أجزاء من شرق أوكرانيا وجنوبها، وربما على كييف، فيما يمثل احتمال مواجهة مقاتلين أوكرانيين ينشطون من الغرب ويخوضون حرب عصابات في جميع أنحاء البلاد، سيناريو يذكر بحرب العصابات التي شهدتها أوكرانيا خلال الحرب العالمية الثانية. في الوقت عينه، سوف يكون بوتين مسؤولاً عن التدهور الاقتصادي التدريجي لروسيا، وعن عزلتها المتزايدة، وعجزها المستفحل عن التمتع بالثروة التي تعتمد عليها القوى العظمى. بالتالي، والأكثر أهمية، قد يفقد بوتين دعم الشعب الروسي والنخب التي يعتمد عليها لخوض الحرب والاحتفاظ بالسلطة، حتى لو لم تكن روسيا بلداً ديمقراطياً.

في هذا الإطار يبدو بوتين كأنه يحاول إعادة تأسيس شكل من أشكال الإمبريالية الروسية، لكن مع مقامرته الاستثنائية هذه يبدو أنه فشل في الانتباه إلى الأحداث التي تسببت بنهاية الإمبراطورية الروسية، فالقيصر الروسي الأخير، نيكولاس الثاني، خسر حرباً ضد اليابان سنة 1905، بعدها وقع ضحية الثورة البلشفية، فلم يخسر التاج وحسب، بل حياته أيضاً. الدرس المتأتي من ذلك: الحكام المستبدون لا يمكنهم خسارة حرب والبقاء في الحكم.

من المستبعد أن يخسر بوتين الحرب في أوكرانيا في أرض المعركة، لكنه قد يخسر عندما تتوقف المعارك إلى حد ما ويصبح السؤال: ماذا الآن؟ سيكون من الصعب على روسيا أن تهضم العواقب غير المقصودة والمستهان بها الناتجة عن هذه الحرب العبثية. أما غياب التخطيط السياسي المتعلق بما بعد الحرب -على منوال إخفاقات المخطط الأميركي في اجتياح العراق- فسوف يلعب دوره في جعل حرب أوكرانيا حرباً لا يمكن الانتصار بها.

لن يكون بوسع أوكرانيا صد الهجوم العسكري الروسي على أراضيها، فالجيش الروسي يحتل مرتبة أعلى في سلم التصنيفات من الجيش الأوكراني، وروسيا طبعاً هي قوة نووية، فيما تفتقر أوكرانيا إلى هذا الجانب. الجيش الأوكراني حتى الآن قاتل بتصميم ومهارة تستدعيان الاحترام، بيد أن العائق الحقيقي للتقدم الروسي كان طبيعة هذه الحرب بذاتها. يمكن لروسيا بواسطة القصف الجوي والهجمات الصاروخية أن تسحق المدن الأوكرانية، فتحقق بذلك تفوقاً في الأجواء. ويمكنها محاولة استخدام أسلحة نووية على نطاق محدود لنفس الغرض. وإن اتخذ بوتين هذا القرار، ما من شيء في النظام الروسي يمكنه إيقافه. “لقد جعلوا المكان صحراء واعتبروا ذلك سلاماً”، كتب المؤرخ الروماني تاسيتوس، ناسباً الكلام إلى كالغاكوس، قائد الحملة العسكرية الرومانية على بريطانيا. هذا (التصحير) يمثل خياراً لبوتين في أوكرانيا.

لكن على الرغم من ذلك فلن يكون بوسع الرئيس الروسي أن يترك هذه الصحراء هكذا ببساطة، إذ إن بوتين أعلن الحرب بغية إرساء منطقة عازلة، تحت السيطرة الروسية، بينه وبين النظام الأمني في أوروبا الذي تقوده الولايات المتحدة. ولن يكون بوسعه تلافي إنشاء بنية سياسية لبلوغ غاياته والمحافظة على درجة من النظام في أوكرانيا. بيد أن الشعب الأوكراني أظهر سلفاً أنه لا يريد العيش تحت الاحتلال. وهو سوف يقاوم بشراسة – عبر أنشطة مقاومة يومية وحرب عصابات في داخل أوكرانيا أو ضد النظام الدمية الذي فرضه الجيش الروسي في شرق أوكرانيا. وهذا يذكرنا بالحرب الجزائرية ضد فرنسا بين العامين 1954 و1962. كانت فرنسا القوة العسكرية الأكثر تفوقاً، بيد أن الجزائريين وجدوا سبلاً لسحق الجيش الفرنسي ولاستنفاد دعم الرأي العام للحرب الذي كانت تؤمنه باريس.

ربما يتمكن بوتين من تشكيل حكومة دمية تابعة له وعاصمتها كييف، لتحكم “أوكرانيا فيشي” (تيمناً بحكومة الجنرال فيشي في فرنسا تحت الاحتلال النازي). وربما يمكنه حشد الدعم المطلوب من الشرطة السرية لإخضاع السكان في هذه المستعمرة الروسية (أي أوكرانيا تحت الاحتلال الروسي). وتشكل بيلاروس نموذجاً لبلد خاضع لحكم استبدادي وقمع الشرطة ويتلقى الدعم من الجيش الروسي. هذا يمثل نموذجاً محتملاً لشرق أوكرانيا تحت الحكم الروسي، لكنه في الحقيقة نموذج على الورق [نظرياً] فقط. إذ إن أوكرانيا “الروسية” قد تكون موجودة في أحلام الإدارة في موسكو، والحكومات بالتأكيد قادرة على الوجود وفقاً لأحلام وأهواء مراجعها الإدارية. بيد أن تلك الحكومات في الواقع لا يمكنها أبداً أن تعمل وعجلتها لن تدور، خصوصاً إذا ما نظرنا إلى مساحة أوكرانيا الكبيرة وإلى تاريخها الأحدث.

في خطاباته عن أوكرانيا يبدو بوتين تائهاً في أواسط القرن العشرين، فهو مهجوس بالقومية الأوكرانية ذات الهوى الألماني في عقد الأربعينيات. ومن هنا تأتي إشاراته العديدة إلى “النازيين الأوكرانيين” وهدفه المعلن المتمثل بـ”اقتلاع النازية” من أوكرانيا. في الحقيقة ليس هناك في أوكرانيا عناصر سياسية يمينية متطرفة، لكن ما يتجاهله بوتين، أو يفشل في رؤيته، يتمثل في شعور شعبي غامر وإحساس أكثر فعالية ووازن بالانتماء الوطني الذي تنامى في أوكرانيا منذ أن أعلنت استقلالها عن الاتحاد السوفياتي سنة 1991. رد الفعل العسكري الروسي على “ثورة ميدان الاستقلال” في أوكرانيا سنة 2014، التي أطاحت حكومة فاسدة مؤيدة لموسكو، استحث المزيد من مشاعر الانتماء الوطني الأوكراني. ومنذ بداية الغزو الروسي بدا الرئيس الأوكراني فولوديمير فعالاً تماماً في مخاطبة الوطنية الأوكرانية. من هنا فإن قيام احتلال روسي سوف يعزز الشعور الوطني السائد في الكيان الأوكراني، وهذا في جانب منه سيتجسد بخلق الكثير من الشهداء الذين يسقطون من أجل القضية (الوطنية الأوكرانية) – تماماً مثلما فعل الاحتلال الروسي لبولندا في القرن التاسع عشر.

حينها، وفي سبيل إرساء الاحتلال الروسي وإحكام القبضة، على هذا الاحتلال أن يتولى مهمة سياسية شاملة تشمل نصف مساحة أوكرانيا في الأقل. وهذه عملية مكلفة لدرجة لا يمكن حسابها. ربما يفكر بوتين بما يشبه “حلف وارسو”، الذي قام الاتحاد السوفياتي من خلاله بالسيطرة على العديد من الأمم- الدول الأوروبية. وذاك أيضاً كان مكلفاً – لكن ليس بمقدار التكلفة التي تتطلبها السيطرة على منطقة تشهد تمرداً داخلياً ويمدها حلفاؤها الأجانب الكثر بالسلاح، فتتربص بكل هفوة يظهرها الروس. جهود كهذه سوف تستنزف ثروة روسيا.

إن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية على روسيا في هذه الأثناء سوف تؤدي إلى فصل روسيا عن الاقتصاد العالمي. الاستثمارات الخارجية سوف تنتهي، وسيصعب الحصول على رؤوس الأموال. نقل التكنولوجيا سيتعطل، وستغلق الأسواق في وجه روسيا، وهذا قد يتضمن أسواق غازها ونفطها، التي كانت مبيعاتها أساسية في عمليات تحديث الاقتصاد الروسي التي حققها بوتين. في السياق ذاته، فإن القدرات الاقتصادية والاستثمارية ستغادر روسيا. الآثار الطويلة الأجل لهذه التحولات لا تخفى، إذ كما رأى المؤرخ بول كينيدي في كتابه “صعود وسقوط القوى العظمى” The Rise and Fall of the Great Powers تنزع دول كهذه لخوض حروب خاطئة كي تتعامل مع أعبائها المالية، فتحرم نفسها بالتالي من النمو الاقتصادي – شريان حياة كل قوة عظمى. وفي حال حصول ما هو غير مرجح، أي قيام روسيا بإخضاع أوكرانيا، فإن روسيا قد تدمر نفسها في السياق، إذ إن الرأي العام الروسي يعد لاعباً أساسياً في مسار هذه الحرب. سياسة بوتين الخارجية كانت تحظى بالشعبية في الماضي. لقد حظيت واقعة ضم شبه جزيرة القرم بدعم شعبي واسع. كما أن الحزم الذي يظهره بوتين عموماً لا يروق لجميع الروس، بيد أنه يروق لكثيرين. الحال ربما يكون على هذا المنوال في الأشهر الأولى من حرب بوتين على أوكرانيا. القتلى الروس سيثيرون الحزن والحداد، وسقوطهم أيضاً، كما في كل الحروب، سيؤدي إلى مساعٍ لاستثمار تضحياتهم، والمضي في الحرب والبروباغندا. والمحاولات الدولية لعزل روسيا قد تؤثر عكسياً في المقابل، فتحد من حضور العالم الخارجي (في روسيا)، وتترك الروس كي يبنوا هويتهم الوطنية على الضيم والسخط.

لكن الأكثر ترجيحاً في هذا السياق هو انعكاس أهوال الحرب على بوتين نفسه. الروس لم ينزلوا إلى الشوارع للتظاهر ضد قصف روسيا لحلب في سوريا سنة 2016 وضد الكارثة الإنسانية التي تسببت بها القوات الروسية في إطار الحرب الأهلية بذاك البلد (سوريا). لكن مكانة أوكرانيا مختلفة تماماً في صدور الروس، فهناك ملايين الروابط بين العائلات الروسية والأوكرانية، وبين البلدين وشائج ثقافية ولغوية ودينية. الأخبار والمعلومات عما يحصل في أوكرانيا سوف تتدفق إلى روسيا عبر وسائط التواصل الاجتماعي وغيرها من القنوات، فتكذب الإعلام الدعائي الموجه ومن يقف وراءه. الأمر يمثل معضلة أخلاقية لا يمكن لبوتين حلها بمجرد القمع، فالقمع بذاته قد يؤدي إلى نتائج عكسية أيضاً، وهو طالما فعل ذلك عبر التاريخ الروسي: وهذا ما خبره السوفيات وعرفوه حق المعرفة.

قضية خاسرة

عواقب خسارة روسيا في أوكرانيا ستضع أوروبا والولايات المتحدة أمام تحديات هائلة، إذ لو افترضنا أن موسكو ستضطر إلى الانسحاب يوماً، فإن إعادة إعمار أوكرانيا إلى جانب الهدف السياسي المتمثل باستقبالها كعضو في الاتحاد الأوروبي وفي حلف الناتو، سيمثلان مهمة وازنة وأبعاداً ضخمة. على الغرب أن لا يخذل أوكرانيا مرة أخرى. أما البديل عن ذلك، أي ما يمكن أن يكون شكلاً من أشكال السيطرة الروسية الواهية على أوكرانيا، فهو قد يعني منطقة متشظية وغير مستقرة عند حدود الناتو الشرقية، يسودها نزاع مستمر، وهياكلها الإدارية محدودة أو لا تملك أياً منها. كما أن الكارثة الإنسانية في هذا الإطار ستكون بحجم لم تشهده أوروبا منذ عقود.

كما أن المقلق على القدر ذاته في هذا السياق هو احتمال أن ينزل الوهن والإذلال بروسيا، ما يؤدي إلى تبنيها مشاعر انتقامية تشبه تلك التي انتابت ألمانيا إثر الحرب العالمية الأولى. لو تمكن بوتين من إحكام قبضته والاحتفاظ بالسلطة، فإن روسيا ستتحول إلى دولة منبوذة وقوة عظمى معززة بقوة عسكرية تقليدية، وأيضاً بترسانة نووية جاهزة. أثر الحرب الأوكرانية والشعور بالذنب إزاءها سيخيمان على السياسات الروسية لعقود، إذ نادراً ما تمكن بلد من الاستفادة من حرب خاسرة. كما أن عبثية الأكلاف التي أنفقت على حرب خاسرة، إضافة إلى الخسائر البشرية والتراجع الجيوسياسي، سوف يحددان مسار روسيا وسياساتها الخارجية لسنوات عديدة آتية، وسوف يكون من الصعب جداً بعد أهوال هذه الحرب تخيل روسيا بلداً ليبرالياً يطل برأسه على العالم.

وفي الإطار عينه، حتى لو خسر بوتين سيطرته على روسيا، من غير المرجح أن نكون أمام روسيا ديمقراطية مؤيدة للغرب، بل يمكن لهذا البلد الكبير أن ينقسم وينفرط عقده، خصوصاً منطقة شمال القوقاز، أو ربما يغدو ديكتاتورية عسكرية تملك سلاحاً نووياً. قد يكون أمل صانعي السياسات بغد أفضل لروسيا في محله وإذ ذاك يتسنى دمج روسيا ما بعد بوتين بأوروبا. على أصحاب القرار القيام بكل ما في وسعهم ليبصر هذا الأمر النور، بالتزامن حتى مع مقاومتهم لحرب بوتين. لكنهم سيكونون أغبياء إن لم يعدوا العدة لاحتمالات أكثر قتامة.

لقد أظهر لنا التاريخ مدى صعوبة بناء نظام عالمي مستقر فيما هناك قوة انتقامية ومذلولة قابعة في نواته، خصوصاً إن كانت هذه القوة بحجم روسيا ووزنها. وفي سبيل بناء نظام عالمي مستقر، على الغرب أن يتبنى مقاربة احتواء وعزل متواصلة. إبقاء روسيا تحت الضغط والانفتاح على الولايات المتحدة قد يغدوان أولوية لأوروبا في ظل سيناريو كهذا، إذ سيكون على كاهل القارة الأوروبية تحمل العبء الأكبر الناجم عن التعامل مع روسيا المعزولة بعد حربها الخاسرة في أوكرانيا. أما واشنطن من جهتها فستريد أخيراً التركيز على الصين. الصين بدورها قد تحاول تعزيز نفوذها في روسيا المصابة بالوهن – ما سيقود بالتحديد إلى بناء ما يشبه الكتلة، وإلى سيطرة صينية سعى الغرب إلى تلافيها في مطلع العقد الثاني من الألفية الثانية.

تسديد أي ثمن؟

حري بالجميع في داخل روسيا أو خارجها، ألا يرغبوا في انتصار بوتين بحربه على أوكرانيا. من الأفضل أن يخسر، لكن الهزيمة الروسية لا تكاد تستدعي الاحتفال. إن أوقفت روسيا اجتياحها، فإن العنف الذي أنزلته في أوكرانيا قد يخلف رضة أو صدمة تدوم لأجيال؛ بيد أن موسكو لن توقف اجتياحها قريباً. حري بالولايات المتحدة وأوروبا إيلاء الأولوية لاستغلال أخطاء بوتين، ليس فقط عبر تعزيز التحالف العابر للأطلسي وتشجيع الأوروبيين على الانشغال بالسعي وراء رغباتهم الواضحة المديدة في السيادة الاستراتيجية، بل أيضاً عبر وضع الصين أمام الدرسين المزدوجين للفشل الروسي في أوكرانيا: التلاعب بالقواعد والأعراف الدولية، مثل سيادة الدول، له عواقب وأكلاف حقيقية. والمغامرات العسكرية تضعف الدول التي تنغمس بها. إن استطاعت الولايات المتحدة وأوروبا في يوم من الأيام استعادة السيادة الأوكرانية، وإن استطاعوا بالتزامن دفع روسيا والصين نحو تفاهم مشترك حول نظام عالمي، فإن خطأ بوتين الأكبر سيتحول إلى فرصة للغرب، لكنها مكلفة إلى حد لا يصدق وثمنها باهظ.

*ليانا فيكس، باحثة في مؤسسة “جيرمان مارشال فاند”، واشنطن دي سي.

**مايكل كيماج، أستاذ التاريخ في الجامعة الكاثوليكية في أميركا وباحث زائر في مؤسسة “جيرمان مارشال فاند”. بين العامين 2014 و2016 تولى مهام ضمن هيئة تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية، حيث تولى الملف الروسي -الأوكراني.

مترجم من فورين أفيرز، مارس، 2022

اندبندنت عربية

————————–

نحن وأوكرانيا والغرب والكيل من دون مكيال/ د. برهان غليون

تساءل الكثيرون في الأسبوع الماضي ولا يزالون عن كيل الغرب بمكيالين تجاه القضية الأكرانية والقضية السورية التي كان للتدخل العسكري الروسي الدور الأول ولا يزال في تعطيل الحل السياسي فيها ومن ثم تفاقم الدمار والموت والخراب

والحال أن ما يجري الآن على ارض أوكرانيا مواجهة كبرى على السيطرة على القرار الدولي، أو المشاركة فيه. وهي تجري على المسرح الاوروبي، أي الرئيسي والأهم. بينما لم يمثل الشرق الاوسط في هذه المواجهة سوى مسرحا ثانويا لا أهمية له، بل ميدانا لتقديم تنازلات للخصم من دون مخاطرة تذكر.

وهاهي أوروبا تعيد اليوم، على ضوء انتقال الصراع الى مسرحها الرئيسي، تسليح نفسها وتوحيد صفوفها لتفرض وجودها في نظام عالمي جديد يتشكل، متعدد الأقطاب. أما نحن فيخشى ان نكون قد ذهبنا فرق عملية

والمشكلة فينا، ولا اقصد السوريين فقط، ولكن المنطقة بأكملها، فهي بؤرة للنزاع وعدم الاستقرار والفساد والنهب والتطرف الديني والديكتاتورية. لم ينجح العرب خلال قرن كامل في التفاهم فيما بينهم، ولا تمكن المسلمون الذين يشكلون اغلبية سكانها من العرب والايرانيين والترك والكرد وغيرهم في تجاوز خلافاتهم وبناء السلام والأمن والتعاون في منطقتهم. ولذلك لم نكن ولن نكون رقما في هذه المواجهة والتنافس الدولي، ولا احد يحسب حسابنا الا كما فعلت روسيا التي استخدمت سواحلنا لبناء قواعد عسكرية ومراكز لنشر قوتها الاستراتيجية وشعبنا لتجريب الاسلحة الفتاكة الجديدة. ولم يفعل الامريكيون غير توظيف الموارد النفطية في الجزيرة العربية، بصرف النظر عن حدود دويلاتها وخلافاتها، لصالح شركاتهم، والسيطرة على سوق الطاقة العالمي

هذا مصير كل الشعوب التي تملك ثروات ومواقع استراتيجية لكنها لا تدرك قيمتها ولا تفكر في وسائل الدفاع الذاتية عنها، فتثير طمع القوى الكبرى الفاعلة التي تدرك اهميتها، ولا تتردد في السيطرة عليها، بكل الوسائل، لوضعها في خدمة استراتيجياتها، وتعزيز فرصها في الفوز في الصراع على احتكار القرار الدولي او اقتسامه

هذه مشكلتنا، والعلة للأسف فينا، شعوبا وحكومات، قوميات ومذاهب وطوائف دينية. ففي العلاقات الدولية القائمة على القوة ان لم تكن ذئبا اكلتك الذئاب. ونحن لم نكن خرافا فحسب وإنما كان راعينا ذاته وغدا لم يتردد في تقديم أبنائه قرابين لخطب ود الذئاب

——————————

تساؤلات جدية عن أسطورة الجيش الروسي: ما مدى فعاليته؟!/ خلدون زين الدين

ليس سراً تعثرُ الآلة العسكرية الروسية في أوكرانيا. قد يقول قائل إن الجيش الروسي يتقدم. صحيح. يقول ثانٍ هو أحد أبرز الجيوش العالمية وأعرقها. صحيح. وثالث، ورابع… صحيح وبعد صحيح، لكن كل ذلك لا يمنع أو ينفي التساؤلات، ولا يحد من الفرضيات: ما مدى فعالية الجيش الروسي في أوكرانيا؟

أكثر من عقد من الزمن قضاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تحديث جيشه. أثبت حضوره في الشيشان خلال التسعينات من القرن الماضي، وفي جورجيا عام 2008، إنما أول اختبار له في صراع واسع النطاق منذ نهاية الحرب الباردة دفع لطرح كثير المقاربات حول ما أثمرته جهود التحديث العسكري.

نعم القوات الروسية تسيطر جواً، تفرض قواعدها، لكن مع ذلك هناك تساؤلات. تتقدم على الأرض ورغم ذلك ثمة علامات استفهام. الخسائر على الأرض كبيرة. خسائر غالباً غير متوقعة. الرتل الروسي الممتد عشرات الكيلومترات يتعثر في طريقه إلى كييف والأجهزة اللاسلكية تُخترق. الأمر لا يزال محيراً. يصعب استخلاص النتائج خصوصاً مع الحرب النفسية والتقارير الاستخبارية الحقيقية منها والمفبركة.

سبب جدي

لماذا تقتصد روسيا في استخدامها للقوة الجوية؟ مراقبو الدفاع يقولون إن ذلك سمح للدفاعات الجوية الأوكرانية بالبقاء، واستمرار الطائرات المقاتلة الأوكرانية بالتحليق. “الأهم هنا، والأكثر جوهرية هو علامات ضعف الروح المعنوية والتنظيم بين القوات الروسية”، وفقاً لهنري بويد، المحلل العسكري المتخصص بشؤون الجيش الروسي في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، متحدثاً الى “بلومبرغ”: “هناك على الأقل بعض المجالات التي تعطي سبباً جاداً لإعادة تقويم الافتراضات حول قدرات الروس وإن كانوا يعانون من المشاكل نفسها التي واجهوها قبل 14 عاماً، ولم يتمكنوا من إجراء أي تحسن حقيقي. هناك شبهة -وفق وصفه- في إمكان حدوث تحديث مع النظام السياسي الحالي”.

 غير منطقية

روسيا بدأت، وتلتها الصين، بالحديث عن تطوير الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي منشآت أسلحة كيماوية وبيولوجية في أوكرانيا، وتخطيطهما لاستخدامها في هجوم. قد تكون المعلومة زائفة لتبرير الحرب، وفقاً لمعهد دراسات الحرب، وهي منظمة غير ربحية مقرها واشنطن. البيت الأبيض نفى الاتهامات الروسية ووصفها بالكاذبة و”غير المنطقية”.

من القرم…

القوات البرية الروسية تواصل قصف مدن أوكرانية مثل كييف وخاركيف، حسبما ذكرت ISW في تقريرها عن الوضع بشأن الصراع. الأيام القليلة الماضية، شهدت تحركاً ضئيلاً لتعزيز خطوط الإمداد نحو العاصمة، بينما تحركت القوات من شبه جزيرة القرم شمالاً باتجاه مدينة زابوريزهزهيا. أدلة غير مؤكدة تبين أن روسيا تكافح من أجل زيادة الاحتياطيات لدعم جهودها الحربية.

وتيرة الهجمات الجوية الروسية تكثفت في سادس أيام الحرب وثامنها. توازياً، تزايد عدد الطائرات التي قال الجيش الأوكراني إنه أسقطها. جاستين برونك، زميل أبحاث القوة الجوية في معهد “رويال يونايتد سيرفيسز” في لندن، سجّل طلعات جوية أكبر من المطارات في بيلاروسيا، مع تحليق في ساعات شبه مظلمة في الصباح والليل.

من غير المعتاد بالنسبة الى القوات الجوية الأميركية أو القوات الجوية الأوروبية، استخدام قنابل غير موجهة أو كما توصف بالقنابل الغبية، لكن ليس الأمر كذلك بالنسبة الى موسكو على ما يبدو. برونك يشير إلى أن “نحو 90 في المئة من القنابل التي أسقطتها الطائرات الروسية في سوريا كانت غير موجهة”.

هذا النوع من القنابل غير الموجهة أو غير الذكية يتطلب التحليق على مستوى منخفض، ما يهدد الطائرات بإصابات من الصواريخ المضادة للطائرات المحمولة على الكتف مثل ستينغر الأميركية الصنع. برونك يقول في السياق إن الطلعات الروسية، تحديداً عند الفجر والمساء، تدفع للافتراض أن روسيا تحاول تجنب صواريخ ستينغر، عليه، أصبح من الواضح -برأيه- أنهم غير قادرين على تنفيذ عمليات ضخمة ومعقدة، ومن المؤكد أن ذلك يجعل سلاح الجو الروسي أقل تهديداً بكثير مما قد توحي به طائرته الحديثة نسبياً وذات التأثير العالي”.

بالنسبة الى المسؤولين الأميركيين -يقول برونك- تبدو الهيمنة الروسية أقل من التوقعات، رغم سيطرة الجيش الروسي على الأجواء والحد من الطلعات الجوية الأوكرانية. القلق الغربي يتركز على لجوء موسكو الى القصف العشوائي بقنابل غبية، بدليل استهداف مستشفيات أو أبنية سكنية وسقوط ضحايا من المدنيين المسالمين بينهم أطفال.

مفاجآت الحرب الإلكترونية

بالنسبة الى المراقبين الأمنيين والعسكريين، كانت هناك مفاجآت في مجال الحرب الإلكترونية أيضاً. غريغ أوستن، كبير زملاء المعهد الدولي للدراسات الفضائية في مجال الصراع السيبراني والفضائي والمستقبلي قال إنه “من المدهش بعض الشيء أننا لم نرَ أي تقارير من وكالات الاستخبارات أو الشركات مثل Microsoft عن أي هجمات كبيرة على أهداف أوكرانية”.

يشعر أوستن بالحيرة لعدم تسجيل تشويش روسي كبير على الاتصالات الأوكرانية، مع العلم أنه في عام 2015، أدى هجوم إلكتروني نُسب لاحقاً إلى روسيا إلى إغلاق جزء من شبكة الكهرباء الأوكرانية.

صحيح أن نتائج الحرب الإلكترونية غير مرئية لكن عدم الفعالية الروسية إلكترونياً وسيبرانياً مثير للحيرة.

رغم أنه لن تكون كل جهود الحرب الإلكترونية مرئية للجمهور، قال أوستن إنه يشعر بالحيرة أيضاً بسبب الافتقار الواضح للتشويش من طرف روسيا.

على أي حال، من السابق لأوانه استخلاص النتائج -بحسب أوستين- فلربما ترغب روسيا في استمرار عمل الشبكات الأوكرانية حتى تتمكن من استخدامها لإغراق الأوكرانيين بالمعلومات المضللة وبالتالي استنزاف إرادتهم في القتال.

…الأمر بالتأكيد يستحق المراقبة والنظرة الفاحصة.

النهار العربي

————————————–

صور بوتين في الشوارع السورية

الحرب في أوكرانيا.. ما الذي يعني سوريا؟

ساهمت بداية الحرب الروسية في أوكرانيا في إثارة قضايا عديدة، وإلقاء الضوء على أماكن أخرى من العالم، وحجبه عن غيرها. جاء ذلك في معظمه نتيجة الاستقطاب الحاد في العالم حاليًا. وبينما تتصدر قضية الحرب في أوكرانيا عناوين الأخبار، تخفُت تلك القادمة من سوريا، وهو مسار دخلت فيه البلاد التي اندلعت فيها ثورة ضد نظام الأسد قبل 11 عامًا، خلال السنوات الأخيرة، بعد انخفاض في التحرك على الأرض، وتحولها إلى قضية إنسانية في الكثير من الأحيان مرتبطة باللاجئين ومصيرهم، فيما يبدو أن النظر في مستقبل النظام السوري ضمن النظام الدولي الحالي، لم يعد أولويةً في الفترة الحالية.

حضور سوريا في الحديث الإعلامي اقتصر على كونها هامشًا للإشارة لبعض التكتيكات الروسية الحربية، أو كمدخل من أجل استقاء العبر وتعلم الدروس في التعامل مع بوتين. كمثالٍ على ذلك، قال وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا خلال اجتماع استثنائي لوزراء خارجية دول الناتو، “لا تسمحوا لبوتين، بتحويل أوكرانيا إلى سوريا ثانية”.

أما الحرب الروسية في أوكرانيا، فاستدعت مباشرةً الحرب التي تخوضها موسكو في سوريا أيضًا، فقد كانت سوريا أول تدخل عسكري روسي كبير في العالم منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، كما أنها كانت المرة الأولى التي تخوض فيها روسيا القتال في دولةٍ لم تكن ضمن الدول التي حصلت على استقلالها إثر تفكك الاتحاد السوفيتي. كما أنه في قراءات استرجاعية عدة، تم الربط بين الصمت الدولي على التدخل الروسي في سوريا، وتمدد القوة الروسية “وغطرسة القوة لدى بوتين”، مما أعطى حافزًا لموسكو من أجل غزو كييف.

المواقف السورية من الغزو جاءت متوقعةً إلى حدٍ كبير، دون أن تحمل أي مفاجآت كبيرة. قد يكون موقف النظام السوري من الحرب الروسية في أوكرانيا هو الأكثر دعمًا لموسكو في حربها ضد أوكرانيا، فقد اعتبر الأسد الحرب “تصحيحًا للتاريخ وإعادة التوازن إلى العالم الذي فقده بعد تفكك الاتحاد السوفياتي”، واصفًا القرارات الدولية التي اتخذت ضد روسيا عقب غزو أوكرانيا بأنها “هيستريا غربية تأتي من أجل إبقاء التاريخ في المكان الخاطئ لصالح الفوضى التي لا يسعى إليها إلا الخارجون عن القانون”.

الأسد الذي أكد على وقوف نظامه مع روسيا أشار إلى أن ذلك يأتي “انطلاقًا من قناعته بصوابية موقفها، ولأنّ مواجهة توسع الناتو هو حقٌ لروسيا لأنه أصبح خطرًا شاملًا على العالم وتحول إلى أداةٍ لتحقيق السياسات غير المسؤولة للدول الغربية لضرب الاستقرار في العالم”. وفي تبنٍ كامل للخطاب الروسي حول مبررات الحرب، قال الأسد، “العدو الذي يجابهه الجيشان السوري والروسي واحد، ففي سوريا هو التطرف وفي أوكرانيا هو النازية”، بحسب ما جاء في بيان لرئاسة النظام السوري.

أما الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية فقد أدان الحرب الروسية في أوكرانيا، قائلًا “إن حياة ملايين الناس ليست رخيصة لتكون مجرد أرقام في بازار السياسة أو مجرد أوراق يقامر بها بوتين ويخوض بها مغامرات إجرامية ستسفك أنهارًا من دماء الشعب الروسي قبل أي شعب آخر”، مضيفًا “لا يريد الشعب السوري أن يشهد المزيد من الإجرام الروسي المقترن بخذلان دولي في أي جزء جديد من العالم، بعد ما عانى وما يزال يعاني من مجازر روسيا وجرائمها في سوريا”، مشيرًا إلى أن الشعب السوري يعرف مآسي الحرب، لذلك يقف إلى جانب الشعب الأوكراني ويدعم مقاومته للعدوان الروسي ويدعم دفاعه الشجاع عن وحدة بلاده وسيادتها.

مقاطعة شاملة.. لكن ليس في سوريا

على المستوى الميداني، وبالنسبة لأمريكا، تبدو سوريا خارج الحرب وحتى خارج الصراع مع روسيا والتضييق عليها. فرغم العقوبات وقطع التواصل الأمريكي مع موسكو، إلّا أنّ قنوات تواصل الجيش الأمريكي مع القوات الروسية المتواجدة في سوريا ما زالت فعالة من أجل ما سمي “بمنع تضارب المصالح”. إذ إن الخطاب الصارم ضد روسيا، والمجازات التي تصف زعماءها بالنازيين، ولغة القطيعة الشاملة معها، لا تشمل سوريا، فقناة اتصال وتنسيق مفتوحة بين القوات الأمريكية والروسية في سوريا منذ بداية الدخول الروسي إلى البلاد لا تزال متواصلة. فيما يبدو، أن الإدارة الأمريكية غير معنية بالتصادم مع القوات الروسية في سوريا.

وسوى المقارنات والمجازات، كانت الإشارات الأمريكية الوحيدة إلى سوريا مرتبطة بما نقلته مصادر من الإدارة الأمريكية عن كون موسكو تعمل على تجنيد مقاتلين سوريين شاركوا في قمع الثورة السورية، بهدف المساهمة في الحرب الروسية في أوكرانيا. وحسب المصادر، يساعد هؤلاء على التقدم الروسي بشكلٍ كبير تجاه مناطق حضرية أوكرانية، أبرزها العاصمة كييف. وتسعى روسيا للاستفادة من خبرات المقاتلين السوريين في القتال داخل المدن.

لمصادر الأمريكية أشارت إلى تواجد بعض هؤلاء المقاتلين في روسيا حاليًا، وهم على استعداد للدخول إلى الحرب، مع استمرار المحاولة الروسية لتجنيد المزيد من المقاتلين، ووجود تقارير أشارت إلى عروض مالية روسية للمقاتلين تتراوح بين 200-300 دولار أمريكي من أجل المشاركة في القتال داخل المدن.

بنفس المنطق، أشير إلى أن القتال الروسي في سوريا كان مفيدًا لموسكو على المستوى العسكري، بما في ذلك الضربات الجوية “المُركزة”، ودمج القوات الجوية والبرية، والحرب الإلكترونية، كما ساهمت التجربة السورية، حسب هذه التصريحات، في رفع جاهزية الجيش الروسي باستمرار، حيث اختبرت روسيا 300 نوع جديد من الأسلحة خلال حربها في سوريا. واختبرت طريقة الحرب “متعددة المجالات”، بما في ذلك الأسلحة بعيدة المدى وحملات القصف الواسعة، واستخدام قوات شبه عسكرية/ نظامية.

نفوذ إسرائيلي أكبر وصراعات روسية إيرانية محتملة

الثابث الذي لم يتغير، هو الغارات الإسرائيلية المستمرة، ففي يوم الاثنين 7 مارس/ آذار، سمع دوي انفجارات في محيط مطار دمشق الدولي، قتل خلالها عنصرين وأصيب 6 آخرين من المليشيات الإيرانية المتواجدة في سوريا، نتيجة قصف إسرائيلي نفذ من الأجواء اللبنانية. وهي جزئية أكدت العديد من التحليلات الإسرائيلية على أهميتها، وربطت جزءًا من الموقف الإسرائيلي الحذِر من حرب أوكرانيا، في ضرورة استمرار التنسيق الإسرائيلي- الروسي، من أجل إعاقة التموضع الإيراني في سوريا.

في السياق ذاته، يبدو أن صراعات النفوذ في سوريا بين حلفاء الأسد يمكن أن تتمدد. إذ يمكن أن تكون الأحداث الجارية فرصةً لإيران من أجل زيادة نفوذها على حساب الحليف الروسي. فقد أشارت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية، إلى أن إيران نشرت منظومات دفاعها الجوية في سوريا، وبدأت باستخدامها مؤخرًا في مواجهة الغارات الإسرائيلية المستمرة منذ سوات في سوريا، من أجل منع عمليات تهريب السلاح.

ومن ناحية أخرى، تعتبر إيران الحرب في أوكرانيا فرصة لتوسيع تعاونها مع أطراف داخل النظام السوري، في ظل صراع النفوذ في سوريا، خاصةً أن إيران قد تحظى بقبول دولي أكبر، في حال إتمام المفاوضات الدولية حول برنامجها النووي بنجاح. هذا التطور الذي يعتمد على نتائج مفاوضات فيينا، بالتزامن مع العقوبات على روسيا والمساعي لعزلها، قد يعيد ترتيب بعض الحسابات في سوريا، خاصة فيما يتعلق بمساعي النظام إلى تطبيع علاقاته عربيًا ودوليًا. يبقى ذلك بالتأكيد مرتبطًا بالحسابات الإسرائيلية، حيث إن العلاقة بين موسكو وتل أبيب مفتوحة على خيارات عديدة، بالنظر إلى الموقف الإسرائيلي القريب إلى الحياد، على خلاف نسبي مع مواقف الدول الغربية.

مصير غامض للمفاوضات السورية

في سياق متصل، فإن تزايد العقوبات العالمية على روسيا، باعتبارها لاعبًا رئيسيًا في سوريا، خاصةً مع انعدام شرعية رئيس النظام السوري بشار الأسد دوليًا وعدم تفضيل التعاون مع إيران، قد يعيق المفاوضات الدولية حول سوريا، وسيقلل من إحراز التقدم حتى في المواضيع الإنسانية.

كما أن العملية السياسية التي يقودها المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا جير بيدروسون من أجل “إنهاء الحرب” واتبعت استراتيجية “خطوة بخطوة” من خلال عمل دبلوماسي متعدد الأطراف، والتي كانت آمال نجاحها ضئيلة أصلًا، تتعرض الآن إلى ضربة أكبر.

آثار على اقتصاد منهار

على المستوى الاقتصادي، ظهرت آثار الغزو الروسي لأوكرانيا على سوريا بشكلٍ سريع. ففي أول أيام الحرب، قرر النظام السوري خفض الإنفاق الحكومي العام وتغطية الأولويات فقط، واستمرار إدارة احتياطيات المواد الأساسية مثل القمح والسكر وزيت الطهي والأرز في الشهرين المقبلين، وتكثيف الرقابة على السلع وتقنينها، خاصةً أن سوريا تعتمد على روسيا في واردات القمح.

ولعل هذا ينذر في تفاقم الكارثة الإنسانية في سوريا، فقد أشار آخر تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أن عدد المحتاجين للمساعدات الإنسانية في سوريا قد وصل إلى 14.6 مليون شخص، في زيادة 9% عن العام الماضي بمقدار 1.2 مليون شخص. فيما تصنف سوريا من بين أول 10 دول في العالم تعاني من انعدام الأمن الغذائي، مع تضاعف تكلفة إطعام أسرة من 5 أفراد بالمواد الغذائية الأساسية خلال العام الماضي، حيث تنفق الأسرة 50% أكثر مما تكسب على احتياجاتها الغذائية.

لاجئون جدد و”أوروبيون”

أثر حرب روسيا سيظهر أيضًا على مستوى واضح آخر، وهو ملف اللجوء. فنتيجة التكتيك العسكري الروسي الذي كان يقوم على قصف مكثف للمدن مع إطباق الحصار عليها، ولاحقًا فتح باب التسويات والتهجير للمناطق التي تسيطر عليها قوات المعارضة، إلى جانب العنف الذي استخدمه الأسد في مواجهة الثورة، فقد نتج حوالي 5.7 مليون لاجئ مسجل لدى الأمم المتحدة يحتاجون إلى إعانة ومساعدات، كانوا يعانون بالفعل نتيجة تقلصات في التمويل من قبل الدول المانحة، وبالأخص من قبل بريطانيا.

 ومع ظهور أزمة اللجوء الأوكرانية، وتفاقمها، وظهور ما يزيد عن 2 مليون لاجئ حتى الآن، فإن جزءًا كبيرًا من التمويل سيتجه نحو شرق أوروبا من أجل معالجة الأزمة الطارئة، خاصة مع البلاغة العنصرية التي انتشرت في خطاب الرسميات الغربية، وفي وسائل الإعلام وتدخلات المراسلين والمحللين، والتي اعتمدت على التأكيد على أن اللاجئين الأوكران أهم، وأن معاناتهم أجدر بالاهتمام.

فرص محدودة

شكلت الحرب في أوكرانيا والموقف الدولي المضاد لها، دافعًا للائتلاف السوري المعارض، من أجل زيادة تحركاته الدولية، في محاولته تحقيق مكاسب سياسية. فقد طالب الائتلاف خلال اجتماعه مع الفريق الفرنسي المختص في الملف السوري، بضرورة تغيير السياسات الغربية تجاه الملف السوري ومنحه أهميةً أكبر. وفي الوقت الذي يظهر فيه الحديث عن إعادة عدة دول عربية عملها على إعادة تطبيع العلاقات مع النظام السوري، أكد الائتلاف خلال زيارته لجامعة الدول العربية، على ضرورة استمرار عزل النظام السوري وعدم الانخراط في شرعنته، أو إعادة قبوله في جامعة الدول العربية، والمطالبة بتسلم الائتلاف المقعد السوري في الجامعة، باعتباره الممثل الشرعي للشعب السوري.

لقد كانت سوريا نقطة التقاء للمصالح الاستراتيجية لإدارة بوتين، فقد كانت ساحةً من أجل تجارب الأسلحة الروسية الجديدة، بالإضافة إلى حصولها على موطئ للمياه الدافئة، واختبارًا لقدرتها على التدخل العسكري في مكان بعيد عن حدوده، والنظر إلى رد الفعل العالمي عليه. وربما ساهم التدخل الذي مر في سوريا دون ردود أفعال ضخمة عالمية أو بهدوء، في زيادة الدافعية الروسية نحو غزو أوكرانيا.

أما في المستقبل، وفي ظل الخيارات المفتوحة في الحرب، وفي حال تعززت العقوبات على روسيا، فقد تكون سوريًا مخرجًا للروس، من خلال تحويلها إلى سوق سوداء سعيًا منها لترويج الصادرات النفطية من خلال تحايلها على العقوبات المفروضة عليها. كما أن إعادة إعمار سوريا، لو حدثت، قد تكون فرصةً للشركات الروسية هي في أمس الحاجة إليها، من أجل الحصول على هذه العطاءات وتعويض الخسارات التي تعرضت لها نتيجة غزو أوكرانيا.

——————————

لماذا أتمنى أن ينتصر الغرب على روسيا؟/ بلال خبيز

تأييدنا للغرب أو لروسيا في هذه الحرب الخطيرة لا يقدم ولا يؤخر. واقع الأمر أننا، نحن شعوب هذه المنطقة ودولها، لم نخرج من هزيمة أمتنا التي منينا بها في الحرب الأولى واستكملنا شروطها في الحرب الثانية. ومنذ تلك العقود الموغلة، ما زلنا نراوح في أمكنتنا في الصفوف الخلفية للعالم، ونحاول جهدنا، بكل العنف اللازم، أن نخفف أعداد المنتظرين على رصيف العولمة والعالم، علنا نجد مكانًا في حافلتها لمن بقي منا. نظمنا حروبًا أهلية لم تنتج إلا هجرات واسعة وقتلى بمئات الألوف. واقتتلنا على شعارات وكليشيهات لم نكن نفقه منها شيئًا، ولم ندرك يومًا عمقها. أردنا أن نكون اشتراكيين، وديمقراطيين، وإسلاميين، وعربًا، وشرق أوسطيين، وشرقيين، وغربيين. ولم ننجح في الانتماء إلى أي من هذه الروابط. هذا إذا كانت تلك الروابط مفتوحة الأبواب للراغبين في ركوب حافلتها.

واقع الأمر أيضًا، أننا خضنا حروب استقلال، لم تكن في حقيقتها إلا حروب تفتيت الإمبراطوريات التي كانت قائمة في القرن التاسع عشر وبدايات العشرين. في هذا المسعى، كنا على السوية نفسها التي كانت عليها شعوب الإمبراطوريات الأوروبية المهزومة والمنتصرة على حد سواء. إمبراطوريات القرن التاسع عشر تفككت على أيدي المنتصرين في الحربين العالميتين. ذلك أن صناع القرار في تلك الدول الكبرى اعتقدوا، على الأرجح، أن الوسيلة الأنجع لمنع الإمبراطوريات من تغذية أطماعها، تتلخص بتفكيكها إلى دول صغيرة وتأسيس هويات قومية مستعجلة. والحق إننا دخلنا في هذه المطحنة، ونحن ندغدغ آمالًا عريضة، ونحلم بمستقبل مشرق. تفككت إمبراطوريات القرن التاسع عشر تباعًا، بعضها بإرادة المنتصرين، وبعضها تفكك بناء على رغبتهم بالتخلي عن العالم “المتخلف” الذي يكلف هذه الإمبراطوريات أكثر مما ينتج. ولم تمض سنوات كثيرة قبل أن نكتشف أن الإمبراطوريات المنتصرة التي تحولت دولًا كبرى باتت تملك مفاتيح مستقبلنا. إذ لم تكن القاهرة أو بيروت في سبعينيات القرن الماضي تطمح في مستقبلها أن تكون أكثر من ماضي باريس أو لندن. كانت بلادنا تجتهد على نحو مضن لتتحول في المستقبل إلى ما هي عليه الدول الكبرى الآن. وعليه احتكرت تلك الدول نظرتنا إلى المستقبل وقررت لنا كيف نسير باتجاهه.

أسرد هذا كله وفي ذهني ثمة هؤلاء الذين يدعون لنصرة روسيا في هذه الحرب. روسيا التي يخوض رئيسها حرب استعادة إمبراطورية القياصرة. وهو الذي يردد كل حين أن قرار البلاشفة جعل أوكرانيا دولة قائمة برأسها كان خطأ تاريخيًا كبيرًا. ما يعني أن سيد الكرملين، وهو مبنى إمبراطوري، يريد أن يعيد التاريخ إلى ما قبل القرن العشرين. إلى زمن الإمبراطوريات الكبرى في الشرق والغرب.

الدعوة لنصرة روسيا أو الغرب في هذه الحرب لا تقدم ولا تؤخر. لكن هذا العجز لا يمنعني من الأمل بأن يفشل المسعى الروسي فشلًا تامًا. لأن هذا المسعى أولًا، يريد أن يعيدنا إلى نهاية حقبة تاريخية، مستكملًا حروبًا أثقلت كاهل البشرية لعقود وما زات تلقي بثقلها على مستقبلها.

ولأن هذا المسعى ثانيًا، لا يملك من مقومات استعادته ما يقيم أوده. فهذه بقايا إمبراطورية تعيش وتسعى في ظل الغرب وكنفه. ذلك أن الغرب اليوم هو من يملك أحصنة المغول المعاصرة. ولن تستطيع أي إمبراطورية أن تخرج عن سلطاته، ماليًا، وثقافيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا. فهو من يقرر لنا ما نأكل وما نرتدي من ثياب، وما يجدر بنا الدفاع عنه وما يجدر بنا إدانته. حتى الصين، الصين التي تظهر لنا كقارة قائمة برأسها، لم تنجح في الادعاء بأن نظامها السياسي أفضل من الأنظمة الغربية الرأسمالية، بل ويذهب مفكروها وقادتها إلى التصريح بأن بلادهم لم تنضج كفاية لتعتمد النظام الديمقراطي كنظام حكم.

ولأن هذا المسعى ثالثًا يحتاج لكي يحقق نصره، أن يقيم حروبًا إضافية، سوى تلك التي يفترض أن تنشأ بين إمبراطوريتين. فالمسعى الروسي كي ينجح يحتاج عصرًا طويلًا من الحروب الصغيرة، بحجم الحرب الأوكرانية، لكي تصبح الإمبراطورية مؤهلة لهزيمة الإمبراطوريات المجاورة.

ولأن هذا المسعى رابعًا سيضعنا فيما لو حقق نصرًا شاملًا، أمام تحديات لم نعد نستطيع، كبشر، مواجهتها. فهذه إمبراطورية تطمح لقيادة العالم، لكنها لا تملك من معلومات هذا العالم ما يكفي لمعرفة تاريخها نفسه. (كل معلومات العالم محتكرة في خوادم الطرف الآخر). وتحسب أنها قادرة على إدارة العالم، في حين أن عصب الحياة المعاصرة المتمثل بالنظام المالي يقع كليًا تحت سيطرة خصمها. هذا ومعلوم أن الابتكارات والصناعات الحديثة كلها تنشأ وتترعرع خارج ديارها. إذ ما الذي يعنيه انتصار روسي على العالم غير أننا سنجد أنفسنا فجأة من دون قدرة على تخزين سلعنا لأن الصناعة الروسية، إذا كان ثمة صناعة حية بعد، لا يمكن أن تنتج ما يكفي من ثلاجات لتخزينها؟

في الخلاصة: الأمل في خسارة روسيا هذه الحرب قد يجنبنا أهوالًا كثيرة من تلك التي تحل بعد انتهائها. أما الانحياز الإنساني والثقافي والفكري، والتفضيل بين ديمقراطية وأوتوقراطية وأوليغارشية فلا أقيم له وزنًا في هذه المعمعة الكبرى. ذلك أن كل هذه الإعلانات الفاقعة، غربًا وشرقًا، لم تنجح في جعل أهل شنغهاي أو موسكو أو بالتيمور يتمتعون بحياة كريمة تحت سقف النظام.  

—————————-

كل الحروب الامريكية/ عصام حوج

كل الحروب الامريكية: منذ حرب يوغسلافيا، الى حرب افغانستان، الى حرب العراق، إلى حرب اوكرانيا، هي بالدرجة الأولى حروب (بقاء الدولار) على عرش العملات، باعتباره أداة أساسية في استمرارالهيمنة.

هذه الدولة باتت دولة تخادم بين الدولار الورقي المعوّم وبين السلاح، لايمكن لأحدهما الاستغناء عن الاخر، الأوّل يموّل الثاني، والثاني يحمي الأوّل كي يبقيه على العرش، والعالم يدفع الثمن، بدءاً من وصول سعر كغ التبن في قرى القامشلي الى1300 ليرة، وصولاً الى ارتفاع اسعارالوقود في اوربا.

لو لم تكن في اوكرانيا لكانت في بلد آخر، ولو لم تكن روسيا لكانت دولة أخرى، ولو لم تحدث اليوم لحدثت غداً، ولو لم يكن بوتين لكان شخصاً آخر .. ما يحدث في اوكرانيا هو تجسيد ملموس لقانون الفعل ورد الفعل في الحقل الاجتماعي المعولم، ولأنه قانون، فهو يعمل خارج إرادة بايدن وجونسون وبوتين، ومراكز أبحاث ترويج الدجل، وتعميم الغباء، وأوكارإدارة تجارب الهندسة الاجتماعية ..

ما يحدث من عملية او حرب أو تدخّل أو غزو روسي – لكَم أن تسمّوه ما شئتم – هو أحد مظاهر التوتر في العلاقات الدولية، وليس أولها، ولن يكون آخرها، طالما إن البنية المنتجة للأزمات قائمة، وتمارس ما تمارسه من استبداد معولم، وتحاول الاستفراد بالقرار.

اذا أردنا فهم أية بنية في التاريخ فهماً صحيحاً، يتطلب أولاً فهم حقيقة وطبيعة القوى التي تمتلك أدوات السيطرة والتحكم بالبنية المعنية، فهي عادة تطبع البنية بطابعها، وكل ما يحدث داخل بنية ما، هو اما انعكاس لسوك القوى المهيمنة والمتحكمة بها، أوانعكاس لردود الأفعال عليها، بغض النظر عن موقفنا منها رفضاً أو قبولاً…

وعلى هذا الأساس، فإن فهم ما يجري في العلاقات الدولية كبنية معولمة، يستوجب معرفة طبيعة قوى رأس المال المالي وبالدرجة الأولى نسختها الانكلو – امريكية، ونزوعها الموضوعي إلى التوتير والحرب، واستبدادها المعولم، في الاقتصاد، والسياسة، وخريطة توزع القوى العسكرية، اي استفرادها بالقرار الدولي، على الأقل خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وسعيها إلى تأبيد ذلك.

وبعد، ساذج من كان يظن بأن هذا الوضع الشاذ في العلاقات الدولية سيستمر بدون ردود أفعال؟ وأمّيٌّ كل من يتفاجأ بما يحدث حتى لوتثاقف وتحذلق وتوارى خلف (ماركسية) سلافوي جيجك، أو (ديمقراطية) فريدمان، أو حتى حاول أن يتبرّك بماركس نفسه، وانهزاميٌّ حتى لو ادّعى انه يعود في نسبه الى عنترة بن شداد، أوالسوبرمان. كما إن الاستبداد المعولم هو مقدمة كل التوتر في العلاقات الدولية، فإن دَمَقْرطة العلاقات الدولية هو الأساس في تهدئةكل بؤر التوتر.

————————-

الإرهاب في أوروبا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا/ منير أديب

تزداد المخاوف من نشاط الحركة الجهادية في أوروبا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ومن تصاعد وتيرة الصراع في الدولة الأوروبية، ومن ثم انتقال لهيب الحرب إلى دول أوروبية أخرى، وهو ما ستترتب عليه زيادة في نشاط التنظيمات المتطرفة في قلب القارة العجوز.

لا خلاف على أن التنظيمات المتطرفة، وبخاصة العابر منها للحدود والقارات، تجد فرصتها في الانتشار والتمدد وسط الفوضى، ولا توجد فرصة ولا فوضى أكبر من التي تحققها الحرب، وبالتالي تمدد هذه التنظيمات وارد بصورة كبيرة ربما تُعاني منها أوروبا لعقود قادمة.

حالة السيولة التي تحققها الحروب هي بمثابة الملاذ الآمن والبيئة الحاضنة التي تظهر فيها تنظيمات العنف والتطرف، وهي فرصة جيدة للتمدد من دون مواجهة، فالكل مشغول بالحرب، هذه التنظيمات تفرض نفسها على الساحة بخطاب يُناسب لغة الحرب ويجد له رواجاً.

الحرب تفتح مساحة للمقاومة التي تتشكل غالباً من فصائل عربية وإسلامية أو مهاجرين على أساس أيديولوجي، كما كانت الحالة في أفغانستان إبان الغزو الروسي في نهاية السبعينات من القرن الماضي، ولكن مع الوقت تُصبح هذه التنظيمات مصدر إلهام للمسلمين الموجودين في هذه البلاد حتى تتحول إلى واقع مأساوي.

يجب ألا تغيب أفغانستان عن المخيلة في قراءة مشهد الغزو الروسي لأوكرانيا، صحيح أنها دولة آسيوية وليست أوروبيه كما هو الحال مع أوكرانيا، ولكن الغزو السوفياتي خلف تنظيم “قاعدة الجهاد” الذي نشأ على هامش هذه الحرب ومن رحمه خرج “داعش”، والبداية كانت حرباً، وروسيا كانت المشترك بين غزو أفغانستان وبين غزو أوكرانيا.

السلوك الروسي تكرر في جورجيا كما تكرر في الشيشان، وغزو كل منهما خلّف حركة جهادية ما زلنا نُعاني منها، الأولى أنتجت منظرين لهذه الحركة والثانية أنتجت مقاتلين وقادة عسكريين في تنظيم “داعش” على سبيل المثال، والمشترك بين كل منهما روسيا وغزوها لدول ذات سيادة.

التدخل الروسي في سوريا ربما ساعد بصورة أو بأخرى في نشأة بعض التنظيمات المتطرفة أو تمددها؛ فجزء من معاناة سوريا يتمثل في حجم التدخل الخارجي الذي أعطى مبرراً لوجود الجماعات المتطرفة التي تمثل لها هذه البيئة حاضنة أساسية للانتشار والتمدد.

روسيا لا تختلف كثيراً عن الولايات المتحدة الأميركية، كل منهما استخدم واستثمر جماعات العنف والتطرف من أجل مصالحه؛ الأولى دعمت ما أطلقت عليهم “المجاهدين العرب” الذين شكلوا في ما بعد نواة تنظيم “القاعدة” في الحرب الأفغانية، والثانية ردت الصاع صاعين إلى أميركا عندما دعمت “الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين” في العام 1987، والتي تشكلت من رحم هؤلاء “المجاهدين” وكان هدفها مواجهة أميركا، وهو ما أثمر تفجيرات أيلول (سبتمبر) في العام 2001.

نشأة “داعش” تمت على خلفية الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 عندما نشأ تنظيم ما سمي وقتها “الدولة الإسلامية في العراق” ثم تطور حتى بات “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، عندما أتيحت له الظروف العسكرية والأمنية، وهنا يتساوى الأميركيون مع الروس في استخدام جماعات العنف والتطرف.

قراءتنا لتمدد تنظيمات العنف والتطرف في أوروبا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا لم تكن من فراغ، وهي مبنية على قراءة للسلوك الروسي على مدار أكثر من نصف قرن، وقراءة أيضاً لطبيعة تشكيل جماعات العنف والتطرف، وهنا يمكن القول إن عوامل التشكل واحدة بين كل هذه التنظيمات.

لا يمكن أن نطابق هذه الحالات بعضها ببعض ولا يمكن أن نصف عوامل النشأة والتمدد بأنها متطابقة بين كل التنظيمات والميلشيات المسلحة، ولكن التقارب والتشابه بين هذه التنظيمات واضحان ما يدفعنا الى التنبؤ وقراءة المستقبل.

نحن نتحدث عن تمدد لهذه التنظيمات في أوروبا بدت تتشكل ملامحه في باريس من العام 2016 على خلفية التفجيرات التي حاصرتها من كل مكان ومنها انتقلت إلى كثير من العواصم الأوروبية التي باتت في وقت من الأوقات عاجزة عن مواجهة خطر هذه التنظيمات، كما باتت عاجزة عن مواجهة خطر “الإخوان المسلمين” أو قراءة هذا الخطر.

زاد خطر تنظيمات العنف والتطرف بصورة كبيرة بعد سقوط دولة “داعش” في آذار (مارس) من العام 2019 وليس قبله ولا أثناءه بالمقارنة، اذ انتشرت خلايا التنظيم النشطة والخاملة في كل القارة بذئابها المنفردة والمتفردة، وبات مصدر التهديد من التنظيم الذي سقطت دولته بعد انتشار مقاتليه في شكل خلايا، وهو ما صعّب من المهمة وجعل أوروبا على حافة الخطر بسبب هذه الخلايا.

وهنا نتحدث عن عودة المقاتلين الأجانب إلى دولهم التي أتوا منها بعد سقوط دولة “داعش”، أما في حالة الغزو الروسي فقد يبدو الوضع مختلفاً، حيث تُصبح أوكرونيا نفسها مركزاً لتجمع هؤلاء المتطرفين لمواجهة الروس، وهنا تُصبح أوروبا مع الوقت في حال تصاعد وتيرة الحرب إلى مصدّر للعنف في منطقة الشرق الأوسط.

من المرجح انتشار الحركة الجهادية في شرق أوروبا وتحديداً في دول القوقاز وداغستان وأوكرانيا على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا بعدما قرر عدد من المسلمين القتال في صفوف القوات الأوكرانية في مواجهة الروس، وهذا يذكرنا بنشاط هذه التنظيمات في أفغانستان، كمثال بعد الغزو السوفياتي لها في العام 1979، اذ تحولت أفغانستان منذ هذا التاريخ إلى خزان للحركة الجهادية في العالم، وهنا يتعامل هؤلاء “الجهاديون” بمنطق الثأر من روسيا، وهو ما سيوفر بيئة حاضنة للإرهاب.

قرار الرئيس الشيشاني رمضان قديروف مساندة القوات الروسية والقتال معها ضد القوات الأوكرانية، ربما يدفع هذه التنظيمات إلى التمدد، فالمقاتلون الشيشانيون يمثلون رقماً مهماً في التنظيمات المتطرفة العابرة الحدود والقارات، ويشكل هؤلاء المقاتلون الذراع القوية داخل هذه التنظيمات، فكثير من قادة “داعش” العسكريين من الشيشان، وهم يمتازون بالغلظة التي أهلتهم لهذا الدور.

الغزو الروسي لجورجيا في العام 2008 زاد من نشاط التنظيمات المتطرفة، وربما أنتج عمر الشيشاني، كمثال، والذي كان يعمل في الاستخبارات الجورجية غير أنه حدث له التحول “المستحيل” وأصبح أحد أهم قادة التنظيمات المتطرفة الأخطر، والمنظر والملهم لجماعات العنف والتطرف في العالم!

وهذا ما أشرنا إليه من أن الحرب وما تحققة من فوضى وسيولة تؤديان إلى زيادة نشاط التنظيمات المتطرفة وتزيدان من تمددها، ولعل هذه التنظيمات هي أحد أهم مخلفات الحرب والنزاعات، حيث تُصبح الدولة أضعف في مواجهتها، كما تستغل هذه التنظيمات خطاباً يبدو أكثر تطرفاً في ظروف الحرب المضطربة.

الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا لها جميعاً أدوار كقوى دولية فاعلة في مواجهة التنظيمات المتطرفة، بخاصة عابرة الحدود والقارات؛ الدور الأميركي بدا واضحاً قي التحالف الدولي الذي واجه دولة “داعش” في الشرق الأوسط، كما أن الدور الروسي يبدو واضحاً في مواجهة هذه التنظيمات في سوريا كمثال، ومن هنا يمكن القول إن أي نزاع بين هذه الدول يجعلها تنصرف عن المواجهة مباشرة، فمع تقويض فرص مواجهة الإرهاب تبدو هذه التنظيمات أكثر تمدداً، وهذا لا يعفيها من فكرة استخدام هذه التنظيمات واستثمار وجودها لمصالح سياسية.

“داعش” ينقل مركزه من الشرق الأوسط إلى أوروبا في ظل حالة من التصعيد قد تخلق أفغانستان جديدة في قلب أوروبا تُعاني منها القارة المنكوبة لعقود قادمة، فنزع أي فتيل للأزمة وتقليل وتيرة التصعيد حتى انتهاء الصراع سيقضي على طموح هذه التنظيمات في القارة العجوز التي تبدو أنها على صفيح ساخن وخلاف ذلك سوف يؤدي إلى انتشار الحالة الجهادية.

النهار العربي

—————————–

“الحرب الشفافة” والمصادر المفتوحة من سوريا إلى أوكرانيا/ ماهر الوكاع

أضاف الإعلام الغربي إلى حرب أوكرانيا صفة “الشفافية”، ونقل وهو تغمره الدهشة تحركات الجيش الروسي التي ترصدها صور الأقمار الصناعية، وكاميرات هواتف المواطنين الأوكرانيين، حتى بدأ بوصفها أيضا بأنها أكثر الحروب توثيقا عبر التاريخ وهو وصف أطلقوه على الثورة السورية من قبل.

تأتي الدهشة مما قدمته استخبارات المصادر المفتوحةOSINT  التي اعتمد عليها بشكل كبير في الحشد الإعلامي الغربي ضد روسيا، حتى بتنا نرى أرتال الجيش الروسي كما لو كنا في غرفة عمليات عسكرية.

تقول مجلة إيكونوميست إن “حقبة جديدة من الحرب الشفافة تلوح في الأفق”، وتقصد بذلك أن تحركات الجيوش وانتهاكاتها باتت مرصودة بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، وأن الفضل في ذلك يعود للمصادر المفتوحة. وهذه الأخيرة لم تظهر فجأة في أوكرانيا، بل بدأ العمل بها كمصدر صحفي مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وعُززت أدواتها في سوريا.

“المعلومات المتاحة للجمهور هي أكبر وسيلة للتجسس يمكن أن تستخدمها سواء كنت مديرا تنفيذيا أو قائدا عسكريا. إذا لم يكن لديك منفذ إلى وسائل الإعلام الاجتماعية… فستفشل”. هذا ما قاله عام 2012 مايكل فلين المدير السابق لوكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية (DIA).

فلين قال أيضاً إنه قبل ​​ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، كانت 90 في المئة من المعلومات الاستخبارية المفيدة تأتي من مصادر سرية. الآن يحدث العكس تماماً، 90 في المئة من المعلومات الاستخبارية المفيدة تأتي من مصادر مفتوحة يمكن لأي شخص في أي مكان أن يستفيد منها.

مخابرات المصادر المفتوحة (OSINT) التي تفطّن لها فلين، ظهرت أول مرة في ثلاثينيات القرن الماضي، حين تم فصلها عن حرفة التجسس التقليدية خلال الحرب العالمية الثانية. وكان المحللون المتعاونون مع وكالة الاستخبارات الأميركية يعرفون عدد الإصابات في صفوف جيش هتلر من قسم النعوات في الصحف الألمانية المتوافرة في سويسرا المحايدة. مع نهاية الحرب كان المحللون يصنفون نحو 45000 صفحة من الدوريات الألمانية كل أسبوع.

أبعد أوباما فلين عن رئاسة الاستخبارات العسكرية في 2014، فالنظرة الثورية التي تمتع بها وحاول تطبيقها انقلبت ضده. تحويل عمل الاستخبارات ليعتمد بشكل أكبر على المصادر المفتوحة مثّل تحديا كبيرا لعقلية الجواسيس الأميركيين التقليدين. لكن تفكير فلين ساهم لاحقا في تولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة وعينه مستشاره للأمن القومي. ومعظمنا يتذكر كيف استغلت حملة ترامب الأولى ثغرات فيس بوك للفوز بالانتخابات الرئاسية 2017 بما بات يعرف بفضيحة كامبريدج أناليتيكا.

استخدام المصادر المفتوحة في الصحافة بدأ في الظهور على شكل تجارب صغيرة قادها هواة، وقدمت سبقاً في الحصول على المعلومة، تجاوز مخابرات الدول.

البداية من سوريا

الاستخدام الأوضح لمصادر البيانات المفتوحة في صحافة الحروب ظهر مع نشر روسيا قواتها وطائراتها في سوريا لدعم بشار الأسد، وتم توثيق الفترة التمهيدية لتدخلها قبل أشهر من الإعلان الروسي الرسمي، وكان ذلك دليلا مبكرا على قوة استخبارات المصادر المفتوحة.

في 22 من آب 2015، نشرت مدونة تركية صورا لسفينة شحن روسية كانت قد عبرت مضيق البوسفور قبل يومين. وكانت على سطحها، المغطى بالأقمشة، حاملات جند مدرعة من طراز BTR الروسية. وبعد يوم واحد، ظهر شريط فيديو تضمن لقطات للمدرعة الروسية BTR-82 في سوريا.

مع استمرار التعزيز العسكري الروسي، ملأت الإنترنت أدلة المصادر المفتوحة التي تشير إلى تورط روسيا المباشر في سوريا. في أواخر آب وأوائل أيلول، نشر عنصر من القوات الروسية صورا شخصية على مواقع وسائل التواصل الاجتماعية، وقال إنهم متوجهون إلى القاعدة العسكرية الروسية البحرية في طرطوس. في الثاني من أيلول (سبتمبر)، نُشرت على تويتر صور الطائرات الروسية في سماء سوريا. خلال النصف الأول من شهر أيلول، بدأ الهواة تتبع رحلات الشحن الروسية إلى سوريا. وقالت موسكو إن الطائرات كانت تنقل مساعدات إنسانية، ولكن تم التقاطها في قاعدة عسكرية روسية محملة بمروحيات هجومية.

حالة ثانية تشبه التدخل الروسي في سوريا، استخدمت فيها استخبارات المصادر المفتوحة بشكل كبير.

خلال التدخل الروسي في أوكرانيا عام 2014، تم إسقاط طائرة الخطوط الجوية الماليزية MH 17 في شرق أوكرانيا، كانت المادة المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل قائد انفصالي واحدة من أفضل المؤشرات المبكرة بأن القوات الروسية العاملة هناك كانت متورطة. بعدها بأيام تم نشر مزيد من الصور، والفيديوهات، والتغريدات التي توثق وجود نظام صاروخي روسي من طراز بوك، الذي قال المحققون إنه تم استخدامه في تدمير الطائرة.

بدأ مجتمع الاستخبارات الأميركي بالتحرك متأخرا لتحسين دمج استخبارات المصادر المفتوحة في عمله. وذكر مدير سي آي إي السابق (2013 -2017) جون برينان إن تحسين قدرة وكالته على حصد الأفكار من هذه المصادر يعد جانبا محوريا في محاولته لإصلاح المنظمة.

علق برينان الأمر بالقول “في كل مكان نذهب إليه وكل ما نقوم به نترك بعض الغبار الرقمي ومن الصعب أن تعمل بالسر عندما تترك هذا الغبار خلفك (…) بعض الأشياء تنشر الآن على وسائل التواصل الاجتماعي عن خصومنا وهم لا يدرون”.

لم يقتصر استخدام الاستخبارات المصادر المفتوحة على الاستخدام العسكري والصحفي. تقول دراسة إنه في عام 2015 اعتمد نحو 80٪ من سلطات تطبيق القانون في الولايات المتحدة على منصات وسائل التواصل الاجتماعي كأدوات لجمع المعلومات الاستخبارية.

شركات المخابرات التجارية بدأت اكتشاف الخزانات الممتلئة للبيانات على وسائل التواصل الاجتماعي، وتحويلها إلى معلومات استخبارية تقدمها لعملائها. كما باشرت منظمات المجتمع المدني في تبني تحقيقات مبنية على المصادر مفتوحة وفي مقدمتها وسائل التواصل الاجتماعي، واستخدمت لتتبع انتشار الأسلحة النووية والكيميائية، ورصد الصراعات، فضلاً عن  الإعلام والصحافة الاستقصائية.

وزاد من جدوى استخبارات المصادر المفتوحة، النمو الهائل في صناعة السواتل (أقمار صناعية) التجارية، التي تلقت في عام 2013 إيرادات بلغت 195 مليار دولار. تقدم شركات مثل DigitalGlobe وAirbus، أكبر شركتين في الميدان، لعملائها صورا ليست بعيدة عن قدرات الحكومة الأميركية، وشاهدنا نموذجا عنها خلال الغزو الروسي لأوكرانيا.

مؤشرات المصادر المفتوحة (OSI)

أحدثت وكالة المخابرات الأميركية في العام 2015 مكتب الابتكار الرقمي لدمج المصادر المفتوحة في عملها، وأصبح أول مكتب جديد في المنظمة منذ العام 1968، وتم اعتباره أكبر تغيير في تاريخ التجسس الأميركي.

تولى المكتب نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية أندرو هالمان الذي اختاره مدير (CIA) السابق جون برينان رائد التغيير في منظمة التجسس الأميركية، وأوكلت إليه مهام عديدة؛ أهمها تحويل كميات هائلة من البيانات التي تجمعها الوكالة إلى رؤية مفيدة للمحللين، أي تحويل الثرثرة والغبار الرقمي اليومي في المصادر المفتوحة إلى رؤية مستقبلية.

قال هالمان: “لدينا القدرة على وضع رؤى تعطي المحللين قدرة حقيقية على التنبؤ” وأشار إلى أن التنبؤات التي تنتج عن فهم جيد للاحتمالات، تختلف اختلافا جوهريا عن التوقعات.

يضيف العسكري الأميركي “وسائل التواصل الاجتماعي تقدم ليس فقط معلومات استخبارية لعمليات محددة كاستهداف داعش في سوريا، ولكن معلومة عن درجة حرارة كامل السكان (الرأي العام). إنها تحليل للمشاعر على نطاق واسع جداً”.

قصد هالمان في حديثه “مؤشرات المصادر المفتوحة” التي تقول إن العديد من الأحداث الاجتماعية المهمة تسبقها تغيرات على مستوى السكان في الاتصالات والاستهلاك والحركة، وبعض هذه التغييرات يمكن ملاحظتها بشكل غير مباشر من بيانات المصادر المفتوحة، مثل بحث الويب، المدونات والأسواق المالية وكاميرات المرور وتعديلات Wikipedia، ووسائل التواصل الاجتماعي. حيث تعد مصادر البيانات المذكورة عاملا مهما في التنبؤ بالأزمات السياسية والأزمات الإنسانية وأعمال الشغب والهجرة الجماعية وتفشي الأمراض والأزمات الاقتصادية.

سبق (CIA) في ذلك مكتب مدير المخابرات الوطنية الأميركية (Director of National Intelligence) حيث تولى نشاط مشاريع أبحاث المخابرات المتقدمة (IARPA) التابع له عام 2011 تطوير آليات لـ لمؤشرات المصادر المفتوحة سماها مشروع (EMBERS).

بدأ المشروع  في أبريل 2012 بفحص مسارات البيانات المفتوحة المصدر في أميركا اللاتينية وتبين أن متوسط ​​80 إلى 90 في المئة من التوقعات التي يصدرها EMBERS كانت دقيقة، وأنها تصل إلى متوسط ​​سبعة أيام قبل الحدث المتوقع: لقد تنبأ بدقة بإقالة رئيس باراجواي في عام 2012، واحتجاجات كأس العالم في البرازيل عام 2013، واحتجاجات الطلاب في فنزويلا العام 2014. يراقب البرنامج الآن 20 دولة في أميركا اللاتينية، وانتقل إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأطلق في صيف 2018 منحة Mercury Challenge التي تسعى إلى إيجاد حلول وأساليب مبتكرة لإنتاج آلية للتنبؤات في ثمانية بلدان عربية، وتشمل الأحداث والنشاطات العسكرية في سوريا والعراق ومصر ولبنان والسعودية، والأردن وقطر والبحرين. بالإضافة لمرض معد في السعودية؛ وإحصاء يومي أو أسبوعي أو شهري للأحداث والاضطرابات المدنية غير العنيفة في الأردن ومصر.

أضافت فعلا المصادر المفتوحة إلى الحروب الحالية صفة الشفافية وباتت انتهاكاتها تسجل بأكثر من زاوية، لكن المجرم يطمس معالم جريمته عندما يخاف العقاب، فما نفع الشفافية إذا كانت لا تتبعها محاسبة، فقد تتحول الشفافية إلى أحد أدواته في إرهاب الضحايا والمتضامنين معهم.

تلفزيون سوؤيا

——————————

موسكو:قوافل الاسلحة الى أوكرانيا “أهداف مشروعة” للجيش الروسي

قالت وزارة الخارجية الروسية إن المقترحات التي تقدمت بها موسكو إلى الولايات المتحدة وحلف شمال الاطلسي “الناتو” قبل بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، بهدف وضع نظام ضمانات أمنية متبادلة للحفاظ على الأمن في القارة الأوروبية “لم تعد سارية”.

وقال نائب وزير الخارجية الروسية سيرغي ريابكوف في حوار مع القناة الأولى الروسية السبت: “لا أستطيع القول إن المقترحات لا تزال قائمة لأن التوازن تغير جذرياً والوضع حالياً مختلف تماماً”، مضيفاً “المهمة تكمن الآن في ضمان تحقيق الأهداف التي طرحتها قيادتنا قبل بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، وهذه الأهداف أعلنت مراراً ومعروفة جيداً”.

وسلمت روسيا منتصف كانون الأول/ديسمبر الولايات المتحدة مشروع معاهدة حول الضمانات الأمنية تضمنت ثمانية مطالب روسية، أهمها التعهد بمنع توسع حلف الناتو شرقاً، وعدم انضمام دول من الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفييتي إلى الحلف.

وأعلن وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف في كانون الثاني/يناير أن الرد الأميركي على مشروع معاهدة الضمانات الأمنية “لم يتضمن إشارات إيجابية” بشأن القضايا الأساسية التي عرضتها بلاده.

كما أعلن ريابكوف أن روسيا مستعدة لاستئناف محادثات الحد من التسلح مع الولايات المتحدة “إذا كانت واشنطن مستعدة لذلك”. وقال إن “الاتصالات بين موسكو وواشنطن ما زالت مستمرة، ولكن الكرملين لا يرى أي مؤشرات على أن واشنطن مستعدة لمواصلة الحوار بشأن أوكرانيا”.

وأضاف أن مستقبل هيكل أمن أوروبا ونظام الرقابة على التسلح يتوقف على مدى استعداد الغرب بقيادة الولايات المتحدة للتعاون مع موسكو في هذا الشأن.

وأعلن أن موسكو ستنشر قريباً قوائم عقوبات رداً على العقوبات الأميركية، مشيراً الى أن الغرب أعلن صراحة حرباً اقتصادية على موسكو. وقال إن روسيا قد تتخذ إجراءات عسكرية بغية منع دول أجنبية من تصدير أسلحة إلى الحكومة الأوكرانية.

وأضاف: “حذرنا الولايات المتحدة من أن تنظيمها لعمليات ضخ أسلحة من عدد من الدول إلى أوكرانيا لا يشكل خطوة خطيرة فحسب بل وخطوة تجعل من قوافل الأسلحة تلك أهدافاً عسكرية مشروعة للجيش الروسي”.

وتابع ريابكوف أن موسكو حذرت واشنطن من “عواقب قد يجلبها إمداد أوكرانيا على نحو طائش بأسلحة مثل منظومات صاروخية نقالة مضادة للجو وصواريخ مضادة للدبابات”، وأردف أن “واشنطن لا تأخذ هذه التحذيرات الروسية على محمل الجد”.

واتهم المسؤول الروسي واشنطن بمحاولة “فرض أجندة خاصة بها على المجتمع الدولي”، رداً على تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن عن خطر اندلاع الحرب العالمية الثالثة في ظل الأحداث في أوكرانيا.

وقال إن موسكو “لم تتخذ أي خطوات ولم تدل بأي تصريحات يمكن تقييمها كتصعيد”، مضيفاً “أرفع مسؤول أميركي يتحدث علناً عن خطر الحرب العالمية الثالثة..يأتي ذلك في محاولة لإثارة الأعصاب وفرض أجندة خاصة بهم على المجتمع الدولي ككل، والأهداف التخريبية لهذا النهج واضحة لنا”.

وكان الرئيس الأميركي جو بايدن قد تعهد الجمعة بـ”تجنب مواجهة مباشرة بين حلف شمال الأطلسي وروسيا لأنها ستؤدي إلى حرب عالمية ثالثة”. وقال بايدن في كلمة في البيت الأبيض: “لن نخوض حرباً ضد روسيا في أوكرانيا”، محذراً من أن موسكو “ستدفع ثمناً باهظاً إذا استخدمت أسلحة كيماوية” في أوكرانيا.

بيلاروسيا تحسم الجدل

في غضون ذلك، قال رئيس هيئة الأركان العامة في بيلاروسيا فيكتور جوليفيتش السبت، إنه ليس لدى بلاده خطط للانضمام إلى الهجوم الروسي على أوكرانيا ولكنها ترسل 5 كتائب تكتيكية إلى حدودها لتحل محل القوات المتمركزة بالفعل هناك في إطار عملية تناوب.

وقال جوليفيتش: “أريد أن أؤكد أن نقل القوات لا يرتبط بأي حال من الأحوال بأي استعداد ولا سيما بمشاركة جنود من بيلاروسيا في العملية العسكرية الخاصة على أراضي أوكرانيا”.

وكان مسؤول أمني أوكراني كبير قد حذر الجمعة، بيلاروسيا من إرسال قوات إلى أوكرانيا، وقال إن أوكرانيا تتحلى بضبط النفس تجاه بيلاروسيا على الرغم من استخدامها كنقطة انطلاق للطائرات الروسية.

———————–

Russian-Oligarchs

بينهم بائع “هوت دوغ” ومدرب الجودو الخاص ببوتين: وجوه من الأوليغارشية الروسيّة التي تلاحقها العقوبات/ مناهل السهوي

على رغم وعود بوتين خلال حملته الانتخابية بالقضاء على الأوليغارشية الروسية، إلا أنه لم يسعَ في الحقيقة إلى القضاء عليهم كلياً إنما سحق الأوليغارشية المزعجة له سياسياً فقط.

يواجه “طباخ بوتين” عقوبات غربية اليوم للاشتباه بصلته بشركة “فاغنر” العسكرية ذات السمعة السيئة. وأعرب يفغيني بريجوزين وهو أحد أثرياء الأوليغارشية المقربين من بوتين، عن شعوره بالضيق من العقوبات التي ستمنعه من مواصلة أعماله التجارية في أوروبا. بدأ بريجوزين صعوده إلى السلطة في بيع “الهوت دوغ”، وبعد فترة وجيزة من إطلاق سراحه من السجن بتهمة السرقة، افتتح سلسلة مطاعم، ليحقق لاحقاً نجاحاً كبيراً وتعتبر مطاعمه الراقية من أفضل المطاعم في روسيا اليوم، ما أكسبه لقب “طباخ بوتين”، ودفعه إلى الدوائر الداخلية للنخبة الروسية. طباخ بوتين ليس الوحيد الذي يعاني من العقوبات اليوم، إذ قال الرئيس الأميركي جو بايدن متوجهاً إلى نخبة الأثرياء الروس: “سنستولي على يخوتكم وشققكم الفاخرة وطائراتكم الخاصة”.

كيف ظهرت الأوليغارشية؟

الأوليغارشية هي الانعكاس الفظ للرأسمالية الجشعة التي لا يوقفها شيء. في الحالة الروسية ظهرت هذه الأوليغارشية من رماد الشيوعية السوفييتية، وتضم النخب التجارية فاحشة الثراء التي تمتلك أيضاً قوة سياسية متفاوتة، وتأتي أهمية الأوليغارش اليوم لسببين، أولاً كونهم يديرون عجلة اقتصاد روسيا وثانياً لقربهم من الرئيس بوتين وقدرتهم على التأثير في قراراته، إلا أنهم يعيشون واحدة من أسوأ الفترات منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، وقد بدأوا بالفعل بتهريب يخوتهم العملاقة نحو المالديف، إذ تم نقل ما لا يقل عن خمسة يخوت روسيّة عملاقة إلى هناك، بهدف حمايتها من العقوبات الغربية، فالمالديف لم يسبق أن وقعت معاهدة مع الولايات المتحدة لتسليم المجرمين. وبحسب الموقع المتخصص في تتبع حركة السفن marine traffic، فإن من بين اليخوت التي وصلت إلى المالديف، يخت نيرفانا المملوك لأغنى رجل في روسيا، فلاديمير بوتانين، الذي وصل في 2 آذار/ مارس، لكن ماذا عن الطائرات الخاصة والقصور الفاخرة، والمجموعات الفنية والتي تقدر بملايين الدولارات؟ هل يمكن وضعها جميعها على اليخوت والهرب بها نحو المالديف؟

تختصر هذه المجموعة العلاقة القذرة بين السياسة والمال، الصفقات المشبوهة، التسلق السياسي لجمع الثروات، ولفهم مدى تأثير الأوليغارشية اليوم في السياسة الروسية، لا بد من العودة قليلاً إلى الخلف، إذ ظهرت المجموعة الأولى من الأوليغارشية الروسية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وخصخصة الدولة التي رافقها الكثير من الفساد الذي وصل ذروته في مخطط “القروض مقابل الأسهم”، إذ نُقِلَتْ حصص 12 شركة كبيرة للموارد الطبيعية من الحكومة، وتم على إثرها اختيار كبار رجال الأعمال مقابل قروض تهدف إلى دعم الميزانية الفيدرالية، لتتخلف الحكومة عن سداد القروض عمداً. سمح ذلك للأوليغارشيين ببيع حصص الشركات العملاقة في مزاد علني لأنفسهم، وهكذا سهّلت الدولة إثراء مجموعة صغيرة من كبار رجال الأعمال، مقابل معاناة اجتماعية ومعيشية يواجهها المواطنون الروس.

لأوليغارشية هي الانعكاس الفظ للرأسمالية الجشعة التي لا يوقفها شيء.

بوتين يصنع الموجة الثانية من الأوليغارشية

ظهرت الموجة الثانية من الأوليغارشية بعد استلام بوتين السلطة عام 2000، ما سهّل وصول هؤلاء من خلال عقود الدولة، إذ قام الموردون الخاصون في قطاعات مثل الدفاع والبنية التحتية والرعاية الصحية بتحصيل رسوم زائدة على الحكومة وهي أسعار تزيد أضعافاً على سعر السوق، وهو ما وفر عمولات إضافية للمعنيين من مسؤولي الدولة. وهكذا أثرى بوتين مجموعة جديدة من الأوليغارشية الذين سيدينون له بثرواتهم الهائلة.

في تسعينات القرن الماضي، كان لهذه الفئة دورٌ أساسي في الكرملين، إذ تمكنوا من إملاء السياسة في بعض الأحيان، حتى أن كثراً منهم تولوا مناصب سياسية تحت حكم بوريس يلتسين، إلا أن الأمر تغير منذ وصول بوتين فأصبح صاحب القرار واقترح صفقة ليبعدهم من السياسة، مقابل أن يغض الكرملين النظر عن أعمالهم ويترك لهم مكاسبهم غير الشرعية.

تعرضت الأوليغارشية لضغوط أكبر مع صعود بوتين، كما ساهمت خيبة الأمل الشعبية من خصخصة التسعينات في التراجع الجزئي للأثرياء في بداية القرن الحادي والعشرين فأصدر بوتين قوانين تمنح معاملة تفضيلية لما يسمى بشركات الدولة، وهكذا سيطر بوتين على الاقتصاد وعلى الأوليغارشية معاً.

وعلى رغم وعود بوتين خلال حملته الانتخابية بالقضاء على الأوليغارشية الروسية، إلا أنه لم يسعَ في الحقيقة إلى القضاء عليهم كلياً إنما سحق الأوليغارشية المزعجة له سياسياً فقط.

الأوليغارش أصدقاء بوتين

تقسم الأوليغارشية الروسية اليوم إلى ثلاث مجموعات بحسب قرب أثريائها من بوتين. المجموعة الأولى تضم المقربين من الرئيس الروسي إذ صعد كثر من أصدقاء بوتين سريعاً نحو الثروة، ومنهم يوري كوفالتشوك الملقب بالمصرفي الشخصي لبوتين، والأخوان أركادي وبزريس روتنبرغ، وهما كانا رفيقي تدريب الجودو المراهقين لفلاديمير بوتين. وبعد وصول بوتين إلى الرئاسة سمح للأخوين بالسيطرة على الشركات الكبيرة المملوكة للدولة ليصبحا من الأثرياء الروس! ومن الأوليغارشية المفضلين لبوتين هو أليشر عثمانوف، عثمانوف الذي ساهم بشكل رئيسي في ظهور موقع Facebook، إذ بدأ الملياردير الاستثمار في الشبكة الاجتماعية منذ عام 2009، في حين كانت الشركة تواجه مشكلة في التمويل، في حينها ضخ عثمانوف أكثر من 900 مليون دولار في الشركة، وامتلك ما يصل إلى 10 في المئة منها قبل أن يبيع حصته عام 2014، محققاً المليارات. كما أنه كان مستثمراً رئيسياً في Apple وTwitter وLinkedIn، إلا أن الاتحاد الأوروبي عاقب عثمانوف وصادرت السلطات الألمانية يخته الضخم Dilbar الذي تبلغ تكلفته 600 مليون دولار والذي يضم أكبر مسبح داخلي لليخوت في العالم.

ومن الأصدقاء المقربين لبوتين ليونيد ميخلسون، أغنى رجل في روسيا عام 2016، وهو مؤسس ورئيس مجلس إدارة شركة “نوفاتيك” المنتجة للغاز الطبيعي. يمتلك ميخلسون مجموعة فنية تبلغ قيمتها 200 مليون دولار، كما انضم إلى مجلس الأمناء في متحف نيويورك الجديد عام 2013، يقال إن يخته الفاخر يستوعب طائرتي هليكوبتر، إلا أنه لم يخضع حتى الآن للعقوبات الغربية، وقد يعود السبب إلى امتلاكه شركة الغاز الطبيعي وحاجة أوروبا إليه. لكن هذا لا ينفي صفقاته المشبوهة، إذ كشفت “أوراق بنما” أنه استخدم نظاماً معقداً من الشركات الوهمية لتسجيل طائرة خاصة من نوع “غلف ستريم” بقيمة 65 مليون دولار في الولايات المتحدة، والتي تتطلب في معظم الحالات الجنسية الأميركية أو الإقامة الدائمة.

وليس آخر أصدقاء بوتين، إيغور شوفالوف وهو نائب رئيس الوزراء الروسي من 2008 إلى 2018، وكما كثيرين ادعى أنه أحد أنظف المسؤولين في روسيا، إلا أن تحقيقاً كشف شراءه من خلال شركة صورية، شقتين فاخرتين في لندن عام 2014، واستخدم طائرة خاصة سرية لنقل كلاب زوجته حول العالم لأنه درجة الأعمال ليست مريحة بما يكفي لها، كما أوضح أحد مساعديه!

أما المجموعة الثانية والتي لها علاقات أقل من المجموعة الأولى مع بوتين فتضم قادة الأجهزة الأمنية الروسية والشرطة والجيش وبعضهم ينتمي إلى المخابرات السوفييتية السابقة، وكانوا ينظرون بغيرة إلى سلطة الأوليغارشية وثروتها في عهد يلتسين، ليحصلوا على كلتيهما في عهد بوتين، أما المجموعة الثالثة وهي تضم الجزء الأكبر من الأوليغارش الروس الذين لا تجمعهم صلات شخصية ببوتين أو الجيش أو جهاز الأمن الفيدرالي.

على رغم من بعد بعض الأوليغارش الجزئي من السياسة الروسية إلا أنهم ومن خلال أموالهم تمكنوا من التحكم بقرارات بعض الدول أو مسؤولين فيها. على سبيل المثال، أقرض بنك FCRB الروسي نحو 10 ملايين دولار لحزب مارين لوبان الشعبوي المناهض للاتحاد الأوروبي في فرنسا، عام 2014، ما تسبب في ديون سياسية لروسيا، وهذا يفسر إلى حد كبير امتناع فرنسا حتى الآن عن السماح لمواطنيها بالتطوع للقتال في أوكرانيا. وعام 2016، دفعت شركة “لوك أويل”، ثاني أكبر شركة نفط روسية، غرامة حكومية قدرها 1.4 مليون دولار لمارتن نيجدلي، وهو مستشار رئيسي للرئيس التشيكي، ما سمح له بالاحتفاظ بمنصبه المؤثر وقد ساعد الروس على كسب تعاطف الرئيس التشيكي في حربهم على أوكرانيا.

من جانب آخر، عارض بعض الأوليغارش حرب بوتين، ومنهم رئيس مجموعة “ألفا” ميخائيل فريدمان وقطب المعادن أوليغ ديريباسكا وكلاهما أُدرج على قائمة العقوبات الغربية، ليصبح ميخائيل فريدمان واحداً من أوائل القلة الحاكمة الذين تحدثوا علناً ضد غزو أوكرانيا، واصفاً ذلك بالمأساة، وكتب أن “الحرب لا يمكن أن تكون الحل أبداً”، كما دعت “لوك أويل” إلى إنهاء الحرب، وهي ثاني أكبر شركة نفط روسية، على رغم أنها لا تخضع حالياً لعقوبات مباشرة.

ينضم إلى القائمة رومان أبراموفيتش، مالك نادي تشيلسي والذي عرض ناديه للبيع قائلاً إنه سيتبرع بثمنه إلى ضحايا الحرب في أوكرانيا، وعلى رغم عدم إدراجه على لوائح العقوبات حتى الآن، إلا أنه يعتبر مقرباً من بوتين ويمتلك الملياردير أحد أكثر اليخوت غرابة في العالم، مع غواصة على متنها وثلاث طائرات هليكوبتر، كما امتلك عدداً من العقارات باهظة الثمن في الولايات المتحدة.

وسط عدم اكتراث بوتين، ظاهرياً على الأقل، للعقوبات الغربية على بلاده وتجاهله الاحتجاجات التي تعم العالم، توجّه الغرب بالفعل إلى معاقبة الأوليغارش المقربين منه، على أمل أن يرضخ لوقف حربه ضد أوكرانيا ويجلس إلى طاولة المفاوضات. إلّا أن آراء أخرى تجد أنه قد لا يكون للأوليغارش تأثير حقيقي لأنهم في الغالب يتنافسون في ما بينهم للتقرب من الكرملين، بعيداً من الدفاع عن المصالح المشتركة مثل رفع العقوبات، إلى جانب أن الكرملين وعد بدعم الدولة للشركات المعاقبة، بخاصة في القطاع المصرفي، فهل ستساهم العقوبات في الضغط على بوتين لوقف الحرب أم أنها ستزيد من جنون بوتين؟

درج


==========================

نتيجة حصول خطأ فني في القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة” نستمر في تغطية هذا الملف الحيوي هنا

آثار القصف الروسي على كييف

تحديث 19 أذار 2022

————————

أوكرانيا بعد سوريا: بدائع لافروف والقادم أعظم/ صبحي حديدي

رغم أنه ليس، البتة، بدراً يُفتقد في الليلة الظلماء، لأنه ببساطة ليس صوت سيّده بل مجرد واحد من ظلاله الكثيرة؛ فإن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف احتل أعمدة صحف كبرى واجتذب العدسات والشاشات بعد ساعات قليلة أعقبت قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غزو أوكرانيا، على سبيل تفريغها من محتوى الدولة، وتقسيمها إلى كيانات انفصالية، وتحويلها إلى نسخة ثانية من بيلاروسيا، تمهيداً لإلحاقها بمدارات النفوذ الروسي. إطلالة لافروف الأولى، الأكثر دراماتيكية، كانت تلميحه إلى أن الحرب العالمية الثالثة لن تكون إلا نووية، ثم تخفيف التصريح عن طريق التأكيد بأن موسكو لا تنوي إطلاق حرب نووية في العالم. مناسبة لاحقة كانت اجتماع لافروف مع نظيرته البريطانية إليزابيث تراس في موسكو، حين غادر المؤتمر الصحافي قبلها، وصرّح أن ما جرى كان أشبه بحوار أبكم مع أصم.

وتمرّ هذه الأيام الذكرى الـ11 للانتفاضة الشعبية في سوريا، الأمر الذي يستحث على العودة إلى واحدة من تُحَف لافروف في “تحليل” المخاطر التي سوف تحيق بالبلد إذا سقط نظام آل الأسد. غير أن العودة إلى تلك التحفة قد لا تستقيم دون استذكار الحقيقة التي تقول إن 50 سنة انصرمت اليوم على انضمام لافروف إلى الجهاز الدبلوماسي السوفييتي، ثم الروسي؛ وإنه، إلى هذا، يشغل منصب وزير الخارجية منذ سنة 2004، مما يجعله ثاني أطول وزير خارجية إقامة في المنصب بعد أندريه غروميكو. يتوجب، والحال هذه، أن يكون عليماً واسع الاطلاع مخضرماً في دقائق الملفات، خاصة وأنه يعتبر الصفة الأولى المثلى في الدبلوماسي هي أن يكون مثقفاً جيد الإلمام بالتاريخ وقادراً على فهم “سيكولوجية” الجالسين أمامه على طاولة المفاوضات.

ومنذ التدخل العسكري الروسي في سوريا، لإنقاذ بشار الأسد من السقوط حسب تعبير لافروف نفسه، لاح أن الأسابيع والشهور واللقاءات والمناسبات لا تؤكد خلاصة دبلوماسية روسية بمقدار تأكيدها أن لافروف يملك من المعلومات عن النظام السوري أكثر بكثير مما يعرف عن سوريا ذاتها، البلد والشعب والتاريخ؛ وعلى صعيد مسائل ذات حساسية سياسية واجتماعية عالية، مثل حال الطوائف والأقليات، وفارق ألا تكون أقلية إثنية ما، أقلية دينية أو مذهبية أو طائفية بالضرورة التبسيطية الاختزالية. فكيف والرجل هو الدبلوماسي الأول للقوة الكونية العظمى الثانية، وقد عاصر الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، وفي متناوله أرشيفات سياسية واستخباراتية وأكاديمية تخص بلدان الشرق الأوسط عموماً، والأنظمة التي حكمتها أو ما تزال تحكمها سلطات صديقة للكرملين.

وأمّا تحفة لافروف السورية فقد كانت التصريح التالي الذي أدلى به لإذاعة “كوميرسانت إف إم” الروسية: “فى حال انهار النظام القائم في سوريا، فسيغري هذا بعض بلدان المنطقة لإقامة نظام سنّي في البلد”؛ وهذا إن حدث تطور مثير للقلق، لأنه سوف “يؤثر على مصير المسيحيين والأكراد والعلويين والدروز، وهو الأمر الذي قد يمتد إلى لبنان والعراق”! يصعب، من باب حسن الظن في الأجهزة السوفييتية/ الروسية، أن يكون ناصح أريب قد حشر في دماغ لافروف فكرة أن الأكراد أقلية طائفية، على سبيل التحفة الأولى. وإذا كان هؤلاء، والحديث يخص أكراد سوريا تحديداً، ينتمون إلى السنّة في غالبية ساحقة، فكيف يمكن أن تهددهم “دولة سنّية”، أو تؤثر على مصيرهم؟ وهل ثمة أي معنى ملموس، أصلاً، وراء هذا التعبير، الخاطئ والقاصر والركيك والغبي؟

وإذا كانت “دولة سنّية” هي الشبح الوشيك الذي تريد موسكو تفاديه، فما هي إذن تسمية “الدولة” الراهنة التي تساندها الحكومة الروسية وتريد الإبقاء عليها وإنقاذ مجرم الحرب الذي يحكمها بالحديد والنار والبراميل؟ وكيف فات لافروف أن السنّة في سوريا يشكلون قرابة 70 في المئة من السكان العرب، وقرابة 8 في المئة من السكان الأكراد، وبالتالي فإنهم ليسوا “طائفة” هنا (كما هي حالهم في العراق أو في إيران، مثلاً)، لأنهم ببساطة أغلبية الشعب الساحقة؛ ولا يصح توصيف ميول الأغلبية استناداً إلى المعايير ذاتها التي يخضع لها سلوك الأفراد، أو المجموعات المصغرة؟ وكيف تعذّر على خبراء وزارة الخارجية الروسية، إذ لا حاجة في هذا إلى علماء اجتماع من العيار الثقيل، أن يشرحوا للسيد الوزير تلك الحقيقة البسيطة التي تقول إن التطلع إلى الحرية والكرامة والمستقبل الأفضل ليس موضوع اختلاف بين أديان السوريين وطوائفهم، بل هو هدف الإجماع الأعرض اليوم، مثلما كان محل اتفاق وتراضٍ في الماضي أيضاً؟

ما لا يقلّ أهمية، في المقابل، هو أن نظام آل الأسد ليس وليد طائفة واحدة منفردة، حتى إذا كانت إحدى ركائزه تقوم على تجييش محموم ومنهجي ومنظّم لطائفة بعينها، والإيحاء بتمثيلها، وتعهد مصيرها، وتخويفها بالاندثار إذا سقط النظام. كذلك فإن هذا النظام ليس له دين واحد، مهما أتقن رجاله ألعاب التمسح بالأديان أو التزلف للمتدينين، وخاصة في أوساط السنّة… للمفارقة، غير المدهشة أبداً. وكما قلنا، ونقول دون كلل: لن يدافع أنصار النظام عن بقائه لأسباب دينية أو طائفية، بصرف النظر عن توفر أنساق متباينة من الولاء العصبوي؛ بل ستحركهم أسباب أخرى أدنى إلى الأرض منها إلى السماء، على رأسها امتيازات السلطة، ومنابع النهب والفساد، والهروب إلى الأمام من ساعة الحساب العسير حين تنقلب سوريا من مزرعة إلى دولة حق وقانون.

وإذ يُوضع منوال كهذا في الاعتبار، فلن يكون عجيباً إذا اتضح أن ناصحي لافروف في حكاية الترهيب من مجيء “دولة سنّية”، هم أنفسهم الذين نصحوا الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف باختيار صحيفة “الوطن” السورية الخاصة، وليس أي صحيفة أخرى حكومية مثل “البعث” أو “الثورة” أو “تشرين”، لتوجيه رسالة إلى الشعب السوري، عندما زار دمشق في أيار (مايو)، سنة 2010. إذ كيف للناصح، كائناً من كان، أن يجهل أن الصحيفة المحظوظة أطلقها ويملكها رامي مخلوف، ابن خال الرئاسة وأشد رجال الأعمال السوريين فساداً وإفساداً ونفوذاً وهيمنة وسطوة وسيطرة على ميادين المال والاستثمار والتجارة والاتصالات؟ وإذا كان يعرف، كما يعرف أيّ ذي بصر وبصيرة، فإن نصح رئيسه أن ينتقي هذه المطبوعة بالذات لم يكن عشوائياً ولا بريئاً، وكان إرسال إشارات ذات مضامين سياسية واقتصادية هو القصد؛ ليس دون الكثير من المغزى الإيديولوجي، في تفضيل القطاع الخاص على الحكومي، وإطراء مافيات المال والأعمال.

أوكرانيا ليست سوريا بالطبع، وما يتسامح فيه سيّد الكرملين مع ظله الدبلوماسي لافروف حول إتحاف البشرية بالمخاوف من “دولة سنّية” تارة، أو عقد جلسات تحضير الأرواح مع “منصات” المعارضة السورية في موسكو أو سوشي أو أستانا؛ ليس خاضعاً للدرجات ذاتها من التسامح بصدد شطحات لافروف حول نووية الحرب العالمية الثانية أو حوارات الصم والبكم. اللافت أكثر، بل هو الأطرف أيضاً، أن يقع بوتين نفسه في حيص بيص لا يقلّ انزلاقاً إلى الخطل من حماقات خبرائه العسكريين أو ناصحيه الدبلوماسيين. هكذا تبدو الحال اليوم، فيتناهى إلى أسماع العالم الخارجي تصريح من ديمتري بيسكوف سكرتير بوتين الصحافي، أو تصريح آخر من لافروف نفسه؛ لكن يندر أن يتحدث وزير الدفاع سيرغي شويغو، أو رئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف؛ ليس بوحي من الانضباط العسكري والتحفظ الأمني، بل لأن إرادة سيّد الكرملين نفسه تتقلّب بين الحيرة والتسرع ورد الفعل والإحباط والتخبط والسوداوية…

وههنا تحديداً، هيهات أن تنفع بدائع لافروف!

 ٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

————————–

الديمقراطية المقاتلة: هل ما يزال «الغرب» قادراّ على الدفاع عن قيمه؟/ محمد سامي الكيال

أدت الحرب الروسية في أوكرانيا إلى تصاعد الحديث عن مواجهة سياسية وأيديولوجية كبرى بين معسكرين على المستوى الدولي: الديمقراطية الليبرالية الغربية، التي استطاعت بناء نموذج جذاب لكثير من الشعوب، وكانت في تمدد مستمر منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي؛ والاستبدادية الجديدة، التي تجد تمثيلها الأبرز في النظامين الروسي والصيني، وتحاول خنق كل تطلعات الحرية، سواء داخل حدودها، أو في البلدان التي يصل إليها نفوذها العسكري والسياسي.

أمام هذا الواقع تتصاعد دعوات، في الدول الغربية بشكل خاص، لإنشاء نمط من «الديمقراطية المقاتلة» إذ يجب أن لا تُعتبر الديمقراطية أمراً بديهياً وثابتاً، بل لا بد أن تعي الشعوب الغربية أهمية الدفاع عن القيم الديمقراطية في وجه منتهكيها. وبهذا المعنى فإن أوكرانيا تدافع اليوم عن حريات أوروبا كلها، وإذا سقطت، فيجب أن يكون بقية الأوروبيين على استعداد للقتال من أجل حرياتهم.

في المقابل يحاجج البعض بأن الاحتجاجات، التي اعتبرت موالية للغرب، والديمقراطيات المستجدة في الدول الخارجة من هيمنة الحكومات التوتاليتارية، لم تقدم غالباً نموذجاً إيجابياً عن الديمقراطية الليبرالية. فالحكومات والأنظمة اليمينية في دول مثل بولندا والمجر تُحسب على «المعسكر الغربي» وباتت أعضاء في الاتحاد الأوروبي، الذي من المفترض أن توسيعه كان أحد أهم أسباب قلق المستبدين في موسكو. فيما يُعتبر مقاتلو تنظيمات متطرفة، مثل «كتيبة آزوف» الأوكرانية المُتهمة بالنازية، بل حتى بعض الجماعات الإسلامية المتشددة في سوريا وليبيا، حلفاء للغرب، ومقاتلين لأجل الحرية.

تعقّد هذه الملاحظات الطرح التبسيطي عن صراع الديمقراطية الليبرالية ضد الاستبداد، فعلى ما يبدو تسلّمت جهات، عليها عدد من علامات الاستفهام، راية توسيع النموذج الديمقراطي عالمياً. فيما لا يبدو «الديمقراطيون» الأكثر إخلاصاً وبعداً عن الشبهات مؤهلين لخوض المعارك دفاعاً عن قيمهم. الأهم أن هذه القيم نفسها لم تعد تتمتع بكثير من الوضوح والصفاء. عن ماذا سيدافع أنصار الديمقراطية الليبرالية بالضبط؟ وهل توجد في عصرنا مقومات لصراع أيديولوجي فعلي بين الاستبداد والحرية؟

مقاتلو الديمقراطية

ربما كانت حرب الثمانين عاماً (1568-1648) أو ما يعرف أوروبياً بـ«الانتفاضة الهولندية» من أولى نماذج الحرب لأجل قيم، قد يمكن تسميتها اليوم ديمقراطية ليبرالية، إذ رفضت المقاطعات الهولندية استبداد الملك الإسباني فيليب الثاني، وقاتلت لأجل التسامح الديني والحريات الاجتماعية والسياسية الأساسية، وأسست جمهورية حرة، استمرت حتى نهايات القرن الثامن عشر، ضمنت حقوقاً تمثيلية لكل مواطنيها.

ما حفّز الهولنديين على التمرّد والقتال كان فكرة أساسية عن استقلالية المجتمع تجاه السلطة: لا يحق لحاكم مستبد متعالٍ، حتى لو كان يملك حقاً وراثياً أو دينياً، التنكيل بالناس، وفرض فحوى ما يدور في ضمائرهم، وأسلوب إيمانهم وتعبدّهم وتعبيرهم عن معتقداتهم؛ وأن يستقطع إتاوات من أرزاقهم ونشاطهم الحياتي، دون أن يشركهم في إدارة شؤون دنياهم، وفق رؤاهم وقناعاتهم ومصالحهم. وبالتالي كانت الحرب الطويلة قائمةً على الصراع حول مبدأ الشرعية. «صاحب السيادة» أصبح جمهوراً مستقلاً من المنتجين اجتماعياً وثقافياً، شديد التعدد والتنوع، وليس عاهلاً يختصر بشخصه كل السلطات، أو بالأصح حازت طبقة بورجوازية، كانت ما تزال آنذاك في حالتها الجنينية، حق تمثيل تطلعات ذلك الجمهور المستقل. وهو نمط تكرر في ما بعد، ويمكن رصده خلال القرن الثامن عشر، في الثورة الأمريكية ضد الاحتلال البريطاني، ومن ثم بدايات الثورة الفرنسية. وبعدها يصعب أن نجد فعلاً ثورياً جديّاً للبورجوازية.

انتقل الفعل الثوري للجمهور المستقل إلى الطبقات الأدنى مع تقدّم الثورة الفرنسية، ومنها جاءت الفئات التي شكّلت عماد التنظيمات المدافعة عن الثورة، مثل «الحرس الوطني». في ما بعد خاض «السان كيلوت» أي فقراء ودهماء باريس، معارك الثورة الأخيرة، وأكثرها جذرية. وطيلة ثورات القرن التاسع عشر في أوروبا، خاصة ثورتي 1830 و1848، نهضت الطبقة العاملة بمهمة الدفاع عن القيم الأساسية للاستقلال الاجتماعي، فيما تنازلت البورجوازية غالباً عنها، ودخلت في تسويات مع السلطات القديمة، في ذلك العصر المضطرب بالمناسبة صدر «البيان الشيوعي».

الديمقراطية المقاتلة إذن ارتبطت تاريخياً بجمهور حيوي، اعتبر أن حرية ضميره ومعتقده لا تكتمل إلا بقدرته على التعبير عنها في الحيز العام، وسرعان ما تطور النقاش في المقاهي والصالونات الثقافية، وهي النموذج الأولي للحيز العام الحديث الذي أنشأته البورجوازية، إلى تداول مفتوح وجامح للأفكار والمرافعات في الساحات العامة، ولم يكن المتداولون يعبّرون فقط عن معتقداتهم الدينية والفكرية، بل أيضاً يطالبون بحقوقهم الاجتماعية والمهنية.. باتوا مواطنين مستقلين عن أي سلطة متعالية، معتبرين أن كل علاقة يدخلونها في الحيز العام يجب أن تكون تعاقدية، أي قائمة على الموافقة والتفاوض، وليس على الخضوع لأولي أمرهم، ومنحهم احتراماً غير مشروط. هنا، وبفضل الفعل الثوري للطبقات الأدنى، تم التمازج المذهل بين الليبرالية والديمقراطية، الذي طبع التاريخ الأوروبي طويلاً.

إلا أن الليبرالية لا تتلازم بالضرورة مع الديمقراطية، كما يؤكد كثير من المختصين بالنظرية السياسية، فمبادئ ليبرالية، مثل العلاقات التعاقدية، واعتبار البشر ذواتاً قانونية متساوية، وفصل السلطات، وحرية التعبير والضمير، قد لا تجد لها مكاناً في ديمقراطيات قائمة على «جماعات عضوية» وحكم أغلبية العامة، والهوية الثقافية والاجتماعية والعرقية الأحادية.

تولّد الديمقراطية بالتأكيد مجموعة من الإقصاءات، يعاني منها فئات وأفراد مستبعدون من تعريف «الشعب»؛ كما أن حماية حريات الأفراد والأقليات وفق الأسلوب الليبرالي، قد يحطم الجماعة السياسية، وهي عماد أي ممارسة ديمقراطية. وحده المبدأ الثوري للجمهور المستقل حافظ على التلازم بين الليبرالية والديمقراطية، وخلق يوماً «ديمقراطية مقاتلة». لكن ماذا تبقى من هذا المبدأ حتى في أعرق الديمقراطيات الغربية؟

من يعرفون كل شيء

يبدو أن الجمهور المستقل خطير للغاية على أي «صاحب سيادة» ومهدد لاستقرار أي سلطة، إذا لا يمكن تثبيت تعريفات وهويات محددة؛ والحديث عن «حقيقة» ثابتة ما، سواء كانت دينية أو علمية أو سياسية؛ أو تنفيذ سياسات حيوية محددة فوقياً، تتعلق بنمط حياة السكان وأوضاعهم الصحية ومستوى معيشتهم، ضمن حيز عام مفتوح لفعل الجمهور وسلطته المضادة، ولهذا سعت البورجوازية لإغلاق الحيز العام، وترميم السلطات القديمة.

يمكن القول إن تلازم الديمقراطية والليبرالية عاش حالة إنعاش صناعي في زمن دولة الرفاه الغربية: عُقدت تسوية بين الطبقة العاملة المنظّمة من جهة؛ وأرباب عملها وجهاز الدولة من جهة أخرى، على أساس مبدأ التفاوض الجماعي بين الطرفين، ورغم أن ذلك النموذج اتسم بـ»الأبوية» كما يؤكد كثير من نقّاده اليوم، إلا أنه أمّن الحد الأدنى من حرية التعبير والعلاقات التعاقدية، وتمثيل الجمهور سياسياً، بعد أن صار منضوياً ضمن أجهزة تضمن الاستقرار الاجتماعي، وعلى رأسها النقابات. نُفذت السياسات الحيوية آنذاك بطريقة لا تُغفل تطلعات ومصالح الطبقات الأدنى، لكن تؤمّن تسليمها بالنظام الاجتماعي القائم، ولذلك كانت العائلة، البورجوازية والعمالية، أحد أهم أعمدة دولة الرفاه.

كل هذا لم يعد موجوداً اليوم، وبدلاً من «التفاوض الجماعي» استُبعدت الفئات الأدنى من صياغة القرار العام، لحساب تحكم بيروقراطي/تكنوقراطي، وحلّ مبدأ «الإدارة» عوضاً عن «السياسة» في تسيير الشؤون الاجتماعية. من الصعب أن يصدر أي قرار اليوم في الدول الديمقراطية إلا بعد تقديمه باعتباره «ضرورة» لا بديل عنها، تسندها حقائق مطلقة، لا يخالفها إلا شعبوي أو جاهل. فيما تسيطر منظمات غير حكومية ومؤسسات ثقافية، ذات هرمية تمويلية وإدارية صارمة، على جانب كبير من القول السياسي، بل حتى الحقوقي والفني. موظفو تلك المؤسسات يعرفون كل شيء مسبقاً، ويحددون كل الحقوق وأنماط السلوك المقبولة، ولا داعي لأي جدل في الحيز العام، قد يتسلل إليه الشعبويون والعنصريون.

من سيقاتل؟

ربما لم تعد الليبرالية ملازمة للديمقراطية في عصرنا، فقد طغت الأولى، بعد أن صارت «نيوليبرالية» على إمكانية تشكيل قول حر للجمهور، معرقلة قيام أي هوية سياسية جمعية، قادرة على التغيير. إنها «ليبرالية» غريبة حقاً، لا تهتم كثيراً ببعض من أعرق قيمها: حرية التعبير، المساواة أمام القانون، حرية البحث الأكاديمي، رفض الرقابة على الإبداع، إلخ.

من سيقاتل لأجل نموذج كهذا، ما يزال كثيرون مصرين على تسميته «ديمقراطية ليبرالية»؟ وما القيم التي يمكن أن يرفعها أنصاره بوجه طغاة مثل بوتين؟ ربما كانت هذه من أصعب الأسئلة التي يجب أن يواجهها ليبراليو اليوم.

بهذا المعنى فليس غريباً أن من يقاتل اليوم هم المتطرفون القوميون والدينيون، فلهؤلاء قضايا وقيم فعلية يريدون نصرتها، ويبدو أن مؤسسات التحكم البيروقراطي/التكنوقراطي قادرة على استيعابهم، وإعادة تعويمهم في منظومات سياسية، ليست أيديولوجياً إلا شبحاً باهتاً لما كان يسمى «ديمقراطية ليبرالية».

كاتب سوري

القدس العربي

—————————–

الكوكب في انتظار “الشرارة”/ بيار عقيقي

لم تتحرّك أميركا “العظمى” في القرن الـعشرين سوى مرتين في خضمّ حربين عالميتين. في الأولى، عقب الاعتداء الألماني على سفينة لوزيتانيا في 7 مايو/ أيار 1915، الذي قُتل فيه 1198 شخصاً. وفي الثانية في 7 ديسمبر/ كانون الأول 1941، حين هاجم اليابانيون بطائرات انتحارية (كاميكاز) بيرل هاربور في جزر هاواي، حيث لقي 2403 أميركيين حتفهم. في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، كان الانخراط الأميركي “لا بدّ منه” للثأر من الألمان، وردّهم عن شواطئ البلاد، قبل العودة إلى العزلة الداخلية. وفي الحرب الثانية (1939 ـ 1945)، خرج الجندي الأميركي ولم يعد، بل انتقل عبر العالم، مكرّساً حضوراً سياسياً فاقعاً، وانتشاراً عسكرياً في كل زوايا الأرض، بلغ، وفق ما هو معروف، أكثر من ألف قاعدة خارج الولايات المتحدة، ينتشر فيها أكثر من 165 ألف جندي.

هذا التمدّد جعل من الأميركيين مطلوبين ومرفوضين في آنٍ. في كل دولةٍ تقريباً، هناك من يؤيدهم ومن يرفضهم، لكن الجميع غير قادرين على التصرّف بمعزلٍ عنهم. في أوكرانيا، طالب الرئيس فولوديمير زيلينسكي مراراً بفرض منطقة حظر جوي فوق بلاده، لمنع الغارات الروسية ضدها. في المنطق، يقول زيلينسكي ما هو صحيح، لأن الروس فشلوا في التوغّل برّاً، مكثفين الغارات الجوية والصواريخ الباليستية التي يُفترض أن تغطّي على العجز الأرضي. في المقابل، من المنطقي أن يرفض الأميركيون فرض منطقة حظر جوي، لأن كلفته الميدانية لن تقتصر على أوكرانيا أو أجزاء محدّدة من العالم، بل سينتشر حرفياً من شرق الكوكب إلى غربه. الآن، اتجه زيلينسكي إلى “خطّة باء”، أي استقدام أنظمة جوية تسمح للأوكرانيين بضمان تكافؤ نسبي مع السلاح الجوي الروسي.

السؤال هنا: هل أحسن الأميركيون بعدم التدخل بفرض منطقة حظر جوي، أم أنهم ينتظرون “ساعة صفر” ما؟ في الحرب العالمية الأولى، لم يكونوا ليتدخلوا لولا سفينة لوزيتانيا، وفي الثانية ظلّوا في منأى عن ساحات القتال، حتى اعتداء بيرل هاربور. في الأولى، رفضوا مجرّد التفكير في الانخراط في معارك السوم وغاليبولي وغيرهما، وفي الحرب الثانية، لم يتمكّن رئيس الوزراء البريطاني، وينستون تشرشل، من الحصول على دعم مباشر من الرئيس الأميركي، فرانكلين روزفلت، على الرغم من سقوط باريس وأمستردام وأوسلو وبروكسل وغيرها بأيدي القوات الألمانية النازية. اكتفى الأميركيون بدعم البريطانيين، والحلفاء عموماً، بالإمدادات الإنسانية والعسكرية. وعلّلوا عدم المشاركة بداية في الحربين باحتمال تعرّضهم لغضب شعبي رافض خروج قوات أميركية إلى المقلب الآخر من الأطلسي، لكن “الشرارة” وحدها سمحت للأميركيين بالانخراط العميق في الحربين، بل والدعوة إلى التجنيد والقتال “من أجل حرية العالم”.

الآن، هل يبحث الأميركيون عن “شرارة” ما لتدخلٍ عسكري مباشر في أوكرانيا؟ لا يمكن تأكيد ذلك، أقله في الوقت الحالي، إلا أنه يُمكن ملاحظة مؤشّرات كثيرة حول تزخيم فكرة “احتمال حصول تدخّل أميركي”. تتمحور الفكرة الأولى، والجوهرية، على طغيان مصطلح “الحرب العالمية الثانية” بقوة في الإعلام الأميركي، وعلى ألسنة المسؤولين، بدءاً من الرئيس جو بايدن. وهو مصطلح مكثف، خصوصاً مع تشبيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالزعيم النازي أدولف هتلر. الحرب العالمية الثانية في وجدان النظام الأميركي، لا الشعب، هي نقطة انطلاق لـ”اليانكيز” إلى أرجاء الكوكب. أما الفكرة الثانية، فمرتبطة بارتفاع أسعار النفط في الداخل الأميركي، وتحميل بايدن مسؤولية هذا الارتفاع إلى بوتين شخصياً. صحيحٌ أن روسيا غير ألمانيا في الحربين الكبرييين، إلا أن “الشرارة”، التي قد تندلع بحدثٍ دمويٍ يُقتل فيه أبرياء، ستؤدّي إلى اندفاع “الضحية” لمواجهة “جلّادها”، وسط أجواء مليئة بـ”الحماسة الوطنية”. علاقة رئيس ديمقراطي بالثأر؟ وودرو ويلسون كان ديمقراطياً في الحرب الأولى، فرانكلين روزفلت كان ديمقراطياً في الحرب الثانية، وكذلك بايدن. الآن يبقى أن تشتعل “الشرارة”.

العربي الجديد

—————————–

لماذا بوتين يشبه بشار الأسد؟/ عمر قدور

لقد اقتضى ذلك مرور ستّ سنوات على استخدام الأسد كافة أسلحته بما فيها الكيماوي، ووجود رئيس أمريكي بشعبوية ترامب، كي يحظى بشار الأسد منه بالقول: إنه حيوان. بوتين قطع المسافة بسرعة مذهلة حقاً، فبعد ثلاثة أسابيع ونصف من حربه على أوكرانيا نال من الرئيس الأمريكي بايدن وصف “مجرم حرب”. في الميزان؛ يتعدى ما قاله بايدن ذلك الوصف الشهير الذي أطلقه سلفه، فالمعني هنا وريث قطب دولي سابق وطامح إلى استعادة ذلك المجد، واختزاله إلى مجرم حرب فيه تحقير وشتيمة بالغة بصرف عن مصداقيته. ثم أتى تصريح وزير الخارجية الأمريكي بلينكن أول أمس ليؤكد على الشتيمة، بمعنى أنها لم تكن زلة من زلات لسان رئيسه. إنها إهانة، وبتعبير الكرملين: لا تغتفر.

مَن القائل: كل شعب… سيكون قادراً دائماً على التعرف على الحثالة والخونة ولفظهم تماماً كما تُلفظ ذبابة دخلت إلى الفم؟ ينبغي ألا يذهب تفكيرنا إلى الماضي البعيد فنظن أنه القذافي الذي وصف الثائرين عليه بالجرذان. حسناً، إنه أيضاً ليس بشار الأسد الذي كبح توقه إلى استخدام الشتائم ضد المتظاهرين، إلى أن جادت قريحته بعد ثلاثة شهور ليصف الثائرين عليه بالجراثيم. الأصل في القول أعلاه هو “كل شعب، وخاصة الشعب الروسي…”، والقائل هو بوتين الذي تفوق مرة أخرى على بشار بسرعته، فوصفَ الروس من معارضي حربه على أوكرانيا بالذباب بعد أقل من شهر على بدئها.

لا تصلح تسلية “من القائل؟” لمرتين على التوالي، لذا لا يصلح استخدامها مع قول بوتين: أنا متأكد من أن مثل هذا التطهير الذاتي الحقيقي والضروري للمجتمع لن يؤدي إلا إلى جعل بلادنا أقوى. في قوله هذا يشير إلى استقالات بعض الموظفين الروس “خاصة من موظفي الإعلام”، وإلى سفر الألوف منهم خارج البلاد. في هذه قد يظن السوري أنها من أقوال بشار، وقد يرد إلى ذهنه حديثه الشهير صيف 2017، وملخصه “من الصحيح أن سوريا خسرت خيرة شبابها إلا أننا كسبنا مجتمعاً متجانساً”. لكننا، إذا عدنا أبعد إلى الوراء، سنعثر على التوأم الحقيقي لعبارة بوتين، ففي أواخر شهر آب2012 وصف بشار الانشقاقات عن سلطته بالقول: “عملياً، هذه العملية هي عملية إيجابية، وهي عملية تنظيف ذاتية للدولة أولاً وللوطن بشكل عام”. ربما الفارق بين العبارتين هو فقط الاختلاف البسيط في الترجمة بين العربية والروسية، يُضاف إليه مرة أخرى تفوق بوتين الذي لم ينتظر مثل بشار لأشهر حتى يبقّ الحكمة ذاتها.

هي ليست بالحرب على أوكرانيا فحسب، بل هي بالتوازي حرب على المعارضين الروس، والناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف عاد إلى تأكيد كلام رئيسه بالقول: “في مثل هذه الأوضاع تظهر حقيقة الكثير من الأشخاص على أنهم خونة ويخرجون من حياتنا بمفردهم. يستقيل البعض والبعض الآخر يغادر البلاد. إنها عملية تطهير. ويخالف آخرون القانون ويعاقبون وفقاً للقانون”. التهديد بـ”القانون” واضح لكل معترض على الحرب، أو على حكم بوتين عموماً، أما ما لا يقل عنه استهتاراً بالمواطنين الروس فهي الإشارة إلى أولئك المجبرين على مغادرة البلاد بوصفهم خونة، وأيضاً بوصف مغادرتهم عملية تطهير. لا داعي للقول أن هذه هي عقلية المزرعة لا الدولة، أو لتكرار الإشارة إلى وجه الشبه والتدليل بأطنان الشتائم التي تم توجيهها من الأسد وإعلامه ومواليه للاجئين السوريين.

تشير تقديرات استخباراتية غربية إلى أن الجيش الروسي في أوكرانيا فقد ما لا يقلّ عن 20% من قدراته القتالية خلال الأسابيع الثلاثة الأولى، جراء الخسائر البشرية بين قتيل وجريح، وجراء الدمار الذي أنزله الأوكرانيون بمعداته. الحديث عن جيش جرار يُقدّر عدده بمائة وخمسين ألفاً، ويُفترض أنه جيش دولة لا على شاكلة قوات الأسد المعروفة شعبياً منذ عقود باسم “جيش أبو شحاطة”. مُني الجيش الروسي في الحرب على أوكرانيا بانتكاسة تذكّر بركاكة “جيش أبو شحاطة” أمام فصائل متواضعة تسليحاً، وعُزي السبب إلى سوء تقدير مستشاري بوتين الذين قدّموا له ما يحب سماعه عن إمكانية حسم المعركة في يومين. غير جديد عموماً، لمن يعرف طبع المستبدين الصغار، أن يتواجد إلى جانب بوتين فقط أولئك المتملقين الذين يقولون له ما يهواه، إلا أن ذلك ليس من طبع المستبدين الكبار الذين صنعوا إمبراطوريات عظمى في التاريخ.

بسبب تلك النكسات، وبسرعة مذهلة حقاً، تفوّق بوتين مجدداً إذ “وافق” على مشاركة المرتزقة في حربه بعد أسبوعين من بدئها. لقد استغرق ذلك من بشار شهوراً كي تنخرط الميليشيات الموالية لإيران بكثافة في حربه على السوريين، وشهوراً إضافية كي يعترف إعلامه “ثم يعترف هو شخصياً” بمشاركة ما يُسمى “قوات حليفة”. المعجبون بالقيصر الجديد قد يرون في سلوكه غيرة على أرواح جنوده، وهو افتراض يحتاج تدقيقاً شديداً بعد كلامه عن الخونة والحثالة والعملاء.. إلخ.

في الأسابيع التي سبقت إعلان الحرب وتلته، غابت تقريباً الصورة الشائعة عمّن كان يُلقّب بثعلب السياسة الخارجية، توارى وزير الخارجية سيرغي لافروف عن الصدارة، وفي إطلالاته القليلة بدا كأن مهاراته تبخرت فجأة، حتى تصريحاته أتت باهتة ركيكة تذكّر بأداء وزراء خارجية مستبدين صغار. المفاوضات التي سعى إليها الغرب، تفادياً للحرب أو من أجل وقفها، كانت مع بوتين شخصياً، في دلالة على عدم الثقة بأي وعد يقطعه مسؤول روسي أدنى منه. رداً على العقوبات الغربية، تعددت التصريحات الروسية التي تظهر عدم الاكتراث، بل راح بعضها يعدد فضائل العزلة الروسية عن الغرب، بينما أعلن بعضها الآخر انتهاء زمن السياسة. لقد استغرق وزير خارجية بشار وقتاً أطول ليقول: لقد محونا أوروبا من الخارطة. أما في مضمار عدم ثقة العالم بالوعود فما يزال بوتين متأخراً قليلاً في السباق.

كنا قد تابعنا فرضيات غربية حول صحة بوتين العقلية، وحول تأثير الحجر الصحي بسبب جائحة كورونا عليه! في جزء منها، ربما تحاول هذه الفرضيات تفسير الانحدار الذي ظهر به، وكأن هذا غير بوتين المعروف، وبسببه ذلك ليس هو النظام الروسي على علاته، بل أكثر رداءة وانحطاطاً مما هو متوقع. لكن، بتفسير متواضع، يجوز لنا ردّ الأمر إلى حالة الطغاة عندما يوضعون على محك حقيقي، ويظهرون مجردين من هيبة “أمجادهم”. إنهم، في لحظة الاختبار هذه، يُظهرون تشابهاً مدهشاً حقاً، تشابهاً كان ليدفعنا إلى القول “بموجب المجاز الدارج” أن بوتين هو مجرد بشار الأسد إنما بعينين زرقاوين، لو لم يكن لهما لون العيون ذاته.

المدن

———————————

قصف أبنية المدنيين من قبل الروس

لمن الغلبة في الأزمة الأوكرانية.. للقوة العسكرية أم للعقوبات؟/ حسن نافعة

يتعامل بعضهم مع الحرب المشتعلة حاليا على الساحة الأوكرانية وكأنها حربٌ بالوكالة، تشبه حروبا أخرى كثيرة، اندلعت إبّان مرحلة الحرب الباردة، وانخرطت فيها إحدى القوتين العظميين المتنافستين على قيادة النظام الدولي، كالحرب التي تورّطت فيها الولايات المتحدة في فيتنام في منتصف ستينيات القرن الماضي، والحرب التي تورّط فيها الاتحاد السوفييتي في أفغانستان في نهاية سبعينات القرن نفسه. صحيحٌ أن بينها سمات مشتركة، في مقدمتها الحرص على تجنّب المواجهة المباشرة بين القوى النووية والاكتفاء بتقديم الدعم إلى “الوكيل”، إلا أن للحرب الأوكرانية الراهنة سمات خاصة تميزها عن كل ما سبقها من “حروب الوكالة”، في مقدمتها عدم اكتفاء أحد طرفي الصراع من مالكي السلاح النووي، وهو الطرف الأميركي في هذه الحالة، بتقديم دعم سياسي وعسكري للوكيل الأوكراني، وإنما إقدامه، في الوقت نفسه، على فرض عقوبات شاملة على الطرف النووي الآخر، وهو روسيا، ما يعني تحوّل الأزمة الأوكرانية إلى مواجهة مباشرة بين القوتين النوويتين العظميين، على الرغم من تباين الوسائل المستخدمة في إدارتها، حيث تديرها روسيا باستخدام القوة العسكرية. أما الولايات المتحدة فتديرها باستخدام العقوبات الاقتصادية والمالية، فلمن ستكون الغلبة في النهاية: للقوة العسكرية أم للقوة الاقتصادية؟

تفسّر روسيا لجوءها للقوة العسكرية، رغم التحريم القاطع من ميثاق الأمم المتحدة القاطع، ولو بمجرّد التهديد بها، بأنها تواجه تهديدا وجوديا من حلف الناتو، بسبب إصرار الولايات المتحدة على تحويل أوكرانيا التي كانت يوما ما جزءا من الاتحاد السوفييتي السابق، وأصول 20% من مواطنيها روسية، إلى دولة معادية وخنجر مسموم في خاصرتها. تقول القيادة الروسية إنها حاولت مرارا وتكرارا لفت نظر الولايات المتحدة إلى خطورة استمرار توسّع حلف الناتو شرقا، وأوضحت، بكل الوسائل الممكنة، أن هذا التوسّع يعد تنكّرا لوعود سبق تقديمها لقادة الاتحاد السوفييتي إبّان الجهود المبذولة لمحاولة إعادة توحيد ألمانيا عقب سقوط جدار برلين. ولم تمل من القول إن انضمام جورجيا أو أوكرانيا لحلف الناتو خطّ أحمر لا ينبغي تجاوزه، ومن ثم ترى أنها استنفدت كل الوسائل السلمية، ولم يعد أمامها من سبيل آخر لإزالة هذا الخطر الوجودي سوى اللجوء إلى القوة المسلحة.

بعد أكثر من ثلاثة أسابيع على بدء العملية العسكرية الروسية، ما تزال الحرب في أوكرانيا مشتعلة، من دون أن يظهر في الأفق دليل يشير إلى متى تنتهي ولا كيف. ويتضح من المسار الذي سلكته هذه العملية أن روسيا تسعى إلى تحقيق أهداف ثلاثة: تأمين المقاطعات الشرقية التي تقطنها أغلبية روسية، خصوصا جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، اللتين اعترفت باستقلالهما أخيرا. السيطرة على الموانئ البحرية الواقعة في الجنوب، لعزل أوكرانيا عن كل منافذها الساحلية. حصار العاصمة كييف مع مواصلة الضغط على الحكومة الأوكرانية الحالية إلى أن تسقط أو تستسلم لمطالبها التي تتمحور في مجملها حول فرض الحياد على أوكرانيا، بعد نزع سلاحها. ولأن الاستراتيجية الروسية تعتمد أساسا على القوة العسكرية وحدها، من الواضح أن نجاحها في تحقيق أهدافها يتوقّف، أولا وأخيرا، على القدرة على تحقيق انتصار عسكري حاسم في أسرع وقت مكن.

في المقابل، تبنّت إدارة بايدن استراتيجية مضادّة تستهدف منع روسيا من تحقيق الانتصار العسكري الذي تنشده، خصوصا أن هذا الانتصار قد يمكّنها ليس فقط من تحقيق كل أهدافها السياسية في أوكرانيا، وإنما أيضا من تحدّي مكانة الولايات المتحدة في النظام الدولي، وفتح الطريق أمام نظام دولي جديد متعدّد القطبية، وهو ما تصرّ إدارة بايدن على عدم السماح به مهما كان الثمن. من هنا، الإصرار على تبنّي استراتيجية تقوم على ركيزتين: الأولى، مدّ أوكرانيا بكل ما تستطيع من دعم عسكري وسياسي وإعلامي لتمكينها من المقاومة والصمود، أملا في تحويل المواجهة العسكرية الراهنة إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، مع التحسّب، في الوقت نفسه، تجاه أي إجراء قد يؤدّي إلى احتكاك عسكري مباشر بين روسيا وأيٍّ من الدول الأعضاء في “الناتو”. الثانية، فرض أقصى عقوبات اقتصادية ومالية ممكنة على روسيا، أملا في شلّ قدرتها على الاستمرار في تمويل الحرب، ولدفع الاقتصاد الروسي في مرحلة لاحقة نحو حافة الانهيار، أملا في القضاء نهائيا على كل طموحات روسيا المستقبلية، وربما دفعها نحو التفكك والانهيار، مثلما تفكّك الاتحاد السوفييتي من قبل، إن أمكن.

من شأن المقابلة بين هاتين الاستراتيجيتين أن تظهر مدى ما تنطوي عليه كل منها من نقاط قوة أو ضعف، فإدارة بايدن تعتقد أنها ضبطت بوتين، عقب إقدامه على استخدام القوة العسكرية الغاشمة، متلبسا بانتهاك الشرعية الدولية. وترى في ما ارتكبه خطأ استراتيجيا يمكن أن يساعدها على عزله سياسيا ودبلوماسيا، ليس فقط عن العالم الخارجي “المتحضّر”، وإنما عن قطاعات متزايدة من النخب السياسية الروسية التي قد تنقلب عليه، فضلا عن أنه يتيح للولايات المتحدة، في الوقت نفسه، استعادة زمام قيادتها تحالفا غربيا كان عقده قد انفرط إبّان فترة إدارة الرئيس السابق ترامب. ولأن هذا التحالف الموحد يملك من القدرات الاقتصادية والمالية أضعاف ما تملكه روسيا، فبوسعه أن يفرض على الأخيرة من العقوبات ما لا قِبل لها به، الأمر الذي سيؤدّي حتما إلى إجبارها على وقف عمليتها العسكرية في أوكرانيا قبل أن تتمكّن من تحقيق أي من أهدافها الرئيسية، خصوصا إذا نجحت الإمدادات العسكرية الغربية المقدّمة لأوكرانيا في تحويل الحرب المشتعلة فيها إلى حرب استنزاف طويلة الأمد للجيش الروسي.

تبدو هذه الرؤية مفرطة في توقعاتها، وتستند إلى فرضياتٍ يصعب التيقن من صحتها، فالولايات المتحدة تعد آخر دولة يحقّ لها أن تتحدّث عن الشرعية الدولية التي طالما أمعنت في انتهاكها مرارا وتكرارا، خصوصا إبّان فترة انفرادها بقيادة النظام الدولي، فضلا عن أن الولايات المتحدة تعدّ، في الوقت نفسه، مسؤولة إلى حد كبير عن اندلاع الأزمة في أوكرانيا. ولا يعد هذا القول تعبيرا عن رؤية أيديولوجية معادية للولايات المتحدة، وإنما يعكس حقائق مبنية على تحليلات علمية، يطرحها ويتبنّاها قطاع مؤثر من النخبة الفكرية داخل الولايات المتحدة وخارجها (راجع على سبيل المثال ما نشرته صحيفة الإيكونومست يوم 11 مارس/ آذار الحالي، وعكس وجهة نظر عالم السياسة الأميركي، جون ميرشايمر، تحت عنوان: why the West is principally responsible for the Ukrainian crisis. وراجع مقال جيمس كاردن في “أسيان تايمز” يوم 14 مارس/ آذار تحت عنوان: The vindication of George H W B ).

على صعيد آخر، يمكن القول إن مصير الاستراتيجية الأميركية المضادّة، بعكس الاستراتيجية الروسية، لا يعتمد على إرادة الإدارة الأميركية الحالية وحدها وتصميمها، بقدر ما يعتمد على مواقف دول أخرى كثيرة ومهمة، كالصين والهند وإيران وغيرها من الدول التي يمكنها أن تلعب دورا مهما في إفشال العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، فالصين وإيران يرتبطان معا في تحالف استراتيجي ضمني مع روسيا، إن لم يكن تحالفا صريحا ومعلنا. أما الهند فعلى الرغم من علاقات قوية تربط نظامها الحالي بالولايات المتحدة، إلا أن الصناعات والإمدادات العسكرية الهندية ما تزال تعتمد على روسيا إلى حد كبير، وبالتالي يتوقع ألا تنساق كليا وراء الاستراتيجية الأميركية الرامية إلى تركيع روسيا.

في المقابل، يبدو واضحا أن نجاح الاستراتيجية الروسية أو فشلها يتوقفان، إلى حد كبير، على مدى تصميم القيادة الروسية، ممثلة في الرئيس بوتين، على تحقيق أهدافها أكثر من توقفها على أي شيء آخر. ولأنها قيادة تعتقد أنها تخوض معركة وجودية يتوقف عليها مستقبل روسيا ومصيرها، ليس مستبعدا أبدا أن تذهب، في تصميمها وعنادها، إلى أبعد مدى ممكن، حتى ولو تطلب الأمر دفع العالم كله نحو حافّة هاوية نووية. فهل سينجح بوتين في حسم المعركة العسكرية التي يخوضها حاليا في أوكرانيا، وبالتالي هل سيتمكّن من تحقيق كل أهدافه أو غالبيتها، أم أن الغرب سينجح، على العكس، في تحويل هذه المعركة إلى حرب استنزاف طويلة المدى، تمهد الطريق نحو توجيه ضربة قاضية للاقتصاد الروسي، باستخدام سلاح العقوبات؟ .. ستكون الأيام أو الأسابيع القليلة المقبلة حاسمة في تبيّن معالم الطريق.

العربي الجديد

————————————–

هكذا ساعدت العملات المشفّرة أوكرانيا خلال الغزو الروسي

تؤدي العملات المشفرة في أوكرانيا دوراً غير مسبوق يتيح للحكومة جمع ملايين الدولارات لتمويل تصديها للغزو الروسي. لماذا تحوّلت أوكرانيا نحو العملات المشفّرة؟ وما هي التحوّلات التي ستطرأ على هذا القطاع الذي لا يزال فتياً؟

منذ أولى ساعات النزاع، فتحت الحكومة الأوكرانية العناوين والمحفظات الخاصة بالعملات المشفّرة، ما أتاح لها تلقي هذه العملات اللامركزية بشكل مباشر.

وبإمكان أي شخص يمتلك عمليات مشفّرة أن يرسلها إلى هذه العناوين. وباتت تتدفق على الحكومة العملات المشفرّة من شتى الأنواع من “بيتكوين” و”إيثريوم” وأيضاً تيثر المقوّم بالدولار.

وجمعت الحكومة الأوكرانية و”صندوق العملات المشفّرة في أوكرانيا” الذي أنشأته منصة “كونا” الأوكرانية الرئيسية للقطاع، والذي أدمج مع الصندوق الحكومي، أكثر من مئة مليون دولار.

وأوضح مؤسس منصة “كونا” ورئيسها مايكل شوبانيان (37 عاماً) لوكالة “فرانس برس”: “لا زلنا نجمع عملات مشفّرة ونصرفها لشراء حصص غذائية” للجنود و”سترات مضادة للرصاص وخوذ”.

وبات شوبانيان يهتم بشكل حصري بجمع التبرعات بالعملات المشفّرة لصالح حكومته.

تعد المبالغ التي يتم جمعها من العملات المشفّرة ضئيلة مقارنة بمساعدات بمليارات الدولارات أقرّتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمات دولية كبرى، لكنّها تسمح للأفراد بالمساهمة في التمويل.

واعتبرت المنظمة الأميركية غير الحكومية “ذا غيفينغ بلوك”، التي تعنى بجمع العملات المشفّرة حول العالم بغية إرسالها إلى أوكرانيا، “إنه خيار يلجأ إليه الأفراد الأصغر سنّاً بشكل متزايد لدعم قضايا مختلفة”.

من جهة أخرى، تحوّل الأوكرانيون نحو هذه العملات اللامركزية لحماية أنفسهم من تراجع قيمة عملتهم.

إلى الآن، نجح المصرف المركزي الأوكراني في وقف انهيار العملة الوطنية، لكن تداعيات الغزو قد تُفقد الهريفنيا الأوكرانية قيمتها.

وباستخدام العملات المشفّرة المقوّمة بالدولار، يتجنّب المانحون قدر المستطاع تقلّبات أسواق الصرف.

ومن مزايا التبرّع بالعملات المشفّرة سرعة التحويلات. ففي حين يمكن أن يستغرق تحويل مصرفي بين بلدين ما يصل إلى 24 ساعة لتنفيذه، عادة ما يستغرق تحويل العملات المشفّرة أقل من ساعة.

في قطاع لا يزال قيد البناء، لا يجرى التبرّع بالعملات المشفّرة من دون عقبات. وأراد وزير الصناعة الرقمية الأوكراني مكافأة المانحين بعملة مشفّرة رمزية أنشئت للمناسبة، لكنّه عاد وتخلى عن مسعاه.

والأسوأ، أنّ مجهولين عمدوا إلى وضع نسخة مزيّفة من هذه العملة الأوكرانية المشفّرة، في مسعى منهم لجمع قسم من المبالغ المخصصة للأغراض العسكرية.

وقال شوبانيان الذي بات ينسّق بشكل وثيق مع الوزارة “حصل سوء تواصل” داخل الحكومة، مذكّراً بأنه “كان اليوم الأول للحرب”.

من جهة أخرى، من شأن التشجيع على استخدام العملات المشفّرة أن ينقلب في المدى الطويل ضد الحكومة، من خلال حض الأوكرانيين على استخدام نظام مالي مواز.

وبحسب مركز “تشايناليسس”، التحويلات في أوروبا الشرقية توجّه خصوصاً نحو عناوين خارج المنطقة، “ما يمكن أن يؤشر إلى خروج غير قانوني للأموال”، لغايات قد يكون من بينها التهرّب الضريبي.

على الرغم من النزاع، يبدو شوبانيان واثقاً ويقول “بعد انتصارنا في الحرب، سنعيد بناء أوكرانيا عبر تقنية بلوكتشاين” لتبادل العملات المشفّرة، في إشارة إلى آلية لجمع البيانات تمتاز بقدرتها على توسيعها باستمرار.

ووقّع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الأربعاء، قانوناً لتشريع العملات المشفّرة، يضع إطاراً تشريعياً للمنصات والمستخدمين في بلاد كان فيها هذا القطاع إلى حينه يشكّل اقتصاداً موازياً.

وأبعد من الحدود الأوكرانية، يجبر النزاع الحكومات على تطوير مفاهيمها للعملات المشفّرة ووضع إطار لها.

وقالت الخبيرة في مركز “تشايناليسس” كارولاين مالكوم، لـ”فرانس برس”: “نأمل أن يؤدي ذلك إلى سياسات تنظيمية متناسبة وفاعلة”.

في الولايات المتحدة، أطلق الرئيس الأميركي جو بايدن مشروعاً لإصدار “دولار رقمي”، وطلب من وكالات فدرالية عدة إعداد تقارير حول المخاطر المرتبطة بالعملات المشفّرة وكيفية التصدي لها.

(فرانس برس)

—————————-

عزل روسيا على الإنترنت: عقوبة تعزز الرقابة

تثير العقوبات التي تستهدف الإنترنت في روسيا مخاوف خبراء وسياسيين ومدافعين عن حقوق الإنسان، يحذرون من أنّها قد تأتي بنتيجة عكسيّة بعزلها المعارضين للحرب في أوكرانيا وإبعادها حلم الإنترنت العالمي.

أدت الرقابة التي تفرضها موسكو على وسائل الإعلام أصلاً إلى الحدّ كثيراً من مصادر المعلومات المستقلة، مع وقف العديد من وسائل الإعلام المحلية والدولية عملها في روسيا. ويتعذر الوصول إلى شبكات التواصل الكبرى، ما لم يلجأ المستخدمون إلى “شبكة افتراضيّة خاصّة” (vpn). واستجاب عمالقة التكنولوجيا والإنترنت من “غوغل” إلى “سوني” لدعوات الحكومة الأوكرانية إلى معاقبة روسيا، فعلّقت مبيعات بعض المنتجات والخدمات في هذا البلد.

وأرادت أوكرانيا المضي أبعد، فطلبت من شركة الإنترنت للأرقام والأسماء المخصّصة “أيكان” Icann، المنظمة المتخصصة في توزيع وإدارة عناوين الإنترنت في العالم، اتخاذ تدابير لقطع روسيا عن الإنترنت. بعد بضعة أيام، ردت المنظمة هذا الطلب، مؤكدة ضرورة الحفاظ على حيادها.

ورداً على هذا الرفض، نشر نحو أربعين باحثاً ومدافعاً عن الحريات الرقمية ومسؤولاً أوروبياً رسالة مفتوحة، دعوا فيها إلى فرض عقوبات محددة الهدف على الجيش أو وكالات دعائية، معتبرين أنّ مثل هذه العقوبات “تقلل من مخاطر الأضرار الجانبية”، إذ إنّ “العقوبات غير المتناسبة أو الأوسع من مّا ينبغي قد تثير عداء الشعوب”، وفق ما نقلت وكالة “فرانس برس”.

ودعا موقِّعو الرسالة إلى إنشاء “آلية متعددة الأطراف” تكلف تقييم العقوبات وفرضها من أجل منع الوصول إلى المواقع الإلكترونية العسكرية الروسية مثلاً.

وفي مطلق الأحوال، إنّ بناء جدار رقميّ حول روسيا أمر في غاية التعقيد، سواء تقنياً أو سياسياً. وأوضح المدير العام للشركة الناشئة “إيفيشنت آي بي” Efficient IP، رونان ديفيد، أنّ “البنى التحتية للشبكات سهلة الاختراق”، مشيراً إلى أنّه إذا ما قطع منفذ أمام حركة دخول على الإنترنت، فستجد منافذ أخرى متاحة.

كذلك نقلت “فرانس برس” عن المدير القانوني للمنظمة غير الحكومية الناشطة من أجل حقوق رقمية للجميع “أكسس ناو” Access Now، بيتر ميتشيك، قوله إنّ عزل روسيا عن الإنترنت “يأتي على ما يبدو بنتائج عكسية على صعيد جهود نشر الرسائل الديمقراطية وكسب القلوب والأذهان”.

بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، أمر الاتحاد الأوروبي بحظر قناتي “آر تي” و”سبوتنيك” الروسيتين اللتين تسيطر عليهما موسكو، فأقصاهما من المشهد الإعلامي الأوروبي وشبكات التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى نتائج البحث على “غوغل”. وردّت “روسيا” بحظر بثّ “هيئة الإذاعة البريطانية” (بي بي سي)، وحظرت “إنستغرام”، رغم أنّ المؤثرين والتجار الروس يعوّلون في نشاطهم على التطبيق.

ورأت الخبيرة القانونية لدى “أكسس ناو” ناتاليا كرابيفا، أنّ المواطنين الروس قد يجدون هذه العقوبات “غير عادلة إطلاقاً” من قبل الغرب، خصوصاً أنّه استناداً إلى المعلومات الرسمية الروسية “قد يظن الأشخاص أنّ روسيا تحاول مساعدة الأوكرانيين، ولا تطلق النار إلا على أهداف عسكرية”. وقد تترسخ العزلة مع مرور الوقت وإيجاد بدائل يسهل على الحكومة السيطرة عليها، بل حتى تبادر هي نفسها إلى طرحها، وفق ما أشارت إليه “فرانس برس”.

وقال المدير العام لجمعية “أفنيك” Afnic لأسماء النطاق الفرنسية، بيار بوني، لـ”فرانس برس” إنّ “الروس قادرون تماماً على بناء شبكة إنترنت وطنية”، لكنّها “لن تمتّ بصلة إلى الإنترنت”. وتمتلك الصين شبكة إنترنت متمايزة في جزء كبير منها، فيما تطمح دول أخرى إلى هذا النموذج.

ولفت بيتر ميتشيك إلى أنّ “إيران قضت العقد المنصرم وهي تبني شبكة معلومات وطنية كبديل قابل للحياة للإنترنت العالمي”، معتبراً أنّ العقوبات تشجع على “تطوير هذا الإنترنت الوطني الذي يكون خاضعاً أكثر للرقابة”. وأبدى أسفه لكون العديد من الشركات “التي لا تملك الوقت ولا القدرات لفهم التفاصيل القانونية” للعقوبات تمضي بعيداً جداً وتنسحب بكلّ بساطة من البلد. وقال إنّ “آبوورك” Upwork، و”هي إحدى المنصات التي نعول عليها لمساعدة المجتمع المدني ودعم الناشطين الديموقراطيين في روسيا، توقفت عن تقديم خدماتها محلياً”.

ويبقى من الممكن للروس المصممين على التواصل مع الخارج استخدام “الشبكات الافتراضية الخاصة” التي حُظر بعضها في السنوات الأخيرة في روسيا. وفي هذا السياق، سجلت زيادة كبيرة في استخدامها مقارنة بالفترة السابقة للغزو الروسي لأوكرانيا.

——————————

مشكلة حياد أوكرانيا المطلوب/ بسام مقداد

جولات الحوار الروسي الأوكراني لا تشبه بنتائجها حتى الآن سوى جولات لجنة الدستور السورية. العامل المشترك بين عمليتي الحوار هو روسيا، لكن إذا كانت في الحوار السوري وسيطاً قاتلاً، فهي قاتل مباشر في الحوار مع أوكرانيا. وطموحات بوتين لن تتوقف عند أوكرانيا التي يسعى لتحويلها إلى دولة مسخ ينطلق منها لبناء هيكل جديد للأمن الأوروبي يلعب فيه الدور الرئيسي، كما يرى موقع grani  الروسي المعارض.

جولات الحوار الروسي الأوكراني المتواصلة منذ أواخر الشهر المنصرم تتركز حول حياد أوكرانيا الذي يراه كل طرف بشكل مختلف. فقد نقل موقع شبكة التلفزة الروسية ino tv عن صحيفة ألمانية قولها بأن موسكو تبحث مسألة حياد أوكرانيا مع الإبقاء على جيشها، في حين ترى كييف أن نموذج حيادها لن يكون إلا أوكرانياً، مع ضمانات أمنية من جانب الدول الغربية. وتنقل الصحيفة الألمانية عن الناطق بإسم الكرملين دمتري بسكوف قوله الأسبوع المنصرم بأن حياد أوكرانيا مع الإحتفاظ بجيشها هي الصيغة الوسطية المقبولة، والتي يتم بحثها الآن في المفاوضات الجارية.

عضو الوفد الأوكراني المفاوض، مستشار رئيس ديوان الرئاسة الأوكرانية ميخائيل بودولاك، رفض هذه الصيغة وغرّد قائلاً بأن نموذج حياد أوكرانيا لن يكون إلا أوكرانياً وبضمانات غربية تلتزم فيها الدول الضامنة قانونيا الدفاع عن أوكرانيا في حالة النزاع. وقال لقناة تلفزة إخبارية أميركية بأنه يجري العمل الآن على وثائق يمكن أن يتم التوافق عليها ومن ثم توقيعها من الرئيسين الروسي والأوكراني في سياق مفاوضات مباشرة.

وينقل الموقع عن وزير الخارجية الروسي قوله بأنه يجري الآن في المفاوضات بحث جدي بحياد أوكرانيا، وتوجد صياغات ملموسة أصبحت قريبة، برأيه، من التوافق عليها. وأكد الأمر عينه الرئيس الأوكراني بحديثه عن  إحراز “تقاؤل حذر” في المفاوضات.

لكن أهم ما نقله موقع التلفزة الروسية في 17 الجاري عن المشاركين في المفاوضات قولهم بأنهم توصلوا إلى التوافق على خطة من 15 بنداً لإنهاء الصراع. وتلحظ الخطة حياد أوكرانيا ورفضها إقامة قواعد عسكرية لدول أجنبية على أراضيها. وعلى روسيا بموجب الخطة أن تسحب جيشها من أوكرانيا، وتحصل الأخيرة على إمكانية الدفاع عنها من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وتركيا. لكن هذا البند قد يشكل عائقاً بوجه الإتفاق، لأنه ليس من الواضح ما إذا كانت الدول المذكورة ستوافق على ما تطلبه مها أوكرانيا.

كما ينقل الموقع عن بوتين إستعداده لبحث مسألة حياد أوكرانيا. لكن المسؤولين في كييف يشككون في رغبة بوتين بالسلام، ويتخوفون من أنه يستخدم المفاوضات لإعادة تنظيم قواته.

المدير العام للمجلس الروسي للعلاقات الدولية أندريه كارتونوف نشر مقابلة له مع شبكة تلفزة روسية في 15 الجاري بعنوان “ثمة سبب للآمال الحذرة”, تنقل الشبكة عن الرئيس الأوكراني قوله بأن الجولة الأخيرة من المفاوضات مع روسيا كانت “جيدة جداً”. كما تنقل عن مستشار رئيس ديوان الرئاسة الأوكرانية ألكسي أرستوفيتش إفتراضه بأن إتقاقية السلام مع موسكو سوف يتم التوقيع عليها بين نهاية الشهر الجاري وأوائل الشهر القادم. وفي روسيا يؤكدون أيضاً بأن “تقدماً مهماً” قد تم إحرازه في المفاوضات، حسب القناة. وتقول بأن كارتونوف تحدث إلى القناة عن الإتفاقيات التي يمكن أن تتحقق قريباً والشروط التي تتضمنها.

يقول كارتونوف بأنه يمكن الحديث عن تقارب في المواقف في بعض المسائل فقط، ويشير إلى تصريح الرئيس الأوكراني عن بدائل الإنضمام إلى الناتو ويعتبره تطوراً إيجابياً. كما يعتبره تطوراً إيجابياً أيضاً توقف التصريحات الرسمية الروسية عن ذكر مطلب “نزع النازبة” الذي كان يعتبره كثيرون مطالبة بتغيير النظام السياسي في كييف. كما يعتبر أن تقدماً محدداً قد تم إحرازه بشأن الممرات الإنسانية، لكنه يرى بأن الإختلاقات المبدئية لا تزال موجودة بين الطرفين، وهو ما لايسمح إلا بتفاؤل حذر. 

في طليعة المسائل الخلافية تأتي المسائل المتعلقة بطبيعة شروط إنسحاب القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية، أو على الأقل من الأراضي التي إحتلتها بعد 24 شباط/فبراير. إلى جانب ذلك تبقى الخلافات المبدئية حول وحدة الأراضي الأوكرانية ومستقبل منطقة الدونباس وحدود الجمهوريتين الإنفصاليتين دونيتسك ولوغانسك.

وعن مدى إحتمال التوصل إلى إتفاقيات سلام دون حدوث إنعطافة في العمليات العسكرية، يقول كارتونوف  بأن الوضع الراهن يتميز بكون أي من الطرفين لا يستطيع أن يكون مهزوماً. وبالتالي، فإن أي إتفاقية ينبغي أن تتيح لكل منهما أن يعلن نصراً ما، نجاحا ما، خاصة بنظر جماهيره في الداخل. تبدل ميزان القوى في ساحة القتال قد بترك تأثيره على المفاوضات، لكن من الأفضل إتاحة الفرصة للخصم لحفظ ماء الوجه، لا حشره في الزاوية.

وعن إمكانية اللقاء بين بوتين وزيلينسكي، يقول كارتونوف بأنه إذا كانت روسيا لا تزال تعتبر زيلينسكي رئيساً شرعياً، ففي مرحلة ما من المفاوضات ينبغي أن يتم مثل هذا اللقاء. المسائل المبدئية يجب أن تناقش على أعلى المستويات. إلا أنه ينبغي الأخذ بالإعتبار الإختلاف في إستقلالية تصرف كل من الرئيسين. فالرئيس الأوكراني سيتعين عليه تنسيق أية إتفاقيات مع السلطة التشريعية، وقد يتعين عليه طرحها على إستفتاء عام.

وبشأن الحاجة إلى وسطاء بين الرئيسين، يقول كارتونوف بأن شرط نجاح الوسيط وفعاليته، سواء كان إردوغان أو نفتالي بينيت، هو توفر المصلحة والإرادة السياسية للطرفين للإقدام على تنازل. وإذا لم تتوفر مثل هذه الإرادة فلا فائدة ترجى من أي وسيط، وحين تتوفر يظهر الوسيط من تلقاء نفسه.

لماذا لا يعلن المتفاوضون عن تفاصيل نقاشاتهما وكيف يمكن الحكم على مسار المفاوضات ومدى رغبة الطرفين في البحث عن حلول وسطية، يقول كارتونوف بأن أحد مؤشرات نجاح المفاوضات في المدى القصير يمكن أن يكون إطلاق العمل الفعّال في الممرات الإنسانية. ويمكن الإسترشاد بمستوى المتفاوضين وكثافة الحوار، إذ كلما ارتفع المستوى ونشط الحوار كلما إرتفعت فرص تحقيق النجاح. اللقاء الأول بين لافروف وزميله الأوكراني لم يسفر عن نتائج جدية، لكن كثافة المفاوضات اللاحقة، بما فيها عبر الفيديو، هو إشارة إيجابية تقدم سبباً ل”آمال حذرة”معينة.

صحيفة القوميين الروس sp تلوم الكرملين لمجرد التفاوض مع القيادة الأوكرانية الراهنة، وترى أنه لا ينبغي التفاوض معها بل نفيها. تدخل الصحيفة في تفاصيل خصائص الحياد السويدي والنمساوي والفنلندي والسويسري، و كذلك الحياد الذي فرض على اليابان وألمانيا بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية. ولا ترى الصحيفة لأوكرانيا إمكانية اي من أنواع الحياد المتوفرة في ظل النخبة الحالية الحاكمة المشبعة بكراهية روسيا والعداء لمصالحها الأمنية برأيها. وتطالب بإعادة تأسيس الدولة الأوكرانية من جديد، لأنه من دون ذلك لن يكون للإتفاقيات معها أية قيمة، إذ سرعان ما ستجد المنفذ للتهرب منها. وترى أن الصيغة الأمثل هي نزع السلاح الأوكراني ونشر وحدات عسكرية روسية على الأراضي الأوكرانية. لكنها ترى بأن تمرير هذا الحل ليس سهلاً، خاصة وأن الموقف المتساهل للمفاوضين الروس لا يوحي بالتفاؤل في هذا المجال.

المدن

————————-

روس في “سُفُن الفلاسفة”..وطيور أمراض أميركية/ رشا الأطرش

تخوف جديد بدأ يتصاعد في صفوف الإعلام والنخب الغربية من العقوبات الثقافية، الأكاديمية والتكنولوجية المفروضة على روسيا التي باتت الرقم واحد بين الدول المُعاقبة دولياً، متجاوزة إيران وكوريا الشمالية. فمنع المنتخبات الرياضية الروسية، التي ترعاها الدولة، من المشاركة في بطولات عالمية، وحظر التمثيل الروسي في مسابقات ومهرجانات فنية، ومُصادرة يخوت وممتلكات فارهة حول العالم عائدة إلى أعضاء الأوليغارشيا الروسية-شريكة فلاديمير بوتين في الحكم ومافيا إدارة المقدّرات الروسية… هذا كله شيء، وقطع العلاقات مع طلاب وأكاديميين وصحافيين مستقلين، وإقفال أبواب أوروبا وأميركا (بتعميم منع تأشيرات الدخول لحمَلة جوازات السفر الروسية) أمام ما بات يُقدّر ببضعة مئات من الآلاف من الروس الذين غادروا البلاد بعد أيام على بدء الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا، إضافة إلى ترك المعارضين والمتظاهرين من الروس ضد الغزو في شبه عزلة من السوشال ميديا… شيء آخر.

وكان لافتاً في الرزمة المبكرة من العقوبات، أنها لم تقتصر على قرارات حكومات غربية، بل واكبتها باضطراد سريع، مبادرات طوعية لشركات كبرى ومؤسسات غير حكومية، كنوع من الإجراء الأخلاقي والقِيَمي الشاجب للسلوك البلطجي البوتيني، والمفترض أن يُعلي أسهمها في الأسواق والميادين المحلية والعالمية. لعل باكورة هذه الرزمة الأولى كانت موجهة إلى المنظومة السياسية والإدارية الحاكمة في روسيا، ولشخصيات سياسية واقتصادية وثقافية تناصرها علناً وبوقاحة، للقول لهم بأنهم منبوذون بسبب قرار شن حرب على بلد سيّد ومستقل لم يبادر إلى أي عمل استفزازي أو عدواني. أما السبحة التي كرّت بعد ذلك، فهي، بحسب أصوات غربية متزايدة، باتت تُبالغ في تهميش المعارضين والمستقلين كأفراد ومؤسسات، وعموم الانتلجنسيا المناهضة لبوتين ونظامه، والتي يعتبر كثر أنها مؤهلة لبناء روسيا مختلفة ذات يوم، وبالتالي فإن حصارها يدعم انقضاض بوتين وقضائه وشرطته عليها. فهي الفئة التي تتعرض للاعتقال (بلغ عدد المتظاهرين المعتقلين نحو 15 ألف شخص) إضافة إلى التهديدات والمضايقات، كما يواجه المواطنون الروس أحكاماً بالسجن تصل إلى 15 عاماً إن قال أي منهم أو كتب ما لا يستند إلى الرواية الرسمية عن الحرب. هذه الفئة ما زالت تزعج بوتين، داخل روسيا وخارجها، وتحاول تقديم بديل للكذب الخطابي والإعلامي الرسمي.

فرار 200 ألف روسي

وإن كان من الصعب تقدير عدد الروس الذين غادروا البلاد غداة بدء الحرب على أوكرانيا، فإن الاقتصادي الروسي كونستانتين سونين، الذي يعمل حالياً في جامعة شيكاغو، يقدّر الرقم بنحو 200 ألف، يقيم معظمهم الآن في بلدان الجوار التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي، بينما يتجه آخرون إلى تركيا وإسرائيل. وبين هؤلاء، صحافيون مستقلون ومحامون وأكاديميون… أي مجموعات النُخب الأكثر أصالة في معارضتها لنظام بوتين، والتي تستذكر الآن “سفن الفلاسفة” التي استخدمها البلاشفة لترحيل المثقفين المعارضين إلى أوروبا وتركيا، لا سيما بعد خطاب بوتين، الأربعاء، عن الدعوة إلى “التطهير الذاتي” لتخليص بلاده من منتقدي الحرب، ملقياً باللائمة على دول الناتو التي “تستخدم المحرضين” لإثارة معارضة الحرب، وعلى الغرب الذي يستخدم “الطابور الخامس” من “الروس الخونة” لإثارة اضطرابات مدنية وتدمير روسيا. فقد قالها بوتين (مثل بشار الأسد وحسن نصرالله..فكلهم في النهاية أبناء مدرسة واحدة): “الروس قادرون على التمييز بين الوطنيين الحقيقيين، وبين الحثالة والخونة، وسيبصقونهم ببساطة مثل البعوض الذي طار خطأ إلى أفواههم… أنا مقتنع بأن مثل هذا التطهير الذاتي الطبيعي والضروري للمجتمع لن يؤدي إلا إلى تقوية بلدنا”. كما تحدث الكرملين، الخميس، عن “الخونة” الذين استقالوا من وظائفهم وغادروا البلاد (ووجّه لهم الرئيس الأوكراني التحية في أحد خطاباته).

الجسم الأكاديمي الروسي ليس متجانساً

في رسالة مفتوحة، مؤخراً، أعرب أكثر من 200 من عمداء الجامعات الروسية عن دعمهم غير المشروط لقرار فلاديمير بوتين بغزو أوكرانيا. صدمت الرسالة العديد من العلماء الغربيين، علّقت رابطة الجامعات الأوروبية عضوية الجامعات التي وقعت على الرسالة، وتفاقم قطع العلاقات الأكاديمية مع روسيا.

لكن، وبحسب كتّاب وباحثين في دوريات ومواقع عالمية، فإن الكلفة المرجحة لمثل هذه الإجراءات هي الإضرار بالمعسكر الأكثر ليبرالية في روسيا، بينما يستفيد خصومهم المحافظون، مع إشارة خبراء في الشأن الروسي الداخلي، إلى أنه من الخطأ النظر إلى الجسم الأكاديمي الروسي ككتلة متجانسة. فمنذ تسعينيات القرن الماضي، تنافس المعسكران المحافظ والليبرالي على التأثير في سياسة العلوم والبحوث الروسية. وحتى وقت قريب، حظيت المجموعة الليبرالية بدعم أكبر من الحكومة الروسية، إذ هدفت الأخيرة إلى إيصال الجامعات الروسية إلى تصنيفات دولية رائدة، ما يتطلب النشر الحثيث في دوريات دولية. ولأن المعسكر الأكاديمي الانعزالي، بعيد كل البعد من المشهد الفكري العالمي، كان لا بد من من اللجوء إلى الخصوم الليبراليين لتحقيق “برستيج” القوة الناعمة هذا، مهما كانت معتقداتهم السياسية غير مقبولة. ويُخشى أن يؤدي التوسع في قطع العلاقات الأكاديمية مع روسيا، إلى قلب ميزان القوى لصالح الجناح المحافظ، وتعزيز سيطرته على الجامعات ومعاهد البحث، وكتم أصوات خصومه الليبراليين.

وفي مثال مصغر آخر، أعلنت جامعة في إستونيا أنها ستتوقف عن قبول الطلبات المقدمة من حاملي جوازات السفر الروسية والبيلاروسية، في الوقت نفسه تقريباً لإعلان جامعة سانت بطرسبرغ التابعة للدةلة أنها ستطرد 13 طالبًا شاركوا في الاحتجاجات المناهضة للحرب.

مجتمع مدني مُطوّق

ثمة قناعة غربية، تزداد انتشاراً الآن، بأنه لا بد مِن معايير مختلفة لانتقاء مَن يُعاقب في روسيا وكَيف، وإلا فإن الموجة الراهنة ستؤازر نهج بوتين ونظامه في الداخل، وهو الذي ما عاد يكتفي بالاعتقالات والتخوين والعنف، بل يذهب أيضاً إلى تطويق المجتمع المدني المناهض له. ولعل المنظّمتين الأشهر في السياق هذا هما “ميموريال انترناشونال” و”لجنة أمهات الجنود”، وإن لم تكونا الوحيدتين.

اشتهرت منظمة “ميموريال” بتوثيق هائل وضخم، بمئات آلاف الوثائق، لتاريخ القمع السياسي السوفياتي، لا سيما ضحايا ستالين، إضافة إلى اضطلاعها بنشاطات حقوقية وحريّاتية للدفاع عن المواطنين الروس ضد الدولة القمعية الراهنة، وهي الأقدم من نوعها في روسيا (تأسست العام 1989). في العام 2014، كانت “ميموريال” أول منظمة مدنية روسية تصنّف غزو شرق أوكرانيا وضمّ شبه جزيرة القرم، على أنه عمل عدواني. في 24 شباط 2022، اليوم الأول للغزو الجديد، أصدرت “ميموريال” بيانًا مقتضباً لكنه ناريّ: “الحرب التي شنها نظام بوتين ضد أوكرانيا هي جريمة ضد السلام والإنسانية. ستبقى هذه الحرب صفحة مخزية في تاريخ روسيا. نحن ضد الحرب مع أوكرانيا ونطالب بوقف فوري للعدوان”. بعد أربعة أيام، رفضت المحكمة العليا في روسيا استئناف “ميموريال” لقرار سابق صادر عن محكمة أدنى بإغلاقها.

أما “لجنة أمهات الجنود”، فقد ساهمت، خلال التسعينيات، في إنهاء أولى الحربين الروسيتين على الشيشان، ولفتت الأنظار في “مسيرة الرحمة” التي امتدت من موسكو إلى العاصمة الشيشانية غروزني، حيث سلّطت الأضواء على معارضي الحرب من المدنيين وإساءة معاملة الأسرى من قبل الروس والشيشان على حد سواء.

ورغم تظاهرات مئات آلاف المناوئين للحرب الحالية، في أنحاء روسيا، إلا أنها ما زالت تعتبر تجمعات صغيرة، متناثرة، ومحدودة في بلد بضخامة روسيا، وإن كانت الاعتقالات بالآلاف. وبوتين يفضل ألا تنضم “الأمهات” لهؤلاء، فأكد لهن في خطاب، الأسبوع الماضي، بأنه لم يتم إرسال مجنّدين شبان للقتال في أوكرانيا، بل “إن العسكريين المحترفين فقط ينجزون المهام”، لتتراجع وزارة الدفاع عن الموقف في اليوم التالي وتقرّ بأن مجندين أرسلوا للقتال، لكن تم سحبهم.

وكان سبب الارتباك في التصاريح الرسمية، على الأرجح، مقطعا فيديو في الإنترنت، أحدهما يظهر فيه جندي روسي شاب أسير يتحدث هاتفياً مع والدته، وهو يروي بالدموع تجاربه المروعة في الميدان، والثاني لامرأة تشتكي أن ابنها الصغير، المجنّد، موجود في أوكرانيا. هكذا، توقف بوتين عند ما سمّاه “خطأ ما”، قائلاً إن تحقيقاً سيُجرى لمعرفة كيف انتهى هؤلاء الشبان في أوكرانيا. وإذا كان “ما تبقى” من انترنت في روسيا قد أدى إلى هذا التراجع، مهما كان هامشياً ولفظياً، وقبل وصول جثامين المقاتلين الروس إلى وطنهم، فإن قرار منصة “تيك توك”، بوقف تحميل محتوى روسي جديد، يُشعر المنخرطين في تغطية الاحتجاجات المناهضة للحرب، بالتخلي والعزلة التي يبتهج بها بوتين ويستكملها بإجراءات حظر من جهته لمنصات إعلامية وشبكات اجتماعية. فكيف يوصلون صُورهم وأصواتهم للعالم الخارجي الذي يتركهم في العتمة ويقفل الباب وراءه؟ كيف يجابهون بروباغندا النظام التي وصلت لتأكيدات وزارة الدفاع، إضافة إلى مزاعم قتال النازيين في أوكرانيا، بأن الولايات المتحدة تدرب طيوراً مصابة بالأمراض على الطيران إلى روسيا لنشر الأوبئة بين الناس؟

المدن

————————–

روسيا تلوح بإجراءات رداً على حجب “يوتيوب” لقنواتها الرسمية

طالبت الهيئة الروسية المنظمة للإعلام “روسكومنادزور”، اليوم السبت، موقع “يوتيوب” بإلغاء حجب عشرات من القنوات الإعلامية، التي تمولها الدولة، غداة اتهامها مجموعة “غوغل” الأميركية وخدمة الفيديو “يوتيوب” التابعة لها بارتكاب أنشطة “إرهابية”. وهددت هيئة “روسكومنادزور بـ”التدخل الفني”، إذا لم تتم استعادة القنوات، فيما تم تفسيره على أنه تلميح على أنه ربما يتم حظر “يوتيوب” من الإنترنت الروسي، إذا لم يتم الوفاء بمطالب موسكو.

وبدأت منصة مشاركة مقاطع الفيديو، التي تملكها شركة “غوغل”، في عرقلة الوصول عالمياً إلى القنوات الروسية، في أعقاب غزو أوكرانيا. وكان موقع “يوتيوب” قد ذكر في الأول من آذار/مارس الماضي أن القنوات انتهكت سياستها، التي تحظر “المحتوى الذي ينكر أحداث العنف، الموثقة بشكل جيد، أو يقللها أو يهون منها”. فعلى سبيل المثال، لم تصف وسائل الإعلام في موسكو التقارير حول الغزو الروسي على أوكرانيا بأنه حرب، لكن “عملية عسكرية خاصة لتحرير السكان المتحدثين بالروسية، من القوات القومية الأوكرانية”.

وكان قد تم حظر موقعي “آر.تي” و”سبوتنيك” أولاً في أوروبا. ثم بعد أيام من ذلك، بدأ حظر الموقعَين في أنحاء العالم. وارتفع بذلك عدد القنوات المتضررة إلى 54، من بينها قنوات تلفزيونية تحظى بنسبة مشاهدة عالية، مثل “آر.بي.كيه” و”إن.تي.دبليو” و”تي.إن.تي” بالإضافة إلى قنوات إذاعية ووكالات أنباء. وذكرت الهيئة في بيان، اليوم السبت، أنها أرسلت مطالب مكتوبة، إلى شركة “غوغل”، لـ”إنهاء التمييز” ولضمان حرية الوصول إلى المعلومات، لجميع مستخدمي “يوتيوب”.

وكانت الهيئة اتهمت، الجمعة، “يوتيوب” و”غوغل” بارتكاب نشاطات ارهابية، في خطوة أولى نحو حجب محتمل للموقع كما حدث في الأسابيع الأخيرة مع تويتر وإنستغرام والعديد من وسائل الإعلام. وقالت هيئة “روسكومنادزور” إن مستخدمي موقع يوتيوب “يبثون إعلانات تحمل دعوات لإغلاق خطوط السكك الحديد في روسيا وبيلاروس” حليفة موسكو التي انطلق منها الهجوم على شمال أوكرانيا. ونقلت وكالة أنباء انترفاكس عن “روسكومنادزور” أن “أنشطة إدارة يوتيوب لها طابع إرهابي وتهدد حياة وسلامة المواطنين الروس”. واستنكرت الهيئة الناظمة الروسية “موقف غوغل المعادي بوضوح لروسيا”، وطالبت المجموعة الأميركية “بوقف بث الفيديوهات المعادية لروسيا في أسرع وقت”.

——————————

تأثير موسكو الجنوبي/ مارك بييريني

لا يزال من المبكر لأوانه التنبؤ عند أي حدٍّ سيتوقف الغزو الروسي لأوكرانيا، لكن من المهم النظر في الدور الذي ستؤدّيه روسيا في الدول الواقعة إلى جنوبها.

تواجه روسيا راهنًا ردود فعل غير مسبوقة من الدول الغربية على خلفية غزوها لأوكرانيا والخسائر البشرية والمادية الهائلة الناجمة عنه. وتشمل ردود الفعل هذه إرسال مساعدات مالية وعسكرية وإنسانية إلى أوكرانيا، واتخاذ إجراءات رامية إلى تنويع مصادر الطاقة بعيدًا عن الغاز الروسي، واستبعاد عدد من المصارف الروسية من النظام المالي العالمي، وتعطيل معظم حركة النقل الجوي والبحري من روسيا وإليها، وقرار الشركات الكبرى وقف أنشطتها في روسيا أو معها، وتعزيز آليات وسياسات حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي. لكن هذه التدابير لن تؤدي إلى حلٍّ سريع للقضايا الشائكة المرتبطة بأوكرانيا.

لنفكر في سيناريو تبقى فيه وضعية روسيا الحالية كما هي على المدى الطويل – أي تبقى فيه هيكلية حكمها السلطوي في حالة من نزاع دائم مع الدول الغربية والناتو، ومن دون أن تشكّل جزءًا من اتفاقات بين الشرق والغرب. وقد تكون نتائج هذا السيناريو مهمة، إذ سيتعين على العالم الغربي إعادة النظر في الكثير من سياساته، وسينبغي على الدول الواقعة جنوب روسيا أن تأخذ في الاعتبار التغييرات وعمليات إعادة الاصطفاف الناجمة عن غزو أوكرانيا. قد يؤدي ذلك إلى خمس نتائج، نوردها في ما يلي.

أولًا، سيبقى “النموذج” الروسي على الأرجح جذّابًا لعددٍ من القادة في دول الشرق الأوسط، ولا سيما في سورية ودول أفريقية واقعة جنوب الصحراء الكبرى، بما فيها جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي، وأيضًا تركيا إلى حدٍّ ما. تُضاف إلى ذلك طبعًا المصالح الجيو-استراتيجية للاعبين بارزين مثل الصين ودول الخليج الكبرى والهند، التي تقتضي استيعاب المواقف الروسية، كي لا نقل تأييدها. وقد تظلّ روسيا التي تجسّد مواقف مناهضة للغرب ركيزة سياسية أو شريكًا صعبًا لكن قيّمًا. فالكثير من الأنظمة تلجأ، للحفاظ على بقائها في السلطة، إلى تكميم أصوات خصومها السياسيين، والتضييق على وسائل الإعلام وناشطي المجتمع المدني، والسيطرة على الجهاز القضائي، وشنّ حروب معلومات استنادًا إلى سرديات خاطئة. وهذا هو النموذج الروسي.

ثانيًا، أدّى الغزو الروسي المتهوّر لأكرانيا إلى تعزيز وحدة الاتحاد الأوروبي بشكل كبير. ففي غضون أسبوعين، قرّر الاتحاد الأوروبي اعتماد سياسة لتنويع مصادر الطاقة بعيدًا عن روسيا، وأخرى بشأن مبيعات الأسلحة. والأهم أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ومن ضمنها الحكومات الأقرب إلى موسكو، بقيت موحّدة في استجابتها للغزو الروسي. وحسمت ألمانيا، في خلال أيام ليس إلا، جدلًا داخليًا مستمرًا لعقود بشأن زيادة التمويل العسكري. كذلك، تراجع النفوذ السياسي الذي تمارسه روسيا على أحزاب سياسية أوروبية بشكل هائل.

ستُعيد هذه التطورات رسم معالم العلاقات القائمة في مناطق الشرق الأوسط والمتوسط وغرب البلقان وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وستؤثّر على العمليات التي تنفذّها أوروبا لمكافحة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وعلى شبكة اتفاقياتها المستندة على القيم، وربما حتى على توسيع الاتحاد الأوروبي في المستقبل. وقد يعمد الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة إلى تعزيز تعاونهما العسكري، من خلال التدريبات المشتركة أو حقوق إنشاء القواعد العسكرية أو التعاون في مجال مكافحة الإرهاب أو إنتاج المعدات العسكرية بشكل مشترك.

ثالثًا، من المتوقّع أن تزداد حدّة المشاحنات بين روسيا والغرب في الأمم المتحدة، وأن تضطر الدول غير الغربية على الانحياز لأحد الطرفين. وستزداد خطورة بعض المسائل وستتفاقم حروب المعلومات. يُشار إلى أن الحوار بين الناتو وروسيا قد توقف، وانسحبت موسكو من اجتماعات مجلس أوروبا. فهل ستبقى روسيا متمسّكة بسرديتها عن تقهقر أوروبا وإفلاسها الأخلاقي بعد أن تصبح ويلات الغزو الروسي لأوكرانيا موثّقة بالكامل؟

رابعًا، ستعاني دول الشرق الأوسط والمتوسط وأفريقيا تداعيات كبرى، إذ إن تكاليف وارداتها من الحبوب سترتفع. وستشمل المفاوضات في الأمم المتحدة حول إرساء السلام في سورية أو ليبيا مثلًا منافسةً أكثر ضراوةً للحصول على دعم دول ثالثة. ومن المرجح أن تعمد موسكو إلى تعزيز مصالحها من خلال نشر الشركات العسكرية الخاصة والمبيعات العسكرية وحقوق إنشاء قواعد جوية وبحرية لها.

خامسًا، ستواجه تركيا مشاكلها الخاصة فيما تبذل جهودًا حثيثة لإصلاح علاقاتها الدبلوماسية، وتُجري لهذه الغاية محادثات رفيعة المستوى مع الإمارات والسعودية وأرمينيا وإسرائيل واليونان. وستحاول أنقرة في المدى القصير المحافظة قدر المستطاع على نوع من التوازن في علاقتها مع كلٍّ من روسيا وأوكرانيا، وتعزيز دورها كـ”وسيط” محتمل (ويقتصر الأمر على دور تيسيري حتى الآن).

لكن لا شكّ أن الحفاظ على علاقات ودية مع موسكو سيطرح إشكالية، نظرًا إلى العنف المتعمَّد الممارَس بحق المدنيين والبنى التحتية المدنية في أوكرانيا. وفي سيناريو مُفترَض تُمحى فيه أوكرانيا من الخريطة، ستجد تركيا نفسها أمام روسيا جديدة تفرض هيمنتها الكاملة على الشاطئ الشمالي للبحر الأسود، وتعزّز قاعدتها البحرية في مدينة سيفاستوبول، وتسيطر على ثلث صادرات الحبوب العالمية، وتمارس سطوتها أكثر من أي وقت مضى من خلال مواردها من النفط والغاز.

أما على الصعيد الدفاعي، فستبقى منظومة الدفاع الصاروخية من طراز إس-400 التي تسلّمتها تركيا في العام 2019 معتمدةً بشكل كامل على روسيا لتوفير التدريبات الضرورية لاستخدامها وصيانتها وإعادة تزويدها بالصواريخ، إذا لم يحدث تغيير جذري في مسار الأحداث. وستشكّل هذه المسألة عائقًا أساسيًا في إطار المواجهة الدائمة بين روسيا والناتو خلال السنوات المقبلة. وسيطرح تحديث القوات الجوية التركية أيضًا تحديًا، إذ سيتعيّن على أنقرة إيجاد بديل إثر استبعادها من برنامج المقاتلات الخفية الأميركية من طراز إف-35.

وعلى نحو مماثل، قد تلجأ موسكو إلى تعديل اتفاقية مونترو للعام 1936 التي تنظّم حركة الملاحة البحرية عبر مضيقَي الدردنيل والبوسفور. وقد تواجه تركيا صعوبات متزايدة في التعاطي مع روسيا حول الملف السوري، ما لم توافق صراحةً على التعامل مع نظام الأسد.

عمومًا، وفي مواجهة سيناريو تواصل فيه موسكو مواقفها العدائية، سيقف عدد من الدول الواقعة إلى جنوب روسيا أمام خيارات صعبة في مجالات كثيرة تتراوح بين الأمن الغذائي، والتجارة، وإمدادات الطاقة، ومشتريات الأسلحة، والتحالفات العسكرية. وقد تُرغم هذه الدول في نهاية المطاف على الاختيار بين إما الاصطفاف السياسي مع روسيا (أي في صف السلطوية) أو الحفاظ على علاقات جيدة مع الغرب (أي في صف الديمقراطية).

———————–

هل دخلت روسيا حقاً المستنقع الأوكراني؟!/ راجح الخوري

عندما حشد القيصر الروسي 250 ألفاً من عديد جيشه على الحدود الأوكرانية، ونقلت الأقمار الصناعية صورة حشد الدبابات والمدرعات الممتد على مسافة 60 كيلومتراً، بدا فعلاً أن الرئيس بوتين مقتنع بأن العملية مجرد نزهة ستنتهي سريعاً بالسيطرة على أوكرانيا، ولهذا وصفها دائماً بأنها «عملية محددة»، مشدداً على أن الروس والأوكرانيين شعب واحد في بلدين!

اليوم يكاد يمر شهر على بدء الاجتياح، وهو ما لم يكن في حساب الرئيس الروسي، الذي خطط عمليته وفق اتجاهين؛ الأول إرسال 400 من عناصر مرتزقة «فاغنر» من ليبيا وسوريا بمن فيهم عناصر من الشيشان إلى القرم، وتسلل مجموعة منهم إلى كييف مهمتها اغتيال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مع أعضاء حكومته، كما زعم اوليكسي دانيلوف، سكرتير مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني، ثانياً بدء الهجوم العسكري، لكن الأوكرانيين عرفوا بخطة وصول عناصر الشيشان إلى كييف فطاردوهم وصفّوهم بعد ثلاث عمليات فاشلة استهدفت زيلينسكي.

بعد بدء الهجوم في 24 الشهر الماضي، اعترف عدد من الجنود الروس الذين وقعوا في الأسر بأنه قيل لهم أنها عملية خمسة إلى سبعة أيام، لكن الأمور تؤكد الآن بعد مضي شهر أن هذه الحسابات كانت خاطئة، وأن الجيش الروسي في أوكرانيا يتعثر في مستنقعات ركام المدن التي يمضي في قصفها وتدميرها على ما يجري تحديداً في ماريوبول التي صارت تشبه لينينغراد.

مؤشرات التعثّر الروسي في أوكرانيا ظهرت باكراً، فبعد أسبوع عقد بوتين اجتماعاً مع مجلس الأمن القومي لبحث العملية، وكان مفاجئاً إعلانه أنه سيتم السماح للمتطوعين الراغبين في القتال دعماً للروس الذهاب إلى أوكرانيا، وفُهم في البداية أن هدف قبول هؤلاء، هو زجهم في القتال داخل المدن لتخفيف وقوع القتلى في الجيش الروسي، رغم أن زعيم الشيشان رمضان قديروف، كان قد أكد أنه يقاتل إلى جانب الروس، وقبل أيام قيل أن روسيا أعدت قوائم بعشرات آلاف المقاتلين من سوريا سجلوا أسماءهم للذهاب إلى أوكرانيا، وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان يوم الثلاثاء الماضي: «في بلد يتراوح فيه راتب الجندي السوري 15 و35 دولاراً، وعدت موسكو المجندين براتب يعادل 1100 دولار»، ومن الواضح أن مهمة هؤلاء قتال الشوارع تخفيفاً لنسبة الإصابات في صفوف الجيش الروسي، الذي يعلن منذ أربعة أسابيع أنه على بُعد 25 كيلومتراً من كييف ولم يتقدم خطوة إلى الأمام، مكتفياً بالقصف المدفعي على المدينة.

الأسبوع الماضي، قالت صحيفة «نيويورك تايمز» إن روسيا طلبت مساعدات عسكرية واقتصادية من الصين لمساعدتها في الحرب والالتفاف على العقوبات الغربية، لكن أهم المؤشرات على أن حسابات القيصر تتعثر، ما ذكرته الأنباء في 12 الجاري من أنه دلالة على غضب الرئيس الروسي المتزايد حيال تعثر عملية الاجتياح، نفّذ عملية تطهير داخلية للجنرالات العسكريين وأفراد المخابرات وأجهزة الأمن ووضع بعضهم في الإقامة الجبرية.

في هذا السياق، أشارت صحيفة «التايمز» البريطانية إلى أنه تم القبض على سيرغي بيسيدا رئيس فرع المخابرات الخارجية في جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، وكذلك على نائبه أناتولي بوليوخ، وأكد هذا الأمر ناشط روسي يدعى فلاديمير أوسيشكين، وقالت «التايمز» إن القبض عليهما يؤكد غضب بوتين المتزايد تجاه أجهزة المخابرات، التي يعتقد أنها قدمت معلومات كاذبة بشأن الوضع في أوكرانيا، ذلك أن بيسيدا هو المسؤول عن جمع المعلومات عن أوكرانيا، وإضافة إلى هذا قال تحليل أجراه «مركز أبحاث دراسة الحرب» في واشنطن إن بوتين أقال ثمانية من كبار قادة الجيش بحجة فشلهم خلال المعارك، وذكرت وسائل إعلام روسية مستقلة أنه تم أيضاً اعتقال أفراد من جهاز الأمن الفيدرالي، وهو الجهة المسؤولة عن إبلاغ الرئيس بوتين بحقائق الوضع السياسي في أوكرانيا، وأنه ربما كان يتصور أن الحرب هناك ستكون مجرد عملية عسكرية بسيطة، ولهذا قيل للجنود الروس أنها مهمة خمسة أيام إلى أسبوع، وفي هذا السياق يقول اندريه سولداتوف، رئيس تحرير موقع «اغنتورا» الاستقصائي الذي يراقب جهاز الأمن الفيدرالي، إن «المشكلة هي أنه من الخطر للغاية على الرؤساء أن يخبروا بوتين بما لا يريد سماعه، وليس من المستغرب أن معلوماتهم التي جمعوها كانت في الواقع جيدة للغاية، لكنهم قدروا أنها لن ترضي القيصر!

وكما حصل في مسألة تلويح بوتين في خطابه الذي سبق الاجتياح بوضع سلاحه النووي في حال تأهب، وهو ما دفع الكرملين بعد أيام إلى التراجع عن هذا التهديد الخطير، يحصل في موضوع المفاوضات بين وفدي روسيا وأوكرانيا، فمنذ البداية كان زيلينسكي يطالب باجتماع بينه وبين بوتين، وقال له ذات يوم «لماذا لا نجتمع؟ أنا لا أعضّ»، لكن الوفد الروسي تمسك بمواقفه ومطالبه بالاعتراف بروسية القرم ونزع سلاح أوكرانيا، وبعد الجولة الرابعة ها هي موسكو تبدي قبولاً مبدئياً بإجراء لقاء بين الرئيسين بوتين وزيلينسكي، وسط توقعات متزايدة بالتوصل إلى حل وسط، ولم يستبعد المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف هذا التطور بعد إحراز تقدم جدي برز في المجالين العسكري والإنساني، وبدوره أعرب زيلينسكي، قبل أيام، عن ارتياحه إلى مستوى التقدم، قائلاً إن المفاوضات انتقلت من لغة الإنذارات إلى المسائل التي يمكن التوصل إلى تفاهمات حولها. يوم الخميس الماضي، أعلنت وزارة الدفاع البريطانية في إحاطتها اليومية أن العمليات الروسية متوقفة على كل الجبهات، بعدما أحرزت تقدماً بسيطاً متكبدة خسائر كبيرة، وأن المقاومة الأوكرانية ما زالت قوية وأن معظم المدن الكبرى تحت سيطرتها، في الوقت عينه أفادت تقارير صادرة عن الاستخبارات الأميركية بمقتل سبعة آلاف جندي روسي في الميدان الأوكراني خلال عشرين يوماً، وتقول «نيويورك تايمز» إن هذا الرقم يفوق الخسائر الأميركية على مدى سنوات في العراق وأفغانستان، كما خسر الروس ثلاثة من كبار جنرالاتهم.

عملياً حتى لو كانت هذه الأرقام صحيحة أو مبالغاً فيها، اتهم بوتين الغرب في خطابه الأخير بمحاولة تقسيم روسيا، عبر إثارة صراع أهلي، متحدثاً عن «الطابور الخامس والخونة داخل روسيا»، وأن الشعب الروسي سيكون قادراً على تمييز الوطنيين الحقيقيين عن الحثالة والخونة، وحتى لو كان هذا صحيحاً، فليس الحل مثلاً أن يقول الرئيس الأميركي جو بايدن عن الرئيس الروسي إنه «مجرم حرب»، بل الحل الآن إيجاد مخرج يساعد القيصر على ابتلاع تعثّر حساباته في أوكرانيا للحيلولة دون اندفاعه إلى ما هو أخطر من الاجتياح!

المصدر

الشرق.الأوسط

——————————

كيسنجر: هكذا تنتهي حرب أوكرانيا… وإلا مواجهة شاملة قريباً جداً

تدور الأحاديث في أوكرانيا كلها حول المواجهة. ولكن هل نعرف إلى أين نحن ماضون؟ شهدت خلال حياتي أربعة حروب بدأت بحماسة وتأييد شعبي كبيرين، لم نكن نعرف كيف ستنتهي، وانسحبنا منها من جانب واحد. لكن الاختبار الحقيقي للسياسة هو كيف تُنهي الحرب وليس كيف تبدأها.

تُطرح القضية الأوكرانية في كثير من الأحيان على أنها مواجهة: هل ستنضم أوكرانيا إلى الشرق أم إلى الغرب. ولكن إذا كان لأوكرانيا أن تعيش وتزدهر، فلا يجب أن تكون مخفراً أمامياً لأي من الجانبين ضد الآخر – بل يجب أن تكون جسراً بينهما.

يجب أن تقبل روسيا أن محاولة إجبار أوكرانيا على الدوران في فلكها، وبالتالي نقل حدود روسيا مرة أخرى، من شأنه أن يحكم عليها بتكرار تاريخها من دوامة الضغوط الانتقامية المتبادلة مع أوروبا والولايات المتحدة.

ويجب على الغرب أن يفهم أنه لا يمكن لأوكرانيا أن تكون مجرد دولة أجنبية بالنسبة الى روسيا. فقد بدأ التاريخ الروسي في ما كان يسمى (“كييف روس” أو “روس الكييفية”)، ومن هناك انتشرت الديانة الروسية. وكانت أوكرانيا جزءاً من روسيا لقرون عدة، وكان تاريخهما متشابكاً حتى قبل ذلك. وقد تم خوض بعض أهم المعارك من أجل الحرية الروسية، ابتداءً من معركة بولتافا عام 1709، على الأراضي الأوكرانية. وأسطول البحر الأسود – وسيلة روسيا لإبراز قوتها في البحر الأبيض المتوسط – يستند إلى عقد إيجار طويل الأجل لميناء سيفاستوبول، في شبه جزيرة القرم. وحتى المنشقون المشهورون عن روسيا مثل ألكسندر سولجينتسين وجوزيف برودسكي أصروا على أن أوكرانيا كانت جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الروسي، بل في الواقع، جزءاً من روسيا نفسها.

كذلك، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يدرك أن تسويفه البيروقراطي وإخضاعه العنصر الاستراتيجي للسياسة المحلية في تفاوضه بشأن علاقة أوكرانيا بأوروبا، ساهم في تحويل المفاوضات إلى أزمة. فالسياسة الخارجية هي فن تحديد الأولويات.

إن الأوكرانيين هم العنصر الحاسم. فهم يعيشون في بلد له تاريخ معقد وتكوين متعدد اللغات. تم دمج الجزء الغربي من البلاد مع الاتحاد السوفياتي عام 1939، عندما تقاسم ستالين وهتلر الغنائم. وأصبح شبه جزيرة القرم -60 في المئة من سكانها روس- جزءاً من أوكرانيا في عام 1954، عندما منحها اياها نيكيتا خروتشوف، الأوكراني المولد، كجزء من الاحتفال بمرور 300 عام على اتفاقية روسية مع القوزاق. وغرب البلاد كاثوليكي إلى حد كبير. وفي شرقها روس   أرثوذكس. الغرب يتكلم الأوكرانية، بينما يتحدث الشرق الروسية في الغالب. أي محاولة من جانب أحد أجزاء أوكرانيا للهيمنة على الآخر – كما كان النمط المعتاد – ستؤدي في النهاية إلى حرب أهلية أو تفكك. إن التعامل مع أوكرانيا كجزء من المواجهة بين الشرق والغرب من شأنه أن يفسد لعقود أي احتمال للتقريب بين روسيا والغرب – وبخاصة روسيا وأوروبا – وإقامة نظام دولي تعاوني.

أوكرانيا مستقلة منذ 23 عاماً فقط؛ إذ كانت في السابق تحت نوع من الحكم الأجنبي منذ القرن الرابع عشر. وليس من المستغرب أن قادتها لم يتعلموا فن التسوية، ولا حتى من المنظور التاريخي. تُظهر سياسات أوكرانيا ما بعد الاستقلال بوضوح أن جذر المشكلة يكمن في جهود السياسيين الأوكرانيين لفرض إرادتهم على أجزاء متمردة من البلاد، أولاً من قبل فصيل واحد، ثم من قبل الآخر. هذا هو جوهر الصراع بين فيكتور يانوكوفيتش ومنافسته السياسية الرئيسية يوليا تيموشينكو. هما يمثلان جناحي أوكرانيا ولم يكونا على استعداد لتقاسم السلطة. إن سياسة أميركية حكيمة تجاه أوكرانيا تقتضي إيجاد طريقة يتعاون بها شطرا البلاد مع بعضهما بعضاً، إذ يجب أن نسعى للمصالحة وليس سيطرة فصيل معين.

لم تتصرف روسيا والغرب، والفصائل المختلفة في أوكرانيا بدرجة أقل، وفقاً لهذا المبدأ. إذ جعل كل منهم الوضع أسوأ. لن تكون روسيا قادرة على فرض حل عسكري من دون عزل نفسها في وقت تعاني نقاط حدود عديدة تابعة لها من عدم الاستقرار. بالنسبة الى الغرب، فإن شيطنة فلاديمير بوتين ليست سياسة، بل مجرد حجة لغياب السياسة.

يجب أن يدرك بوتين أنه، بغض النظر عن أوجاعه، فإن سياسة الإملاءات العسكرية ستؤدي إلى حرب باردة جديدة. ومن جانبها، تحتاج الولايات المتحدة إلى تجنب معاملة روسيا على أنها شاذة ليصار بالتالي إلى تعليمها قواعد السلوك التي وضعتها واشنطن. بوتين رجل استراتيجي خطير – بالنظر إلى التاريخ الروسي. كما أن فهم قيم الولايات المتحدة وسيكولوجيتها ليس من صفاته. تماماً كما لم يكن فهم تاريخ الروس وسيكولوجيتهم نقطة قوة لدى صانعي السياسة في الولايات المتحدة.

يجب على القادة من جميع الأطراف إعادة فحص النتائج، وليس التنافس في المواقف. إليكم مفهومي عن نتيجة توافقية من القيم والمصالح الأمنية لجميع الأطراف:

1- يجب أن يكون لأوكرانيا الحق في حرية اختيار توجهها الاقتصادي والسياسي، بما في ذلك تجاه أوروبا.

2- لا ينبغي أن تنضم أوكرانيا إلى “الناتو”، وهو الموقف الذي اتخذته قبل سبع سنوات عندما طرحت القضية لآخر مرة.

3- يجب أن تكون لأوكرانيا الحرية في إنشاء أي حكومة تتوافق مع الإرادة المعلنة لشعبها. سيختار القادة الأوكرانيون الحكيمون سياسة المصالحة بين مختلف أجزاء بلدهم. وعلى الصعيد الدولي، يجب عليهم اتباع وضع مماثل لوضع فنلندا. ليس لدى تلك الأمة أدنى شك في استقلالها الكامل وتتعاون مع الغرب في معظم المجالات، لكنها تتجنب بحرص العداء الكامل تجاه روسيا.

4- يتعارض ضم روسيا لشبه جزيرة القرم مع قواعد النظام العالمي الحالي. لكن ينبغي أن تتساهل روسيا قليلاً في علاقة شبه جزيرة القرم بأوكرانيا. ولهذه الغاية، على روسيا الاعتراف بسيادة أوكرانيا على شبه جزيرة القرم. ويتعين على أوكرانيا تعزيز الحكم الذاتي لشبه جزيرة القرم في الانتخابات التي تجري بحضور مراقبين دوليين. ستشمل العملية إزالة أي غموض حول وضع أسطول البحر الأسود في سيفاستوبول.

هذه مبادئ وليست وصفات. يعرف الأشخاص المطلعون على المنطقة أنها لن تكون مقبولة لدى جميع الأطراف. والاختبار الحقيقي هو ليس الرضا المطلق بل عدم الرضا المتوازن. وإذا لم يتم التوصل إلى حل قائم على هذه العناصر أو عناصر مماثلة، فسوف يتسارع الانجراف نحو المواجهة. وستكون قريبة جداً.

بقلم هنري أ. كيسنجر*

مدونة هنري كيسنجر

النهار العربي

————————

مقال من الحزب الشيوعي الروسي: “ما الذي يحدث في أوكرانيا وحولها

هناك حرب في أوكرانيا. ظاهريا، يبدو الأمر وكأنه نزاع مسلح بين روسيا وأوكرانيا. تحدثت جميع القوى السياسية، بما في ذلك اليسار، عن هذه الأحداث. نطاق التقييمات: من الإنسانية – العاطفية (“الناس يموتون، أوقفوا الحرب”) إلى الطبقية البحتة (“الغرب يدفع بنظامين من حكم الأوليغارشية”). في الواقع، هذا الصراع له جذور عميقة. عند تحليل الوضع، يجب أن نأخذ بعين الإعتبار المحتوى القومي للصراع الطبقي والمحتوى الطبقي للنضال الوطني.

ما هي أوكرانيا؟ كانت أراضي أوكرانيا الحالية حتى منتصف القرن السابع عشر منطقة ذات كثافة سكانية منخفضة متنازع عليها بين البلدان المجاورة. بحلول بداية القرن العشرين، تم تقسيم أراضي أوكرانيا الحالية بين بولندا والنمسا والمجر وروسيا. بعد ثورة 1917، أعلنت بعض هذه الأراضي استقلالها مؤقتا. لكن في عام 1922 انضموا إلى الإتحاد السوفيتي باسم جمهورية أوكرانيا الإشتراكية السوفيتية. لذلك اكتسبت أوكرانيا دولة، على الرغم من محدوديتها.

كانت أوكرانيا دولة زراعية. لضمان تطويرها في عام 1918 بناء على اقتراح فلاديمير لينين، تم نقل ست مناطق صناعية روسية إلى أوكرانيا بما في ذلك دونيتسك ولوغانسك التي لم تكن أبدا جزءا من أوكرانيا. في عام 1939 تم ضم غاليسيا (أوكرانيا الغربية) إلى أوكرانيا، التي كانت في السابق جزءا من بولندا. الأراضي الحالية لأوكرانيا هي نتيجة دخولها إلى الإتحاد السوفيتي. وهي تتألف من قطع متفرقة: من غاليسيا (لفيف) ذات التأثير القوي للكاثوليكية إلى أوكرانيا الشرقية، والتي تنجذب بقوة نحو روسيا.

تطورت أوكرانيا الإشتراكية بقوة. تمت إضافة صناعة الطائرات والصواريخ والبتروكيماويات وصناعة الطاقة الكهربائية (4 محطات للطاقة النووية) والصناعات الدفاعية لاستخراج المعادن والفحم. كجزء من اتحاد الجمهوريات الإشتراكية السوفيتية، لم تحصل أوكرانيا على الجزء الأكبر من أراضيها الحالية فحسب، بل حصلت على الإمكانات الإقتصادية مما جعلها عاشر أكبر اقتصاد في أوروبا. كان السياسيون الأوكرانيون مهيمنين في القيادة السوفيتية. ن. خروشيف، ل. بريجنيف ، ك. تشرنينكو أداروا الإتحاد السوفيتي من 1953 إلى 1983.

بعد انهيار الإتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991، أصبحت أوكرانيا دولة مستقلة لأول مرة في تاريخها. لكن هذا دمر التكامل الإقتصادي المستمر منذ قرون مع روسيا. أدى نموذج “السوق” إلى تراجع التصنيع في أوكرانيا، وإلى انخفاض حاد في مستوى معيشة السكان. على أساس الخصخصة المفترسة، نشأت طبقة الأوليغارشية.

الآن هي أفقر دولة في أوروبا. مستوى الفساد والتمايز الاجتماعي هو الأعلى في العالم. الصناعة التحويلية باستثناء المعادن، تم تدميرها عمليا. يعتمد الإقتصاد على القروض الغربية وتحويلات الأموال من العمالة المهاجرة التي غادرت إلى أوروبا وروسيا بحثا عن عمل. (حوالي 10 ملايين من أصل 45 مليون شخص)، وهم في الأساس متخصصون مؤهلون. لقد بلغ تدهور الرأسمال البشري حدوده. البلد على شفا كارثة وطنية.

سكان أوكرانيا غير راضين بشدة. لكن هذا الإستياء من السلطات الموالية للغرب يتم التلاعب به بطريقة تجعل المزيد من القوى الموالية للغرب تفوز في الإنتخابات في كل مرة. في فبراير 2014، تم تنفيذ انقلاب حكومي مدعوم من الولايات المتحدة وحلف الناتو في أوكرانيا. صرحت وزارة الخارجية الأمريكية علانية أنها استثمرت 5 مليارات دولار في إعدادها.

جاء النازيون الجدد إلى السلطة. هؤلاء هم، أولا وقبل كل شيء ، أشخاص من غرب أوكرانيا (غاليسيا)، التي كانت لقرون تحت حكم بولندا والنمسا-المجر. المشاعر القومية المتطرفة ومعاداة السامية ومعاداة بولندا والروسوفوبيا والشيوعية قوية تاريخيا هناك. بعد غزو هتلر للإتحاد السوفيتي، استقبلت القوات الألمانية في غرب أوكرانيا بالزهور. تم تشكيل فرق قوات الأمن الخاصة هناك قاتلت ضد الجيش الأحمر. بدأ القوميون المحليون، بقيادة ستيفان بانديرا، المعجب بهتلر، في إبادة السكان اليهود. في أوكرانيا قُتل حوالي 1.5 مليون يهودي – ربع ضحايا الهولوكوست. خلال “مذبحة فولين” عام 1944 قُتل حوالي 100.000 بولندي بوحشية في غرب أوكرانيا. دمر أتباع بانديرا المجموعات القتالية السوفيتية وأحرقوا الرجال والنساء والأطفال أحياء في مئات القرى في بيلاروسيا. اشتهر القوميون الأوكرانيون الذين خدموا كحراس في معسكرات الإعتقال الألمانية بقسوة وحشية.

بعد الحرب من عام 1945 إلى عام 1953، أطلق المتمردون المناهضون للشيوعية والسوفيت المدعومون من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في غرب أوكرانيا الإرهاب ضد السكان المدنيين. خلال هذه السنوات قتل أتباع بانديرا حوالي 50 ألف مدني. هذه هي طبيعة القوى – أحفاد الفاشيين وأتباعهم – التي وصلت إلى السلطة بعد انقلاب 2014. إن تقاليد الإرهاب المعادي لبولندا والمعاداة للسامية ولروسيا قوية للغاية بين النازيين الجدد الذين يحكمون أوكرانيا بالفعل. تم حرق 42 من معارضي النازية أحياء في مبنى النقابات في أوديسا في 2 مايو 2014.

إنه تحالف بين النازيين الجدد ورأسمال الأوليغارشية. أتباع بانديرا (مثل كتيبة العاصفة في ألمانيا) بمثابة انفصال مفاجئ عن الشركات الكبرى. الفرق الوحيد هو أن أتباع بانديرا يمتنعون عن معاداة السامية الصريحة، بعد أن أسسوا وحدة طبقية مع الأوليغارشية المحلية. يسيطر أتباع بانديرا بشدة على كل حركة لسلطة الدولة، ويبتزها باستمرار بالتهديد بالإنقلاب. من ناحية أخرى، يتم تحديد سياسة أوكرانيا من قبل السفارة الأمريكية في كييف.

إن طبيعة الدولة الأوكرانية الحالية هي تحالف الرأسمال الكبير وبيروقراطية الدولة، بالإعتماد على عناصر إجرامية وفاشية تحت السيطرة السياسية والمالية الكاملة للولايات المتحدة.

بعد عام 2014، تم غرس الأيديولوجية النازية في أوكرانيا. تم إلغاء يوم النصر على الفاشية في 9 مايو. الفاشيون الأوكرانيون – المنظمون والمشاركون في فظائع الحرب – معترف بهم رسميا كأبطال وطنيين. تقام مسيرات الشعلة كل عام تكريما للمجرمين الفاشيين. تمت تسمية الشوارع والساحات من بعدهم. يعمل الحزب الشيوعي الأوكراني تحت الأرض. أصبح الترهيب والإغتيالات السياسية للسياسيين والصحفيين مستمرين. يتم تدمير النصب التذكارية لـ لينين وكل ما يتعلق بذكرى الحياة في الإتحاد السوفيتي.

في الوقت نفسه، بدأت محاولة لاستيعاب السكان الروس في أوكرانيا بالقوة بقمع اللغة الروسية. أدت محاولة إدخال اللغة الأفريكانية بدلا من الإنجليزية في جنوب إفريقيا إلى انتفاضة سويتو في عام 1976. وحدث نفس الشيء في أوكرانيا. أدت محاولة نقل التعليم المدرسي من اللغة الروسية إلى الأوكرانية إلى مقاومة قوية في منطقتي دونيتسك ولوغانسك. حمل الناس السلاح. في مايو 2014، تم إجراء استفتاء هناك، حيث صوت 87% من المواطنين لصالح الاستقلال. هكذا نشأت جمهوريات دونيتسك ولوغانسك الشعبية. بعد عدة محاولات فاشلة لغزو دونيتسك ولوغانسك، تحول النازيون من كييف إلى الإرهاب. خلال 8 سنوات من القصف بالمدافع من العيار الثقيل، لقي أكثر من 13 ألف مدني، بينهم أطفال ونساء وشيوخ مصرعهم في دونيتسك ولوغانسك. مع الصمت التام للمجتمع العالمي.

يقوم الشيوعيون في روسيا بدور نشط في الدفاع عن دونيتسك ولوغانسك. مئات الشيوعيين يقاتلون النازيين كجزء من قوات الجمهوريات الشعبية. مات العشرات من الشيوعيين في هذا الصراع. خلال 8 سنوات، أرسل الحزب الشيوعي لروسيا الإتحادية 93 قافلة من المساعدات الإنسانية إلى هذه الجمهوريات بوزن إجمالي يبلغ 13000 طن، واستقبلت آلاف الأطفال للراحة والعلاج في روسيا. كل هذه السنوات، طالب الحزب الشيوعي لروسيا الإتحادية برئاسة غينادي زيوغانوف من القيادة الروسية بالإعتراف باستقلال دونباس.

في مارس 2015 بمبادرة من روسيا (بمشاركة ألمانيا وفرنسا) تم إبرام اتفاقيات مينسك، والتي نصت على الوضع الخاص لـ دونيتسك-لوغانسك داخل أوكرانيا. ومع ذلك، تهربت أوكرانيا من تنفيذها. بدعم من الولايات المتحدة، كانت كييف تستعد لسحق دونيتسك-لوغانسك بقوة السلاح. قدمت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأعضاء آخرون في الناتو تدريبات للجيش الأوكراني. قاموا ببناء أكثر من 30 منشأة عسكرية كبيرة في أوكرانيا بما في ذلك 15 مختبر للبنتاغون لتطوير الأسلحة الجرثومية (الكوليرا والطاعون والأمراض الفتاكة الأخرى). أوكرانيا بمحطاتها الأربعة للطاقة النووية وإمكانياتها العلمية والتقنية الضخمة قادرة على صنع قنبلة ذرية. تم الإعلان عن هذه النية علانية. كان هناك خطر من نشر صواريخ كروز الأمريكية. يهدد الوضع في أوكرانيا بشكل متزايد أمن روسيا.

في ديسمبر 2021، اقترحت روسيا على الولايات المتحدة التحدث عن عدم توسيع الناتو. تجاهلت الولايات المتحدة والناتو الاقتراح. حذرت روسيا في يناير 2022 من أنها ستضطر إلى اتخاذ تدابير إضافية لحماية أمنها. في الوقت نفسه ، أصبح معروفا أن أوكرانيا قد حشدت 150.000 جندي وكتائب نازية في دونباس. كانت كييف، بدعم من الولايات المتحدة، تستعد لاستعادة السيطرة على دونباس من خلال الحرب في مارس.

في 22 فبراير، أعلن الرئيس بوتين الإعتراف باستقلال دونيتسك-لوغانسك. في 25 فبراير، بدأت عملية القوات المسلحة الروسية.

روسيا لن تحتل أوكرانيا. الغرض من العملية هو تحرير أوكرانيا من النازيين وحيادها (رفض الإنضمام إلى الناتو). تكتيكات القوات الروسية، أثناء مهاجمة المنشآت العسكرية، لتقليل الخسائر بين السكان المدنيين والجيش الأوكراني، لتجنب تدمير البنية التحتية المدنية. إنهم أخوة. سنواصل العيش معا. ومع ذلك، يستخدم نازيو بانديرا أكثر التكتيكات إثارة للاشمئزاز من الفاشيين الألمان، باستخدام المدنيين ومنازلهم كدروع بشرية. ينصبون قذائف مدفعية ودبابات في مناطق سكنية، ويمنعون المواطنين من مغادرة مناطق الحرب، ويحولون مئات الآلاف إلى رهائن.

هذا التكتيك النازي الشائن لا يدان في الغرب. إن الولايات المتحدة، التي تشن حربا إعلامية من خلال وسائل الإعلام التي تسيطر عليها (فقط روسيا اليوم تقاوم)، هي المهتمة بالحرب. لا تهاجم الولايات المتحدة روسيا فحسب، بل تهاجم أوروبا أيضا. كانت حرب الناتو ضد يوغوسلافيا عام 1999 وسيلة لزعزعة استقرار الإتحاد الأوروبي. الهدف الرئيسي للولايات المتحدة اليوم هو منع إمدادات الغاز الروسي عبر خط أنابيب السيل الشمالي-2 لإجبار أوروبا على شراء غاز مسال أغلى ثمنا من الولايات المتحدة، وبالتالي إضعاف ألمانيا ودول الإتحاد الأوروبي الأخرى بشكل حاد. يبلغ حجم التجارة بين روسيا والإتحاد الأوروبي 260 مليار دولار في السنة. مع الولايات المتحدة – 23 مليار دولار أمريكي. 10 مرات أقل. لذلك العقوبات التي فُرضت بناء على طلب الولايات المتحدة ضربت، في المقام الأول، أوروبا. الأحداث في أوكرانيا هي حرب أمريكية أخرى للسيطرة على العالم.

بالمناسبة، الإدعاءات حول الطبيعة العالمية لمقاطعة روسيا خاطئة. دول البريكس (البرازيل والهند والصين وجنوب إفريقيا) التي تشكل 43% من سكان العالم لا تؤيد العقوبات. تحتل الصين المرتبة الأولى والهند – ثالث أكبر إقتصادات العالم. لم يتم دعم العقوبات من قبل آسيا (باستثناء اليابان وكوريا الجنوبية بقواعدهما العسكرية الأمريكية)، والشرق الأوسط، وأكبر دول أمريكا اللاتينية وأغلبية

منذ 30 عاما، كنت من أكثر منتقدي السياسة الداخلية والخارجية للنخبة الروسية نشاطا. في طابعها الطبقي، لا تختلف سلطة الأوليغارشية البيروقراطية في روسيا كثيرا عن السلطة في أوكرانيا (باستثناء الفاشية والسيطرة الأمريكية الكاملة). ومع ذلك، في تلك الحالات النادرة للأسف عندما يتبع قادة روسيا خطا يلبي المصالح التاريخية للبلاد والشعب، فإن مبدأ النقد “التلقائي” بالكاد يكون مناسبا.

لطالما جادلت في أن العقوبات سيكون لها تأثير مفيد في التخلص من اعتماد روسيا المفروض على الغرب في مختلف مجالات الحياة. تتخذ الحكومة الروسية بالفعل الخطوات الأولى في هذا الإتجاه. تتمثل مهمة قوى اليسار في تشجيع السلطات بقوة على تغيير ليس فقط السياسة الخارجية، ولكن أيضا المسار الإجتماعي والإقتصادي، الذي لا يتوافق مع مصالح الشعب.

فياتشيسلاف تيتيكين،

عضو لجنة التنسيق في الحزب الشيوعي لروسيا الإتحادية

دكتوراه في التاريخ،

عضو سابق في مجلس الدوما الروسي (2011-2016)

مقال نُشر على الموقع الرسمي للحزب الشيوعي الروسي “ما الذي يحدث في أوكرانيا وحولها” في 14 مارس 2022 (ترجمة المعسكر الإشتراكي)   https://cprf.ru/2022/03/what-is-happening-in-and-around-ukraine/   https://vk.com/socialist.camp?w=wall-204680433_14

——————

==========================

نتيجة حصول خطأ فني في القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة” نستمر في تغطية هذا الملف الحيوي هنا

============================

تحديث 21 أذار 2022

——————-

بوتين الذي لا يستطيع أن يخسر/ غسان شربل

يقف العالم مذهولاً أمام منعطف خطر لم يشهد مثيلاً له منذ عقود. لا مبالغة في هذا الكلام. عادت الحرب إلى القارة الأوروبية وعلى يد دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن. أطلقت مشاهد الحرب الروسية في أوكرانيا سيلاً من الأسئلة الصعبة. هل نحن أمام إعادة رسم بعض الخرائط؟ هل نشهد انقلاباً على عالم القوة العظمى الوحيدة؟ هل نحن في الطريق إلى نظام عالمي جديد؟ نظام متعدد الأقطاب يبيح لكل قطب التفرد بمصير الدول الواقعة في مداه الحيوي؟ وأين موقع الصين في هذا العالم الجديد الذي يولد على دوي القذائف وقطع الشرايين الاقتصادية والدبلوماسية والثقافية؟ هل نحن في الطريق إلى سباق تسلح محموم ينسي العالم هموم الأوبئة والاحترار المناخي وجموع الفقراء الحالمين بالهجرة من بلدانهم الكئيبة المتصدعة؟ وماذا سيحصد العالم من الحرب الأوكرانية التي وضعت على المشرحة خطوط الغاز والقمح وسلاسل التوريد؟

واضح أن رجلاً اسمه فلاديمير بوتين وجّه ضربة بالغة القسوة إلى العالم الذي يحمل بصمات سلفه ميخائيل غورباتشوف، وهو العالم الذي أساءت أميركا المنتصرة إدارته.

يمكن القول إن الحرب الأوكرانية أشد خطورة من كل النزاعات التي شهدها عالم المعسكرين. أخطر من الحرب الكورية والحرب الفيتنامية والحروب التي أنهكت الشرق الأوسط. أخطر لأن عالم المعسكرين كان يمتلك على الأقل القدرة على إيقاظ صمام أمان يشكله أي اتفاق بين واشنطن وموسكو على محاصرة الحريق أو إخماده. لا يمكن الحديث في العالم الحالي عن صمام أمان. مجلس الأمن يذكّر بشيخوخة المؤسسات حين تنزف هيبتها وفاعليتها ولا تحتفظ إلا بالقدرة على الكلام وتوزيع المناديل والضمادات.

يذهب الزعيم إلى التاريخ حاملاً معه حربه أو قراراً كبيراً عند منعطف كبير. ومن عادة التاريخ أن يعطي مقعداً في شرفته للذين يجرون جراحات قاسية للخرائط وموازين القوى ويفوق أحياناً عدد ضحاياهم عدد مناصريهم. يستقبل كتاب الزمن من يقتحمون صفحاته ثم يحاكمهم ويعيد المحاكمات. ومن عادة التاريخ أن يُكتب بحبر المنتصرين.

لزعماء الكرملين قصة مثيرة. قدرهم أن يكونوا أقوياء. ولد الاتحاد السوفياتي من رحم الإمبراطورية الروسية. ولا تستطيع موسكو التعايش مع الضعف لأنه يعني تطاير لحم الإمبراطورية. وفي موازاة القوة التي لا بد منها تسرب إلى الكرملين في القرن الماضي هذا الخوف من الغرب الذي زاره بطرس الأكبر متنكراً لاستكشاف أسباب قوته واستيراد خبراته. وكان الخوف من الغرب ونموذجه صحناً دائم الحضور على مائدة القياصرة الذين جلسوا تباعاً على عرش لينين.

لنترك ستالين مرتاحاً مع إنجازاته وارتكاباته بين سكاكين المؤرخين. ارتبطت أسماء معظم ورثته بأزمات كبرى وقرارات مدوية. كان «الفلاح الأوكراني» نيكيتا خروشوف في نادي القيادة حين لوّحت انتفاضة المجر بمغادرة النظام الصارم. تقدمت الدبابات السوفياتية إلى بودابست ولقنت خونة الحزب درساً لن ينسوه. وشاءت الصدفة أن يكون اسم السفير السوفياتي في وليمة بودابست يوري أندروبوف الذي سيقود لاحقاً إمبراطورية الـ«كي جي بي» وبعدها الاتحاد السوفياتي. وكان خروشوف في موقع القيادة في أزمة الصواريخ الكوبية التي وضعته في مبارزة مباشرة مع جون كينيدي وعلى شفير مواجهة نووية. وفي تلك الأيام كان بوتين في العاشرة من العمر.

اسم ليونيد بريجنيف سيرتبط هو الآخر بمحطات كبرى. في 1968 ارتكب الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي بزعامة ألكسندر دوبتشيك خطيئة الدعوة إلى «اشتراكية ذات وجه إنساني». أدركت موسكو خطورة تسرب الرياح، فأمر بريجنيف بسحق «ربيع براغ» وكان له ما أراد. سيرتبط اسم بريجنيف أيضاً بقرار يفتقر إلى الحصافة، وهو تدخل الاتحاد السوفياتي للمرة الأولى خارج حديقة أوروبا الشرقية. تدفق «الجيش الأحمر» إلى أفغانستان ولن يخرج منها إلا مثخناً في عهد غورباتشوف.

في روسيا بوتين زعيم سوفياتي يبحر في التسعينات بعد أن غير ملامح العالم الذي نعيش فيه. إنه غورباتشوف. فتح النافذة فدخلت العاصفة. سيرتبط اسمه في التاريخ بمنعطفين، هما انهيار جدار برلين وانتحار الاتحاد السوفياتي. خلال مفاوضات توحيد ألمانيا لم يحاول الحصول من قادة حلف «الناتو» على ضمانات بعدم اقتراب الحلف من روسيا. اكتفى بوعود شفوية ليس من عادة الأقوياء احترامها. لم يحاول الحصول على ضمانات مكتوبة لأن ذلك كان يعني، وفق تبريراته، التسليم باحتضار «حلف وارسو» الذي كان لا يزال حياً. أما اسم خليفته بوريس يلتسين فسيرتبط بتعميق شعور روسيا بالضياع والهزيمة خصوصاً بعدما تعرضت لأوسع عملية نهب في التاريخ على يد المافيات.

من غضب المطبخ العسكري – الاستخباراتي سيولد مشروع الثأر وسيحمله بوتين إلى الكرملين. لم يتنبه حلف «الناتو» لمخاطر إذلال روسيا. حرك بيادقه في اتجاه حدودها أو على مقربة منها. تجاهل ما يدور من تمزق على أرض أوكرانيا منذ عقدين. كازاخستان شيء وأوكرانيا شيء آخر. لن يغفر بوتين لأوكرانيا السلافية احتفالها بالقفز من القطار السوفياتي ضاربة عرض الحائط بمشتركات كثيرة وتداخلات أكثر. لن يغفر لها ثورتها البرتقالية في العقد الأول من القرن الحالي ولا قيامها في العقد التالي بطرد الرئيس المؤيد لموسكو. عاقبها على خيانتها. استعاد القرم ودعم الجيوب الانفصالية. لا الغرب التقط الرسائل ولا أوكرانيا فعلت. سدد بوتين ضربته الكبرى إلى العالم الذي استعذب معاملة روسيا كقوة من الدرجة الثانية. وكانت الحرب الحالية.

أقسى ما في الحرب الحالية أن مهندسها لا يستطيع العودة إلى الوراء. يعتقد الغرب أن خروجه منتصراً منها سيضاعف شهيته لاستعادة «الأملاك المسلوبة». أما هو فيشبه رجلاً مفرط الذكاء قامر فجأة بكل رصيده ولا يستطيع أن يخسر. لا يستطيع العودة خاسراً إلى روسيا المحاصرة حتى لو اضطر إلى اللعب على حافة توسيع الحرب. هزيمته قد تهدد بتطاير لحم الاتحاد الروسي نفسه. على العالم الخائف على الغاز والحبوب والأمن والاستقرار ابتكار صيغة إنقاذ. سلوك الرئيس الصيني يوحي أن ظروف الخروج من المأزق لم تحن بعد. الحسابات الصينية شديدة التعقيد. التخلي عن روسيا مكلف. والانخراط الكامل في انقلابها باهظ. وسيد الكرملين لا يستطيع أن يخسر.

الشرق الأوسط

——————-

الأسد مجسم بوتين الصغير/ سميرة المسالمة

ليس فقط السلاح الروسي المدمّر هو الذي حظي بفرصة التجارب الحية على أجساد الناس وأبنيتهم ومدنهم في سورية، كذلك يتعامل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في حربه على أوكرانيا بسلاح الإعلام المجرّب في الحرب السورية، سواء بإحياء أناشيد حماسية منسية، أو بإلقاء خطابات جماهيرية “مستعملة”، وهي في حالتنا السورية محفوظة غيباً، وكأنه يفضّل عدم ابتكار وسائله الخاصة، أو لتأكيد أنه صانع سياسات الرئيس السوري، بشار الأسد، الذي سبقه في استخدامها.

تطابق أفعال بوتين في سورية مع مجريات الحرب الأوكرانية خلال هذه الأسابيع يسهّل على المجتمع الدولي عموماً، والسوريين تحديداً، معرفة ما بعد اليوم التالي من تصريحات وحملات روسية “تبشيرية” وتحذيرية من نوعية الأسلحة التي ينوي “خصمه” استخدامها، إلى عمليات التهجير المفتعلة من الضحايا أنفسهم، إلى المقابر الجماعية، وجثامين القتلى على الطرقات، وغير ذلك من أخبار صارت في السنوات الماضية اعتيادية، باستثناء أنها اليوم تتميز بمكانها الجغرافي ومرجعيتها القومية ونوعية مورثاتهم الجمالية.

لا جديد يمكن رصده في أوكرانيا باستثناء السرعة في الانتقال من مرحلة إلى أخرى قياساً على حربه في سورية، إنه فيلم رعب صوّر سابقاً في سورية، رآه العالم مرّات ومرّات حتى لم تعد تفاصيله غريبة عليهم، حرّك بوتين أبطاله بحرفية، وجعل من بطله الشرير قادراً على النجاة من كل شيء، الطرد من جامعة الدول العربية، الحصار والعقوبات والقطيعة، وأخيراً “هاشتاغ” شهر المحاسبة، صور له مشاهده وسط حطام مدينة حمص وعلى أنقاض الغوطة وفي مزارع إدلب، وصولاً إلى دولة الإمارات في مشهد هو رسالة روسية يوضح، من خلالها، أن الملف السوري لا يزال بين أوراقه، وأن حجم التلاعب فيه لا يزال كبيراً ومتنوعاً.

وعلى ذلك، يمكن القول إن خسائر موسكو في أوكرانيا لا تعني فقدانها مكانتها في سورية، رغم صحوة الضمير الغربية التي بدأت تشقّ طريقها في تصريحاتهم عن الدور الروسي التخريبي، واستخدامهم مشاهد الدمار التي أحدثتها الآلة العسكرية الروسية في سورية في سياق التعريف بملف جرائم بوتين في أوكرانيا، ما يعني أن ضحايا السوريين هم مجرّد وسائل إيضاح يضعها الغرب في مواجهة ادّعاءات روسيا في أوكرانيا، وليس استنكاراً لجرائمها، أو استبعاداً لدورها في الملفّ السوري، ما يعني ضرورة الحذر من افتراض انعكاسات الحرب الروسية في أوكرانيا إيجاباً على الصراع السوري، أو أنها ستكون عاملاً مؤثراً في انحياز الغرب إلى الثورة السورية، ودعم مطالبها في إزاحة نظام الأسد عن سدّة الحكم.

لقد صنع بوتين من سورية نموذجاً، أو مجسّماً لحروبه الحالية واللاحقة في دول الاتحاد السوفييتي السابق أو أوروبا، وسوّق نموذجه للديكتاتوريات في العالم، سواء تلك القادرة على حماية نفسها أو التي اعتادت العيش في جلباب رعاتها، فأخلاقيات العالم الغربي وادّعاءات حقوق الإنسان تقف اليوم في مواجهة مصالح تلك الديكتاتوريات، ما يجعل من مجسّم سورية بصورة بشار الأسد الذي تحرّر من سجنه بعد 11 عاماً يسهل عليها اختيار اصطفافاتها الجبهوية بين روسيا طرفاً والغرب طرفاً مقابلاً. وعلى ذلك، ليس غريباً أن تنضم دول جديدة إلى ما يسمّى محور “الممانعة” في وظيفته الجديدة ضد عدوى الحرّيات والديمقراطية.

وهذا لا يعني أن الغرب معنيّ بحريات شعوب منطقتنا العربية وديمقراطياتها إلا بالقدر الذي تكون عليه تلك الحرّيات في خدمة مصالحه ومشاريعه، فسنوات حرب النظام السوري، بالتعاون مع روسيا وإيران، ضد السوريين، لم تحرّك المجتمع الدولي “المتأزم” اليوم لأسباب جغرافية من الحرب الروسية في أوكرانيا، ولم تنجز الدول الديمقراطية أي خطوةٍ عمليةٍ باتجاه وقف المأساة السورية التي اختصرتها من جهتها بمعضلة اللجوء، بينما اختصرتها روسيا بمشروع إعادة الإعمار.

فاقت اليوم أعداد اللاجئين من أوكرانيا خلال أسابيع ما أفرزته الحرب في سورية خلال سنوات، ما يؤهل ملف أوكرانيا ليتحوّل قريباً إلى المشكلة نفسها، رغم لون بشرتهم البيضاء وعيونهم الزرقاء، والبحث الدولي عن حلول على طاولة المفاوضات وعبر مساراتٍ عديدة لن يجعل هذه الحلول تحقق الأهداف التي يدافع عنها الشعب الأوكراني، كما هو حال الشعب السوري. وربما كان علينا أن نعترف بأن ما كان عليه من تعاطف حكومي وشعبي في مختلف أنحاء العالم مع بداية الثورة السورية في 18 مارس/ آذار 2011 ليس بعيداً عمّا يجري الآن مع أوكرانيا، كذلك فإن حجم الإثارة في متابعة حربٍ تبثّ عبر شاشات الفضائيات لن يدوم طويلاً، على الرغم مما فيها من هول الجرائم والارتكابات، وعلى أرضٍ حدوديةٍ مع أوروبا ودولها التي تخلت عن طابعها العسكري، والتفتت إلى تنميتها البشرية والاقتصادية والإنسانية، مع ما يعنيه ذلك من تهديدٍ حقيقيٍّ لشعوبها وقيمها التي تتطلب إعادة السلاح لأخذ موقعه لحماية هذا السلام، مع الإشارة إلى أن كل ما نشاهده من أحداث هي مشاهد مكرّرة عن نسخة سابقة اسمها “سورية” صنع فيه بوتين مجسّماً صغيراً لانتصاره اسمه بشار الأسد.

انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا بعد أن تعثّرت في إنهائها في الوقت القصير الذي راهنت عليه لا يعني أبداً أن مكانتها في سورية تتضعضع. على العكس، إنها ستسعى إلى تشديد قبضتها عليها. أولاً، لتبقى حاضرة دولياً في الملف الإسرائيلي – السوري والملف الإسرائيلي – الإيراني، وفي الملف النووي الإيراني. وثانياً، لتخفيف أثر عزلها دولياً أمام الشعب الروسي. وثالثاً، لتبقى خياراً أمام الدول التي تنوء بمطالب الغرب بما يتعلق بحقوق الإنسان والحريات والديمقراطية. ورابعاً، لتبقي البوابة السورية الشمالية مفتوحة على تركيا في حالتي التصعيد والتهدئة.

العربي الجديد

—————————–

لماذا بوتين يشبه بشار الأسد؟/ عمر قدور

لقد اقتضى ذلك مرور ستّ سنوات على استخدام الأسد كافة أسلحته بما فيها الكيماوي، ووجود رئيس أمريكي بشعبوية ترامب، كي يحظى بشار الأسد منه بالقول: إنه حيوان. بوتين قطع المسافة بسرعة مذهلة حقاً، فبعد ثلاثة أسابيع ونصف من حربه على أوكرانيا نال من الرئيس الأمريكي بايدن وصف “مجرم حرب”. في الميزان؛ يتعدى ما قاله بايدن ذلك الوصف الشهير الذي أطلقه سلفه، فالمعني هنا وريث قطب دولي سابق وطامح إلى استعادة ذلك المجد، واختزاله إلى مجرم حرب فيه تحقير وشتيمة بالغة بصرف عن مصداقيته. ثم أتى تصريح وزير الخارجية الأمريكي بلينكن أول أمس ليؤكد على الشتيمة، بمعنى أنها لم تكن زلة من زلات لسان رئيسه. إنها إهانة، وبتعبير الكرملين: لا تغتفر.

مَن القائل: كل شعب… سيكون قادراً دائماً على التعرف على الحثالة والخونة ولفظهم تماماً كما تُلفظ ذبابة دخلت إلى الفم؟ ينبغي ألا يذهب تفكيرنا إلى الماضي البعيد فنظن أنه القذافي الذي وصف الثائرين عليه بالجرذان. حسناً، إنه أيضاً ليس بشار الأسد الذي كبح توقه إلى استخدام الشتائم ضد المتظاهرين، إلى أن جادت قريحته بعد ثلاثة شهور ليصف الثائرين عليه بالجراثيم. الأصل في القول أعلاه هو “كل شعب، وخاصة الشعب الروسي…”، والقائل هو بوتين الذي تفوق مرة أخرى على بشار بسرعته، فوصفَ الروس من معارضي حربه على أوكرانيا بالذباب بعد أقل من شهر على بدئها.

لا تصلح تسلية “من القائل؟” لمرتين على التوالي، لذا لا يصلح استخدامها مع قول بوتين: أنا متأكد من أن مثل هذا التطهير الذاتي الحقيقي والضروري للمجتمع لن يؤدي إلا إلى جعل بلادنا أقوى. في قوله هذا يشير إلى استقالات بعض الموظفين الروس “خاصة من موظفي الإعلام”، وإلى سفر الألوف منهم خارج البلاد. في هذه قد يظن السوري أنها من أقوال بشار، وقد يرد إلى ذهنه حديثه الشهير صيف 2017، وملخصه “من الصحيح أن سوريا خسرت خيرة شبابها إلا أننا كسبنا مجتمعاً متجانساً”. لكننا، إذا عدنا أبعد إلى الوراء، سنعثر على التوأم الحقيقي لعبارة بوتين، ففي أواخر شهر آب2012 وصف بشار الانشقاقات عن سلطته بالقول: “عملياً، هذه العملية هي عملية إيجابية، وهي عملية تنظيف ذاتية للدولة أولاً وللوطن بشكل عام”. ربما الفارق بين العبارتين هو فقط الاختلاف البسيط في الترجمة بين العربية والروسية، يُضاف إليه مرة أخرى تفوق بوتين الذي لم ينتظر مثل بشار لأشهر حتى يبقّ الحكمة ذاتها.

هي ليست بالحرب على أوكرانيا فحسب، بل هي بالتوازي حرب على المعارضين الروس، والناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف عاد إلى تأكيد كلام رئيسه بالقول: “في مثل هذه الأوضاع تظهر حقيقة الكثير من الأشخاص على أنهم خونة ويخرجون من حياتنا بمفردهم. يستقيل البعض والبعض الآخر يغادر البلاد. إنها عملية تطهير. ويخالف آخرون القانون ويعاقبون وفقاً للقانون”. التهديد بـ”القانون” واضح لكل معترض على الحرب، أو على حكم بوتين عموماً، أما ما لا يقل عنه استهتاراً بالمواطنين الروس فهي الإشارة إلى أولئك المجبرين على مغادرة البلاد بوصفهم خونة، وأيضاً بوصف مغادرتهم عملية تطهير. لا داعي للقول أن هذه هي عقلية المزرعة لا الدولة، أو لتكرار الإشارة إلى وجه الشبه والتدليل بأطنان الشتائم التي تم توجيهها من الأسد وإعلامه ومواليه للاجئين السوريين.

تشير تقديرات استخباراتية غربية إلى أن الجيش الروسي في أوكرانيا فقد ما لا يقلّ عن 20% من قدراته القتالية خلال الأسابيع الثلاثة الأولى، جراء الخسائر البشرية بين قتيل وجريح، وجراء الدمار الذي أنزله الأوكرانيون بمعداته. الحديث عن جيش جرار يُقدّر عدده بمائة وخمسين ألفاً، ويُفترض أنه جيش دولة لا على شاكلة قوات الأسد المعروفة شعبياً منذ عقود باسم “جيش أبو شحاطة”. مُني الجيش الروسي في الحرب على أوكرانيا بانتكاسة تذكّر بركاكة “جيش أبو شحاطة” أمام فصائل متواضعة تسليحاً، وعُزي السبب إلى سوء تقدير مستشاري بوتين الذين قدّموا له ما يحب سماعه عن إمكانية حسم المعركة في يومين. غير جديد عموماً، لمن يعرف طبع المستبدين الصغار، أن يتواجد إلى جانب بوتين فقط أولئك المتملقين الذين يقولون له ما يهواه، إلا أن ذلك ليس من طبع المستبدين الكبار الذين صنعوا إمبراطوريات عظمى في التاريخ.

بسبب تلك النكسات، وبسرعة مذهلة حقاً، تفوّق بوتين مجدداً إذ “وافق” على مشاركة المرتزقة في حربه بعد أسبوعين من بدئها. لقد استغرق ذلك من بشار شهوراً كي تنخرط الميليشيات الموالية لإيران بكثافة في حربه على السوريين، وشهوراً إضافية كي يعترف إعلامه “ثم يعترف هو شخصياً” بمشاركة ما يُسمى “قوات حليفة”. المعجبون بالقيصر الجديد قد يرون في سلوكه غيرة على أرواح جنوده، وهو افتراض يحتاج تدقيقاً شديداً بعد كلامه عن الخونة والحثالة والعملاء.. إلخ.

في الأسابيع التي سبقت إعلان الحرب وتلته، غابت تقريباً الصورة الشائعة عمّن كان يُلقّب بثعلب السياسة الخارجية، توارى وزير الخارجية سيرغي لافروف عن الصدارة، وفي إطلالاته القليلة بدا كأن مهاراته تبخرت فجأة، حتى تصريحاته أتت باهتة ركيكة تذكّر بأداء وزراء خارجية مستبدين صغار. المفاوضات التي سعى إليها الغرب، تفادياً للحرب أو من أجل وقفها، كانت مع بوتين شخصياً، في دلالة على عدم الثقة بأي وعد يقطعه مسؤول روسي أدنى منه. رداً على العقوبات الغربية، تعددت التصريحات الروسية التي تظهر عدم الاكتراث، بل راح بعضها يعدد فضائل العزلة الروسية عن الغرب، بينما أعلن بعضها الآخر انتهاء زمن السياسة. لقد استغرق وزير خارجية بشار وقتاً أطول ليقول: لقد محونا أوروبا من الخارطة. أما في مضمار عدم ثقة العالم بالوعود فما يزال بوتين متأخراً قليلاً في السباق.

كنا قد تابعنا فرضيات غربية حول صحة بوتين العقلية، وحول تأثير الحجر الصحي بسبب جائحة كورونا عليه! في جزء منها، ربما تحاول هذه الفرضيات تفسير الانحدار الذي ظهر به، وكأن هذا غير بوتين المعروف، وبسببه ذلك ليس هو النظام الروسي على علاته، بل أكثر رداءة وانحطاطاً مما هو متوقع. لكن، بتفسير متواضع، يجوز لنا ردّ الأمر إلى حالة الطغاة عندما يوضعون على محك حقيقي، ويظهرون مجردين من هيبة “أمجادهم”. إنهم، في لحظة الاختبار هذه، يُظهرون تشابهاً مدهشاً حقاً، تشابهاً كان ليدفعنا إلى القول “بموجب المجاز الدارج” أن بوتين هو مجرد بشار الأسد إنما بعينين زرقاوين، لو لم يكن لهما لون العيون ذاته.

المدن

———————————-

الرقص مع القوى الثلاث/ عبد الرحمن الراشد

في موسكو أُطفئت أنوار اللوحات التجارية الأميركية، إلا قلة، من بينها سلسلة مطاعم برغر كينغ، البقية أغلقت أبوابها مثل 847 فرعاً لمطاعم ماكدونالد، وشركات أبرزها أبل، وطائرات بوينغ، وأحذية أديداس، وفنادق ماريوت، ومصرف سيتي بنك. المناخ السياسي بلغ من التوتر مرحلة غير مسبوقة، فالصراع من وجهة نظر الجانبين الروسي والأميركي صراع وجودي تستخدم فيه كل الوسائل ما دون المواجهة المسلحة المباشرة.

إيران توشك على الخروج من القفص بعد عقود من المقاطعة والعزلة الدولية، وروسيا تبدأ دورة من العزل والعقوبات الاقتصادية الغربية الأكثر قسوة. والخلاف الأميركي الصيني مستمر.

في هذا المناخ من التوترات يعيد العالم اكتشاف أهمية مصادر البترول وممراتها في الصراعات الجيوسياسية، وكذلك بناء التحالفات. ففي نهاية العام الماضي، هيمنت على الساحة العالمية الشعارات البيئية ودعواتها ضد النفط ومنتجاته تطالب بتخفيضه. اليوم الدعوات تطلب ضخ المزيد من البترول. وعن مستقبل السعودية والبترول معاً، سبق لولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، وتحدث بشأنهما في إطار التبدلات التي يشهدها العالم، وما يقال عن تراجع الدور والمداخيل. قال إنه في الوقت الذي تعزز فيه البلاد مواردها الأخرى الإضافية يبقى البترول ضرورة للعالم إلى منتصف القرن الحالي. الصدمة النفطية نتيجة حرب أوكرانيا، وكذلك نتيجة لعودة الأسواق الاستهلاكية للعمل نحو طاقتها القصوى بعد شبه توقف دام عامين بسبب جائحة «كوفيد».

إلى حد ما، لا توجد خيارات جديدة حاسمة في العالم اليوم عما كانت عليه في القرن الماضي. لا تزال مصادر الطاقة مهمة، والممرات المائية حيوية في خطوط الملاحة، وتستمر التوازنات الجيوسياسية في حسابات الدول الكبرى، وكذلك مؤسسات الحروب مثل حلف الناتو.

الحقيقة، لم يخرج النفط من حساب النزاعات، وستزداد أهميته مع استمرار الخلاف الصيني الأميركي، والحرب الروسية الغربية في أوكرانيا التي نقلتنا ونقلت العالم إلى مرحلة جديدة. وتطورات الفترة الأخيرة تدعو لمزيد من التأمل حول كيف يمكن لمنطقة بترولية مهمة أن تتحاشى النزاعات وتجد لنفسها ظلاً تستظل به خارج التجاذبات. المسألة معقدة وإدارتها عملية صعبة. فمعظم صادرات دول الخليج، وخاصة أكبرها المملكة العربية السعودية، تذهب للصين والهند، في وقت تبقى العلاقة قوية مع أوروبا والولايات المتحدة. كما أن التوازن في سوق النفط يتطلب التعاون بين دول الخليج وروسيا التي هي في حالة اشتباك خطيرة مع الولايات المتحدة وأوروبا. لا يوجد هامش كبير للمناورة السياسية. حاجتنا تملي علينا أن تكون علاقتنا قوية مع الولايات المتحدة والصين وروسيا.

في الوقت الذي نحن على خلاف مع إيران ولا نثق بها، يزداد الموضوع المعقد تعقيداً، وذلك بدخول الإيرانيين كلاعب في الساحة بصفتين مختلفتين؛ منتج بترولي، وشريك تجاري في حال لم يعد على خلاف مع الغرب. حاجة الدول الكبرى إلى النفط كأداة في العمل السياسي ستضع منطقة الشرق الأوسط بين شد وجذب. ولا تجوز المقارنة بين مرحلتنا اليوم ومرحلة الحرب الباردة، 1947 إلى 1991. الاختلاف أننا حينها كنا في المعسكر الغربي، وذلك بحكم مصالحنا المشتركة، فهو كان المستورد الأكبر للنفط والحامي لممراته. اليوم الوضع مختلف، الصين المستورد الأكبر ولا تريد خوض معارك من أجله مما يزيد من المخاطر واحتمالات المعارك الإقليمية. لهذا، مصلحة المنطقة أن تحافظ على علاقة معقولة مع القوى الكبرى الثلاث المتنازعة، جميعها شركاء لنا، رغبة ليس من السهل علينا تحقيقها، خاصة عندما يرتفع مستوى النزاع كما نرى في أوكرانيا.

ندرك أن تأثيرنا محدود على ما يحدث في العالم خارج منطقتنا. ما هو الحل، هل هو باختيار معسكر؟ أو التخلي عن آخر؟ هذا قرار صعب وربما الحديث عنه مبكر. وندرك أن القوى الكبرى، في الأخير، تعرف حدود قوتها والمخاطر التي تجلبها على نفسها، وتدرك أن استمرار الأزمة ليس في صالحها ولا في صالح العالم. عسى ألا تصل إلى هذه النقطة من القناعة بعد وقت طويل ومتأخر.

الشرق الأوسط

—————————

طريق بكين لا يمر عبر موسكو/ مهند الحاج علي

مع اشتداد وطأة الحرب على أوكرانيا وما تُصاحبها من أزمات لاجئين وأغذية واستنفارات عسكرية على الحدود مع بولندا، ينجذب تركيز الكتاب وخبراء السياسات في الولايات المتحدة الى مكان واحد: الصين، بصفتها التهديد الأول والأبرز في سلم أولويات السياسة الخارجية الأميركية.

ربما لهذا السبب كان الخبر الأبرز لهذا الأسبوع أن الرئيس الأميركي جو بايدن حذر نظيره الصيني شي جي بين من مغبة التورط في الحرب عبر تسليم روسيا مساعدات عسكرية لتسهيل عملياتها “الخاصة” داخل أوكرانيا وباتجاه العاصمة كييف والعمق الأوكراني. لكن ووفقاً لتقارير إعلامية أميركية، لم ينته الاتصال بما يُناسب رغبة الجانب الأميركي، إذ كان الرئيس الصيني يُشدد على ضرورة تكثيف المفاوضات والاستجابة للحاجات الأمنية للطرفين، أي عملياً مساواة المعتدي والمُعتدى عليه في الصراع. ليس هناك من كلام صيني نهائي حيال عدم مساعدة روسيا في الحرب، سيما أن العقوبات أو بكلام أصح، الحصار الغربي على روسيا، لن يكون بالفاعلية ذاتها في حال عدم تعاون الصين، والنموذج الإيراني اليوم واضح في هذا المجال. سيزداد اعتماد روسيا على الصين للتهرب من العقوبات ولإبقاء اقتصادها على قيد الحياة، إلا أن لذلك ثمناً سياسياً يضع موسكو في دائرة نفوذ جارتها العملاقة اقتصادياً.

لكن السؤال الأساسي هنا هو كيف تتعامل الولايات المتحدة مع الصين، أو أي مقاربة ستتبناها واشنطن حيال بكين؟

هذا موضع نقاش محموم في واشنطن حول تبني سياسة جديدة مع الصين، ليس ببعيد عن النقاشات سابقاً وحالياً حول ضرورة مواجهة الرئيس بوتين، أو استيعاب مخاوفه الأمنية والتشابك معه اقتصادياً. لكن هذا النقاش الأخير ينحو باتجاه الحسم بعدم صواب السياسات الغربية السابقة حيال موسكو، والتي لم تقطع حبل العلاقات والمصالح الاقتصادية معها على أساس أنها تُساعد في التخفيف من حدة السياسات الروسية، وتمنح الاتحاد الأوروبي قدرة على الضغط. لا بل هناك اليوم من يرى أن هذه السياسات عينها شجعت بوتين على حربه اليوم.

وهذا الرأي اليوم في الغرب يُسهم في صوغ التفكير حيال الصين، باتجاه التعجيل في تصحيح المقاربة معها لناحية التشدد معها والاستعداد لمواجهة على عجل. الصقور غالباً يستغلون الحرب الحالية من أجل الدفع باتجاه المزيد من التشدد، وهذا طبيعي. لكن للحرب على أوكرانيا، وقعاً يتجاوز هذا الانقسام التقليدي بين صقور وحمائم في مقاربة السياسة الخارجية، ويُحتّم اهتماماً أوسع بالأمن والعسكر مما كان سائداً خلال السنوات والعقود الماضية.

لكن هل بالإمكان مقاربة العلاقة مع الصين ودورها الخارجي بالطريقة ذاتها لروسيا بقيادة بوتين؟ الإجابة بنعم تفترض أن الرئيسين الصيني والروسي سيان في مقاربتهما وطموحهما التوسعي، وهذا غير صحيح. لم تُظهر الصين استعداداً ولا ثقة في استثمار فائضها المالي في تعزيز سياساتها الخارجية وشبكة نفوذها بالعالم بالقدر ذاته. وباستثناء قاعدة يتيمة في جيبوتي، لا وجود عسكرياً صينياً خارج البلاد، على عكس جيوش الولايات المتحدة المنتشرة في بقاع العالم، وإلى حد أقل، روسيا بجيشها وميلشياتها غير النظامية.

والرئيس الصيني، كما كتب كيري براون هذا الأسبوع (العدد الأخير من مجلة بروسبكت البريطانية)، لديه باع طويل في السياسة، ولا يتحدر من تجربة عسكرية أو أمنية على غرار ضابط الاستخبارات السابق فلاديمير بوتين. والحقيقة أن طريق الرئيس الصيني في السياسة كانت محفوفة بالتحديات. هو نجل سياسي وصل الى موقع نائب رئيس الوزراء الصيني، وتعرض للملاحقة والسجن لسنوات ابان عهد الرئيس الراحل ماو تسي تونغ. نُفي شي جين بين إلى الريف الصيني عقاباً، لكن ذلك سرعان ما تحول الى فرصة لتنويع خلفيته (ماو تحدر من خلفية زراعية) وإعادة إطلاق نفسه مجدداً من خلال التدرج في الحزب الشيوعي، محلياً، وبعيداً عن الإرث الثقيل لوالده.

إضافة لخلفية الرئيس ومنطلقاته السياسية، هناك سياسة عامة للبلاد تُؤثر فيها المصالح الاقتصادية. ذاك أن مقاربة الصين مختلفة لأنها أكثر ارتباطاً بالاقتصاد العالمي، وبمحيطها المباشر والاقتصاد الأميركي كذلك. على عكس الاتحاد السوفييتي في ثمانينات القرن الماضي، الاقتصاد الصيني ينمو وتستثمر بكين في طاقاتها التقنية ومختبراتها العلمية كي تكون رائدة في مجال الابتكار. وهذا فارق نوعي، ذاك أن الأنظمة الشمولية المُحاربة تتسم غالباً بقلة أمان وفقدان للثقة في العلاقة مع العالم الخارجي، في حين ترغب بكين في التركيز على نمو اقتصادها وتعزيز علاقاتها التجارية مع العالم، على أساس احترام السيادة وتجنب التدخل في شؤون الدول الأخرى وصراعاتها. عامل آخر في اثارة الصراعات والحروب لدى مثل هذه الأنظمة، يكمن في الحاجة لانتاج عدو خارجي واخافة الداخل لحماية النظام من حنق المواطنين. ولكن في الحالة الصينية، تمكن الرئيس خلال العقد الماضي من انتاج واقع اقتصادي وتنموي غير مسبوق، ولديه بالتالي فائض من الولاء بالداخل.

لكن، في الوقت ذاته، للمواجهة مع الصين بُعدٌ أيديولوجي، ذاك أنها تنجح، كنموذج، حيث فشل الاتحاد السوفييتي، أكان لجهة النمو والتطور أو لناحية تعزيز القدرات العسكرية. وحين تنجح الصين في فرض نفسها كقوة رائدة في العالم بديلاً عن الولايات المتحدة، ستكون هناك انعكاسات سياسية لانتصار هذا النموذج، في ظل عجز دول الغرب عن النمو اقتصادياً بالسرعة ذاتها، واتساع انقساماتها الداخلية وصعود ساسة شعبويين يعبثون بالسلم الأهلي خدمة لمصالح ضيقة.

ما زال من المبكر التنبؤ بخاتمة هذا السباق واحتمالات الصدام، ولهذا فإن الوجهة الأسلم هي مواصلة التعاون مرحلياً في ملفات عاجلة مثل تبدل المناخ ومنع المزيد من انتشار السلاح النووي. لكن بعد حرب أوكرانيا وفي ظل حمأة الحرب الحالية وكلما ارتفعت وتيرة التصعيد، لا تجد مثل هذه المقاربات آذاناً صاغية في عواصم القرار.

المدن

—————————–

الهروب الكبير للأوليغارشية اليهودية: “الأرض ترتجف، سوف يتدفقون إلى إسرائيل

ترجمة – هآرتس

إسرائيل ليست ملزمة بأي توصيات غربية، ولم تعلن عن أي قيود من أي نوع على الشركات الروسية؛ وبناء على ذلك، واصلت الطائرات الخاصة القادمة من روسيا الهبوط في مطار بن غوريون

“الليلة؛ أقول للأوليغارشية الروسية والقادة الفاسدين الذين جنوا مليارات الدولارات من وراء هذا النظام العنيف: انتهى الأمر”. أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن في خطابه عن حالة الاتحاد في 1 مارس/آذار أن وزارة العدل الأميركية تعمل على تشكيل فريق عمل مخصص لملاحقة جرائم الأوليغارشية الروسية، ويتضمن ذلك “مصادرة يخوتهم وشققهم الفاخرة وطائراتهم الخاصة”. ثم أضاف هذا التحذير المباشر: “نحن قادمون لملاحقة مكاسبكم غير المشروعة”.

جاء إعلان بايدن في الوقت الذي كانت فيه الدول الغربية -في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا الأسبوع الماضي- تمارس ضغوطاً اقتصادية شديدة على روسيا وعلى الأوليغارشية المقربة من الرئيس فلاديمير بوتين. إذ جرى تجميد نشاط البنوك الروسية في العديد من الدول الغربية، بالإضافة إلى تعطيل قدرة الشركات الروسية على جمع الأموال في أسواق رأس المال الغربية. كما مُنعت بعض البنوك الروسية من استخدام نظام المقاصة الدولي SWIFT. كذلك مُنعت الطائرات الروسية من التحليق في سماء أوروبا، وهي الخطوة التي تبنتها أيضاً الولايات المتحدة.

تؤثر هذه الخطوات بالفعل على الاقتصاد الروسي؛ فقد انخفضت أسعار أسهم الشركات الروسية الكبرى في البورصات حول العالم، وتراجعت قيمة الروبل بشدة، مما أدى إلى زيادة سعر الفائدة في روسيا إلى 20٪. وبالتالي، لم يقتصر الشعور بأن الأمور تتغير للأسوأ على الأوليغارشية فحسب، بل طال أيضاً رجال الأعمال الذين تربطهم علاقات أو أنشطة في روسيا.

رومان أبراموفيتش

إسرائيل ليست ملزمة بأي توصيات غربية، ولم تعلن عن أي قيود من أي نوع على الشركات الروسية؛ وبناء على ذلك، واصلت الطائرات الخاصة القادمة من روسيا الهبوط في مطار بن غوريون. فقد هبطت طائرة واحدة يملكها رومان أبراموفيتش في مطار بن غوريون في اليوم التالي لبدء الغزو الروسي. ومع ذلك، فإن التوقع السائد هو أن البنوك الإسرائيلية ستتبنى القواعد التنظيمية الأوروبية والأميركية، كما حدث بالفعل في السنوات الأخيرة. منذ أن بدأت الأزمة -وبشكل خاص منذ بدء القتال واسع النطاق- كانت هناك زيادة ملحوظة في اهتمام رجال الأعمال اليهود العاملين في روسيا بإخراج أموالهم من البلاد.

يقول المحامي رام إيه. غمليل: “أقدم حالياً الاستشارات لخمسة رجال أعمال يمارسون أنشطتهم في روسيا؛ ثمة شعور بالذعر، لأنه من غير الواضح إلى أين تتجه الأمور. في الوقت نفسه، عليك أن تقول الحقيقة: إذا انعكست الأمور -أي إذا كانت السلطات في روسيا هي التي تتصرف ضد رجال الأعمال- فسيكونون بالتأكيد أكثر خوفاً بكثير”.

يقول غمليل إن الفترة التي سبقت اندلاع الحرب -قبل أن تفرض العقوبات الاقتصادية القاسية- منحت رجال الأعمال فرصة للاستعداد بشكل صحيح لهذه الاحتمالات التي نراها الآن: “لا يؤثر الاستبعاد من نظام الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (سويفت) بالسلب على الجميع تلقائياً؛ إنه يضر بمركز الاستثمار داخل روسيا. وبشكل أساسي، فإنه يعرقل حركة الأموال من وإلى روسيا. وخلال الفترة التي سبقت العقوبات، تمكن رجال الأعمال الأذكياء من تحويل أموالهم”.

اقتصاد المحسوبية

الأوليغارشية هم رجال أعمال جمعوا ثرواتهم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، خلال عملية خصخصة الموارد الطبيعية للبلاد، مثل الفحم والنفط والغاز والألومنيوم. يقول رومان برونفمان -من مواليد أوكرانيا- النائب السابق في حزب ميرتس:”ليس لدي دليل على مصدر ثروة كل منهم، ولكن من منظور واسع؛ لا توجد أموال نظيفة مصدرها روسيا. لقد جنوا ثمار الفساد العام. مصدر هذه الأموال هو عملية سطو على جميع المواطنين، والموارد الطبيعية، أو ميزانية الدولة. يصل متوسط ​​المعاش [الشهري] في روسيا إلى 200 دولار، والفجوة بين الأغنياء والفقراء هي الأعلى في العالم”.

في البداية، كان الأوليغارشيون متحالفين مع بوريس يلتسين، الذي علق آماله عليهم ليساعدوه في تحويل روسيا إلى ديمقراطية ليبرالية. لكن مع صعود بوتين إلى السلطة في عام 1999، بدأ في استخدام النظام القانوني لملاحقة الأوليغارشيين الثلاثة في شركة النفط يوكوس: ليونيد نيفزلين (الذي يمتلك حصة بنسبة 25 في المائة من صحيفة “هآرتس”)، وفلاديمير دوبوف، وميخائيل خودوركوفسكي. هرب الاثنان الأولان إلى إسرائيل، في حين حُكم على خودوركوفسكي بالسجن 10 سنوات بتهمة السرقة والتهرب الضريبي.

ميخائيل فريدمان

وشق باقي أفراد الأوليغارشية طريقهم خارج البلاد أيضاً. ومع ذلك، كان منهم من قرر الحفاظ على علاقات جيدة مع إدارة بوتين، وهو الأمر الذي أدى إلى تكثيف الفساد في روسيا وتحويلها إلى دولة يسيطر عليها اقتصاد المحسوبية. على سبيل المثال، اعتبر الأوليغارشي ميخائيل فريدمان في التسعينيات رجلَ أعمال مستقل لا علاقة له بالنظام، لكنه اقترب من دائرة الأوليغارشية حول بوتين، كما فعل بيتر أفين، شريكه في مجموعة ألفا المصرفية (ألفا كونسورتيوم). يحمل فريدمان الجنسية الإسرائيلية أيضاً. وفي الأسبوع الماضي، وجد أفين وفريدمان نفسيهما على قائمة العقوبات بسبب علاقتهما الوثيقة ببوتين.

لدى مجموعة ألفا المصرفية -المملوكة لفريدمان وأفين- شراكة تجارية مع اثنين آخرين من أفراد الأوليغارشية المعروفين في إسرائيل هما: فيكتور فيكسيلبيرج، وليونارد بلافاتنيك. استثمر الأول في شركة “البعد الخامس”، وهي الشركة التي يرأسها وزير الدفاع بيني غانتس قبل أن يدخل السياسة، فضلاً عن مبادرات أخرى متعلقة بالتقنية المتطورة. أما بلافاتنيك فيملك القناة “13 الإسرائيلية”، التي كانت مملوكة سابقاً لمجموعة صناعات Clal التي تسيطر على شركة “نيشر للإسمنت” وشركات أخرى.

كما شكَّلت مجموعة ألفا المصرفية شراكة مع شركات مملوكة لفيكسيلبيرغ وبلافاتنيك تسمى “إيه إيه آر”، والتي أصبحت بدورها أحد جوانب شراكة “تي إن كيه-بي بي” (TNK-BP) إحدى أكبر شركات البترول في العالم. وفي عام 2013، استحوذت شركة “روسنفت” -إحدى شركات الطاقة الضخمة، التابعة للحكومة الروسية- على الشركة الخاصة [شركة تيومين] مقابل 55 مليار دولار، بينما احتفظت “بي بي” بحصة قليلة تبلغ 19٪ فقط.

عادت عملية الاستحواذ الهائلة -التي وافق عليها بوتين شخصياً- على كل من فيكسيلبيرغ وبلافاتنيك بالثراء الفاحش. وبعد الاستحواذ، أعلنت “إيه إيه آر” أنها تخطط لإعادة استثمار معظم الأموال في روسيا. وفي السابق، كان هناك تنافس تجاري محتدم بين “بي بي” و”إيه إيه آر”.

كشفت العديد من المقالات الإخبارية الاستقصائية كيف قامت السلطات في روسيا في عامي 2008 و2009 بمضايقة مديري شركة “بي بي” في البلاد. بعبارة أخرى؛ حمى نظام بوتين الأوليغارشية التي تمتلك “إيه إيه آر”. وهذا -جزئياً- سبب اعتقاد بعض المحللين في الغرب أن بلافاتنيك -على الرغم من أنه مواطن أميركي غادر روسيا في سن مبكرة (لكنه عاد إلى هناك للقيام بأعمال تجارية مع فيكسيلبيرج، صديقه من أيام دراسته في موسكو، بعد سقوط الستار الحديدي)- ينتمي للأوليغارشية قلباً وقالباً.

يغضب المقربون منه من وصفه بأنه أوليغارشي، مؤكدين أن بلافاتنيك كان مجرد شريك مالي في التعاملات النفطية، وليس صديقاً لبوتين، وأنه يستثمر الأرباح التي جناها من الاستحواذ في الدول الغربية وليس في روسيا، على الرغم من التقارير الصحفية التي صدرت في ذلك الوقت.

وفقاً لملف تعريف عن بلافاتنيك ظهر في مجلة “نيويورك” عام 2014؛ ضايقت السلطات الروسية مديري “بي بي” في البلاد في عامي 2008 و2009، وقد تمثل ذلك في فرض المراقبة على مديري الشركة. وكثيراً ما جرى استدعاء روبرت دادلي -الرئيس التنفيذي لشركة “تي إن كيه” – بي بي- للمثول أمام محاكم بعيدة عن موسكو. وبعد أن اشتكى من حالته الصحية، تبين أنه عندما توقف عن الأكل في مكاتب الشركة شعر بتحسن، الأمر الذي أثار بدوره شكوكه بأنه يتعرض للتسمم.

غادر دادلي موسكو متوجهاً إلى ألمانيا فجأة، بمجرد أن أدرك أن رجال الشرطة كانوا متجهين إلى شقته من أجل “زيارة”. استمرت الخلافات بين الشركاء لسنوات بعد ذلك، حتى بيعت الشركة في عام 2013.

الأزمة الحالية في الحلقة الأخيرة في مسلسل الانسحاب؛ فقد أعلنت شركة “بي بي” الأسبوع الماضي بيع 20 في المائة من أسهمها في “روسنفت”، في إطار العقوبات الاقتصادية الدولية التي فُرضت على روسيا.

عقوبات غير مسبوقة

تعتبر العقوبات التي فُرضت منذ بداية الأزمة غير مسبوقة وتثير التساؤل حول ما إذا كان من المشروع التصرف ضد رجال الأعمال بهذه الطريقة الشخصية. ليس من الصعب تخيل وضع يتم فيه -في أعقاب غزو إسرائيل لإحدى الدول العربية المجاورة لها- مقاطعة أباطرة إسرائيليين أثرياء. صحيح أنه عندما فُرضت عقوبات على إيران، اتُخذت إجراءات ضد شركات خاصة مرتبطة بالمشروع النووي الإيراني، بما في ذلك عزلها عن نظام سويفت، إلا أن فكرة العقوبات الشخصية تعتبر جديدة نسبياً.

في السنوات الأخيرة، بعد الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم، وظهور الأدلة على تدخل روسيا في الانتخابات الأميركية؛ أعلنت واشنطن عقوبات ضد العديد من الأوليغارشية التي يُعتقد أنها قريبة من بوتين، بما في ذلك فيكتور فيكسيلبرج وقطب صناعة الألومنيوم والمعادن: أوليغ ديريباسكا.

ومع ذلك، يبدو أن الخطوات التي تُتخذ الآن قد ضاعفت الخطر والضرر. لقد وُضِع إطار العقوبات الدولية من أجل الحرب على الإرهاب ومواجهة البرامج النووية لدى إيران وكوريا الشمالية. يقول المحامي يهودا شيفر -المدير السابق لهيئة حظر غسل الأموال وتمويل الإرهاب الإسرائيلية، التي تعمل كجزء من وزارة العدل- “إن الأميركيين والأوروبيين يخطون خطوة أخرى إلى الأمام الآن. في رأيي، هذه خطوة مشروعة من حيث أنها تستهدف الأنظمة الاستبدادية التي يساعدها الأفراد الأثرياء غير القادرين على إثبات مصدر ثروتهم”.

وفقاً للعديد من الخبراء، فإن العقوبات الشخصية المفروضة على الأوليغارشية لها هدفان متشابكان: ممارسة الضغط عليهم على أمل أن ينعكس هذا الضغط بدوره على بوتين؛ ومن ناحية أخرى ممارسة ضغط اقتصادي مباشر على بوتين نفسه، الذي يفترض أنه لا يتمتع بالثراء من الناحية النظرية، لأن أصوله تقع بوضوح في أيدي المقربين منه. يقول شيفر: “من المرجح أن تكون العقوبات الشخصية ضد الأوليغارشية أكثر فاعلية من الخطوات الواسعة التي تتخذ ضد الاقتصاد الروسي، مثل مسألة الاستبعاد من نظام سويفت. نحن نرى بالفعل العديد من الأوليغارشية الذين يحاولون التوصل إلى حل وسط أو الذين يظهرون روح المصالحة”.

يقول أليكس تينزر -الناشط الاجتماعي بين المهاجرين من الاتحاد السوفيتي السابق- “غضب الأوليغارشية في روسيا أكثر خطورة بكثير على بوتين من الناشط المعارض أليكسي نافالني. يعرف الناس دائماً كيف تبدأ الحروب، لكن لا يعرفون كيف تنتهي. في تقديري، هذه هي المرة الأولى منذ 22 عاماً التي تتاح فيها فرصة للتغيير في روسيا”.

ومع ذلك، يعتقد آخرون أنه لا يزال من السابق لأوانه معرفة مدى فاعلية أي “تمرد أوليغارشي” ضد بوتين. فبعد قطع رأس مجموعة يوكوس بعد فترة وجيزة من تولي بوتين السلطة، لم يوجه الأوليغارشيون أي انتقاد علني له. ربما يكون الأوليغارشي ميخائيل فريدمان -صاحب مجموعة ألفا المصرفية العملاقة- قد نشر رسالة في “الفاينانشيال تايمز” تدعو إلى السلام؛ ربما أعلن أبراموفيتش أنه سيحاول أن يكون وسيطاً؛ وقد يكون ديريباسكا قد أعرب عن قلقه بشأن وضع الاقتصاد في روسيا؛ لكن أياً منهم لم يقدم أي نقد عميق لبوتين نفسه.

عقد فريدمان مؤخراً مؤتمراً صحفياً في لندن كرر فيه رسالته التي نُشرت في افتتاحية “الفاينانشال تايمز”، لكنه رفض إظهار إدانة صريحة؛ إذ قال فريدمان للصحفيين: “إنها قضية حساسة للغاية، ولدينا العشرات من الشركاء، وليس لدي الحق في تعريضهم جميعاً للخطر”.

وتابع فريدمان قائلاً: “إذا أدليت بأي بيان سياسي غير مقبول في روسيا، فسيكون لذلك آثار واضحة جداً على الشركة وعلى عملائنا ودائنينا ومساهمينا. لا ينبغي أن يعاني مئات الآلاف من الناس، لمجرد أنني أعاني”.

العلاقات مع الأوليغارشية

في خضم كافة التطورات الأخيرة، يبدو أن توصية وزير الخارجية يائير لبيد لأعضاء مجلس الوزراء الآخرين -والتي مفادها أنهم لابد وأن يرفضوا أي طلب من قِبَل الأوليغارشية للمساعدة في التهرب من العقوبات- لم تحظ بأي اهتمام على الإطلاق. ولعل ذلك كان مؤشراً ذا دلالة خاصة: إذ يجلس حول طاولة مجلس الوزراء العديد من الوزراء الذين تربطهم علاقات مع الأوليغارشية.

فقد ترأس غانتس -قبل دخوله معترك السياسة- شركة “البعد الخامس”، وهي شركة ناشئة متخصصة في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي لتطبيقات الاستخبارات العسكرية والحكومية والمدنية. وقد كان فيكسيلبيرغ أحد المستثمرين في هذه الشركة، وأحد الأسباب التي أدت إلى انهيار الشركة هو العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأميركية على فيكسيلبيرغ عام 2018.

أما وزير المالية أفيغادور ليبرمان، فهو معروف بعلاقاته مع الإدارة الروسية، واتصالاته الوثيقة على مدى سنوات عديدة مع مختلف الأثرياء الروس. ومن بيهم مايكل شيرني، الذي يملك الكثير من العقارات الإسرائيلية، بما في ذلك شقة في برج فاخر في تل أبيب مسجلة باسم مجموعة من الشركات المسجلة في قبرص. وفي عام 2018، كشف تقرير استقصائي على القناة “13” الإخبارية الإسرائيلية أن ليبرمان تلقى في عام 1998 (عندما لم يكن يشغل أي منصب عام) 3 ملايين دولار من الحكومة في روسيا، بهدف المساعدة في خفض سعر صرف الروبل من أجل إنقاذ بنك نمساوي. (في حين أكد ليبرمان أن هذه “الأخبار كاذبة”).

بينما تجمع وزير الإسكان زئيف إلكين صلات مع العديد من الأثرياء الروس الذين ساعدوه من خلال تقديم ضمانات القروض عندما ترشح لرئاسة بلدية القدس عام 2018. ومن بين أولئك الذين قدموا ضمانات لإلكين، تيمور بن يهودا (المعروف باسم تيمور خيخيناشفيلي)، الذي يشغل منصب رئيس مجلس الأعمال الإسرائيلي الروسي، وكذلك يوري زابلونسكي وليف كيناغو. وقد كان بن يهودا، وهو شريك سابق في محطة توليد الطاقة في مدينة بئر الطابية مع الثري الروسي بوريس لوزكين، في زيارة لإسرائيل آنذاك مع مكسيم أكيموف، نائب رئيس حكومة الاتحاد الروسي سابقاً. ووفقاً لما ذكره إلكين، لا يرتبط أحد ممن قدموا له ضمانات القروض بعلاقات مع بوتين. وأضاف إلكين، “لبيد على حق في توصيته”. وقد تلقى إلكين أيضاً مساهمات من الأثرياء الروس فلاديمير غوسينسكي وميخائيل ميريلاشفيلي.

وتلقى وزير العدل جدعون ساعر مرتين في عامي 2008 و2012، تبرعات من غوسينسكي خلال انتخابات الليكود التمهيدية. وفيما بين هاتين المرتين من الانتخابات التمهيدية -عندما شغل منصب وزير التعليم- طلب ساعر من سلطة السكان والهجرة تقديم المساعدة له، بما يتجاوز نص القانون، وأن تصدر جواز سفر إلى غوسينسكي، بحسب تقرير نشرته القناة “14” الإسرائيلية. وقد تولى المدير العام لوزارة الإسكان، أفياد فريدمان، سابقاً إدارة مصالح أعمال غوسينسكي في إسرائيل.

يقول شيفر “ربما تستدعي هذه الأوقات إجراء بعض الفحص الذاتي، في ضوء العلاقات بين النخبة السياسية الإسرائيلية والأوليغارشية”. مُضيفاً “لقد تورط فيكسلبيرغ على سبيل المثال في مشاكل تتعلق بقضايا فساد، وهو مقرب من بوتين. ففي قضية شركة “البعد الخامس”، كان هناك تركيز على الاشتباه في حدوث أفعال جنائية خلال المزايدات، ولكن ثمة أمر آخر مهم؛ فربما حصل أحد أفراد الأوليغارشية المقربين من بوتين على إمكانية الوصول إلى مخابرات الشرطة الإسرائيلية، من خلال علاقته برئيس أركان الجيش السابق غانتس. وقد حصل ليبرمان على هدية قدرها 3 ملايين دولار عام 1998 من أجل خفض سعر صرف الروبل، وهو الآن مسؤول عن الأموال التي تتدفق عبر إسرائيل، وعلى صلة مع شيرني وغيره من الأثرياء الروس الآخرين”.

وفي غضون ذلك، يبدو أن كافة الدلائل تشير إلى عودة الأثرياء الروس إلى إسرائيل. إذ يحمل العديد منهم الجنسية الإسرائيلية، لأسباب عديدة منها هذه الظروف. ومن المرجح أن يستفيدوا مما يسمى “قانون ميلشان”، الذي ينص على أن المقيمين العائدين أو المهاجرين الجدد لا يضطرون إلى الإبلاغ عن مصدر دخلهم لمدة عشر سنوات.

يقول أحد المستشارين للأوليغارشية الروس: “رجال الأعمال سيتدفقون إلى إسرائيل. في أعقاب العقوبات الأميركية التي تلت ضم شبه جزيرة القرم، تدفق رجال الأعمال إلى إسرائيل، الأمر الذي أعقبه تراجع معين في قدومهم. على سبيل المثال، يحمل أبراموفيتش أيضاً الجنسية البرتغالية. ويبدو أن إسرائيل أصبحت بالفعل أقل جاذبية لكثير منهم. والآن، سوف يصل العديد من رجال الأعمال الروس، الذين يمتلكون مليارات الدولارات، وسوف يشترون المنازل هناك. أما فرض عقوبات شخصية ضد أشخاص مثل فريدمان وشريكه بيوتر آفين، فلا يعتقد الناس في هذا المجتمع أنها ممكنة الحدوث. فثمة تحول كبير في الأحداث في أوروبا ليس في صالحهم، وسيكون لذلك تأثير واضح عليهم في إسرائيل”.

التهرب من العقوبات

لا يزال من السابق لأوانه معرفة الأثر الذي ستخلفه العقوبات. وبغض النظر عن الخطوات التي أًعلن عنها، يبدو أن مهمة استقبال رؤوس الأموال المودعة في الملاذات الضريبية حول العالم؛ ستكون شاقة ولا نهاية لها. ففي وثائق بنما التي سُربت عام 2016، تبين أن الأشخاص المقربين من بوتين قاموا بتحويل أموال بلغت قيمتها نحو ملياري دولار أميركي في الملاذات الضريبية، وكان ذلك مجرد مثال واحد على استغلال الأثرياء الروس للملاذات الضريبية.

فقد رفع مصرف حكومي أوكراني مؤمم دعوى في إسرائيل عام 2019 على رجل الأعمال الأوليغارشي الأوكراني إيهور كولومويسكي، الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية وكان في السابق مقرباً من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، قبل أن تتوتر العلاقات بينهما. واستندت الدعوى إلى ادعاء بأن كولومويسكي وشريكه سرقا نحو 2 مليار شيكل من البنك، وهو ادعاء ينكرونه. ولم تبدأ بعد جلسات استماع تقديم الأدلة في القضية، ويُعزى ذلك جزئياً إلى أن شركة “EBN & Co.” -وهي شركة المحاماة الإسرائيلية التي تمثل المصرف الحكومي الأوكراني- كانت منشغلة لمدة عامين بالتوصل إلى وثائق في أوكرانيا. وفي التماس قُدم مؤخراً إلى المحكمة، يصف المحامون كيف سافر ممثلوهم إلى الشركات في جزيرة جيرسي -وهي ملاذ ضريبي تقع في القناة الإنجليزية- من أجل تحديد مكان ممثل منظمة صورية مرتبطة بالأوليغارشي الأوكراني.

ثمة طريقة أخرى لتحرير رؤوس الأموال تتمثل في العقارات، وهي طريقة معروفة جيداً للأوليغارشية في إسرائيل والمملكة المتحدة. يقول روي أڠني -الرئيس التنفيذي المشارك في شركة ميڠيدو للحلول المالية- “غالباً، فيما يتعلق بتسجيل الملكية لمنازل الأوليغارشية، لا يذكرون اسمهم، بل اسم شركة في أحد الملاذات الضريبية، لأنهم يحاولون إخفاء أصولهم”. مضيفاً “في حالة البنوك أو الشركات العامة، تكون العقوبات فعالة، ولكن السلطات في الغرب ستواجه صعوبة في وضع يدها على نسبة كبيرة من الأصول، بسبب تسجيل ملكية الأصول عن طريق استخدام شركات مجهولة الهوية، مما يجعل من الصعب تحديد هوية المستفيد النهائي”.

شراء العلاقات

إذا كانت الملاذات الضريبية والعقارات ممارسات عملية لحفظ أموال الأوليغارشية، فإن الأعمال الخيرية والمساهمات في المؤسسات الأكاديمية والثقافية وغيرها من المؤسسات العامة تشكل آلية تهدف إلى الحفاظ على سمعتهم الجيدة في الحياة العامة. وربما ستغير الحرب هذا الوضع أيضاً.

فقد نشرت صحيفة الغارديان الأسبوع الماضي تقريراً حول الضغوط التي مورست على “معرض تيت” الفني في لندن لحذف فيكسيلبيرغ من قائمة الأمناء التي يتمتع فيها مكانة كبيرة بسبب تبرعاته السابقة. وفي أعقاب العقوبات عام 2018، لم يعد فيكسيلبيرغ يشغل منصب في مجلس إدارة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة.

تؤدي الأعمال الخيرية دوراً هاماً أيضاً للأوليغارشية اليهود الإسرائيليين. فعلى مدى السنوات الـ 20 الماضية، ترأس الأثرياء الروس مؤسسات عامة في روسيا وغيرها من دول الاتحاد السوفياتي سابقاً، وفي منظمات تسمى الكونجرس اليهودي الروسي في أماكن مختلفة، بالتوازي مع الكثير من التبرعات إلى مجموعة متنوعة من المنظمات.

يشغل ميخائيل ميريلاشفيلي، على سبيل المثال، منصب رئيس الكونجرس اليهودي الأوروبي الآسيوي. بيد أن طبيعة علاقته مع بوتين ليست واضحة تماماً: فمن ناحية، سُجن في سجن روسي لمدة ثماني سنوات بينما كان بوتين رئيساً، في العقد الأول من الألفية. ومن ناحية أخرى، هو من سانت بطرسبرغ أيضاً، وكان يعرف بوتين عندما كان نائب عمدة المدينة. وخلال العقد الماضي، كان ميريلاشفيلي حاضراً في مناسبتين عندما زار بوتين إسرائيل؛ في عام 2012 وفي عام 2020، عندما دشن بوتين معالم أثرية مرتبطة بالتراث الروسي.

وفي الماضي البعيد، كان ميريلاشفيلي يمتلك أيضاً أحد المطاعم التي أدارها يفغيني بريغوجين، والمعروف أيضاً باسم “طاهي بوتين”، وقد كان على علاقة بمجموعة فاغنر، وهي شركة عسكرية خاصة أُرسلت إلى أوكرانيا في مهمات لتصفية الأعداء المستهدفين بناء على توجيهات بوتين. بيد أن الشخصيات المقربة من ميريلاشفيلي تؤكد أن الرجلين لم يكونا على تواصل منذ سنوات عديدة.

لدى ميريلاشفيلي مصالح تجارية واسعة في سانت بطرسبرغ حتى يومنا هذا من خلال شركة “بيترو مير” القابضة، التي تعمل في مجالات البنية التحتية والعقارات والأدوية. ويتمتع ميريلاشفيلي -الذي يعتبر ابنه إسحاق مليونيراً عن جدارة ومالك القناة “14” الإسرائيلية- بعلاقات طيبة مع النخبة الحاكمة الإسرائيلية، بما في ذلك رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، ورئيس حزب “شاس” أرييه درعي، ومدير الموساد السابق يوسي كوهين.

ميريلاشفيلي هو أيضاً مساهم كبير في مركز “ياد فاشيم” -وهو المركز العالمي التوثيقي والبحثي والتعليمي لتخليد ذكرى الهولوكوست- الذي يضم معهد أبحاث يحمل اسم والده. وقد كانت الفضيحة الأخيرة حول التقارير التي أفادت بأن ياد فاشيم قد مارس الضغط على واشنطن لكي تُحجم عن فرض عقوبات على ميريلاشفيلي، بمثابة تذكير لما تنطوي عليه هذه الأعمال الخيرية من مشكلات. ولا يزال أبراموفيتش لم يدرج بعد على قائمة العقوبات، وهو ينفي أي علاقة وثيقة مع بوتين. ومع ذلك، فيبدو وكأنه يستعد لمثل هذا الاحتمال، وقرر بيع نادي تشيلسي لكرة القدم البريطاني، خشية أن يكون للعقوبات الاقتصادية المفروضة عليه تأثير سلبي على الفريق. وذكرت التقارير أنه بدأ في بيع الأصول التي يمتلكها في لندن.

في أواخر الشهر الماضي، كشفت القناة “12” الإسرائيلية، أن مركز “ياد فاشيم” قد تواصل مع سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل، توماس نايدز، وطلب منه عدم فرض عقوبات على أبراموفيتش. وتأتي هذه الأنباء في أعقاب بعض المعلومات الجديدة: أن الثري الروسي قدم تبرعات إلى المتحف بلغت قيمتها عشرات الملايين من الدولارات. ويقول برونفمان “إن هذه التبرعات هي ثمن هذه العلاقات؛ فهذه الأحداث تحديداً هي التي تؤدي إلى فرض العقوبات الآن”.

من بين الأوليغارشية الآخرين المقربين من بوتين ويساهم في ياد فاشيم، هو رئيس الكونجرس اليهودي الأوروبي، فياتشيسلاف موشيه كانتور. جمع كانتور ثروته في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، بفضل سيطرته على صناعة الأسمدة الواسعة النطاق. ولديه حصة مُسيطرة في “مجموعة أكرون”، التي يتم تداولها في بورصات لندن وروسيا. وقد انخفضت أسعار أسهمها انخفاضاً حاداً هذا الشهر. كانتور هو رئيس منظمة تسمى “المنتدى العالمي للهولوكوست” التي تكفلت بالمناسبات التي احتفلت بمرور 75 عاماً على نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي عُقدت في ياد فاشيم في يناير/كانون الثاني 2020. في الاحتفال الرئيسي، أحدث بوتين فضيحة عامة من خلال الإدلاء بتصريحات خاطئة دعمت سرده التاريخي للحرب. وعُرضت مقاطع من أفلام تضمنت بيانات خاطئة، وكان من غير الواضح من وراءها. ولاحقاً، أصدر متحف ياد فاشيم اعتذاراً رسمياً.

كانتور هو “كافكا” الغامض المشار إليه في نزاع كبير بين مستوردي السيارات الإسرائيليين مايكل ليفي ورامي أونغار بشأن استيراد سيارات “كيا”. ومن المقرر أن يُعرض هذا الخلاف أمام المحكمة العليا الشهر القادم، في أعقاب استئناف ليفي لحكم صادر عن محكمة محلية لصالح أونغار. وأحد الشخصيات التي تضطلع بدور في النزاع هو جاسوس الشركات الذي يُدعى أفرايم هاليفي، وهو عضو سابق رفيع المستوى في مؤسسة الدفاع الذي غير ولائه، إذ كان عمل في البداية لصالح ليفي ثم بعد ذلك تحول للعمل لصالح أونغار.

فقد سجل أشخاص يعملون لصالح أونغار لهاليفي بينما كان يتحدث عن عمل قام به ضد أحد الأوليغارشية الغامضين، يحمل الاسم السري “كافكا”. وفي أثناء إجراءات المحكمة، تبين أن هاليفي رفض، قبل تغيير ولائه، التوقيع على إقرار لصالح ليفي، ويُعزى ذلك جزئياً إلى أنه كان يخشى أن ينقل أونغار معلومات إلى “كافكا” تدل أن هاليفي قد عمل ضده. هل كافكا شخص قادر على قتلك؟ وجه هذا السؤال إلى هاليفي وهو على منصة الشهود. وأجاب “هذا ما كنت أخشى منه، نعم”. ووردت تصريحات مماثلة في محادثة مسجلة عُرضت على المحكمة، قالت فيها زوجة هاليفي إنها تخشى أن يصبح رأس زوجها “داخل صندوق”. وقد سبق أن صرح شركاء أونغار لصحيفة “ذي ماركر” أن المخاوف من الخطر الذي يشكله “كافكا” كانت جميعها في ذهن هاليفي.

وذكر متحدث باسم الكونجرس اليهودي الأوروبي أن “كانتور، بصفته رئيس الكونجرس اليهودي الأوروبي، يعمل حالياً على إنقاذ ومساعدة اليهود من أوكرانيا. وبصفته مواطناً بريطانياً، وشخصاً عاش في أوروبا لأكثر من 30 عاماً، فهو لا يُلقي بالاً للأمور الشخصية؛ ويهتم فقط باليهود الأوكرانيين”. وفيما يتعلق بتحديد هوية “كافكا” على أنه كانتور، قال المتحدث الرسمي “إن هذه الصلة منافية للعقل تماماً”.

هذا المقال مترجم عن Haaretz.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي.

https://www.haaretz.com/israel-news/.premium.HIGHLIGHT.MAGAZINE–1.10666471

درج

——————————

بداية لم نفعل أيّ شيء يذكر للتصدي لروسيا والآن نبالغ في الردّ/ هانس كوندناني

ترجمة – The Guardian

في هذه اللحظة العصيبة، يتمثل الخطأ الأكبر الذي يمكن أن نقع فيه كأوروبيين هو التهور، وأحد مصادر هذا التهور هو انبعاث تيارات شبيهة “بالمحافظين الجدد” في بريطانيا والولايات المتحدة.

خلال فترة عملي الممتدة لأكثر من عقدٍ مع مراكز الفكر في مجال السياسة الخارجية في أوروبا والولايات المتحدة، كنت أتبنى رأياً متشدداً للغاية تجاه الصين وروسيا. فعندما ظن معظم خبراء السياسة الخارجية على جانبي الأطلسي أن الاعتماد الاقتصادي المتبادل مع الصين وروسيا سيجعل منهما “شريكين مسؤولين” في النظام الدولي، بل وربما يساهم في إرساء الديمقراطية فيهما، كنت أرى أنه ينبغي اتباع نهج أكثر حزماً معهما. انتقدتُ تحديداً ألمانيا، التي بالغت أكثر من باقي الدول الأوروبية (التي، في المقابل، بالغت أكثر من الولايات المتحدة) في إيمانها باستراتيجية “Wandel durch Handel” أو “إحداث التغيير من خلال التجارة”، والمزايا الأمنية التي تحصل عليها «من الاتحاد الأوروبي» دون مقابل، خاصة مع انخفاض مستويات إنفاقها الدفاعي ونقص قدراتها العسكرية واعتمادها على الغاز الروسي وسوق الصادرات الصينية.

بإيجاز، لستُ شخصاً مسالماً أو موارباً عندما يتعلق الأمر بالدول الاستبدادية.

إلا أنه منذ بداية الحرب في أوكرانيا أصبحتُ فجأة أقل تشدداً. شاهدنا جميعاً الصور المروعة من أوكرانيا، وازداد الغضب إزاء جرائم الحرب التي يرتكبها الجيش الروسي. لكن عندما تعالت النداءات التي تناشدنا ببذل المزيد لمساعدة الشعب الأوكراني، وجدتُ نفسي على الجانب السلمي من النقاش، داعياً لإنهاء التصعيد وإيجاد سبلٍ لإنهاء الحرب بدلاً من الدعوة إلى تقديم مزيدٍ من التعهدات لأوكرانيا وتغيير النظام في روسيا.

وفيما يلي سأشرح ما حدث حسبما أظن.

منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وحرب دونباس في 2014، حاولنا منع فلاديمير بوتين من اجتياح مزيدٍ من الأراضي الأوكرانية أو أيّ بقعة أخرى في أوروبا الوسطى والشرقية. وتضمنت الخطة عنصراً اقتصادياً (متمثلاً في العقوبات) وعنصراً عسكرياً (يتمثل في تعزيز قوات حلف شمال الأطلسي “الناتو” في بولندا ودول البلطيق وتدريب الجيش الأوكراني، وهو أمر اضطلعت فيه المملكة المتحدة بدور قيادي).

لكننا تراخينا.

فمن الناحية العسكرية، أوضحت الولايات المتحدة بجلاء -ومعها الحق في ذلك- أنها لن تدافع عن أوكرانيا كما لو كانت الأخيرة عضوة في حلف الناتو، فبعد كل شيء ثمة أسباب وجيهة لكونها ليست عضوة في الحلف. في الوقت ذاته، ومن الناحية الاقتصادية، واصلت أوروبا اعتمادها على الغاز الروسي، الذي تم إقصاؤه عن عمدٍ من العقوبات. وبالفعل ضاعفت ألمانيا إمداداتها من الغاز الروسي عبر خط أنابيب “نورد ستريم 2″، الذي تم الإعلان عنه بعد عام من ضم روسيا لشبه جزيرة القرم.

قبل نحو أسبوعين وحسب، قرر بوتين تحدينا. فقد أمعن النظر فيما نهدد بالقيام به إذا ما اجتاح أوكرانيا ورأى أنه على استعداد لخوض هذه المخاطرة. (من الجائز طبعاً أنه كان سيمضي قدماً في خطة الغزو حتى وإن زدنا من وسائل الردع). لو استغربت روسيا من مدى قوتنا واتحادنا في معرض ردنا على غزوها لأوكرانيا، لعُد هذا فشلاً وليس نجاحاً. لأنه يعني أن وسائل الردع لم تجدِ نفعاً لأننا فشلنا في إقناع روسيا أننا يمكن أن نكون بمثل هذه القوة والاتحاد، وهذه هي النقطة التي يجب أن ننطلق منها عندما نفكر في الخطوة التالية التي سنتخذها.

صحيح أننا نواجه وضعاً صعباً للغاية لا مثيل له. لكن يبدو لي أن علينا التركيز على استراتيجية محددة. يجب أن يكون الهدف هو فعل كل ما في وسعنا لتجنب مزيد من التصعيد (مع أخذ احتمالية أن يقوم بوتين نفسه بالتصعيد على محمل الجد، من خلال مثلاً استخدام الأسلحة الكيميائية بل وحتى النووية)، وإنهاء الحرب. لكن بدلاً من ذلك، يدعو الخبراء في أوروبا والولايات المتحدة إلى اتخاذ كافة أشكال العقوبات الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي لم نتمعن بعد في عواقبها والتي يمكن أن تُدِخل الناتو في حرب مع روسيا.

بعد أربعة أيام من اندلاع الحرب، غرد نيكولاس مولدر، المؤرخ في جامعة كورنيل ومؤلف كتاب “السلاح الاقتصادي: تاريخ العقوبات” قائلاً، “كيف لم يتحوّل الغرب في أيّ وقت مضى من الاكتفاء بفرض عقوبات موجهة إلى شن حرب مالية على الفضاء الاقتصادي في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، دون تبني أهداف موحدة أو شروط واضحة للتحرر من أيّ قيود، كل هذا بينما يشن طاغية متهور مسلح نووياً حرباً عدوانية. يبدو هذا مرعباً للغاية”.

منذ ذلك الحين، أُطلقت أيضاً دعوات عديدة لزيادة الدعم العسكري المقدم لأوكرانيا. ففي يوم الأحد (6 آذار/مارس) قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن واشنطن أعطت بولندا “الضوء الأخضر” لتزويد أوكرانيا بطائراتها الحربية من طراز “ميغ-29”. وفي يوم الثلاثاء (8 آذار/مارس)، أعلنت بولندا أنها ستنقل الطائرات إلى قاعدة رامشتاين «الأميركية» في ألمانيا لتجهيزها ومن ثمَّ توجيهها إلى أوكرانيا، لكن الولايات المتحدة رفضت هذه الخطة فيما بعد. المقلق هنا هو أن الجميع، بمن فيهم وزير الدفاع البريطاني بين والاس، قد أشاروا ضمناً إلى أن تزويد أوكرانيا بالمقاتلات هو قرار فردي يعود لدول معينة وليس قراراً جماعياً تتخذه الدول الأعضاء في حلف الناتو معاً.

عند مشاهدة هذا التهافت المحموم لفعل أيّ شيء، يصعب على المرء تجنب الإحساس بأن ما يحدث هو محاولة مبالغ فيها لتدارك الخطأ. كلنا نشعر بالذنب بشأن أخطائنا التي أصبحت فجأة واضحة وضوح الشمس، بما في ذلك اعتماد ألمانيا المستمر على الغاز الروسي، وفشل بريطانيا المتواصل في التصدي لعمليات غسل الأموال الروسية. وها نحن نتخذ خطوات هائلة متعجلة قاومناها لسنوات، لكن دون أن نتمتع بفهم واضح عمّا نحاول تحقيقه، وفي ظرفٍ مختلف تماماً وأكثر خطورة مما كان عليه الوضع قبل اندلاع الحرب.

في هذه اللحظة العصيبة، يتمثل الخطأ الأكبر الذي يمكن أن نقع فيه في التهور، وأحد مصادره هو انبعاث تيارات شبيهة “بالمحافظين الجدد” في بريطانيا والولايات المتحدة. حتى قبل اندلاع الحرب، كانت هذه التيارات في كلا البلدين تنظر بشكل متزايد إلى السياسات الدولية باعتبارها صراع عالمي بين الديمقراطية والاستبدادية. بينما قاوم الأوكرانيون بشجاعة ومهارة فائقة، ظهر أيضاً مدى إخفاق الجيش الروسي، الذي بسبب لجوئه إلى أساليب وحشية للغاية ضد المدنيين، بات كثير من الخبراء الآن يشعرون أن الإطاحة ببوتين من السلطة أصبحت ممكنة أخيراً. وهو ما يرى بعض المسؤولين في إدارة بايدن أنه يُشكل انتقاماً على التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية عام 2016.

لكن ما يثير الدهشة أكثر هنا، هو أن ثمة خطر أيضاً من أن يُقدِم الاتحاد الأوروبي على خطوات متهورة. بعد عقد من الأزمات، التي لم تحل كثير منها، يطمح الاتحاد الأوروبي إلى أن يصبح كياناً “جيوسياسياً”، فقد تحدث مسؤولون مراراً عن ضرورة أن “يتعلم الاتحاد الأوروبي لغة السلطة”. كشفت الأزمة الأوكرانية مجدداً عن ضعف الاتحاد الأوروبي. لكن منذ اندلاع الحرب أصبح نشطاً للغاية، مع فرضه عقوبات على البنك المركزي الروسي قبل حتى الولايات المتحدة بل وتزويده أوكرانيا بالسلاح. كان جوزيب بوريل أيضاً، الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، هو أول من أعلن عن خطة إرسال طائرات حربية إلى أوكرانيا قبل نحو أسبوعين، وهو ما يعبر عما تُشكله رغبة الاتحاد الأوروبي المستميتة في أن يصبح كياناً “جيوسياسياً” من خطورة.

بالإضافة إلى فرض العقوبات على روسيا وتزويد أوكرانيا بالأسلحة، حث أيضاً كثير من الخبراء الاتحاد الأوروبي على التعجيل بضم أوكرانيا إليه. مع ذلك، ينظر الكرملين إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي باعتبارهما جزء من المشروع نفسه الذي تقوده الولايات المتحدة، وبيَّن بوضوحٍ تام أن بوتين لن يتوانى عن فعل أيّ شيء من شأنه منع أوكرانيا من الانضمام لأيّ منهما. فبعد كل شيء، كان الدافع من وراء ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 هو اتفاقية شراكة مقترحة بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا. وستؤدي أيّ خطوات إضافية تشجع على انضمام أوكرانيا إليهما إلى تصعيد روسي إضافي، وهي احتمالية يبدو أننا لا نرغب حتى في مناقشتها، إيماناً منا بأنه على أوكرانيا أن تكون قادرة على تحديد مصيرها بنفسها.

خلافاً لخطر التصعيد، ثمة أمر آخر مقلق بشأن احتضان الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا. قالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين -الشخصية التي تجسد فكرة الكيان “الجيوسياسي” الأوروبي- مؤخراً إن أوكرانيا “واحدة منا”.

 برهن هذا التصريح على وجود اتجاه أوسع في الغرب لتأطير هذا الصراع من منظور حضاري. فقد أعرب مراسلون ومذيعون لا حصر لهم عن صدمتهم من أن مثل هذا النزاع الوحشي يمكن أن يحدث في دولة أوروبية “متحضرة”، وليس دولة أخرى من العالم غير المتحضر. يبدو تحديداً أن كثيراً من الأشخاص يشعرون بالأسى بسبب ما يحدث للأوكرانيين لأنهم “يشبهوننا”.

بل وبعد بضعة أيام من اندلاع الحرب، أخبر مسؤول أوكراني بارز شبكة “بي بي سي” أن ما يجعل الوضع مؤثراً جداً بالنسبة له هو أن من يُقتلون “أوروبيون بعيون زرقاء وشعر أشقر”. وعلى ما يبدو فإن النهج السخي الذي تتبعه دول الاتحاد الأوروبي مع اللاجئين القادمين من أوكرانيا -وعلى رأسها بولندا، التي كانت خلال أزمة اللاجئين في عام 2015 واحدة من الدول الأوروبية التي رفضت بشدة استقبال طالبي اللجوء من سوريا وأفغانستان- قد نبع أيضاً من حس تضامني عرقي.

ربما يساعد المنظور الحضاري الذي تم تناول النزاع من خلاله في توضيح سبب عدم اعتبار كثير من غير الغربيين أن هذه الحرب لا تخصهم، كالهند مثلاً التي امتنعت قبل أسبوعين عن التصويت لصالح قرار يدين الغزو الروسي لأوكرانيا في مجلس الأمن. فهناك وفي بلدان أخرى غير غربية، ينظر كثير من الأشخاص إلى الحرب في أوكرانيا بطريقة تشبه الطريقة التي علق بها ناشط الحقوق المدنية دو بويز على اندلاع الحرب العالمية الأولى. فقد كتب أن “الحرب مروعة، لكن هل أصبحت مروعة لأن من يُقتلون الآن هم أشخاص من ذوي البشرة البيضاء؟”

هانس كوندناني

هذا المقال مترجم عن theguardian.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا  الرابط التالي.

https://www.theguardian.com/commentisfree/2022/mar/13/first-we-did-too-little-to-oppose-russia-now-do-we-risk-going-too-far-the-other-way

درج

———————————–

بعد “نصر كاذب”.. هذا ما يدفع الأسد لإرسال متطوعين للقتال إلى جانب روسيا

أحيا السوريون في نهاية الأسبوع 11 سنة على نشوب الحرب الأهلية المضرجة بالدماء والتي عربدت في العقد الأخير، وأوقعت مصيبة على سوريا وسكانها. صحيح أن بشار الأسد نجا من الحرب وبقي على كرسيه، بفضل مساعدة روسيا وإيران، ولكن قيل في هذا: “نصر آخر كهذا نفنى”؛ إذ لم يتبقَ من الدولة السورية التي يحكمها شيء تقريباً.

الغرب مصدوم من الأصوات والمشاهد التي من أوكرانيا، ولكن ينبغي الاعتراف بأن هذه تشحب أمام الرعب والفظاعة اللذين جلبهما بشار على أبناء شعبه. فقد خلفت الحرب نحو 600 ألف قتيل ونحو مليوني جريح آخرين. يكاد يكون كل سوري ثانٍ (11 مليوناً من أصل 25 مليون نسمة عشية نشوب الحرب) فقد بيته، ونحو ثلث السوريين، أي نحو ثمانية ملايين شخص، أصبحوا لاجئين خارج بلادهم.

وذلك النصر (الذي حققه النظام ظاهراً على خصومه) هو بالتالي نصر ناقص. النظام منهك وضعيف، ولا يزال وجوده متعلقاً بحليفتيه روسيا وإيران الساعيتين أن تضمنا لنفسيهما سيطرة في الدولة. فضلاً عن ذلك، فإن نحو ربع الأراضي السورية ليست تحت سيطرة الأسد. في شرق سوريا، حيث معظم حقول النفط، أقام الأكراد حكماً ذاتياً يتمتع برعاية أمريكية. أما في شمال الدولة فتعمل جماعات من الثوار المسلحين، كثير منها سلفية جهادية، تتمتع برعاية تركية. وأخيراً، في الأطراف الجنوبية من سوريا وفي شرقها لا تزال خلايا “داعش” هناك.

كما أنه في تلك الأجزاء من الدولة التي توجد نظرياً حتى حكمه، يقيم الأسد سيطرة جزئية وليست كاملة، وذلك بسبب الوجود الروسي والإيراني على أرضه، وثمة ميليشيات وجماعات من المسلحين تواصل العمل في المجال القروي ومناطق بلدات المحيط.

ولما كانت مقدرات النظام السوري الاقتصادية تنفد، بل ولا تملك روسيا أو إيران الأموال اللازمة لمساعدته، فإن الأسد غير قادر على إعادة بناء الدولة أو حتى توفير الاحتياجات المعيشية لسكان المناطق المتبقية تحت إمرته. ثلثان بل وربما أكثر من هؤلاء يعيشون دون خط الفقر الذي يبلغ 1.90 دولار في اليوم، بينما يبلغ معدل البطالة أكثر من 50 في المئة. يسود في الدولة نقص خطير في الغذاء والاحتياجات الحيوية، ولا يزال الاقتصاد في شلل تام.

تشكل سوريا مقدمة للحرب والدمار الذي يجلبه الرئيس بوتين على أوكرانيا، بل وقيود قوته، خصوصاً للفجوة التي بين صورة الرئيس الروسي كمنتصر كلي القدرة وبين الواقع على الأرض، الذي يجد فيه الروس أنفسهم غارقين في الوحل السوري دون قدرة على إعادة بناء هذه الدولة وإيقافها على أقدامها، وبذلك استخلاص المكاسب الاقتصادية منها. وفي هذا ما يفسر مصلحة بوتين في التنسيق مع إسرائيل لأعمالها في سوريا؛ فغياب مثل هذا التنسيق قد يغرقه عميقاً في الوحل السوري. بشار يسيطر بصعوبة على بلاده، ولكن ثمة تقارير تأتي من سوريا حول تجنيد متطوعين سيرسلون للقتال إلى جانب الروس في أوكرانيا. قد تكون هذه خطوة علاقات عامة لإظهار الولاء لبوتين. فبعد كل شيء، بشار يحتاج إلى مقاتلين لجيشه. ومع ذلك، وفي ضوء حقيقة أن الرواتب المتوسطة في سوريا نحو 20 دولاراً في الشهر، يمكن الافتراض أنه سيتوفر ما يكفي من المتطوعين أجراً لتحقيق “النصر” لأوكرانيا أيضاً.

بقلم: أيال زيسر

إسرائيل اليوم 20/3/2022

القدس العربي

———————-

باركنسون بوتين وطلقة السناتور: حين تذهب الحروب بالعقول/ صبحي حديدي

لأنّ شرّ البلية ما يُضحك أحياناً، أو يدفع زاعم البصر والبصيرة إلى أن يضرب كفاً بكفّ؛ بتنا اليوم نقرأ تقارير جادّة، أو هي كذلك لأنها تصدر عن أناس يُنتظر منهم حدّ أدنى من الجدية، تقول إنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يُظهر أعراض الإصابة بمرض الباركنسون المبكر. وليست هذه خلاصة طبيب، بل هي اجتهاد البروفيسور غويذيان برينز، مستشار الدفاع السابق لدى الحكومة البريطانية والحلف الأطلسي؛ الذي يعترف، مع ذلك، أنّ قناعته أتت من زوجته المختصة بعلم النفس السريري والتي عالجت مرضى الدماغ طوال 30 سنة. وإلى هذا التشخيص المذهل عن بُعد، يضيف البروفيسور أنّ بوتين يمكن أن يُزاح عن السلطة نتيجة «ثورة الأمهات» الغاضبات على الكرملين جرّاء إرسال أبنائهنّ وبناتهنّ إلى القتال في أوكرانيا، وهذه «ليست مسألة تافهة لأنّ الأمهات هنّ المرجعية الشرعية الوحيدة في النظام الدكتاتوري. وتمرّد الأمهات كان مفتاح سقوط الاتحاد السوفييتي»، كما يقول بالحرف.

الملمّات، فما بالك بالحروب والأرزاء الكبرى، يمكن بالفعل أن تذهب ببعض العقول على شاكلة ما توحي أقوال البروفيسور الهمام، ليس بمعنى الخبل إذْ يمكن أن يهون الأمر هنا ويندرج في خانات مَرَضية بدورها يمكن تفهّمها؛ ولكن في إطار آخر ليس البتة أقلّ حساسية وخطورة، أيّ تعمّد التجهيل والتضليل والخداع المنهجي، تطبيقاً للقاعدة العتيقة التي تقول إنّ الحقيقة هي أولى ضحايا الحرب. إذْ ما الذي تعنيه، حقاً، إشاعات إصابة بوتين بالباركنسون تارة، والسرطان تارة أخرى، أو أيّ مرض آخر؟ وإذا كان الهدف إقناع البشر بأنه فاقد الأهلية عقلياً، جزئياً أو حتى بدرجات عالية، وما يتخذه من قرارات يفتقر إلى الحسّ السليم؛ فماذا بعد: تخويف الناس أكثر، أم شحنهم وتحريضهم، أم تجريد الغزو الروسي في أوكرانيا من العناصر الجيو – سياسة والأمنية والإنسانية وإحاطتها بدل ذلك بالغموض الميتافيزيقي؟

هذا رجل يقترب حثيثاً، إذا لم يكن قد اقترب لتوّه في بلاد الشيشان وجورجيا وسوريا وشبه جزيرة القرم، من شخصية مجرم الحرب؛ الذي يتخذ قراراته لأسباب متعددة متنوعة سالت أحبار غزيرة في وصفها وشرحها وفرزها وتصنيفها؛ والأرجح، العقلاني على الأقل، أنّ اختلال الدماغ وزيغ العقل وغيبوبة المنطق ليست في عدادها، أو ليست بعد في هذا الوارد طبقاً للمعطيات والمؤشرات الكثيرة المتعاقبة. أمر آخر، بالطبع، أن يكون مغامر المزاج، طائش التقديرات، متسرّع القرارات، جشع الطموحات، شره المطامع؛ وخلاصة أخرى، هي من طينة شرّ البلية التي تضحك، أن يكون المرض هو السيّد المتصدّر خلف تكييف كلّ هذه الصفات والبواعث والسيكولوجيات.

وقد يصحّ الافتراض بأنّ عدسة البروفيسور برينز التي تشخّص عن بُعد، أهون من اقتراح السناتور الجمهوري الأمريكي الشهير لندسي غراهام اغتيال الرئيس الروسي عن طريق «بروتوس ما»، نسبة إلى متزعم مجموعة اغتيال يوليوس قيصر. وكان في وسع غراهام، الأقرب إلى راعي بقر منه إلى عضو في الكونغرس، أن يقتبس رئيسه أبراهام لنكن دون سواه، الذي أباح اغتيال الزعماء ممّن تتعذر الإطاحة بهم سلمياً (وشاءت مفارقة التاريخ ان يسقط هو نفسه ضحية طلقات مواطنه جون بوث)؛ قبل اقتباس محاولات الأجهزة الأمريكية اغتيال أمثال فديل كاسترو وشو إن لاي وباتريس لومامبا.

وكان الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما قد استسهل، ولا حرج على مَن يقول: استحلى، دفع بوتين إلى «المستنقع السوري»، فكان أن عاجلهم الأخير بالسباحة الحرّة في مياه نهر الفرات وشواطئ طرطوس وبحر اللاذقية؛ قبل أن يكبّلهم اليوم بعجز أمريكي/ أطلسي هو الأكبر، والأشدّ حرجاً وإرباكاً منذ أواخر فصول الحرب الباردة. كأنه، المصاب حسب مزاعمهم بالباركنسون والسرطان، أعاد تذكيرهم بالقاعدة الشهيرة: داوها بالتي كانت هي الداء!

القدس العربي

———————————-

بوتين كـ”بلاء” لمؤيدي الديكتاتورية الأوروبيين/ رستم محمود

يشكل الغزو الروسي لأوكرانيا تحديا سياسيا واجتماعيا وقيميا لطبقة من الساسة والنخبويين الأوروبيين، هؤلاء الذين أظهروا طوال السنوات العشرة الماضية تأييدا للأنظمة والقوى السلطوية الشمولية في مختلف مناطق العالم، بالذات في الضفاف المحيطة بالقارة الأوروبية. لأن الحدث الأوكراني الأخير يُظهر بجلاء التبعات الخطرة لأي نظام شمولي مركزي، مثل الذي تمثله البوتينية، واستحالة أن تكون ثمة أية بقعة جغرافية ما في العالم ذات مناعة وقائية تامة من تبعات سياسات ومحصلة أفعال الشخصيات والأنظمة الشمولية.

كانت هذه النُخب والقوى السياسية الأوروبية تتألف بالأساس من ثلاث مجموعات رئيسية.

تأتي الحركات والشخصيات الشعبوية على رأسها، من الذين أضافوا مقولات “مُحدثة” إلى خطابهم الشعبوي التقليدي، تلك التي صارت تقول إن الفارق الجوهري ليس بين شعب نقي وتنظيمات وسياسيين فاسدين فسحب، بل أيضا بين “شعب نقي” وآخر ليس كذلك؛ وبذا فمن الأفضل أن تُحكم تلك “الشعوب غير النقية” من أنظمة ديكتاتورية، حسب رؤيتهم.

كذلك من تيارات أوروبية مشيدة في عالمها الداخلي على روئ قريبة من تطلعات “اليمين المسيحي” الأميركية. التي تعتبر أن المسألة القيمية هي المعيار والأداة لاتخاذ المواقف السياسية، في الصراعات الداخلية أو في المواقف والبلدان الأخرى. النزعات اليمينية هذه، كانت تعتقد على الدوام بأنه ثمة فروق قيمية جوهرية بين المجتمعات المسيحية وغيرها من المجتمعات، منطلقة من أن القيم غير المسيحية شديدة الخطورة على “الحضارة”، وتاليا كانت تميل للاعتقاد بأن القادة والأنظمة الشمولية هي الأقرب قيميا والأخصب طاقة في كبح جماح المجتمعات المختلفة قيميا، تلك المجتمعات التي تشكل خطرا على نزعات هذا اليمين الثقافية والمجتمعية.

التشكيلة الثالثة كانت مؤلفة من المحافظين السياسيين والاقتصاديين، الذين كانوا بالأساس مستائين من تشكل المنظومة الأوروبية وتحطيم المجالات الوطنية، ثم صاروا رافضين لأشكال التوسعة الأوروبية نحو بلدان شرق أوربا. لكنهم خلال السنوات العشرة الماضية، وبفعل موجات اللجوء والهجرة إلى الدول الأوروبية، صاروا مرتابين من موجات التدفق التي تعاني منها القارة الأوروبية بكاملها، ويعتقدون أن الأنظمة والشخصيات الشمولية وحدها قادرة على ضبط المجتمعات والحدود التي يتسرب منها المهاجرون واللاجئون، وأن تلك الأنظمة وحدها قادرة على “حفظ الاستقرار” الذي يضبط ذلك التدفق.

في تأييدهم للأنظمة الشمولية، فإن القوى والنُخب الأوروبية هذه كانت تملك ثوابت ضمنية تبني عليها منظومتها الإيديولوجية والمعرفية الداخلية: فمن جهة تملك رهابا من العالم الإسلامي، وما يعتقدون أنه صراع تاريخي بين دفتي المتوسط، الشمالية الأوروبية المسيحية والجنوبية المسلمة.

كذلك فإن هذه النُخب تتبنى مجموعة من القراءات والتفسيرات السياسية التي تقول إن الديمقراطية هي نتيجة حتمية للمجتمعات التي شهدت وتشهد نهضة في قطاعات المعارف والصناعة والعلوم الإنسانية، وأن تطبيقها في بقاع لم تشهد ذلك إنما يشكل خطورة مستعرة. فوق ذلك، فإن القاسم المشرك الأعلى بينها هو الاعتقاد بأن الديمقراطية تناسب فقط المجتمعات التي تملك بعض القيم بذاتها، وإنه ثمة جماعات ومجتمعات لا تملك ذلك لأسباب ثقافية وجغرافية واقتصادية شديدة العمق والجوهرانية.

مجموع تلك المُعتقدات طوال السنوات العشرة الماضية، على الأقل، كانت تؤدي لنتيجة واحد، هي أولوية دعم المنظومات الشمولية على حساب الحركات الشعبية المعارضة، التقليل من أفعال الشموليين بحق مجتمعاتهم ودولهم، وإظهار الأنظمة الشمولية كحليف موضوعي للعالم الأوروبي.

كانت هذه التنظيمات والنُخب الأوروبية المؤيدة للشمولية قد تنامت خلال أربعة مراحل رئيسية، منذ ظهور آثار تفكك الإمبراطورية السوفياتية عام 1992، وانبلاج انعكاسات الدمقرطة على المجال الأوروبي.

كانت حرب البوسنة/صربيا في أواسط التسعينات أولى تلك المراحل. فهذه القوى الأوروبية كانت تظهر تأييدا للرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش في مواجهة المطالب العادلة لمسلمي يوغسلافيا السابقة، ولمجموع الأسباب سابقة الذكر.

أحداث الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة أضافت شحنة عاطفية وسياسية لما كانت تتبناه تلك المجموعات الأوروبية، أضيفت لها لاحقا العمليات الإرهابية في مختلف الدول الأوروبية.

المواجهات المطلبية في ضواحي المدن الأوروبية خلال أوائل الألفية الجديدة، والتي كانت بالتحديد بين محتجين كانوا من أصول غير أوروبية والفضاء العام، والتي كانت ذات وجه عنيف في أكثر من مناسبة، كانت المرحلة الثالثة لنمو تلك النزعات الأوروبية.

أخيرا، فإن سنوات الربيع، وما نجم عنها من أشكال التفجر والصراعات وسوء القدرة على بناء أنظمة ديمقراطية متينة عقب إسقاط الأنظمة الشمولية، حيث تحطمت الحدود وتدفق ملايين اللاجئيين نحو السواحل الأوروبية، كانت الحدث الرابع في بنيان تلك النزعة الأوروبية.

مجموعة تلك الأحداث، بالإضافة إلى الجذر الثقافي والسياسي والاجتماعي لهذه المجموعات الأوروبية، كانت تقول إن الديمقراطية في المجالات الجغرافية والسكانية المحيطة بأوروبا هي خطر داهم على السلام والاستقرار والأمن القومي الأوروبي، وإن المنظومة الأوروبية يجب أن تدعم الشخصيات والأنظمة الشمولية المركزية في كامل محيطها، لأنها وحدها القادرة على ضبط مجتمعاتها، وخلق مسافة بين معضلات تلك الجغرافيات والمجتمعات والمراكز الأوروبية.

حرب روسيا الأخيرة هي ضربة قاضية لكل ذلك.

فحسب هذا الحدث، إن المنظومة الأوروبية، بمؤسساتها الديمقراطية وعالمها القيمي واستقرارها الاقتصادي والمجتمعي، من المستحيل أن تبقى مستقرة وعلى جوارها هكذا نمط من الشموليات المُطلقة، التي مثل روسيا البوتينية، بالذات في سنوتها العشرة الأخيرة، حيث كامل السُلطة والإرادة والمال العام رهن شخص واحد.

فالنموذج البوتيني يُثبت أن الأنظمة التي على هذه الشاكلة متدفقة بالضرورة نحو محيطها الأقرب، مستفيدة من فارق الانضباط الظاهر داخلها، في مواجهة الدول والمجتمعات التي مثل الدول الأوروبية، التي تعيش أساسا على صراع سياسي داخلي، كأساس جوهري للعبة الديمقراطية. فالأنظمة الشمولية تستميت حتما للعب على تلك الحالة، استقرارها وما تراه من تفتت داخل أوروبي. وإذا كان بوتين هو الصورة العارية والمباشرة لذلك، فإن غيره من الشموليين قد استعملوا واستخدموا هذه الثنائية بشكل دؤوب، عبر التهديد بالإرهاب والمهاجرين..ألخ.

كذلك تثبت الحرب الأخيرة أن الشموليات، وإن كانت تبني شرعيتها الداخلية وركائز حُكمها على نفس المنظومات التي يتبناها مؤيدو الشمولية الأوروبيين، من شعبوية ومحافظة سياسية ويمينية دينية، فإنها في الحالة الشمولية إنما تكون بمجموعها متمركزة حول معاداة هذا الغرب الأوروبي نفسه، فضائه السياسي والاقتصادي وعالمه القيمي. وبذا فإن هذه الشموليات إنما تُراكم بشكل موضوعي كُل أشكال مناهضة ومُعاداة مجتمعاتها لما يوازها في الدفة الأوروبية.

أخيرا، فإن الحرب البوتينية هي مقولة في حتمية انفجار فائض القوة العسكرية، وهو مثال اثبتته من قبل الصدامية والخمينية والقذافية. وحيث أن الشموليات لا تُبنى إلا على ذلك النوع من المراكمة في القوة العسكرية، فإنها حتمية الانفجار، ولسوء عاثر في الجغرافيا، فإنها تكون في وجه هذا المجال الأوروبي غالباً.

الحرة

——————–

ألبوم الإجرام الروسي في سوريا وأوكرانيا: مأساة واحدة..لولا زيلينسكي

نشرت وكالة “غيتي” للصور مقارنة تظهر التشابه بين الغزو الروسي لأوكرانيا، والدور العسكري الذي لعبته موسكو إلى جانب نظام بشار الأسد في سوريا، حيث يتشارك الشعبَان السوري والأوكراني العدو نفسه والإجرام نفسه.

وضم الألبوم الذي نشرته الوكالة البريطانية الأميركية 25 صورة،

https://www.gettyimages.ae/search/2/image?events=775787765

في كل منها صورتان، الأولى من أوكرانيا والثانية من سوريا، يظهر فيهما تشابه إلى حد كبير، للقول أن الجلاد واحد وأن لا فرق في الضحايا بين بلد وبلد، وهو انتقاد تم توجيهه كثيراً للإعلام الغربي من قبل أشخاص يعتقدون أن الإعلام الغربي والسياسات الغربية تفضل اللاجئ الأوكراني على اللاجئ السوري من منطلق عنصري.

ومن الصور التي ضمها ألبوم الوكالة، صورة لجندي أوكراني يداعب قطة وصورة مماثلة لرجل سوري يداعب قطة خلال حصر مدينة حلب العام 2015.

وثمة لقطة تظهر أشخاصاً أمام مبنى دمره قصف روسي في كييف، مقابل أشخاص أمام مبنى دمره قصف روسي مماثل في حلب. وتظهر صور أخرى لاجئين مدنيين هاربين من القصف في كلا البلدين.

وبرزت صور الأطفال في الخيَم بعد تشردهم من منازلهم في سوريا وأكرانيا، وصور الأمهات اللواتي يحملن أطفالهن، وصور لوجوه خائفة خلف زجاج السيارات والباصات التي تنقل اللاجئين بعيداً من القصف والموت، وصور للوجوه الدامية والإصابات القاتلة، وغيرها.

وفيما يبقى المشهد في أوكرانيا طارئاً، رغم كل الألم الذي يأتي من الصور، فإن المأساة السورية مستمرة منذ 11 عاماً، لم يذق فيها السوريون فقط الموت والحرب من طرف موسكو، بل أيضاً من طرف النظام السوري الذي يحكم البلاد بقبضة حديدية منذ العام 1970. وقد يكون ذلك الفارق هو ما يغيب عن ألبوم الصور والكثير من المقارنات التي ظهرت في الميديا العالمية ومواقع التواصل، منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا.

ويعني ذلك أن المشكلة في سوريا هي مشكلة النظام الذي وجه قوته وأسلحة جيشه نحو شعبه وقتل المدنيين واعتقلهم وعذبهم وشردهم واستعان بالحلفاء الخارجيين في روسيا وإيران وبالمليشيات الأجنبية من أجل ارتكاب تلك الفظائع بهدف البقاء في السلطة. وهو ما لا يتواجد في الجانب الأوكراني على الأقل، حيث للأوكرانيين رئيس وطني ومنتخب بالفعل، اسمه فولوديمير زيلينسكي، يقاتل معهم عدواً خارجياً.

—————————-

سورجيك.. لغة التلاقي الأوكراني الروسي/ بشير البكر

كانت اللغة الرسمية في أوكرانيا حتى انفصالها عن الاتحاد السوفياتي العام 1991. ومنذ ذلك التاريخ حلت محلها اللغة الأوكرانية في صورة رسمية لتصبح لغة الدولة والإدارة، إلا أن الوقت استغرق عشر سنوات لتصبح العام 2001 لغة التعليم والامتحانات المدرسية واحدة في جميع أنحاء البلاد. ورغم سيادة اللغة الروسية لأكثر من قرنين واستخدامها كلغة رسمية في أوكرانيا، فإن الدولة الأوكرانية الجديدة أسقطتها من التعامل، ولم تنل حتى صفة اللغة الثانية، وفق ما هو معمول به في بعض الدول ذات التاريخ المتشابك والتركيبة السكانية التعددية. أما على مستوى الحديث فهناك ما يشبه الفوضى اللغوية ما بين الشرق والغرب والعاصمة، ويتكلم الكثير من السكان الناطقين بالأوكرانية لهجات محلية تتكون من مزيج الروسية بالأوكرانية، وينتشر هذا الخليط اللغوي بشكل خاص في شرق وجنوب البلاد، بينما تحتوي اللهجات المحلية في غرب أوكرانيا على عناصر من اللغة البولندية.

واستخدمت موسكو الموقف من اللغة الروسية، لتصوير حكومة كييف على أنها “فاشية” وعنصرية تمارس الاستبداد على السكان الناطقين بالروسية في أوكرانيا. ووفر القانون الأوكراني الذي يهدف إلى زيادة استخدام اللغة الأوكرانية، مزيدًا من الذرائع للحملة الدعائية الروسية، حيث يهدف قانون اللغة الأوكراني، الذي تم تمريره في عهد سلف الرئيس الحالي فلوديمر زيلينسكي، بيترو بوروشنكو، إلى ترسيخ اللغة الأوكرانية باعتبارها وسيلة الاتصال المهيمنة في البلاد في الأعمال التجارية والمدارس ووسائل الإعلام. ويتوجب على العاملين في مجال الخدمات، على سبيل المثال، التحدث إلى الزبائن باللغة الأوكرانية، ما لم يُطلب منهم على وجه التحديد التحدث باللغة الروسية، وتقوم محطات التلفزيون بث جميع الأفلام والمسلسلات باللغة الأوكرانية.

وسبق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن ادعى بأن اللغة الروسية يتم قمعها، وأن المتحدثين بها أصبحوا مهمشين في أوكرانيا، على الرغم من أن نسبة كبيرة من السكان تستمر في استخدام اللغة الروسية في المحادثة، وتشير استطلاعات مختلفة إلى أن حوالي نصف السكان يتحدثون في الغالب الأوكرانية في المنزل وحوالي 30 في المائة يتحدثون الروسية في منازلهم، بينما يتحدث الباقون لغة سورجيك.

وفي الأشهر الأخيرة، عاد المسؤولون الروس إلى التشهير بسياسات اللغة الأوكرانية. وقال بوتين في مؤتمره الصحفي السنوي في موسكو في كانون الأول الماضي “إنهم ببساطة يطردون الروس والسكان الناطقين بالروسية من أراضيهم التاريخية”، ونسي أن مزاعم الحصار اللغوي لعبت دورًا رئيسيًا في تبرير موسكو لضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية في العام 2014، باعتبار أن غالبية السكان في القرم يتحدثون اللغة الروسية.

وبدءا من نهايات القرن الثامن عشر وفي العهد السوفياتي، كان استخدام اللغة الأوكرانية يتناقص تدريجياً، لا سيما في الأوقات التي تكثفت فيها سياسات “الترويس” في ثلاثينيات وأواخر السبعينيات إلى أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، إلا أنها لم تندثر، وبقيت حية تتحدث وتكتب بها أوساط واسعة خارج الفضاء الرسمي، وفرضت الظروف الاستثنائية ولادة لغة أخرى للتفاهم تحمل اسم “سورجيك” يتحدث بها ربع سكان أوكرانيا البالغ عددهم 40 مليون نسمة. ولقيت هذه اللغة رواجًا عندما أصبحت اللغة الروسية هي اللغة المشتركة للمدن الصناعية في قلب أوكرانيا، وكانت البداية من عند الفلاحين، الذين شرعوا في مزج الكلمات الروسية في حديثهم للتواصل مع سكان المدن، ما ولّد شكلا من أشكال اللهجة الأوكرانية. ولا يعود ذلك إلى جهل بالروسية، بل إن القسم الأكبر من الأوكرانيين على معرفة أفضل باللغة الروسية الرسمية منه باللغة الأوكرانية الرسمية، ولكن غالبية هؤلاء لا يخفون نفورهم من اللغة الروسية. حتى أن أسلوب التعامل من قبل الأوكرانيين مع الآخرين يتغير تبعا للغة المستخدمة روسية أم أوكرانية، بمن في ذلك الأجانب الذين يعيشون في كييف.

تعني مفردة “سورجيك” في الأصل الدقيق المصنوع من حبوب منخفضة الجودة، وباتت مصطلحا أوكرانيا يعني “لغة مختلطة غير نقية”، وتفيد الدراسات الخاصة بها أن هذه اللغة تطورت في القرى والبلدات الصغيرة الناطقة بالأوكرانية، حيث كان المتحدثون يفتقرون إلى تعليم رسمي. وحتى اليوم، لا تزال هي اللغة المستخدمة في العديد من البلدات المحيطة بكييف، بما في ذلك بوريسبول، التي تحتضن مطار المدينة الدولي. ويعتقد الدارسون لها أن اللغة الهجينة ستموت موتًا طبيعيًا، طالما أن هناك سياسات تقوم على إحياء اللغة الأوكرانية في حقبة ما بعد الشيوعية. ومع ذلك، وبعيدًا عن التلاشي، فإن هذه اللغة تشهد رواجًا في أعقاب انتعاش اللغة الأوكرانية في حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. نظرًا لأن المزيد من المتحدثين باللغة الروسية في المدن يحاولون التحدث باللغة الأوكرانية للتوافق مع الأوضاع المستجدة، ومن ثم ينتهي بهم الأمر عن غير قصد إلى التحدث بشكل معكوس باللغة الهجينة. وهناك ظاهرة ملفتة في كييف تحدثت عنها الصحافة، وتخص الروس الذين يعيشون في العاصمة الأوكرانية ويعملون في مؤسسات خاصة، وقد فرضت الدولة على هؤلاء التحدث بالأوكرانية، والبعض وجد طريقة للتهرب من ذلك من خلال التحدث بلغة السورجيك. وبات مصطلح سورجيك يستخدم بشكل متكرر في الخطاب العام ووسائل الإعلام منذ أن تم رفع اللغة الأوكرانية إلى مرتبة اللغة الرسمية للدولة وأعلنت أوكرانيا استقلالها، وأدت الأيديولوجية الوطنية المتنامية إلى استخدام واسع للمصطلح، والذي يميل إلى أن يكون له دلالات ازدراء للغة الروسية. وجاء في مقال نُشر مؤخرًا في الصحيفة المعروفة في أوكرانيا، Korrespondent، أن الغالبية العظمى من الأوكرانيين يتحدثون الآن سورجيك. حتى أنها ادعت أنه مع خلط الكثير من الأوكرانيين بين اللغتين، فإن حوالي 20 بالمائة فقط من السكان يتحدثون الآن إما الأوكرانية “النقية” أو الروسية “النقية”.

وكانت كييف حتى وقت قريب مدينة ناطقة بالروسية، يتحدث معظم سكانها هذه اللغة. والآن نادرا ما يتم الحديث بالروسية النقية، وحتى المتحدثين بالروسية يطعمون حوارهم بالكلمات الأوكرانية، وهو أمر يشبهه البعض بالمزيج اليومي بين اللغتين الإنكليزية والهندية في دلهي أو مومباي، حيث يتواصل العمال بلغة Hinglish. وغير ذلك تتم التضحية باللغة الروسية لصالح الأوكرانية، في محاولة للظهور بمظهر وطني.

وهناك إجماع على أن السورجي لهجة أوكرانية يفهمها الجميع، ولكن القليل منهم يعترف بها. ثم إن نفور المتشددين الأوكرانيين منها، لا يسقط عنها خاصية أنها مزيج ساحر من الروسية والأوكرانية، وباتت لغة القرى والمدن الأصغر. وفي حين أن غالبية الأوكرانيين تتحدث الأوكرانية والروسية بطلاقة في الأماكن العامة، فإن السورجيك هي الشفرة المتمردة التي يستخدمونها في المنزل. وأصبحت غالبية الأجانب الذين يعيشون في كييف، عن غير قصد، من المتحدثين الخبراء بها، نتيجة حتمية لمخالطة السكان المحليين، الذين ينتقلون بسهولة من الأوكرانية إلى الروسية. ويمكن تبرير ذلك بأن حدود اللغة الأوكرانية للغة الروسية غير مرسومة بوضوح حتى الآن، الأمر الذي استدعى وجود لهجة وسيطة بينهما، تتطور في أوكرانيا تحديدا، ووفقًا للبيانات التي قدمها معهد كييف الدولي لعلم الاجتماع في عام 2003، وجد أن 11٪ إلى 18٪ من سكان أوكرانيا يتواصلون عن طريقها، في حين تشير معطيات السنوات الأخيرة أن هذه النسبة تضاعفت عدة مرات. ومع وجود نسبة كبيرة من سكان كييف لا يزالون يتحدثون الروسية في المنزل، كما يفعل الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشينكو، فإن بعض الخبراء يرى بأن هذا التحول نحو اللغة الأوكرانية لن يكون بدون مفاجآت، نظرًا لأن المتحدثين الروس يتحولون إلى التحدث باللغة الأوكرانية، فإنهم ملزمون بمزج اللغة وتقديم الكلمات الجديدة الخاصة بهم. من المؤكد أن يحصل تطور بشكل معاكس من لغة سورجيك، ومن المحتمل أن تعتنق أوكرانيا هويه ثنائية اللغة، وقد لا يشعر المتحدثون بالروسية بأنهم مضطرون للتبديل من أجل التحدث باللغة الأوكرانية، وعلى ذلك يتوقع البعض أن تظل سورجيك هي اللغة المشتركة غير الرسمية لأوكرانيا لجيل آخر على الأقل.

ولم يتفق البحاثة وعلماء اللغة على تصنيف هذه اللغة التي تتمتع بالتنوع، وتعد مراوغة إلى حد كبير، وتمتلك قدرة على الاستعارة من اللغتين الروسية والأوكرانية، فهي تأخذ من الأوكرانية البلاغة، وتعتمد معجميا على الأوكرانية والروسية. وكظاهرة محددة للحياة اللغوية في أوكرانيا، لا يُنظر إلى لغة سورجيك في الجانب اللغوي فحسب، ولكن أيضًا في المجالات الاجتماعية الثقافية والنفسية اللغوية. وفي ما يخص استخداماتها الكتابية، فإن بعض المؤلفين الأوكرانيين يكتبون بها من أجل خلق تأثير هزلي، بوصفها لغة تجتذب المهمشين. وكانت تستخدم في الرسوم الساخرة الكاركتيرية، حتى خلال الحقبة السوفياتية. وهناك من يعتبر أن الروس استخدموها لتشويه سمعة اللغة الأوكرانية بشكل عام. ويشار هنا إلى فيلم كوميدي شهير في خمسينيات وستينيات القرن الماضي “تارابونكا وشتيبسيل”، وهما عبارة عن نسخة من الثنائي الشهير لوريل وهاردي، ويقدم شتيبسيل الذكي الناطق بالروسية الذي يتفوق باستمرار على شريكه البدائي الغبي الناطق بلغة السورجيك تارابونكا.

المدن

—————————

«مضادات دبابات» بريطانية وأميركية تغير المعادلة العسكرية في أوكرانيا

لندن: جون إيسماي

في مقاطع فيديو التقطت في أوكرانيا، يشير نفث من الدخان ووميض قصير من الضوء إلى سقوط مجموعة أخرى من الدبابات الروسية.

في بعض الأحيان، لا يستغرق الأمر سوى جزء من الثانية قبل أن ينتقل الضوء إلى دبابة أو عربة مدرعة تنفجر فجأة مسببة دخاناً ولهباً، وغالباً ما تنفجر من الداخل مع انفجار الذخيرة التي تحتويها.

غالباً ما تُظهر مراجعة مقاطع الفيديو هذه جنوداً أوكرانيين قبل الهجوم يقومون بدوريات إلى موقع كمين حاملين على ظهورهم أنابيب خضراء كبيرة، حصلوا عليها كهبة من بريطانيا. ربما في 15 ثانية، وأحياناً أقل من ذلك، يمكن للجنود فك السلاح، وفتح نطاق التصويب، انتظاراً لظهور الفريسة.

الأنابيب الخضراء تسمى NLAW، وهي اختصار لعبارة الأسلحة الخفيفة المضادة للدبابات من الجيل التالي، وهي نتاج عقود من البحث لتصنيع صواريخ موجهة صغيرة وخفيفة الوزن ربما تكون قد أعادت توازن القوى في القتال بين الدبابة والجندي على الأرض.

بالمقارنة مع سلاح «Javelin» المضاد للدبابات الأميركي الصنع، والذي أشاد به المسؤولون في البنتاغون والبيت الأبيض وأرسلوه إلى أوكرانيا بالآلاف، فإن «NLAW» يزن نحو نصف الوزن، وتكلفته أقل بكثير، ويمكن التخلص منه بسهولة، وقد تم تحسينه للاستخدام في المعارك قصيرة المدى نسبياً التي يخوضها الجنود الأوكرانيون مع القوات الروسية.

سلاح «NLAW» المضاد للدبابات هو من إنتاج شركة «Saab» السويدية، وقد جرى بيعه إلى عدد من دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) – بما في ذلك بريطانيا، التي تجمع الصواريخ في مصنع في بلفاست، آيرلندا الشمالية، لصالح الجيش البريطاني. ورغم أن الجيش البريطاني لديه أيضاً سلاح «Javelin» المضاد للدبابات، فقد بدأ في شراء سلاح «NLAWs» منذ نحو 10 سنوات وقام بإرساله إلى أوكرانيا بأعداد أكبر من أي وقت مضى.

وقال دبلوماسي بريطاني، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته لمناقشة المساعدة الدفاعية، إن بريطانيا أرسلت أكثر من 4200 من هذه الأسلحة إلى أوكرانيا. استطرد الدبلوماسي قائلاً: «ما زلنا نراه أحد أفضل الأسلحة الدفاعية قصيرة المدى المضادة للدبابات».

يشتمل سلاحا «Javelin» و«NLAW»، اللذان يمكن لجندي واحد حملهما وإطلاق النار بهما، على ميزات لم تُشاهد سابقاً إلا في أسلحة أكبر بكثير وأكثر تعقيداً، وهي الأنواع التي عادة ما يجري نقلها في مركبات.

يمكن إطلاق كلا السلاحين مباشرة على أهداف مثل جنود العدو أو على مبنى، ولكن عند مهاجمة المركبات، يمكن أيضاً برمجتها لتصيب من الأعلى – حيث تمتلك الدبابة أو حاملة الجنود المدرعة دروع أقل. يمكن للسلاح الأميركي أن يطفو على السطح ثم يغوص ليصطدم وينفجر، بينما يطير الصاروخ البريطاني في مسار أقصر، حيث يعبر فوق هدفه ويطلق شحنته نحو الأسفل.

النتيجة، كما هو واضح في أوكرانيا، هي نفسها: عدد لا يحصى من الدبابات والناقلات المدرعة والشاحنات الروسية المدمرة.

نجحت الصواريخ رغم المساعي لإلحاق الهزيمة بها. وأفاد الجيش الروسي بأن نظاماً دفاعياً على أحدث دبابات «T – 90» كان قادراً على استشعار وتدمير الصواريخ المضادة للدبابات مثل صواريخ javelin وNLAW أثناء الطيران. وفي إجراء مضاد جديد على ما يبدو، تقوم القوات الروسية بوضع أقفاص مرتجلة من قضبان فولاذية متوازية فوق أبراج الدبابات، لكن أدلة الفيديو أظهرت فشل هاتين الطريقتين.

يتكون سلاح Javelin، الذي تم تصميمه في نهاية الحرب الباردة، من جزأين: قاذفة قابلة لإعادة الاستخدام تزن 33 رطلاً يستخدمها الجنود غالباً للاستطلاع والمراقبة، نظراً لما تحويه من مجموعة كاميرات حرارية يمكنها التكبير والتصغير للعثور على الأهداف، وأنبوب زنة 15 رطلاً يحتوي على الصاروخ نفسه.

بالمقارنة، يزن صاروخ «NLAW» الأحدث أقل بقليل من 28 رطلاً ولا يحتوي على كاميرا – وبه نطاق تصويب بسيط.

ورغم أنه يمكن لصاروخ Javelin تدمير الدبابات من مسافة تصل إلى ميلين ونصف، فإن صاروخها يطير أبطأ من صاروخ NLAW، وهو الأكثر دقة للأهداف التي تصل إلى نحو نصف ميل فقط. وبالنسبة للأهداف المتحركة، يمكن لصاروخ «Javelin» توجيه نفسه أثناء الطيران، وذلك بفضل الجهاز الباحث عن الحرارة في مقدمة الصاروخ، بينما يقوم الجندي الذي يطلق صاروخ NLAW ببساطة بتوجيه السلاح نحو مركبة متحركة، ويشغل نظام التوجيه ويتتبع الهدف لبضعة ثوان قبل إطلاق النار. ثم يطير الصاروخ إلى النقطة التي يتوقع أن يكون الهدف فيها.

قال الدبلوماسي البريطاني إن قدرات السلاحين تجعل من صاروخ «Javelin» أشبه ببندقية قنص لإسقاط المركبات المدرعة من مسافات بعيدة، في حين أن صاروخ NLAW أفضل للمعارك القريبة وسيناريوهات الكمائن.

أضاف الدبلوماسي قائلاً إنه بالنظر إلى أن الأوكرانيين غير قادرين على محاربة الدروع الروسية بدبابات، فيجب عليهم استخدام تكتيكات مختلفة، مضيفاً أن الأوكرانيين أظهروا الإرادة وقدروا على الاقتراب من الدبابات وتدميرها في هذه الهجمات الصاروخية.

في هذا الصدد، قال دبلوماسي: «أنت بحاجة إلى معرفة كيفية القتال، وتحتاج إلى الوسائل، ولكن هذه هي الإرادة – ما يوجد في قلب الأوكرانيين للقتال؟» إنهم يحاربون تهديداً وجودياً ولن يستسلموا. لذلك بناء على طلبهم كدولة ذات سيادة، فقد قدمنا لهم الأدوات اللازمة للقيام بذلك».

– خدمة «نيويورك تايمز»

———————-

انفصام بوتين والهزيمة الكبرى/ يحيى العريضي

روسيا، تلك البقعة الشاسعة جغرافياً، والتي تحتل ثُمْنَ اليابسة على كوكبنا، حَمَلَت تقاليدَ وطنيةً راسخة لا تحتمل ولا تغفر الهزائم أو النكسات العسكرية. فما من هزيمة كبرى حلّت بها، إلا وأدت إلى اهتزاز بأصداء كونية وتغيير جذري في البلاد: حرب القرم، منتصف القرن التاسع عشر، سارعت بولادة قيصرية، غيّرت وجه روسيا؛ والحرب الروسية-اليابانية مطلع القرن العشرين، تبعها الثورة الروسية الأولى؛ والحرب العالمية الأولى، أتت بثورة البلاشفة؛ وحرب أفغانستان، أنهت الاتحاد السوفييتي؛ فهل سيحدث التغيير الجذري بعد الحرب الروسية-الأوكرانية؟!

قبل 24-2-2022، وُضع بوتين أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما أن يغزو أوكرانيا، ويخسر؛ أو يتراجع، ويفقد مصداقيته. ثَبَت أن بوتين مصاب بانفصام الرؤية والمكابرة؛ والأرجح لم يدرك فداحة الهزيمة والإهانة والإذلال القومي الذي سيصيب روسيا، إذا ماتم الغزو.  ولم يرَ أو يحتمل، بتركيبته الشخصية، أن الانكفاء أو التراجع وابتلاع المذلة وفقدان بعض المصداقية لا كلها، أفضل بكثير من نهاية محتَّمة. والآن، وبعد بعض الصحوة على حقائق فداحة ما حدث عسكرياً من هشاشة هجومه الدموي والتدميري فقط، ومن المقاومة الأوكرانية الأسطورية، والإجماع العالمي على نبذه وخنقه وتجريمه؛ على بوتين فقط أن يحدد حجم وتوقيت الهزيمة النكراء. وبقدر ما يكون الأمر أسرع، بقدر ما يقل حجم الهزيمة؛ وبقدر ما يطول الوقت، ستكون فداحة الهزيمة وضخامة الإذلال القاتل تفوق التصور.

لم يكن بوتين ليتصوّر أن أوكرانيا ستقاوم بهذا الشكل، وأن الأوكرانيين مستعدون للدفاع عن بلدهم حتى الموت. وما كان ينتظر إلا استقبالاً بالورود من بقايا الروس في أوكرانيا أو من الراغبين في الانفصال عنها. لم يكن يخطر في باله أن أوكرانيا توّاقة، وليست راغبة، فقط للابتعاد عن عالم يحكمه دكتاتور يرى نفسه الواحد الأحد. وما كان ليتصوّر أن جيشه على هذه الدرجة من الهشاشة، رغم تباهيه بالخبرة التي اكتسبها على أرض السوريين وأرواحهم. وما تصوّر أن هذا العالم سيجمع بهذه الطريقة كي يخنقه اقتصادياً وسياسياً ومعنوياً، ويلصق به لقب “مجرم حرب”.

هذا الانفصام بين ما تصوّر وفكّر به بوتين، وبين الواقع الذي يواجهه، حال دون قدرته على اتخاذ قرار سريع إما بعدم خوض هذه الحرب، أو بالانصراف المبكر والسريع، واختراع غطاءٍ لحفظ ماء الوجه. إلا أن “التورط” قد حصل؛ وحجم الخسارة يتفاقم ويزداد تعقيدا، ويصعب تحديد مسار أو مصير الأمور. والأخطر من كل ذلك هو الإهانة والإذلال لمخلوق مهووس بالقوة، هاجسه استعادة وحدة وكرامة إمبراطورية يرى أن أوكرانيا مسقط رأسها. فهو حتى الآن بين خسارة مبكرة صغيرة الحجم ومهينة نسبياً، ولكنها محمولة ويمكن ترقيعها ولن تؤدي إلى تغيير جذري من جانب؛ وخسارة متأخرة، كبيرة ومهينة ولا يمكن ترقيعها وستؤدي إلى تغيير جذري من جانب آخر.

رغم أن دلائل الهزيمة الكبرى أكثر من واضحة إلا أن توقيت “الخسارة الكبرى” غير واضح. وفي الدلائل عليها:

-عدم إنجازه المهمة بالسرعة التي صرح بها؛ فالأمر في أوكرانيا مختلف عنه في سوريا؛ ففي الأخيرة قال عام 2015 إنه سينجز مهمته خلال ثلاثة أشهر، ولا يزال هناك؛ ولكن في أوكرانيا من بدايتها يخسر جنوداً بالآلاف.

-روسيا لا تحتمل رؤية الكثير من الأكفان. وتأثير مقتل آلاف جنوده يدمر الروح المعنوية والقتالية لجيشه الذي يقاتل بلا هدف واضح.

-رغم أن فشل روسيا العسكري، وانكشافها بهذا الشكل بدا مستحيلا، إلا أن العالم يراه بأم عينه.

-الضحايا من المدنيين بالآلاف في حرب المدن والشوارع. والواقع يقول إنه يحتاج جيشاً بعدد سكان المناطق التي يهاجمها لتحقيق سيطرة مستدامة.

-صفة “مجرم حرب” أضحت تلازم الرجل؛ وفي الأذهان صورة هتلر.

-الاختناق الاقتصادي والمعنوي أسرع مما كان مخططاً له.

أخيراً وبخصوص مفاعيل سقطة بوتين الأوكرانية على القضية السورية، فالأمر يتعلق باختيار بوتين لهزيمة صغيرة أو كبيرة. ولكن بداية لا بد أن ينسى بوتين مسألة الحسم السريع أو الانتصار المبكر، والتي كانت ستقع ثقيلة وموجعة على القضية السورية، بحكم تفاقم منسوب القوة الروسية حضوراً وبطشاً وضياعاً نهائياً للحق السوري؛ أما هزيمةُ روسيا مبكرةً وخفيفةً كانت، أم متأخرةً وثقيلةً؛ فلابد أن يكون تأثيرها إيجابياً على القضية السورية. هاهي قوة بوتين عسكرياً واقتصادياً وسياسياً يتم استنزافها بشكل غير مسبوق، وبالتالي الحضور الروسي السياسي والعسكري في القضية السورية سيكون شبه معدوم، وسيحدث اختلال واضح في ميزان القوى المتدخلة في الشأن السوري.     

أميركا حتماً ستتفرعن قوتها، وكذلك إسرائيل وتركيا وإيران. ورغم أن إيران ستبدو بحال أفضل بسبب تخفيف حدة التنافس بينها وبين روسيا على كل شيء هناك، ولأنها ستعتقد أن هذه فرصتها لسد الفراغ الروسي، إلا أن غياب تلك الاعتمادية المتبادلة الضرورية بينهما أرضاً وجواً ستصبح من الماضي؛ وإسرائيل أيضاً ستكون بلا ظوابط، وخاصة إن تم توقيع الاتفاق النووي. تركيا من جانبها ستكون المستفيد الأكبر بحكم ابتعادها نسبياً عن روسيا واستعادتها للودّ الأميركي والأوروبي والناتوي. وهكذا سيكون الكل ضد الكل، والتوتر لن يكون قليلا. وهنا تأتي فرصة السوريين الذهبية لاستعادة بلدهم وحريتهم؛ فنظام الاستبداد ليس أكثر من ورقة استخدام مؤقت بلا قيمة أو سيادة تغري بوتين ليرسلها إلى الإمارات نكاية نفطية بأميركا مستغلاً فتور العلاقة الخليجية الأميركية. السوريون أقرب لنيل حقوقهم. ولا أعتقد أن سورياً حراً يريد لبوتين “هزيمة صغيرة” في أوكرانيا. ولتحقيق ذلك لابد للسوريين وثورتهم ومعارضتهم من مقاربة مختلفة تجاه قضيتهم.

تلفزيون سوريا

————————-

روسيا بين سوريا وأوكرانيا/ رضوان زيادة

المتابع السوري للحرب في أوكرانيا سيكرر كثيرا العبارة الأميركية الشهيرة (I have seen this movie before) والتي تعني أنني سبق أن شاهدت هذا الفيلم من قبل، فنفس تكتيكات الحرب والقصف التي تستخدمها روسيا الآن في أوكرانيا قد سبق أن استخدمتها في سوريا من قبل.

قصف المشافي والمخابز وحتى الأشخاص الذين يقفون على الطابور من أجل حصولهم على لقمة العيش هم أيضا عرضة للقصف، اتهام الطرف الآخر (المعارضة السورية) بأنها ستسخدم السلاح الكيماوي وكأن روسيا تعرف بالغيب، ثم تعود هي ذاتها أو حليفها نظام الأسد باستخدام هذا السلاح كما أثبتت كل التقارير الدولية والأممية.

فرض الحصار الخانق اليوم على مدينة ماريوبول في أوكرانيا تماما كالحصار الذي فرض على داريا ودرعا وحلب الشرقية وغيرها من المدن السورية ثم إعلان ما يسمى الممرات الآمنة والتي تجعل المدنيين عرضة للقصف والابتزاز بنفس الوقت فإذا لم يخرجوا من هذه الممرات الآمنة فإننا سنقصف هذه المدن عن بكرة أبيها. ثم الكذب على المستوى الدولي مستغلة روسيا عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي حيث يردد مندوبها ووزير خارجيتها ذات الأكاذيب التي رددها في سوريا من قبل ومتهما كل وسائل الإعلام الغربية جملة وتفصيلا بالكذب والخداع، وكأن العالم لا بديل له سوى قناة روسيا اليوم الحكومية التي هي جزء من الدعاية الإعلامية الروسية.

وبالتالي فيلم أوكرانيا اليوم عاشه السوريون لحظة بلحظة ولذلك تكثر المقارنات اليوم بكثرة في وسائل الإعلام الغربية بين سوريا وأوكرانيا، بكل تأكيد، رد الفعل الأميركي هنا كان أقوى وبتنسيق دولي حازم من العقوبات إلى تمويل الحكومة الأوكرانية بالسلاح والمعدات مما جعل الجيش الروسي في وضعية صعبة للغاية اليوم بعد أن توقع أن يسيطر على أوكرانيا خلال ساعات أو أيام.

لكن في سوريا تَأخّر الرئيس أوباما تقريباً ستة أشهر حتى آب / أغسطس 2011 حينما طلب من بشار الأسد التنحي وأعلن أنه رئيس فقد شرعيته ودار نقاش حول الإجراءات الأميركية في حال قرَّرَ بشار الأسد بأن لا يلتزم، وهذا وضع الإدارة الأميركية وخطاب أوباما مرةً أخرى في تناقض، حيث لا يتم تتبع هذه الكلمات أو هذه الخطابات إجراءات الضرورية على الأرض من أجل تحويل هذه الأقوال إلى أفعال.

بعد ذلك، بدأت الإدارة الأميركية بالتركيز على فكرة العقوبات الاقتصادية وبدأت تحشد ما يُسمَّى فكرة مجموعة أصدقاء الشعب السوري من أجل دعم بُنِيَ على وهم في تلك الفترة على أن نظام الأسد لن يستطيع أن يقاوم الاحتجاجات السلمية التي بغلت مستويات ضخمة في مدن مختلفة في حمص وحماة إذا ما تمَّ تشديد العقوبات الاقتصادية ومنع التمديدات المالية التي تصله من الدول المختلفة. طبعاً رد فعل نظام الأسد كان الاستمرار في عمليات القتل واقتحام المدن والاعتقالات العشوائية وتحويل السجون إلى مراكز اعتقال جماعية، لكن موقف الإدارة الأميركية على مدى عام ونصف لم يختلف فكانت العبارات المستخدمة ذاتها بالتركيز على أن الأسد فقد شرعيته، وعلى أنَّ الموقف سيعتمد بشكل رئيسي على تشديد العقوبات الاقتصادية، وهذا هو عدم التوازن بين ما كان يجري على الأرض في سوريا وبين تقييم الإدارة الأميركية وخطابها السياسي. ونشأت الفجوة الهائلة بين عدد القتلى الذي وصل في تلك الفترة في سوريا إلى أكثر من مئة ألف وبين الخطاب الأميركي الذي يُركِّز على فكرة العقوبات الاقتصادية ويقوم بالعمل من خلال مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان في جنيف اللذين تَحوَّلا إلى مُؤسَّستين غير فاعلتين بسبب الفيتو الروسي والصيني. وبالتالي كانت الولايات المتحدة على مدى عام ونصف حذرة تماماً باتجاه أية خطوات إضافية أخرى تُغيَّر موقفها مما جرى من سوريا.

بعد ذلك انتقلت الولايات المتحدة إلى ما يُسمَّى تقديم المساعدات غير الفتاكة وهي، بشكل رئيسي، لتزايد حجم الأزمة الإنسانية. نحن نَتحدَّث عن أسوأ أزمة إنسانية في تاريخ البشرية بما يَتعلَّق بعدد اللاجئين وعدد النازحين داخل الأراضي السورية فنصف السكان السوريين بين لاجئين ونازحين؛ وفي الوقت نفسه لم يَتغيَّر موقف الإدارة الأميركية الذي حافظ على ذات النسق وهو التركيز على “Non-Lethal Assists” المساعدات غير الفتاكة. وأعتقد أنه كان هناك نافذة لتغيير هذه السياسة مع استخدام النظام الأسدي للأسلحة الكيماوية وهو ما اعتبره الرئيس أوباما خطاً أحمر يجب أن تتم معاقبته، لكن الصفقة الغامضة التي لم تُكشَف كل تفاصيلها التي تمت في 24 ساعة برعاية روسية من أجل تسليم النظام الأسد للسلاح الكيماوي ووقف هذه الضربة العسكرية أعتقد أنها لم تفلح أيضاً في منع الأسد من استخدام أنواع أسلحة أخرى وخاصة أنه استخدم بعدها بكثافة غاز الكلور السام الذي يترك أعراض شبيهة للسلاح الكيماوي. لذلك نستطيع القول إنَّ الإدارة الأميركية بالرغم من وعودها بما يَتعلَّق بمساعدة السوريين في حقهم في تغيير نظامهم السياسي أو في مساعدة السوريين في وقف هذه الأزمة الإنسانية فشلت فشلاً تاماً على المستوى الأخلاقي وعلى المستوى السياسي.

آمل أن لا تكون نهاية الفيلم في أوكرانيا كما كانت في سوريا، لكن بكل تأكيد على الأوكرانيين اليوم التعلم من الدرس السوري.

———————

السوريون والدرس الأوكراني/ بشير البكر

الاحتفالات الشعبية بالذكرى الحادية عشرة لانطلاق الثورة السورية وجهت رسالة واحدة إلى كل السوريين والعالم، وهي أنها على قدر كبير من الحيوية، وهذا يعني أنها يمكن أن تولد من جديد، كما في أول مرة نزل فيها السوريون إلى الشارع يهتفون من أجل الحرية والكرامة. وفي حقيقة الأمر لم يصمت السوريون طوال الأعوام الماضية، بل ظلوا يرفعون الشعارات ذاتها، وينشدون الأهداف نفسها، ولكنهم تدريجيا وجدوا أنفسهم وحدهم، وكادت ثورتهم تصبح قضية لاجئين، يناضلون من أجل تحسين شروط اللجوء، سواء في دول الجوار أو العالم، من خيام وأدوية ومساعدات إنسانية، باتت تخضع لمساومات سياسية دولية، بسبب تدخلات روسيا غير المحدودة في الشأن السوري.

الوضع يختلف اليوم عنه في الأعوام السابقة بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، ورغم أن الصورة النهائية للميدان لم تتضح هناك، فإن ذلك لا يمنع من رسم بعض الخطوط العريضة. ويأتي في المقدمة أن موسكو لن تخرج من هذه الحرب كما دخلتها، بل ستفقد الكثير من أوراق قوتها سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وهذا أمر من شأنه أن ينعكس على الوجود الروسي في سوريا على هذه المستويات. والأمر الثاني هو أن روسيا سواء ربحت الحرب أم خسرتها، فإنها ستخرج منها ضعيفة عسكريا واقتصاديا، فهي تتعرض لخسائر بشرية ومادية كبيرة على الأرض الأوكرانية، وستنال منها سياسة العقوبات التي ستدوم سنوات، ويكون تأثيرها أشد قسوة من النتائج العسكرية.

والنقطة الثالثة الجديرة بالاهتمام هي إن التعامل مع الثورة السورية ضد النظام سوف يختلف، وقد تردد كثيرا خلال الأسابيع الأربعة من غزو أوكرانيا مقارنة على ألسنة المسؤولين الغربيين، وخاصة الأميركيين، بين سلوك روسيا في أوكرانيا وسوريا، لجهة التدمير واستخدم السلاح الكيماوي، وهذا يفتح نافذة مهمة على صعيد دعم الملفات القانونية السورية التي تهدف إلى محاسبة مجرمي الحرب في سوريا من النظام والروس والإيرانيين.

والأمر الرابع هو أن السوريين تفاعلوا مع هذا الحدث ووجدوا أنفسهم في داخله، وهذا يعني أن هناك استعدادا للمضي في هذا الطريق، بما يمكنهم من الاستفادة من دروس أوكرانيا، ويأتي في مقدمة هذه الدروس الوحدة الوطنية من أجل تحقيق الأهداف المشتركة. ولاحظ العالم أن قوة الشعب الأوكراني الأساسية تكمن في وضع خلافاته السياسية والثقافية والعرقية جانبا، وتوحده من حول هدف وهو مواجهة الغزو، وهذا الموقف جمع الكنيسة والمسلمين واليهود بالقوى السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار من عسكر ومدنيين، نساءً ورجالاً، ومن كل الحساسيات العرقية تحت راية واحدة، ما فرض احترامهم على العالم، وألقى عليه مسؤولية الوقوف إلى جانبهم، وهذا ما يجب الاقتداء به من قبل السوريين الذين يجب أن يضعوا نصب أعينهم طرد الاحتلالين الروسي والإيراني، وإسقاط النظام العميل لموسكو وطهران، والذي تحول إلى وكيل لإدارة مصالحهما، ويجب أن تبدأ الوحدة الوطنية السورية من إعادة هيكلة الوضع السوري العام، ويتطلب ذلك الاتفاق على تشكيل حركة سياسية سورية واحدة تضم كل السوريين بكل حساسياتهم ومكوناتهم تتفق على هدفين مرحلي هو التحرير والتخلص من الاحتلالين، وبعيد المدى هو إعادة بناء سوريا المستقبل، الدولة التي يجب أن يجد السوريون كافة تمثيلهم فيها سياسيا وثقافيا.

لا يعني هذا هدم ما هو قائم، بل إن ما هو موجود من هيئات ومؤسسات سياسية وتشكيلات عسكرية، يمكن له أن يكون الحامل لهذا المشروع شريطة أن يتم إعادة الهيكلة، وفق نظرة جديدة تضع هدف طرد الاحتلالين في الصدارة، وهذا يتطلب من الجميع أن يتنازلوا عن أهدافهم المرحلية وحساباتهم ومكاسبهم الراهنة من أجل تحقيق الهدف الرئيسي. ومهما كانت أهمية العوامل الخارجية فإن هذه مهمة سورية مئة في المئة، وما لم تنهض بها الأطراف السورية، فإنه لا أحد يمكن أن ينجزها، بل من المتوقع أنها ستجد معارضة من عدة أطراف إقليمية ودولية، تجد نفسها مستفيدة من تشرذم الوضع السوري، وبعضها يجد مصلحته في تفكيك سوريا.

لو لم يتوحد الأوكرانيون في الميدان ويقاتلوا الغزو الروسي بعزيمة وشجاعة عالية، لما وجدوا الدعم الدولي السياسي والعسكري والمادي، ولو أن قيادتهم تركت الميدان، وانتقلت إلى الخارج لكان اختلف اتجاه المعركة، وهذان درسان يجدر بالسوريين أن يستفيدوا منهما، كي لا تأتي الذكرى الثانية عشرة للثورة، وتجدهم على ما هم عليه اليوم.

تلفزيون سوريا

————————–

المعارضة السورية والرؤية القاصرة للحدث العالمي “الأزمة الأوكرانية”/ رانيا مصطفى

شكل الغزو الروسي لأوكرانيا بداية لمتغيرات كبيرة تخص التوازنات الكبرى على الساحة الدولية، وتغييرات في سياسات الدول العظمى، أمريكا والصين وروسيا والهند والاتحاد الأوروبي… باتجاه تشكيل تحالفات وتقاربات جديدة؛ وتبحث الدول الإقليمية، تركيا وإيران وإسرائيل، والدول العربية، عن مصالحها، مستغلة الخلافات بين الدول الكبرى.

يشكل الملف السوري واحداً من الملفات الشائكة التي تتقاطع حولها مصالح الدول العظمى والإقليمية؛ فمنذ اتفاق موسكو لوقف إطلاق النار في إدلب في آذار 2020، ظلت حالة الركود السياسي والعسكري مسيطرة على المشهد السوري، وترسخت خرائط النفوذ بتوافق ضمني بين الدول اللاعبة فيه، وما زال الوضع مستمراً، مع تعنّت الروس في تنفيذ التزاماتهم حول اتفاق جنيف 1 والقرار الأممي 2254، ورفْضِ الأمريكيين والأوروبيين للحل الروسي بإعادة تعويم النظام، وتردُّد العرب ثم امتناعهم عن إعادة العلاقات مع دمشق، خوفاً من عقوبات قانون قيصر.

زاد الأمريكيون والأوروبيون من تصعيدهم ضد نظام الأسد، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، لتشديد الضغط على روسيا، بتفعيل ملف المحاسبة وتشديد العقوبات، لقطع أية مساعٍ روسية في هذه المرحلة لإعادة تعويم النظام وعودة اللاجئين وإعادة الإعمار؛ ولا تغيير في السياسة الغربية تجاه سوريا، والمتمثلة في إعاقة الحل الروسي، بل هناك تشدُّد في تنفيذها.

زاد التقارب الإسرائيلي الروسي بزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى موسكو، للعب دور الوسيط بين موسكو وكييف، ولم تعلن تل أبيب تأييداً واضحاً للموقف الأمريكي والأوروبي، بسبب امتعاضها من التغاضي الأمريكي عن سياسة إيران التوسعية في المنطقة، واقتراب العودة لإحياء الاتفاق النووي الموقع في 2015. فإضافة إلى ضمان بقاء التنسيق الروسي- الإسرائيلي حول السماح لتل أبيب بتنفيذ ضرباتها على المواقع الإيرانية في سوريا، وكان آخرها الأسبوع الماضي، تراهن إسرائيل على الموقف الروسي الجديد المعرقِل لمساعي العودة إلى الاتفاق، بعد أن كانت موسكو وسيطاً خلال الأشهر الماضية، كما كانت قبل سبع سنوات حين أنجز الاتفاق الأول، حيث تشترط روسيا على واشنطن تقديم ضمانات مكتوبة بألا تشمل العقوبات التي يفرضها الغرب على موسكو بسبب غزوها لأوكرانيا، العلاقات التجارية والعسكرية والتقنية بين موسكو وطهران.

بات الغرب أكثر حاجة إلى إحياء الاتفاق النووي، للاستفادة من موارد الطاقة الإيرانية، كبدائل عن النفط والغاز الروسيين؛ وطهران بدورها متشوقة إلى رفع العقوبات عن اقتصادها، ودخولها الأسواق الدولية، وامتلاء خزائنها بالمال، اللازم لاستكمال سياستها التوسعية في المنطقة، وللاستفادة من غلاء أسعار النفط والحاجة الأوروبية له. وهنا تفترق إيران مع روسيا؛ وبالتأكيد هذا له انعكاساته في علاقتهما كشريكين متنافسين في سوريا.

النظام السوري، بدوره، يجيد استغلال الفرص، فهو يعتاش على التناقضات بين الحليفين الداعمين له، روسيا وإيران، ويرى الحضن الإيراني أكثر دفئاً من الحضن الروسي؛ ورغم إعلانه الدعم الكلي لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، بإخراج مسيرات تأييد ترفع صور بوتين وأعلام روسيا، أرسل، في الوقت نفسه، نائبه الأمني، علي مملوك، إلى طهران، واستقبل قائد الحشد الشيعي العراقي في دمشق، في ظل انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا.

هناك أيضاً تقارب إسرائيلي- تركي، تمثَّل بزيارة فريدة لرئيس إسرائيل إلى أنقرة؛ فتركيا، العضو في حلف الناتو، تتلاقى مع إسرائيل في امتعاضها من الغرب، ولديها خلافاتها مع أمريكا، ضمن حلف الناتو وخارجه، وكلا البلدين، إسرائيل وتركيا، يسعيان إلى لعب دور الوساطة في الأزمة الأوكرانية. تركيا حليف لروسيا في سوريا، ورغم أنها لا تأمن جانب الناتو، لكنها تفضل البقاء في الحلف الغربي، وقدمت طائراتها المسيرة، بيرقدار، إلى حكومة كييف، وحاولت تبرير ذلك تجنباً لغضب روسيا، الأمر الذي سينعكس سلباً على توافقات البلدين في سوريا، خاصة ما يتعلق بالمخاوف التركية على حدودها، من أن تلعب روسيا بالورقة الكردية. وبالتالي تركيا تضع نفسها على الحياد، قدر المستطاع، ريثما تتضح ملامح تهدئة، تبدو بعيدة، في أوكرانيا.

ومثل تركيا وإسرائيل، فضّل مجلس التعاون الخليجي البقاء على الحياد، خاصة مع التباعد الأمريكي- السعودي والإماراتي، بسبب تغاضي واشنطن عن هجمات الحوثيين في اليمن على البلدين، وتستمر إدانة واشنطن للسعودية خلفية قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي، وانتهاكاتٍ لحقوق الإنسان، وهذا التباعد تصاعد في الآونة الأخيرة، مع رفض السعودية زيادة إنتاج النفط لتخفيض سعره عالمياً، والذي قوبل بزيادة التنديد الأمريكي بانتهاكات حقوق الإنسان في السعودية. لكن الرياض، ورغم اهتمامها بشريكها الروسي، باعتبارهما العضوان الأكثر تأثيراً في تحديد سعر النفط في منظمة أوبك+، ما زالت تميل إلى التحالف مع الغرب والولايات المتحدة، وتريد استثمار الحاجة الغربية إلى الدور السعودي.

قد تنتهي الحرب في أوكرانيا، بدخول بوتين إلى كييف، أو بالتوصل إلى اتفاق بين بوتين وزيلنسكي؛ لكن هذا لن يوقف حالة التوتر الدولية، بين روسيا وحلف الناتو، ومن المبكر التنبؤ بإمكانية جلوس الطرفين على طاولة الحوار لإقرار حدود ومجال كل طرف. هذا يعني أن لا متغيرات كبيرة حول الوضع السوري، بل المزيد من الاستنقاع والتأزم، وابتعاد أكبر عن الحل، مع تعمق الخلاف الأمريكي الروسي.

رغم أن هذا الظرف الدولي، أي إعادة تشكيل التوازنات الدولية، مواتٍ لحراك سياسي سوري معارض، يمكن أن يستثمر في الخلافات الدولية الراهنة، يضاف إليه حالة الضعف الشديد للنظام، سياسياً واقتصادياً وشعبياً؛ لكن غياب الإرادة السورية عن الفعل، بسبب حالة التصحر السوري المعارض، تمنع مثل هذا الحراك. فقيادات المعارضة المكرسة في الخارج مرتهنة لإرادات الدول الداعمة لها، وذلك يشمل كل مؤسساتها، من الائتلاف وهيئة التفاوض ووفد اللجنة الدستورية ووفد أستانة. في حين أن قوى الأمر الواقع في الداخل، في مناطق النفوذ الثلاثة، تمنع أي حراك شعبي ممكن، ويسود الداخل السوري حالة يأس وإحباط، بعد فشل تجربة الثورة الأولى، وما جرى بها من قتل وتنكيل، وتقسيم قسري للجغرافية السورية، وما رافقه من تغيير ديمغرافي. وليس لتيارات المعارضة العاملة في الداخل أي تواجد على الساحة السياسية السورية، لأنها تعمل في ظل النظام، وتتقي قمعه.

مؤسسات المعارضة المكرسة في الخارج تحتكر العمل السياسي، ويتبادل أفرادٌ بعينهم المناصب القيادية فيها. فقد فشلت محاولة رياض حجاب مثلاً، بدعم قطري، عبر مؤتمر الدوحة الأخير، للانقلاب على هؤلاء الأفراد المسيطرين في المعارضة، وإنهاء دورهم، والبحث عن تشكيل جديد؛ وذلك بسبب التمسك التركي بالائتلاف وشخوصه ومسارات التوافقات مع روسيا.

هذا يعني أن المعارضة السورية في الخارج، فاقدة لأية إرادة سياسية مستقلة، ورهنت نفسها بالكامل للأجندة التركية التي تدور في الفلك الروسي إلى الآن. في حين أن الأمريكيين لا زالوا يعترفون بأن سوريا منطقة نفوذ لروسيا، وليس في جعبتهم خطة تجبر روسيا على تنفيذ المقررات الدولية، غير ممارسة ضغوط كبرى تمنع إعادة تعويم النظام. ويغيب الحراك السوري كلياً عن دائرة الفعل؛ وبالتالي أمام الوضع السوري، في الفترة القريبة المقبلة، المزيد من الاستنقاع والتأزم.

———————

التداعيات غير البعيدة للأزمة الأوكرانية على سوريا / غازي دحمان

باستثناء بعض التداعيات على المستوى الاقتصادي، لم تتبلور بعد التداعيات المحتملة على سوريا جراء الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث تشترك سوريا وأوكرانيا بوجود فاعلين أساسيين مشتركين في الساحتين، روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة لكون الأزمتين، السورية والأوكرانية، هما نتاج الصراعات الجيوسياسية، أو ما يمكن تسميته، الصراع على المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية نظراً لموقعها الجغرافي الحاكم.

تشكل سوريا في الفكر الإستراتيجي الروسي، الذي صاغه في العقود الأخيرة، الكسندر دوغين، الحد الجنوبي لأوراسيا، والذي يرتبط بدرجة كبيرة بالأمن القومي الروسي، وخاصة في الأجزاء الجنوبية “القوقاز” الذي يشكّل صداعا روسيا مزمناً، حيث تهب تيارات التأثير الإسلاموية؛ في حين تشكّل أوكرانيا الخاصرة الرخوة للأمن القومي الروسي، والسهول التي طالما سلكها الغزاة البولنديون والألمان لاحتلال روسيا عبر التاريخ.

حتى اللحظة، لا يبدو أن لدى خصوم روسيا أي رغبة في استغلال الساحة السورية لتشتيت القوّة الروسية وإضعافها، إذ تتركز الجهود بدرجة كبيرة على تضييق ساحات المواجهة مع روسيا إلى أبعد الحدود، ومحاولة إدارة الأزمة الأوكرانية بحذر حتى لا تخرج عن حدود أوكرانيا وتتسبب في صدام مع روسيا قد يخرج عن السيطرة ويتحوّل إلى صراع عالمي لا يرغب أحد به في هذه المرحلة.

لكن هذا الوضع لن يبقى على الدوام، ثمّة مؤشرات عديدة على أن العالم يعود بزخم إلى الحرب الباردة، وان الأزمة الأوكرانية، ومهما كانت نتائجها ومخرجاتها، فتحت الباب أمام صراعات مستقبلية، ستكون روسيا وحلف الناتو في قلبها، وهذا الصراع سينتقل إلى ساحات عديدة، وخاصة تلك التي تعتبر خواصر رخوة يمكن من خلالها تشتيت الخصم واستنزاف طاقته وإضعافه، ولا شك فإن سوريا تعتبر ساحة مثالية لتحقيق هذه الأهداف ضد روسيا لأسباب عديدة:

    بعد سورية عن مراكز الغرب الحيوية، وبالتالي فإن الصراع فيها سيكون أكثر مرونة منه في أوكرانيا القريبة من حدود الناتو والمتداخلة مع مراكز المدن الغربية، إذ أن أي خطأ في هذه الرقعة ستكون نتائجه كارثية على الطرفين.

    الفوضى الموجودة في سوريا، نتيجة وجود قوى عديدة متنافسة، محلية وإقليمية ودولية، وإمكانية استخدام الوكلاء بكثافة في الحرب فيها، كما أن قواعد الاشتباك في سورية تتميز بمرونة شديدة نتيجة هذه الفوضى وتعدّد الفاعلين.

    عدم تأثير الحرب في سوريا على التفاعلات الاقتصادية العالمية، ولن تتأثر الأسواق الكبرى بتداعيات الحرب السورية، ويبدو أن أوروبا أصبحت أكثر أمانا من موجات لجوء محتملة قد تأتيها من سورية نتيجة الإجراءات الأمنية التي جرى تصميمها في السنوات السابقة على حدود الإتحاد الأوروبي الجنوبية والشرقية، وكانت أزمة اللاجئين الأخيرة من بيلاروسيا إلى بولندا اختبارا مهماً لمناعة الحدود الأوروبية.

لكن، لماذا الاعتقاد بأن ثمة تداعيات مستقبلية حتمية على سورية نتيجة الأزمة الأوكرانية؟.

لقد نبهت أزمة أوكرانيا الغرب إلى ضعف إستراتيجيات المواجهة مع روسيا والصين، وكذلك ضآلة الموارد المخصصة لهذه المواجهة، مع أن لا بكين ولا موسكو كانتا تخفيان تحديهما للنفوذ الغربي وتهديدهما لمصالح الدول الديمقراطية، بل أن بعض الدوائر الغربية ذهبت إلى إرضاء روسيا في محاولة لإبعادها عن الصين، التي ترى التقديرات الأمريكية أنها ستشكّل في المرحلة القادمة خطراً على الديمقراطيات الأسيوية والمصالح الأمريكية في منطقة المحيط الهادي.

تجلى ضعف الموارد المخصصة لدعم إستراتيجيات المواجهة ضد روسيا والصين في إفراغ بعض المناطق، وخاصة الشرق الأوسط، والسماح لروسيا بالتمدّد من دون أي عوائق، وخاصة في سوريا، أما الضعف الإستراتيجي فقد ظهر عبر اعتماد أوروبا الكلي على الغاز الروسي رغم معرفة هذه الأطراف احتمال توظيفه سياسياً لإضعاف تأثيراتها القارية مقابل ترسخ السيطرة الروسية في أجزاء واسعة من القارة الأوروبية.

يمكن القول، أن الأزمة الأوكرانية، دفعت الغرب، وعبر الإجراءات العديدة التي اتخذها ضد روسيا، إلى تصحيح الأخطاء التاريخية التي تم ارتكابها، فإضعاف روسيا يجري على قدم وساق عبر العقوبات الاقتصادية الهائلة التي تم فرضها على موسكو، والتي ستكلّفها أثماناً باهظة.

لكن من غير المتوقع حسم الصراع مع روسيا في أوكرانيا خلال مدّة زمنية قصيرة، وثمّة احتمالات كثيرة لمسار هذا الصراع، من احتلال لكامل أوكرانيا وتنصيب حكومة موالية، أو اقتطاع أجزاء من أوكرانيا وترك بقية المناطق في حال من الفوضى والعطالة، وفق مبدأ تجميد الصراعات الذي تجيده روسيا وسبق أن طبقته في جورجيا، وحتى في سوريا، ومن ثم تحويل أوكرانيا إلى أزمة أوروبية، سواء بسبب استمرار تدفق اللاجئين، أو التهديدات الأمنية الناتجة عن الفوضى في بعض مناطق أوكرانيا، ويزيد من هذا الاحتمال انخراط مقاتلين أجانب في هذه الحرب.

من الطبيعي أن الغرب لن يكتفي بإعادة توازن القوى في أوروبا مع روسيا، ذلك عنصر من عناصر إستراتيجية باتت مؤكدة، لكنه سيسعى أيضا إلى استنزاف روسيا، والبحث عن أي نقطة ضعف لها في مناطق انتشارها خارج أوروبا، بالإضافة لذلك، باتت سورية تشكّل معضلة إستراتيجية لمنظومة الأمن الأوروبي بعد أن أنشأت روسيا فيها قواعد عسكرية وزودتها بأنواع من الأسلحة يمكنها التأثير على جنوب أوروبا وسواحل البحر الأبيض المتوسط.

لا يمثّل ذلك كامل الصورة التي من المحتمل ان تكون عليها سوريا نتيجة تداعيات الأزمة الأوكرانية، فاصطفاف نظام الأسد بشكل قوي وصريح إلى جانب روسيا سيدفع الأطراف الغربية الفاعلة، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، إلى عدم الاهتمام بالحل السوري في المرحلة المقبلة، والأخطر من ذلك أن قضايا مثل التعافي المبكر وإعادة الإعمار أصبحت من الماضي، ليس فقط انتقاما من نظام الأسد على موقفه في الأزمة الأوكرانية، ولكن لأن موارد الغرب وطاقاته ستذهب إما إلى إعادة إعمار أوكرانيا في حال تمت هزيمة بوتين، أو لتدعيم دول أوروبا الشرقية، الأعضاء في الناتو والإتحاد الأوروبي.

————————–

سوريا الى أين بعد الغزو الروسي لأوكرانيا ؟ / عمار ديزب

العالم بعد غزو أوكرانيا، ليس هو ذاته قبل هذه اللحظة. بوتين يعلن رفضه القاطع لاقتراب الناتو إلى حدود روسيا، وأن أوكرانيا ليست دولة من أصله، وما أعطاه لينين لها من استقلال لن يستمر. ليس الأمر هكذا فقط؛ بوتين يرفض كذلك التحاق أوربا الشرقية بحلف الناتو، ويريد إعادة الأخيرة إلى ما قبل 1997. المعركة في أوكرانيا، وحدت حلف الناتو والإدارة الأمريكية، وأرسلت الأخيرات قوات عسكرية لتعزيز دول البلطيق اّلثلاثة، وبولندا، وفرضت أوربا وأمريكا عقوبات اقتصادية جديدة، وسيتم قطع إمدادات الطاقة بين روسيا وأوروبا، وإخراج روسيا من نظام السويفت، وعزلها عن النظام المالي العالمي.

أكدّ بوتين، ومن أجل تقوية موقفه شعبياً، أن أوربا وأمريكا كانت ستفرض عقوبات جديدة؛ بغزوٍ أو بدونه. إذاً غزو أوكرانيا لم يوقفه التهديد بالعقوبات، وستتأزم العلاقات بين روسيا وأمريكا وأوروبا أكثر فأكثر؛ سورية ستتأثر بذلك، فهي متروكة دون أيِّ حلٍّ سياسيٍّ منذ 2018، أقلّها، حيث فرضت روسيا سيطرة على مناطق أوسع، وكانت تحت سيطرة الفصائل، ولصالح النظام، بينما انحصرت الفصائل التابعة لتركيا وهيئة تحرير الشام في جيوب حدودية؛ وظلّت قسد تحوز على مناطق واسعة شرق وشمال سورية. تأزم العلاقات بين الدول أعلاه، سيعني أن سورية وُضِعت بثلاٍجة أكثر إحكاماً وصقيعاً، وأوضاعها متروكة إلى مزيدٍ من التأزم الاقتصادي والاجتماعي، وهناك محللون يؤكدون أن الخطوة التالية في سورية تقسيمها إلى ثلاثة مناطق. وبغض النظر عن المبالغة، فهناك حدود مرسومة للأراضي السورية، وتسيطر عليها وتحميها، كل من تركيا وروسيا وأمريكا، وضمناً إيران.

 إن فرض عقوبات جديدة على روسيا، سيعني أن الأخيرة ليست بوارد التفاضل بين أوكرانيا وسورية، وجاءت زيارة وزير الدفاع الروسي، لتقول بأن بلاده ليست بوارد أية “مداكشات” هنا وهناك، وأنها تريد إرساء نظاماً دولياً متعدد الأقطاب، وستحاول استعادة مجد الاتحاد السوفيتي سابقاً، وسورية درّةهذه الاستراتيجية على البحر المتوسط، وبالتالي ستستمر روسيا بإشاحة النظر عن القرارات الدولية التي تنصف الشعب السوري، ومتابعة العمل بمسارات الاستانة، وسوتشي، واللجنة الدستورية، ومحاولة تطويق قسد، والمناطق المضطربة تحت سيطرة النظام، كالسويداء أخيراً.

مشكلة سورية أنها أصبحت ورقة بيد الروس، ولا توجد دولة بمقدورها تجاوز شروط الاحتلال الروسي لسورية، وأيضاً، ليست الولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا بوارد التنازل لروسيا عن سورية كاملة، ولكن ليسوا بعجلة من أمرهم للبحث عن تسوية أيضاً. حتى أوكرانيا، التي يرى بعض المحللين أن أوروبا وأمريكا سارعتا إلى نصرتها، ليسوا بمنصفين؛ فأكثر ما فعلته القوتان السابقتان، هو دعمها ببعض الأموال والسلاح، وفرض العقوبات، وهو ما سخر منه الرئيس الأوكراني في قمة ميونيخ للأمن قبل عدّة أيام.

التأزم الجديد عالمياً، لا يمنع إمكانية الوصول إلى صفقات سياسية، ولكنها حالياً غير واردة بخصوص سورية أو أوكرانيا، والغزو الروسي، قد يشيح النظر لوقتٍ غير قصير عن أوضاع سورية. الآن هناك رفض من مؤسسات هيئة الأمم المتحدة للغزو؛ والروس قالوا إنها ليست دولة، أو أصبحت دولة بفضل الثورة البلشفية، وستعود إلى الحضن الروسي. هذا الوضع يدفع للقول إن سورية أصبحت من جديد بوضعية معقدة لغاية، فأوضاعها تزداد سوءاً، وأزمتها الاقتصادية كارثية بكل المقاييس، واحتجاجات السويداء، لن تكون النهاية، وستندلع احتجاجات جديدة أخرى؛ فهناك ارتفاع يومي للأسعار في الأسواق، وفي المناطق الثلاثة، وهذا يعني أن احتجاجات قادمة لا محالة.

الدول المتدخلة في سورية مشغولة بأوكرانيا، والتأزم بينها يجمدالبحث عن صفقة، فهل لدى السوريين بدائل عما هم فيه من انقسامات وتفكك واحتلالات؟ النظام ليس بوارد التفكير بأيِّ تغيير؛ فهو يعتقد أن روسيا وإيران طوع بنانه، رغم خضوعه لهما، وستعيدان له كل سورية، وليس من مشكلة إن لم تعد بعض المناطق. مشكلته أن حلفائه لا يمتلكون إمكانيات لدعم مدنه، وسياساته قائمة على الفساد والنهب، وكذلك غير قادر على إيقاف ما ذكرنا، ويُصدِرُ يومياً ضرائب جديدة، ويتفنن في سرقة أموال السوريين، في الداخل وعبر الحوالات، وعبر قوانين تخص كل عمليات البيع والشراء، ورفع أسعار الوقود والخبز، وإلغاء الدعم، وسواه كثير؛ وفي ذلك يقول رئيس وزراءه، أن لا خيار أخر لدى النظام، وسياسات اللبرلة والخصخصة لن تتوقف.

أيضاً المعارضة، ليست بوارد التغيير والتقارب بين أطرافها؛ فقسد لها مساراتها، والائتلاف الوطني له مساراته، وهيئة تحرير الشام تابعة بقضها وقضيضها للأتراك، وتناور لتكون تحت الرعاية الأمريكية تارة أو الروسية أو الإيرانية، ولن نتكلم عن إمكانية أن تكون قيادات رئيسية فيها تابعة لإيران أو للنظام السوري. المقصد هنا، أن الأطراف السورية، جميعها، ولأسبابٍ كثيرة ليست بوارد التقارب فيما بينها. ندوة الدوحة الأخيرة استثنت الأكراد أو تفكيك الائتلاف، وندوات تعقدها قسد في هذه العاصمة الأوربية أو تلك، ولنقل تشارك فيها، وأيضاً لا تمثيل للائتلاف فيها، وكذلك ليس من لقاءاتٍ سرية بين هذه الأطراف، وبحثاً عن صفقة تجمع مناطق قسد والفصائل التابعة لتركيا. تشكل الخلافات بين تركيا والإدارة الأمريكية بخصوص الوضع في سورية، وفي تضارب المصالح بين الدولتين مانعاً لإيجاد صفقة ما بين الأطراف السورية، وعدا ذلك، فالموقف التركي المتشدد ضد الأكراد، وليس فقط قسد ومسد، يمنع ذلك، سيما أن قسد تحالفت بقوة مع التحالف الدولي لمحاربة داعش بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي لن تتخلى الأخيرة عن قسد، وإن كانت أيضاً لا توافقها على رؤاها المختلفة، ودائما تطالبها بالحوار مع بقية الأطراف الكردية، وأيضاً تضغط عليها لتتخلى لتركيا أو روسيا عن بعض المناطق، وهذا متعلق بتدوير الزوايا بين كل من الإدارة الأمريكية وروسيا وتركيا وإيران وإسرائيل.

هيئة تحرير الشام خاضعة لتركيا، والأخيرة تترك لها التفنن بأشكال السيطرة على ملايين السورين، الذين تحت سيطرتها، وكذلك روسيا والإدارة الأمريكية لا تفعل شيئا حيالها، وكأنّ الجميع يترك للهيئة أن تحكم وتسيطر وتنهب، وليقول لبقية السوريين، اصمتوا، فالبديل عن النظام أو قسد أو الفصائل أسوأ، إنها هيئة تحرير الشام، وربما عودة داعش تأتي بهذا الإطار.

سورية متروكة يا سادة لقوى الأمر الواقع، وهؤلاء لا يجدون حلاً يتوافقون عليه؛ وأيضاً، ليس من مبادراتٍ شعبية، أو سياسية مستقلة، وقادرة على الوصول إلى ذلك الحل وفرضه. الاحتجاجات قد تندلع من جديد، وروسيا ستتشدد ضدها، فهي لن تسمح بعدم الاستقرار في مناطقها. إن روسيا، ستفاوض أوربا وأمريكا بأوراق جديدة، منها سورية ومنها شرق أوكرانيا او أوكرانيا بأكملها، وهناك شروطها على أوروبا وأمريكا بما يخص أمنها القومي، ولكن غياب المصالح الأمريكية حالياً بالتفاوض وربما رغبة أمريكا بتأزيمٍ أكبر للعلاقات الأوربية الروسية؛ وضمن ذلك، إن سياسة فرض العقوبات على روسيا لا تبشر بخيرٍ قريبٍ على سورية أو أوكرانيا؛ ربما ليس خاطئاً القول إن أقطاباً جديدة تَفرض نفسها عالمياً على جثة سورية والسوريين، وهذا، كما قلت قد لا يمنع التفاوض، ولكنه أيضاً غير مطروحٍ حالياً بين الدول العظمى، والمتدخلة في سورية وأوكرانيا أيضا؛ هذه هي أوضاع العالم وسورية بأسوأ مكانٍ فيه.

————————–

روسيا الآن : نحو أيديولوجيا جديدة لـ”تحرير ” العالم/ تيمو فيرميولين

هذه المقالة جزء من مشروع (جال) الذي يتعاون فيه “رصيف22 ” و”درج” مع عدد من الجامعات والأكاديميات حول العالم لنشر جهود الباحثين/ات الشباب وتقديمها للقارئ العربي، للإضاءة على المفاهيم البحثية، والمقاربات الجديدة التي تنتجها المؤسسة العلمية، وذلك لإغناء المحتوى العربيّ، وتشجيع الباحثين/ات الشباب على إطلاق أفكارهم/ن خارج جدران الأكاديميّة.

“من من الحكام حالياً شرعي، ومن لا شرعي”، طرح هذا السؤال البلاغي وزير الخارجي الروسي سيرجي لافروف عام 2013 في الدورة 49 من “مؤتمر ميونخ الأمني”، ليتابع بعدها طرح سلسلة من الأسئلة، “متى يكون مقبولا التعامل مع أنظمة قمعية؟ ومتى يكون مقبولاً دعم الحركات العنيفة  التي تريد لإطاحة بها؟”، ليكشف بذلك موقف روسيا من  الربيع العربيّ، وخصوصاً سوريا التي تدخلت فيها روسيا عسكرياً بصورة رسمية عام 2015، لإنقاذ نظام الأسد من الانهيار.

أسئلة لافروف السابقة تدفعنا لإعادة النظر في مفهوم الشرعيّة، والبلاغة السياسية وراءها، وكيف تترجم على أرض الواقع، فمنذ منتصف القرن العشرين، مارست الولايات المتحدة (وأوروبا إلى جانبها) هيمنتها العسكرية والثقافية على العالم عبر مساءلة شرعيّة الأنظمة “الأخرى”، تلك التي لا تتطابق مع القيم التي تدعوا إليها ( الليبرالية الديمقراطية)، والتي لابد أن ينصاع لها العالم بالقوة أحياناً، وأي “نظام” لا يطبق  هذه القيم، مُهدد بأن “يُزال”، وهذا ما رأيناه سابقاً في العراق، وأفغانستان، ثم أوكرانيا الآن.

روسيا التي لم تتدخل في الشأن الليبي، ولا تريد تكرار التجربة الشيشانيّة، وجدت نفسها أمام فرصة سانحة لإعادة تقديم نفسها على الساحة العالمية عبر دعم النظام السوري عام 2015، والحفاظ على استمراره دون مسائلة شرعيته أو الإشارة إلى مبادئ “الديمقراطية” التي لا يتبناها، فسؤال شرعيّة أي نظام حكم، يبدو من وجهة نظر روسيا شأن داخلياً، لا دولياً، ولا دور للـ”قوى الكبرى فيه”، فالتدخل في سوريا مثلاً حسب لافروف عام 2017 كان “لإنقاذ النظام من الانهيار خلال أسابيع”، ذات الأمر سابقاً مع قاديروف، بالرغم من انتهاكات حقوق الإنسان المتهم بها، مهمته (بأمر من روسيا) هي إعادة بناء الدولة، ومع اجتياح أوكرانيا حالياً، تكشّف أكثر النموذج الروسي للـ”غزو” و”التحرير”، لنرى أنفسنا الآن أمام موقفين أيدولوجية من الشرعية والسيادة المحلية وكيفية التعامل معها من قبل دولة كبرى تمتلك حق الفيتو.

“بلاغات” الغزو ومفارقاته

الملفت للنظر  في النموذج الروسيّ هو توظيف بروباغاندا اللايقين كتمهيد للحرب، إذ بدأ الحديث عن الغزو الروسي  عبر الإشارة إلى فيديو مفبرك لم يصور بعد سينتجه الإعلام الروسي من أجل تبرير غزو أوكرانيا، هذا الفيديو غير الموجود و”اللاحقيقة” المرتبطة به، جزء من خطة روسية للغزو كشفتها الولايات المتحدة، واستبقت الحدث إن صح التعبير، لكن لابد من الإشارة إلى أن هذه التقنية سبق وأن نجحت في سوريا لمحاولة نفي استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية ضد المدنيين، لنصل إلى حالة من اللايقين، تنفي قدرة الصحافة  على إنتاج “الحقيقة” و رصد مبررات الغزو العسكري.

حين نقارن  ما سبق  مع غزو العراق ، نرى أن  المبرر الأمريكي اعتمد  على  معلومات استخباراتية، سريّة، لم يطلع عليها أحد، نُطقت علنا، مفادها أن صدام حسين يمتلك أسلحة نووية وكيماويّة، والتي حسب جورج بوش الابن “تهديد يجب أن يؤخذ على محمل الجد”، هذه المعلومات تبين لاحقاً أنها مغلوطة، لكنها شكلت لحظتها تهديداً لأمن العالم، لا فقط الولايات المتحدة، فالعداوة مع صدام حسين والتخلص منه يهدف لتحرير المنطقة من شروره، ذات الأمر مع طالبان التي آوت “عدو” الولايات المتحدة أسامة بن لادن، ولا بد من التخلص منها لإنقاذ العالم.

يتبنى النموذج الروسي في العلاقة مع “السكان الأصليين” بلاغة مختلفة عن تلك التي نتلمسها في السرديات الأوروبية والأمريكيّة، فالسكان الأصليون من وجهة نظر روسيا، أشقاء، كحالة الشعب الأوكراني (هدف بوتين بعيد المدى هو إذابة أوكرانيا في روسيا)، أو أصدقاء، كحالة الشعب السوريّ، وحسب الخطاب الرسمي الروسي على اللاجئين السوريين العودة لبناء البلاد وتحديد شكل الدولة التي يريدونها، “فعملية الإصلاح لن تكون سهلة”، في ذات الوقت هناك رهان على تاريخ سوريا الطويل مع الاتحاد السوفيتي سابقاً، إذ تجمع البلدين علاقة  صداقة  وتبادل الثقافي وغيرها من المبررات التاريخيّة التي أخذت شكل  دبلوماسيّة إنسانويّة، نتلمسها في زيارة طفلة سورية لبوتين، وأخرى روسية لأسماء الأسد.

يظهر الروسي أيضاً بوصفه مدافعاً عن الشعبين الأوكراني والسوري، يقف بجانبهم ضد الإرهابيين، أما في حالة الولايات المتحدة وأوروبا، الموقف مختلف، فالتدخل العسكري يهدف لتحرير السكان الأصليين المقموعين، المحرومين من حقوقهم والمنتهكة “إنسانيتهم”، هم شعوب تمتلك “قدرات هائلة” لكنها غير قادرة على الاستفادة منها، ناهيك أنهم يعيشون في ظل ظلم يمنعهم من ممارسة “الديمقراطيّة” واستعراض هوياتهم المختلفة، هم ليسوا أشقاء أو أصدقاء، بل شعوب أقل حظاً لابد من مساعدتها.

عن الرعب، مرتين

يحوي  النموذجان الروسي والأمريكي (والأوروبي)  عدو ذو خصائص واضحة، يجب الوقوف بوجهه كونه يشكل تهديداً أنطولوجياً. في حالة أوروبا والولايات المتحدة، العدو هو التشدد الإسلامي، طالبان تقيم الحدود الإسلامية وتدرب الجهاديين، تنظيم الدولة الإسلاميّة الذي استهدفه التحالف من بعيد يهدد أمن أوروبا عبر عملياته النوعية على أراضيها وغوايته للشباب الأوروبي، الذي يترك بلاده لينضم إلى ساحات الجهاد، هذا العدو يشكل تهديداً لا يمكن رصده بدقة، والأهم، هو عدو غريب عن القيم الأوروبية والأمريكيّة،  يغزو فكريا و يرهب مدن الآمنين.

العدو في النموذج الروسي أشد وضوحاً، في سوريا كانت الحرب ضد تنظيم الدولة ومعارضي الأسد المتشددين، أما التشدد الإسلامي بشكل عام وما ينتج عنه، فلا يوصف بأنه عدوا مباشر لروسيا، بالرغم من تاريخها في الصراع معه، ويتضح ذلك بتساهلها مع أشكال المقاومة الإسلامية كـ”حزب الله” أو المقاتلين الشيشان الخاضعين لأمرة قادريوف، فلا يهم ما ينتهك من حقوق إنسان، المهم أن هذا التشدد الديني غير موجه ضد روسيا.

في الحالة الأوكرانية، تلوح روسيا بغول أوروبي من المفترض أنه غير موجود أو تمت إبادته، والمقصود هنا “النازية الجديدة” التي حاربتها روسيا وهزمتها، بل أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ذكر هذه النقطة بالذات في خطابه الأخير، مذكراً الشعب الروسي بتضحياته ضد النازيّة.

استخدام العدو النازي ذو شرعية في روسيا كما في أوروبا بأكملها، هذا عدوا لابد من التخلص منه، وبالرغم من تكذيب أوروبا لادعاءت روسيا حول النازيين الجددد في أوكرانيا، لا يمكن إنكار امتلاك روسيا  تاريخاً وشرعيةً عسكرية في إطلاق هكذا لفظ على “عدو” شكل لها سابقا تهديدا وجوديا، وهذا ما ذكره بوتين حين الحديث عن السبب الرئيسي لغزو أوكرانيا، نحن أمام عدو يهدد وجود روسيا و”لا خيار آخر” .

الرعب الثاني وشرعية الغزو تتمثل بالسلاح  وأثره المدمر، حجج الحرب الأمريكيّة على “الأعداء” نابعة  من خطر السلاح المدمر على العالم، نووي صدام حسين، كيماوي بشار الأسد (فكك ضمن عملية سميت ماكينة المارغريتا)، بل أن داعش نفسها قُصفت خوفاً من أن يقع كيماوي الأسد بين أيديها، ذات التهديدات تطلق على كوريا الشمالية، هناك سلاح يشكل خطراً كونياً، لابد من ضبطه والتحكم به، الملفت، أن الرعب من هكذا احتمال، لا تراهن عليه روسيا ولا تلوح به، وقالها لافروف صراحةً، “الحرب النووية في أذهان أوروبا فقط”، التهديد باستخدام النووي لم يصدر عن روسيا، التي أمنت المفاعلات التي وقعت تحت سيطرتها في أوكرانيا.

دور الدولة “المُستعمرَة”

الواضح أن روسيا لا تدمر الدولة التي تحاول السيطرة عليها بعد تجربة الشيشان، ففي أوكرانيا نحن أمام زحف عسكري تقليدي، الطائرات تؤمن الطريق للقوى الأرضية وتتسع رقعة السيطرة، بسبب عوامل جغرافية لا يمكن تجاهلها، أما الحدود فمفتوحة لمن يريد المغادرة، لكن ما يلفت الانتباه هو عدم تدمير “الدولة”  و نفي دورها في تسيير شؤون المواطنين، حتى ولو كانت هذه الدولة شديد السوء وهذا ما نراه في سوريا بوضوح، ناهيك أن واحدة من حجج الاجتياح هي الاعتراف باستقلال وسيادة دونيتسك ودومباس أي منح “الشعب” حق أن يكون مستقلا.

ضمن النموذج الأمريكي الأوروبي المعاصر يوظف القصف من بعيد أو السيادة على السماء، وحين يتم الاجتياح كحالة العراق، تقع الدولة وعملتها و تفقد قدرتها على ضمان الحياة، لتتدخل مؤسسات المجتمع المدني في محاولة لسد هذه الثغرة، وتقديم المساعدات والتوعيّة الديمقراطية وغيرها مما يحول شرط الاستمرار بالحياة و”العمل” أحياناً إلى مساحة أديولوجيّة، والأهم يعزز دور القوى الغازيّة (الجيش الأمريكي في العراق أو أفغانستان) كضيوف لابد من رحيلهم في لحظة ما، هم غرباء، والتعامل معهم مشبوه دوماً.

في النموذج الروسي، الحفاظ على الدولة يأخذ شكلاً اقتصادياً واضحاً وعلنياً إذ تقيم روسيا صفقات مع  الدولة التي تغزوها و تكتسب شرعية مُحرك الاقتصاد، بل يمكن القول أنها تُخضع المساحة التي تسيطر عليها إلى سيادتها، هي ليست فقط قواعد عسكرية، كحالة  قاعدة حميميم في اللاذقية في سوريا، إذ تبرم روسيا عقود تخضع لقوانين دولية تحميها مستقبلاً، إذ تم تأجير القاعدة في سوريا  لعدد من السنوات للدولة الروسيّة، بالمقابل، القواعد الأمريكية في أفغانستان والعراق فهي مساحات محمية بالمدن، حصون لا يمكن الدخول إليها، والتعامل معها يتم بحذر شديد، خصوصاً أنها مساحات لتجارة الحرب التي تخصخص الأنشطة العسكريّة وتتعاقد مع الشركات العسكرية والمرتزقة المرخصين كـ”شركات أمنية”.

إعادة النظر في “الصراع”

بعيداً عن الآنية والحميات الوطنيّة، ما تشهده أوروبا الآن، وتاريخ الصراع بين الغرب والشرق يجعل سؤال الشرعيّة طارئاً، من يقرر ما الذي يحدث في العالم ومن يستحق أن يحكم أو لا، أوروبا قام نموذجها على مركزيّة حقوق الإنسان والانتصار لقيمة “الفرد”، الولايات المتحدة على محاربة الإرهاب ،الخطر الذي يهدد “العالم” بأكمله، أمام النموذج الروسي الذي لا يرى نفسه  مُبشر بقيم “جديدة”، بل يتبنى بلاغةً لا يقدم فيها نفسه كمتفوق أخلاقياً على “أعدائه” أو “أهدافه” .

لا نحاول هنا أن نكون سينيكيين أو مهادنين فيما يخص حقوق الإنسان، لكن لابد من إعادة النظر في شكل “الهمينة” الغربية وطبيعة القيم التي تفرض على “الشعوب” خصوصاً أننا الدول “الشرقية” الأكثر تأثراً في هذه التغيرات.

رصيف 22

————————

الغزو الروسي لأوكرانيا

===================

تحديث 24 أذار 2022

———————–

سوريا والعالم في ظل الحرب في أوكرانيا/ بكر صدقي

كما في شهر آذار/مارس من كل عام، تمت استعادة ذكرى ثورة 2011 بوسائل مختلفة، مظاهرات في سوريا وخارجها وكتابات وأنشطة ثقافية أخرى، برز منها هذا العام بيان أصدرته مجموعة من الدول الأوروبية والولايات المتحدة، حملت شيئاً من الإنصاف اللفظي لتلك الثورة المغدورة وضحايا بطش النظام الأسدي، وربما أحيت بعض الآمال الواهنة باحتمال استعادة القضية السورية لشيء من الاهتمام الدولي، بمناسبة الحرب الروسية على أوكرانيا وفي إطار الحملة الغربية غير المسبوقة في تضييق الخناق على بوتين.

وربما “بالمناسبة نفسها” استقبل بعض أركان الحكم في الإمارات العربية المتحدة الرئيس السوري في زيارة هي الأولى له إلى دولة عربية، بعد أحد عشر عاماً من العزلة العربية المفروضة عليه. وقد تكون تداعيات الحرب الروسية، هنا أيضاً، أحد العوامل التي لعبت دوراً مهماً في حدوث هذه الزيارة، وبالتحديد في إطار الاصطفافات التي فرضتها تلك الحرب بين روسيا وخصومها الغربيين.

في حين أن القمة الثلاثية التي عقدت قبل يومين في شرم الشيخ بين السيسي وبينيت وبن زايد تبقى مداراً للتكهنات، وإن كان الدافع هو نفسه، الاستقطاب الدولي الحاد بين روسيا والغرب، ويضاف هنا دافع آخر لا يقل أهمية هو تلهف الأمريكيين للانتهاء من مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني بتجديد اتفاق 5+1، وما يثيره ذلك من مخاوف لدى الدول الثلاث، وبخاصة إسرائيل والإمارات. هل حضر بشار الأسد على طاولة مباحثات شرم الشيخ من خلال مضيفه في أبو ظبي، قبل يومين، محمد بن زايد أم لا؟ هذا ما لا نعرفه حالياً، ولكن يمكن افتراضه بالنظر إلى امكان اعتباره ممثلاً للروس والإيرانيين معاً، وحضوره الافتراضي قد يهم بينيت بالتحديد بالنظر إلى أن الأهداف العسكرية الإيرانية التي تضربها إسرائيل بشكل دوري إنما هي في مناطق سيطرة الأسد من سوريا، ولا يعرف مدى التأثير المحتمل للحرب في أوكرانيا على حرية حركة الطيران الإسرائيلي في الأجواء السورية.

من المؤشرات الواهنة أيضاً إلى استعادة القضية السورية لبعض الاهتمام الدولي، حضور ممثل عن الخارجية الأمريكية لجلسات “اللجنة الدستورية” المنعقدة في جنيف في دورة جديدة، للمرة الأولى في سلسلة اجتماعات اللجنة المذكورة التي شكلتها روسيا قبل سنوات للالتفاف على قرارات مجلس الأمن بشأن سوريا. هنا أيضاً نلاحظ أن هذا الاهتمام الأمريكي الطارئ يأتي في إطار جهودها للتضييق على روسيا، فإذا نفع هذا الحضور الأمريكي في شيء فسيكون من الفوائد الجانبية للصراع في أوكرانيا.

ويمكن إدراج التغيير الإيجابي المفاجئ في خطاب “مجلس سوريا الديمقراطية” بشأن الثورة السورية، ورفع أعلامها في المظاهرات الشعبية في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” المتمتعة بالحماية الأمريكية، في ذكرى ثورة آذار/مارس 2011، في الإطار نفسه مما يمكن وصفه بـ”عودة أمريكية إلى سوريا” بتحفظ شديد. ومرد التحفظ هو وضوح الموقف الأمريكي في دعم خطة المبعوث الدولي إلى سوريا غير بيدرسون المعروفة باسم “خطوة مقابل خطوة”، وقد أعلنته في البيان الصادر عن اجتماع “مجموعة أصدقاء سوريا” الأخير في واشنطن قبل أسابيع، وأعلنت فيه أيضاً دعمها لعمل اللجنة الدستورية.

عموماً أدت حرب بوتين على أوكرانيا إلى استنفار في الغرب يذكر بسوابق قريبة تلت انتهاء الحرب الباردة، كما حدث بعد الاحتلال العراقي للكويت في 1991، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 على نيويورك وواشنطن. وإذا كانت المناسبتان المذكورتان قد أدتا إلى شن حروب غير متكافئة من قبل القوة العظمى الوحيدة على خصوم أضعف بكثير وبعيدين عن حدودها، العراق وأفغانستان والعراق مرة أخرى، فالاستنفار الحالي يبدو دفاعياً بالمعنى العسكري ولا يتوقع تحوله إلى حرب أمريكية – أطلسية ضد روسيا، ما لم تبادر الأخيرة بقيادة بوتين إلى توسيع حربها لتشمل بلداناً أخرى أعضاء في الحلف الأطلسي، وهذا مستبعد أيضاً بالنظر إلى الخسائر الكبيرة الي تكبدتها روسيا في حربها على أوكرانيا إلى الآن وتعثرها في التقدم الميداني، وبالنظر إلى الخسائر غير العسكرية، لكنها باهظة، أمام الغرب.

الأثر المباشر لهذه التطورات على القضية السورية يتعلق بتبعية نظام الأسد لروسيا، وقد عبر رأس النظام، بطريقة زاود فيها على بوتين نفسه، عن انحيازه المطلق لحرب معلّمه، وضد الغرب، بصرف النظر عن انعدام وزنه في أي حسابات دولية. وباستثناء تجنيده لمرتزقة سوريين للقتال في أوكرانيا لمصلحة الجيش الروسي لا شيء يمكن أن يضيفه إلى روسيا. بالمقابل عاد الاهتمام الأمريكي بسوريا من زاوية عدم ترك الساحة السورية لروسيا بعدما تفردت بها منذ العام 2015 بموافقة واشنطن. فإضافة إلى المشاركة الأمريكية المشار إليها فوق في مباحثات اللجنة الدستورية، من المحتمل أن القوات الأمريكية الموجودة بأعداد رمزية في الشمال الشرقي ستبقى إلى أمد غير منظور، بعدما كان انسحابها المحتمل يطرح في كل مناسبة، ولا يستبعد زيادة عديدها وتسليحها على وقع تطورات الصراع المستمر في أوكرانيا وعليها.

المتدخلون الإقليميون في الصراع السوري، يعيدون حساباتهم أيضاً في ظل الحرب في أوكرانيا، تركيا وإسرائيل والإمارات وغيرها، فلم يعد تدخل هذه الدول في سوريا محصور الأثر في الخريطة السورية ومحيطها القريب، بل من شأنه أن يحدد انحياز كل دولة من هذه الدول إلى المحور الروسي أو المحور الغربي، وما يترتب على هذه الانحيازات من موقع كل منها في نظام دولي جديد يخلف نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت ملامحه ترتسم منذ الآن.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

————————–

لماذا ستُهزم روسيا بحربها حتى لو انتصرت؟/ محمد سامي الكيال

تصاعد الحديث بقوة عن عودة عالم متعدد الأقطاب بعد بدء الحرب الأوكرانية الحالية، على الأقل من جانب مؤيدي روسيا ومناهضي الهيمنة الأمريكية. فتلك الحرب، بحسبهم، ستعيد ترتيب موازين القوى ومناطق النفوذ الدولي، كما ستكون لها آثارها الاقتصادية والثقافية، التي يمكن أن تصيب المركزية الغربية في مقتل.

إلا أن فكرة تعدد الأقطاب تبدو إشكالية للغاية، إذ يؤكد كثير من المؤرخين أن المنظومة الاقتصادية العالمية لم تكن يوماً “متعددة”. والاتحاد السوفييتي نفسه، في أوج قوته، لم يتمكن من فك ارتباطه بالاقتصاد السلعي والتجارة الدولية الرأسمالية، بل ظل دوماً على هامشها، يستفيد من عائداتها وريوعها.

كما أن الأزمة الاقتصادية، التي ساهمت في الإطاحة به، كانت جانباً من أزمة عامة في الاقتصاد العالمي، نجحت الدول الغربية بالخروج منها بفضل عوامل معقدة. إضافةً إلى أن الأشكال المتعددة للسلطة السوفييتية، التي انتقلت من “الدولة البوليسية” زمن ستالين، إلى “الدولة البيروقراطية الاجتماعية” في عهد خلفائه، لم تكن نموذجاً تنظيمياً وسياسياً فريداً، بل عُرفت لها نظائر سابقة ومعاصرة في دول كثيرة، على اختلاف أنظمتها، سواء كانت رأسمالية أو حتى عالمثالثية.

وبالتالي فإن ما جعل الاتحاد السوفييتي قطباً مضاداً لم تكن قدرته على ابتكار نموذج عالمي جديد لتسيير شؤون البشر، بقدر إمكانياته العسكرية ونفوذه الاستراتيجي، وربما بشكل أساسي سعيه للهيمنة الأيديولوجية، عبر نشر مجموعة من الأفكار والقيم على الصعيد العالمي. وإذا كانت روسيا المعاصرة ما زالت تحافظ على جانب كبير من الإرث العسكري السوفييتي، وتسعى إلى الدخول في لعبة الصراع الاستراتيجي مع الدول الغربية، فإن قدراتها على المستوى الثقافي/الأيديولوجي تبدو موضع تساؤل.

سبق للمنظرين والمثقفين السوفييت العمل بنشاط في كل المجالات، وعممت دور النشر والإذاعات ومؤسسات الإنتاج السينمائي والموسيقي السوفييتية الأفكار والجماليات، التي أرادت قيادة الاتحاد السوفييتي إيصالها للعالم بكل اللغات، ونجحت بتكوين قاعدة عالمية عريضة من المتابعين والمتعاطفين. مدعومةً بسلسلة من الأحزاب والتنظيمات الشيوعية، وحركات التحرر الوطني الموالية، ذات النفوذ الشعبي الكبير، اليوم يتحدث كثيرون عن أفكار جديدة تروجها روسيا، على رأسها أيديولوجيات الأنظمة التسلطية والحركات الشعبوية. ولكن هل هذا كافٍ لاعتبار روسيا بالفعل قطباً معارضاً للهيمنة الغربية؟

تتطلب مواجهة الهيمنة دوماً القدرة على إنتاج هيمنة بديلة، ليس فقط لمعارضة القيم التي ينشرها الخصم، بل لتحويل أي انتصار عسكري وقدرات استراتيجية إلى بديهيات أو “حقائق” في وعي أغلبية البشر، يتصرفون ويتخذون قراراتهم على أساسها. فما “الحس السليم” الذي يمكن أن تؤسسه روسيا عالمياً؟ ولماذا تبدو شديدة الضعف في مواجهة الأيديولوجيا الغربية المعاصرة؟

على الرغم من أن الاتحاد السوفييتي كان قطباً أيديولوجياً بمعنى الكلمة في مواجهة المعسكر الغربي، ونجح في مواضع وأزمنة كثيرة بالتفوق عليه قيمياً، إلا أنه يصعب الحديث عن “حس سليم” خاص بالهيمنة السوفييتية. فقد رفع السوفييت قيماً متفقاً عليها عالمياً، مثل الإنسانوية التفاؤلية، التي تحتفي بالتقدم والتحرر؛ الأخوة بين الشعوب، وحقها في تقرير مصيرها؛ المساواة بين البشر، ليس فقط على المستوى الطبقي، بل أيضاً عرقياً وثقافياً وجنسياً. لم يستطع أشد أعداء السوفييت النيل من قيمهم، وغالباً ما تم انتقادهم على أساس الفرق بين الشعارات المرفوعة والواقع المعاش للناس في الأنظمة الاشتراكية. ورغم الخلاف بين المعسكرين المتنافسين حول الفردانية والجماعاتية؛ والمساواة الاجتماعية المبدئية مقابل تكافؤ الفرص والسعي لاستغلالها، فلا يمكن اعتبار أن الاتحاد السوفييتي قد تجاوز المبادئ الكونية، التي رفعتها الدول الغربية نفسها منذ بداية الحداثة، بل ربما كان الطرف الأكثر أمانة لها.

بهذا المعنى فإن الصراع الأيديولوجي بين “الشرق” و”الغرب” قام على أساس تقاسم القيم الكونية. وادعاء كل طرف أنه الأكثر أمانة لها. تكلم السوفييت وخصومهم اللغة نفسها، وامتلكوا الحس السليم ذاته، إلا أنهم ربما أشاروا إلى أشياء وتفاصيل مختلفة. وعلى الرغم من أن روسيا الحالية لا تملك القدرة الأيديولوجية الهائلة للاتحاد السوفييتي، إلا أنها تبدو طامحة لما هو أكثر: انسلاخاً كاملاً عن الحس السليم الغربي، ومعظم قيم التنوير، لحساب نمط من التعددية القيمية. إذ يحق لكل دولة أن تمارس ما تشاء، وفقاً لثقافتها وعمقها الحضاري المترسخ. تدعم الحكومة الروسية عدداً من الأنظمة الاستبدادية في دول كثيرة، إلا أنها، على خلاف الاتحاد السوفييتي، لا توحي لها بالقيم التي يجب أن تتبعها. هكذا تتعدد الأقطاب في وجه “الغرب”، الذي يريد فرض كونيته بشكل قمعي وحتمي. ويمكن من هذا المنظور القول إنها حرب لأجل الحرية، من الغرب طبعاً، أما فحوى هذه “الحرية” فقد يكون تسلطاً أو ممارسات لا إنسانية. المهم أن الغرب لا حق له بتحديد ما “الإنسانية”. ولهذا فإن الروس، باستثناء بعض شبكاتهم الإعلامية المحدودة، التي يسهل فرض الرقابة عليها من قبل الدول الغربية، لا يجهدون كثيراً في نشر أي قيم أو ثقافات، حتى بين حلفائهم.

إلا أن هذا الطموح الكبير يبدو، من منظور آخر، أقل بكثير مما كان يسعى إليه الاتحاد السوفييتي أيديولوجياً، فعندما تترك لحلفائك تحديد قيمهم بشكل منغلق، لن تنتج نمطاً من الولاء والتضامن بين رفاق في معسكر ذي قيم واحدة، بل فقط تحالفاً ظرفياً مؤقتاً، قابلاً للانهيار، بين أطراف لا تجمعها لغة مشتركة، أو حتى قيم محلية متعددة قابلة للترجمة عالمياً. لذا تبدو الأيديولوجيا الروسية المعاصرة ضعيفة وفقيرة، بل يصعب الحديث عن وجودها أصلاً، وبالتالي لا تمتلك سياسة موسكو ما هو أقوى من التهديد بالسلاح والقوة العارية. ربما كان التفكير من داخل أفق التنوير هو الطريقة الوحيدة لصياغة أيديولوجيات قادرة على الانتشار ما وراء الحدود الجغرافية والثقافية، وهذا ما يرفضه جذرياً المنظرون الروس المعادون للهيمنة الغربية، الذين يقولون للعالم فقط ما لا يريدونه في بلدهم، ولكنهم غير معنيين بترجمة ما يريدونه حقاً، ليفهمه كل البشر على اختلاف ثقافاتهم.

على الجانب الآخر يبدو الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي محاكاة، ساخرة بعض الشيء، لما تبقى من الحس السليم الكوني، أو الغربي. يتكلم الممثل الكوميدي السابق بلغة بلده، ولكن مخاطباً كل البشر: من حق الأوكرانيين الانضمام إلى المعسكر الأكثر نجاحاً وتقدماً، وعدم الخضوع للتخلف الروسي، وأن يقاتلوا دفاعاً عن وطنهم، ولأجل مبادئ القانون الدولي والاستقلال الوطني، حتى لو ورطوا العالم كله في حربهم. فهم يريدون، مثل غيرهم من الشعوب، أن يكون بلدهم منفتحاً ومتنوعاً. ليس مهماً هنا كثيراً الاتهامات الموجهة لنظام زيلينسكي باضطهاد مواطنيه من أصول روسية، أو استعانته بمقاتلين متطرفين قومياً، فما يهم هو الصورة التي يقدمها، وهي بالفعل، وبمساعدة كريمة من الإعلام والمؤسسات الثقافية الغربية، قادرة على جذب كثيرين حول العالم. أوكرانيا تدافع عن قيم كونية تعني الجميع، مهما اتُهمت بالخضوع لمركزية الغرب.

في المقابل يبدو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أقرب لوحش شرقي مستبد، يمكن ببساطة ترجمته إلى صورة “الذكورة السامة”: رجل قاسٍ تشغله تصورات قومية وجيوستراتيجية غامضة ومجنونة، ولا يوجد ما يقدمه للبشرية إلا العنف والتسلط. يصعب تفهم هذا الوحش، أو التعاطف معه إلا بالنسبة لمن شاركوه سلفاً أحلامه المنغلقة. وبهذا المعنى فمن الظالم تشبيه بوتين بستالين، فالأخير كان أثناء حياته رمزاً كونياً لملايين البشر حول العالم، من الشيوعيين والمناضلين العماليين، والمتعاطفين الكثر معهم.

قد يتمكن الجيش الروسي من استغلال تفوقه لتحقيق أهدافه العسكرية المباشرة في أوكرانيا، إلا أن الواقع، الذي قد يفرضه على الأرض، لن يكون انتصاراً، فأغلب البشر لن يروا فيه إلا اختلالاً لا معنى له على المسرح العالمي، وخطأً يجب إصلاحه. ولن تتمكن روسيا من تحويل نصرها إلى مجموعة علامات ورموز يمكن تداولها في كل مكان، تؤثر في الناس، وتدفعهم للتسليم بالمنطق الروسي. ولذلك فإن الهزيمة السياسية والأيديولوجية قد تكون حتمية. رغم هذا فإن انتصار “الغرب”، الذي يبدو حتمياً بدوره، سواء كان عسكرياً أو سياسياً وأيديولوجياً، لن يغطي على الأزمات الكبرى التي تعاني منها الكونية المعاصرة: ليست روسيا وحدها من يفكك كل لغة مشتركة لحساب خصوصيات معينة، بل أيضاً حس الغرب السليم بات قابلاً للتغاضي عن كثير من الممارسات والأفكار، غير القابلة بدورها للترجمة. مثل إغلاق الحيز العام لحماية الخصوصيات الفردانية والثقافية؛ الاستعانة بالمتطرفين لمد المعسكر الغربي؛ إقصاء المعارضين لحالة الاستثناء، السياسي والصحي، التي تفرضها الحكومات الغربية. وبالتالي فقد تكون روسيا، هذه المرة أيضاً، على هوامش قطب واحد، متعثر على كل الأصعدة.

٭ باحث سوري يقيم في المانيا

القدس العربي

—————————

مقارنة الغزو الروسي لأوكرانيا بالغزو الروسي لسورية

أوكرانيا وأنسنة السياسة/ ماهر مسعود

لا تتوقف التحليلات والنقاشات الجيوسياسية عن تَصدُّر المشهد عند الحديث عن الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث يتم التركيز على الأهمية الجيوسياسية الحاسمة لأوكرانيا بالنسبة لروسيا، أو على استفزاز حلف الناتو لبوتين بسعيه للمزيد من التوسع شرقاً ومحاولة ضم أوكرانيا بعد أن ضمَّ كلاً من إستونيا ولاتفيا وليتوانيا عام 1999، وهو ما يتم اعتباره محاصرة لروسيا وتهديداً «للأمن القومي الروسي». كما يتم الحديث عن رغبة أمريكا ومصلحتها الجيوسياسية بتوريط روسيا في المستنتقع الأوكراني لإضعافها وضعضعتها، في سياق تحقيق الهدف الأكبر بإحكام قوس الحصار الشمالي على الصين. ولا تلبث أن تُردَف تلك التحليلات الجيوسياسية بتحليلات اقتصادية تتبعها مباشرة وتقوم عليها، حيث تأخذ حرب النفط والغاز والقمح وشركات السلاح مكانها في المعادلة، وصولاً إلى نظريات المؤامرة التي تحبك كل ما سبق ذكره معاً ضمن استراتيجيات شيطانية يتم رسمها في الغرف المغلقة التي عادة ما تكون أميركية.

للوهلة الأولى تبدو تلك التحليلات عقلانية وصحيحة ومن الصعب ردّها أو إنكارها، لكن المشكلة الكبرى مع هذا النوع من القراءة، هي فيما تحجبه أثناء ادّعائها اكتشافَ البداهات. فأول ما تقوم به النزعة الجيوسياسية هو تجريد السياسة عن السياسي، ونزع أي إرادة إنسانية أو اختيارٍ عن الأطراف الأساسية التي اختارت الحرب والتي تقع عليها الحرب. هي عملية (Dehumanizing) للفعل السياسي بوصفه فعلاً إنسانياً قابل للقياس والحكم، أي نزع للصفة الإنسانية عنه، كما أنها نزعٌ للسياسة عن فعل هو سياسيٌ بالكامل. والأسوأ، هو أنها عملية إخلاء للمسؤولية عن الفاعلين السياسيين وأصحاب القرار السياسي.

الأطراف الأساسية للنزاع في الحالة الأوكرانية هم بوتين ونظامه من جهة، والشعب الأوكراني ورئيسه من جهة أخرى. فأولاً، نجد أن بوتين شخصياً لديه إرادة سياسية فاعلة وتعرف ما تريد، ولديه الأهلية الكاملة لاتخاذ قرار الحرب، بعد انتصاراته الخارجية في الشيشان وجورجيا والقرم وسوريا؛ ومؤخراً كازخستان (إن كان عبر سحق أنظمة أو تغييرها أو الحفاظ على أنظمة أخرى موالية له بالقوة العسكرية)، وبعد انتصاراته الداخلية في سحق المعارضة وتسميم أو سجن أهم رموزها، أو النجاح في البقاء على رأس السلطة الفعلية لمدة 22 عاماً، مع ضمان بقاءه حتى عام 2036 عبر تعديل الدستور. بعد كل تلك «الانتصارات» الخارجية والداخلية، من الطبيعي أن يفكر في المضي لتغيير النظام في أوكرانيا حتى لو اضطر لاحتلالها كما يفعل الآن، وبالتالي فهو مسؤول بالكامل سياسياً وأخلاقياً وقانونياً عن هذه الحرب التي يدفع أثمانها الشعبان الروسي والأوكراني معاً وإن بطرق مختلفة. في الواقع، لا شيء يمكن أن يُفهِمنا كيف كان يفكر بوتين عندما أعلن الحرب أكثر من رؤية ما قاله شبيهه و«محبوبه» دونالد ترامب في البداية، عندما أعلن مباشرة أن «بوتين عبقري، فهو يستولي على دولة شاسعة جداً، مقابل عقوبات قيمتها دولاران»، فما يجمع بوتين وترامب هو قناعتهما البارانوئية بعجز الأوروبيين وبايدن شخصياً، دون أن يخلو ذلك الوصف من إيحاءات جنسية تقوم عليها بطريركية الرجلين، كما يجمعهما عدم أخذ الشعب في الاعتبار، وقلّة التقدير للرئيس الأوكراني باعتباره رئيساً مُنتخباً ضعيف الكاريزما وممثلاً كوميدياً سابقاً لا يمثّل رجل الدولة «القوي» في المخيال البطريركي التقليدي. 

الفاعل السياسي الآخر في تلك المعادلة هو الشعب الأوكراني ورئيسه، فالشعب الأوكراني اختار نظاماً ديمقراطياً عبر ثورته عام 2014، ومن الواضح جداً أنه لا يرغب في البقاء تحت جناح الاتحاد الروسي أو أي شكل ديكتاوري للحكم، وهو يبدي اليوم مقاومة صادقة وعظيمة للاحتلال الروسي. وأما الرئيس، فيمكننا المغامرة بالقول إن خياره الشجاع بالمقاومة والبقاء في العاصمة كييف هو ما غيّرَ حسابات الغرب وحسابات بوتين في الوقت ذاته، بل إن موقفه هو من ورّطَ الغرب والناتو بذلك التصعيد غير المسبوق ضد روسيا وليس العكس. فلو أنه استمع للجانب الأميركي وغادر أو استسلم منذ البداية، فلن يكون مستبعداً أن تمضي الأمور كما توقع ترامب بالفعل، أو كما ظنّ بوتين ذاته عند إعلانه الحرب، إذ أثبت الغرب خلال تجارب بوتين السابقة في العقدين الماضيين أنه من السهل أن يتعايش مع الأنظمة التي يضعها بوتين، ومع التغييرات التي يحدثها في الدول التي يضمّها تحت جناحه. كما اعتاد بوتين على ردّات الفعل الغربية الناعمة على أفعاله الهوجاء، والتي تقوم بفرض عقوبات اقتصادية شكلية على روسيا لا تؤثر فعلياً على مصالح الطرفين الغربي أو الروسي، فالمكاسب الاستراتيجية التي كان يحصّلها بوتين لا يمكن مقارنتها بالخسائر الاقتصادية التي لم تكن تطاله لا هو ولا نظامه الأوليغارشي أو دوائره الضيقة والمافيوزية الحاملة للنظام.

ما لا يفهمه أصحاب التحليل الجيوسياسي هو أن الأبعاد الجيوسياسية نتائجُ وليست مقدمات، وهذا فرق كبير يقلب المعادلة رأساً على عقب. وقد عرفنا ذلك الفرق بشكل رهيب خلال السنوات الأولى للثورة السورية، حين تم في البداية إنكار فاعلية الشعب السوري وثورته وإرادته في التغيير لصالح مؤامرات غربية ومصالح جيوسياسية، ولم يلبث أن بات الشعب غير مرئيٍ بالكامل في معادلة صراع القوى والحرب الأهلية والحرب ضد الإرهاب. والأهم، أنه بعد إعلان النظام للحرب المفتوحة ضد السوريين، وافتقار المجتمع الدولي لأي ردّة فعل جديّة ضد المجازر التي قام بارتكابها، باتت جميع تلك التحليلات الجيوسياسية والمؤامرات المرتبطة بها تبدو صحيحة بالكامل، وأصبحت الرؤى الاستشراقية التي لا ترى فينا سوى دُمىً وبيادق لقوى دولية كبرى، وأننا غير مؤهلين لفهم قضيتنا، قابلة للتصديق أيضاً. بل إن سردية النظام حول الحرب على الإرهاب، وسردية القوى الدولية حول الحرب الأهلية، أصبحت هي السائدة مثل نبوءة ذاتية التحقق.

ليس غريباً أن أهم روّاد التحليل الجيوسياسي لم يتمكنوا من إدانة نظام الأسد بشكل صريح، بل إن يسارياً معادياً للإمبريالية مثل الراحل روبيرت فيسك، اشتغل كمراسل حربي مع قوات النظام أثناء وبعد مجزرة داريّا عام 2012، بينما أظهر دبلوماسي وكاتب مثل نيكولاس فاندام تفهماً وتبريراً لحرب النظام ضد السوريين مع إدانة لـ«الذات» الغربية التي «ورّطت» السوريين بحرب أهلية، ولم تتفهم حرب النظام أو تتعامل معه بدبلوماسية. وليس غريباً أيضاً أن نرى كيف أن زملاء هؤلاء اليوم لا يريدون تحميل بوتين مباشرةً مسؤولية الحرب بقدر ما يحمّلون الناتو المسؤولية نتيجة استفزازه لبوتين، ولا يريدون رؤية الشعب الأوكراني ومقاومته أو موقف رئيسه بقدر ما يرونهم مجرّد ضحايا لمؤامرة غربية/أميركية أرادت استخدامهم في حربها ضد بوتين، وبيادق ودمى دون أي إرادة سياسية أو تأثير سياسي فاعل.

ما يجمع الرؤى التي تضع التحليلات الجيوسياسية كمقدمات للفعل السياسي، بدلاً من كونها نتائج، هو أنها بالمجمل تحليلات قديمة وموروثة عن الأزمنة الإمبراطورية التي يريد بوتين وأمثاله إعادتها للحياة، حيث لا قيمة للشعوب أو الرأي العام في قرارات السلطان أو الملك أو الرئيس الوارث للسلطة. وهذه قد تصح إلى حدّ ما في فهم سلوك بوتين أو الأسد أو أي زعيم ديكتاتوري، ولكنها لا تنطبق على حال الأنظمة الديمقراطية بالطريقة ذاتها. وهنا لا بدّ من التذكير بأن الشعبية الهائلة التي ما زال يتمتع بها أوباما حتى اليوم جاءت نتيجة لتناغم قراراته مع الرأي العام الأميركي؛ والغربي عموماً، «المسالم» والمعادي للحروب والتدخلات الخارجية، والذي يضجّ بمشاعر الذنب ما بعد الكولونيالية. كما أن الرئيس الأوكراني لم يكن ليقاوم بهذه القوة والثقة لولا تناغم قراره مع إرادة الأكثرية من شعبه الذي انتخبه ديمقراطياً. وبالمقارنة سيكون من المضحك التفكير في أن بوتين يأخذ مواطنيه بعين الاعتبار إن كان أقرب مقربيه لا يجرؤ على الإفصاح عن رأيه أمامه، فهو يفكر عن «الأمة الروسية»، ولا قيمة أو أهمية لمن يفكر عنهم عندما يتعلق الأمر بتقرير شؤونهم، لأن «شؤونهم» هي ملك الأمّة التي يمثّلها هو وحده. وأما الأسد فقد ابتدأ بوصف المتظاهرين ضده بالجراثيم، ثم أبدى سعادته بتهجير الملايين من بلدهم لأن ذلك يجعل المجتمع أكثر «تجانساً». في الواقع، كلٌّ منهما يحجب سياسة الأبد، ورغبته في احتكار السلطة المؤبد، خلف حديثه عن الأمّة والوطن والعظمة والتاريخ.

القراءة الجيوسياسية تقوم بقياس جميع الدول والأنظمة بالمسطرة ذاتها، وبالإسلوب الكسول ذاته. فعندما يتم الحديث عن «الأمن القومي الروسي» تظن أن روسيا هي ذاتها الإتحاد السوفييتي! لكن السوفييت بنو اتحادهم على ثورة ومشروع عالمي واعد بالعدالة والمساواة، وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع ذلك المشروع وعن فشله الذاتي والموضوعي، إلا أنه كان مشروعاً موازياً للمشروع الغربي الديمقراطي الليبرالي وقتها، وهو مشروع ألهمَ الملايين من الناس حول العالم حتى داخل الغرب ذاته، بل إن فيلسوفاً مرموقاً وعَلَماً من أعلام التنظير الليبرالي للحرية مثل جان بول سارتر، كان قد برر اعتقال وقتل ستالين للملايين باسم الثورة الشيوعية الواعدة بالعدالة والمساواة وحرية الشعوب. وهنا يجدر السؤال: ما الذي يمكن لروسيا/بوتين تقديمه كمشروع للعالم، أو للداخل الروسي، سوى المثال المافيوزي الديكتاتوري للحكم في الداخل، وحماية الديكتاتوريات أينما وُجدت في الخارج؛ ولا سيما الديكتاتوريات التي تقوم شعوبها ضدها طلباً للحرية منها بالذات! ربما كان من الأصح القول: إنه لا يوجد ما هو أخطر على الأمن القومي الروسي من بوتين ذاته، وهو ما يَصدُق كخطر على العالم أيضاً.

ما زال كلام تشرشل القديم حول أن «الديمقراطية هي النظام الأسوأ باستثناء جميع الأنظمة الأخرى» صالحاً حتى اليوم، وما زال المشروع الديمقراطي الليبرالي هو المشروع الوحيد القابل للتعديل والإصلاح من الداخل دون الحاجة لقتل الرئيس أو قتل الملايين لإبقائه على رأس السلطة. وربما تكون مناسبة سكوت الغرب عن حطام سوريا الذي انتهى بخيلاء بوتين واليمين الشعبوي حول العالم، ونَقلَ الحرب من الأطراف إلى المركز وإلى عمق الديار الغربية عبر أوكرانيا، هي وسيلة لمراجعة الشعوب الغربية وأنظمتها لأسس النظام الديمقراطي التي استقرت على قواعد تجعل من حدود النضال الديمقراطي تنتهي مع حدود الدولة أو المركز الغربي، وعلى تخيُّلِ أنه يمكن للديمقراطية العيش بلا مخالب، أو أن خيار الغرب العائد لأيام الحرب الباردة في الاستثمار بديكتاتوريات العالم االثالث ما زال خياراً قابلاً للحياة، أو أن مشاكل الشعوب غير الغربية مع أنظمتها المتسلّطة هي مشاكل بعيدة ولا تعني إلا أصحابها؛ مع أنها باتت أقرب إليهم من مشاكلهم ذاتها. وقد تكون تلك المراجعة مهمة للتخلّص من آثار الفكر الهنتغتوني، وهو الفكر الذي أحياه أوباما؛ بقصد أو من دونه، تحت اسم التوقف عن لعب أمريكا لدور الشرطي في العالم، في الوقت الذي انتقل فيه هو ذاته إلى لعب دور «ماما تيريزا» الغرب.

كان كارل بوبر قد طرح فكرة ملفتة في كتابه المجتمع المفتوح وأعداؤه، وذلك في أوج الحرب العالمية الثانية، مفادها أنه «ليس علينا البحث عن سياسة ونظام سياسي يجعل البشر أكثر سعادة، بل لجعلهم أقل معاناة». فالمعاناة هي مسألة يمكن دائماً معاينتها، وهذا ما نراه في أوكرانيا بالعين المجردة، مثلما رأيناه وما زلنا في سوريا أو غيرها، ولكن السعادة هي ذلك الوعد المتعالي والخلاصي للأنظمة الديكتاتورية التي لا تتوقف عن جلب المعاناة لشعوبها والشعوب الأخرى، باسم الوعد بالسعادة والقوة

موقع الجمهورية

———————————

الحرب على أوكرانيا تذكّر العالم بالكارثة السورية/ عبد الباسط سيدا

لاحتفاء السوريين بالذكرى السنوية لانطلاق ثورتهم، وهي الذكرى الحادية عشرة، وقْع خاص هذا العام، في ضوء الحرب الوحشية التي أعلنها الرئيس الروسي بوتين على الأوكرانيين بغرض إلغاء سيادتهم، وإرغامهم على الالتزام بحدود السياسات التي يرسمها الكرملين، ويفرضها عليهم من خلال حكومةٍ دمية، كما فعل في سورية، فقد كشفت هذه الحرب الظالمة عن تهافت المزاعم الدّعائية التي استخدمتها الماكينة الإعلامية الروسية لإضفاء طابعٍ من المشروعية، بل وحتى من القداسة، على حربها ضد أوكرانيا، وهي المزاعم نفسها التي استخدمت في حرب بوتين على السوريين، حتى بلغ الأمر بالكنيسة الروسية إلى مباركة القوات الروسية التي كانت في طريقها إلى سورية لقتل أهلها، وتدمير مدارسهم ومشافيهم وأسواقهم ومساكنهم، وتهجيرهم، وحماية سلطة بشار الأسد التي كانت في طريقها إلى الانهيار، وهي السلطة الدمية التي استخدمتها روسياً لـ”شرعنة” تدخلها، ووضع اليد على الساحل السوري الذي كان، وما زال، من أركان المشروع الأمبراطوري الروسي بأسمائه وشعاراته المختلفة.

وما التصريحات التي نسمعها هنا وهناك من المسؤولين الغربيين السابقين، وهي تبيّن، بعد فوات الأوان، أنّ الهجوم الروسي على أوكرانيا اليوم ما كان له أن يحدُث على هذا النحو لولا الصمت الغربي على تدخل القوات الروسية والجرائم التي ارتكبتها تلك القوات في سورية. حتى أنّ بوتين نفسه كان يتفاخر بأنّه يجرّب أسلحته على أجساد السوررين، ويدرّب جنوده في حربه على السوريين. وقد تكاملت جرائم الجيش الروسي في سورية مع جرائم سلطة بشار، خصوصاً المجازر التي ارتُكبت بحق المدنيين، وجرائم السلاح الكيميائي في الغوطة ومناطق سورية عديدة. هذا إلى جانب قصف المدن والبلدات السورية أعواماً ببراميل البارود التي جسّدت الحقد اللامحدود الذي تختزنه تلك السلطة على الشعب السوري الذي كانت “جريمته” الوحيدة أنّه طالب بحياة حرة كريمة آمنة في بلده، فقد وجدت تلك السلطة التي طالما اقتاتت على شعارات المقاومة والممانعة، وزاودت في مختلف المناسبات على دول عربية عديدة، بل وصفت زعماء بعضها بأقذع الألفاظ، في الثورة نهاية أكيدة لتحكّمها المافياوي بمقدّرات البلد ومصائر اهله، فتحرّكت في جميع الاتجاهات بحثاً عن الدعم والمساندة في حربها على السوريين، واستخدمت الإرهابيين، بل صنعتهم وسوّقتهم، من أجل وضع العالم أمام بديلين سيئين فاسدين: الاستبداد أو الإرهاب.

ومع دخول روسيا بصورة علنية مكشوفة لمساندة بشار الأسد في خريف عام 2015، بعد التفاهمات التي كانت بين الرئيسين الأميركي أوباما والروسي بوتين، حصل تبدّل في المواقف، وأعادت الدول، الشقيقة والصديقة منها، النظر في حساباتها وأولوياتها، والتزم كثير منها الصمت، على الرغم من المعرفة العميقة بطبيعة ما كان يجري ومخاطره.

كُتب الكثير عن الثورة السورية، وسيُكتب. وقِيل الكثير عنها، وسيُقال. منهم من تبرّأ منها، ومنهم من اتهمها، ومنهم من ندم على تأييده لها. ومنهم من طالب، ويطالب، السوريين، باسم الواقعية السياسية بالعودة إلى حظيرة العبودية؛ ومنهم من شكّك حتى في مشروعية اسمها. أما المبعوث الأممي، بيدرسن، فهو يحاول، من ناحيته، أن يجد حلاً لـ”النزاع السوري” كما يسميه، لتنتهي بموجبه الأزمة السورية كما يسميها كثيرون، باعتماد سياسة “الخطوة بخطوة”، وكأن السوريين، لا السلطة، هم الذين شرّدوا الملايين، وقتلوا وغيّبوا أكثر من مليون إنسان، ودمّروا بلدهم، وجعلوه مرتعاً للغربان والذئاب ومن الجيوش والمليشيات الأجنبية، ومن المرتزقة والشبّيحة الوافدين والمحليين. هذا مع تيقن المبعوث المعني من استحالة المهمة التي يدّعي أنه يؤديها، وهي الاستحالة التي تيقّن منها أسلافه، خصوصا الأول منهم، كوفي عنان، الذي استقال رغم وزنه ورصيده، وحجم التاييد الدولي والعربي الذي كان يتمتع به.

صحيحٌ أنّ المواقف الدولية وتفاعلاتها وانعكاساتها الإقليمية قد مكّنت سلطة بشار الأسد من الاستمرار، ولكنه استمرار المحتضر الميؤوس منه في غرفة العناية المشدّدة في انتظار لحظة القرار بإيقاف الأجهزة التي تمنحه الحياة… لقد تغيّر السوريون كثيراً على مدى 11 عاماً، فقد تخلصوا من الخوف، وتحررّوا من الأوهام، واكتشفوا أضاليل السلطة وأحابيلها، وتأكدوا من طبيعتها الإجرامية. واليوم لا توجد جهة تستطيع إقناع السوريين والسوريات من جيل مخيمات النزوح واللجوء بإمكانية أن يبدّل بشار الأسد سلوكه، وهو الذي ما زال يخوّن السوريين ويهدّدهم، في حين يعلم الجميع أنّه مجرّد تابع منقاد، يلتزم أوامر من مكّنه من البقاء حفاظاً على مصالحهم، فمن الذي في مقدوره إقناع هذا الجيل بأن من شرّدهم، ودمّر ديارهم، وقتل أعزاءهم، وأحال بلدهم إلى ساحةٍ لمن اتخذ من زعزعة أمن المجتمعات واستقرارها أداة لتحقيق أحلام بناء أمبراطوريات جديدة، سيتحوّل إلى حاكم صالح غيور على وطنه وشعبه؟ من سيقنع عشرات الآلاف من السوريين والسوريات ممن درسوا، أو يتابعون دراساتهم، في مختلف جامعات العالم، حيث يكتسبون آخر المعارف والخبرات، ويتقنون اللغات الأجنبية، ولديهم معرفة وافية بكل جرائم سلطة بشار وممارساتها، بأنّ هذه السلطة ستحقق لهم الكرامة والأمن والتنمية؟

لقد تمكّن حافظ الأسد في وقت من تسويق نفسه الزعيم الوطني الصلب الذي لا يتنازل عن الحقوق الوطنية، الحريص على مصلحة شعبه وبلده، الحريص على التضامن العربي، اعتماداً على شبكة معقدة من الأجهزة الأمنية، وجيوش من المخبرين في مختلف الميادين وعلى مختلف المستويات. هذا إلى جانب استفادته من حزب البعث والمنظمات الشعبية والنقابات ووسائل الإعلام التي كان يتحكّم بها جميعاً، وحوّلها إلى أدواتٍ لتعزيز سلطته. كما أقام العلاقات، في الوقت ذاته، مع رجال الدين المؤثرين، وتمكّن من كسب ولاء التجار الكبار بفعل مختلف وسائل الترغيب والتهديد. كما كان الأسد الأب واعياً لطبيعة المعادلادت التوازنية الإقليمية والدولية وموجباتها، ففي وقتٍ كان يقيم علاقة متميزة مع إيران، كان يحرص على علاقات طيبة مع دول الخليج، سيما السعودية، وكذلك مع مصر وغيرها من الدول العربية. وحده نظام صدّام حسين كان يمثل العقبة الخطرة، والمنافس اللدود بالنسبة إليه. ولذلك استغلّ غزو الأخير للكويت عام 1990 في ميدان تعزيز علاقاته مع الأميركان، حتى أنّه أرسل قواه للمشاركة في حرب تحرير الكويت عام 1991، مقابل الحصول على رخصةٍ لحسم الأمور في لبنان، بصورة نهائية لصالحه، الأمر الذي أجبر ميشال عون على الخروج من لبنان ليصبح لاجئاً في فرنسا، بعدما كان قد أطلق تصريحات نارية بحق الأسد، من موقعه رئيساً للحكومة العسكرية التي أتت بعد انتهاء مدة رئاسة الرئيس اللبناني الأسبق، أمين الجميل، في سبتمبر/ أيلول 1988.

كلّ هذه العوامل، جعلت من مواجهة حافظ الأسد أو توجيه النقد له من الأمور شبه المستحيلة؛ ومع ذلك قاومه السوريون من عشاق الحرية والحياة الكريمة، ودفعوا أثماناً باهظة لقاء ذلك. لم يكن عدد المعارضين لحكم حافظ الأسد في ذلك الحين كبيراً، لكنّهم أثبتوا هشاشة مزاعم الحكم المعني الذي كان يتفاخر بأنّه حقّق الاستقرار بإنجازاته، بينما كان واقع الحال يؤكد أنّ الاستقرار المزعوم لم يكن سوى استقرارٍ زائف، فرضته الأجهزة القمعية، وهذا ما تبيّن، بكلّ وضوح، في عهد وارثه الابن الذي بدأ حكمه بخطاب مليء بالوعود الخلبية التي كانت مجرّد وسيلة للتمكّن والتحكّم، وهي وعودٌ لم ولن تنفذ.

لقد كشفت الثورة السورية النقاب عن الوجه الحقيقي للسلطة التي أثبتت، وتثبت، باستمرار استعدادها للإقدام على كلّ الجرائم، بغض النظر عن حجمها وطبيعتها بهدف البقاء؛ تماماً مثلما كشفت الجهات الإقليمية والدولية المستفيدة من استمرارية هذه السلطة… عشرات من المعارضين الفعليين الذين كانوا يعيشون عوالمهم الخاصة ضمن الأحزاب السرّية بعيداً عن العالم، بل وعن السوريين أنفسهم، نتيجة الظروف القمعية القاسية التي كانوا يتعرّضون لها، كانوا يؤرّقون سلطة الأسد الأب، فما بالك بملايين السوريين من الشباب المزوّدين بكلّ أنواع المعرفة، بالإضافة إلى الخبرة الهائلة التي اكتسبوها بفعل الثورة، واستطاعوا، في الوقت ذاته، بناء العلاقات المتينة مع سائر السوريين، وتحرّروا من مخاطر كلّ أشكال التعصب، وبات الهم الوطني هو الجامع في ما بينهم جميعاً؟

لدينا اليوم مئات، بل آلاف من الكتّاب والفنانين والروائيين والشعراء والإعلاميين السوريين الشباب الرافضين سلطة آل الأسد التي دمّرت الاجتماع والعمران السوريين، وهؤلاء هم اليوم، وبعد مرور 11 عاماً على انطلاقة الثورة السورية، أشد إصراراً على مقاومة هذه السلطة، فأي قوة في العالم تستطيع إقناعهم بصلاحية المجَرّب الفاسد المفسد؟

العربي الجديد

——————————

مقارنة الغزو مقارنة الغزو الروسي لأوكرانيا بالغزو الروسي لسورية

فات أوان انتصار بوتين/ عبدالناصر العايد

فات أوان انتصار بوتين عازفة كمنجة في مدينة لفيف التي تستعد لاحتمال هجوم روسي، وتشكل مأوى لملايين النازحين الأوكرانيين (غيتي)

مع مرور شهر على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، فإن اللحظة التي يمكن لبوتين أن يعلن فيها انتصاره، قد فاتت. لكنه، بسبب طبيعته كديكتاتور، ونوعية الحكم الذي يقوده، فإنه سيرى في التراجع أو الاعتراف بالهزيمة نوعاً من الإذلال الشخصي. وفي هذا المأزق لديه واحد من خيارين، إما الصراع بالوسائل التقليدية حتى الاضمحلال، أو تفجير سلاح تدمير شامل، ليجبر خصومه الغربيين على إيجاد مخرج له.

لم يخطئ بوتين في توقعاته بشأن المقاومة الأوكرانية فحسب، بل يبدو أنه بالغ في آماله من جيشه الذي لم يستطع تنفيذ ضربة صاعقة، وفق التوصيف الأوّلي للغزو بأنه عملية “خاصة”، وهذه، في العلوم العسكرية، تعني هجوماً خاطفاً بهدف وحيد محدد. وكان من الوضح هنا أن العملية الخاصة كانت تستهدف العاصمة كييف، أي الرموز السيادية للدولة الأوكرانية، أما الحشود الأخرى في الشرق والشمال، فغايتها، كما نخمن، كانت التشتيت، واحتلال البلاد لاحقاً من دون قتال، بعد أن تسقط بسبب هروب الحكومة. لكن هذا لم يحدث، فقد تشعبت المهمة في كل اتجاه، وفشلت على المحاور كافة. وبمرور الوقت، سيعاني الجيش الروسي إنهاك المعنويات والشلل في أقدامه الثقيلة، وهو ما بدأ يتكشف منذ الآن، من خلال المشاكل اللوجستية، كنقص الوقود والغذاء. فليس من المعقول أن يعاني جيش دولة كبرى، نقصاً في طعام الإعاشة بعد أسبوعين فقط على بدء معركة خطط لها منذ شهور، لتبادر قيادته إلى طلب وجبات جاهزة من الصين!

الأسوأ بالنسبة إلى بوتين، أن الحرب والاضطرابات الاقتصادية غير المسبوقة بسبب العقوبات، قد تكشف أن نكبته الحقيقية ليست في جيشه، ولا في قراره بشن الحرب، بل ستأتي من الأوليغارشية التي انتقاها، ومن صفوف الشعب الروسي. فمن الشائع تاريخياً أن شن الغزو الخارجي غير المبرر، غالباً ما يشير إلى أزمة داخلية صامتة، سببها الأساس أن القرارات تصدر عن أهواء رجل واحد، هو الديكتاتور.

مع ذلك، يتقدم الروس عسكرياً، لكن ببطء. وللبطء ضريبة أيضاً. فالشهر الذي مرّ، هو الوقت المطلوب ليستوعب المقاومون صدمة القتال، وهي من المسائل العسكرية المهمة جداً. فالقذائف والانفجارات الأولى تثير الذعر وتدفع الناس إلى الفرار، لا سيما بالنسبة للسكان المدنيين. لكنهم سرعان ما يألفون ذلك، وتنشأ حالة الصمود، تليها مرحلة تنظيم الصفوف، ثم تأتي فنون المقاومة والتكتيكات المبتكرة التي تشبه شِركاً يقع فيه أي جيش نظامي، ولا يخرج منه إلا بعد أن تتحول تلك القوات النظامية إلى أساليب حرب العصابات بدورها.

داعمو المقاومة الأوكرانية من الدول الغربية بدورهم، صاروا أكثر فاعلية في استجابتهم، بعدما عرفوا الاحتياجات بشكل دقيق، وفتحوا القنوات الملائمة لإيصالها، والأهم لإخفائها. ومن الواضح جداً أن دول حلف الناتو، اتخذت قرارها بتجنب المواجهة المباشرة والخوض في حرب تقليدية، وهي انغمست في حرب هجينة طويلة الأمد، تتمثل مبدئياً في سكب كميات هائلة من أسلحة حرب العصابات متوسطة المدى، مثل صواريخ جافلين وستينغر وغيرها، وتستعد من طرف آخر لحرب أخرى غير تقليدية بأسلحة الدمار الشامل، قد يجبرها بوتين على خوضها.

المراقبة الإعلامية والحقوقية الدقيقة لميدان الصراع أيضاً، ستثقل بوتين بالاتهامات، ورغم حذره الشديد، إلا أن استخدام الأسلحة بكثافة في المناطق المدنية يكتنف مخاطر عالية يصعب حسابها أو تلافيها مسبقاً، ولا أحد يعرف موعد نشر فيديو أو أكثر يكشف عن وحشية غير مسبوقة تنزع الشرعية عن كل مزاعمه وتضعه مع جيشه في خانة المجرم المدان بشكل كامل.

إن التنبؤ بمسارات الحروب بشكل دقيق، غير ممكن، لكن التكهن بمآلها النهائي وارد. الصراع الحالي في الساحة الأوكرانية، يبدو في المحصلة صداماً بين مدرستين فكريتين، هما: النمط الديموقراطي الغربي، والآخر الاستبدادي الفردي-بمعنى حكم الرجل الواحد، والنتيجة تبدو محسومة في نهاية المطاف، لصالح المعسكر الغربي. فحرب العصابات المحتملة، والتي ستتوسع أكثر فأكثر مع احتلال بوتين لمزيد من الأرض الأوكرانية، وانتشار قواته هناك، ستلحق بجيشه خسائر تراكمية على النحو الذي طاول جيش الاتحاد السوفياتي، أو حتى الجيش الفرنسي الذي غزا موسكو ذات يوم من أيام الحلم الامبراطوري النابليوني. ومن ناحية أخرى، ستلحق العقوبات أضراراً تتزايد مع مرور الوقت، وتتراكم بدورها، على نحو يشبه عملية عكس الغزو، لنقل المعركة إلى الأرض الروسية، لكن بوسائل اقتصادية. وحتى لو أن حكم الأوليغارشية في موسكو لم يكن يعاني مشاكل وتناقضات داخلية، فإن تلك ستنشأ على خلفية هذا الضغط المزدوج، وقد يلجأ بوتين إلى العنف الداخلي، كما لجأ إلى العنف الخارجي، فيما لو شعر بأن السلطة الداخلية تتسرب من بين أصابعه، وربما يتخذ قرارات أكثر لا عقلانية، ويمعن في الهرب إلى الأمام، إلى حين الاصطدام بالجدار.

لعل بوتين يغامر بمحاولة الخروج من هذه الوضعية المحتملة، بالتلويح بحرب نووية شاملة، لإجبار خصومه الغربيين على منحه انتصاراً، ولو رمزياً، وقد يحدث أن يمنحوه ذلك، لكنهم سيستمرون في تقويضه من الأسفل على الصعيد الواقعي. فالغرب لن يستعيد علاقته ببوتين مرة أخرى، ولن يثق فيه، تحت أي ظرف كان. لذلك فإن مسار تسلح أوروبا، الذي انطلق، لن يتوقف، حتى لو توقفت الحرب في أوكرانيا اليوم. وهذا في حد ذاته، يعني أن روسيا ستصبح أضعف فأضعف في المستقبل، سواء رضيت بموقعها في ترتيب القوى العالمية، كقوة إقليمية كبيرة، أو تمردت وانطلقت في سباق تسلح خاسر مسبقاً مع الاتحاد الأوروبي الذي يفوقها عشر مرات على الأقل بالناتج القومي الإجمالي، وأربع مرات على الأقل بعدد السكان. 

المدن

—————————

الطريقة الملتوية في إعلان المواقف الرديئة/ حازم صاغية

عندما غزا صدّام حسين دولة الكويت في 1990 قال كثيرون في المنطقة العربيّة ومن كارهي أميركا في الغرب: «لولا السفيرة الأميركيّة في بغداد إبريل غلاسبي التي خدعت صدّام، لما حصل ما حصل». وعندما اغتيل رفيق الحريري عام 2005، سُمع صوت واسع النطاق يقول: «لا ندري من الذي ارتكب تلك الجريمة. أغلب الظنّ أنّها إسرائيل». أمّا مع اندلاع الثورة السوريّة في 2011، فكان التأويل جاهزاً وعلى أكثر من لسان فصيح: «إنّها مؤامرة شرّيرة على سوريّا وقع الجميع في شِباكها».

في الحالات الثلاث، وفي حالات كثيرة أخرى مشابهة، تحضر طريقة ملتوية في التعبير عن الموقف تتميّز بالمواصفات التالية:

أوّلاً – تجنّب الإعلان الصريح والمباشر عن تأييد أعمال كهذه (غزو، جريمة اغتيال، قمع وحشيّ لشعب) لصعوبة الدفاع عنها، خصوصاً أنّ معظم أصحاب هذا الكلام مؤيّدون لفظيّون لقيم مختلفة.

ثانياً – البناء على واقعة جزئيّة أو على حقيقة ثانويّة التأثير في الحدث الكبير. هكذا يضيع تحديد المسؤوليّة عن ذاك الحدث نفسه.

ثالثاً – اعتماد موقف الترفّع الأخلاقيّ والوعظيّ الذي ينعى ما آلت إليه الأحوال من انحطاط، وما آل إليه البشر من توحّش وهمجيّة، وقد يترافق ذلك مع تضرّع إلى الله كي يجنّبنا أوضاعاً كهذه.

رابعاً – وهو العنصر الذي يُملي باقي العناصر: تغييب طبيعة الأنظمة والقوى المرتكبة إلى جانب تضخيم الذرائع المفترضة وراء الارتكاب. هكذا يصار إلى تجاهل أنّ أنظمة وقوى كهذه ليست بحاجة إلى ذرائع لتنفيذ ارتكاباتها. إنّها، تعريفاً، أنظمة ارتكابات.

شيء من هذا الالتواء يحصل اليوم في أوروبا الغربيّة في أوساط بعض القوى، اليمينيّة منها واليساريّة، التي ظلّت حتّى الأمس القريب مفتونة بفلاديمير بوتين. نرى ذلك بصورة خاصّة حيث الانتخابات العامّة على الأبواب، كما في فرنسا. ذاك أنّ القوى المذكورة ما عادت قادرة، بعد حربه على أوكرانيا وتهديده عموم أوروبا، على إعلان ذاك الافتتان. لكنّها، مع هذا، لا تزال قادرة على أن تفعل التالي:

– تقديم تمدّد حلف الناتو شرقاً، وليس الخوف من روسيا عند جيرانها ممّن يريدون الاحتماء بالناتو، بوصفه أحد أصول المشكلة، إن لم يكن أصلها الأبرز.

– التذكير بين فينة وأخرى بالنوايا الأميركيّة المبيّتة (وطبعاً تكرّ اللائحة الشهيرة من الهنود الحمر إلى فيتنام ثمّ تشيلي). وقد تكون هناك «نوايا أميركيّة مبيّتة»، لكنّ الاهتداء إليها في الحرب الروسيّة الراهنة ليس بالأمر السهل.

– الإلماح إلى تعقيدات أوكرانيا والصراعات الإثنيّة التي عرفتها في تاريخها القريب. يتمّ هذا لا بغرض الدعوة إلى اعتماد صيغة أخرى للوحدة أو الانفصال الأوكرانيّين في ظروف سلميّة، بل لإسباغ الأولويّة على التكسّرات الداخليّة، لا على العدوان الخارجيّ (اللبنانيّون خصوصاً يعرفون كيف استُخدم مصطلح «الحرب الأهليّة»، وهو صحيح، لتبرير التدخّلات الخارجيّة المسلّحة في بلدهم. الكرد أيضاً يعرفون كيف استُخدم «التركيب العشائريّ للمجتمع الكرديّ» و«الزعامة الكرديّة الإقطاعيّة»، وهو أيضاً صحيح، لتبرير الحروب على الكرد).

– الحدّ الأقصى من المبالغة في الحديث عن «القوى النازيّة» في أوكرانيا (وهي، كما نعلم، من تبريرات موسكو للحرب)، والحدّ الأدنى من ربط «النازيّة» الأوكرانيّة بالقضيّة الوطنيّة لأمّة صغيرة وضعيفة في ظلّ الاحتراب الروسيّ – الألمانيّ (يذكّر هذا المنطق بما يفعله بعض غلاة الصهاينة حين يبالغون بـ «نازيّة» الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة أيّام أمين الحسيني).

– تغييب السيرورة الديمقراطيّة في أوكرانيا التي انطلقت من صفر سياسيّ عند استقلالها، وفي ظلّ علاقات إثنيّة مضطربة مع خُمس السكّان تقريباً. أهمّ من ذلك، تغييب قابليّة هذه التجربة للتطوّر في ظلّ استقرار وأمن لا ينشآن إلاّ بعد اختفاء التهديد الخارجيّ. (للمقارنة: زيلنسكي هو الرئيس السادس لبلاده، تولّى السلطة في 2019 في بلد استقلّ عام 1991. بوتين حكم روسيا مباشرة أو مداورة منذ 1999 وبات يستطيع دستوريّاً أن يبقى في الرئاسة حتّى 2036).

– الجمع بين رفض الحرب على أوكرانيا، وهو ما يحظى بإجماع أوروبيّ واسع، والتحفّظات على دعم أوكرانيا حربيّاً كي تدافع عن نفسها، ما دامت الحرب قائمة. حبّ السلام وكره العنف، المشوبان بكثير من الوعظ الأبويّ، هما بالطبع ما تُنسب تلك التحفّظات إليهما.

إنّ هذه الطريقة الملتوية، عند العرب كما عند سواهم، ما هي إلاّ تكتيكات حربيّة مُقنّعة أكثر منها أيّ شيء آخر.

الشرق الأوسط

—————————

آثار الدمار في مدينة اوكرانية اثر القصف الروسي

المُحتل بوتين يختار المُحتل بينيت وسيطًا

ترجمة – هآرتس

ستلقي مأساة الشعب الأوكراني بظلالها على العالم أجمع، يشمل ذلك الشرق الأوسط. لقد أدركت الشعوب “المتقدمة” بحكم تجربتها المريرة، أنّ المصالح الاقتصادية والأخلاق خطان متوازيان لا يلتقيان أبدًا.

لو كنتُ يهوديًا أوكرانيًا، لرفضتُ المجيء إلى إسرائيل التي ستسمح لي بالتأكيد بدخولها بينما تمنع دخول جاري اللاجئ الأوكراني. إليكم المشهد المُخزي الذي يقوم به موظفو مطار بن غوريون المجتهدون، حيث يسأل هؤلاء اللاجئين القادمين من أوكرانيا عن هويتهم الدينية فإذا اتضح أنهم يهود يتم الترحيب بهم أما إذا اتضح أنهم أوكرانيون فلا مكان لهم في إسرائيل.

وصل وحتى لحظة كتابة هذه السطور أكثر من مليون لاجئ أوكراني إلى أوروبا، لكن سقط بالمقابل وخلال هذه الحرب آلاف القتلى ناهيك عن الخسائر المادية ودمار البني التحتية. وها هي إسرائيل تحصي عدد اليهود القادمين إلى البلاد والذي من المتوقع أن يصل تعدادهم إلى مئات الآلاف، ليهلل أنصار وقف المد الديموغرافي فرحين. سيأتي إلى إسرائيل وبحسب تقديرات وزيرة الداخلية آييليت شاكيد حوالي 300 ألف يهودي أوكراني (يوسي فيرطر، “هآرتس”، 4.3). وفي الوقت الذي تلعق فيه أوكرانيا جراحها، تلعق إسرائيل أصابعها.

لكن لم تكتف شاكيد بهذا المحصول، بل ها هي تسترق النظر إلى محصول من نوع آخر. حيث صرحت شاكيد وخلال جلسة مجلس الوزراء كما جاء في مقالة فيرطر بالتالي: “ستدرك القارة الأوروبية والدول الأوروبية الآن أنها تحتاج للسلاح أكثر من ذي قبل، وعليه سترغب بزيادة ميزانيتها الأمنية. يمكننا على الأقل التربُح من هذه الأزمة”. هاي هي إسرائيل تحول مأساة أوكرانيا لفرصة ربح لا غير.

أنوه هنا، ستلقي مأساة الشعب الأوكراني بظلالها على العالم أجمع، يشمل ذلك الشرق الأوسط. لقد أدركت الشعوب “المتقدمة” بحكم تجربتها المريرة، أنّ المصالح الاقتصادية والأخلاق خطان متوازيان لا يلتقيان أبدًا. فقد ازدهرت مصالح “العالم الحر” الاقتصادية بوتيرة مذهلة لتشمل أيضا الدول المستبدة وخير دليل على ذلك علاقات الولايات المتحدة والسعودية. لكننا وبالمقابل لاحظنا أنّ معظم دول العالم قد أدانت روسيا، بل وفرضت العديد منها عقوبات قاسية ومُكلفة اقتصاديا.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هذه الانتقائية الأخلاقية؟ بل ولِمَ تُزهر في بعض الأمكنة لتذبل في أمكنة أخرى؟ ولِمَ تسري فقط على بلدان يملك سكانها لون بشرة معين؟ ماذا عن الاحتلال الجاثم فوق صدور الفلسطينيين منذ خمسة وخمسين عامًا؟ ألا يستحق الفلسطينيون ذرة من هذه الأخلاقيات؟

وعليه، باستطاعتنا فهم غضب العالم المحيط بنا، فهو يسمح باستمرار المأساة الفلسطينية بل ويربت على أكتاف المحتلين. لكن، ينبغي علينا الحذر فقد يعمي الغضب أعيننا، فلا يمكن تبرير احتلال معين لأن العالم يتغاضى عن احتلال آخر.

يعبّر أصدقائي عن غضبهم جراء نفاق الغرب، بل ويصرحوت قائلين أنّه وفي حال دعمت الولايات المتحدة أحد الأطراف فسيقومون بدعم الطرف الآخر. لكني أخبرهم أن اتخاذ هذا الموقف يعني تنازلا مسبقًا عن جوهرهم الإنساني، فمن العبث أن نتحول كأفراد لمجرد صدى سلبي أو إيجابي لآراء الآخرين.

كلمة حق أخيرة لا بد منها، يقوم حلف الناتو وبدلًا من الحد من شراسته بعد فكِ الاتحاد السوفيتي، بضم بلدان أخرى تقع في شرق أوروبا إلى صفوفه. لكن، تتساءل روسيا وبحق ما الداعي لكل هذا الزحف العسكري شرقًا بالذات على ضوء انتهاء الحرب الباردة؟ وفي الوقت نفسه، لا يسعنا إلا أن نطرح أسئلة صعبة فعلى سبيل المثال: لماذا امتنع العالم عن الاحتجاج ضد الغزو الأمريكي للعراق وسقوط مئات آلاف الضحايا مستندا فقط إلى أكذوبة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل؟

لا شك أن العالم منافق، لكن لا يمكننا بالذات في عصر النفاق هذا فقدان البوصلة، لأنّ الاحتلال بل وكل احتلال، هو فِعل وحشي يسحق الحياة. الفلسطينيين أدرى! وعليه، ينبغي علينا رسم خارطة أخلاقية بديلة ندعو من خلالها كل مُحتلي العالم للاتحاد! فالفلسطينيون المُحتلون أشقاء الأوكرانيين المُحتلين. لكن لا عجب أن يختار المُحتل بوتين المُحتل نفتالي بينيت وسيطًا في هذه الأزمة.

 هذا المقال مترجم عن Haaretz.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي.

https://www.haaretz.co.il/debate/arabic/1.10685614?fbclid=IwAR17AuwvSML5vxmALw_llLk5GimPYxKbm3gJmQfPAl2AbamAAZOwEcp_oYc

درج

————————

شهر على غزو أوكرانيا: أميركا تستنزف روسيا

قبل بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، بعث مسؤولو الإدارة الأميركية بمختلف مستوياتهم السياسية والعسكرية إشارات واضحة حول عدم وجود أي نية لدى واشنطن للانخراط في الحرب بمواجهة موسكو، لكنهم تحدثوا أيضاً بمن فيهم الرئيس جو بايدن عن أن روسيا سيكون في انتظارها عقوبات مدمرة ومؤلمة.

ومنذ بدء الغزو الروسي في 24 فبراير/شباط، كان واضحاً أن لدى الولايات المتحدة استراتيجية واضحة متعددة الأبعاد سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، بما يسمح لها بتمكين أوكرانيا من الصمود على المستويات السياسية والمالية والعسكرية والإعلامية من جهة، وإضعاف النفوذ الروسي عسكرياً وسياسياً واقتصادياً من جهة أخرى.

وهي الحملة التي ينخرط فيها جميع المسؤولين بمن فيهم بايدن الذي بدأ أمس جولة أوروبية عنوانها تأمين الدعم لفرض مزيد من العقوبات على روسيا.

في المقابل، حافظت واشنطن على خطوطها الحمراء لجهة عدم حصول صدام مباشر مع الروس، سواء في أوكرانيا أو في دول الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي، بولندا وليتوانيا وإستونيا ولاتفيا، منعاً لوقوع حرب عالمية نووية، وفقاً لتعبير بايدن.

وفي الواقع، لم تولد الاستراتيجية الأميركية بين ليلة وضُحاها، بل بدأت فعلياً قبل الغزو، عبر نشر تقارير استخبارية حول نية الجيش الروسي اجتياح أوكرانيا.

وعزّزت الإدارة الأميركية توقعاتها بنشر صور لانتشار الروس على الحدود الشرقية لأوكرانيا وفي بيلاروسيا. حتى أن بايدن تحدث عن احتمال حصول غزو “في 16 فبراير/شباط” الماضي، لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يبدأ الغزو إلا في 24 فبراير، سواء أكان ذلك بسبب فضح الأميركيين لموعد الاجتياح أو ما تردد عن وعده القيادة الصينية بعدم شنّ حربٍ خلال فترة الألعاب الأولمبية الشتوية التي انتهت في 20 فبراير الماضي في بكين.

وخلال الفترة التي سبقت الاجتياح، كثّفت الولايات المتحدة عمليات إرسال أطنان من الأسلحة إلى أوكرانيا قبل أن تسرّع العملية بعد الغزو، ليدور الحديث أخيراً عن تزويد أوكرانيا بأنظمة دفاع جوي قديمة تعود إلى فترة الاتحاد السوفييتي كانت قد حصلت عليها واشنطن سراً بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال”.

الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا

في 24 فبراير، وبهدف دعم جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك المعلنتين من طرف واحد، بدأت القوات الروسية زحفها نحو الأراضي الأوكرانية، تحت شعار “العملية العسكرية الروسية الخاصة”.

حينها باشرت واشنطن تطبيق استراتيجيتها المؤيدة لكييف بصورة تصاعدية. ميدانياً، قدّمت الإدارة الأميركية 90 طناً من الأسلحة الفتاكة، بالإضافة إلى أسلحة فردية وذخائر مثل صواريخ “جافلين” المضادة للدبابات” وصواريخ “ستينغر” المضادة للطائرات ومروحيات وعربات ومدافع وزوارق، بلغت قيمتها 885 مليون دولار.

وقدّمت أيضاً مساعدة مالية بقيمة 200 مليون دولار، قبل الإعلان في 15 مارس/آذار الحالي، عن تقديم 13.6 مليار دولار لأوكرانيا، على شكل مساعدات عسكرية وإنسانية.

ولم تكن المساعدات الأميركية جديدة، إذ إن الرئيس الأسبق باراك أوباما قدّم مساعدات بقيمة 80 مليون دولار على شكل أسلحة غير فتاكة لأوكرانيا في عامي 2014 و2015، فضلاً عن 23 مليون دولار كمساعدات إنسانية، وقرض بقيمة مليار دولار. كما منح الرئيس السابق السابق دونالد ترامب مساعدات بقيمة 2.277 مليار دولار، من ضمنها أسلحة فتاكة بقيمة 347 مليون دولار، بالإضافة إلى مساعدة مالية بقيمة 200 مليون دولار، بين عامي 2017 و2020.

وعدا عن تلقي جنود أوكرانيين تدريبات عسكرية أميركية في السنوات الماضية التي تلت ضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا بالقوة عام 2014 واندلاع الحرب في الشرق الأوكراني، يعتمد الجيش الأوكراني على الإحداثيات التي توفرها الاستخبارات الأميركية، من أجل تحديد مواقع الأرتال الروسية وقصفها.

وعزز الأميركيون الدعم العسكري بحملات إعلامية مكثّفة حول “هبوط معنويات الجيش الروسي” و”عجزه عن تموين كتائبه” بالطعام والوقود والدواء والسلاح، بالإضافة إلى التركيز على “انعدام الحافز” لدى الجندي الروسي للقتال في أوكرانيا.

وفي التقارير اليومية للجيش والاستخبارات الأميركيين، تشديدٌ على الأداء السلبي للجيش الروسي، وصعوبة إعادة انتشاره وارتفاع عدد قتلاه وجرحاه في حرب كان يفترض أن “تكون خاطفة وسريعة” وفق تصوّر الكرملين.

ولم يقتصر الدعم العسكري على أوكرانيا، بل نقلت الولايات المتحدة جنوداً وأسلحة إلى دول الجناح الشرقي للأطلسي، ودول أوروبية أخرى. ويتراوح عدد الجنود الأميركيين المنتشرين في القارة الأوروبية، وفقاً لبعض التقديرات بين 100 و120 ألف جندي.

وعلى الرغم من رفض الأميركيين مراراً فرض منطقة حظر جوي فوق أوكرانيا، كما يدعو الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إلا أنهم في الوقت نفسه أنشأوا “قناة اتصال” أميركية ـ روسية في 1 مارس الحالي، تسمح “للجانبين في إخطار بعضهما البعض بأي عمليات محتملة بالقرب من أوكرانيا”، وفقاً لكلام مسؤول دفاعي أميركي رفيع المستوى لقناة “سي أن أن” في حينه.

وبموازاة الدعم العسكري، قامت الدبلوماسية الأميركية بحشد مختلف القوى الفاعلة في أوروبا وضمن حلف الأطلسي، لفرض عقوبات مؤلمة، كما سبق أن توعدت، شملت سياسيين ورجال أعمال روساً (الأوليغارشيين)، ومصارف وقطاعات وشركات وسحب الاستثمارات الأجنبية من روسيا، ووقف خط أنابيب “نورد ستريم 2”.

وهو ما دفع الروس للردّ بسلسلة إجراءات من أجل تجنّب حالة الذعر المصرفي. لكن الاستراتيجية الأميركية في منع واردات النفط الروسية من التدفق إلى أوروبا لم تنجح بعد، في ظلّ ممانعة أوروبية، ألمانية خصوصاً، لعدم إمكانية تأمين بديل للغاز الروسي بسرعة كافية.

التشديد على سيادة أوكرانيا

ومع مطالبة روسيا بـ”ضمانات أمنية”، تحديداً في عدم توسع الأطلسي شرقاً، إلا أن الولايات المتحدة ظلّت مستمرة بسياستها حيال انضمام أي عضو مستقبلي للحلف: “لأوكرانيا الحق باختيار الانضمام إلى الأطلسي من عدمه، كدولة مستقلة”.

ولا يعني الموقف الرسمي الأميركي بالنسبة لروسيا، سوى تأجيج للحرب، خصوصاً أن السفارة الأميركية في كييف، تحدثت في خضمّ المفاوضات الأوكرانية ـ الروسية في بيلاروسيا، عن ضرورة “إعادة القرم” إلى كنف السيادة الأوكرانية. وهو موقف لا يتماشى مع “روسيّة القرم الأبدية” بحسب أدبيات الكرملين.

وكثّفت واشنطن ضغطها على موسكو، تحديداً في موضوع طرد الدبلوماسيين الروس من الدول الغربية، مع مواصلة ضغطها على الدول التي تمتنع عن إدانة الغزو الروسي، وغير المصطفة إلى جانب موسكو بطبيعة الحال، وفتح قنوات جانبية مع فنزويلا بشأن النفط، والإيحاء بقرب الاتفاق النووي مع إيران إيجابياً، من أجل ضخّ الغاز الإيراني إلى الأسواق العالمية.

لكن الولايات المتحدة لم تهمل في الوقت نفسه الملف الصيني، سواء بشأن تايوان، بعد بروز تحليلات عن احتمال استغلال بكين للحرب في أوكرانيا لغزو الجزيرة المقابلة لشواطئها، أو بشأن مدّ الصين روسيا بمساعدات عسكرية لتعزيز الهجوم الروسي المتوقف على جبهات عدة في الشرق والجنوب والشمال.

ويبدو أن معطيات الشهر الأول من الغزو، أظهرت صحة ما نشرته صحيفة “ذا غارديان” البريطانية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، عن تحويل أوكرانيا إلى “أفغانستان جديدة لكن في أوروبا” للجيش الروسي، بما يشبه المستنقع الذي غرق فيه الجيش السوفييتي في أفغانستان بين عامي 1979 و1989، والتي أدت في النهاية إلى انسحابه مهزوماً فضلاً عن تفكك الاتحاد السوفييتي بعد سنوات قليلة.

(العربي الجديد)

————————-

مقال بنيويورك تايمز: كيف ستنتهي الحرب على أوكرانيا؟.. بحل سلمي أم بشيء أفظع؟

تساءل الكاتب سبنسر بوكات ليندل عن طريقة نهاية الحرب على أوكرانيا، مشيرا إلى أنها بعد شهر تقريبا تمر بمرحلة محفوفة بالمخاطر. فمن ناحية توقف الغزو الروسي بشكل أساسي، على حد تعبير وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، وفشل حتى الآن في تحقيق أي من الأهداف الرئيسية للرئيس فلاديمير بوتين.

ولكن من ناحية أخرى، كما يقول الكاتب في مقاله بصحيفة “نيويورك تايمز” (New York Times)، حدث ذلك بعد أن فقدت روسيا أكثر من 7 آلاف من قواتها، وفقا للحكومة الأميركية، وقد يقرر بوتين تصعيد حملة القصف التي تركت بالفعل أجزاء من أوكرانيا في حالة خراب. ووفقا لتقدير متحفظ، فقد قتل أكثر من 900 مدني، وأشار الكاتب إلى عدد من المسارات المحتملة لمآل الحرب وطريقة انتهائها:

حل دبلوماسي سريع

على الرغم من أن لدى كلا الجانبين شروطا من المرجح أن تظل غير قابلة للتفاوض، فإن النتيجة الأكثر ترجيحا هي تقسيم أوكرانيا، “فيأخد بوتين جنوب شرقي البلاد وينتقل ذوو الأصول الروسية إلى هناك، وبقية الأمة الأوكرانية تستمر كدولة ذات سيادة”، حسب وجهة نظر القائد الأعلى السابق لقوات الحلفاء لأوروبا الأدميرال المتقاعد جيمس ستافريديس.

حرب طويلة شاقة

إن ضعف أداء الحملة العسكرية الروسية كان يفترض أن يدفع بوتين نحو الدبلوماسية، لكن في الوقت الحالي يبدو من المرجح أن ذلك سيدفعه نحو التصعيد، وهو ما بدا واضحا في الأيام الأخيرة عندما كثفت روسيا قصفها على المناطق المدنية في محاولة للضغط على كييف.

نحو انخراط صيني أكبر

الصين وروسيا “تشتركان في الاعتقاد بأن الولايات المتحدة مصممة على عرقلة صعود بلديهما، وقد أبدتا رغبة في رؤية نظام عالمي يتضاءل فيه نفوذ واشنطن إلى حد بعيد”، حسب إيمي تشين التي تغطي الشأن الصيني في “نيويورك تايمز”.

ومع ذلك يشك كثيرون في أن تصبح الصين طرفا رئيسا في الصراع، لأن هناك حدودا لمدى قدرتها على مساعدة روسيا اقتصاديا. وبتقديم الدعم العسكري لروسيا قد تخاطر الصين بتنفير القوى العالمية الأخرى التي تتعامل معها، كما أوضح الكاتب في “نيويورك تايمز” بول كروغمان.

استيلاء بوتين على أوكرانيا من دون توقف

على الرغم من إخفاقات روسيا الأولية في أوكرانيا، يعتقد العديد من المعلقين أنها مسالة وقت فقط قبل أن يطلق بوتين القوة الكاملة لجيشه على مدن أوكرانية أخرى ويسقط حكومتها، ولن يمنعه من ذلك سوى الموت، وفق ما ذكرته ماشا غسين التي تغطي الشأن الروسي في مجلة “نيويوركر” (New Yorker) الأميركية. وأردفت “لأنه إذا ظل حيا فسيحدث ذلك مرارا وتكرارا، في مولدوفا وأوكرانيا وجورجيا ودول البلطيق وبولندا”.

وحذر الكاتب في ختام مقاله من أن شنّ روسيا هجوما موسعا على دول سوفياتية سابقة أخرى من شأنه أن يخاطر بمواجهة مباشرة مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إما عمدا أو بطريق المصادفة.

المصدر : نيويورك تايمز

———————–

الغزو الروسي لأوكرانيا والصورة الجديدة للاقتصاد العالمي/ د.مخلص الناظر

شكّلت العقوبات الاقتصادية الرد الأبرز للدول الغربية على الغزو الروسي لأوكرانيا. وخلال الأسابيع الثلاثة الماضية، طغت العقوبات على الاقتصاد الروسي.

بدأ الغرب بالاستيلاء على أصول أغنى الأفراد المقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومنع الرحلات الجوية الروسية في المجال الجوي للدول الأوروبية وأمريكا، وتم تقييد وصول الاقتصاد الروسي إلى التكنولوجيا المستوردة من الدول غربية. والأمر الأكثر دراماتيكيةً، هو أن الولايات المتحدة وحلفاءها جمّدوا الأصول الاحتياطية للبنك المركزي الروسي وعزلوا روسيا ليس عن نظام المدفوعات المالية SWIFT فحسب، ولكن أيضاً عن المؤسسات الأساسية للتمويل الدولي، بما في ذلك جميع البنوك الأجنبية وصندوق النقد الدولي وأسواق الدين في بورصات لندن وباريس وبراميت التي لطالما شكّلت السوق الأبرز لسندات الدين الحكومية الروسية.

روسيا، الدولة التي تمتد عبر 11 منطقةً زمنية وتصدّر جميع أنواع السلع الحيوية تقريباً، لم تعد جزءاً من النظام الدولي بالطريقة التي كانت عليها قبل أسابيع قليلة فقط.

نتيجةً للعقوبات الغربية، انهارت قيمة الروبل، وتشير التقديرات إلى أن الحكومة الروسية على وشك التخلف عن سداد ديونها بالعملة الأجنبية، في حين أجبر الخوف من التعرض للعقوبات، الشركات الغربية على الفرار بشكل جماعي من البلاد.

إن العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا لديها تأثيرات تتجاوز الاقتصاد الروسي لتستهدف نظام العولمة الاقتصادية الذي تم إرساؤه بعد الحرب العالمية الثانية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

واجهت العولمة الاقتصادية خلال العشرين سنةً الماضية تحديين رئيسيين:

الأول: يتمثل في الحواجز التي أقامها الشعبويون والقوميون أمام التجارة الحرة والاستثمار والهجرة وانتشار الأفكار، خاصةً في الولايات المتحدة الأمريكية.

الثاني: يتمثل في تحدي الصين للنظام الاقتصادي الدولي القائم على القواعد والترتيبات الأمنية طويلة الأمد في آسيا، الأمر الذي دفع الغرب إلى إقامة حواجز أمام التكامل الاقتصادي مع الصين، ليأتي الغزو الروسي وما استدرجه من عقوبات غربية على موسكو ويدق مسماراً جديداً في مفهوم العولمة الاقتصادية.

في هذا المقالة سوف نحاول تحديد الملامح الأولية للنظام الاقتصادي الجديد من خلال تحليل الأدوار المختلفة للاقتصاديات الكبرى في العالم ووسائل التفوق الاقتصادي الجديدة:

1- مواجهة عسكرة الدولار

تكمن نقطة قوة العقوبات المفروضة على روسيا في أن التحالف الذي فرضها كان واسع النطاق. فتجميد احتياطيات البنك المركزي الروسي، على سبيل المثال، لا يصلح إلا إذا كانت غالبية النظام المالي العالمي على استعداد للقيام بذلك… نظراً إلى أن التحالف المناهض لروسيا يضم جميع المؤسسات المالية الرئيسية باستثناء البنوك الصينية، وبما أن البنوك الصينية لا تريد أن تُستبعد من هذا النظام، فلن تؤدي العقوبات المالية إلى أي تغييرات جوهرية في النظام النقدي أو المالي العالمي.

لكن في المقابل ستجد الاقتصادات المتخوفة من استخدام واشنطن للدولار كسلاح وبشكل مفرط ولمرات عديدة منذ تسعينيات القرن الماضي، نفسها أمام مبرر جديد لعدم ربط احتياطيتها النقدية بالدولار، بل بسلة عملات مختلفة والبحث عن نظام مدفوعات بديل من نظام Swift، الخاضع للهيمنة الأمريكية، وربما هذا ما يفسر رغبة المملكة العربية السعودية في بيع إنتاجها النفطي باليوان الصيني، وهو الأمر نفسه الذي دفع الحكومة الهندية إلى استغلال فرصة التوتر بين روسيا والغرب إبان فرض العقوبات، حيث اشترت ثلاثة ملايين برميل من خام الأورال الروسي من شركة فيتول، للتسليم في أيار/ مايو، في أول عملية شراء لها منذ غزو روسيا لأوكرانيا في 24 شباط/ فبراير الماضي. يأتي ذلك في الوقت الذي كشف فيه بعض المسؤولين الهنود عن أن نيودلهي تدرس قبول عرض روسي لشراء نفطها الخام وسلع أخرى بأسعار مخفضة، مع الدفع عن طريق صفقة بالروبل الروسي والروبية الهندية، وإبداء الحكومة التركية الرغبة في التبادل السلعي بالعملات المحلية.

كما سيشجع هذا الوضع الصين لمحاولة استبدال اليوان الصيني بالدولار الأمريكي، ويبدو ذلك فكرةً واعدةً لكنها تتطلب العديد من الإجراءات أولها إجراء تغييرات في النظام المالي الصيني من خلال تخفيف قيود التحكم برأس المال -Capital control- بهدف تسهيل دخول الاستثمارات الأجنبية إلى الأسواق الصينية وخروجها، ووجود نظام مدفوعات معتمد في العديد من الدول يوازي نظام Swift.

كما أن الارتفاعات الكبيرة في استثمارات العملات الرقمية التي لا تخضع للنظام العالمي التقليدي على الرغم من عدّها من أصول المخاطرة المرتفعة والتي تنخفض في أوقات الحروب في ظل ارتفاعات أسعار الملاذات الآمنة، تشير إلى دور كبير يمكن أن تلعبه هذه العملات في نظام المدفوعات العالمي المتوقع أن تتبناه دول عدة لتفادي تحكّم الدولار.

2- الموقع الجغرافي وتعقيد سلاسل التوريد

إن أحد أهم تأثيرات العولمة الاقتصادية ما بعد الحرب العالمية الثانية، هو أنها قللت من أهمية الموقع الجغرافي، فمن الناحية الجيوسياسية ظهرت سلاسل توريد انسيابية وممتدة بشكل مذهل تجعل السلع والخدمات تصل إلى يد المستهلك النهائي من الوقود إلى الهاتف الذكي أو أي شيء آخر في أي مكان إلى حد كبير.

أما الآن فقد عادت الأهمية للموقع الجغرافي، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية. ألمانيا على سبيل المثال، والتي تبعد عاصمتها نحو 750 ميلاً عن العاصمة الأوكرانية، كييف، وتعتمد على روسيا للحصول على نصف احتياجاتها من الغاز، تقع في مكان مختلف من نواحٍ عديدة عن فرنسا المجاورة التي تقع عاصمتها على بعد نحو 1،300 ميل من منطقة الحرب ولا تحصل إلا على ربع احتياجاتها فقط من الغاز الروسي. أصبحت الحدود مع روسيا الآن بمثابة أفق جيوسياسي، وسيعكس القرب منها كيفية استجابة الدول، مما يزيد من احتمالية الانقسامات بين الحلفاء، كما رأينا بالفعل في إحجام بعض الدول الأوروبية عن اتّباع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في فرض عقوبات على الطاقة الروسية.

3- تضخم مزمن وركود قادم

إن السمة الأبرز للاقتصاد العالمي بعد الغزو الروسي، هي التضخم المزمن المتسارع والمدفوع من ارتفاع التكاليف والذي عرقل معركة البنوك المركزية الكبرى في العالم مع حالة التضخم المؤقت الناجمة عن فتح الاقتصاد العالمي بعد جائحة كورونا.

إن هذا التضخم الناتج عن ارتفاع أسعار الطاقة وتعقيدات سلاسل التوريد، سيتسبب في العديد من الأزمات في دول الشرق الأوسط، فعلى سبيل المثال تُعدّ سوريا ولبنان وجنوب السودان واليمن من الدول المهددة بمجاعات في حال استمرار ارتفاع أسعار الغذاء العالمية، في حين ستعاني الأسواق الناشئة مثل مصر وتركيا من ارتفاع تكاليف الدين وتخارج كبير في أموال الاستثمارات وخاصةً من الدول التي لا تقف إلى جانب إستراتيجية العقوبات الأمريكية على روسيا، إذ إن الشركات الكبرى ستحجم عن الاستثمار في هذه الأسواق خوفاً من استهدافها بعقوبات أمريكية.

كما أن قيود التصدير التي بدأت تفرضها الدول على تصدير بعض المنتجات بهدف السيطرة على التضخم كإجراءات وقائية تشكّل تحدّياً كبيراً لقواعد التجارة الحرة.

في حين ستجد بعض الدول المنتجة للطاقة في استخدام إستراتيجية تسييس إمدادات الطاقة من خلال التحكم بحجم الإنتاج والمعروض في الأسواق بهدف الحصول على مكاسب سياسة كالمملكة العربية السعودية وفنزويلا وقطر.

الخلاصة

إن الآثار الاقتصادية للغزو الروسيا لأوكرانيا تكاد تعادل أو تتفوق على آثاره السياسية والعسكرية، من خلال تشكيل تحالفات مرحلية أو دائمة لمواجهة نظام اقتصادي قائم منذ الحرب العالمية الثانية تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، اعتمد على فرض هيمنة مالية مدعومة بقوة عسكرية وسياسية واقتصادية. من المبكر الحكم على مدى قدرة هذا النظام الاقتصادي الجديد على الاستمرار، ولكننا نستطيع القول إنه يستقطب اهتمام العديد من الدول التي لطالما عُدّت في ركب الإستراتيجية الأمريكية سياسياً واقتصادياً مثل السعودية والهند على سبيل المثال، فهل تشكل الأزمة الأوكرانية بداية النهاية للهيمنة الاقتصادية الأمريكية على العالم؟

رصيف 22

—————————-

الحرب الأوكرانية… إعادة نبوءات صمويل هنتنغتون إلى الصدارة/ محمد سعد

“ترى كل حضارة نفسها على أنها مركز العالم وتكتب تاريخها باعتباره الدراما المركزية في تاريخ البشرية” (صمويل هنتنغتون، “صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي”).

في كتابه “صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد”، تنبأ المفكر السياسي الأمريكي صمويل هنتنغتون بأن حروب المستقبل لن تكون بين الدول بالشكل التقليدي، لكن بين الثقافات والحضارات.

قسّم هنتنغتون العالم إلى تسع ثقافات أساسية وهي الثقافة الغربية البروتستانتية-الكاثوليكية، والثقافة اللاتينية في أمريكا الجنوبية، والثقافة الأرثوذكسية التي تشمل روسيا الحالية وحليفاتها من الدول الأرثوذكسية الصغيرة في أوروبا ويوغوسلافيا السابقة، والثقافة الإسلامية، والثقافة البوذية، والثقافة الهندوسية، والثقافة الإفريقية، والثقافة الصينية الكونفوشيوسية، والثقافة اليابانية.

يرى هنتنغتون أن الاعتقاد السائد في الغرب بعالمية القيم الغربية وأنظمته السياسية اعتقاد سطحي وساذج وأن الإصرار المستمر على فرض التحول الديمقراطي لن يؤدي إلا إلى زيادة العداء مع الحضارات الأخرى.

في الوقت الذي رسم فيه البعض عالماً يوتوبياً تتعاون فيه الحضارات بلا صدام، رسم آخرون عالماً ديستوبياً تقف فيه الحضارات على خطوط النيران والدماء في صدام لا ينتهي. ولكن تبدو الحقيقة وسطاً بين هذين المتطرفين. فالعالم في حالة تفاعل يأخذ شكل الصراع أحياناً ويأخذ شكل التعاون أحياناً أخرى وتغلب فيه لغة المصلحة أغلب الأحيان.

لكن يبقى مفهوم المصلحة في حد ذاته مفهوماً متغيراً غير ثابت، باختلاف الزمان والمكان ورؤية الأطراف لذواتهم، بما يحدد رؤيتهم لخريطة الصداقة والعداء. فما يعتبره البعض مصدر تهديد اليوم يمكن أن يراه بطريقة مختلفة غداً. وفقاً لهنتنغتون، الثقافة والحالة الحضارية السائدة هي التي تحدد ما هي المصلحة القومية. فكل بلد ينظر إلى مصلحته وفقاً لثقافته السياسية وانتمائه الحضاري.

تظهر أوكرانيا كمثال تفسيري، فانتماؤها إلى المحيط الروسي، في عهد الرئيس الأسبق فيكتور يانكوفيتش، جعلها تنظر إلى مصالحها وانتمائها بمفهوم مختلف تماماً عن نظرتها لمصالحها في عهد الرئيس الحالي فولوديمير زيلينسكي. فالثقافة والانتماء الحضاري للدول عند هنتنغتون هو ما يحدد المصلحة وليس العكس. واختلاف رؤية الأطراف للعالم تحدد حدود الصراع والتعاون بينها.

تنبؤات هنتنغتون والحرب الأوكرانية

تقوم الحرب في أوكرانيا على سرديتين متعارضتين: السردية الروسية التي تذهب إلى أن الغرب يهدد وجود الروس وثقافتهم السياسية والمجتمعية، لذا يجب أن يقاوموا تمدده؛ والسردية الغربية التي ترى أن روسيا تهدد الديمقراطيات وتريد أن تبتلعها وتهزمها، ولن تقف على حدود أوكرانيا، ولذلك يجب مقاومة توسعها. كل طرف يرى في الآخر تهديداً ثقافياً وجودياً يجب مواجهته، حتى لو بالدم والنار والتجويع.

ظهرت هاتان السرديتان كحدود ثقافية بين الأطراف المتداخلة في الصراع، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. ففي حين تكتل الغرب ككتلة واحدة خلف سرديته للحرب، لم تقنع هذه السردية الكثيرين خارج الغرب والدول التي يضمن أمنها بشكل مباشر مثل كوريا الجنوبية واليابان وتايوان. فقد فشل الغرب في إقناع الهند بها، أو استمالة الصين إليها، كما عجز عن نشر روايته عن الحرب في الشرق الأوسط الذي تتنازعه تيارات إما معادية للرؤية الغربية التي تقودها الولايات المتحدة أو تشكك في جدية واشنطن في ضمان أمنها، كما حال الدول الخليجية. كذلك، لم تجد الرواية الغربية أي نجاح حتى في تركيا نفسها، العضو “غير الغربي” في الناتو.

تظهر نظرية صراع الحضارات كنبوءة لهذه الحرب، كما لو كانت ترسم حدوداً ثقافية بين الحضارات الكبرى كما توقع هنتنغتون في كتابه. وبرغم ثغرات في نظريته، يبدو العالم الآن أقرب من أي وقت مضى إلى تصوراته.

لماذا فشلت رواية “الغرب” خارج حدوده؟

ظهرت الرواية الغربية للحرب كرواية تعيد إنتاج تاريخ الغرب باعتباره “الدراما المركزية في تاريخ البشرية”، كما قال هنتنغتون نفسه. ظهر فيها تضخم في الذات الحضارية واحتقار مبطن للآخر، تبدو من خلالها مرة أخرى نفس أسطورة فوقية الرجل الأبيض الذي يعتبر موته الحدث الأكثر كارثية في العالم مقارنة بأحداث أقل أهمية عن موت الآخرين.

هكذا، حفلت وسائل الإعلام الغربية بخطابات التفوق الأبيض وكارثية موت الأوروبي المسيحي ذي العيون الزرقاء والشعر الأشقر، والذي هو بطبيعة الحال أرقى من الآخرين غير المتعلمين القادمين من وراء البحر حيث تنتشر الثقافات “الأدنى”. بعبارات أكثر وضوحاً، “هؤلاء الأشخاص أذكياء، إنهم أناس متعلمون… هذه ليست موجة اللاجئين التي اعتدنا عليها، أناس لم نكن متأكدين من هويتهم، أشخاص لديهم ماضٍ غير واضح، والذين يمكن أن يكونوا حتى إرهابيين”، كما قال رئيس الوزراء البلغاري كيريل بتكوف.

سيل الفوقية البيضاء صدم العالم غير الغربي وجعله أكثر تشككاً في رواية الغرب حول الحرب. تكرست اللهجة الفوقية بتحرك سياسي طلب من بلدان الشرق الأوسط ووسط آسيا تبني نفس الموقف الغربي وإدانة روسيا بوضوح والمشاركة في حصارها، وهو الموقف الذي عبر عنه سفراء مجموعة الدول السبع في مصر في البيان المعنون بـ”يجب أن نقف مع أوكرانيا”. والوجوب هنا كان موجّهاً للدولة المستضيفة للسفراء، وهي مصر. الموقف المقابل الرافض عبّر عنه رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان حين قال “هل نحن عبيد لكم؟!” اعتراضاً منه على بيان مشابه من 22 سفير في بلاده.

كانت الأزمة الأخرى في الرواية الغربية أنها رواية تعجز عن تقديم منظومة أمنية تضمن أمن الجميع، ولا يزال البعض يعتبرها منظومة تهديد للقيم غير الغربية، وهو ما يعود بنا إلى نبوءات هنتنغتون. فرغم أن سردية الديمقراطية والرفاه الاقتصادي كانت جذابة واستطاعت أن تخترق مجال الحضارة الأرثوذكسية المتخيّل، إذ استطاع الغرب أن ينتزع أوكرانيا الأرثوذكسية من المجال الروسي إلى مجاله، مستغلاً تصدعات الثقافة السلافية، إلا أن محاولات نشر الديمقراطية عن طريق الثورات الملونة التي نجحت في بلاد، أثارت في بلاد أخرى النعرات القومية وجعلت الغرب مصدر تهديد للبعض وليس عامل جاذبية.

فروسيا التي تشعر بأنها تحت التهديد استطاعت أن تعقد تحالفات في محيطها مع ديكتاتوريات أخرى في بيلاروسيا (آخر ديكتاتوريات أوروبا) ووسط آسيا، واستطاعت أن تجد موطئ قدم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

وتحت التهديد الأمني والرغبة في التوازن مع الصين وباكستان، فشل الغرب في إقناع الهند التي تبدو متمسكة بالحياد في الأزمة الأوكرانية لأسباب أساسية: أولها سياسة عدم الانحياز التاريخية التي شكلت هوية الهند الدولية؛ الثاني هو أن الهند تعتمد على التسليح الروسي بنسبة تصل لأكثر من 60%، وهو ضروري لإحداث توازن بينها وبين الصين من ناحية ومع باكستان من ناحية؛ والثالث أن الحكومة القومية التي تحكم الهند حالياً تتفهم مخاوف القوميين الروس بشكل أكبر من الحكومات الليبرالية.

تظهر الصين كتكتل حضاري ضخم قال هنتنغتون إنه سيشكل أحد أهم مصادر تحدي الغرب. ورغم أن الصين لها مصالح اقتصادية مع الغرب لكن مصالحها الاستراتيجية أقرب إلى السردية الروسية. لذا، فشل الغرب في الضغط عليها لتأييد العقوبات على روسيا والمشاركة فيها، خاصة أن موقفها يذهب إلى أنها عقوبات غير شرعية وشائنة.

تحاول الصين أن توازن بين مصالحها الاقتصادية الأقرب إلى الغرب ومصالحها الاستراتيجية الأقرب إلى روسيا لكنها إلى الآن تبدو أقرب إلى تغليب الاستراتيجي مع عدم إهمال الاقتصادي.

تكتل آخر فشل الغرب في “بيع” سرديته إليه هو دول الشرق الأوسط، مركز الحضارة الإسلامية وفقاً لتصنيف هنتنغتون. الدول الخليجية تحاول أن تحافظ على حياد يميل إلى غموض لسببين: الأول أن لديها رغبة في عدم الاستجابة لضغوط الولايات المتحدة التي تحاول أن تمارس ضغوطاً لتخفيض أسعار النفط؛ والثاني أن لديها رغبة في استكشاف السلاح الروسي الذي يُستعرَض في سوق عملي مفتوح للمتابعين على الأرض الأوكرانية.

استخدمت روسيا نظم تسليح هجومية جديدة مثل الصواريخ الهجومية الهايبرسونيك (الفرط صوتية) وتستعرض قدراتها الجوية والصاروخية، الأمر الذي لا يشجع الخليج على الاستثمار في العداء مع مورد محتمل للسلاح، خاصة في ظل عدم ثقته في الحماية الأمريكية.

الخلاصة

رسمت الحرب الأوكرانية حدود اشتباك ظهرت أقرب إلى نبوءات عالم السياسة الأمريكي الراحل صمويل هنتنغتون. ظهرت الرواية الغربية المركزية إما ضد الآخر أو متعالية عليه أو متجاهلة لوجوده، لدرجة جعلت رئيس أوكرانيا يوجّه خطاباً مغرقاً في الرؤية المركزية الغربية المعادية أو المتجاهلة لأي آخر. فقد وجه زيلينسكي خطابه للكنيست الإسرائيلي قائلاً: “نحن في بلدين مختلفين وفي ظروف مختلفة تماماً. لكن التهديد هو نفسه: بالنسبة لنا ولكم، التدمير الكامل للشعب، والدولة، والثقافة”. لم تكن كلمته إلى الكنيست محايدة أو متوازنة أو مراعية لرؤية الآخر العربي للصراع، لكنها كانت مرتكزة على الأساطير الغربية المحيطة بقيام دولة إسرائيل واستمرارها كامتداد غربي في محيط شرقي.

ورغم سيطرة الرواية الغربية وجاذبيتها في كثير من الأحيان، إذ تتمتع بقدر كبير من القدرة على الانتشار خارج حدودها بحكم السيطرة المعرفية وعقلنة العنف، إلا أن الحرب كشفت عن تحدٍّ يواجهها. فرؤية الآخر غير الغربي لمصلحته النابعة من انتماءاته الثقافية جعلته لا يتبنى الرواية الغربية عن الحرب. وتبدو الثقافات والحضارات الأخرى متأرجحة بين حالة حياد أو ترقب أو تشكك في الرواية الغربية لتهدم أسطورة إجماع العالم على نظام أمني موحد مركزه الغرب ذي الحضارة المسيحية البروتستانتية البيضاء وهوامشه أي آخر.

رصيف 22

—————————

===================

تحديث 25 أذار 2022

———————–

ماذا يعني الدفاع عن أوروبا؟/ سلافوي جيجيك

بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا، أعلنت الحكومة السلوفينية على الفور استعدادها لاستقبال آلاف اللاجئين الأوكرانيين. وكمواطن سلوفيني، لم أشعر بالفخر فحسب، بل بالخجل أيضًا.

فعلى أي حال، عندما سقطت أفغانستان في أيدي طالبان قبل ستة أشهر، رفضت هذه الحكومة نفسها قبول اللاجئين الأفغان، بحجة أنه ينبغي عليهم البقاء في بلدهم والقتال. وقبل شهرين، عندما حاول آلاف اللاجئين، معظمهم من الأكراد العراقيين، دخول بولندا من بيلاروسيا، عرضت الحكومة السلوفينية على بولندا مساعدة عسكرية لدعم جهودها الدنيئة لإبعادهم، مدعية أن أوروبا تتعرض للهجوم.

وفي جميع أنحاء المنطقة، ظهر نوعان من اللاجئين. وأوضحت الحكومة السلوفينية الفرق بينهما في تغريدة نشرتها في 25 شباط/فبراير 2022 وتقول فيها: “يأتي اللاجئون الأوكرانيون من بيئة تختلف تمامًا في معناها الثقافي والديني والتاريخي عن البيئة التي يأتي منها اللاجئون من أفغانستان”. وبعد انتقادات واسعة، سرعان ما حُذفت التغريدة؛ لكن الحقيقة البذيئة انكشفت، وهي أن أوروبا يجب أن تدافع عن نفسها من كل ما ليس أوروبيا.

وسيكون لهذا النهج تأثير كارثي على أوروبا في الصراع العالمي المستمر من أجل النفوذ الجيوسياسي.

إذ تقوم وسائل الإعلام والنخب المحلية بتأطير الصراع على أنه صراع بين المجال “الليبرالي” الغربي والمجال “الأوراسي” الروسي، متجاهلين مجموعة تضم عددا أكبر من البلدان، بما في ذلك أمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط، وأفريقيا وجنوب شرق آسيا، التي تراقبنا عن كثب.

وحتى الصين ليست مستعدة لتقديم الدعم الكامل لروسيا، رغم أن لديها خططها الخاصة. إذ في رسالة وجهها الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، بعد يوم من غزو روسيا لأوكرانيا، قال الرئيس الصيني إن بلاده مستعدة للعمل على تطوير علاقات الصداقة والتعاون بين الصين وكوريا الديمقراطية “في ظل الوضع الجديد”. وهناك خوف من أن الصين سوف تستخدم “الوضع الجديد” من أجل “تحرير” تايوان.

تطرف بوتين

وما يجب أن يقلقنا الآن هو أن التطرف الذي نراه، وبصورة أوضح في سياسة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ليس مجرد خطاب بلاغي. إن عددا كبيرا من اليساريين الليبراليين، ممن كانوا مقتنعين بأن روسيا وأوكرانيا كلتيهما لا تستطيعان تحمل حرب كاملة، اعتقدوا أن بوتين كان يخادع عندما حشد القوات على حدود أوكرانيا. وحتى عندما وصف بوتين حكومة الرئيس الأوكراني، فولودومير زيلينسكي، بأنها “عصابة من مدمني المخدرات والنازيين الجدد”، توقع معظمهم أن تحتل روسيا فقط “الجمهوريتين الشعبيتين” المنشقتين اللتين يسيطر عليهما الانفصاليون الروس المدعومون من الكرملين أو، على الأكثر، تمديد الغزو ليشمل منطقة دونباس شرق أوكرانيا بأكملها.

والآن يلوم البعض ممن يطلقون على أنفسهم اليساريون (ليسوا كذلك بالنسبة لي) الغرب على كون الرئيس الأمريكين جو بايدن، محقًا بشأن نوايا بوتين. والحجة معروفة جيدًا وهي أن الناتو كان يطوق روسيا ببطء، ويثير ثورات ملونة في المناطق المجاورة لها، ويتجاهل المخاوف المعقولة لبلد تعرض لهجوم من الغرب في القرن الماضي.

وبطبيعة الحال هناك عنصر من الحقيقة في هذه الحجة. لكن الاحتجاج بها لوحدها يشبه تبرير سياسة هتلر بإلقاء اللوم على معاهدة “فرساي” غير العادلة. والأسوأ من ذلك أنها تقر بأن القوى الكبرى لها الحق في مناطق نفوذ يجب على الآخرين الخضوع لها من أجل الاستقرار العالمي. وينعكس افتراض بوتين بأن العلاقات الدولية عبارة عن صراع بين القوى العظمى في ادعائه المتكرر بأنه لا خيار أمامه سوى التدخل عسكريًا في أوكرانيا.

هل هذا صحيح؟ هل تكمن المشكلة حقا في الأوكرانية الفاشية؟ من الأفضل أن يوجه هذا السؤال إلى روسيا بقيادة بوتين. إن مصدر الإلهام الفكري لبوتين الفكري هو إيفان إيلين، الذي أعيد طبع أعماله وقدمت لأعضاء الدولة والمجندين العسكريين. إذ بعد طرده من الاتحاد السوفييتي في أوائل عشرينيات القرن الماضي، دعا إيلين إلى اعتماد نسخة روسية من الفاشية: الدولة كمجتمع عضوي يقوده الملك الأب، حيث تعرف الحرية مكانة المرء. والغرض من التصويت لإيليين (وبوتين) هو التعبير عن الدعم الجماعي للقائد، وليس إضفاء الشرعية عليه أو اختياره.

ويتبع ألكسندر دوغين، فيلسوف بلاط بوتين، أسلوب إيليين إلى حد بعيد، مع إضافة “مقبلات” ما بعد الحداثة المتعلقة بالنسبية التاريخية، والتي حددها كما يلي:

“ما يسمى بالحقيقة هي مسألة إيمان. لذلك نحن نؤمن بما نقوم به، ونؤمن بما نقوله. وهذه هي الطريقة الوحيدة لتحديد الحقيقة. لذلك لدينا حقيقتنا الروسية الخاصة بنا والتي يجب أن تقبلها. فإذا كانت الولايات المتحدة لا تريد بدء الحرب، عليك أن تدرك إذاً أنها لم تعد قائدا مميزا. وتقول روسيا أنه [نظرا] للوضع في سوريا وأوكرانيا، “لا، لم تعد الزعيم الآن” وهذا ما يطرح السؤال بشأن من سيحكم العالم. وفقط الحرب هي من يمكن أن يقرر ذلك حقا”.

ماذا عن شعب سوريا وأوكرانيا؟

ولكن ماذا عن شعب سوريا وأوكرانيا؟ هل يمكنهما أيضًا اختيار حقيقتهما أم أنهما مجرد ساحة معركة لحكام العالم المحتملين؟

إن فكرة أن كل “أسلوب حياة” له حقيقته الخاصة هي ما يجعل بوتين محبوبا لدى الشعبويين اليمينيين شأنه في ذلك شأن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي أشاد بغزو روسيا لأوكرانيا ووصفه بأنه عمل “عبقري”. والشعور متبادل: عندما يتحدث بوتين عن “نزع النازية” في أوكرانيا، يجب أن نضع في اعتبارنا دعمه للتجمع الوطني لمارين لوبان في فرنسا، وماتيو سالفيني ليغا في إيطاليا، وغيرها من الحركات الفاشية الجديدة الفعلية.

إن “الحقيقة الروسية” ليست سوى أسطورة مناسبة لتبرير رؤية بوتين الإمبريالية، وأفضل طريقة لأوروبا لمواجهتها هي بناء جسور إلى البلدان النامية والناشئة، التي لدى العديد منها قائمة طويلة من المظالم المبررة ضد الاستعمار والاستغلال اللذين يمارسهما الغرب في حقها. ولا يكفي “الدفاع عن أوروبا”؛ بل تكمن المهمة الحقيقية في إقناع الدول الأخرى بأن الغرب يمكن أن يعرض عليها خيارات أفضل مما يمكن أن تعرضه روسيا أو الصين. والطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك هي تغيير أنفسنا عن طريق اقتلاع الاستعمار المحدث بصرامة، حتى لو كان ذلك عن طريق دعم إنساني.

هل نحن مستعدون لإثبات أننا بالدفاع عن أوروبا نناضل من أجل الحرية في كل مكان؟ إن رفضنا المشين لمعاملة اللاجئين على قدم المساواة يرسل للعالم رسالة مختلفة تمامًا.

سلافوي جيجيك – ليوبليانا

ترجمة: نعيمة أبروش

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت 2022

ar.Qantara.de

سلافوي جيجيك، أستاذ الفلسفة بكلية الدراسات العليا الأوروبية، هو المدير الدولي لمعهد بيركبيك للعلوم الإنسانية في جامعة لندن ومؤلف كتاب عن الأيديولوجيا.

——————————–

سياسات شرق أوسطية في الحرب الروسية/ وضاح شرارة

تصاحب الهجوم العسكري الذي أرادته موسكو، أي الفريق الأمني والاستخباري الذي تتألّف منه حلقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين القريبة، صاعقاً وكاسحاً، حملة “إعلامية” تحريضية وإجرائية تسعى في شق الشعب الأوكراني، والأمة الأوكرانية، جماعات متعادية ومتنافرة.

وتتناول الحملة، أولاً، علاقة الدولة بالأوكرانيين. فتنفي تمثيل الدولة، أي رئاستها وحكومتها وبرلمانها وجيشها وإداراتها، للشعب الناخب والعامل والمدني والأهلي والشخصي. فالدولة وطواقمها المتفرّقة، “غير شرعية”، على رغم انتخاب 72.2 في المئة من المقترعين فلوديمير زيلينسكي رئيساً لجمهورية أوكرانيا.

ذرائع الحملة

يطعن في “شرعية” الدولة الأوكرانية خليط من العلل، على ما تروّج حملة موسكو الإعلامية:

1) فبعض الموظّفين والعسكريين والنواب والسياسيين ينتسب إلى منظمات قومية متطرّفة، واشترك في قتال الانفصاليين الشرقيين (الدونباس) الناطقين بالروسية، غداة ضم روسيا القرم في آذار/ مارس 2014.

2) ودعاة استقلال الأمة الأوكرانية، أصلاً، هم أولاد حلفاء الغزو الهتلري النازي الذين قاتلوا في صفوف القوات الألمانية النازية وانقلبوا على “شعوب الاتحاد السوفياتي” في “حربها الوطنية العظمى”، وعلى الشعب الروسي في المرتبة الأولى، وطلبهم اليوم الاستقلال عن الاتحاد الروسي إنما هو تتمّة قتالهم “الشعب السوفياتي” الواحد و”العظيم”.

3) والدولة الأوكرانية، اليوم، بقضّها وقضيضها، صنيعة الحلف الأطلسي، الأميركي رغم الدول التسع والعشرين الأخرى، والعدواني والحالم بتفكيك روسيا، واطراحها من العالم، وروسيا مِلْحُه، على قول إنجيلي. (“وهل يبقى للعالم طعم إذا خلا من روسيا؟” يسأل الرئيس القيصر ويردد “الشعب” المخلِّص ومبتكر الشعبوية في القرن التاسع عشر). فالخبراء الأميركيون يعملون في المرافق الأوكرانية كلها، ويصنعون الفيروسات القاتلة، الجمرة الخبيثة والطاعون، في مختبرات سرّية- سوى أن هذه المختبرات هي من مخلّفات تصفية ذيول الحرب الباردة، ومصدرها الأول سوفياتي روسي، وكان يعمل فيها، في البلد الاشتراكي الأول، قبل 1991، نحو 70 ألف علمي، على رغم معاهدة 1972 وحظرها الأسلحة الجرثومية والبيولوجية عموماً.

4) وعلى مثال شرق أوسطي، مشرقي وعربي عتيد، سوري- فلسطيني وإيراني ينبغي ألا يتوسّط وسيط قائم بنفسه ومستقل قطبي الصراع: الأطلسي الأميركي الشرس والمدمّر (الإمبريالي والنازي)، والروسي، نصير اليتيم والأرملة والمدني المظلوم (“تتمثل إحدى أولويات روسيا في المفاوضات مع السلطات الأوكرانية في التوصل إلى اتفاق بشأن انسحاب المدنيين من مناطق القتال”، كتب فيتالي نعومكين، “ديبلوماسي” روسي سابق).

5) فإذا لم يكن ثمة أوكرانيا، ولا كان شعبٌ أوكراني في التاريخ المديد، وليست أوكرانيا، اليوم، إلا وليدة جهل ستالين، مفوّض لينين إلى “المسألة القومية”، في روسيا والأمة الروسية، وغصناً مسلوخاً من الجذع الكبير، وكان ميلها الأوروبي والأطلسي المصطنع نكاية بمقاومة روسيا للنازية، وسيراً على طريق الأخيرة، ليس إلا، بَطُل “الكيان” الأوكراني (على نحو بطلان لبنان “الكيان”). و”تصفية النازية” الأوكرانية على ما يصرّ الرئيس بوتين، في رسالة طويلة أذاعها في 12/7/2021، مآلها إلى تصفية الكل الأوكراني، النازي، ونزع سلاحه ودولته.

قناع الحرب الأهلية

والمفضَّل أو المقدَّم في فن الاجتثاث صدوره عن الداخل وتناقضاته. وعلى هذا، فالحرب الأهلية الأوكرانية في هذا المعرض (واللبنانية والعراقية والأردنية في المعرض الشرقي)، هي الوسيلة الناجعة إلى تقويض الدولة الجامعة، وتصديع المجتمع المتنازع والمختلف، ونزع المشروعية عن الوجود الوطني. و”امتياز” الحرب الأهلية أو “فضيلتها”، إذا جاز القول، هو أن الفريقين المتحاربين يخوضان، بناءً على “الأهلية” هذه وبموجب الصفة الداخلية والعائلية، حرب إفناء متبادل.

والمنتصر في حروب الداخل، على خلاف المنتصر في حروب الخارج، “يحق” له سحق عدوّه الأهلي، و”استئصاله عن بكرة أبيه”، على قول عربي بليغ أو فصيح، وإنكار حق المغلوب في اعتبار أبسط طلب يطلبه وهو معاملته على نحو “إنساني” بعد هزيمته. ومبدأ “عدم التدخّل في الشؤون الداخلية” سيف يسلطه القوي، الرئيس الصيني شي جينبينغ أو فلاديمير بوتين أو بشار الأسد طبعاً، على الضعيف، هونغ كونغ والإيغور أو أوكرانيا أو ملايين السوريين…

وتُصوَّر أصول حقوقية وقانونية مثل الحق في الحماية، وواجب التدخّل وصلاحية القضاء الجزائي الدولي العمومية، والجريمة في حق الإنسانية، وجريمة الحرب، والجريمة ضد السلم… في صورة عدوان فظيع على الشعوب والأمم المقهورة والسياسات المستقلة عن “الغرب”. وهي عدوان لا يُحتمل لأنها تقيد سلطان الطبقة الحاكمة، والمستولية غالباً على المواطنين، بقيود معايير عمومية، في دول لا تقر لرعية المحكومين بـ”الحق في المعارضة”، على ما جاء في مقررات مؤتمر فيينا، الرجعي، في عام 1815.

وعلى هدْي رجحان الحرب الأهلية في ميزان السلطان المطلق وتوحيد الشعوب بالقوة، عمد الرئيس الروسي إلى الاعتراف بجمهوريّتي الشرق الأوكراني، لوغانسك ودونيتسك “الشعبيتين”. وهما شقيقتا جمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الجورجيّتين والمسلوختين في 2008، وجمهورية ترانسينيستريا المولدوفية، مستقبلاً، إذا كسب الرئيس الروسي جزءاً من عدوانه الجاري. وكان الاعتراف في 21 شباط/ فبراير، ثلاثة أيام قبل شن نخبة قواته المسلحة التي انكبّ على بنائها وتحديثها وتجهيزها منذ 2014، سنة ضم شبه جزيرة القرم إلى “الاتحاد” الروسي، حرباً سمّاها عملية عسكرية خاصة.

ودعا الجمهوريتين “الشعبيتين” الجديدتين إلى زجّ قواتهما – وهي ميليشيا أهلية و”قومية” يؤطرها ويقودها ضباط ورتباء روس ويسلّحها الجيش الروسي، وتولّت أعمالاً جنائية مثل إسقاط طائرة ركاب ماليزية- في ما يزعم أنه ليس حرباً، وليس حرباً روسية. ومنذ 20 آذار/ مارس الجاري تحرص البيانات العسكرية الروسية، الصادرة عن وزارة “الدفاع”، على إشراك “قوات دونيتسك”، أحد الإقليمين الانفصاليين و”الشعبيين” في العمليات الحربية، وتنسب إليها إلحاق “خسائر فادحة بقوات اللواء الميكانيكي الثالث والخمسين (الأوكراني)” تارة، وتارة أخرى “تحرير بلدة فيرخنيتوريتسكويه”. وتكاد تقصر الأعمال الروسية على استعمال الأسلحة “المجنحة”، وعلى تدمير المقرّات القيادية “القومية”.

تعزير “المجيد”

وحين بدأ الرئيس الروسي القومي عدوانه، صبيحة 24 شباط/ فبراير، حرصت قواته على الانتشار على أراضٍ أوكرانية يقطنها الناطقون بالروسية، ومحاذية لروسيا، طبعاً، ولبيلاروسيا التي دمجها فعلاً وعملاً في مسرح العمليات العسكري الروسي، وقرر نصب سلاح ذرّي على أراضيها. ويخالف هذا الإجراء تعهّداً نصّت عليه، كتابةً، الاتفاقيات التي رعت الخروج من الحرب الباردة، واستخلصت النتائج الإقليمية المترتبة على تصدّع الكتلة السوفياتية. وأهمها انبعاث الدول الوطنية المستقلة شرق أوروبا، وميل شعوبها إلى الجمع بين وطنية لا تخلو من الغلوّ القومي والانعزالي، وبين رابطة أوروبية معقّدة، ومشكلة من كثير من جوانبها.

ويدل عدد من الإجراءات التنظيمية التي قدَّرت القوات الغازية إنفاذها في طريقها إلى كييف- مثل فتح ممرات إنسانية ومدنية آمنة صوب الأراضي الروسية (وليس صوب غرب أوكرانيا وشمالها)، أو مثل انتخاب مجالس محلية تتولى الإدارة المتعاونة والذاتية تحت سلطة الاحتلال- يدل على حسابات سياسية ضلّلتها أوهام القوّة وأحلام الإمبريالية القومية. فما أن دخلت قوات الاحتلال مدينة خيرسون الجنوبية، في اليوم الثامن للغزو، ومعظم سكانها لغتهم الأم روسية ويعدّون 290 ألفاً، حتى تظاهر 8 آلاف مواطن دعوا العسكر الذي قتل 200 من السكان، نصفهم مدنيون، إلى العودة إلى بلادهم. وهتفوا: “روسيا ليست بلداً إنها سجن كبير”.

وخرجت تظاهرات في كل مدن المقاطعة، في نوفا وكاخوفكا وسكادوفسك ونوفوترويتسك… ورفض الأهالي توزيع الجند الروسي المؤونة عليهم، على رغم حجر قوات الاحتلال على المساعدات الأوكرانية وامتناعها من توزيعها. وجاءت القوات الروسية بسكان من شبه جزيرة القرم المضمومة، أدوا دور الأهالي المحليين أمام آلات التصوير وهم يتهافتون على الكشك الروسي.

وخيرسون مدينة تصلح مثالاً على كذب الأوهام البوتينية و”الروسية- الكبيرة” (الشوفينية القومية) قبل الغزو، وعلى تضليل الدعاية الرسمية بعد الغزو. فمن ناخبي المدينة، في الانتخابات النيابية الأخيرة، اقترع 15 إلى 30 في المئة لمرشّحي المعارضة الموالية لروسيا، والمؤتلفة في كتلة “من أجل الحياة”. ويتزعّم الكتلة “صديق” الرئيس الروسي، فيكتور ميدفيدتشوك. ولم يحمل ذلك، أي قوة المعارضة النسبية وتكتلها ومكانة زعيمها، ولو عدداً ضئيلاً من الأهالي على الترحيب بالغزاة. فالخسائر المدنية جرّاء القصف زعزعت أنصار روسيا.

وثنّى على أثر القصف نهب الجند الروس، وبعض السكان، المحال التجارية في أيام الاحتلال الأولى. والأرجح أن الجند كانوا في حال معنوية بائسة. فوسع الأهالي مسك بعضهم وهم يسرقون، وربطوهم إلى أعمدة الكهرباء، وأنزلوا بناطيلهم.

وانتهى الأمر بمقاتلي الجيش المتحدّر من الجيش الأحمر المجيد، قاهر الجحافل النازية، والمقتص قصاصاً عادلاً من قتلة “الخطوط الخلفية” (“الآيزنتروب” التي أوكل إليها اغتيال المدنيين في المناطق التي أخلتها القوات السوفياتية)، إلى التمثيل بهم وتعزيرهم، وإلى استكانتهم للتمثيل والتعزير المهينين.

وعلى طريقة خيرسون احتذت مدن أخرى كثيرة، مثل نيكولاييف وميليوتوبول وكاخوسكا وماريوبول وإيزاييل وخاركيف.

فنلندا… مرتين؟

في ضوء وقائع تقطع بأن أوكرانيا أمة “تامة التكوين”، لأنها “تريد” كيانها هذا “كل يوم” (على قول إرنست رينان في تعريف الأمة)، وتصنع هذا الكيان على شاكلة دولة وطنية من مادة قد لا تكون متجانسة “قومياً”، يبدو إخفاق القيصر الحالي ذريعاً، أياً كان المصير الذي قد تصير إليه الحرب العدوانية، وفكرة مارشالها عن الأمة “الخالدة”. فتعويله الأول كان على انفجار حرب أهلية تحمل أنصاره من الأوكرانيين- وبعضهم ذاق الأمرّين فعلاً من عدوان اليمين المتطرف الأوكراني عليه، وهو حصل في انتخابات 2014 الرئاسية على 2 في المئة عدّاً ونقداً، وانتهاكه القانون في حقه، منذ 2014 على الأخص- على الترحيب بقواته الغازية، وتوهين معنويات الشطر الوطني الغالب، ونزع المشروعية عن الدولة وقواتها المسلحة، وتمهيد الطريق إلى إعلان أوكرانيا “جمهورية اتحادية”، على غرار جمهورية قديروف في الشيشان.

وهذه محطة على طريق جمهوريات اتحادية أخرى قادمة: في ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا، من ممتلكات القيصر طوال قرون، وفي بولندا التي تقاسمها القياصرة ثلاث مرات، وليس مرة واحدة، مع السويد ومع النمسا وبروسيا، وتجرّأت على هزيمة الجيش الأحمر في 1920، وفي بلدان الجوار القريب ودوله الأخرى. فينجز النصر على “الثلاثية الإمبريالية” (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان)، وعلى العدوان “الأطلسي” المزمن. وتبعث أوراسيا، الروسية العمومية وليس الصينية الوسطية، سلطاناً متوّجاً على التاريخ.

وداعبت فكرة شبيهة ربما خاطر ستالين “الفاتح”، سلف الفاتح المتعثّر والحاكم سعيداً اليوم. ففي مطلع الحرب العالمية الثانية هاجم أمين عام الحزب الشيوعي السوفياتي والقائد الأعلى للجيش الأحمر فنلندا القريبة والضئيلة. وبرّر عدوانه عليها باستعادتها إلى الإمبراطورية الروسية التي كانت من ممتلكاتها وأقاليمها، أولاً، وبموضعها الجغرافي الذي يحجز بين الإمبراطورية وبين ألمانيا النازية، وينبغي له أن يبقى حاجزاً.

ويروي المؤرخون أن ستالين عوَّل على حزب “الفنلنديين الحمر”، وهم جمهور يساري حاول الاستيلاء على السلطة، وضم جمهورية فنلندا “الاتحادية” إلى “اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية” (“أربع كذبات في أربع كلمات” على قول كاستورياديس، اليوناني- الفرنسي). وخسر الحزب الحرب الأهلية. وعلى مثال الأوكرانيين الموالين لبوتين اليوم مال معظم اليساريين الفنلنديين إلى مقاومة الدولة الفنلندية الوطنية، وأسهموا في تخريب خطوط التموين والقتال الروسية، على خلاف تقدير الماريشال.

والدرس الأبرز، أو العبرة من مقاومة الشعب الأوكراني المتماسك الزحف الروسي الإمبريالي، هو محافظة الشعب الراسخة على تماسكه الوطني والسياسي، ورفض الشطر القريب من روسيا، على قاعدةٍ “دموية”، موالاة المحتل. والمقارنة مع الحروب الأهلية- الإقليمية- الشرق أوسطية وانفجار شعوب دولها “حشدين” أو ثلاثة على أضعف تقدير تحت وطأة تدخّل جوار إقليمي، تارة قومي وتارة أخرى مذهبيّ، تدل على هشاشة التكوينات المرصوصة و”العضوية”، المتأتية من القوم الإثني أو من الأمة المذهبية. وعلى خلاف هكذا تكوينات تتمتع الشعوب المؤتلفة من إرادات ودساتير ومواثيق بصلابة وعزيمة قد تهزمان أعتى الامبراطوريات وأشدها صلفاً.

رصيف 22

——————————-

معركة بوتين والأوهام الغربية/ شتيفان فايدنَر

في منتصف شهر شباط/فبراير (2022) أرسلت قناةُ الجزيرة الإخبارية الناطقة بالعربية بشكل مفاجئ مراسليها المختصين بتغطية الحروب -الذين عرفتُهم كمراسلين من بغداد وغزة وبيروت وكابول- إلى لفيف وكييف وأوديسا – وهي مدن أوروبية مفعمة بالحياة والمرح عرفتُها وأحببتها في رحلات كثيرة. لم يكن من الواضح بعد إن كان بوتين سيهاجم أوكرانيا، ولكن عندما شاهدتُ مراسلي قناة الجزيرة في أوكرانيا، لم يعد بإمكاني تجاهل إدراكي بأنَّ السلام في أوروبا بات ينتهي الآن وهنا. وصارت تداهمنا فوضى مستعرة كما في العالم الإسلامي منذ عام 2001 – مثل حيوان مفترس يتشمَّم فريسته السمينة، وهي في هذه المرة: مجتمعات الرفاهية في أوروبا الوسطى وساحتها الخلفية المهملة منذ فترة طويلة، أي أوكرانيا.

مطاردة العدو الخطأ

ركَّز السياسيون والخبراء لدينا نظرهم طيلة عشرين عامًا على العدو الخطأ، على الإسلام السياسي، الذي كما يبدو بات غير مؤذٍ عند النظر إليه من منظور اليوم! ولم يكن يشكِّل في أي وقت تهديدًا وجوديًا يمكن مقارنته بالحرب الدائرة حاليًا. كان الإسلام المثقل بالأزمات خصمًا يشعر بالامتنان. وكان الغرب يخوض حملة صليبية إيديولوجية من أجل “نزع تطرُّف” المسلمين وبهدف هدايتهم إلى “القيم الغربية”. ولكن معظم العرب والمسلمين يشاركون الغرب قيمه هذه منذ فترة طويلة، مثلما يتَّضح ذلك مثلًا من خلال النظر إلى الأدب العربي – إذا قرأناه فقط!

وفي حين كان الأمريكيون يبحثون عن إرهابيين في العراق وأفغانستان ويخلقون خلال هذا البحث إرهابيين جددًا ويخوضون ضدَّ الإرهاب حروبًا “غير متكافئة” لا أمل فيها، كان يتم تجاهل التهديد الأكبر الموجود أمام أبوابنا: ليس أسامة بن لادن، بل “فلاديمير بن بوتين” إرهابي لديه أسلحة بيولوجية وكيماوية ونووية. وبدلًا من مراقبته عن كثب، بقينا نرعاه ونغذيه طيلة عشرين عامًا، وسامحناه على غزواته في جورجيا وفي شبه جزيرة القرم وفي دونباس، وتحمَّلنا هجماته بالغازات السامة واغتيالاته السياسية في مدننا، وعقدنا معه صفقات وأعمالًا تجارية بقدر ما يمكن – وما نزال نفعل ذلك.

والرئيس الروسي فلاديمير بوتين غير مضطر للاختباء في الكهوف ولا يحتاج إلى مفجرين انتحاريين ويبدو عليه أنَّه رجل مهذب جدًا يرتدي بدلة سوداء وربطة عنق حمراء وبإمكانه أن يخوض حربه بحسب اتفاقية لاهاي لعام 1907 الخاصة بقواعد وأعراف الحرب البرية. وفي حال لم تكن دباباته وطائراته كافية من أجل النصر، فلديه أسلحة نووية كافية لتدمير العالم.

وبالتالي فقد كان خبراؤنا الأمنيون يطاردون العدو الخطأ. والعدو الصحيح بات يطاردهم ويخيفهم. فهل ما يزال بإمكاننا تصديقهم بأنَّه يريد في الحقيقة فقط غزو أوكرانيا ولا يسعى إلى صراع كبير مع “الغرب”؟ إلى حرب عالمية حقيقية تجعل من بوتين اسمًا لن تنساه البقية الباقية من البشرية؟

الحرب تم الإعلان عنها مسبقًا

فشلُ خبرائِنا الأمنيين التام هذا يُذكِّر بالفترة التي سبقت الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. فعلى الرغم من أنَّ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي أي إيه) كانت تراقب أسامة بن لادن وبعضًا من الأشخاص المشاركين لاحقًا في الهجوم، إلَّا أنَّها لم تستنتج الاستنتاجات الصحيحة وقللت من حجم الخطر وانهمكت في جدالات حول الاختصاص. وبعد أيَّام قليلة، تم اختطاف طائرات ركاب وتوجيهها إلى مركز التجارة العالمي.

والأمريكيون تعلموا من هذا الحدث وحذَّروا هذه المرة من وقوع الحرب. ولكن حتى في هذه المرة كان الوقت قد تأخَّر جدًا. وكان قرار بوتين بالهجوم قد تم اتخاذه منذ فترة طويلة – مثلما يمكن قراءة ذلك من مقاله المنشور في شهر تموز/يوليو العام الماضي (2021) “حول وحدة الأوكرانيين والروس التاريخية”.

لقد كان الخطر الصادر عن بوتين وحاشيته معروفًا منذ زمن طويل. إذ إنَّ الأصدقاء والزملاء القادمين من روسيا إلى أكاديمية فنون العالم في مدينة كولونيا الألمانية لم يعودوا إلى وطنهم روسيا حتى في عام 2014. وكانوا يعرفون السبب.

لقد وصف في عام 2015 عالم الاجتماع الروسي ليف غودكوف السيناريو المستقبلي على النحو لتالي: “تصعيد النزاع المسلح بين الأطراف المتنازعة يبدأ في أوكرانيا ويُجبر بوتين على أمر الجيش الروسي بغزو المناطق الشرقية والجنوبية في أوكرانيا بشكل مباشر وعلني. ومن الممكن أن نتوقَّع نوعًا من مغامرة حرب لم يكن تصوُّرها ممكنًا حتى الآن – مثلًا، الهجوم على كييف والاستيلاء على وسط أوكرانيا مع ضمّ المناطق الشرقية والجنوبية إلى روسيا فيما بعد”.

مع الرئيس الروسي في قارب واحد

صحيح أنَّ ليف غودكوف اعتقد أنَّ بوتين سيخسر مثل هذه الحرب ومن بعدها السلطة أيضًا، ولكن هذا مجرَّد عزاء ضعيف. وكما في حالة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، فقد حقَّق المهاجم هدفه في اللحظة التي بدأت فيها الحرب. وهذا الهدف يكمن في إلقاء عالم ما قبل الحرب المكروه عند المهاجم في سلة نفايات الماضي. وقد نجح بوتين في ذلك. إذ إنَّ ما كان يعتبر قبل الرابع والعشرين من شباط/فبراير 2022 أمرًا بديهيًا صار بعيدًا اليوم مثل ثقافة الترفيه والمرح في التسعينيات بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001.

وذلك لأنَّ قواعد اللعبة تتغيَّر أيضًا تلقائيًا مع الهجوم. ومن أجل المواكبة، يجب علينا اللعب بحسب قواعد جديدة. ونتيجة لذلك نحن نتغيَّر ولن نعود كما كنا: فقد كنا حتى وقت قريب دعاة سلام أزليين لم نكن نريد إنفاق المال على التسلح؛ أو كما كنا قبل الحادي عشر من أيلول/سبتمبر: أتباع تعدُّدية ثقافية حالمين. وعندما يتم اكتساح الجميع، فلن يكون هناك مخرج جيّد لأي أحد ولا نصر من أي نوع. وأفضل ما يمكن أن نأمله هو الحدّ من الأضرار. وسواء أردنا ذلك أم لا فنحن الآن في قارب واحد مع بوتين. ومن حولنا محيط من مستقبل غير مؤكِّد، حيث يمكن لأي طرف أن يسحب السدَّادة ويغرق القارب.

اليمينيون في أوروبا: طابور بوتين الخامس

وحرب بوتين تلقي أيضًا ضوءًا غير متوقَّع على الخلافات السياسية الداخلية بين أوروبا والولايات المتَّحدة الأمريكية خلال العشرين عامًا الماضية. وعلى أبعد تقدير منذ “أزمة اللاجئين” في عامي 2014 وَ2015، دخل اليمينيون الجدد -الذين يُعرِّفون أنفسهم منذ الحادي عشر من أيلول/سبتمبر خاصةً من خلال معاداة الإسلام- في تحالف مع بوتين ودعايته يُذكِّرنا بعبودية الشيوعيين الغربيين لموسكو خلال الحرب الباردة.

إنَّ حقيقة سير منتقدي الإسلام وبوتين بخطوة منسجمة لا تعتبر أمرًا تافهًا، بل هي جزء من حسابات بوتين لهذه الحرب – ومن الممكن أن تحسمها في يوم ما لصالحه. وذلك على أبعد تقدير عندما يفوز جمهوريو ترامب في الانتخابات الأمريكية المقبلة. دعونا نتذكَّر: ترامب ما يزال لديه حساب مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي، الذي أراد في عام 2019 الحصول على أسلحة مضادة للدبابات من الولايات المتَّحدة الأمريكية. وترامب طلب منه مقابل ذلك محاكمة ابن بايدن، الذي يعمل في أوكرانيا. وقد أفضى هذا الخلاف إلى إجراءات عزل ترامب. ولذلك هناك خطر كبير من أنَّ أمريكا بقيادة جمهوريي ترامب يمكن أن تتخلى عن أوكرانيا وأوروبا وتتركهما وشأنهما وتستأنف التجارة مع روسيا من جديد.

تجدُّد خطاب صراع الحضارات

وجاذبية بوتين السلطوية لليمينيين الجدد تظل قوية أيضًا لأنَّه يستخدم خطابًا مناهضًا للغرب ومعروفًا منذ زمن طويل. وهو يمنح مفهوم صراع الثقافات والحضارات القديم والمحافظ حياةً جديدةً. وبهذه الطريقة يتم تعزيز منطق التمييز والإقصاء ويمكن بعد ذلك تطبيقه في أي وقت على الآخرين: على المسلمين والأفارقة والصينيين…

ولذلك فإنَّ التوسُّل بـ”الغرب” المحتفى به حاليًا لا يُبشِّر بالخير. فهذا “الغرب” بات على وشك الانخداع بدعايته الخاصة. بوتين لم يهاجم (حتى الآن) “الغرب”، بل هاجم بلدًا لم يكن يحسبه حتى وقت قريب أيُ سياسي من الغرب. وفي ظلّ هذه الحقيقة فإنَّ الادِّعاء الوقح بأنَّ الأوكرانيين يدافعون عنا “نحن”، وعن الديمقراطية، وحتى عن “العالم الحر” برمَّته، يبدو ادِّعاءً غريبًا. وهو يثقل على كاهل الأوكرانيين -الذين يخوضون بشجاعة معركة خاسرة- بدور منقذي العالم. هذا الدور الذي لا يمكنهم ولا يجب عليهم أيضًا القيام به.

ذكريات أفغانستان

وهذا السيناريو يعيد ذكريات أفغانستان بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. صحيح أنَّنا أردنا في أفغانستان “الدفاع عن حرِّيتنا في منطقة الهندوكوش أيضًا”، مثلما كان يقال في تلك الأيَّام، ولكن كان يجب منذ البداية وحتى النهاية على الأفغان بشكل خاص أن يتحمَّلوا ثمن الحرب. ولكننا على الرغم من ذلك لم نكن مستعدين بعد ذلك لاعتبار هؤلاء الأفغان “منا نحن” واستقبالهم، مثلما أظهرت عمليات الإجلاء الفاتر للموظفين المحليين الأفغان في صيف عام 2021. ومثلما لاحظ الكاتب عمران فيروز قبل فترة غير بعيدة وعن حقّ فنحن على أية حال لم نحسب قَطّ جنود الجيش الأفغاني، الذين حاربوا في الواقع “من أجلنا” طيلة عشرين عامًا، كجنود كانوا يحاربون من أجلنا.

والاستنتاج الخالي من المجاملة يفيد بأنَّ الغرب هو “مجتمع من قيم مشتركة” أتقن فنّ جعل الآخرين يحاربون من أجله من دون منحهم أي مقابل حقيقي. ومن خلال ادِّعائنا بأنَّ الأوكرانيين يحاربون “من أجلنا” لا يجب علينا أن نقوم بالمهمة القذرة المتمثِّلة في دخولنا نحن أنفسنا في مواجهة عسكرية مع بوتين. وهذا هو السبب -الأعمق والمُحرَّم الإفصاح عنه- الكامن وراء رفعنا راية تحديد هويَّتنا مع أوكرانيا وتضامننا معها.

والدليل هو: نحن نبتعد بمجرَّد أن يبدو لنا أنَّ الأمر بات يهدِّد بأن يصبح مؤلمًا حقًا ونقول: الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي معقَّد جدًا والإجراءات المستعجلة تتعارض مع مبادئ الاتحاد وفرض منطقة حظر الطيران خطير جدًا والتخلي عن الغاز والنفط الروسيين مسألة باهظة الثمن.

وبمجرَّد أن يتعلق الأمر بأكثر من رفع الرايات المرفرفة والاحتفاء بـ”الرئيس الأوكراني البطل” (بحسب وصف صحيفة بيلد الألمانية)، يصبح الفرق بين “نحن” و “هم” واضحًا. وبقدر ما تعتبر مساعدة الأوكرانيين أمرًا صحيحًا عندما يطلبون المساعدة، بقدر ما يعتبر من النفاق التظاهر بأنَّهم متطابقون معنا وأنَّهم يقاتلون قبل كلِّ شيء “من أجلنا”. وهذا غرور ونفاق تمامًا مثل ادِّعاء بوتين “بوحدة الروس والأوكرانيين التاريخية”.

والخلاصة: ليست روسيا الوحيدة، التي تحتاج إستراتيجية خروج تحفظ ماء وجهها من هذه الحرب – مثلما يقال كثيرًا، بل يحتاجها أيضًا الأوكرانيون و”الغرب” الثمل بإيمانه بتفوُّقه. وإذا لم نتمكَّن من إيجاد إستراتيجية الخروج هذه فسيتحقَّق حلم بوتين المصاب بجنون العظمة وسيخوض في الواقع حربًا ضدَّ “الغرب”. والخطوة الأولى نحو التخفيف من حدة التصعيد تكمن في مواجهتنا بحزم الدعاية الحربية المستعرة من جميع الأطراف وخطاب الغدر اليميني المزعج حول صراع القيم والثقافات والحضارات.

شتيفان فايدنَر

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2022

ar.Qantara.de

شتيفان فايدنَر مؤلف ومترجم. صدر له في عام 2021 كتاب تحت عنوان: “غراوند زيرو (المنطقة صفر). الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وولادة الحاضر”. ونشر له مقال حول رحلته عبر أوكرانيا تحت عنوان “في يونان الشرق” ككتاب إلكتروني على موقع أمازون.فايدنَر مؤلف ومترجم. صدر له في عام 2021 كتاب تحت عنوان: “غراوند زيرو (المنطقة صفر). الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وولادة الحاضر”. ونشر له مقال حول رحلته عبر أوكرانيا تحت عنوان “في يونان الشرق” ككتاب إلكتروني على موقع أمازون.

——————————–

هل يعبر بوتين “الخط الأحمر”؟

تكرّرت تصريحات قادة حلف الأطلسي ومسؤولين غربيين كبار حول إمكانية استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأسلحة نووية أو كيميائية في حربه الجارية حاليا في أوكرانيا. آخر هذه التصريحات كانت للأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، الذي قال أمس الخميس، إن روسيا قد تكون بصدد محاولة لاختلاق ذريعة لاستخدام أسلحة كيميائية في أوكرانيا، وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن قال قبلها بيوم إن “التهديد الكيميائي حقيقي”.

كررت القيادات السياسية والعسكرية الروسية، بدورها، تهديداتها باستخدام السلاح النووي، بدءا من إعلان بوتين في بداية هذا الشهر وضع قوات الردع النووي في حالة التأهب، وهو ما يعني جاهزية أدوات القتال النووية لأوامر انتشار وإطلاق لحظية، كما قال الناطق باسم الكرملين، ديميتري بيسكوف، الثلاثاء الماضي، إن روسيا ستستخدم الأسلحة النووية إذا أصبح وجودها مهددا.

قامت روسيا أيضا بفتح موضوع وجود مختبرات نووية وبيولوجية في أوكرانيا، وعقد مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، بطلب من موسكو، جلسة استماع لتقديم دلائل على وجود 30 مركزا بيولوجيا في أوكرانيا “فيها مواد سامة وخطيرة”.

مع تراجع فكرة إزاحة الاجتياح الروسي السريعة للقيادة السياسية الأوكرانية، واحتلال العاصمة كييف خلال أيام، بدأت مقاومة شديدة للغزو بالظهور، مما أدى لاستعصاءات عسكرية واضحة (كما هو الحال في مدينة ماريوبول المحاصرة)، كما ظهرت وقائع خطيرة، من قبيل الهجوم على قاعدة زابوروجيا للطاقة النووية الذي أدى لاشتعال حريق في أحد مبانيها، وكذلك وقائع تدل على تصعيد تدريجي لنوعيات الأسلحة المستخدمة، حيث أعلنت كييف أن موسكو استخدمت قنابل “خارقة” على ماريوبول، كما نشرت تقارير حقوقية وإعلامية عن استخدام أسلحة فراغية وعنقودية وصواريخ فرط صوتية.

بدوره، انتقل حلف الأطلسي من مجرد إعلان إمكانية حصول هجمات كيميائية روسية في أوكرانيا إلى الإعلان عن كونه سيوفر مزيدا من الدعم لأوكرانيا للتصدي للتهديدات الكيميائية والبيولوجية والنووية، كما أنه سيقوم بنشر وسائل دفاع ضد الهجمات الكيميائية والإشعاعية والنووية على الجهة الشرقية من أوروبا.

حصل تطور هائل في القوة التدميرية للأسلحة النووية، فنفذت واشنطن انفجارا تجريبيا أكبر بألف مرة من القنبلة الذرية التي دمرت مدينة هيروشيما اليابانية، كما نفذت موسكو انفجارا أكبر بـ3 آلاف مرة، ويفترض أن القوة المرعبة لهذه الأسلحة قد وضعت حاجزا ردعيا هائلا يمنع أي دولة، مهما كانت قوتها، من استخدامه.

لم يحصل إعلان بوتين وضع قوات الردع النووي في حالة تأهب كرد على تهديد نووي بل جرى بعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وحلفائهما عقوبات اقتصادية هائلة، وهو ما سماه بوتين “حربا اقتصادية خاطفة”، وهو أمر يدل على غضب الزعيم الروسي لكنه لا يعدّ مبررا، بأي مقياس كان، للتهديد بالسلاح النووي.

يشير استخدام الأسلحة الفرط صوتية والعنقودية والفراغية واستهداف المدنيين بشكل مباشر، وقصف المشافي، إلى أن الغضب الروسي يتزايد. مفهوم طبعا أن المقصود من التهديدات النووية هو إرهاب الدول الغربية لكن الحرب الأوكرانية، بمجملها، دليل على أن الرئيس الروسي قادر على خوض مغامرات كبرى لكسر الحدود التي حظرتها المنظومات الدولية منذ الحرب العالمية الثانية.

تتدرب القوات الروسية منذ وقت طويل على التحول من الحرب التقليدية إلى الحرب النووية، كوسيلة لكسب أفضلية بعد التعرض لخسائر في الحرب، وهذا يعني أن بوتين، إذا وجد أن مجريات الحرب لا تسير في صالحه، يمكن أن يغامر باستخدام أسلحة كيميائية أو بيولوجية أو نووية محدودة القدرة، وهو ما سيدفع الصراع الجاري في أوكرانيا، إلى حيّز آخر لم يتخيله العالم بعد.

لقد عبر بوتين، باجتياحه أوكرانيا، الخط العالمي الأحمر، فما الذي سيوقفه عن اجتياز الخط التالي؟

القدس العربي

—————————

في البحث عن الجانب الصحيح للتاريخ/ سوسن جميل حسن

قال وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، إن بلاده تقف على الجانب الصحيح من التاريخ بشأن الأزمة الأوكرانية، كما سيثبت الوقت ذلك، وإن موقفها يتماشى مع رغبات معظم الدول. جاء هذا في بيان لوزارة الخارجية الصينية يوم السبت 19 مارس/ آذار الحالي، إثر تصريحات وانغ بعدما حذّر الرئيس الأميركي، جو بايدن، نظيره الصيني، شي جين بينغ، يوم الجمعة، من “عواقب” إذا قدّمت بكين دعماً مادياً لغزو روسيا أوكرانيا، والذي قال لبايدن إنه لا بد من انتهاء الحرب في أوكرانيا في أقرب وقت ممكن. ودعا دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى إجراء حوار مع موسكو، ولكنه لم ينح باللوم على روسيا.

أين هو الجانب الصحيح من التاريخ، كي توضع المواقف التي تصدر عن الزعماء والقادة، والأنظمة والنخب وكل إنسان معني بما يحصل في العالم، في ميزان المحاسبة، الأخلاقية أو القانونية وغيرهما؟ وهل يمكن الوصول إلى الحقيقة في ما يتعلق بالتاريخ؟ حتى المجرم الذي يرتكب جريمته ويعترف بها، إن كان تلقائيًّا وهذا نادر، أو بالإمساك به متلبّسًا، لديه دائمًا حججه في تبرير جريمته، لكن للقانون كلمته، فيما لو كان قانونًا متماسكًا مدروسًا صيغ وجرى الاتفاق عليه بإجماع الأغلبية، بشكل حرٍّ ومن دون إكراهات أو إملاءات أو تواطؤات.

أمّا القانون الدولي الذي يُفترض أن يكون أكثر عدلًا وعدالة ومساواة بين الشعوب والبشر والأمم والدول، وأكثر ضمانًا لمستقبل البشرية، فإنه كلّما اعتلى في سلم الرتب والأهمية كان هشًّا وعرضة للاختراقات والتلاعب والمماطلة والتطويع، مثل التاريخ الذي لن يُعرف أبدًا الجانب الصحيح منه، ولا حتى مجراه الطبيعي كي تُعرف ضفتاه، أو ضفافه. التاريخ أمر إشكالي ويُكتب بأقلام كثيرة، وبنياتٍ عديدة، وبنسختين على الأقل، نسختي المنتصر والمهزوم. فلو استدعينا التاريخ ووضعناه على الطاولة للفحص والتمحيص، لن نرى غير الحروب والإبادة، والتحالفات والعداوات والخصومات، ثم انتصار للقوة، هل يمكن تحديد الجانب الصحيح منه؟ أين كان الجانب الصحيح، من الناحيتين، الأخلاقية والإنسانية، في جرائم الإبادة الجماعية التي قامت بها مجموعات بشرية على هيئة إمبراطوريات أو ممالك أو دول أو أمم، بحقّ شعوب بعيدة جعلت منها مستعمرات، أو أقامت دولها محلّها وطمست تاريخها؟

ديمقراطية الدولة وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها والالتزام بالمعاهدات والمواثيق الدولية شعاراتٌ لم تلتزم بها الحكومات الأميركية المتعاقبة، وما زالت مستمرّة في حروبها التي تراكم جرائم زيادة على ماضيها القائم على الإبادة منذ نشوئها على حساب السكان الأصليين، الهنود الحمر، وممارسة أعتى أشكال الوحشية بحقهم، إلى حروبها في فييتنام، مرورًا بإلقاء قنابلها الذّرية على هيروشيما وناغازاكي، وصولًا إلى أفغانستان والعراق.

لا يمكن قبول ادّعاء أن الزمن يحيل الجرائم إلى حجارة صمّاء، فالجرائم تبقى ماثلةً في دماء ضحاياها الأبرياء، وذاكرة الدم طويلة، متوهّجة، لا يمكن ضبطها إلّا بإظهار الحقائق واعتراف المرتكب بجرائمه، بوصف هذا خطوة أساسية في تحقيق العدالة التي تضمن إمكانية الاستمرار والتعايش على هذا الكوكب. لقد تغاضى العالم عن الجرائم التي ارتكبتها القوى الكبيرة على مرّ التاريخ، بل ما زالت تتكرّر وتعيد نفسها باختلافٍ وحيد هو هوية الفاعل، فما تقترفه روسيا اليوم في أوكرانيا اقترفته أميركا بحذافيره في اليابان وفيتنام وأفغانستان والعراق، وحتى في سورية وما زالت، ودائمًا توجد المبرّرات والحجج الجاهزة، فلا أسلحة دمار شامل في العراق، ولا إرهاب “اندحر” في سورية، بل هناك صراع قوى وكسر عظم ومناوشة وحوش تجاه بعضها بعضًا فوق أراضي الغير وإشعال حروبٍ لا أحد يتكهن بمداها الزمني، حتى لو كانت نتيجتها انهيار دول أو فناءها أو تهجير شعوب من أوطانها بعد قتل مئات الآلاف منهم. بل أين هو الجانب الصحيح من التاريخ، والعالم في غالبيته، يغضّ الطرف عن جرائم إسرائيل وعن أنها دولة احتلال باعتراف الأمم المتحدة، وهي ماشية باطّراد في تمكين استيطانها والسطو على تاريخ الشعب الفلسطيني وحاضره وأرضه؟

أين هو الجانب الصحيح من التاريخ وأوروبا توارب في ماضيها الاستعماري، وتهرُب من مواجهة لحظة الحقيقة التي عليها بموجبها الاعتراف بجرائمها بحق شعوبٍ بعيدة عنها، في أفريقيا وفي منطقتنا العربية؟ أين هو الجانب الصحيح من التاريخ في ماضي روسيا القيصرية الذي يستعيده بوتين اليوم، مدفوعًا بأقصى درجات البارانويا وجنون العظمة، بل وماضي الاتحاد السوفييتي في ممارساتٍ متنوعةٍ تُحسب عليه؟ وأين هو أيضًا في ما ارتكبته الإمبراطورية العثمانية من إبادات، أكثرها بحق الشعب الأرمني؟ في ماضي البشرية وحاضرها لم يرتح التاريخ من أن يشهد المجازر والجرائم ضد الإنسانية والاعتداء على الشعوب وقتل المدنيين بالآلاف، بل والملايين، حتى اليابان في ماضيها الإمبريالي قامت بجرائم حرب في بلدانٍ عديدة في آسيا والمحيط الهادئ، خلال فترة الإمبريالية اليابانية، في أثناء الحرب اليابانية الصينية الثانية والحرب العالمية الثانية في المقام الأول، وقد وُصفت بعض الحوادث بمحرقة آسيا وفظائع الحرب اليابانية، اعتذر بعض كبار مسؤوليها عن بعض الجرائم بعد منتصف القرن الماضي، لكن اليابان اليوم من أقطاب القوة في العالم، ولا بد أنها تتخذ مواقف بما يخدم مصالحها وتحالفاتها.

الجانب الصحيح من التاريخ لم يُرسم بعد، الشعوب الحرّة ترسمه وتحدّد معالمه وإحداثياته. إنه، كنقطة بداية وحجر أساس، الوقوف في وجه الحرب أيًّا كان شكلها. الحروب هي القاتل الأكبر للبشرية، وها هي أزمة العالم اليوم، كورونا وما تبعها، ثم الغزو الروسي أوكرانيا في حربٍ شرسة، لا نرى أكثر من وجهها المباشر بما تقدّمه وسائل الإعلام التي لم يعد من الممكن تجاهل دورها المتعاظم في الحروب الحديثة، تدفع القوى الكبرى باتجاه مزيد من التسلح، وإعادة بناء جيوش الدول التي اعتبرت أن ما بعد الحرب العالمية الثانية كان عليه أن يغيّر النظام العالمي وسبل الصراع، كما أوروبا، لكن سباق التسلح عاد بقوة وزخم، ما يعني مزيدًا من الحروب، ويعني أيضًا مزيدًا من القتل والتشريد والتجويع والاستتباع وبناء جدران الفصل بين العالم الذي يعدّ نفسه متفوقًا وقويًّا، والعالم الآخر الذي يجب أن يبقى خاضعًا، تابعًا لسياسات العالم القوي، راهنًا بلدانه وخيراته ومناجمه وموارده له، يستحلبها حتى القطرة الأخيرة، ويجعل من أراضيه ممرّات لأنابيب نفطه أو طرقًا لقوافل تجارته، أو احتياطيًّا لاحتياجاته المستقبلية، وأسواقًا لمنتجاته.

الجانب الصحيح من التاريخ أن تعي الشعوب أن قادتها يسيرون بالكوكب إلى حتفه بتسارعٍ رهيب، مدفوعين بنزعات السيطرة والقوة والحيازة والامتلاك. الموقف من الحرب إن لم يكن أخلاقيًّا، علينا اتخاذه ذرائعيًّا طالما أن الحروب تقضي على الحضارة الإنسانية وتظلم الشعوب، من أصغر حربٍ إلى أكبرها وأوسعها. وإذا اتخذنا قضية القمح وحدها مثالًا لما نتج عن الحرب في أوكرانيا، لكان هذا يكفي لأن يندى له جبين الإنسانية، لأن فقراء الأرض يعيشون على الخبز، والخبز وحده، وهذا ما على الشعوب الضعيفة أن تفهمه، وألّا تنصاع وراء سياسات حكامها، فهؤلاء، في غالبية مواقفهم، إن لم يكن فيها كلها، يبنون مواقفهم بموجب المصالح المحلية والإقليمية والدولية. وفي حالتنا، ليست لحكامها إرادة حرة من أجل قرار حر، حتى لو أرادوا وكان ضميرهم، وتاريخهم وأسلوب حكمهم، نزيهًا، وهو ليس نزيهًا.

انقسام الشعوب العربية بشأن الغزو الروسي لأوكرانيا مريع، ولا يدعو إلى التفاؤل بما يسندون إليه مواقفهم، وانتظار أن تخرج هذه الشعوب من الحروب والأزمات التي لحقتها بتغيير يُبنى عليه، وأن تكون الأجيال القادمة قادرةً على البناء السليم. الجانب الصحيح من التاريخ يبدأ بتصحيح التاريخ، وحمايته من تدوينات المنتصر أو المهزوم، فكلاهما يجانب الحقيقة في مدوّنته، يبدأ من خلال الانتصار للحياة واعتبارها قيمة عزيزة من حق الشعوب والإنسانية جمعاء أن تعيشها كما تحلم. بغير هذا الأساس، لا يمكن فهم ما يعني الجانب الصحيح من التاريخ بالنسبة لقوة عظمى مثل الصين، طالما أنها أيضًا تجلس إلى مائدة العالم التي يتحلّق حولها الأقوياء، وتلعب معهم بطريقتها الخاصة، لا يمكن حماية البشرية وحماية كوكبنا من دون العمل على الحروب، وما تجرّه على المصير البشري، ها هي الانتكاسات تتتالى في سباق التسلح، وفي حرب الطاقة، وفي مسلسل العقوبات، وها هو العالم يزداد جوعًا، ويصبح رغيف الخبر حلمًا لدى فقراء العالم، هذا هو عالم اليوم.

العربي الجديد

—————————–

شهر على الحرب: وقائع مستجدة/ ناصر السهلي

بعد شهر من الحرب الروسية على أوكرانيا، تزداد أثمان اتفاق أوروبا والولايات المتحدة، اقتصاداً ولجوءاً وسلاماً، على جعل مشوار موسكو أصعب بكثير من جملة “العملية العسكرية تسير وفق الخطة”، بل والأهم تحويل أوكرانيا إلى حائط صد.

بالطبع ليس كل ما يصدر عن أوروبا دقيقاً، ولكن تقديرهم كان صحيحاً بأن موسكو أرادتها حرباً “صاعقة”، تنصِّب فيها سريعاً حكومة موالية بدل تلك “النازية” في كييف، وهو ما كرره أيضاً الروس في الساعات الأولى، وهو ما فشل.

شكلت سردية الرئيس فلاديمير بوتين، قبل الحرب بيومين، أرضية لتوسيع مصداقية التقارير الغربية، على الأقل عند شعوبهم، حول “الطموحات التوسعية”، ما شكل ذخيرة لأجواء الشيطنة والقطع مع سياسات الماضي.

الوقائع على الأرض، على الرغم من مفاوضات الجانبين الأوكراني والروسي، لا تبدو في مصلحة بوتين. فمغامرته العسكرية جعلت كثيرين في الغرب يتخلون عن حذرهم السابق.

وتحت سقف حلف شمال الأطلسي، عادت حيوية تحالف ضفتي الأطلسي، بل ووسع “الناتو” انتشاره وتعاونه مع دول من خارجه، بما يحيط بروسيا. وقدمت الحرب فرصة لبعض الضمانات للدول الصغيرة، في البلطيق وإسكندنافيا، على الأقل لناحية مقاومة التدخل العسكري الروسي، إن حدث.

عموماً، استغل الغرب الفرصة لبعث رسالة واضحة: لن نسمح بالتوسع لتحقيق طموحات قيصرية، حتى بتهديد بوتين استخدام السلاح النووي. في المقابل، وإذا كان الأوروبيون، والغرب عموماً، قادرين على تحمل التبعات، بما في ذلك “إغراق القارة” بأزمة لاجئين، وأزمة طاقة وغذاء، وخسائر اقتصادية كبيرة، فإن ما حذرت منه منظمة الأغذية العالمية التابعة للأمم المتحدة، من أن “الجحيم لم تأت بعد”، ستطاول شعوباً ودولاً لا تملك سياسات غذائية استراتيجية. وذلك يعني المزيد من الفقر والجوع. وإذا لم يجر تنسيق عالمي لمواجهة الآثار، فذلك سيصب في مصلحة موسكو.

في كل الأحوال، وعلى الرغم من الأزمة الطاحنة، وحتى لو توقفت الآلة العسكرية الروسية في أوكرانيا، وبمعادلة “الحياد”، فإنه في سياق ما أسس له تدخّل الغرب لإعاقة أهداف موسكو، أصبحت النخبة الحاكمة في الكرملين في وضع لا تحسد عليه.

فعلى الرغم من مكابرتها، لا يبدو أنها كانت تتوقع أن ينفذ الغرب كل ما نفذه، على الأقل وفقاً لأغلبية القراءات الغربية، وبعض القراءات الروسية المتصلة. بالطبع، يحاول الغربيون الموازنة بين إفشال مخططات الكرملين وكوارث حصرهم في زاوية الإحباط واليأس، والتي تزايد بسببها التهديد بسلاح التدمير الشامل.

العربي الجديد

—————————–

أخيراً… أصبحت إسرائيل دولة شرق أوسطيّة/ سمير التقي

إنها بلد غولدا مئير، بلد مشحون بالذكريات الأكثر إيلاماً للهولوكوست، ومع ذلك، وصل ارتباك الدبلوماسية الإسرائيلية حول الغزو الروسي لأوكرانيا الى حد البؤس. ومن جديد، حين يتحدى ديكتاتور لا يرحم منظومة السلم الدولي، ليغرق أوكرانيا وبلاده روسيا في مجزرة حمقاء، تتلطى الدبلوماسية الإسرائيلية بالذرائع الأكثر ضيقاً، لتبرر ميوعة موقفها، حتى تجاه القضية المركزية في الوضع الدولي الراهن.

وإذ يهرب نفتالي بينيت من مأزقه ليتطوع بالوساطة بين أوكرانيا وروسيا، فإنه لا يكاد يخفي قصوره. إنه يدرك أن بوتين لم يعره أي وزن بين وساطات الكبار، لتكون الوساطة حاجة لبينيت، من دون أن تكون للحظة حاجة لبوتين.

أثارت هذه السياسة انتقادات متكررة ومريرة من أوكرانيا، ونالت إسرائيل تحذيراً صريحاً من أقرب حلفائها، الولايات المتحدة: “أنتم لا تريدون أن تصبحوا الملاذ الأخير للأموال القذرة التي تغذي حروب بوتين”، بحسب ما قالت وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند في 11 آذار (مارس).

وبينما يحتفل حلفاء إسرائيل الاستراتيجيون، الولايات المتحدة وأوروبا والأطلسي، من جديد، باستعادة وحدتهم المفقودة، والتي عثروا عليها بفضل بوتين، تنفرد الحكومة الإسرائيلية بالابتعاد عنهم، إذ تُحجم عن تزويد أوكرانيا بالمسيّرات والقبة الحديدية، لتكتفي بتقديم المستشفيات الميدانية.

نعم، لقد سبق أن عانت الدبلوماسية الإسرائيلية أعراضاً مماثلة، وحيثما تغلبت عقلية الصفقات العابرة على متطلبات التحالفات الاستراتيجية، ومن جنوب أفريقيا إلى بشار الأسد، كان المنطق “فليأتِ من بعدي الطوفان!”. فيما يبقى السؤال دوماً وماذا بعد الطوفان؟

هذه العقلية لم تكن قط بهذا المستوى من التناقض المعلن، كما هي الآن. وإذ تفترض الدبلوماسية الإسرائيلية أكثر من دبلوماسية أي دولة أخرى، أنها تحصّن نفسها بمطالب أخلاقية لتعزيز موقعها في منظومة “الدول المتحضرة”، ترتجف يدها ارتجافاً ميؤوساً، أمام غزو أوكرانيا.

كانت أوكرانيا مسرحاً لكل من خطط الإبادة التي وضعها هتلر، وكانت ساحة مظلمة لبرامج ستالين لتجويع الملايين، وعندما يُضرب مبنى مجاور لموقع بابي يار التذكاري بالصواريخ، ترتبك الحكومة الإسرائيلية ارتباكاً عجيباً، حتى وهي تشاهد بعض مواطنيها من أصل أوكراني يقتلون بعدما تطوعوا للقتال عن بلدهم أوكرانيا ضد روسيا. هذا فيما تواصل بعض الصحافة الإسرائيلية الترويج لسياسات بوتين والتشكيك بجدوى العقوبات التي يفرضها حلفاؤها الأميركيون والأوربيون على روسيا، ناسية أن إسرائيل بالذات خاضت وتخوض معركة كبرى في واشنطن من أجل إبقاء العقوبات ضد إيران.

فهل تخشى إسرائيل حقاً أن تثير غضب روسيا؟ بل هل يشكل الوجود الروسي في سوريا خطراً استراتيجياً يعيق الأهداف الاستراتيجية، ويسمح بتجاوز ضرورات تحالفاتها التاريخية مع الغرب لمصلحة اعتبارات المجابهة الهجينة لإيران في سوريا؟

لا أشتري أبداً فكرة أن الموقف الراهن للحكومة الإسرائيلية هو درء المخاطر الناجمة عن احتمال الاختلاف مع روسيا حول الدور الإيراني في سوريا. كانت ألمانيا تمتلك كل المبررات لمتابعة سياستها التاريخية باحتواء روسيا، عبر تعزيز مصالحها وشراكتها في أوروبا، لكنها انعطفت، أمام فعلة بوتين، لتخوض عن سابق تصميم، أزمة اقتصادية ستدوم أعواماً، وتغامر أيضاً بالاحتكاك مع روسيا عبر دعمها العسكري المباشر لأوكرانيا. بل ها هي سويسرا تنضم الى منظومة العقوبات، والأهم أن فنلندا، والسويد التي تعاني من حدود تمتد لآلاف الكيلومترات مع روسيا، تشارك المخاوف وتتشارك في العقوبات لتلتصق أكثر فأكثر بالجسم العسكري لحلف الأطلسي لردعها.

إذاً، حتى لو افترضنا أن لدى إسرائيل حدوداً مشتركة مع روسيا، لا يبدو ذلك ذريعة كافية للاستجابة للابتزاز الروسي الاستراتيجي. فلماذا تخفق الحكومة الإسرائيلية مرة أخرى في ما كانت تحاول الترويج له من دور في النظام الدولي لتفشل في إبرام حجتها السياسية والدبلوماسية؟

يخبرنا التاريخ أن العكس كان دوماً هو الصحيح، وأن ثمة خيارات ممكنة أخرى كانت متوافرة لإسرائيل. ففي مواقف مشابهة لم تتردد إسرائيل عن قتل عشرات الجنود من الحلفاء والخصوم. قتلت إسرائيل 34 جندياً أميركياً بقصفها سفينة التجسس ليبرتي في حرب عام 1967، فيما تشير بوضوح مذكرات الطيار الذي نفذ العملية الى أن رابين كان يعرف هوية السفينة. وخلال حرب الاستنزاف خاطرت إسرائيل بقتل 40 جندياً روسياً، وحتى بإسقاط خمس طائرات روسية من أجل حماية قواتها في السويس.

إذاً لا بد من أن تكون ثمة عوامل أعمق!

حتى وقت قريب، كان البعض في إسرائيل يعتقدون أن روسيا قد تعمل معهم لدفع إيران إلى الخروج من سوريا. ورغم أن هذه الفرضية خاطئة من أساسها، فإنها حالياً، بعد الحرب على أوكرانيا، وبخاصة بعد اتفاق نووي وشيك مع إيران، فإنه ببساطة غير وارد.

وعلى عكس الافتراض النظري بأن روسيا ستمنح الحرية للطيران الإسرائيلي في الأجواء السورية، ستحتاج موسكو لتطوير العلاقات مع طهران ونظام الأسد أكثر من أي وقت مضى، بل يرجح أن تحاول إيران تعزيز وجودها العسكري بالقرب من حدود إسرائيل الشمالية.

بل أكثر من ذلك، ترى غالبية الاستراتيجيين العسكريين الإسرائيليين أن سياسة الحرب وبين الحروب، وسياسة جز العشب ضد القوات الإيرانية في سوريا، كانت فاشلةً أصلاً، من حيث كونها تؤجل خطراً يتورم يوماً بعد يوم من جهة، فيما يفشل في تحقيق أي مستوى من توازن الردع.

ثم لماذا تساعد روسيا إسرائيل في تصفية الدور الإيراني؟ إنها تعمل، في الإقليم كما في أوروبا، كرجل المطافئ الذي يحترف إشعال الحرائق كي يبقي الحاجة لهيمنته ودوره. إنها سياسة كالمنشار يربح صعوداً مع إيران وهبوطاً مع إسرائيل.

ويبدو أن الورطة بالنسبة الى إسرائيل أكبر مما يبدو على السطح. ثمة رأي يقول إن الأوليغارشية الروسية قد نجحت في اختراق النخب الإسرائيلية جوهرياً، بدءاً بليبرمان وحتى نتنياهو وربما لحين. وهذا ما يخاطر بوضع إسرائيل لأمد أطول في الجانب الآخر من الصراع إن استمرت هذه السياسات.

حاولت إسرائيل أن تتصرف دوماً على أنها تنتمي الى فضاء خارج منطقة الشرق الأوسط وأهله، لكنها الآن تخاطر بتجريد نفسها من الانتماء الى النادي الأوروبي أو الغربي. فإلى أين تذهب؟

إنها إذ تتخذ هذه السياسة وأمام احتدام الصراع، قد تنعطف قريباً نحو سياسة أكثر حزماً من روسيا، ومرة أخرى ترسخ الانطباع بأن سياستها أصبحت تكتيكية وبالمفرق وليس بالجملة، لتعطي الأولوية، كما فعل بوتين، للتكتيك على الاستراتيجية رد فعل على المبادرة الاستراتيجية. بذلك فإنها تتحول لتنتمي عضوياً الى ثقافة الشرق الأوسط. فمرحباً بكم.

النهار العربي

———————–

الأثر العميق للغزو الروسي على سوريا

Charles Lister

يبدو أن الغزو الروسي لأوكرانيا سيكون له تأثير عميق على سوريا والسياسة السورية. بداية، ربما تكون العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة قد تعرضت الآن لضربة قاتلة. فطوال أشهر عام 2021، كان المبعوث الخاص للأمم المتحدة غير بيدرسون يمهد الطريق لإطلاق جهد دبلوماسي متعدد الأطراف أسماه “نهج خطوة بخطوة” في عام 2022. كانت احتمالات نجاحه ضئيلة دائمًا، لكنها تبدو الآن وكأنها أملًا كاذبًا أو مستحيلًا.

بالنظر إلى المستقبل، فإن أحد المخاوف البالغة يكمن في التهديد الذي يتعلق بوصول المساعدات عبر الحدود في شمال سوريا. ففي يوليو/تموز، سيكون قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2585 – الذي يسمح بوصول المساعدات التي تيسرها الأمم المتحدة إلى شمال غرب سوريا عبر تركيا – بحاجة إلى التجديد وستكون إمكانية استخدام روسيا لحق النقض أكبر من أي وقت مضى. وهذا من شأنه أن يُعجِّل بأزمة إنسانية معوّقة لحياة ملايين المدنيين الذين يعتمدون بشكل جوهري على تلك المعونة والمساعدات.

يمكن أن تحدث أزمة إنسانية أخرى أيضًا إذا، كما يبدو مرجحًا، تقلصت إمدادات القمح الروسي إلى سوريا أو انقطعت تمامًا نتيجة للحرب في أوكرانيا. فقد تسببت موجات الجفاف الشديدة المتتالية في إضعاف محاصيل القمح المحلية في سوريا، مما جعل البلاد أكثر اعتمادًا على المساعدات الروسية. وبينما كانت هناك مخاوف من حدوث مجاعة من قبل، فإن احتمال حدوث مجاعة يبدو اليوم أكثر ترجيحًا.

على المستوى الأمني​​، قد يواجه عدم التضارب بين الولايات المتحدة وروسيا تحديًا أيضًا من خلال تدهور العلاقات الدبلوماسية والعسكرية. شهد عام 2021 انخفاضًا ملحوظًا في حوادث حافة الهاوية بين القوات الروسية والأمريكية في شمال شرق سوريا واستمرار الوصول الجوي الأمريكي دون منازع لضربات مكافحة الإرهاب في الشمال الغربي. من المحتمل جدًا أن تبدأ القوات الروسية قريبًا في تحدي خطوط منع الصراع وإغلاق الطرق والقوافل الأمريكية في الشمال الشرقي، مع احتمال التدخل في رحلات الطائرات بدون طيار والاستطلاع فوق الشمال الغربي. من شبه المؤكد أن قاعدة حميميم الجوية الروسية في اللاذقية ستصبح مصدرًا أكبر لفرض القوة الروسية في المنطقة الأوسع.

أخيرًا، فإن الأمر الأكثر إرباكًا فيما يتعلق بالعواقب هو ما إذا كانت العلاقات التركية الروسية ستتعرض للتحدي بسبب الحرب في أوكرانيا. لقد حددت أنقرة الآن الصراع هناك من الناحية القانونية على أنه “حرب” وأغلقت مضيق البوسفور والدردنيل أمام جميع السفن العسكرية، بما في ذلك البحرية الروسية – وهي خطوة يمكن أن يكون لها تأثير استراتيجي خطير على استعداد القوات البحرية والجوية الروسية فيما يتعلق بسوريا. بالنسبة لتركيا، يمثل الوصول عبر الحدود إلى شمال غرب سوريا مصدر قلق عميق، وكذلك موقف روسيا تجاه الديناميكية الأمنية عبر شمال سوريا، لذلك قد يكون هناك مساحة لترتيب مقايضة أوسع لتجنب تدهور العلاقات. لكن إذا تفاقمت، سيصبح الوضع في شمال سوريا هشًا للغاية.

———————————-

لماذا قد تمتنع الصين عن مساعدة روسيا اقتصادياً؟/ جورج عيسى

لعلّ أفضل دليل على حجم المفاجأة التي شعر بها الروس بسبب نوعيّة العقوبات المفروضة عليهم هو ما قاله وزير الخارجية سيرغي لافروف يوم الأربعاء في “معهد موسكو للعلاقات الدولية”: “ما من أحد أمكنه توقّع” أن تستهدف العقوبات الغربية بنك #روسيا المركزيّ. ووصف الخطوة الغربيّة بـ”السرقة”.

من بين تداعيات العقوبات الغربيّة على روسيا، محو نحو 200 مليار دولار من أسواق البورصة الروسيّة وتوقّعات بانكماش الاقتصاد الروسيّ بحدود تتراوح بين 7 إلى 15% هذه السنة. وقد يصل التضخّم إلى 14% بحلول كانون الأوّل. كيفيّة مضيّ روسيا قدماً في حربها على #أوكرانيا مسألة ضبابيّة، على الرغم من رهان روسيّ على دعم صينيّ، قد لا يتوفّر بالحجم المطلوب، هذا إن توفّر أساساً. وتكلّف الحرب الاقتصاد الروسيّ أكثر 20 مليار دولار يوميّاً بحسب إحدى الدراسات. ويمكن أن يخسر اقتصادها مكاسب حقّقتها روسيا طوال 15 عاماً.

قبل غزو أوكرانيا، سافر الرئيس الروسي فلاديمير #بوتين إلى #الصين لنيل دعم رئيسها #شي جينبينغ في مواجهة الغرب. بينما يظلّ السؤال عمّا إذا كان بوتين قد أبلغ شي نيّته اجتياح أوكرانيا بلا جواب حاسم، كانت الحاجة إلى توثيق العلاقات مع الصين ملحّة بصرف النظر عن النوايا الروسيّة والملفّ الأوكرانيّ. على المستوى الاستراتيجيّ، تشترك روسيا والصين في هدف إبعاد واشنطن عن ملفّي أوكرانيا وتايوان، وبشكل أعمّ عن منطقتي أوروبا الشرقية والإندو-باسيفيك. بالمقابل، تحتاج روسيا إلى رافعة في علاقتها مع الغرب كي تقول إنّ الأسواق الصينيّة جاهزة للتعويض عن الأسواق الأوروبية.

يصعب قياس نجاح روسيا والصين على مستوى الترابط الاستراتيجيّ، بما أنّه يستغرق فترة زمنية طويلة لتبيان معالمه. لكن على المستوى الاقتصاديّ، يمكن تلمّس بعض المؤشّرات التي تحدّد ما إذا كانت الصين قادرة على مساعدة روسيا أو عاجزة عن ذلك. حتى اليوم، لا تبدو المؤشّرات مشجّعة بالنسبة إلى الروس.

قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي في 15 آذار إنّ “الصين ليست طرفاً في الأزمة، ولا تريد أن تؤثّر العقوبات على الصين”. موقف بيجينغ سلبيّ بالنسبة إلى الروس، لكن من المحتمل أن يكونوا قد توقّعوه. بعد فرض عقوبات على روسيا بسبب ضمها القرم سنة 2014، التزمت الصين إلى حدّ بعيد بها فتراجع حجم التبادل التجاري مع موسكو خلال السنوات التالية قبل أن يعاود ارتفاعه خلال السنتين الماضيتين. وفي وقت مبكر من الحرب، أعلن مصرفان صينيّان بارزان أنّهما لن يساعدا روسيا في التبادلات التجارية. مع استمرار الاستنزاف العسكريّ والاقتصاديّ الذي تتعرّض له موسكو، تزداد حاجتها إلى الدعم الصينيّ.

يعتقد البعض أنّ بيجينغ قادرة على تحقيق ذلك. الأكاديميّ في “معهد أبحاث السياسة الخارجية” ماكسيميليان هس قال إنّه على مستوى نطاق دعم الصينيين لروسيا، هم قادرون على مساعدتها في الكثير لكنّهم سيخاطرون بالتعرض لحرب تجاريّة ثانية مع الولايات المتحدة والغرب. لا يشاطر كثر اعتقاد هس. تستطيع الصين على الأرجح مساعدة روسيا لكن ليس بشكل يحصّنها من العقوبات الغربيّة أو يجعلها قادرة على إدامة حربها لفترة طويلة.

خطوات تشجيعيّة تصطدم بواقع قاسٍ

تتّخذ الصين إجراءات تبدو في ظاهرها مشجّعة على مساعدة روسيا، لكنّ انعكاسها على المستوى العمليّ يبقى ضبابياً. يوم الأحد، حثّ السفير الصينيّ في موسكو جانغ هانهوي رجال الأعمال الصينيين الموجودين في روسيا على عدم إضاعة الوقت و”ملء الفراغ” في السوق المحلية. غير أنّ كبيرة الاقتصاديين في قسم آسيا-الهادئ من شركة “ناتيكسيس” للخدمات المصرفية أليسيا هيريرو تعتقد أنّ الشركات الخاصة والصغيرة ستصغي إلى رسالة الديبلوماسيّ الصينيّ إنّما ستتردّد في تنفيذها قبل أن ترى الشركات الكبيرة المدعومة من الدولة تستثمر في روسيا.

يبدو أنّ الصين رفضت توفير قطع إلى الطيران التجاري الروسي بعدما حظرت “بوينغ” و”إيرباص” المبيعات المرتبطة إلى موسكو، كما أنّ شركات الهواتف الذكية الصينية لم تكن قادرة على انتهاز مزية رحيل نظيرتها الأميركية عن السوق الروسية بسبب صعوبات في الدفع، بينما تسمح بيجينغ بانخفاض قيمة الروبل أمام اليوان لشراء السلع الروسية بكلفة أدنى. وثمّة مخاوف صينية من أن تتعرّض بيجينغ لتداعيات العقوبات أكثر ممّا قد تتعرّض له روسيا بسبب الترابط الأكبر بين اقتصادها والاقتصاد العالميّ. علاوة على ذلك، تملك الصين الكثير من الأصول في دول العالم بما يجعلها تتردّد في مساعدة روسيا على الالتفاف حول العقوبات الغربيّة. ترى الأستاذة في جامعة “نورث إيسترن” مايئا كروس أنّ “الصين أكثر اعتماداً بكثير على احتياطاتها الأجنبيّة. لديها أكبر احتياطات أجنبيّة في العالم. وسبق أن رأينا كيف أنّ روسيا لم تعد قادرة على الوصول إلى احتياطاتها الأجنبيّة”.

ربّما كانت الأصول البالغة أكثر من 600 مليار دولار والتي راكمتها روسيا خلال السنوات الماضية حافزاً أساسياً كي يقرّر بوتين غزو أوكرانيا على قاعدة أنّ هذا المبلغ سيقيه قساوة العقوبات. لكنّ تجميد الغرب نصف هذا المبلغ الموجود في الخارج فاجأ روسيا وغيّر حساباتها. ثمّة قسم كبير من هذه الأصول موجود في الصين، قرابة 140 مليار دولار، لكنّ أغلبه مرتبط بسندات ومقوّم بالعملة الصينيّة. والقسم الباقي مرتبط باتفاقات ثنائيّة بين المصرفين المركزيّين.

التعويض صعب جداً

ليس سهلاً على الصين أن تعوّض روسيا عن غياب الأسواق الغربيّة لأسباب عدّة. أوّلاً يساوي حجم التبادل التجاريّ بين روسيا والاتحاد الأوروبي (2021) 1.5 مرات حجم التبادل بين روسيا والصين. ثانياً، إنّ زيادة حجم صادرات الطاقة الروسيّة إلى الصين يعني بالضرورة توسيع البنية التحتيّة القادرة على استقبال الكميات الإضافية من الطاقة. يقتضي ذلك إنفاق روسيا عشرات المليارات من الدولارات. وتستورد أوروبا من روسيا كميات من الطاقة تفوق بأربعة أضعاف تلك التي تستوردها الصين من روسيا.

يبيّن قسم وازن من الأدلّة أنّ الصين لن تكون مستعجلة لمساعدة روسيا في تخطّي العقوبات الغربيّة. لهذا السبب، يعتقد البعض أنّ الصين ستواصل انتقاد الولايات المتحدة لكنها لن تصل إلى حد استعداء الولايات المتحدة. فهل يقتصر الدعم على البيانات والتصاريح؟ ربّما تلجأ بيجينغ إلى ما هو أكثر بقليل من الدعم اللفظيّ.

يرى الاقتصاديّ في جامعة كورنيل إسوار براساد أنّ “الصين لن تنقذ قارب الاقتصاد الروسيّ الغارق. ربما تسمح له بأن يطفو لفترة أطول بقليل وأن يغرق بشكل أبطأ بقليل”. بالتأكيد، لا يناسب هذا التحليل طموحات بوتين

النهار العربي

———————————–

الجمعية العامة للأمم المتحدة:على روسيا أن تنهي الحرب فوراً

تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة الخميس، قراراً غير ملزماً يحمل عنوان “العواقب الإنسانية للعدوان على أوكرانيا” ويطالب روسيا بإنهاء فوري للحرب في أوكرانيا التي بدأتها قبل شهر. وحصل القرار على تأييد 140 دولة ومعارضة خمس دول هي روسيا وبيلورسيا وسوريا وكوريا الشمالية واريتريا، وامتناع 38 دولة عن التصويت.

ويشير القرار إلى “التزام جميع الدول بموجب المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، بأن تمتنع في علاقاتها الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة”.

وكانت كييف قد تقدمت بمشروع القرار وقادت المكسيك وفرنسا المفاوضات حوله. وتضم الجمعية العامة للأمم المتحدة 193 دولة عضوة، وكان القرار بحاجة لأغلبية الثلثين وليس الأغلبية البسيطة العادية من أعضاء الجمعية العامة، أي خمسين بالمئة زائد واحد، لأنّ القرار ينضوي تحت بند “متحدون من أجل السلام”.

وتبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال أذار/مارس القرار الأول حول الحرب الأوكرانية، حيث صوتت في 2 آذار/مارس على نص يطالب روسيا “بالتوقف فوراً عن استخدام القوة ضد أوكرانيا” كما “الانسحاب الفوري والكامل وغير المشروط” لجميع قواتها العسكرية من أوكرانيا.

ويستنكر القرار الأول “العدوان الروسي على أوكرانيا” ويؤكد “التمسك بسيادة واستقلال ووحدة أراضي” أوكرانيا بما فيها “مياهها الإقليمية”، ما أعاد القرار الثاني تبنيه والتأكيد عليه.

ويؤكد القرار الذي اتُخذ الخميس، على أن “الهجوم العسكري التي شنته روسيا داخل الأراضي الأوكرانية ذات السيادة، والعواقب الإنسانية الناجمة عنه بلغا نطاقاً لم يشهده المجتمع الدولي في أوروبا منذ عقود”. ويطالب القرار ب”الوقف الفوري للأعمال العدائية التي تشنها روسيا على أوكرانيا، ولا سيما أي هجمات على المدنيين والأعيان المدنية”، كما يطالب بتوفير الحماية الكاملة للمدنيين.

ويشدد القرار على أن “محاصرة المدن في أوكرانيا ولا سيما مدينة ماريوبول يزيد من تفاقم الحالة الإنسانية للسكان المدنيين ويعرقل جهود الإجلاء”، ومن ثم يطالب ب”إنهاء حالات الحصار”، كما يكرر القرار طلب الجمعية العامة من منسق الإغاثة في حالات الطوارئ أن يقدم تقريراً عن الحال الإنسانية في أوكرانيا وعن الاستجابة الإنسانية. ويطلب من الأمين العام أن يوافي الجمعية العامة بإحاطة منتظمة بشأن تنفيذ القرار.

ورحبت سفيرة الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد بهذه “الأغلبية القوية” التي حظي بها النص في الأمم المتحدة، فيما كان الرئيس الأميركي جو بايدن في بروكسل لحضور قمم حلف شمال الأطلسي ومجموعة السبع والاتحاد الأوروبي.

وشهد الاجتماع جدلاً بين ممثلة جنوب أفريقيا وممثل أوكرانيا. وكانت جنوب أفريقيا قد صاغت مشروع قرار آخر خاصاً بها حول الوضع الإنساني وتقديم المساعدات الإنسانية في أوكرانيا يختلف عن المشروع الأوكراني الذي تم تبنيه. وصوتت 50 دولة لصالح التصويت على مشروع جنوب أفريقيا في حين صوتت 67 ضد عرض المشروع للتصويت، وامتنعت 36 دولة عن التصويت، مما عنى أن أغلبية الدول اعترضت على عرض مشروع قرار جنوب أفريقيا للتصويت.

ومن اللافت أن مشروع جنوب أفريقيا والذي لم يتم التصويت عليه، لا يذكر روسيا بالاسم واكتفى بالإشارة إلى “الصراع في أوكرانيا”. ونصت المسودة على ضرورة وقف الأعمال العدائية كخطوة أولى للتباحث، إضافة إلى الإشارة إلى العمليات الإنسانية وتقديم المساعدات وحماية العاملين في المجال الإنساني، دون الإشارة إلى حصار المدن بما في ذلك حصار ماريوبول.

وقالت غرينفيلد أن الدول الأعضاء أكدت “بوضوح أن روسيا تتحمل وحدها المسؤولية عن الأزمة الإنسانية الخطرة والعنف في أوكرانيا”. وأضافت أنه “كما أوضح الرئيس بايدن أن نظيره الروسي فلاديمير بوتين لن ينتصر في أوكرانيا..ورأينا اليوم أنه لن يفوز هنا أيضاً في نيويورك” بمقر الأمم المتحدة.

وكانت موسكو قد عرضت مساء الأربعاء على أعضاء مجلس الأمن مشروع قرار بشأن “الوضع الإنساني” في أوكرانيا التي هاجمتها في 24 شباط/فبراير. وصوتت روسيا والصين لصالح القرار فيما امتنع الأعضاء 13 الآخرون عن التصويت.

ودافع السفير الروسي لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا عن القرار وقال إنه “غير مسيس” معرباً عن أهميته الكبيرة “لممثلي الأمم المتحدة في المجال الإنساني على الأرض”.

——————————–

أميركا تعوض الغاز الروسي الى أوروبا..بأي ثمن؟

قال الرئيس الأميركي جو بايدن الجمعة، إن الولايات المتحدة ستزوّد الاتحاد الأوروبي بمزيد من الغاز الطبيعي المسال لمساعدة الدول الأوروبية على تقليل اعتمادها على إمدادات الغاز الروسية.

وقال بايدن: “اتفقنا اليوم على خطة مشتركة لتحقيق هذا الهدف، مع تسريع تقدمنا نحو مستقبل آمن للطاقة النظيفة”. وأضاف أن الخطة “تركّز على قضيتين أساسيتين إحداهما تساعد أوروبا على تقليل اعتمادها على الغاز الروسي بأسرع ما يمكن، والثانية تتعلق بتقليل الطلب الأوروبي على الغاز بشكل عام”.

وأعلن بايدن ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، بعد حضور قمة طارئة لحلف شمال الأطلسي ومجموعة السبع في بروكسل، عن تشكيل فريق عمل “لتقليل اعتماد أوروبا على الوقود الأحفوري الروسي”، في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا. وقال بايدن إن الولايات المتحدة ستزود الاتحاد الأوروبي بنحو 15 مليار متر مكعب إضافي من  الغاز الطبيعي المسال، بحلول نهاية 2022.

بدورها، قالت دير لاين إن فريق العمل سيعمل مع الدول الأعضاء “من أجل أن تضمن حتى العام 2030 على الأقل، حصول الاتحاد الاوروبي على 50 مليار متر مكعب في السنة من إمدادات الغاز الطبيعي المسال الأميركي”.

وأضافت أن “فريق العمل المكلّف أمن الطاقة سيرأسه ممثل للبيت الأبيض وممثل لرئيسة المفوضية الأوروبية”. وتابعت: “سيعمل الفريق على ضمان أمن الطاقة لأوكرانيا والاتحاد الأوروبي استعداداً لفصل الشتاء المقبل والشتاء التالي، مع دعم هدف الاتحاد الأوروبي المتمثل في إنهاء اعتماده على الوقود الأحفوري الروسي”.

وتعدّ روسيا مصدراً رئيسياً للغاز الطبيعي المسال ومن بين أكبر منتجيه في العالم. وتعتمد أوروبا على روسيا في 40 في المئة من استهلاكها للغاز الطبيعي إذ تزود روسيا حوالى 150 مليار متر مكعب من الغاز كل عام إلى القارة الأوروبية.

وتأتي هذه الخطوة فيما تناقش الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الدعوات إلى حظر صادرات الطاقة الروسية إلى التكتل بهدف معاقبة الرئيس الروسي بوتين على غزو أوكرانيا. ولكن ما زالت بعض الدول مترددة في وقف الإمدادات بشكل مفاجئ نظراً إلى اعتمادها على واردات الغاز الروسي.

وأعلنت ألمانيا الجمعة أنها ستخفض اعتمادها على موارد الطاقة الروسية بشكل حادّ وسريع باستغنائها عن واردات الفحم بحلول الخريف وعن واردات النفط بحلول نهاية العام. أما بالنسبة إلى الغاز فبإمكان ألمانيا أن تكون “مستقلة إلى حد بعيد بحلول منتصف 2024”.

وعزز الاتحاد الأوروبي بالفعل جهوده لتأمين المزيد من الغاز الطبيعي المسال بعد محادثات مع دول مصدرة، وقد نتج عن ذلك تسليم كميات قياسية تقدر بنحو 10 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال عبر أكثر من 120 سفينة في كانون الثاني/يناير.

وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أصدر في 23 آذار/مارس، تعليمات للبنك المركزي الروسي ومجلس الوزراء “لتحديد إجراءات معاملات الغاز مع أوروبا بالروبل الروسي في غضون أسبوع”.

وردت رئيسة المفوضية الأوروبية على إعلان بوتين قائلة: “لن نسمح بذلك”. واعتبرت أن الخطوة الروسية “ستكون قراراً أحادياً وخرقاً واضحاً للعقد، ومحاولة للالتفاف على العقوبات”، مشددة على “أننا لن نسمح بالالتفاف على عقوباتنا… انتهى الوقت الذي كان يمكن فيه استخدام الطاقة لابتزازنا”.

من جهته، قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف إن الكرملين ينطلق من تعليمات بوتين، إلى شركة “غازبروم” حول استلام قيمة الغاز بالعملة الروسية. وأضاف “هناك تعليمات إلى غازبروم من الرئيس الروسي بقبول المدفوعات بالروبل. في الواقع، خلال الأيام الأربعة المتبقية، سيتعين على شركة غازبروم إجراء اتصالات وتطوير نظام شفاف ومفهوم، وكيف يمكن تنفيذه تقنياً ولوجستياً”.

وأشار بيسكوف، إلى أنه سيتم إبلاغ زبائن “غازبروم” بذلك، و”سنرى رد فعلهم قريباً”. وقال بيسكوف ردا على سؤال عما إذا كانت روسيا تخطط لتزويد أوروبا بالغاز إذا لم يدفع الأوروبيون قيمته بالروبل، وهو ما أعلنوا عنه بالفعل: “ننطلق من التعليمات الحالية لرئيس الدولة”.

————————–

الحرب ليست بالسلاح فقط…حساء “البورشت”: جبهة روسية أوكرانية مشتعلة/ عبداللطيف حاج محمد

في الحرب الأوكرانية- الروسية المستمرة، أصبحت الهوية الأوكرانية ذات أهمية متزايدة، والتراث الثقافي بأشكاله المتعددة المادي وغير المادي، يشكل مصدراً للمعرفة حول الهوية القومية الجديدة للأوكرانيين.

يدور الصراع في أوكرانيا على مستويات مختلفة. بين شرق أوكرانيا وغربها، بين السلطات الأوكرانية وروسيا، وبين الناتو وروسيا. يدور الصراع حول الأرض والسلطة والأمن والتاريخ والهوية والقانون الدولي…

يرى الأوكرانيون أن الحكومة الروسية، إضافة إلى متابعة التدخل العسكري في بلادهم، تحاول الاستيلاء على التراث الثقافي بأكمله للعالم السلافي الشرقي، بما في ذلك حساء الشمندر والملفوف المعروف باسم حساء “البورشت” Borscht، فالحرب الطاحنة بين البلدين كانت انطلقت عبر مواقع التواصل الاجتماعي عام 2019، ولم تنتهِ حتى الآن.

حسناً، ماهو الـ” Borscht”؟  هو حساء شمندر كلاسيكي، تختلف طرائق تحضيره، إذ يمكن أن تحتوي الوصفة على كل شيء من اللحوم والنقانق والكرفس إلى الخضروات الجذرية المختلفة، مع الحفاظ على المكونات الأساسية أي الشمندر الأحمر القاني والملفوف.

في أواخر القرن الخامس عشر، انتشر “البورشت” في بولندا وبيلاروسيا الحديثة، ولا سيما في الأرياف، إذ كان يُنظر إليه على أنه طعام “فلاحين”، ونادراً ما كان يأكله النبلاء. وبحسب مؤرخة الطعام البولندية ماريا ديمبينسكا، النسخة البولندية من البورشت تسمى “barzcz”.

لكن مع مرور الوقت، تغيرت النظرة إلى حساء البورشت، ولم يقتصر الأمر على انتشاره في مناطق أبعد، بل اتسعت أيضاً الخلفية الاجتماعية للمستهلكين. بخاصة في الكومنولث البولندي الليتواني، حيث أدى التدهور الاقتصادي إلى تحولات اجتماعية وثقافية جذرية خلال القرن السابع عشر، فأصبح النبلاء تدريجياً أكثر استعداداً لتجربة الأطعمة المتواضعة التي تجنبوها سابقاً. نتيجة لذلك، تمت إضافة مجموعة من المكونات الجديدة، ما يعكس المحاصيل المزروعة في مناطق مختلفة وأذواق النبلاء المحليين.

لقد أثر هذا بشكل كبير في نكهة البورشت لدرجة أنه بحلول أواخر القرن السابع عشر، أصبحت الكلمة تصف مجموعة من أنواع الحساء الحامض، والتي كان معظمها يشبه إلى حد ما الأصل في العصور الوسطى.

خارج العالم الناطق بالروسية، غالباً ما يرتبط حساء الشمندر والملفوف بروسيا، المتاجر والمطاعم في أوروبا والولايات المتحدة تسوق البورشت كحساء روسي.

عام 2019، نشرت الحكومة الروسية على حسابها على “تويتر” باللغة الإنكليزية (الحساب الرسمي على “تويتر” لوزارة الشؤون الخارجية في الاتحاد الروسي) وصفة تعلن أن “بورشت هو أحد أشهر الأطباق الروسية وأكثرها تفضيلاً، وهو رمز للمأكولات التقليدية”.

الأوكرانيون يخبرون أن حساء البورشت تم ذكره للمرة الأولى  عام 1548 في يوميات مسافر أوروبي تذوق الحساء في سوق بالقرب من كييف. يقولون إن الطبق وصل إلى روسيا بعد ذلك بكثير مع المستوطنين الأوكرانيين.

في نقاش ساخر على “تويتر” بين الحسابين الرسميين لروسيا وأوكرانيا، قالت روسيا إنها سمحت للمواطنين بالتصويت على طبقهم الروسي المفضل: احتل حساء بورشت رأس القائمة.

وردت أوكرانيا بالإشارة إلى أن هذه هي المرة الأولى التي يُسمح فيها للروس بالذهاب إلى انتخابات ديموقراطية وأنه بمجرد السماح لهم بذلك، فقد صوتوا لمصلحة أوكرانيا.

هذا الأمر دفع سفارة روسيا في الولايات المتحدة على “تويتر” بالرد بأن “بورشت غذاء وطني لبلدان كثيرة، بما في ذلك روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وبولندا ورومانيا ومولدوفا وليتوانيا”.

لكن بالنسبة إلى الأوكرانيين، الذين يعتبرون البورشت طبقهم الوطني، فإن التغريدة الروسية كانت دعاية في زمن الحرب، لا سيما بالنظر إلى الاحتلال الحالي لشبه جزيرة القرم منذ عام 2014.

لذلك كان الرد منظماً من طريق تشكيل منظمة CultFood بقيادة أحد أشهر الطهاة في البلاد، إيفجين كلوبوتينكو خريج مدرسة “لو كوردون بلو” للطهي.

في حديث سابق مع وكالة الأنباء الفرنسية، يشرح الشيف  إيفجين قائد معركة حساء الشمندر والملفوف، كيف وجد نفسه في قلب الصراع بين روسيا وأوكرانيا، لتأكيد سيادة أوكرانيا على حساء البورشت.

“لا أحب حقاً أن أسميها حرباً من أجل بورشت، لكن في الواقع هذا ما هو عليه”.

وأضاف إنه سئم من كيف تشير المطاعم في جميع أنحاء العالم – بما في ذلك تلك التي تقدم “ما يسمى بالمطبخ الأوكراني” – إلى بورشت على أنه حساء روسي.

لذلك أحضر قدراً من البورشت إلى وزارة الثقافة الأوكرانية لإقناع المسؤولين بتقديم طلب رسمي إلى  منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونيسكو لإدراج البورشت كجزء غير مادي من التراث الثقافي للبلاد.

بالنسبة إلى كلوبوتينكو، فإن المعركة على البورشت تدور في الحقيقة حول هوية أوكرانيا. لذلك أمضى مع  المجموعة في CultFood شهوراً في جمع أدلة على أن الطبق نشأ في أوكرانيا، وتضمنت المواد التي جمعوها صوراً وأدلة وثائقية على أن الوصفات قد تم تناقلها بين ثلاثة أجيال على الأقل داخل  العائلة الواحدة وخطط لأحداث ثقافية للاحتفال به.

في تقرير من سبعمائة صفحة، تحدث كلوبوتينكو عن سبب اعتبار البورشت أوكرانياً، يأتي الإلهام من نابولي، حيث يوجد لديهم بيتزا نابوليتانا المدرجة في قائمة التراث العالمي، وفي جورجيا، حيث فعلوا الشيء نفسه مع نبيذهم، إضافة إلى خبز “الباغيت” الفرنسي.

للفوز بالاعتراف من الهيئة الثقافية للأمم المتحدة، لا يتعين على الأوكرانيين إظهار أن البورشت حصري لبلدهم، يكفي فقط إظهار أنه متشابك بشدة مع ثقافتهم، ويدخل في أشياء مثل تقاليد الزفاف والجنازة. ويجب أن يظهروا أن الحساء يستهلك على نطاق واسع.

في الحرب الأوكرانية- الروسية المستمرة، أصبحت الهوية الأوكرانية ذات أهمية متزايدة، والتراث الثقافي بأشكاله المتعددة المادي وغير المادي، يشكل مصدراً للمعرفة حول الهوية القومية الجديدة للأوكرانيين. لذلك سيكون الاعتراف بحساء الشمندر والملفوف مكسباً مهماً للكبرياء الأوكراني.

درج

——————————

الحرب الأوكرانيّة فشل روسي… وأميركي أيضا/ خيرالله خيرالله

فلاديمير بوتين استطاع تغيير أوروبا كلّيا وبات على كلّ دولة أوروبيّة بما في ذلك السويد التفكير في كيفية مواجهة خطر روسي محتمل وما إذا كان عليها الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.

الخسارة واحدة

بعد شهر كامل على الاجتياح الروسي لأوكرانيا، وهو اجتياح تبيّن أنّه ليس نزهة، بات في الإمكان القول إنّ رجلا واحدا اسمه فلاديمير بوتين غيّر العالم وقضى على كلّ الانفراجات التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي وأحزابه الشيوعيّة المنتشرة في كلّ أنحاء الكرة الأرضيّة، خصوصا في دول أوروبا الشرقيّة.

استعادت شعوب هذه الدول الأوروبيّة حرّيتها التي حرمتها منها نتائج الحرب العالميّة الثانيّة واتفاق يالطا. قسّم الاتفاق أوروبا إلى منطقتي نفوذ إحداهما غربيّة وأخرى تابعة للاتحاد السوفياتي. لم تكن الأيديولوجيّة التي تحكّمت بالاتحاد السوفياتي وبالدول التي وقعت تحت سيطرته، بعد العام 1945، تقلّ سوءا عن الأيديولوجيّة النازيّة التي يدّعي بوتين أنّه يتصدّى لها في أوكرانيا… في حين تبدو كل ممارساته مستوحاة منها.

لم يتردّد بوتين وكبار مساعديه في وصف الأوكرانيين بـ”النازيين الجدّد” متذرّعين بأنّ هناك جرائم ارتكبت في حق سكان مناطق أوكرانيّة معيّنة يتمسّكون بلغتهم الروسيّة. ركّز هؤلاء على أن الحملة العسكريّة التي يشنّها الجيش الروسي، بحجة منع تمدّد حلف شمال الأطلسي (ناتو) إلى أوكرانيا، تستهدف إزالة الفكر النازي الذي يتحكّم بالقيادة السياسيّة في أوكرانيا. يرفض بوتين والمحيطون به أخذ علم بأن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يهودي… في بلد أكثريّة شعبه أرثوذكسية، كما عليه الحال في روسيا.

أدّت الحملة العسكريّة التي يشنّها بوتين على أوكرانيا إلى جعل أوروبا كلّها تعيد النظر في حساباتها وفي موقفها من روسيا. تنبهت أوروبا أخيرا إلى ضرورة أن تكون لديها سياسة دفاعيّة مشتركة. الأهمّ من ذلك كلّه، أن أوروبا بدأت تفكّر في كيفية التخلّص من اعتمادها على الغاز الروسي. باتت كلّ دولة أوروبيّة، بما في ذلك الدول البعيدة عن روسيا، تشعر بأنها مهددة. تذكّرت كل دولة العبارة المشهورة التي قالها ونستون تشرشل لرئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين بعد عودته من ألمانيا وتوصله إلى نوع من المهادنة مع هتلر في تشرين الأوّل – أكتوبر من العام 1938. وقتذاك، وقّع تشامبرلين مع هتلر اتفاقا في ميونيخ يستهدف تهدئة المستشار الألماني بعد استيلاء ألمانيا على منطقة في تشيكوسلوفاكيا. قال تشرشل موجّها كلامه إلى رئيس الوزراء في جلسة لمجلس العموم: “كان أمامك خيار بين الحرب والذلّ. اخترت الذل. ستأتيك الحرب”. اندلعت الحرب بالفعل في العام 1939 ولجأت بريطانيا إلى تشرشل ليحلّ مكان تشامبرلين في موقع رئيس الوزراء.

استطاع فلاديمير بوتين تغيير أوروبا كلّيا. بات على كلّ دولة أوروبيّة، بما في ذلك السويد، التفكير في كيفية مواجهة خطر روسي محتمل وما إذا كان عليها الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. ألمانيا نفسها تغيّرت. خصصت مئة مليار يورو لتعزيز قدرات قواتها المسلّحة في السنوات المقبلة.

لم تكشف حرب أوكرانيا فلاديمير بوتين فقط. كشفت أيضا ترهّل الجيش الروسي الذي يبدو أنّ عليه اللجوء إلى أسلحة دمار أكثر تطورا من أجل القضاء على مقاومة الشعب الأوكراني وعلى المدن الأوكرانيّة

ما اكتشفته أوروبا، في ضوء الحرب الأوكرانيّة، أنّ ليس في استطاعتها الاعتماد على الولايات المتحدة التي فشلت الإدارات المتلاحقة فيها في التعاطي مع مشاكل العالم منذ سقوط جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989. إذا وضعنا جانبا إدارة جورج بوش الأب كانت تعرف العالم، بدليل اكتفائها بتحرير الكويت من الاحتلال العراقي في شباط – فبراير 1991 وتوقف الجيش الأميركي عن ملاحقة الجيش العراقي داخل الأراضي العراقيّة، نجد أن الولايات المتحدة تحوّلت إلى قوّة عظمى يحكمها هواة. لا وجود في داخل أيّ إدارة لخبراء بما يدور في هذا العالم على غرار ما كان عليه الأمر في عهد بوش الأب الذي كان وزير خارجيته جيمس بيكر فيما مستشار الأمن القومي رجل حكيم في مستوى برنت سكوكروفت.

على الرغم من مجيء الرئيس جو بايدن إلى أوروبا، ليس في القارة العجوز من هو مطمئنّ إلى إدارة لم تدرك منذ البداية أنّ فلاديمير بوتين رجل متهوّر وخطير على العالم، رجل يمكن أن يقدم على مغامرة في حجم المغامرة الأوكرانيّة والتهديد باللجوء إلى السلاح النووي!

تفرض الحرب الأوكرانيّة على أوروبا إعادة النظر في نظرتها إلى الدور الأميركي في العالم، وهو دور تجاهل معنى سحق فلاديمير بوتين للشيشانيين (تدمير مدينة غروزني عن بكرة أبيها) ثم استعادته بالقوة شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في 2014 وتدخله مباشرة في الحرب التي يشنها بشّار الأسد، بدعم إيراني، على الشعب السوري ابتداء من أيلول – سبتمبر 2015. تدخّل سلاح الجو الروسي لقصف المدنيين السوريين والمستشفيات والمدارس من أجل إنقاذ نظام أقلّوي ذي طبيعة قمعيّة أراد السوريون التخلّص منه. تصرّف السوريون تماما كما فعلت شعوب دول أوروبا الشرقيّة في الماضي. حدث ذلك في هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا حيث كانت الدبابات السوفياتية بالمرصاد لأيّ تحرّك شعبي يستهدف الخروج من نير الاستعمار السوفياتي.

ليست أوروبا وحدها التي تعيد النظر في حساباتها في ضوء ما كشفته الحرب الأوكرانيّة. بات على كلّ دولة عربيّة إعادة النظر في علاقتها بالولايات المتحدة وما إذا كان في الإمكان الاتكال عليها كحليف تاريخي. يعود ذلك إلى سببين أولّهما غياب أيّ رغبة أميركيّة في فهم خصوصيات الحلفاء وثانيهما العجز عن استيعاب أبعاد المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة. إنّه مشروع يهدّد كلّ شعب من شعوب المنطقة بدليل ما فعله بلبنان وسوريا والعراق… واليمن.

لم تكشف حرب أوكرانيا فلاديمير بوتين فقط. كشفت أيضا ترهّل الجيش الروسي الذي يبدو أنّ عليه اللجوء إلى أسلحة دمار أكثر تطورا من أجل القضاء على مقاومة الشعب الأوكراني وعلى المدن الأوكرانيّة.

يبقى أنّ هذه الحرب كشفت قبل كلّ شيء مدى العجز الأميركي عن فهم العالم وأهمّية منطقة الخليج وما فيها من ثروات. كذلك، لم تفهم أميركا معنى الوجود الصيني في العالم وأنّ المناداة بالتصدي لـ”الخطر الصيني” شيء والعمل من أجل احتواء الصين شيء آخر. من فشل في مواجهة فلاديمير بوتين لا يمكن الاتكال عليه في أيّ مواجهة مع روسيا والصين… أو مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران ومشروعها التوسّعي.

الحرب الأوكرانيّة فشل روسي… وفشل أميركي أيضا!

إعلامي لبناني

العرب

—————————

المعارضة السورية والرؤية القاصرة للحدث العالمي “الأزمة الأوكرانية”/ رانيا مصطفى

شكل الغزو الروسي لأوكرانيا بداية لمتغيرات كبيرة تخص التوازنات الكبرى على الساحة الدولية، وتغييرات في سياسات الدول العظمى، أمريكا والصين وروسيا والهند والاتحاد الأوروبي… باتجاه تشكيل تحالفات وتقاربات جديدة؛ وتبحث الدول الإقليمية، تركيا وإيران وإسرائيل، والدول العربية، عن مصالحها، مستغلة الخلافات بين الدول الكبرى.

يشكل الملف السوري واحداً من الملفات الشائكة التي تتقاطع حولها مصالح الدول العظمى والإقليمية؛ فمنذ اتفاق موسكو لوقف إطلاق النار في إدلب في آذار 2020، ظلت حالة الركود السياسي والعسكري مسيطرة على المشهد السوري، وترسخت خرائط النفوذ بتوافق ضمني بين الدول اللاعبة فيه، وما زال الوضع مستمراً، مع تعنّت الروس في تنفيذ التزاماتهم حول اتفاق جنيف 1 والقرار الأممي 2254، ورفْضِ الأمريكيين والأوروبيين للحل الروسي بإعادة تعويم النظام، وتردُّد العرب ثم امتناعهم عن إعادة العلاقات مع دمشق، خوفاً من عقوبات قانون قيصر.

زاد الأمريكيون والأوروبيون من تصعيدهم ضد نظام الأسد، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، لتشديد الضغط على روسيا، بتفعيل ملف المحاسبة وتشديد العقوبات، لقطع أية مساعٍ روسية في هذه المرحلة لإعادة تعويم النظام وعودة اللاجئين وإعادة الإعمار؛ ولا تغيير في السياسة الغربية تجاه سوريا، والمتمثلة في إعاقة الحل الروسي، بل هناك تشدُّد في تنفيذها.

زاد التقارب الإسرائيلي الروسي بزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى موسكو، للعب دور الوسيط بين موسكو وكييف، ولم تعلن تل أبيب تأييداً واضحاً للموقف الأمريكي والأوروبي، بسبب امتعاضها من التغاضي الأمريكي عن سياسة إيران التوسعية في المنطقة، واقتراب العودة لإحياء الاتفاق النووي الموقع في 2015. فإضافة إلى ضمان بقاء التنسيق الروسي- الإسرائيلي حول السماح لتل أبيب بتنفيذ ضرباتها على المواقع الإيرانية في سوريا، وكان آخرها الأسبوع الماضي، تراهن إسرائيل على الموقف الروسي الجديد المعرقِل لمساعي العودة إلى الاتفاق، بعد أن كانت موسكو وسيطاً خلال الأشهر الماضية، كما كانت قبل سبع سنوات حين أنجز الاتفاق الأول، حيث تشترط روسيا على واشنطن تقديم ضمانات مكتوبة بألا تشمل العقوبات التي يفرضها الغرب على موسكو بسبب غزوها لأوكرانيا، العلاقات التجارية والعسكرية والتقنية بين موسكو وطهران.

بات الغرب أكثر حاجة إلى إحياء الاتفاق النووي، للاستفادة من موارد الطاقة الإيرانية، كبدائل عن النفط والغاز الروسيين؛ وطهران بدورها متشوقة إلى رفع العقوبات عن اقتصادها، ودخولها الأسواق الدولية، وامتلاء خزائنها بالمال، اللازم لاستكمال سياستها التوسعية في المنطقة، وللاستفادة من غلاء أسعار النفط والحاجة الأوروبية له. وهنا تفترق إيران مع روسيا؛ وبالتأكيد هذا له انعكاساته في علاقتهما كشريكين متنافسين في سوريا.

النظام السوري، بدوره، يجيد استغلال الفرص، فهو يعتاش على التناقضات بين الحليفين الداعمين له، روسيا وإيران، ويرى الحضن الإيراني أكثر دفئاً من الحضن الروسي؛ ورغم إعلانه الدعم الكلي لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، بإخراج مسيرات تأييد ترفع صور بوتين وأعلام روسيا، أرسل، في الوقت نفسه، نائبه الأمني، علي مملوك، إلى طهران، واستقبل قائد الحشد الشيعي العراقي في دمشق، في ظل انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا.

هناك أيضاً تقارب إسرائيلي- تركي، تمثَّل بزيارة فريدة لرئيس إسرائيل إلى أنقرة؛ فتركيا، العضو في حلف الناتو، تتلاقى مع إسرائيل في امتعاضها من الغرب، ولديها خلافاتها مع أمريكا، ضمن حلف الناتو وخارجه، وكلا البلدين، إسرائيل وتركيا، يسعيان إلى لعب دور الوساطة في الأزمة الأوكرانية. تركيا حليف لروسيا في سوريا، ورغم أنها لا تأمن جانب الناتو، لكنها تفضل البقاء في الحلف الغربي، وقدمت طائراتها المسيرة، بيرقدار، إلى حكومة كييف، وحاولت تبرير ذلك تجنباً لغضب روسيا، الأمر الذي سينعكس سلباً على توافقات البلدين في سوريا، خاصة ما يتعلق بالمخاوف التركية على حدودها، من أن تلعب روسيا بالورقة الكردية. وبالتالي تركيا تضع نفسها على الحياد، قدر المستطاع، ريثما تتضح ملامح تهدئة، تبدو بعيدة، في أوكرانيا.

ومثل تركيا وإسرائيل، فضّل مجلس التعاون الخليجي البقاء على الحياد، خاصة مع التباعد الأمريكي- السعودي والإماراتي، بسبب تغاضي واشنطن عن هجمات الحوثيين في اليمن على البلدين، وتستمر إدانة واشنطن للسعودية خلفية قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي، وانتهاكاتٍ لحقوق الإنسان، وهذا التباعد تصاعد في الآونة الأخيرة، مع رفض السعودية زيادة إنتاج النفط لتخفيض سعره عالمياً، والذي قوبل بزيادة التنديد الأمريكي بانتهاكات حقوق الإنسان في السعودية. لكن الرياض، ورغم اهتمامها بشريكها الروسي، باعتبارهما العضوان الأكثر تأثيراً في تحديد سعر النفط في منظمة أوبك+، ما زالت تميل إلى التحالف مع الغرب والولايات المتحدة، وتريد استثمار الحاجة الغربية إلى الدور السعودي.

قد تنتهي الحرب في أوكرانيا، بدخول بوتين إلى كييف، أو بالتوصل إلى اتفاق بين بوتين وزيلنسكي؛ لكن هذا لن يوقف حالة التوتر الدولية، بين روسيا وحلف الناتو، ومن المبكر التنبؤ بإمكانية جلوس الطرفين على طاولة الحوار لإقرار حدود ومجال كل طرف. هذا يعني أن لا متغيرات كبيرة حول الوضع السوري، بل المزيد من الاستنقاع والتأزم، وابتعاد أكبر عن الحل، مع تعمق الخلاف الأمريكي الروسي.

رغم أن هذا الظرف الدولي، أي إعادة تشكيل التوازنات الدولية، مواتٍ لحراك سياسي سوري معارض، يمكن أن يستثمر في الخلافات الدولية الراهنة، يضاف إليه حالة الضعف الشديد للنظام، سياسياً واقتصادياً وشعبياً؛ لكن غياب الإرادة السورية عن الفعل، بسبب حالة التصحر السوري المعارض، تمنع مثل هذا الحراك. فقيادات المعارضة المكرسة في الخارج مرتهنة لإرادات الدول الداعمة لها، وذلك يشمل كل مؤسساتها، من الائتلاف وهيئة التفاوض ووفد اللجنة الدستورية ووفد أستانة. في حين أن قوى الأمر الواقع في الداخل، في مناطق النفوذ الثلاثة، تمنع أي حراك شعبي ممكن، ويسود الداخل السوري حالة يأس وإحباط، بعد فشل تجربة الثورة الأولى، وما جرى بها من قتل وتنكيل، وتقسيم قسري للجغرافية السورية، وما رافقه من تغيير ديمغرافي. وليس لتيارات المعارضة العاملة في الداخل أي تواجد على الساحة السياسية السورية، لأنها تعمل في ظل النظام، وتتقي قمعه.

مؤسسات المعارضة المكرسة في الخارج تحتكر العمل السياسي، ويتبادل أفرادٌ بعينهم المناصب القيادية فيها. فقد فشلت محاولة رياض حجاب مثلاً، بدعم قطري، عبر مؤتمر الدوحة الأخير، للانقلاب على هؤلاء الأفراد المسيطرين في المعارضة، وإنهاء دورهم، والبحث عن تشكيل جديد؛ وذلك بسبب التمسك التركي بالائتلاف وشخوصه ومسارات التوافقات مع روسيا.

هذا يعني أن المعارضة السورية في الخارج، فاقدة لأية إرادة سياسية مستقلة، ورهنت نفسها بالكامل للأجندة التركية التي تدور في الفلك الروسي إلى الآن. في حين أن الأمريكيين لا زالوا يعترفون بأن سوريا منطقة نفوذ لروسيا، وليس في جعبتهم خطة تجبر روسيا على تنفيذ المقررات الدولية، غير ممارسة ضغوط كبرى تمنع إعادة تعويم النظام. ويغيب الحراك السوري كلياً عن دائرة الفعل؛ وبالتالي أمام الوضع السوري، في الفترة القريبة المقبلة، المزيد من الاستنقاع والتأزم.

——————————

روسيا تنتقم في سوريا بسبب أوكرانيا.. هل تنجح بذلك؟/ محمد وسام

مع استمرار التصعيد الروسي في أوكرانيا، ومحاولة وقوف الغرب أمام الغزو الروسي، عبر العقوبات الاقتصادية، والحشد الإعلامي الذي يسعى إليه الغرب لفضح ممارسات القوات الروسية، بدأت تظهر بعض المخاوف من ارتدادات ردود الفعل الغربية، واحتمالية انتقام موسكو لا سيما في سوريا باستخدام العديد من الأوراق.

تحذيرات من إغلاق المعابر الإنسانية في سوريا

قبل أيام أطلق مسؤولون في منظمات غير حكومية أميركية، تحذيرات من لجوء روسيا إلى الانتقام من الدول الأوروبية، في ظل التوتر بين الجانبين، في أعقاب غزوها لأوكرانيا، وذلك عبر إغلاق آخر ممر إنساني أمام إيصال المساعدات الأممية إلى مناطق سيطرة المعارضة في سوريا.

ونقل موقع “ميدل إيست آي” عن نائب رئيس البرامج والسياسات في “منظمة اللاجئين الدولية” هاردين لانغ، قوله للمشرعين في مجلس النواب الأمريكي خلال جلسة استماع للجنة الفرعية بشأن سوريا: “بالنظر إلى ما يحدث في أوكرانيا ومشاهدة موقف الروس في مجلس الأمن خلال الأسبوعين الماضيين، أعتقد أنه من الإنصاف القول إننا في طريق صعب للغاية“.

من جانبه أكد رئيس اللجنة، النائب تيد دويتش، على ضرورة رفض إيصال المساعدات عبر مناطق سيطرة الحكومة السورية وقال إن:“دمشق تتلاعب بالمساعدات منذ أكثر من عقد، وتسرق ملايين الدولارات من المانحين الدوليين والمنظمات الإنسانية، من خلال حجب المساعدات عن المعارضين، وتحويلها إلى مواليه، والانخراط في التلاعب بالعملة“.

سيف ذو حدين

ويرى الباحث السياسي صدام الجاسر، أن قضية المعابر الإنسانية في سوريا، تمثل “سيف ذو حدين” بالنسبة لروسيا، فيما إذا قررت استخدام هذا الملف للانتقام من الدول الأوروبية.

ويقول الجاسر في حديثه لـ“الحل نت“: “اذا قررت موسكو تحريك هذا الملف، فالغرب بالتأكيد سيستخدمه ضد موسكو لزيادة الضغط عليها، وإظهارها بمظهر المنتهك لحقوق الإنسان، ومظهر الدولة المعتدية على الشعوب وليس على الدول“.

ويضيف: “برأيي الأمر غير وارد حاليا، طريقة الانتقام من الغرب، ستكون بزيادة روسيا العمل على زيادة عدد اللاجئين الأوكران إلى أوروبا، هذا الأمر سيسبب مزيد من الضغوط على الغرب، الغرب لا يهمه تحرك موسكو في المعابر الإنسانية، فهو يستطيع عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، اتخاذ قرار ملزم بفتح معابر إنسانية أخرى“.

وحول لجوء موسكو إلى مزيد من الخطوات للانتقام من أوروبا يزيد الجاسر بالقول: “طريقة الانتقام قد تكون عن طريق إيقاف الغاز، وإيقاف التصدير، بذلك يتم حرمان أوروبا من العديد من المواد الأولية القادمة من روسيا وأوكرانيا“.

وحول أسباب امتناع روسيا عن القيام بخطوة إغلاق المعابر الإنسانية يضيف الجاسر: “هذا المعبر الإنساني خاص بتركيا، زيادة التوتر مع تركيا ليس من مصلحة روسيا حاليا، يعني روسيا قد تخسر دولة لم تجاهر بالعداء بشكل كامل ضد روسيا، لا تزال تركيا تتخذ موقف متوازي بين الغرب وروسيا“.

واستخدمت موسكو ملف المعابر الإنسانية، في عديد المناسبات للضغط على خصومها الدوليين، وأبرزهم الولايات المتحدة الأميركية، وذلك عبر محاولتها عرقلة وصول المساعدات إلى المدنيين في سوريا مقابل حصولها على العديد من المكاسب.

فسبق وأن أعلن نائب المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة دميتري تشوماكوف، في أيلول/سبتمبر الفائت، أن التمديد التلقائي لآلية إيصال المساعدات الإنسانية عبر “باب الهوى” إلى سوريا “غير مرجّح“.

واعترضت روسيا والصين أمام مجلس الأمن، بداية عام 2020، على فتح معبر اليعربية في شمال وشرق سوريا، أمام المساعدات الإنسانية.

وكان مجلس الأمن الدولي، أقر في تموز/يوليو الفائت، بالإجماع تمديد آلية دخول المساعدات الإنسانية على مرحلتين لمدة عام، بعد موافقة روسيا عليه.

وقال المندوب الروسي لدى مجلس الأمن، إنّ: “قرار تجديد آلية دخول المساعدات الإنسانية بما في ذلك اللقاحات لسوريا كان مشتركا“.

وكان القرار الروسي الأميركي، ينص على تسليم المساعدات عبر المعبر لـ6 أشهر قابلة للتجديد ستة أشهر أخرى.

وتحذّر العديد من المنظمات الدولية والإنسانية من “عواقب وخيمة” حال الفشل في تجديد التفويض الخاص بإدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا.

مما قد يشكل كارثة إنسانية على أكثر من 3 ملايين سوري يقطنون شمال غربي سوريا.

—————————–

مستقبل العلاقات التركية الروسية على وقع غزو أوكرانيا/ أحمد مظهر سعدو

تأسست العلاقات التركية الروسية منذ ما ينوف عن عقد من الزمن، في ضوء المصالح الإقليمية والاقتصادية المشتركة، والتبادل النفعي البيني بينهم، ضمن حيز جغرافي واحد، وفي أتون تفاعلات دراماتيكية جيوسسياسية تتمظهر بين الحين والآخر، صعودًا أو هبوطًا حسب انجدال المصالح أو تراخيها وانفلاته. ولأن الصعود الإقليمي المتسع لتركيا وفق سياسات حزب (العدالة والتنمية) المتطلعة إلى دور أكبر وأوسع يخرج من عنق الزجاجة التي وُضعت فيه تركيا إبان الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، وباعتبار أن السياسة البوتينية/ الروسية الخارجة من تقوقع الدب الروسي المنطوي على نفسه، وفق معطيات ما بعد انفراط عقد الاتحاد السوفياتي، متحفزة إلى ما هو أبعد من الواقع الداخلي الروسي ومنغصاته الاقتصادية، وما يلوذ بها من تفاعلات داخلية وإقليمية، كانت قد انحصرت بمكونات دول الاتحاد الروسي،وبعض الدول المنضوية تحت مايسمى (الدول المستقلة) التي تكونت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأمام تراخي الدور العالمي الأميركي وانكماشه نسبيًا، وترهل (القارة العجوز) وعدم قدرتها على لعب الدور المنوط بها إقليميًا، فقد راحت العلاقات البينية تتوسع بين روسيا وتركيا، وتتجاوز كل المخمدات التي يمكن أن تعتري مسار العلاقات أو تقلل من وصولها إلى الحيز الأعلى، فقد تكونت العلاقات بينهما تسمى (علاقات شراكة) لم ترتق يومًا إلى أن تكون علاقة تحالفية على الإطلاق، لأسباب كثيرة منها، وجود تركيا كعضو أساسي في حلف الناتو، بينما روسيا تعتبر من بقايا (حلف وارسو) المضمحل والمنتهي مفعوله منذ عام 1991.وكانت العلاقة، وعلى الدوام، تتطور إلى درجات أعلى وأعمق بالتزامن مع ما كانت عليه العلاقات التركية الأميركية تشوبها مصاعب وخلافات كثيرة لا تصل إلى القطيعة، بل إلى مماحكات سياسية وعقوبات في بعض الأحيان، ترسلها الإدارات الأميركية كرسائل احتجاج على علاقات بينية بين تركيا والروس، وصلت في بعض الأحيان إلى عمق أوسع وأكثر خرابًا بعد صفقة صواريخ (إس_400) بين تركيا وروسيا.

في الحالة السورية فقد كانت العلاقات بين الدولتين تصعد وتهبط ضمن خط الشراكة واللاتحالف، وحسب التوتر الحاصل بينهما واختلافها بالسياسات المتناقضة فيما يتعلق في الموقف من نظام الأسد، ودعم الأتراك للمعارضة السورية، في وقت باتت فيه روسيا، بوجود قاعدة حميميم، بعد أيلول/سبتمبر عام 2015 وولوج القوات الروسية إلى سورية، أكثر قدرة ومصلحة في التحكم في مسار الأحداث داخل سورية، وهي التي توعز لنظام الأسد بالانقضاض على ريف حماة أو إدلب أو حلب، وتشاركه في الكثير من حالات القصف العدواني على الشعب السوري/حاضنة المعارضة.

لكن ذلك لم يمنع ابدًا كلا الدولتين من أن تكونا عرابتا أي اتفاقات أو تفاهمات في سورية، وخاصة اتفاق 5 آذار / مارس 2020، وما سبقه من اتفاقات عام 2018 ثم ما لحق به من تفاهمات في سوتشي.

هذا الوضع في الشمال السوري الذي تَحُفُّ وتمسك به حالة الاشتباك المؤجل بين الروس والأتراك، خلق حالة من التوازن النسبي أبقت على الوضع في إدلب والشمال على ما هو عليه بعد جملة التفاهمات والاتفاقات، وهو ما حرصت روسيا على تسميته بالوضع المؤقت، ولم تقبل أبدًا أن يكون دائمًا، حتى لو طال الزمان.

أما اليوم وبعد أن تحركت جحافل القوات الروسية لغزو دولة مجاورة هي أوكرانيا، وهو الخروج الكبير من القمقم الروسي إلى فضاءات إقليمية توسعية أخرى تهدد أمن وسلامة الأوربيين وحلف الناتو برمته، بما فيه بالضرورة الدولة التركية المنتمية إليه. باتت العلاقات التركية الروسية مفتوحة على متغيرات جديدة قد تؤدي إلى تسوية حسابات أخرى في الجغرافيا السورية، وبالتالي فإن انشغال الروس بالوضع الأوكراني قد يلجم الروس عن التحرك الأوسع في الشمال السوري، لكنه لن يمنعهم أبدًا من الخوض في عمليات جراحية لا تفجر الوضع، لكن دون أن تبقيه ساكنًا. وهو ما حاول الأتراك منع وقوعه مؤخرًا عبر سياسات جديدة أمسكت العصا من المنتصف، وتلعب سياسيا لتحول دون أن (يقتل الذيب أو تفنى الغنم)، حيث حاولت هذه السياسة وما زالت التحرك وفق دينامياتها المتبدلة عبر انزياحات ذكية لتكون الوسيط هذه المرة بين الأوكران والروس، ولتلبي رضى الغرب والأميركان في نفس الآن، حتى لو لم يغير بوتين كثيرًا من سياساته تجاه المسألة الأوكرانية، لكنها استطاعت جمع الطرفين في أنطاليا، ولأول مرة بعد الحرب على مستوى وزراء الخارجية.

بالفعل تحاول تركيا خلال الأزمة الأوكرانية أن تمسك العصا من المنتصف، في محاولة منها، لكسب الطرفين، ولتكون وسيطًا ممكنًا ومقبولًا بينهما، ومن ثم إرضاء السياسات الأميركية والأوربية، دون إزعاج الشريك الروسي.

السياسة التركية وهي العضو الأساسي والأصيل في حلف الناتو مازالت متوازنة في المسألة الأوكرانية، وما برحت تحرص على أن تكون الاتفاقية التي تسمح لها دوليًا بغلق المعابر البحرية المؤدية إلى البحر الأسود، شاملة للطرفين ولكل الدول المشاطئة وغير المشاطئة للبحر الأسود حتى لا تشكل خطوتها هذه إزعاجًا لأحد الطرفين. وهي في ذلك تمشي الهوينا في سياق التوافق مع مصالحها الإقليمية كدولة مستوردة للغاز الروسي، ومستقبلة للسياح الروس والذين ينشطون مرافقها السياحية، والكثير من العلاقات التجارية البينية بينهما، التي تجاوزت عتبة 25 مليار دولار في العام الفائت.

من هنا فإنه لا يمكن أن تسمح تركيا ولا روسيا حسب القراءة المتأنية بأن تعكر الحرب الروسية والغزو الروسي لأوكرانيا صفو علاقة الشراكة بين الدولتين روسيا وتركيا، وقد يكون من صالح روسيا أكثر في هذه الحرب أن تبقي العلاقة جيدة مع تركيا، حتى تخفف نسبيًا من حدة وتأثير العقوبات (التاريخية) الكبرى التي باتت تتصاعد كل يوم وتقع فوق رؤوس الروس، من قبل دول العالم وعلى رأسها الدولة الأميركية العظمى والاتحاد الأوروبي.

لكن يبقى السؤال ماثلا إلى أي حد وأي مساحة سوف تستطيع فيها الدولة التركية أن تبقي على علاقات جيدة وحسنة، وتفاهمات قائمة في سورية وغير سورية بين روسيا وتركيا، دون أن يسبب ذلك أذى و إزعاجًا للسياسات الأوربية والأميركية، وقد تكون الأميركية هنا بالنسبة للأتراك أكثر أهمية. وهل سيؤول الأمر إلى ترحيل الخلافات القائمة بين الطرفين منذ بدايات مسار أستانا ومناطق خفض التصعيد المختلف عليها، وكذلك التفسيرات المختلفة والمتباينة لكلا الدولتين في الوضع السوري، وخاصة اتفاق 5 آذار/مارس وما استتبعه من بعده، وتوقف الدوريات العسكرية والتنسيق المشترك بينهما، وعدم انسحاب بعض الفصائل من جنوب الخط   M4وهو ما تعتبره روسيا بمثابة عدم التزام بالاتفاق المشار إليه، علاوة على ما لدى الأتراك من اعتراضات وتحفظات على دور روسيا المتماهي مع ما يفعله نظام بشار الأسد من انتهاكات يومية ومستمرة لكل هذه التفاهمات والاتفاقيات في إدلب وسواها.

———————–

قمم بايدن في بروكسل تختبر تحالفات الحقبة الجديدة/ إنجي مجدي

يقول مراقبون إن زيارته إلى أوروبا فرصة حاسمة لإعادة تأكيد القيادة الأميركية على المسرح العالمي

في زيارة تأتي على وقع صراع يهدد العالم الغربي، يجتمع الرئيس الأميركي جو بايدن مع زعماء العالم في بروكسل ببلجيكا لعقد قمم طارئة، في إطار الرد على الحرب التي تزداد سخونة شرق أوروبا، وبحث كيفية وقف الهجوم الروسي على أوكرانيا، والتعامل مع الأوضاع المتفاقمة وسط اتهامات لموسكو بعدم الجدّية في المفاوضات.

ويقوم الرئيس الأميركي بجولة أوروبية واسعة تبدأ من بروكسل حيث عقد قمة مع زعماء حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الخميس 24 مارس (آذار)، ويشارك في قمة أخرى استثنائية لقادة مجموعة السبع، واجتماعاً ثنائياً مع رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، ويلقي كلمة في قمة المجلس الأوروبي، قبل أن يختتم يومه بمؤتمر صحافي. وبعد محطته الأولى من رحلته في بروكسل، سيسافر بايدن إلى وارسو، بولندا.

عقوبات جديدة

وبذل حلفاء الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي جهوداً جديدة خلال القمم الطارئة، التي تهدف إلى معاقبة روسيا على حربها ضد أوكرانيا من خلال فرض عقوبات جديدة، وكذلك بحث مساعدة اللاجئين الأوكرانيين. فبحسب شبكة “سي إن إن” الأميركية، قالت السفيرة الأميركية لدى “الناتو” جولي سميث، الأربعاء، إن قادة الحلف سيتفقون على نشر أربع مجموعات قتالية إضافية في المجر ورومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا. ومن المتوقع أن يوافق قادة “الناتو” على تعزيز موقف الحلف، بما في ذلك عن طريق زيادة قواته في الجزء الشرقي وتكثيف الدفاعات الإلكترونية وتوسيع نطاق تدريبات الحلفاء.

وأعلن البيت الأبيض في بيان، الخميس، أن دول مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي ستفرض عقوبات على أي صفقة تشمل احتياطي الذهب الروسي، لتجنّب أن تلتف موسكو بذلك على إجراءات العزلة المالية التي اتخذها الغربيون ضدها. وبحسب وكالة الصحافة الفرنسية، أكد مسؤول كبير في الإدارة الأميركية أن دول مجموعة السبع التي تعقد قمة استثنائية، الخميس، في بروكسل، “متفقة” على أن “المنظمات الدولية والهيئات المتعددة الأطراف يجب ألّا تواصل أنشطتها في روسيا كما وكأن شيئاً لم يحصل”.

واستهدفت قائمة العقوبات المالية الجديدة على روسيا عالم السياسة ورجال أعمال نافذين وصناعة الدفاع. وجاء في بيان البيت الأبيض أن هذه الإجراءات التي تشمل بشكل خاص تجميد أصول في الولايات المتحدة، تشمل 328 نائباً في الدوما وكذلك مجلس النواب الروسي نفسه، و48 من “الشركات العامة الكبرى” في قطاع الدفاع.

صواريخ مضادة للسفن

وتأتي القمم الثلاث – مع حلف “الناتو” ومجموعة السبع والاتحاد الأوروبي – وسط تزايد القلق بين القادة الغربيين من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قد يلجأ إلى أسلحة غير تقليدية في محاولة لاستعادة قواه، وسط تقارير في الإعلام الغربي عن نجاحات أوكرانية في صد الهجمات الروسية، وتقارير أخرى عن مشكلات لوجستية. وخلال قمة “الناتو”، أكد الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ أن “أي استخدام للأسلحة الكيماوية سيغيّر بشكل أساسي طبيعة الصراع”. ومع ذلك، فإنه أشار إلى أنه “لن يتكهن” بشأن الكيفية التي قد يردّ بها “الناتو” إذا انجرفت العوامل الكيماوية، التي تحملها الرياح من أوكرانيا إلى أراضي الحلف.

وفي لقاء بالفيديو كونفرنس مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، انتقد الحلفاء لفشلهم في توفير طائرات مقاتلة، يمكن أن تستخدمها كييف للدفاع ضد الهجمات الجوية. وقال موجهاً حديثه إلى قادة الحلف “يمكنكم أن تمنحونا 1 في المئة من مجموع طائراتكم. واحد في المئة من دباباتكم. واحد في المئة!”. غير أن البيت الأبيض ووزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون” أشارا إلى أن هذا النوع من الدعم لن يكون فاعلاً، ويمكن لروسيا أن تستخدمه كذريعة لجرّ الولايات المتحدة إلى صراع مباشر أوسع.

ونقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن مسؤول رفيع في واشنطن قوله إنه عقب تصريحات زيلينسكي، انخرط أعضاء “الناتو” في محادثات بشأن إمكانية توفير أنظمة صواريخ مضادة للسفن لأوكرانيا، لكن الأمر قد يستغرق بعض الوقت.

إعادة تأكيد القيادة الأميركية

ويقول مراقبون أميركيون إن القمم الثلاث فرصة حاسمة لبايدن لإعادة تأكيد قيادة الولايات المتحدة على المسرح العالمي، وسط حرب تثير قلقاً متزايداً بين حلفاء “الناتو”، شرق أوروبا. كما أنها ستكون اختباراً لما يمكن أن تحققه التحالفات العالمية، التي ضعفت في الأعوام الأخيرة، في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وما بعد الحرب الباردة، وذلك من خلال الجهود والإجراءات الجديدة التي ستُتخذ للردّ على موسكو.

ويقول الكاتب الأميركي ستيفن كولينز إن القمم الثلاث سوف تشكل ما هو قادم بالنسبة إلى الغرب. ويشير إلى أن حرب بوتين على أوكرانيا أيقظت القوى الغربية التي ابتعدت عن بعضها في الأعوام الأخيرة الماضية، فأخرجت حكومات مثل ألمانيا من حال الرضا عن النفس التي تعيشها منذ الحرب الباردة، وأثبتت أن الولايات المتحدة لا تزال جادة بشأن التحالف عبر الأطلسي. فالغرب وروسيا يخوضان حالياً الصراع الأخير في الحرب الباردة أو الأول في عصر جديد من المواجهة، إذ إن “الأنظمة الاستبدادية” مثل موسكو وبكين تشكّل جبهة معادية واسعة ضد الديمقراطية على النمط الغربي.

لا مفر من ردع بوتين

وفي تعليقات صحافية الأربعاء، حذّر جوناتان فزيفيوف، الأمين العام لخارجية إستونيا، من أن انتصار بوتين أو خروجه ببعض المكاسب، سيدفعانه إلى تكرار ما فعله في أوكرانيا مع دول أخرى، لذا “فإنه بحاجة إلى الهزيمة الكاملة”. وفي مقابلة تلفزيونية سابقة مع كريستيان أمانبور، مراسلة “سي إن إن”، قال رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل: “يجب أن نتأكد من هزيمة بوتين… هذه مسألة أمن من أجل مستقبل أوروبا ومستقبل العالم”.

ويرى كولينز أن الحاجة الملحّة لهزيمة بوتين تجعل زيارة رئيس الولايات المتحدة، التي لا تزال الضامن النهائي للأمن الأوروبي بعد ما يقرب من مضي 80 عاماً على الحرب العالمية الثانية، بالغة الأهمية، وربما نقطة محورية في التاريخ. ففي هذه الحقبة الجديدة، سيحاول الغرب مرة أخرى ردع روسيا واحتواءها، في الوقت الذي يسعى إلى دعم أوكرانيا في مسيرتها من أجل الديمقراطية والاستقلال مع تجنّب الصدام المباشر مع موسكو، الذي قد يتحوّل إلى صراع نووي.

ويبدو أن هذا هو التحدي الاستراتيجي الأكبر الذي يواجه الغرب على الأقل طالما ظل بوتين في السلطة، فضلاً عن أن ليس هناك ما يضمن أن روسيا ما بعد بوتين، ستكون أكثر تعاطفاً مع الغرب، خصوصاً إذا تسببت العقوبات في مزيد من الضرر لنخبة السلطة والروس.

ويقارن البعض مهمة بايدن بعدد من الرحلات الرئاسية التي تزامنت مع نقاط تحوّل خلال الحرب الباردة. ومن بين تلك الأحداث، الاجتماع الأول للرئيس رونالد ريغان مع آخر زعيم سوفياتي ميخائيل غورباتشوف في فيينا في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1985، الذي بدأ سلسلة من الأحداث التي أنهت الحرب الباردة في نهاية المطاف. وكانت هناك رحلات رئاسية حاسمة عدة إلى أوروبا طوال المواجهة بين السوفيات والغرب. لكن ربما الأكثر مضاهاة هي زيارة الرئيس جون كينيدي إلى العاصمة النمساوية فيينا عام 1961 للقاء الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، التي عجّلت أزمة الصواريخ الكوبية في العام التالي.

مفاوضات صعبة بشأن الغاز

أكد المسؤولون الأميركيون والأوروبيون أنهم سيتطرقون إلى كيفية تقليل اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية. وقال جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، الثلاثاء الماضي، إن الأمر سيكون “موضوع نقاش جوهري” بين بايدن وقادة آخرين خلال قمّتَي مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي، ويمثل “أولوية رئيسة” بالنسبة إليهم. وأضاف أن القادة وضعوا “خريطة طريق عملية” لإنهاء الاعتماد الأوروبي على النفط والغاز الطبيعي الروسيين، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة تتطلع إلى زيادة إمدادات الغاز الطبيعي المسال لأوروبا على المدى القصير، من دون أن يوضح تفاصيل الخطة.

ويقول كولينز إن مهمة بايدن تمثل أفضل فرصة له حتى الآن لدمج وحدة الهدف غير المتوقعة في التحالف، التي يراهن عليها بوتين بوضوح، إذ يعرف بايدن ونظراؤه الأوروبيون أن بوتين سيكون في حالة تأهب حول ما يجب فعله بعد ذلك. ومع ذلك، فإن المفاوضات بين الحلفاء بشأن تشديد العقوبات ضد روسيا ليست سهلة، لا سيما في ما يتعلق بتخلّي قوى الاتحاد الأوروبي عن مصادر الطاقة الروسية التي تحافظ على تدفق الأموال الغربية لروسيا.

اندبندنت عربية

———————-

فلاديمير بوتين

======================

تحديث 28 اذار 2022

———————–

أوكرانيا.. حرب سقوط الأوهام الاستراتيجية/ بشير البكر

أوهام كثيرة تسقط ومخاوف وأزمات تكبر، وحالة من القلق باتت معلنة أمام تهديدات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يلوّح باستخدام أسلحة محرّمة، كيماوية وبيولوجية وحتى نووية. يريد سيد الكرملين أن يركع العالم عند قدميه، بعدما صدّق الغرب، ووقع ضحية السياسات المفرطة في التفاؤل، التي روجها ساسة غربيون، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بأن روسيا لا تشكل تهديداً لأوروبا، وأنها ليس مصدر قلق خطير للأمن القومي للولايات المتحدة، رغم ترسانتها النووية وقدراتها التقليدية والإلكترونية، وأن الخطر يأتي فقط من الجنوب من طريق “داعش” وأخواتها، وخاضوا الحرب ضد الإرهاب باتباع استراتيجية تدمير أجزاء من البلدان العربية في سوريا والعراق، وتحويل مدن مثل الموصل والرقة إلى ركام تركوه على حاله، ولم يكترثوا حتى بإعادة إعمارها وعودة أهلها المشردين في مخيمات بائسة، كما هو الحال في مخيم الهول في ضواحي مدينة الحسكة السورية.

ومن بين الأوهام التي عاش عليها العالم هي، إن الولايات المتحدة باتت القوة الكونية الوحيدة، وقد ولّى عصر الثنائية القطبية بسقوط الاتحاد السوفياتي العام 1991، وهناك “انتهى التاريخ” على حد وصف فوكوياما، وعلى أميركا أن تبحث عن أعداء جدد في الإسلام الأصولي. والغريب أن واشنطن لم تحسب حساب أقطاب آخرين مثل روسيا والصين وأوروبا في وسعهم تعطيل خططها، إن لم يكن في استطاعتهم مجاراتها ومنافستها على النفوذ الاقتصادي والسياسي. التاريخ لم ينته، بل دخل مرحلة جديدة وخطيرة، حيث سيكون مستقبل النظام الحالي في الكرملين على المحك أيضًا.

الولايات المتحدة اصطدمت بروسيا، وهي في طريقها إلى فتح مواجهة استراتيجية طويلة الأجل مع الصين، بعدما انسحبت على نحو عشوائي مهين من أفغانستان ولم تجد من يقلل من فضحيتها إلا قطر وفرنسا من خلال تنظيم عمليات إجلاء للأفغان الذين خدموا أميركا طيلة عقدين، وتركتهم على الأرض عُزّل بمواجهة أكثر من عدو، وما يدعو للاستغراب هو أن واشطن في لحظة المواجهة مع موسكو بلا حلفاء أساسيين في أوروبا والشرق الأوسط. ولو استعرضنا اللائحة، فلن نجد سوى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الذي يصح فيه القول “من كان لديه أصدقاء من هذه الشاكلة لا يحتاج إلى أعداء”. كان آخر خلاف ذي طبيعة فضائحية مع الحليف الفرنسي في الخريف الماضي، حينما تفجرت صفقة الغواصات النووية التي أبرمتها واشنطن من وراء ظهر باريس مع استراليا، التي ألغت بموجبها عقداً لشراء غواصات فرنسية بأكثر من 50 مليار دولار كانت أبرمته مع فرنسا. وقبل ذلك صعّدت الولايات المتحدة الخلافات مع حلفائها القدامى في الشرق الأوسط، وعلى نحو خاص السعودية وتركيا، وهذا ما يفسر عدم مساهمتهما في العقوبات الأميركية ضد روسيا. حتى إسرائيل تمردت على حليفها التاريخي، ولم تعارض الغزو الروسي، بل طلبت من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن يعلن استسلام بلاده، ويقبل أن تعيش بلا سيادة، وهو موقف جدير بالاهتمام في المديين القريب والبعيد، وهذه هي المرة الأولى التي نشهد فيها افتراق مواقف تجاه مسألة دولية خطيرة، وعلى هذا القدر من الوضوح بين واشنطن وتل أبيب.

يواجهون حرب روسيا على أوكرانيا، وهم لم يستعدوا لها اقتصادياً وعسكرياً. وكشف الهجوم الروسي ضحالة وسائل التنبؤ الغربية، من أجهزة مخابرات ووسائل استطلاع وتقدير موقف ومراكز أبحاث. كل هؤلاء لم يتمكنوا من استشراف الموقف الروسي، رغم أن بوتين بنى الغزو الحالي على أساس هجوم القرم العام 2014. ولم يوفر فرصة منذ ذلك الحين لتأكيد نواياه في اقتطاع أجزاء جديدة من أوكرانيا، ولذلك اخترع الجمهوريتين الإنفصاليتين في لوغانسك ودونتيسك. وبعيداً من تهور بوتين، فإن سوء تقدير وضع روسيا قاد إلى تصعيد التوترات التي زادت من خطر الصراع العسكري. وبمعنى آخر إن الإدارة الفعالة للأزمات وخفض التصعيد وتقليل المخاطر ومنع الصراع، والتي يجب أن تكون من بين الأهداف الرئيسية لسياسة الولايات المتحدة تجاه روسيا، كانت تتطلب فهماً عميقاً لمصادر السلوك الروسي والعوامل التي تشكله. ويمكن أن تلعب هذه الاعتبارات دوراً أهم بكثير في تحديد نتيجة الأزمات من مجرد حساب المعدات العسكرية التي تمتلكها روسيا. وبعبارة أخرى، فإن فهم وجهة نظر موسكو، وكيفية تحديدها للمصالح الحيوية الروسية، لا يقل أهمية عن حساب التوازن العسكري بدقة. وحتى لا يفسر أحد الكلام هنا على نحو خاطئ، أود التأكيد على إن فهم منظور الطرف الآخر يختلف عن قبوله. إن سوء قراءة الولايات المتحدة للتهديد السوفياتي / الروسي له تاريخ طويل يعود إلى بداية الحرب الباردة. تاريخ تلك المواجهة حافل بالحوادث عندما اقتربت القوتان العُظميان من حافة الهاوية.

ولا شك أن سكان الشرق الأوسط في سورية والعراق ولبنان وفلسطين، وبقية بلدان المنطقة مثل اليمن وليبيا وحتى أفغانستان، ينظرون إلى حرب أوكرانيا نظرة مختلفة عن بقية العالم. هذه الشعوب دفعت فواتير عالية جراء حروب التهجير والتدمير من دون أن يكون لها يد في كل ما حصل في العالم، بل واجهت الاحتلال والاستيطان في فلسطين والقمع على أيدي سلطات محلية كانت تستمد شرعيتها من اعتراف الخارج بها، سواء أميركا أو روسيا وأوروبا.

أوروبا تعيش حالة قلق اليوم. من المبكر القول إن شعوب القارة العجوز يشعرون بأنه جاء دورهم لتسديد جزء من الفاتورة، لكن هناك إحساساً عاماً بأن الحرب باتت قريبة من كل أوروبي، بعدما اختفى شبحها منذ خمسينيات القرن الماضي. والذي لن تبلغ داره شظايا الصواريخ الروسية، ستصله قوافل اللاجئين الأوكرانيين الذين يتدفقون بقوة إلى أوروبا. وكلما طال أمد الحرب زاد الدمار في العمران والبنى التحتية، وحتى لو خسر بوتين الحرب وعاد جيشه من حيث جاء، فإنه سيترك خلفه بلداً مدمراً، تتحمل الولايات المتحدة وأوروبا إعادة تأهيله.

المدن

—————————-

أثرياء الطاقة المتجددة/ مهند الحاج علي

من أبرز انعكاسات الحرب الروسية على أوكرانيا، هي أنها دفعت دول الاتحاد الأوروبي الى تبني سياسات تهدف في نهاية المطاف الى التخلص من الاعتماد على روسيا في مجال الطاقة، أو على الأقل التخفيف منه خلال العقد المقبل. عام 2021، استوردت دول الاتحاد الأوروبي حوالى 40٪ من حاجاتها في مجال الغاز و25٪ من النفط من روسيا. ولهذا الاعتماد الكبير أثمان سياسية، إذ يمنح موسكو القدرة على الضغط على دول الاتحاد، في حين تتلكأ الأخيرة عن ممارسة ضغوط قصوى بحق روسيا. لهذا رأينا تقارير في صحف غربية مثل “ذي فايننشال تايمز” و”ذي غارديان” و”ذي واشنطن بوست”، تتحدث عن ردة فعل أوروبية حيال استغلال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاعتماد الأوروبي على الطاقة من أجل تحقيق مكاسب سياسية أو الضغط على دول الاتحاد لاحتواء رد فعلها على حرب أوكرانيا.

لكن لهذه الانعطافة في مجال الطاقة أيضاً انعكاسات على المناخ، إذ أن التخفيف من الاعتماد على الغاز خلال الفترة المقبلة يعني عملياً اللجوء الى وسائل أكثر أذية للبيئة. لهذا، يبدو أن هناك اجماعاً على أن من الصعب الالتزام بتعهدات قمم المناخ لجهة خفض المنبعثات والمهل الزمنية لها، إذ أن الطلب على الفحم الحجري سيزداد خلال الفترة المقبلة مع ارتفاع أسعار النفط والغاز على مستوى العالم.

لكن في المقابل، هناك استثمار طويل الأمد في مشاريع انتاج الطاقة المتجددة من خلال الدعم الحكومي للألواح الشمسية (لمساعدة المواطنين على تقليص الاعتماد على شبكات الكهرباء) وطواحين الهواء.

على سبيل المثال، هناك توجه في ألمانيا لمضاعفة إنتاج الطاقة البديلة (وكالة رويترز نشرت تقريراً عن توجه يقوده حزب الخضر لتمرير قانون للطاقة المتجددة). هذا يعني مضاعفة إنتاج طواحين الهواء الضخمة الحجم، وهي الآن تُقام في المحيط شمالاً. مثل هذه الجهود ستُؤدي وفقاً للمؤيدين لها الى الاعتماد بشكل كامل على الطاقة المتجددة خلال عقود قليلة. لكن هذه الصورة الوردية ليست حقيقية بالكامل، سيما أن انتاج الطاقة المتجددة لا يخلو من الاعتماد كذلك على مواد أولية، ولهذه حسابات أخرى.

مجلة “ذي إيكونومست” نشرت تقريراً لها عن القوى المستفيدة من الطاقة المتجددة، وفيه بعض المعلومات المفيدة ومنها طبعاً أن روسيا المستهدفة في هذا التوجه، هي من الدول التي يُعتمد عليها في مجال مادة النحاس المطلوبة لصناعة محرك طواحين الهواء. طبعاً، هناك بدائل قريبة وبعيدة. وهذه الدول الثرية بالمعادن ستجد مزيداً من الطلب عليها، وارتفاعاً في الأسعار والمداخيل، ما دفع المجلة الى مقارنتها بحال دول الخليج في النصف الثاني من القرن العشرين.

على سبيل المثال، التشيلي في أميركا اللاتينية تملك 42% من احتياطي مادة الليثيوم في العالم، في حين لدى الكونغو 46% من احتياطي الكوبالت في العالم ويُنتج 70% من حاجات العالم اليوم. الكوبالت والليثيوم أساسيان في مجال البطاريات المتجددة، وفي العمل على تأمين الطاقة النظيفة وتخفيف الاعتماد على النفط والغاز. ولدى الصين احتياطي من الألومنيوم والنحاس والليثيوم كذلك، في حين لدى اندونيسيا جبال من النيكل والبيرو فيها ربع الفضة في العالم.

كل هذه الدول ستستفيد من التحول الحاصل حالياً، سيما لو رأينا اتجاهاً أوروبياً مستداماً نحو الاعتماد على الطاقة المتجددة، بهدف التخفيف من الانبعاثات والاعتماد على روسيا في تأمين الحاجات المحلية.

هؤلاء هم الرابحون، ولو بشكل غير مباشر، من حرب روسيا على أوكرانيا، والتحولات الحاصلة نتيجتها. ذاك أن هذه الحرب تُؤسس لتحولات في العالم تبدأ بالسياسة والأمن والدفاع، وتنتهي في طريقة الحياة ومراجعة الجدوى الاقتصادية لمناطق بأسرها.

المدن

————————-

الحرب الأوكرانية في شهرها الثاني: تبعات ثقيلة ومتغيرات مديدة

شهد الاجتياح الروسي لأوكرانيا مع بداية شهره الثاني عدة تطورات، أهمها: إخفاق القوات الروسية في تحقيق نصر عسكري سريع وحاسم، وخفض القيادة الروسية لأهدافها الأولية.

أنهت الحرب الروسية على أوكرانيا، في 26 مارس/آذار، شهرها الأول. والمؤكد، بالرغم من أن المسألة الأوكرانية كانت تزداد تعقيدًا منذ 2014، أنه كان لم يكن مرجحًا للحرب أن تستمر كل هذا الوقت. الناطق باسم الرئيس الروسي، بوتين، يقول: إنه ليس ثمة شيء في مسار الحرب غير متوقع، وإن “العملية العسكرية” أنجزت أهداف مرحلتها الأولى، وإنها تمضي كما خُطِّط لها. ولكنَّ قلَّة، سيما في الغرب، تأخذ هذه التصريحات مأخذ الجد.

في جلسة استماع أمام لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الأميركي، 8 مارس/آذار، أشار ويليام بيرنز، رئيس وكالة الاستخبارات المركزية، إلى أن الخطة الروسية للحرب كانت تستهدف السيطرة على كييف خلال يومين من بدء الغزو. تقدير بيرنز، الدبلوماسي المخضرم، يمكن بالطبع أن يُدْرَج ضمن ضباب الحرب ولكن ثمة أدلة على أن الأميركيين يتمتعون بمصادر نافذة في قلب الدولة الروسية، وأن تقديراتهم السابقة لبداية الحرب كانت دقيقة بالفعل.

إضافة إلى ذلك، لابد من تذكر دعوة بوتين الجيش الأوكراني، في 25 فبراير/شباط، اليوم الثاني للحرب، إلى تسلُّم السلطة في كييف، ووصفه القادة الأوكرانيين بمجموعة من المدمنين، وتعهده بتفاوض أسهل مع العسكريين. بمعنى، أن بوتين لم يكن خطَّط لحرب طويلة، وأن الهيئات الروسية المختصة أفادته بتوقع انهيار أوكراني سريع، أو تغيير في قمة السلطة في كييف. عمومًا، إن كانت هذه القراءة صحيحة، فهذا لم يكن الخطأ الروسي الوحيد.

بصورة من الصور، يتفق سيناريو الحرب الطويلة نسبيًّا مع الأهداف الأميركية. الرئيس الأميركي، بايدن، قال صراحة إنه يريدها حربًا طويلة، وإن بوتين أخطأ عندما تصور أنه سيحقق أهدافه في عملية خاطفة وقصيرة. حرب طويلة سينجم عنها مزيد من الخسائر الروسية، ومزيد من الامتعاض والانقسام في صفوف النخبة الروسية الحاكمة، ومزيد من الغضب الشعبي الروسي، ومزيد من الدوافع لتعزيز وحدة الغرب وحشد عدد أكبر من دول العالم في مواجهة روسيا. ولكنَّ حربًا طويلة تعني أيضًا مزيدًا من دمار المدن والبلدات الأوكرانية، ومزيدًا من اللاجئين الأوكرانيين وتفريغ أوكرانيا من السكان والأيدي العاملة، ومزيدًا من الضغوط على النظام الاقتصادي العالمي.

خلف ذلك كله، ثمة ما بات واضحًا تمامًا في طبيعة الأسباب التي دفعت نحو اشتعال هذه الحرب، كما أن هناك ما لا يقل وضوحًا في أبعاد متغيرات النظام الدولي الانقلابية، التي ستفضي إليها هذه الحرب. غير ذلك، لم يزل الغموض يلف مجريات الجانب العسكري من الحرب، وحقيقة الأهداف التي عملت القيادة الروسية على تحقيقها، والمدى الذي قطعه المسار التفاوضي بين الروس والأوكرانيين، وقدرة روسيا على الاستمرار في الحرب وتحمل الأعباء العسكرية والاقتصادية-المالية، التي ألقت بها الحرب على عاتق الدولة والشعب في روسيا.

ما هو أبعد من مطالب روسيا المعلنة

ما لم يعد مجالًا للجدل أن أزمة أوكرانيا وُلِدت من تصور روسيا للتهديد الذي مثَّله توسع حلف الناتو في دول المجال السوفيتي السابق (حلف وارسو)، وعدد من الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي، واقتراب الحلف الحثيث من حدود روسيا الاتحادية. المعروف أن المؤسسة الأميركية خلال رئاسة كلينتون الأولى لم تكن مُجْمِعة على توسع الناتو، بل ولا حتى على بقاء الحلف نفسه. ما رجَّح سياسة التوسع كان تأثير حفنة من الأميركيين المثاليين، الذين آمنوا بسيطرة الليبرالية-الديمقراطية على النظام العالمي، وخوف دول أوروبا الشرقية التاريخي من روسيا، سيما بولندا التي هَدَّدت في 1993 بالتسلح النووي إن لم تُقْبَل ضمن مظلة الناتو.

عارضت روسيا من البداية سياسة توسع الناتو؛ وعندما لاحظت بوادر تقرب جورجيا من الحلف في 2008، قامت بعملية عسكرية سريعة، استهدفت تدمير مقدَّرات جورجيا العسكرية وتأمين استقلال أبخازيا وأوسيتيا المنشقتين. ولكن التهديد الأوكراني لم يولد إلا بعد ثورة 2014، التي أطاحت بالرئيس الأوكراني الموالي لروسيا، وتوجه كييف للالتحاق بالناتو والاتحاد الأوروبي. تحرك روسيا لضم شبه جزيرة القرم وتشجيع الأوكرانيين الروس في إقليم دونباس على الانشقاق، كان نتيجة مباشرة للتغيير السياسي الكبير الذي أحدثته ثورة 2014 في حكم أوكرانيا وفي توجهها الغربي.

بيد أن السؤال الذي لم تتوافر الإجابة عليه بعد هو لماذا؟، لماذا كانت الحرب الوسيلة الوحيدة التي لجأت إليها القيادة الروسية لدفع التهديد المتوقع من ذهاب أوكرانيا غربًا؟ المؤكد أن روسيا امتلكت العديد من الأوراق التي كان يمكن استخدامها للضغط على أوكرانيا ومنعها من الالتحاق بالناتو. لروسيا، مثلًا، أصدقاء بالغو النفوذ في صفوف نخبة الحكم الأوكرانية، وبشيء من الصبر وحسن التخطيط كان يمكن مساعدتهم للانقلاب على نظام ما بعد 2014. روسيا، أيضًا، هي مصدر الطاقة الرئيس لأوكرانيا، وكان باستطاعة موسكو إيقاف ضخِّ الغاز ومحاصرة الموانيء الأوكرانية على البحر الأسود، لتركيع حكومة كييف كلية. ولكن الواضح أن الرئيس الروسي عقد العزم من البداية على انتهاج طريق مختلف لتحقيق أهدافه.

بدأت روسيا حشدًا عسكريًّا مطردًا على حدود أوكرانيا، وفي بيلاروسيا، من نهاية سبتمبر/أيلول. ما افترضته موسكو أن تصعيد التوتر والتهديد باحتمال الحرب سيجبر الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى على التفاوض لحل مشكلة توسع الناتو من جذورها. وعندما أدركت القيادة الروسية أن الغرب ليس بصدد الاستجابة لمطالبها، قررت الذهاب إلى الحرب. والحرب ليست فقط لتركيع أوكرانيا، لأن موسكو رفضت أصلًا الوساطة التركية قبل اندلاع الحرب، التي طرحت إطارًا لاتفاق روسي-أوكراني ثنائي، بحجة عدم الثقة في السياسيين الأوكرانيين. بمعنى أن الحرب أُريد بها أساسًا توكيد موقع روسيا في النظام الدولي باعتبارها قوة كبرى وشريكًا رئيسًا في القرار العالمي، إلى جانب حل مشكلة أوكرانيا. ما رفض الغرب الاعتراف به بعد عملية جورجيا، وبعد الدور الروسي في سوريا، أراد بوتين تحقيقه بغزو أوكرانيا.

ضباب الحرب وغموض المسار العسكري

إن أخذنا تقدير وليام بيرنز لحقيقة الأهداف الروسية العسكرية من الحرب، أو مدى العملية العسكرية، في الاعتبار، فلابد أن الحرب لم تَسِرْ كما خطَّط لها القادة الروس. ولكن، حتى بدون التسليم بصحة تقدير بيرنز، يصعب القول: إن العملية الروسية العسكرية تسير على ما يرام؛ ليس لأنه لا يمكن الاطلاع على الخطة الأصلية للغزو، بل لأن ثمة مؤشرات ملموسة على أن موسكو لم تكن تريد لهذه الحرب أن تستمر طويلًا، ولا أن تتخذ المسار الذي أخذته خلال شهرها الأول.

منذ الأسبوع الرابع للحرب، وبعد أن اتضح حجم الدمار الذي أُوقِع بمدينتي ماريبول وخاركيف وعشرات البلدات الأخرى، سارع مراقبو الحرب إلى التذكير بالنهج التدميري الذي اتبعه الجنرالات الروس في سوريا منذ 2015. ولكن الواضح أن القيادة الروسية حاولت خلال الأيام الأولى من الغزو تنفيذ ما أسماه الرئيس بوتين “عملية عسكرية” عبر اختراق سريع، وبأقل قدر من الدمار، متجنبة، إلى حدٍّ كبير، الأهداف المدنية. وحتى في الأوساط الغربية، الرسمية وغير الرسمية، التي راقبت تقدم الجيش الروسي السريع، لم يكن ثمة شك في اقتراب سيطرة الروس على العاصمة، كييف، وربما على معظم أوكرانيا. والأرجح، أن المشكلة اللوجستية التي باتت تعاني منها القوات الروسية المتقدمة لا تعود إلى قصور أصيل في المنظومة العسكرية الروسية، بل إلى أن الخطة الأولية رُسمت على أساس تحقيق أهداف الحرب خلال أيام قليلة، لا عدة أسابيع أو شهور.

ما توحي به حركة القوات في أيام الحرب الأولى، والشروط التي طالبت موسكو القيادة الأوكرانية بالموافقة عليها، والتي تصل إلى حدِّ الاستسلام، أن روسيا سعت إلى فرض تحكم كامل بأوكرانيا، بغضِّ النظر عمَّا إن كان هذا يتطلب احتلالًا لكافة الأراضي الأوكرانية. بمعنى، أن موسكو تصورت، ربما، أن بالإمكان أن تحقق “العملية العسكرية”، بوتيرة سريعة، تدميرًا شاملًا للمقدرات العسكرية الأوكرانية، والسيطرة المباشرة على جنوب أوكرانيا، بما في ذلك الساحل الأوكراني على بحر أزوف والبحر الأسود، والمدن الكبرى شرق نهر الدنيبر، مركز الصناعة الأوكرانية، والعاصمة، كييف. بذلك، توقع القادة الروس انهيار الإرادة السياسية للقيادة الأوكرانية، وموافقتها على توقيع اتفاق مُرْض لموسكو؛ واضطرار القوى الغربية، من جهة أخرى، إلى القبول، وإن على مضض، بالواقع الجديد، وتقبل إضفاء طابع قانوني دولي على الاتفاق الروسي-الأوكراني.

الواضح، الآن، أن خطة الحرب الروسية، كما أغلب خطط الحرب عبر التاريخ، سرعان ما انهارت في ساحة المواجهة؛ وهو ما فرض بالتالي وتيرة أبطأ لحركة القوات الغازية. أخطأت موسكو، والرئيس بوتين على وجه الخصوص، في تقدير كفاءة الجيش الروسي، سواء من جهة قدرة القيادة العسكرية على تحريك القوات على مستوى الفرق، والمحافظة على خطوط إمداد منتظمة، أو في الركون إلى المستوى التقني للمعدات العسكرية.

وأخطأت موسكو في قراءة الرأي العام الأوكراني، وحجم المقاومة الأوكرانية. لم ينقسم الأوكرانيون حول الموقف من روسيا؛ وحتى في المناطق الناطقة بالروسية في جنوب وشرق أوكرانيا، واجهت القوات الروسية رأيًا عامًّا عدائيًّا ومقاومة مستميتة. وليس ثمة شك في أن دعوة بوتين الجيش الأوكراني لاستلام السلطة بُنيت على تقديرات خاطئة لمستوى تماسك العسكرية الأوكرانية وولائها الدستوري للقيادة السياسية.

خارجيًّا، أخطأت موسكو في تقدير وحدة الموقف الغربي، وحجم ردود الفعل الغربية على الغزو. الواضح أن القيادة الروسية توقعت افتراق الموقف الأوروبي، سيما الألماني، بهذه الدرجة أو تلك، عن الموقف الأنجلو-أميركي؛ وأن ردَّ الفعل الغربي لن يزيد كثيرًا عن ذلك الذي واجهته روسيا بعد ضمِّ شبه جزيرة القرم في 2014. ما حدث، أن المعسكر الغربي، وبعد تردد أولي، ازداد تماسكًا في تعامله مع روسيا، وأن حجم ونوعية العقوبات التي فُرضت على روسيا وصلت إلى حدِّ عزلها كليًّا عن الفضاء الأوروبي، ووضع نهاية لعقدين طويلين من سياسة احتضان روسيا ودمجها في المجال الأوروبي الاقتصادي. الأكثر من ذلك، أن الحرب على أوكرانيا تسببت في حقبة جديدة من إعادة التسلح الأوروبي، والتسلح الألماني غير المسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، على وجه الخصوص.

إلى جانب ذلك، تطورت المساعدات الغربية لأوكرانيا حجمًا ونوعًا. بظهور عزم الأوكرانيين على المقاومة، ازدادت المساعدات العسكرية بصورة ملموسة من كافة الدول الغربية، ولم تعد تقتصر على المساعدات الأميركية والبريطانية، بل اتسع نطاق مصدرها إلى كافة دول الناتو، بما في ذلك ألمانيا، التي ترددت طويلًا قبل أن تقرر إرسال معدات عسكرية لأوكرانيا. كما تطورت المساعدات نوعًا، لتضم مضادات متقدمة للدبابات والسيارات المصفحة، ومضادات أخرى للطائرات؛ بينما تتزايد الضغوط على الولايات المتحدة ودول أوروبا الشرقية للدفع بمنظومة روسية المصدر للدفاع الجوي.

إخفاق خطة التحكم السريع لا يعني بالتأكيد أن القيادة الروسية تخلَّت عن تحقيق الحد الأدنى من أهداف الحرب. الحقيقة، أن موسكو ترى الآن أن الغرب، كما قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يوم 25 مارس/آذار، أعلن حربًا اقتصادية على روسيا؛ وأن الإمدادات الغربية لأوكرانيا تعني حربًا أخرى عسكرية بالوكالة. إن كانت هذه هي حقيقة الموقف الغربي، لم يعد أمام روسيا ما تخسره، وبات من الضروري أن تمضي قدمًا لتحقيق ما يكفي لإعلان النصر، بغضِّ النظر عن حجم خسائر الجيش الروسي، ومدى التدمير الذي سيوقَع بالمدن والبلدات الأوكرانية؛ ومن ثم تعزيز الشعور القومي الأوكراني، وإحداث قطيعة نهائية بين أوكرانيا وروسيا، اللتين نظرت إليهما القيادة الروسية دائمًا باعتبارهما دولتين شقيقتين.

بيد أن الحد الأدنى لما يمكن تحقيقه على أرض المعركة، يجب ألا يعني أهدافًا متواضعة وحربًا قصيرة. ما يبدو، أن روسيا قد تذهب إلى حدِّ تقسيم أوكرانيا إلى منطقتى نفوذ غربي وروسي، بحيث يُلحق الحزام الجنوبي من أوكرانيا، وكافة المنطقة شرق الدنيبر، أو على الأقل القطاع الأكبر من الشرق، بجمهوريتي الدونباس المستقلتين، وانتظار الاستجابة الأوكرانية-الغربية للشروط الروسية، أو خلق أمر واقع أوكراني جديد ومديد.

مسار تفاوضي متعثر

أعلنت موسكو عددًا من المطالب منذ يوم الحرب الأول: حياد أوكرانيا والتخلص من كافة نشاطات الناتو على الأرض الأوكرانية، وتصفية الجماعات الأوكرانية النازية واحترام الثقافة وحقوق الأقليات الروسية، وتقليص الذراع العسكرية الأوكرانية بما ينزع قدرة أوكرانيا على تهديد الأمن الروسي، والاعتراف بالسيادة الروسية على شبه جزيرة القرم، والاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك المنشقتين.

توجهت موسكو بقائمة مطالبها إلى القيادة الأوكرانية، على وجه الخصوص، وذلك بعد أن أدركت أن الغرب لم يكن مستعدًّا للتفاوض حول جوهر الورقة التي تقدم بها وير الخارجية الروسي لنظيره الأميركي قبل أسابيع من بدء الحرب. وقد ذكرت تقارير أن فشل المسعى الروسي للتفاوض المباشر مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، لا يعني بالضرورة أن موسكو تخلَّت عن السعي لوضع الاتفاق الروسي-الأوكراني في إطار دولي؛ لأن موسكو أكَّدت للأوكرانيين رغبتها في أن يُقرَّ الاتفاق المتوقع في النهاية من قِبل الأمم المتحدة.

ولكن المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا لم تنطلق بصورة سريعة وحثيثة، بعد أن ثارت خلافات حول مكان لقاء وفدي الدولتين وطبيعة ومستوى الوفدين. في النهاية، قبل الأوكرانيون بأن تجري المفاوضات على الجانب البيلاروسي من الحدود الأوكرانية-البيلاروسية، وقاد المفاوضات وفدان من المستوى تحت الوزاري، بدون أن تتراجع كييف عن مطلب عقد لقاء قمة بين الرئيسين، الأوكراني والروسي.

خلال الأسبوع الثالث للحرب، أخذت مصادر الوفد الروسي تتحدث عن تقدم ملموس في المفاوضات، وعن قطع منتصف الطريق، وعن تبلور مسودة اتفاق. ما عزز الشعور بالتفاؤل أن موسكو بدت وكأنها أسقطت الحديث عن مسألتي الاعتراف بالسيادة الروسية على القرم واستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، وأنها لا تعارض إعطاء أوكرانيا تعهدات أمنية متعددة الأطراف. في المقابل، أقرَّ الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بصورة واضحة وعلنية أن بلاده لن تصبح عضوًا في الناتو، وقال مسؤولون أوكرانيون إنهم على استعداد لإجراء تعديل دستوري يسقط عزم أوكرانيا الالتحاق بحلف الناتو. أما مسالة عضوية أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي، التي قدمت كييف بالفعل طلبًا للحصول عليها، فلم يرشح من طرفي التفاوض أي مؤشر على أنها كانت محل نقاش.

ولكن لغة حديث التفاوض والاتفاق، على أية حال، أخذت في التغير مع الأسبوع الرابع للحرب.

عاد الرئيس الأوكراني إلى التوكيد بعدم الاستسلام وعدم تقديم أية تنازلات عن السيادة الأوكرانية؛ بينما قال وزير خارجيته، دميترو كوليبا، 25 مارس/آذار: إن المفاوضات صعبة ومعقدة، وإن الوفد الأوكراني أظهر شجاعة وصلابة. في المقابل، بدأت أوساط الوفد الروسي المفاوض تتحدث عن بطء عملية التفاوض، وعن عدم جدية الجانب الأوكراني. ولم يتردد مسؤولون روس عن اتهام القوى الغربية بالتأثير على كييف ودفع الجانب الأوكراني إلى التراجع عن إبرام اتفاق مع روسيا.

الحقيقة، أن المسار التفاوضي وإن انطلق بصورة جدية فسرعان ما أصبح أسيرًا لسياق الحرب الأوسع، سواء في جانبها العسكري، أو ما يتعلق منها بتصاعد الإجراءات الغربية ضد روسيا. يعود تصلب الموقف الأوكراني التفاوضي إلى ثقة متزايدة بالنفس، وشعور بأن المقاومة الأوكرانية أصبحت أكثر قدرة على الاستمرار، وعلى دفع القوات الروسية إلى الخلف في أكثر من محور قتالي، وعلى إيقاع خسائر ملموسة بالجانب الروسي. أما استعادة المسؤولين الروس لغة التشدد، فترجع إلى تقدير المفاوضين الروس أن الأوكرانيين باتوا أقل جدية في التزام المسار التفاوضي، وأن من الضروري فرض ضغوط عسكرية أكبر على القيادة الأوكرانية إلى أن تدرك أنها تخوض معركة خاسرة تمامًا.

ما بعد الحرب

بعض مما ستفضي إليه هذه الحرب من متغيرات في السياسة الدولية أصبح أكثر تأكيدًا مما كان عليه في أيامها الأولى، والبعض الآخر لم يزل محل الاحتمال وتضارب المؤشرات.

المؤكد أن الولايات المتحدة حققت الهدف الأساس، المعلن، من الحرب: عزل روسيا عن أوروبا، وحشد القوى الأوروبية في مواجهة طويلة مع روسيا. وليس ثمة شك في أنه مهما كانت قدرة روسيا وأصدقائها على الالتفاف على العقوبات الهائلة التي فرضتها القوى الغربية) إضافة إلى اليابان، نيوزيلندا، أستراليا، كوريا الجنوبية)، فإن الأعباء الاقتصادية والمالية والتنموية التي ألقيت على عاتق روسيا، دولة وشعبًا، ستكون ثقيلة.

كما أن الصعوبات التي تواجهها روسيا في ساحة المعركة، وحجم وطبيعة ردود الفعل الغربية، تعني أن احتمالات تقدم روسيا، بعد الانتهاء من أوكرانيا، نحو بولندا أو دول البلطيق، أو التوجه نحو الضغط على تركيا لتغيير نظام المرور وأمن المضائق، باتت أقل توقعًا. ولكن ذلك لا يعني أن تركيا، على وجه الخصوص، ستواجه تغييرًا أكبر في ميزان القوى في البحر الأسود إن مضت روسيا إلى السيطرة على أوديسا.

ولكن روسيا، ومهما كانت نتيجة المواجهة في أوكرانيا وتكاليفها، ستخرج من الحرب أكثر تصميمًا على الحفاظ على موقعها ودورها كقوة كبرى. روسيا هي دولة كبرى بالفعل، غنية بالموارد، وتحتفظ بمقدرات تسليح توازي المقدرات الأميركية. والحرب، في النهاية، ومهما كانت تكاليفها، تجري على أرض أوكرانيا وليس على الأرض الروسية. وما لم تشهد موسكو انقلابًا جذريًّا على بوتين وسياساته، تبدو روسيا مجبرة على انتهاج سياسة قطبية، وعلى السعي إلى توسيع دائرة حلفائها، في أوروبا -إن أتيحت لها الفرصة- كما في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.

وليس ثمة شك في أن رد الفعل الغربي السريع وواسع النطاق على غزو أوكرانيا أريد به توجيه رسالة إلى الصين كذلك. ما تستبطنه العقوبات المفروضة على روسيا أن الغرب لن يتردد لحماية هيمنته على الشأن العالمي في التخلي عن مجمل المنظومة الاقتصادية والسياسية-الدولية التي عمل على إنشائها منذ نهاية الحرب الباردة. هذا التحول في المقاربة الغربية إلى العلاقات بين الدول، وليس محاصرة روسيا وحسب، ما سيدفع الصين إلى أن تصبح أكثر اندفاعًا في الحفاظ على مصالحها في العالم وتعزيز دائرة حلفائها.

في المدى القصير، أي خلال عام إلى ثلاثة أعوام مقبلة، يبدو أن النظام الدولي يتجه إلى قطبية ثلاثية: معسكر غربي تقوده الولايات المتحدة، يتمتع بثقل عسكري واقتصادي وثقافي كبير؛ ومعسكر روسي، تدور في فَلَكه دول آسيا الوسطى السوفيتية السابقة، وبيلاروسيا، وعدد محدود من دول العالم الثالث؛ ومعسكر صيني يرتكز إلى علاقات اقتصادية وثيقة أكثر من التحالفات العسكرية والسياسية. أغلب دول الصف الثاني، مثل الهند، وتركيا، وجنوب إفريقيا، والبرازيل، وربما حتى إيران، ستحاول الحفاظ على علاقات متوازنة مع كافة الأطراف. ولكن الدول المنتجة للنفط والغاز ستكون محل تنافس محتدم بين الأقطاب.

بيد أن دلالة تسلُّح ألمانيا، سواء من جهة توازن القوى في أوروبا، أو من جهة التزام ألمانيا بالقيادة الأميركية للغرب وسياسة المواجهة مع روسيا، تظل غير واضحة. كما أن مستقبل التوجه الصيني يبقى محل التكهنات. ليس ثمة شك في أن الصين تتعاطف مع روسيا، وترغب ألا تنتهي الأزمة الأوكرانية بهزيمة روسية. في الوقت نفسه، تحاول الصين ما استطاعت تجنُّب عقوبات غربية، أو ضغوط تفضي إلى تباطؤ عجلتها الاقتصادية. ولكن ذلك لا يعني استبعاد تقارب صيني-روسي في المدى الوسيط، يصل إلى حدِّ التحالف، بالرغم من أن خلافات كبيرة تقف عائقًا في الوقت الراهن بين الدولتين.

في هذا التموضع الجديد للنظام الدولي، يصعب التكهن بمستقبل أوكرانيا، التي أطلق الصراع عليها كل هذا الحراك في علاقات القوة العالمية. وسواء انتهت الحرب باتفاق، أو بالمراوحة في المكان، ستبقى أوكرانيا ساحة تدافع مديد بين روسيا والكتلة الغربية. ونظرًا لحجم الدمار الذي أُوقِع بمدنها وبنيتها التحتية، وعدد اللاجئين الهائل الذين تركوا البلاد، ويُستبعد عودة أغلبهم بعد نهاية الحرب، فإن تعافي أوكرانيا سيظل هدفًا بعيد المنال. 

——————————-

فلسفتان للقوّة والضعف تتصارعان في أوكرانيا/ حازم صاغية

في 2001، بعد ضربة 11 أيلول/ سبتمبر، بلغ التضامن الأطلسيّ أقصاه. لكنّ العناق الشديد كان للوداع والتفرّق. هذا ما بدا بعد عامين فقط في حرب العراق. الخلاف ذهب بعيداً جدّاً بين الولايات المتّحدة، التي أعلنت تلك الحرب وخاضتها، وكلّ من فرنسا وألمانيا اللتين عارضتاها. دونالد رمسفيلد، وزير الدفاع الأميركيّ وصقر الحرب العراقيّة، أطلق يومذاك عبارة شهيرة تميّز بين «أوروبا القديمة» و«أوروبا الجديدة». الأولى، أي فرنسا وألمانيا، شائخة وهرمة في رأيه، والثانية، أي دول أوروبا الوسطى ومعها بريطانيا، صاعدة وواعدة.

في 2016 تعرّض العالم الأطلسيّ لانشقاقين آخرين: في منتصف العام كان استفتاء بريكزيت الذي وضع بريطانيا خارج الاتّحاد الأوروبيّ، وفي نهاياته انتخب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتّحدة. الأخير لم يتوان عن إضعاف علاقة بلده بأوروبا، كما طرح بقاء الناتو على الطاولة ملوّحاً بورقة الانسحاب منه.

في السنوات الأوباميّة الثماني ما بين الأزمتين، عادت الحرارة إلى العلاقة الأميركيّة – الأوروبيّة، إلاّ أنّ الانكفاء عن معظم العالم والهرب من مشكلاته جعلاها حرارة مجّانيّة وضئيلة المردود. منطقة شرق آسيا استحوذت على معظم الاهتمام الأميركيّ، فيما طغى الاقتصاديّ طغياناً مبرماً على السياسيّ. الاقتصاديّ، لا السياسيّ، هو المصدر الأوّل للإستراتيجيّ.

على مدى هذين العقدين، كان موقع الصين يتكرّس كقوّة اقتصاديّة تحقّق قفزات غير مسبوقة في النموّ، وموقع روسيا يتكرّس أيضاً إنّما كقوّة عسكريّة يعاد بناؤها. لكنْ كان واضحاً أنّ النجاح الروسيّ يفتقر إلى أساس اقتصاديّ، فيما النجاح الصينيّ يكاد لا يملك إلاّ الأساس الاقتصاديّ. الأوّل قوّة عضليّة، في عدادها الترسانة النوويّة الأكبر في العالم، يقابله اقتصاد ريعيّ يعيش على ما يبيعه من موادّ أوّليّة من غير إسهام ملحوظ في الاقتصاد المعلوماتيّ وما بعد الصناعيّ. أمّا الثاني فقوّة اقتصاديّة جبّارة، إلاّ أنّها غير مرفقة بمثالات وصور ونماذج نرى من خلالها العالم وأنفسنا، وعلى ضوئها تُصنع مُخيّلاتنا ورغباتنا. وعلى رغم التقدّم التقنيّ الهائل الذي أحرزته الصين، امتداداً لثورتها الاقتصاديّة، فإنّها لا تزال تقف بعيداً جدّاً من الولايات المتّحدة. أمّا في الإبداع التقنيّ تحديداً، فلا تزال بلدان كسويسرا والسويد والولايات المتّحدة وبريطانيا وكوريا الجنوبيّة تسبق الصين.

لكنّ العالم الأطلسيّ، كما رأينا، عالم منقسم، وقابل دائماً للانقسام، وقد بدا للحظة أنّ الوحدة نفسها ممنوعة عليه، وأنّ العلاقة في ما بين أطرافه صارت تشبه العلاقة داخل كلّ واحدة من دوله: أحزاب كثيرة ومعارضات عدّة. هذا ما صحّ حتّى الحرب الأوكرانيّة الأخيرة التي يصعب التكهّن في شأن نتائجها على هذا الصعيد، وإن كان محتملاً جدّاً أن يستعيد الأطلسيّون الوحدة التي لازمتهم في الحرب الباردة. الاحتمال المذكور يلوح، لا سيّما مع جولة جو بايدن الأوروبيّة، أنّه يتحقّق.

العالمان الروسيّ والصينيّ، في المقابل، ممنوع في داخل كلّ منهما الانقسام. لا بل إنّ نهضتيهما، العسكريّة في حالة روسيا والاقتصاديّة في حالة الصين، ترافقتا مع درجة بعيدة جدّاً من رفض الانشقاق وتوكيد الوحدة. ذاك أنّ المشروع البوتينيّ نفسه وُلد من انهيار الامبراطوريّة السوفياتيّة، ومن الظروف السيّئة التي أحاطت بما بعد الانهيار، جاعلةً الحرّيّة تبدو، في نظر بعض الروس، صنواً للفوضى والضعف والتفكّك.

بدوره، فالمشروع الذي بدأه دينغ هشياو بنغ ويكمله اليوم شي جينبينغ، إنّما رسمت حدوده وسقوفه مذبحة ساحة تيان أن مين في 1989، إبّان تداعي المنظومة السوفياتيّة. لقد كانت الرسالة التي بثّتها القيادة الصينيّة يومذاك تقول: إنّ إتاحة المجال لحياة سياسيّة ديمقراطيّة تعرّض الصين لما يتعرّض له الاتّحاد السوفياتيّ راهناً. من يظنّ أنّه يتّجه إلى نعيم نيويورك ولندن لا يكون يتّجه إلاّ إلى جحيم موسكو.

بطبيعة الحال فإنّ وحدة القبضة الصينيّة تبقى أقلّ تهديداً لسواها من مثيلتها الروسيّة، والسبب بسيط: كون الاقتصاد مصدر قوّة الصين. والاقتصادُ يحضّ تعريفاً على أخذ مصالح الآخرين واعتباراتهم، خصوصاً منهم «الشركاء الغربيّين»، في الحساب. أمّا من يكون الجيش مصدر قوّته، فأغلب الظنّ أنّ ردعه يبقى صعباً، وأنّه قد يذهب، غير هيّاب، إلى نهايات العنف.

لكنّنا نبقى، بعد إزاحة التفاصيل جانباً، أمام نموذجين شديدي الاختلاف للقوّة والضعف: أحدهما، أي الغربيّ، يمرّ بمراحل وبطفرات، وينتقل من ضعف إلى قوّة ومن قوّة إلى ضعف. علاقته بالزمن أكثر دقّة وسيولة وتحوّلاً، وهو عرضة للتشكيك والنقد والمراجعة والتكهّن. مع الثاني، هناك حدث واحد لا يتغيّر: إنّه قويّ، آمره القوّة التي لا تحتمل التحوّلات، لا في العلاقة بسواه، ولا، خصوصاً، في العلاقة بنفسه.

أوكرانيا، اليوم، ساحة الصراع بين الفلسفتين.

الشرق الأوسط

——————————-

فيديو يُغضب موسكو يُظهر “تنكيلاً” بجنودها بأوكرانيا.. أُطلقت النيران على أرجلهم وهم أسرى، وكييف تعلّق

عربي بوست

نشرت وسائل إعلام أمريكية أشرطة فيديو يُعتقد أنه لقوات أوكرانية تقوم بالتنكيل بجنود روس، تم القبض عليهم خلال المواجهات الدائرة في أوكرانيا، وهو الأمر الذي أغضب روسيا، ودفع السلطات الأوكرانية للإعلان عن التحقيق في الحادثة، مؤكدة رفضها القاطع لما جاء في أشرطة الفيديو المتداولة، الأحد 27 مارس/آذار 2022.

    It might give the impression that the Russian military were captured after having been wounded. But that’s not the case. At the end of the video, we can see Ukrainian soldiers shooting all the newly arrived prisoners through their legs.#WarCrimes pic.twitter.com/o7B7M1p2pG

    — Maria Dubovikova (@politblogme) March 27, 2022

الفيديو المتداول يظهر جنوداً أوكرانيين يطلقون النار على جنود روس، في ركبهم تحديداً، وذلك في إحدى العمليات العسكرية في منطقة خاركيف، كما ذكرت وكالة CNN الأمريكية.

جرائم حرب منسوبة لجنود أوكرانيا

تُظهر الأشرطة المتداولة عدداً من الجنود الروس الملقى بهم على الأرض، بينما تظهر على أرجلهم علامات إصابات بإطلاق النار، مع تغطية وجوه بعضهم.

    18+ (21+)

    Ukrainian soldiers shoot Russian prisoners of war in the legs and afterwards give them a severe beating. At the beginning of the video, there are Russian POWs lying on the ground with bullet wounds in their legs, some of them have got leg bones broken. #WarCrimes pic.twitter.com/t8Wj33X8rv

    — Maria Dubovikova (@politblogme) March 27, 2022

ورغم النزيف الذي يعاني منه الجنود، فإن الفيديو لا يظهر تلقيهم لأي رعاية طبية لازمة، ويُتّهم الجنود الأوكرانيون بترك الجنود الروس للنزيف حتى الموت.

    Many of them are dying from shock due to the pain right on camera. And all of this is being filmed by Ukrainian soldiers themselves.

    — Maria Dubovikova (@politblogme) March 27, 2022

كما شوهد في المقاطع جنود روس بأرجل مكسورة، ومقاطع أخرى فيها مشاهد سحل وضرب بعضهم، بالإضافة إلى فيديو مكالمة بين جندي أوكراني، مع والدة أحد الجنود الروس المقتولين في أوكرانيا، بينما يسخر الجندي الأوكراني من والدة الجندي الروسي، ويخبرها أنه لا يستطيع أن يريها ابنها؛ لأن “الكلاب تأكل ما تبقى منه”.

    #ukraine soldiers calling family of deceased to mock and swear at them. Knowing modern phones – the soldier in question must’ve been alive before they unlocked his device. That’s another POW #warCrime to their repertoire. pic.twitter.com/D55T6Hu0se

    — Lukasz Raczylo 🐭 🅨 (@raczylo) March 27, 2022

يُذكر أن هذه اللقطات مصورة من قِبَل جنود أوكرانيين، وبعضها نُشر من قِبلهم على قنوات تلغرام خاصة بهم، مع التفاخر بهذه الأفعال.

استنكار أوكراني

كرد على هذه الأنباء، استنكر مسؤول في الرئاسة الأوكرانية أشرطة الفيديو، وقال إن الحكومة تأخذ الأمر بجدية بالغة، وإنها ستحقق في هذه الأفعال بشكل فوري.

وصف المسؤول الحكومي الأوكراني جيش بلاده بـ”الجيش الأوروبي”، قائلاً إنهم لا يسيئون معاملة أسراهم، وإن هذه الأفعال إن ثبتت صحتها فهي تصرفات غير مقبولة.

كما أكد أن القوات الأوكرانية تعامل أسرى الحرب الروس دون انتهاكات، ووفقاً لمعاهدة جنيف، وترفض أي تعامل مسيء للأسرى “مهما كانت الدوافع العاطفية”.

    BREAKING: Zelensky advisor has released a video reminding soldiers to adhere to the Geneva Convention pic.twitter.com/H4AYK8Z8KH

    — Metabiota Poso🧬 (@JackPosobiec) March 27, 2022

لكن رئيس القوات العسكرية الأوكرانية، فاليري زالوزني، قال في بيان أصدره الجيش الأوكراني إنه وفي “محاولات تستهدف مصداقية الجيش الأوكراني، قام الأعداء بفبركة أشرطة فيديو تظهر تعاملاً غير إنساني من جنود أوكرانيين ضد جنود روس”، وإن الجيش الروسي هو المسؤول عن نشر هذه الفيديوهات “المفبركة”.

لكن البيان قال أيضاً إنه يتعاطف مع جنود الجيش الأوكراني، وغيرهم من القوات الأوكرانية، و”الملتزمين بشكل صارم” بالقوانين الدولية”، كما حث وسائل الإعلام على توخي الحذر من “الحرب النفسية”، وعدم الوثوق بأي معلومات ما لم تصدر من مصادر رسمية أوكرانية.

كتيبة آزوف

تحققت CNN من صحة فيديو منشور على تلغرام، السبت 26 مارس/آذار 2022، يظهر هجوماً ناجحاً لقوات كتيبة آزوف، أسروا على إثرها جنوداً روساً.

يظهر الفيديو تعرية بعض الأسرى، وتغطية أعينهم، لكن الضابط الذي نشر الفيديو أخبر CNN أنه لم يكن مشاركاً في إطلاق النار على رُكب الجنود الروس، لكنه أضاف أن الفيديو قد يكون صُوِّر بالفعل في إحدى مناطق خاركيف.

تتهم الكتيبة من قِبل روسيا بارتكابها جرائم حرب مماثلة، وطوال الأعوام الثمانية الماضية، كما أنها متهمة بمعاداة الشعب الروسي، وارتكاب مجازر بحقهم، علماً أن الكتيبة ترفع شعارات نازية.

ردود الفعل الروسية

قررت روسيا أن تبدأ تحقيقاً شاملاً، تجريه لجنة التحقيقات في روسيا، لجمع كل ما يثبت ارتكاب جرائم حرب ارتكبها “قوميون أوكرانيون”.

كما قالت اللجنة في بيانها إنها ستتوثق من هوية مرتكبي هذه الأفعال، لتقديمهم إلى العدالة، فيما تقول روسيا إن هذه الأفعال صادرة عن “قوميين ونازيين جدد” أوكرانيين.

يُذكر أن روسيا اليوم نقلت أشرطة فيديو تظهر “التعامل الجيد” من الجنود الروس مع أسرى حرب أوكرانيين، وجنود وضباط قالت القوات الروسية إنهم سلموا أنفسهم للجيش الروسي.

ويظهر الفيديو تأكد أحد الجنود الروس من تسلّم كل جندي أوكراني لأكياس، يبدو أنها تحتوي على غذاء أو مواد أخرى مقدمة لأسرى الحرب. 

بينما تنص معاهدة جنيف في المادة 13 على أنه “يجب معاملة أسرى الحرب معاملة إنسانية في جميع الأوقات. ويحظر أن تقترف الدولة الحاجزة أي فعل أو إهمال غير مشروع يسبب موت أسير في عهدتها، ويعتبر انتهاكاً جسيماً لهذه الاتفاقية. ولا يجوز تعريض أي أسير حرب للتشويه البدني أو التجارب الطبية أو العلمية من أي نوع كان مما لا تبرره المعالجة الطبية للأسير المعني أو لا يكون في مصلحته.. وبالمثل، يجب حماية أسرى الحرب في جميع الأوقات، وضد جميع أعمال العنف أو التهديد، وضد السباب وفضول الجماهير، كما تحظر تدابير الاقتصاص من أسرى الحرب”.

متطوعون يروون إصدار أوامر مشابهة من الجيش الأوكراني

ومما يقدم دلائل من أطراف خارج النزاع على حصول انتهاكات من الطرف الأوكراني؛ فإن متطوعين أقروا بتلقيهم أوامر بقتل أسرى الحرب الروس، سواء استسلموا أم لا، بحسب ما نقلت  BBC البريطانية.

وقرر أحد المتطوعين مغادرة أوكرانيا، بعد أن تبدلت الأوامر التي تلقاها في البداية، والتي شددت على معاملة الجنود الروس كأسرى حرب، وبدء استجوابهم حال اعتقالهم أو استسلامهم.

لكن الأوامر تغيرت، وأصبح عليهم قتل الجنود الروس، سواء سلموا أنفسهم للقوات الأوكرانية أم لا، وعليه قرر المغادرة.

كما أكد أحد المسعفين البريطانيين وجنديان آخران هذه الأنباء، مبينين أن الوضع في الميدان “مختلف جداً”، وأن العشرات من المتطوعين قرروا المغادرة بسبب تلقيهم أوامر بشأن التعامل مع أسرى الحرب الروس.

————————————-

العرب بين حرب أوكرانيا و”حروب” الاتفاق النّووي/ عبدالوهاب بدرخان

بدأت إيران تخرج من تحت وطأة العقوبات الأميركية حتى قبل أن تُرفع عنها. فهي تكثّف الهجمات الحوثية على مواقع مدنية ومنشآت “أرامكو” وخزّاناتها في السعودية، ولا تهدف إلى إنهاء حرب اليمن، بل إلى الضغط بالصواريخ والطائرات المسيّرة في اتجاهين: كي تحسم واشنطن قرارها بالموافقة على آخر الشروط الإيرانية لتوقيع الاتفاق النووي الجديد، وكي تحسم الرياض قرارها بالموافقة على “تطبيع” العلاقات بالشروط الإيرانية أيضاً.

وفيما أوفدت طهران وزير خارجيتها إلى دمشق وبيروت لتقول إنها ستكون جاهزة قريباً لإحداث فارق في الأزمتين الاقتصاديتين في سوريا ولبنان، فإنها عادت إلى الاعتراض على الاتفاق السعودي – الكويتي للاستثمار في حقل الدرّة النفطي، بذريعة أن “أجزاءً منه” تقع في نطاق المياه غير المجدّد بين الكويت وإيران… هذه ليست سوى بدايات للمرحلة المقبلة، وكانت إيران قد سجّلت سابقتين مرّتا بلا مساءلة أميركية: ضرب منشآت “أرامكو” عام 2019، وقصف “الحرس الثوري” أربيل بالصواريخ قبل أسبوعين… لكن ثمّة مؤشّرات إلى أن “ما بعد الاتفاق النووي” لن يكون كما قبله.

من لقاء شرم الشيخ إلى لقاء العقبة فإلى لقاء القدس، هناك “تحالف ضرورة” يتبلور في المنطقة. وفي الخلفية قضيتان: الحرب في أوكرانيا، والاتفاق النووي الجديد. فالحرب طرحت حتى قبل أن تبدأ مشكلة الحاجة الى إمدادات نفط وغاز، خصوصاً إلى أوروبا، لكنها دهمت دول الخليج والشرق الأوسط، بما فيها إسرائيل، وهي في خضم تعاملاتها مع روسيا (والصين) واستعدادها للتعايش مع أميركا غائبة/ حاضرة في شؤون الإقليم.

أما الاتفاق النووي، كما يتبدّى لدول الخليج، فليس متوقّعاً أن يؤسس لأي تهدئة في المنطقة، بل إنه يجدّد الترخيص لإيران كي تواصل استخدام ميليشياتها في زعزعة الاستقرار، كما يفعل حوثيّوها حالياً ضد السعودية، ثم إن الدول الغربية المعنية بهذا الاتفاق وجدت له وظيفة أخرى هي الاعتماد على النفط الإيراني. كل هذه العناصر تفسّر إعراض السعودية والإمارات عن تعويض ذلك النقص.

قد تبدو الدول المنخرطة في هذه اللقاءات كما لو أنها أصبحت للمرة الأولى مناوئة للولايات المتحدة والغرب، ما يمكن أن يثير أيضاً استغراباً وتساؤلات. وقد يقال إنها لا ترتاح إلى هذه الإدارة الأميركية، كونها من جهة استحسنت سيناريو “توريط” روسيا ولم تُظهر ما يكفي من حزم وحكمة لمنعها من غزو أوكرانيا وتدميرها، ولأنها من جهة أخرى استسهلت الرضوخ لشروط إيران في مفاوضات فيينا، آملةً اجتذابها إلى جانبها في المواجهة مع الصين، حتى لو اقتضى الأمر نقل السياسة الأميركية من “الضغوط القصوى” على إيران إلى البحث عن حيلة دبلوماسية لرفع اسم “الحرس الثوري الإيراني” من قائمة المنظمات الإرهابية…

لكن المنطقة مأزومة، ولم تكن دولها/ أو لم تستطع/ أو حتى لم تردْ أن تكون جاهزة للاستقطاب المطروح عليها: إمّا الغرب وإمّا روسيا. ذاك أن الولايات المتحدة وتقلباتها من نقيض إلى نقيض، بين إدارتي أوباما (وبايدن) وترامب، هي التي دفعت العرب للتوجّه شرقاً إلى روسيا (والصين) ولعقد مصالح مع هاتين الدولتين. في المقابل، لا تبدو دول المنطقة جاهزةً أيضاً للتخلّي عن ارتباطاتها المزمنة و”التاريخية” مع الغرب، لكن ذلك لا يمنعها من انتهاج قدر من التباعد مع الخيارات الغربية، إذ إن حرب أوكرانيا والاستقطابات المواكبة لها تفاقم احتقانات المنطقة وتنعكس سلباً على اقتصادات البعض، وعلى الاقتصادات + الأمن الغذائي للبعض الآخر، فيما ينعكس الاتفاق النووي سلباً على استقرارها أمنياً واجتماعياً.

أدّى اشتعال حرب أوكرانيا في وقت تتخلّى أميركا عن “التزاماتها” تجاه الخليج والشرق الأوسط، إلى انكشاف التغيير الذي كان يحصل ببطء في التوجّهات العربية، إذ تأكد للعرب أن ما تسمّى “التزامات أميركية” لم تحلّ، أو بالأحرى لم تشأ أن تحلّ، أياً من أزماتهم، بدءاً بالقضية الفلسطينية وصولاً إلى المسألة اليمنية وما بينهما، بل زادت في إحباطاتهم وانقساماتهم. وفي السياق نفسه، أدّى التفاوض على الاتفاق النووي إلى انكشاف “الخيار الإيراني” لدى واشنطن، خلافاً لكل ما تظهره سياسياً في لقاءاتها مع العرب. فهي تظاهرت مثلاً بأن إزالة تصنيف “جماعة الحوثيين” كمنظمة إرهابية كان خطوة هادفة لإنهاء حرب اليمن، لكن تبيّن أن هذه الخطوة كانت بمثابة رسالة لإبداء حسن نية تجاه طهران رغم ما فيها من خداع ذاتي قبل أن تكون خداعاً لأي طرف آخر.

كانت إدارة بايدن قد شدّدت على أن إحياء الاتفاق النووي لن يمرّ من دون ضبط البرنامج الصاروخي والسياسات الإقليمية لإيران، ثم تخلّت عن هذين الشرطين، ثم قالت إنها تميّز بين عقوبات تتعلّق بالشأن النووي وأخرى تتعلّق بحقوق الإنسان ودعم الإرهاب، وإنها لن ترفع “كل العقوبات” كما تشترط طهران، غير أنها تدرس الآن رفع العقوبات عن “الحرس الثوري” لتزيل آخر عقبة أمام توقيع الاتفاق الجديد، بل إنها اضطرّت لتوفير ضمانات مكتوبة لروسيا بأن العقوبات التي فُرضت عليها بسبب غزوها لأوكرانيا لا تشمل علاقاتها التجارية والعسكرية مع إيران. كل ذلك لتسريع الاتفاق والحصول على نفط وغاز، لكن مَن قال إن إيران متعجّلة لتلبية حاجة الغرب أو لدعم العقوبات على روسيا، أو إنها لن تستخدم ملف الطاقة لابتزاز الغرب كي يعترف بنفوذها في الدول العربية الأربع التي احتلّتها وأمعنت فيها تخريباً.

مثلما أن فلاديمير بوتين يخوض حربه في أوكرانيا لاستعادة “الإمبراطورية” الروسية، كذلك يخوض نظام الملالي حروبه لاستعادة “الإمبراطورية” الفارسية. لكن الولايات المتحدة التي لم تذهب إلى تسوية مع روسيا لتجنيب أوكرانيا العالم ويلات الحرب المرشّحة للتوسّع، تستعد لتسوية ترضي إيران على حساب العرب حتى لو قادت إلى حرب، بل إلى حروب في المنطقة. فكل ما سبق، خلال العقدين الأخيرين، كان حروب إيران لمدّ نفوذها وتمكين ميليشياتها ونشر صواريخها ومسيّراتها، أما المرحلة المقبلة فستكون لتنظيم هذا النفوذ وتثبيته اعتماداً “على أميركا” وعلى سلاح نووي ستتوصّل إليه بـ”اتفاق” مع القوى الدولية أو من دون اتفاق. ومن الحجج التي شاعت قبل أيام، أن واشنطن يمكن أن ترفع العقوبات عن “الحرس الثوري” لقاء تعهّد مكتوب بوقف التصعيد الإيراني في المنطقة. كانت تلك العقوبات على “الحرس” رمزية، ولم تمنعه من تنفيذ كل مخططاته وعملياته، أما “التعهّد” المطلوب فليس سوى نكتة سوداء لا تُضحك حتى المفاوض الأميركي روبرت مالي ولا رؤساءه.

النهار العربي

—————————

أوكرانيا… ما الذي يدفع نحو الاجتياح؟/ جين بربانك *

لا يزال اجتياح الرئيس فلاديمير بوتين لأوكرانيا، ورغم مرور ما يقرب من شهر، من المتعذر تفسيره. واليوم، أصبحت المباني المهدمة وهروب العائلات، الوجه المعبر عما يوجد في أوكرانيا أمام العالم. والتساؤل الذي يفرض نفسه الآن هو ما الذي يمكن أن يدفع روسيا إلى اتخاذ مثل هذه الخطوة؟

بوجه عام، تميل جهود فهم الاجتياح الروسي إلى الانقسام إلى مدرستين فكريتين كبيرتين. تركز المدرسة الأولى على بوتين نفسه – أي فهمه للتاريخ أو ماضيه في جهاز الاستخبارات السوفياتي (كيه جي بي). أما المدرسة الثانية، فتستدعي التطورات الخارجية المرتبطة بروسيا، وعلى رأسها توسع حلف الناتو شرقاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 باعتبار هذه التطورات المصدر الأساسي للصراع.

إلا أنه من أجل فهم الحرب في أوكرانيا، يجب أن نتجاوز المشروعات السياسية للزعماء الغربيين ونفسية الرئيس الروسي. الحقيقة أن حماسة ومحتوى تصريحات الرئيس بوتين ليست بالأمر الجديد أو الفريد بالنسبة له. منذ تسعينات القرن الماضي، بدأت خطط إعادة توحيد أوكرانيا ودول ما بعد الاتحاد السوفياتي الأخرى داخل قوة عظمى عابرة للقارات، تختمر في روسيا. وتبدو نظرية إقامة إمبراطورية أورو – آسيوية التي أعيد تفعيلها، الدافع المحرك وراء كل خطوة يقدم عليها الرئيس بوتين.

في الواقع، أربكت نهاية الاتحاد السوفياتي النخب الروسية، وجردت هذه النخب من مكانتها الخاصة داخل إمبراطورية شيوعية ضخمة. والآن: ما الذي ينبغي القيام به؟ من وجهة نظر البعض، تمثلت الإجابة فقط في كسب المال بالطريقة الرأسمالية. وخلال سنوات التيه التي أعقبت عام 1991، كان الكثيرون قادرين على جمع ثروات هائلة من خلال التعاون مع نظام متساهل. إلا أنه فيما يخص آخرين ممن حددوا أهدافهم في ظل الظروف السوفياتية، لم تكن الثروة والاقتصاد الاستهلاكي النابض بالحياة كافيين، فقد شعروا خلال حقبة ما بعد الإمبراطورية بشدة بفقدان روسيا لمكانتها وأهميتها.

عندما فقدت الشيوعية وهجها، بحث المفكرون عن مبدأ مختلف يمكن تنظيم الدولة الروسية على أساسه. وتبلورت استكشافاتهم لفترة وجيزة في تشكيل الأحزاب السياسية، بما في ذلك حركات وطنية ومعادية للسامية، وكان لها تأثير دائم في إحياء الدين كأساس للحياة الجماعية. إلا أنه مع تعثر الدولة على صعيد السياسات الديمقراطية في التسعينات، ترسخت تفسيرات جديدة لجوهر روسيا، مقدمة العزاء والأمل للأشخاص الذين سعوا لاستعادة مكانة بلادهم في العالم.

كانت الأوراسية من أكثر المفاهيم جاذبية. وانبثقت هذه الفكرة من انهيار الامبراطورية الروسية عام 1917، وتقوم على فرضية أن روسيا نظام حكم أوراسي يتكون من تاريخ عميق من التبادلات الثقافية بين أشخاص من أصول تركية وسلافية ومنغولية وآسيوية أخرى. عام 1920 نشر العالم اللغوي نيكولاي تروبيتزكوي – أحد المثقفين الروس المهاجرين الذين طوروا هذا المفهوم – كتاب «أوروبا والإنسانية»، الذي تضمن نقداً لاذعاً للاستعمار الغربي والنزعة الأوروبية. ودعا المثقفين الروس إلى تحرير أنفسهم من تعلقهم بأوروبا والبناء على «إرث جنكيز خان» لإنشاء دولة روسية أورو – آسيوية تمتد عبر القارة.

كانت الأوراسية من وجهة نظر تروبيتزكوي وصفة للتعافي الإمبراطوري، من دون الشيوعية، والتي تشكل استيراداً غربياً ضاراً، في رأيه. وبدلاً عن ذلك، شدد تروبيتزكوي على قدرة الأرثوذكسية الروسية المعاد تنشيطها على توفير التماسك والتناغم عبر أوراسيا، مع توفير رعاية قوية للمؤمنين بالعديد من الأديان الأخرى التي تمارس في هذه المنطقة الشاسعة الاتساع.

بعد قمعها على امتداد عقود داخل الاتحاد السوفياتي، نجحت الأوراسية في البقاء على قيد الحياة تحت الأرض، وانتشرت في الوعي العام خلال فترة البيريسترويكا في أواخر الثمانينات. وظهر ليف غوميلوف، عالم جغرافي غريب الأطوار أمضى 13 عاماً في السجون السوفياتية ومعسكرات العمل القسري، باعتباره المعلم المشهور لإحياء أوراسيا في الثمانينات. وأكد غوميلوف التنوع العرقي كمحرك لتاريخ العالم. ووفقاً لمفهومه عن «التولد العرقي»، يمكن لمجموعة عرقية، تحت تأثير زعيم كاريزمي، أن تتطور إلى «عرقية فائقة»، بمعنى أن تصبح قوة منتشرة على مساحة جغرافية شاسعة وتصطدم بوحدات عرقية أخرى متوسعة.

جذبت نظريات غوميلوف الكثير من الناس الذين كانوا يشقون طريقهم خلال فترة التسعينات الفوضوية، لكن الأوراسية جرى حقنها مباشرة في مجرى الدم للقوة الروسية في صورة طورها الفيلسوف ألكسندر دوغين. وبعد تدخلات فاشلة في السياسة الحزبية في فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي، ركز دوغين على تطوير نفوذه حيثما كان ذلك مهماً مع الجيش وصانعي السياسة. مع نشر كتابه المكون من 600 صفحة عام 1997، الذي يحمل عنوان «أسس الجغرافيا السياسية: المستقبل الجيوسياسي لروسيا»، انتقلت الأورو – آسيوية إلى مركز الخيال السياسي للمفكرين الاستراتيجيين.

في خضم تعديل دوغين للنزعة الأورو – آسيوية للتوافق مع الظروف الحالية، كان لروسيا خصم جديد، لم يعد أوروبا فقط، بل العالم «الأطلسي» بأكمله بقيادة الولايات المتحدة. ولم تكن نزعته الأورو – آسيوية معادية للإمبريالية، بل كانت على العكس من ذلك، قامت رؤيته على فكرة أن روسيا كانت دوماً إمبراطورية، وأن الشعب الروسي لطالما كان «شعباً إمبريالياً».

على الصعيد الحضاري، سلط دوغين الضوء على العلاقة طويلة الأمد بين الأرثوذكسية الشرقية والإمبراطورية الروسية. ورأى أنه من الممكن تسخير الأرثوذكسية في مواجهة المسيحية الغربية والانحلال الغربي في خضم الحرب الجيوسياسية القادمة.

وشكلت عناصر الجغرافيا السياسية الأورو – الآسيوية والأرثوذكسية الروسية والقيم التقليدية صورة روسيا الذاتية تحت قيادة بوتين. وجرى الترويج لقصص عن المجد الإمبراطوري والظلم الغربي في جميع أنحاء البلاد.

على سبيل المثال، عام 2017، تجسد هذا التوجه في إقامة معرض ضخم تحت عنوان «روسيا، تاريخي». أبرزت عروض المعرض البراقة فلسفة غوميلوف الأورو – آسيوية، و«الاستشهاد القرباني» لعائلة رومانوف والشرور التي ألحقها الغرب بروسيا.

والتساؤل هنا: أين تقع أوكرانيا في إطار هذه الجهود لإحياء الحقبة الامبراطورية؟ منذ البداية، تظهر أوكرانيا كعقبة. في هذا الصدد، أعرب تروبيتزكوي في مقال نشره عام 1927 بعنوان «حول المشكلة الأوكرانية»، عن اعتقاده بأنه يجب على الأوكرانيين والبيلاروسيين الارتباط بالروس حول المبدأ التنظيمي لعقيدتهم الأرثوذكسية المشتركة. وجعل دوغين الأمور أكثر مباشرة في عام 1997، عندما قال إن السيادة الأوكرانية تشكل «خطراً هائلاً على كل أوراسيا». وتمثل السيطرة العسكرية والسياسية الكاملة على الساحل الشمالي للبحر الأسود «حتمية مطلقة» للجغرافيا السياسية الروسية. وأشار إلى أنه كان على أوكرانيا أن تصبح «قطاعاً إدارياً بحتاً داخل الدولة المركزية الروسية».

من ناحيته، أخذ بوتين هذه الرسالة على محمل الجد. عام 2013 أعلن أن أوراسيا تعد منطقة جيوسياسية رئيسية، وسيجري الدفاع عن «الشفرة الجينية» لروسيا وشعوبها العديدة ضد «الليبرالية الغربية المتطرفة». وفي يوليو (تموز) من العام الماضي، أعلن أن «الروس والأوكرانيين شعب واحد»، ووصف في خضم غضبه عشية الاجتياح، أوكرانيا بأنها «مستعمرة يقودها نظام دمية»، حيث تتعرض الكنيسة الأرثوذكسية للهجوم ويستعد الناتو لشن هجوم ضد روسيا.

* بروفسور التاريخ الروسي، وتقاعدت في وقت قريب من عملها في جامعة نيويورك

* خدمة «نيويورك تايمز»

————————–

لماذا تعتبر ماريوبول مهمة لأوكرانيا وروسيا؟/ بوبي غوش

أصبحت ماريوبول، وهي مدينة ساحلية على بحر آزوف، محور الاهتمام الدولي؛ إذ بعد قصفها طالبت موسكو بتسليم المدينة. رفضت الحكومة الأوكرانية الإنذار، ويبدو أن تكثيف روسيا لعملياتها بات حتمياً. في الواقع، يبدو أن الرئيس فلاديمير بوتين يركز على استعادة ماريوبول.

ما سبب أهمية ماريوبول لهذه الدرجة؟ في نقاش عبر منصة «تويتر سبيسيس»، طرحنا هذا السؤال على كتّاب الرأي كلارا فيريرا ماركيز، وأندرياس كلوث، وليونيد بيرشيدسكي.. في ما يلي نسخة منقحة من محادثتهم:

غوش: هل يمكنك أن تعطينا بعض السياق التاريخي لأهمية هذه المدينة بالنسبة لروسيا؟

بيرشيدسكي: كانت ماريوبول دائماً مدينة مهمة لأوكرانيا وأيضاً للانفصاليين الموالين لروسيا، إنها في الأساس الميناء الرئيسي الوحيد الذي يخدم تلك المناطق. فعندما تمكن الأوكرانيون من استعادتها من الانفصاليين خلال الاجتياح الروسي الأول، كان ذلك نجاحاً كبيراً لأوكرانيا.

في السنوات الثماني الماضية، جرى تحويلها إلى معقل أوكراني، وهي مهمة جداً للتجارة. لهذا السبب هناك قوات أوكرانية موجودة في المدينة الآن محاطة بالقوات الروسية.

أيضاً تقع ماريوبول على الجسر البري الذي سعت روسيا إلى إقامته بين الجمهوريات الانفصالية وشبه جزيرة القرم. وبدون ماريوبول، لا يوجد جسر بري بين شبه جزيرة القرم والجمهوريات الانفصالية.

توقف الاجتياح الروسي عند محاور أخرى. إنه لا يتقدم نحو كييف أو في خاركيف أو في الجنوب. كل الغضب والقوة النارية الروسية تتركز الآن على تلك المدينة.

غوش: مانوليس أندرولاكيس، القنصل العام اليوناني في ماريوبول وأحد آخر الدبلوماسيين الأوروبيين الذين غادروا، قال عما رآه هناك: «ستتم إضافة ماريوبول إلى قوائم المدن الدولية التي دمرت، مثل جيرنيكا، وستالينغراد، وغروزني. يجب أن يتسبب ذلك في بروز أشواك في أوروبا.

كلوث: الصور الواردة من هناك صادمة. الأوروبيون، باستثناء عدد قليل، كانوا بالفعل إلى جانب أوكرانيا. وقد زاد عددهم الآن.

لكن ما تفعله فيما يتعلق بالسياسة هو سؤال آخر. نحن نظل في الموقف نفسه استراتيجياً؛ نريد دعم الأوكرانيين بدون التسبب في أي نوع من التصعيد الذي من شأنه أن يجعل قوات «الناتو» تواجه القوات الروسية بشكل مباشر. ما زلنا نحاول منع ذلك. ولكن في الوقت نفسه، فإن هذه الصور تجبر الجميع الآن على التساؤل عما يمكن أن يحدث بعد ذلك. أسلحة كيميائية؟ حتى الأسلحة النووية؟ ماذا يمكن أن يكون الرد التالي؟

غوش: إلى أي مدى يجب أن نأخذ في الاعتبار هذا الحديث عن فرض حظر نفطي من الاتحاد الأوروبي على روسيا؟ هل يستطيع الأوروبيون تحقيق ذلك؟

كلوث: أعتقد أن هذا الخيار معقول الآن أكثر مما كان عليه قبل أيام. الرأي يتأرجح وألمانيا يمكن أن تغير الميزان. إذا ذهبت ألمانيا وقالت: «نعم، سنوافق على فرض حظر كامل وفوري»، فسيحدث ذلك.

وزير الاقتصاد، روبرت هابيك، يتنقل بشكل محموم في كل مكان، من النرويج إلى قطر إلى الإمارات العربية المتحدة، في محاولة لإيجاد بدائل للغاز الروسي. تكمن المشكلة في أنه في العقود الأخيرة، لم تترك ألمانيا نفسها تعتمد على خط الأنابيب الروسي بحماقة فحسب، بل أهملت أيضاً في بناء المحطات التي يمكن أن تستقبل السفن التي تحمل الغاز الطبيعي المسال. لا تزال ألمانيا تحول نحو 200 مليون يورو يومياً إلى روسيا رغم العقوبات.

غوش: التصعيد يبدو شبه مؤكد. انتهت المهلة الروسية للقوات الأوكرانية لمغادرة ماريوبول، وقال الأوكرانيون إنهم لن يغادروا.

فيريرا ماركيز: لكن هذا يحدث في وقت يتسم بضغوط حقيقية في الدرجة العليا للنظام الأمني في روسيا. من الواضح أن ماريوبول تسير بشكل سيئ لجميع المعنيين. للأسف نعرف ما فعلته القوات الروسية في غروزني.

شاهدنا جميعاً مقطع فيديو لبوتين وهو يتحدث في ذلك التجمع الحاشد في ملعب لوجنيكي بموسكو الأسبوع الماضي. تحدث عن تنفيذ الخطط كما هو متوقع، وهو ما يخبرك كثيراً عن تبعية النظام للمسار.

غوش: ما الذي ستترقبه في الأسبوع القادم؟

بيرشيدسكي: من الواضح أن مكان العرض هو ماريوبول ومناطق شرق أوكرانيا حيث كان خط الاتصال القديم بين أوكرانيا والجمهوريات الانفصالية. إذا دخل الجيش الروسي ماريوبول، فسوف يحاولون تطويق القوات الأوكرانية التي توغلت هناك على مدى السنوات الثماني الماضية. عسكرياً، هذا أسبوع مهم.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»

الشرق الأوسط

—————————

كيف يمكن أن يؤثر دور تركيا في الأزمة الأوكرانية على التوازنات في سورية؟

مؤخراً بدأت تظهر الكثير من الآراء التي تقول بأن قوة روسيا، التي كان لها تأثير كبير في سورية، بدأت تضعف بعد هجومها العسكري على أوكرانيا، وأن نظام الأسد أصبح معزولاً في مواجهة المعارضة داخل البلاد. سألنا الخبراء حول هذه الآراء وعن والموقف الروسي الحالي في سورية.

حسب رأي “عمر بهرام اوزدمير, Ömer Behram Özdemir”  الخبير في الدراسات السورية، فإنه يمكن أن يكون لموقف تركيا البنّاء من الحرب “الروسية-الأوكرانية” نتائج إيجابية على وضعها في سورية، حيث قال:” إن الدور البناء لتركيا واحتمال ان تلعب دورها كوسيط في المفاوضات، يمكن أن يكون له نتائج إيجابية على علاقات أنقرة مع روسيا على المدى القصير إلى المتوسط في إدلب وريف حلب”.

صوت “نظام الأسد” في سورية، بـ “لا” على مشروع قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي يدين الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا.

يرى الكثير من الخبراء والمحللين ان موقف “سورية” تجاه الحرب “الروسية – الأوكرانية” ما هو الا نتيجة طبيعية لولاء وارتباط “الأسد” السياسي والاقتصادي والعسكري ببوتين.

كانت قررت الدول الغربية فرض عقوبات في العديد من المجالات على روسيا بعد أن شن بوتين عملية عسكرية ضد أوكرانيا.

تدور نقاشات جادة لآراء تقول بأن العقوبات في المجالين الاقتصادي والسياسي، سينتج عنها بشكل خاص عزل سياسة روسيا تجاه سورية الداعمة لنظام الأسد فيها.

قام الخبراء المختصين بتقييم هذه الآراء وآثار الحرب الروسية الأوكرانية على سوريا لصحيفة “Star Gazetesi” التركية.

” قد نشهد هجوماً في أوكرانيا مشابهاً لما حدث في حلب في أي وقت”

يرى “كوشكون باشبوغ Coşkun Başbuğ ” الخبير في مجال الإرهاب والأمن، إنه من السابق لأوانه القول بأن نظام الأسد أصبح معزولًا “وحيداً”، ويتابع: “إذا شهدت روسيا حصاراً بشكل متزايد، ودخلت في دوامة المعاناة من اضطرابات خطيرة في سياساتها الداخلية، عندها يجب اعادة تقييم الأجندة الرئيسية حولها وعن سورية. ولكن في الوقت الحالي ما يزال من المبكر للغاية والخطأ القول بمعادلات مثل: سيتم التخلي عن الاسد، وأن روسيا ضعيفة، أو لا تستطيع روسيا الذهاب إلى سورية، او علينا الخروج من هنا”.

يضيف “باشبوغ”: “لقد تعرضت روسيا نتيجة حربها على أوكرانيا لأضرار وخسائر خطيرة للغاية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ولكن هذا لا يعني أنها استسلمت في جميع المجالات. وأعتقد أن روسيا ستشن هجوماً عنيفاً جداً لتسريع سير العملية العسكرية بعد إجلاء المدنيين، ومن الممكن أن نرى هجوماً مشابها لما تم في “حلب” في أي لحظة. إذا وقع ذلك سيكون لضمان هيمنتها على المنطقة، ولكنها مشكلة محلية هناك، ولن تكون عملية مؤثرة على توازن القوى في تلك المنطقة الجغرافية بأكملها”.

كما أشار “باشبوغ” إلى أن روسيا في وضع يسمح لها بالسيطرة على قواتها العسكرية ودعمها عندما تتعرض لمشاكل في أوكرانيا حيث أوضح ان:

“القوة الروسية تكفي لأوكرانيا، حتى لو لم نأخذ في الاعتبار قواتها في سورية، فالجيش الروسي أفضل بكثير من الجيش الاوكراني بكل معنى الكلمة من حيث الأسلحة والعتاد والمعدات العسكرية والأفراد، لذلك، لن نشهد ما يسمى بنقل للقوات من سورية إلى أوكرانيا”.

وبما يخص اتفاقية مونترو الخاصة بالمضيق، يوجد بعض السفن التابعة للبحرية الروسية في سورية. وهنا يجب أن ننظر هل هناك حاجة لإعادة هذه السفن الى روسيا ام لا، وانا أعتقد أن روسيا لا تحتاج اعادتها”.

“موقف تركيا يمكن أن يمنع العمليات المدعومة من روسيا والأسد”

أضاف “عمر بهرام أوزدمير” المختص بالدراسات السورية: “إذا كان لتركيا دور في وقف إطلاق النار، فمن المرجح أن ترغب أنقرة في تعزيز مكاسبها هناك على منع العمليات الجديدة المدعومة من روسيا والنظام في سورية، وعلى الأقل منع استهداف المناطق الخاضعة لسيطرتها”.

وأردف “أوزدمير” أن موقف تركيا البناء ودورها كوسيط محتمل في المفاوضات يمكن أن يكون له نتائج إيجابية على علاقات أنقرة مع روسيا على المدى القصير والمتوسط في إدلب وريف حلب.

وتابع “أوزدمير”، المعروف أيضاً باهتمامه بأبحاث الحرب “الأهلية” السورية: إن” استمرار أنقرة في إقامة جسور دبلوماسية ومعارضتها للعقوبات التي تستهدف موسكو، يعني أن تركيا ستعزز مكانتها كـ “فاعل يمكن التحدث معه” بالنسبة لموسكو التي يتم فرض العقوبات عليها واستبعادها وعزلها دولياً”.

واضاف “أوزدمير” إن عاملاً آخر سيؤثر على العلاقات التركية-الروسية في سورية، هو احتمال استمرار انقرة التقييد لحركة السفن في المضيق.

ويرجح “أوزدمير” أنه إذا استمر تقييد الحركة في المضيق لعدة أشهر، فإن ذلك سيجبر روسيا على دعم قواعدها العسكرية في سورية بدلاً من الجبهة الأوكرانية التي تستطيع دعمها بشكل مباشر، مما سيؤدي أن تكون موسكو أكثر هشاشة وتتخذ موقفاً أكثر تصالحية في سورية.

وفي حديثه عن السيناريو الأخير المحتمل، اختتم “أوزدمير” كلامه على النحو التالي:

“التدمير الذي تم لأنظمة الدفاع الجوي الروسية وبالقوات العسكرية الروسية من قبل المسيرات “الدرون” التركية في “إدلب” في عام 2020، وفي ليبيا، وفي “كاراباخ”، ومؤخراً في أوكرانيا، قد يؤدي إلى تباعد المسافات بين روسيا وتركيا على المدى الطويل. ولكن روسيا، التي تواجه صعوبات في دعم قواتها في البحر المتوسط ​​من حيث الأسلحة والذخيرة على المدى القصير والمتوسط ​​، لا تريد  العيش في سيناريو محتمل مشابه في شمال سورية وقد تختار طريقة التصالح مع تركيا.

“الموقف الروسي في سورية قد يضعف على المدى الطويل”

أكد “أويتون أورهان Oytun Orhan ” منسق دراسات الشرق الأوسط في مركز دراسات الشرق الأوسط (ORSAM) أن نتيجة حرب روسيا في أوكرانيا ستعيد تحديد موقفها في سورية.

وقال “أورهان”: “النجاح العسكري الروسي في محاولتها غزو أوكرانيا سيجعل “النظام السوري” يشعر بمزيد من الأمان، أو العكس بالعكس، فإن المقاومة طويلة الأمد لأوكرانيا ستؤثر بشكل مباشر على قدرة روسيا ونفوذها في سوريا وضعف مكانتها نسبياً”.

يرى “أورهان” أن مستقبل “نظام الأسد” يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالموقف القوي أو الضعيف الذي ستكون روسيا عليه في السياسة العالمية. حيث يقول: “من المحتمل أن تستنتج دمشق مستقبلها من خلال المراقبة عن كثب لأداء روسيا في محاولتها غزو أوكرانيا”.

يرجح “أويتون أورهان”، في حديثه بروز سيناريوهين مختلفين سيؤثران بشكل مباشر على سياسة روسيا في الشرق الأوسط وخاصة سياستها في سورية:

“إذا تمكنت روسيا من تحقيق أهدافها في أوكرانيا رغم عن ارادة الغرب وحلف شمال الأطلسي، فيمكنها اتخاذ موقف أكثر ثقة وعدوانية في سورية. ولكن، هناك سيناريو آخر يتعلق بمسار احتلال أوكرانيا وهو استمرار المقاومة، والزيادة التدريجية في الدعم العسكري من الغرب لأوكرانيا بالتوازي مع ذلك، وتحول أوكرانيا إلى أفغانستان جديدة لروسيا. وإذا حدث هذا السيناريو، فقد يضعف موقف روسيا في سورية على المدى الطويل”.

ترجمهُ لـ”السورية.نت”: نادر الخليل، زميل  في “مركز عمران للدرسات الاستراتيجية”

—————————-

=================

تحديث 29 أذار 2022

———————-

المخاوف من انفلات نووي/ عثمان ميرغني

هل هناك سيناريو يمكن أن يجعل الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ شهر تتحول إلى حرب نووية شاملة أو محدودة؟

الجواب نعم، والمخاطر حقيقية، والخبراء العسكريون يناقشونها، ويدركون أنه مع كل يوم يمضي تزداد المخاوف من عواقب رعبها النووي المحتمل، ليس فقط بسبب مخاطر استخدام روسيا لسلاح نووي صغير إذا شعرت بأن خسائرها تتفاقم، وإنما لتداعيات النزاع على السباق النووي العالمي واحتمالات انفلات الأمور ودخول دول أخرى النادي النووي.

تلويح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالسلاح النووي قبيل وأثناء اجتياحه أوكرانيا، كان بمثابة رسالة بأن أي دولة نووية يمكن أن تعتدي على دولة أخرى من دون أن يستطيع طرف آخر التدخل عسكرياً، خوفاً من خطر إشعال حرب عالمية نووية مدمرة. فالغرب المتعاطف بشدة مع أوكرانيا لم يستطع التدخل إلا بالإدانات، والعقوبات على روسيا، وإرسال شحنات أسلحة «دفاعية» لكييف. وقالها صريحة الرئيس الأميركي جو بايدن، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) إنهم لن يستطيعوا تلبية طلب كييف بفرض حظر طيران فوق أوكرانيا أو مدها بطائرات عسكرية لأن ذلك يعني الدخول في مواجهة مع روسيا والمخاطرة بحرب عالمية قد تتحول إلى حرب نووية.

أوكرانيا ربما تكون تشعر بالندم الآن لأنها تخلت عن فرصة الانضمام لنادي الدول النووية. فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي ورثت كييف ترسانة كبيرة من الصواريخ النووية، قيل إنها كانت تعادل ما تملكه 3 دول نووية مجتمعة، هي الصين وفرنسا وبريطانيا، لكنها تنازلت عنها وأعادتها إلى روسيا، وانضمت إلى معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية. واعتقدت وقتها أنها تبعث برسالة تطمين لموسكو وسلام للعالم، تضمن لها العيش في أمان، وهو ما نسفته التطورات الراهنة، وقبلها الاجتياح الروسي لشبه جزيرة القرم عام 2014.

اليوم لن تكون أوكرانيا وحدها التي تفكر في أنها لو أرادت حماية نفسها مستقبلاً، فعليها أن تفكر في امتلاك سلاح نووي. هناك دول أخرى مثل اليابان أو كوريا الجنوبية حتى تايوان ربما تشعر بالقلق من القوى النووية المجاورة التي لديها صراعات تاريخية أو آنية معها. فإذا كانت الصين تتصرف بدبلوماسية الصبر والحنكة، فإن روسيا بوتين لم تتورع عن التهديد باستخدام ترسانتها النووية، بينما كيم جونغ أون رئيس كوريا الشمالية لا يفتأ يستعرض صواريخه وعضلاته النووية.

أيضاً هناك دول أخرى كثيرة تطمح إلى امتلاك قدرات نووية لأسباب دفاعية أو بغرض الهيمنة على جيرانها، وقد تقرأ الرسالة الآتية من الأزمة الأوكرانية بطريقة تعزز طموحاتها أو مخاوفها.

الموضوع سيصبح أخطر بالتأكيد لو أن بوتين تحت وطأة الضغط العسكري الميداني في أوكرانيا، أو الداخلي الاقتصادي بسبب العقوبات الواسعة التي فرضت على روسيا، قرر استخدام قنبلة نووية صغيرة من ترسانته الكبيرة من هذه الأسلحة. ماذا سيكون رد الغرب حينها؟ وماذا ستكون الرسالة للدول الأخرى القلقة من جيرانها النوويين الحاليين أو الطامحين إلى امتلاك سلاح الدمار الشامل هذا؟

واشنطن تشعر بقلق جدي من سيناريو دخول «النووي» ساحة الحرب الأوكرانية، ففي شهادة أدلى بها يوم الخميس الماضي أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب الأميركي، قال اللفتنانت جنرال سكوت بيريار مدير وكالة استخبارات الدفاع إنه من المرجح أن تعتمد روسيا بشكل متزايد على الردع النووي لإظهار قوتها وكإشارة تحذير للغرب. وتتزايد هذه المخاوف كلما تعثرت الحملة العسكرية الروسية وشعر بوتين بالخطر.

كثير من السياسيين والخبراء العسكريين حذروا على مدى سنوات من أن تطوير القنابل النووية الصغيرة يزيد من احتمالات استخدامها بشكل كبير مقارنة بالقنابل النووية الكبيرة (الاستراتيجية)، التي عرف العالم رعبها لأول مرة قبل نحو 77 عاماً في هيروشيما وناغازاكي. واعتبروا أن استمرار القوى النووية في تكديس مثل هذه القنابل الصغيرة يهدد بانقلاب في توازن الرعب النووي القائم على نظرية «الدمار المؤكد المتبادل» التي منعت حتى الآن تكرار مأساة هيروشيما وناغازاكي. الرئيس الأميركي جو بايدن ذاته له مواقف في السابق ضد هذه الأسلحة النووية التكتيكية، وعدها «فكرة سيئة وخطرة» لأنها تجعل القادة أكثر ميلاً لاستخدامها.

هذه القنابل التي تعرف أيضاً باسم الأسلحة النووية التكتيكية قد تكون صغيرة حجماً وأثراً مقارنة مع القنابل الكبيرة (الاستراتيجية) التي زادت قدراتها التدميرية كثيراً مقارنة بتلك التي استخدمتها أميركا ضد اليابان، لكنها مع ذلك تعتبر من أسلحة الدمار الشامل القادرة على إحداث خسائر هائلة في الأرواح والممتلكات. فقنبلة صغيرة تعادل نصف قوة قنبلة هيروشيما مثلاً يمكنها أن توقع إذا استخدمت في مدينة، أكثر من نصف مليون ما بين قتيل وجريح، إضافة إلى دمار مادي كبير.

المشكلة أيضاً في هذه الأسلحة النووية التكتيكية أنها تقع خارج نطاق اتفاقيات مثل معاهدات «ستارت» الموقعة بين واشنطن وموسكو لخفض عدد الرؤوس النووية الاستراتيجية والصواريخ الباليستية، وبالتالي طورت منها القوى النووية الكبرى وبشكل خاص روسيا وأميركا ترسانة كبيرة منها. وعلى الرغم من أن أعدادها غير معروفة، فإن الخبراء العسكريين قدروا أن روسيا وحدها تملك أزيد من 2000 من هذه القنابل، بينما أميركا نشرت كمية غير محددة منها في غواصاتها وفي قواعد أوروبية أيضاً لتزيد من قدرتها على الردع. القوى النووية الأخرى، على الأقل الكبرى منها، مثل الصين تملك بالتأكيد ترسانة من هذه الأسلحة التكتيكية، التي كلما زاد انتشارها تزايدت احتمالات استخدامها.

وهناك أصوات كثيرة تحذرنا من أن الكلام عن أن هذه الأسلحة التكتيكية تقلل من أخطار مواجهة نووية شاملة، هو مجرد وهم. وقد نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» هذا الأسبوع عن تجربة محاكاة أعدها خبراء في جامعة برينستون الأميركية تفترض سيناريو تقوم فيه روسيا باستخدام قنبلة نووية تكتيكية كطلقة تحذيرية للغرب، فيردّ حلف الناتو بضربة محدودة قد تكون في مكان ناءٍ من روسيا. بعدها تردّ موسكو بضربة أخرى، وفجأة تفلت الأمور وتنزلق نحو حرب تسفر عن سقوط أكثر من 90 مليون إنسان ما بين قتيل وجريح خلال ساعات.

وقال خبراء الجامعة المرموقة إن الدافع وراء تجربتهم «هو الحاجة إلى تسليط الضوء على العواقب الكارثية المحتملة لخطط الحرب النووية الأميركية والروسية الحالية، إذ ازداد خطر اندلاع حرب نووية بشكل كبير بعدما تخلت الولايات المتحدة وروسيا عن معاهدات الحد من الأسلحة النووية التقليدية التي كانت موجودة منذ وقت طويل، وبدأت في تطوير أنواع جديدة من الأسلحة النووية، ووسعت الظروف التي قد تستخدم فيها أسلحة نووية».

بعد سيناريو الرعب هذا يبقى المخرج في أوكرانيا هو تجنب مزيد من التصعيد، وتشجيع الحل عبر التفاوض، لأن وضع بوتين في ركن ضيق والكلام عن إلحاق هزيمة بروسيا يزيد من المخاطر على أوكرانيا والعالم. أبعد من ذلك من المهم البحث في صيغ جادة للحد من انتشار الأسلحة وخفض الموجود منها سواء الاستراتيجي أو التكتيكي.

الشرق الأوسط

—————————

الخطر النووي جدِّي… ولا بد من مخرج لروسيا/ روبرت فورد

عندما كنت طفلاً في مدرسة ابتدائية في كولورادو عامي 1964 و1965، كنا نخوض بعض الأحيان تدريبات خاصة للتعامل مع هجوم نووي. كنا ننزل أسفل مكاتبنا وأيدينا فوق رؤوسنا وننتظر. اليوم، لاحظت أن أياً من طلابي في جامعة «ييل» لم يخض مثل هذه التدريبات خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ويعود ذلك إلى اعتقاد معظم الأميركيين أن خطر الحرب النووية انحسر.

ومثلما كتب عثمان ميرغني، الأسبوع الماضي، عبر صفحات هذه الصحيفة، فإن خطر نشوب حرب نووية بين روسيا والغرب ضئيل؛ لكنه آخذ في التنامي. وحذر الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف، في 26 مارس (آذار) من أن بلاده قد تستخدم الأسلحة النووية رداً على هجوم تقليدي يهدد وجودها. واللافت أن الروس، بداية من الرئيس فلاديمير بوتين، وصولاً إلى المحللين في التلفزيون الرسمي، يتحدثون صراحة عن استخدام الأسلحة النووية، وهم بذلك يبعثون برسالة واضحة. والسؤال الآن: هل تهديدهم هذا جاد؟

يكشف لنا التاريخ أن هذا السيناريو ممكن. على سبيل المثال، خلال الحرب العالمية الأولى، أدى الحصار الذي فرضته البحرية البريطانية على ألمانيا إلى توقف استيراد المواد الغذائية، ما تسبب في نقص الغذاء وتفشي الجوع داخل ألمانيا (فعلاً، مات آلاف الألمان جوعاً). أرسل الألمان شكاوى وتحذيرات، بما في ذلك إلى واشنطن؛ لكن الحصار البريطاني استمر. في نهاية الأمر، قررت الحكومة الألمانية عام 1917 التصعيد بشن هجمات غير محدودة في المحيط الأطلسي باستخدام غواصات للرد. واتخذت برلين هذا القرار مع علمها بأن القرار سيدفع واشنطن إلى الحرب.

وبالمثل، أضرت عقوبات أميركية عام 1941 بالاقتصاد الياباني على نحو خطير، لدرجة أن الحكومة العسكرية قررت مهاجمة الولايات المتحدة، على الرغم من أن قادتها العسكريين حذروا من أن اليابان لا يمكن أن تنتصر في الحرب على الولايات المتحدة.

خلال الحرب الباردة، كان هناك قادة متمرسون في الغرب اعتادوا دراسة كل بيان صادر عن موسكو بعناية، حول التصعيد النووي، والتفكير في أفضل الردود الغربية. على سبيل المثال، اشتهر هنري كيسنجر للمرة الأولى داخل الولايات المتحدة، ليس بسبب دبلوماسيته في السبعينات، وإنما في أوائل الستينات عندما كان أستاذاً في جامعة هارفارد، وألَّف كتاباً شهيراً دار حول فكرة رئيسية مفادها أن الحرب النووية المحدودة تمثل استراتيجية مفيدة.

كانت وجهة نظر كيسنجر، قبل ستين عاماً، أنه قد يكون من الضروري استخدام أسلحة نووية صغيرة لمنع الاتحاد السوفياتي من اجتياح أوروبا الغربية. تذكرني توصياته تلك بالحديث الروسي الآن عن التهديدات لوجود روسيا.

في المقابل، لا يتمتع الجيل الحالي من القادة السياسيين، في واشنطن والعواصم الغربية الأخرى، بالخبرة ذاتها لقادة مثل كيسنجر وريتشارد نيكسون، في التعامل مع القضايا المتعلقة بالحرب النووية والردع.

اليوم، يتعامل البيت الأبيض مع التحذيرات الروسية بشأن الأسلحة النووية على محمل الجد، لدرجة أن البيت الأبيض شكَّل فريق دراسة خاصاً من خبراء، للنظر في الاستجابات المناسبة إذا استخدمت موسكو أسلحة الدمار الشامل.

والسؤال الذي يفرض نفسه: كيف يمكن ردع موسكو الآن؟

من بين التعقيدات التي ينطوي عليها الأمر، أن العديد من أنظمة الصواريخ والمدفعية الروسية يمكن أن تستخدم قذائف تقليدية أو قذائف كيميائية أو نووية. والآن، كيف يمكن لـ«الناتو» معرفة إذا كان الروس يستعدون لتصعيد كبير؟

زار الرئيس جو بايدن مقر حلف «الناتو» في بروكسل في 25 مارس، لمناقشة الرد الممكن إذا صعّدت روسيا حربها داخل أوكرانيا، باستخدام أسلحة الدمار الشامل الصغيرة. تخيلوا، على سبيل المثال، إقدام روسيا على شن هجوم بأسلحة كيميائية، يرسل سحابة سامّة من أوكرانيا إلى بولندا أو رومانيا. هل هذا اعتداء على عضو في «الناتو» يتطلب تدخلاً مباشراً من الحلف في أوكرانيا؟

بايدن حذّر في 25 مارس من أن «الناتو» سيرد إذا استخدمت روسيا أسلحة كيميائية. وقال «مسؤول رفيع في الإدارة» لم يكشف هويته، في تصريح لصحيفة «نيويورك تايمز»، إن أي شيء ممكن إذا استخدمت روسيا سلاحاً نووياً صغيراً في أوكرانيا. ومع أن الأميركيين لا يتحدثون عن خط أحمر، فإنهم قريبون من ذلك.

في الواقع، لا نعرف ما إذا كانت موسكو ستستخدم أسلحة الدمار الشامل للهروب من الهزيمة في أوكرانيا، أو لمحاولة إجبار الغرب على تقليل الضغط الاقتصادي. القلق لدى بعض الخبراء هنا، داخل الولايات المتحدة، يدور حول أن القادة الغربيين عديمي الخبرة ربما يرتكبون أخطاء تؤدي إلى تصعيد غير مقصود. وعليه، فإن السبيل الأمثل لمنع أي تصعيد نووي يكون أولاً بالتوصل إلى وقف إطلاق النار في أوكرانيا. إلا أن هذا يبدو أمراً بعيد المنال؛ خصوصاً لأن البعض في واشنطن يرغب في نصر كامل لأوكرانيا، وليس مجرد وقف لإطلاق النار.

إضافة إلى ذلك، يمكن أن تنجح العقوبات الاقتصادية على نحو مفرط. وإذا توقع بوتين انهيار الاقتصاد الروسي، فإنه قد يتخذ قراراً محفوفاً بالمخاطر.. (لنتذكر ألمانيا عام 1917، واليابان عام 1941).

من الواضح أن بوتين يقبل المخاطر. لذلك، تحتاج واشنطن وحلفاؤها إلى تحديد قائمة بالإجراءات المحددة التي يمكن أن تتخذها موسكو مقابل تخفيض العقوبات. مع ذلك، كانت المناقشات في بروكسل حول زيادة العقوبات، وليس حول تقديم مخرج لروسيا. وإذ لا يزال خطر القتال بأسلحة كيميائية ونووية تكتيكية ضئيلاً، فإنه آخذ في الازدياد.

* خاص بـ«الشرق الأوسط»

الشرق الأوسط

———————————

للخروج من المأزق الأوكراني.. هل يشعل بوتين حروبا أخرى؟/ بسام يوسف

إذا كانت السياسة التي تقود العالم اليوم، وسابقاً، هي في جوهرها انعكاس القوة – على أنواعها – ومحاولة استغلال الآخر بتوظيف هذه القوة مهما يكن هذا التوظيف بشعاً ومدمراً، فإنها بالتأكيد ليست حقلاً للدفاع عن قيم الحرية والعدالة، كما يحاول معظم الساسة القول عند تبرير ما تفعله دولهم، وبما أن الدولة أيضاً التي هي محدد السياسة إلى حد كبير، فإنها تصبح بالتالي معرضة لفصام غير معلن بين مبادئها ومحدداتها وضوابطها المعلنة، وبين ما تمارسه فعلا، وبالتالي فإن أي قراءة لمجريات اللحظة الراهنة بدلالة غير دلالة النفوذ والاقتصاد والهيمنة، ليست أكثر من تجميل لا أهمية له، فلا بوتين ومن معه يريد “اجتثاث النازية” المزعومة، وحماية الشعب الأوكراني من نازية جديدة، ولا أميركا ومن معها تريد الانتصار للديمقراطية وقيم الحرية.

اليوم والعالم كله يعيش على إيقاع الحرب بين أوكرانيا وروسيا، تدخل البشرية في مرحلة ستؤسس لمعادلة عالمية جديدة، لا يُمكن توقّع مدى تفارقها عن المعادلة القائمة، فهذا ما سوف تحدده وقائعها القادمة، ونتائج الحرب الاقتصادية التي انفجرت بقوة، وإذا كانت المعركة العسكرية ما تزال محصورة في الجغرافيا الأوكرانية، فإن الحرب الاقتصادية الآن، تُخاض بشراسة في كل أرجاء العالم.

منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا – وبغض النظر عن فكرة المؤامرة – قررت أميركا أن تخوض هذه الحرب بخطة ثلاثية الأركان: الركن الأول، هو حصر الأعمال العسكرية جغرافياً ومنع تمددها، والركن الثاني، هو إعادة التماسك والقوة لتحالفاتها القائمة وفي مقدمتها “الناتو” والتي بدأت تشهد تشققات كثيرة، وتوسيع هذه التحالفات إن أمكن، والركن الثالث، هو تأجيج الحرب الاقتصادية ضد الحلف الذي تقوده الصين وروسيا، والطامح لكسر معادلات الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي.

يبدو أن أميركا كما روسيا، انطلقتا من حسابات لم تضع في حسبانها حصول مفاجآت كبيرة قد تغيّر مجرى الخطط المرسومة من قبلهما، فروسيا الذاهبة إلى احتلال بلد بالقوة العارية، اضطرت بعد شهر من حرب كشفت ثغرات فادحة في خططها العسكرية، وفي أداء وحداتها العسكرية، وفي تقديرها لقدرة خصمها على المقاومة، أن تعيد حساباتها عسكرياً، وأميركا التي لم تعر اهتماما كبيرا لتاريخ علاقاتها المتغطرسة والبشعة مع العالم، لم تتوقع أن ترى تصدّعات جديدة في بنية تحالفاتها، تصدّعات قد تقلب معادلة الحرب بوجهيها الاقتصادي والعسكري.

في معادلة جديدة، يحاول بوتين فيها مواجهة الخيار الأميركي الرامي لحصر العمليات العسكرية في الأرض الأوكرانية، عبر إشعال الحرب في مناطق أخرى، وتفجير صراعات تبدو خامدة على السطح، لكنها تتأجج في العمق، سواء في أذربيجان، أو في بحر “الصين” أو في منطقة البلقان، والأخيرة يريد بوتين منها أن تتسبب في إحداث تفارق، أو اصطفاف جديد لدول الاتحاد الأوروبي التي توحدت في مواجهته وهو الذي راهن على عدم قدرتها على التوحد وتحديدا في ضوء معادلة اعتمادها على الطاقة الروسية.

إذا استطاع بوتين تغيير معادلة الأمن الأوروبي، عبر إشعال حرب البلقان، أو عبر إغراقها بموجات ضخمة من اللاجئين، فإنه سيوجه ضربة قوية إلى المخطط الأميركي، وسيضع أميركا في مواجهة شرط جديد، قد يُفضي إلى إشعال حروب أخرى في مناطق أخرى من العالم، ما يعني الذهاب إلى حرب واسعة، ستجتاح مساحات واسعة من العالم.

كل هذه السيناريوهات المحتملة تضع المنطقة العربية أمام مفترق بالغ الخطورة، فهي عدا كونها دولاً هشَّة وتابعة، فهي أيضاً لم تضع في حسبانها أبداً لحظة كهذه، وبالتالي لم تخطط لها فيما إذا افترضنا أنها قادرة على التخطيط أصلاً، وعليه فإن السؤال الأهم اليوم الذي تواجهه هذا الدول هو: أين ستقف في المعادلة العالمية الجديدة؟

المؤشرات التي تظهر من خلال وتيرة اللقاءات المتسارعة في المنطقة، والمواقف التي تصدر عن بعض الأطراف، ومن خلال التصعيد من قبل الحوثيين واستهدافهم للمنشآت النفطية في الخليج، أو بعض المؤشرات العسكرية في سوريا، كل هذا يعزز من احتمال نشوء مواجهة ما، تُفضي إلى معادلة سياسية جديدة فيها، معادلة تنهي المعادلة السابقة، وتذهب لصيغة جديدة، تحضر فيها إسرائيل كطرف فاعل وأساسي، في مواجهة إيران التي تحاول أن تنجز بأسرع وقت ممكن اتفاقها النووي، كي تتفرغ لحماية تحالفاتها وميليشياتها في المنطقة.

ربما ستكون قراءة موقف النظام السوري هي الأسهل على المهتمين باحتمالات التغيرات السياسية في هذه المنطقة، فسوريا لم تعد دولة قادرة على اتخاذ القرار، إذ تحولت بعد ما يزيد على نصف قرن من حكم عائلة الأسد، وبعد سنوات ثورتها الإحدى عشىرة، إلى دولة بالغة الهشاشة والضعف، دولة مخترقة بكل مفاصلها، محكومة من الخارج وتُدار من قبله، وبالتالي فإن موقفها أو اصطفافها في المعادلة الجديدة، لن يكون بدلالة مصلحتها، أو بدلالة أهمية استثمار موقعها الجيوسياسي لصالح شعبها، بل سيكون لمصلحة الأطراف الخارجية المتحكمة بها (إيران وروسيا)، ومن يراهن على فكرة إخراج سوريا من النفوذ الإيراني، فسيصطدم بحقيقة أن النظام السوري غير قادر على اتخاذ قرار كهذا، حتى لو أراد.

 قد تهدأ الحرب في أوكرانيا قليلاً، دون أن تتوقف، لا سيما أن القيادة الروسية تذهب إلى تقليص أهداف عملياتها العسكرية، واقتصارها على تحرير منطقة تؤمّن ربط شبه جزيرة القرم بالبرّ الروسي، وعلى إنهاء أي علاقة تربط إقليمي “دونيتسك” و”لوغانسك” بأوكرانيا، فهي تدرك جيداً أنها غير قادرة على مواجهة حرب استنزاف طويلة في مساحة واسعة، وبمواجهة مقاتلين أثبتت الأيام الأخيرة مدى قدرتهم وتصميمهم، ومدججين بأسلحة متطورة، لكن هذا لا يعني أبداً توقف المعركة، وبوتين المسكون بعظمة روسيا والمهووس بدور القوة، قد يرى أنه من صالح روسيا إشعال الحروب في مناطق أخرى من العالم، سواء في البلقان أو سوريا، وصولاً إلى لبنان واليمن والخليج العربي عبر إيران، كل هذا يضع احتمال أن تصبح منطقة الشرق الأوسط ساحة صراع عسكري جديدة، مثل أوكرانيا وسوريا، ساحة مفتوحة على احتمالات عديدة، ستحدد الدول الكبرى نفوذها وحضورها على ضوء نتائجها، لكنها بالتأكيد لن تكون في صالح معظم شعوبها ودولها.

تلفزين سوريا

———————

الوحل الأوكراني يخنق بوتين ويربك أوروبا/ أحمد مظهر سعدو

تتواصل الحرب التي بدأها الرئيس الروسي بوتين على أوكرانيا وشعبها، وتستمر آلة الحرب الروسية بتنفيذ مقتلتها الجديدة في أراضي أوكرانيا، كما تلج روسيا أكثر وأكثر عبر الغرق اليومي في وحل أوكراني، لايبدو أن الخروج منه بات سهلًا، كما لا يبدو أن الغوص فيه كان الخيار الأفضل لبوتين وسياساته الإقليمية التي أرادها تمددًا إمبراطوريًا، وتوسعًا إقليميًا، وتحقيقًا لحلم طالما راوده طويلًا، لإعادة قيام الاتحاد الروسي على أنقاض الاتحاد السوفييتي المنفرط عقده منذ أكثر من ثلاثة عقود خلت.

لقد بدأ بوتين في الشيشان مسبقًا ثم في جورجيا وبعدها في بيلاروسيا، ثم سوريا، وشبه جزيرة القرم، وصمتَ العالم الغربي دون التحرك ضمن أي مسارات جدية تؤدي إلى لجمه وإنهاء تمدده الخطر في نظام عالمي جديد أراده بوتين على حافة الانتهاء من حرب باردة طويلة الأمد. حيث لا يمكن الحديث عن تلك الفسحة التي وجد بوتين ونظامه الأمني العسكري نفسه فيها أمام الباب الموارب الذي ما كان ينظر (من خلاله) إليه حلف الناتو إلا بمثابة الرخصة الغربية أو العجز الذي أمكن نظاماً روسياً ناشئاً من أن يستمر فيه عبر توسعه على حساب الآخرين.

وإذا كان انشغال الغرب الذي كأنه أكثر اهتماماً بما تفعله اقتصادات الصين الوالغة في عمق التجارة والاقتصاد الغربي والأميركي على وجه الخصوص، إذا كان ذلك مهمًا بالنسبة للغرب فإنَّ تلك الانشغالات قد أعطت المجال من دون قصد لطموحات بوتين من أن تتحقق وهو يتحرك إلى الدول الإقليمية في محاولة حقيقية لإعادة أمجاد دولة كبرى سادت ثم بادت، وكانت تشكل قطبية ثنائية أعطت للعالم بعض التوازن، وأفسحت المجال إلى عملية نشوء كتلة ثالثة كانت تسمى دول عدم الانحياز، لكن اليوم ومع تفرد أميركا في قطبية منفردة منذ عام 1991 وحتى الآن، يحاول بوتين اليوم إعادة رسم ملامح عالم جديد بالحديد والنار، ضمن ىسياقات الحرب الأوكرانية، وضمن هذه التفاعلات الدراماتيكة للمسألة الأوكرانية ينظر المتابعون إليها من منظار غربي يريد لبوتين (هذه المرة) المزيد من الغرق في الوحل الأوكراني، والمزيد من الضياع الجيوسياسي، والكثير من التذرر الداخلي، وهم في ذلك ينطلقون ويتكئون على معطيات مهمة يبدو أنها موضوعية ومنها:

-استمرار تدفق شحنات الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا التي لم يسبق لها أي مثيل خلال السنوات الثلاثين المنفرطة، وهو ما سيؤدي إلى إطالة أمد الصراع بكلفة عالية على الروس والأوكرانيين على حد سواء، ما سيسهم في غرق الإمبراطور الروسي الحالم، ويجعل منه طالبًا النجدة، أو يحرض على فعل عسكري انقلابي روسي عليه قد لا يكون بعيدًا بحسب النظرة الغربية.

– صحيح أن بوتين في البدء قد نجح في حشد الشعب الروسي لدعم حربه في أوكرانيا، حيث تقول مراكز استطلاع روسية إنها أجرت استطلاعًا حديثًا أظهر أن ما بين 70% و74% من الروس يدعمون بوتين، وأن الأمر لا يتعلق بإنهاء الحرب، بل بإدارتها بقوة أكبر. لكن ذلك ومع استمرار تصاعد العقوبات اضطرادًا، والاستمرار في خنق الاقتصاد الروسي الذي لم يكن بالأصل في حالة صحية، والمزيد من وصول جثامين الجنود الروس، هل سيسمح لهذا الاستطلاع أن يبقى على ماهو عليه إذا افترضنا صحته بالأساس.

– علاوة على أن السلاح الروسي الذي يعلوه الكثير من الصدأ حيث ورثه من تكدس السلاح خلال الحقبة السوفييتية، لم يعد بإمكانه الدخول في حروب طويلة الأمد، وقد ظهرت علامات تقهقره الكثيرة على الأرض الأوكرانية في كثير من عمليات التراجع التي حصلت، وهو بذلك ينكشف أمام الآلة العسكرية الغربية والأميركية منها، الأكثر حداثة وتطورًا. وهو ماسينعكس على طموحات بوتين العسكرية والتمددية، إذ لم تعد روسيا تلك الدولة العظمى كما كانت أيام الاتحاد السوفييتي.

– كما أن التلويح بحرب نووية لا تبقي ولا تذر، هو ضرب من الجنون لا يعتقد أحد أن بوتين قد يقدم عليه مهما تعرض لانتكاسات وتراجعات وخسائرـ لأن مثل هذه الحرب فيما لو حصلت فإن الجميع سيكون خاسرًا، والجميع سوف يتلاشى، وستكون حربًا لم يتخيلها أحد.

– وإذا كان الرئيس الأميركي “جو بايدن” قد قال في خطاب (وارسو) أن العالم يجب أن يستعد لـ “معركة طويلة في المستقبل” فهو بذلك يؤكد لبوتين أن نَفَسَ الغرب طويل، وأن الغرب لن يستسلم أمام عسكريتارية بوتين الطامحة، ومن ثم فإن التصميم الغربي أكثر جدية لإغراق بوتين في الوحل والطمي الأوكراني، وملامح السلاح الذي يتدفق لدعم الأوكرانيين تشير إلى ذلك. وهذا يبين أيضًا أن الأميركان من الممكن أن يكونوا أكثر سرورًا مما فعله بوتين، حتى لو كان على حساب تدمير البنية التحتية للأوكرانيين، أو تراكم وازدياد أعداد القتلى من الأوكرانيين أو الروس. ومعروف أن الأميركان لا يلقون بالاً إلى عمليات القتل أو التدمير لا في أوكرانيا ولا في سوريا قبل ذلك، وهم من صوروا من الجو كل مجازر الأسد الأب والابن منذ جريمة (حماة) وحتى كيماوي خان شيخون، ولم يحركوا ساكنًا بل ظلوا يلعبون في السياسة التي تؤدي إلى أمان إسرائيل ومصالح أميركا في شمال شرقي سوريا وما يزالون.

قد يقول قائل (إنها نهاية حقبة مابعد الحرب الباردة) وقد يثني آخر أنها ارهاصات عالم جديد متعدد القطبية، أو ثنائي القطبية، لكن واقع الأمر يشير إلى أن الدولة العظمى الأميركية صاحبة القطبية الوحيدة لم تصل بعد إلى حافة انفراط عقدها، أو تشتت قوتها، أو انهيارها العسكري، وهي ما تزال حتى اليوم صاحبة اليد الطولى في كل شيء عالميًا، وهي اليوم باتت في وضع صحي وانبساطي، مع إعادة انشداد عصب حلف الناتو الذي شابه الكثير من الترهل خلال السنوات المنصرمة، وهي تجد أن مافعله بوتين قد أفادها كثيرًا في حالة يقظة الأوروبيين الذين استفاقوا على قوة عسكرية كبرى باتت تقرع أبوابهم مما دعا الكثير منهم إلى إعادة ضخ الأموال باتجاه قيام بنيان عسكري قوي يواجه الخطر القادم من الشرق، وهو الذي فيما لو ترك فإنه يصبح على الأبواب، أي على حدود حلف الناتو.

وتبقى الأسئلة الجدية والموضوعية قائمة وهي: هل سيستمر بوتين في حربه على أوكرانيا دون تحقيق ماجاء من أجله؟ وهل يمكن أن يتفجر في وجهه انقلاب عسكري يوقف توغله الامبراطوري يقضي على أحلام اليقظة التي تنتابه بين الحين والآخر؟ وهل يمكن أن يقوم الحلف الجديد بين روسيا والصين ومعهم بعض الدول مثل كوريا الشمالية وغيرها؟ وهل تتطلع الصين بالأصل إلى مثل ذلك على حساب نهوضها الصناعي والتجاري العالمي؟ أسئلة كثير ما زالت برسم المتغيرات الآنية والمستقبليىة، والكثير من المتغيرات التي من الممكن أن تتمظهر وتخرج إلى السطح فتودي بأحلام الرئيس الروسي بوتين إلى الحضيض.

—————————-

الحل السويدي للحرب الأوكرانية/ عثمان ميرغني

الحرب الأوكرانية بتشعباتها وتداعياتها، تثير الكثير من الأسئلة. فهذه حرب كان يمكن تفاديها، ومفاتيح الحل للأزمة كانت معروفة، مثلما أن طرق التصعيد كانت واضحة، والمخاطر أيضاً معروفة. هذه لم تكن من نوع الأزمات المفاجئة، بل كانت على الطاولة منذ 14 عاماً تقريباً عندما رحبت دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) في «إعلان بوخارست» بتطلعات أوكرانيا وجورجيا للانضمام للحلف، وهو ما قوبل برفض وتحذيرات من موسكو. منذ ذلك التاريخ كان واضحاً أن روسيا ستذهب إلى أبعد مدى لمنع انضمام أي من هاتين الدولتين للناتو، وعلى الرغم من ذلك لم تحدث خطوات جدية لنزع فتيل الأزمة ومعالجة القلق الروسي من توسع الناتو، بل مضت الأمور في اتجاه حذّر كثيرون من أنه قد ينتهي بكارثة على أوكرانيا وربما على العالم.

المحير أن الحل المطروح الآن لوقف الحرب، هو ذاته الذي كان يمكن أن يمنع وقوعها، وهو أن تكون أوكرانيا دولة محايدة وتتخلى عن السعي للانضمام للحلف. وقد فتح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نافذة أمام هذا الحل عندما أقر هذا الأسبوع بأن «هناك حقيقة يجب الاعتراف بها، وهي أنه لا يوجد طريق لأوكرانيا إلى الناتو».

لماذا تركت الأمور لتصل إلى حد الحرب إذن ما دام الطريق لتفاديها كان معروفاً؟

الرئيس الأوكراني وعدد من السياسيين في بلاده لمّحوا عدة مرات منذ اندلاع الحرب إلى أنهم «ضُللوا» وسمعوا كلاماً كثيراً عن «الباب المفتوح» لعضوية الناتو ليفاجئوا اليوم بأن الأمر ليس كذلك على الأقل في المستقبل المنظور. كذلك ربما وضعوا في حساباتهم أن الغرب سيتدخل لحمايتهم في حال حدوث اجتياح روسي، لا سيما بعد التحذيرات القوية التي كانت تصدر من واشنطن ولندن وعواصم غربية أخرى بأن الرئيس الروسي سيدفع ثمناً باهظاً إذا دفع بقواته إلى أوكرانيا.

الواضح أنه مثلما يقال أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ارتكب خطأ مكلفاً باتخاذه قرار اجتياح جارته، فإن هناك أيضاً من يرى أن كييف أخطأت الحسابات وأسهمت في التأجيج قبل الحرب. وفي هذا الصدد كتب إيان بريمر المحلل السياسي الأميركي ومؤسس المجموعة الأوروبية الآسيوية (يوراسيا) لدراسات المخاطر السياسية العالمية «لديّ رأي متضارب في زيلينسكي. فهو من ناحية شجاع جداً، ولديه قدرة على التواصل وحشد شعبه والمخاطرة الشخصية في كييف أثناء الغزو. لكنني في صراع شديد فيما يتعلق بتقييمه، لأنني أعتقد أن العديد من الخطوات التي اتخذها في الفترة التي سبقت الصراع عززت في الواقع احتمالية نشوب الحرب. فهو لم يكن مستعداً لأخذ نصيحة الأميركيين ولا الأوروبيين على محمل الجد في الأشهر التي سبقت الصراع. وكان بالتأكيد غير راغب في التخلي عن شبر واحد فيما يتعلق برغبة أوكرانيا في أن تكون عضواً في الناتو على الرغم من أنه كان يعلم تماماً أنه لا يوجد أحد في الحلف مستعد لتقديم خطة عمل لعضوية أوكرانيا، ناهيك عن ضمها فعلياً للتحالف».

بغض النظر عن الأسباب التي قادت زيلينسكي لهذه الحسابات الخاطئة وما إذا كانت تعود إلى عدم حنكته السياسية وقلة خبرته، أم إلى عدم قراءته بشكل صحيح للتصريحات الصادرة من الغرب، فإن النتيجة هي أن أوكرانيا تدفع الآن ثمناً باهظاً، وستضطر في النهاية إلى القبول بحلول كانت ستجعلها تتفادى تبعات الحرب لو أنها قبلت بها منذ البداية. الأدهى من ذلك أنها ربما تفقد الآن المزيد من أراضيها في الشرق بعدما اعترفت روسيا بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك ووسعت مناطق سيطرتها في منطقة القرم.

روسيا أيضاً لن تستطيع تحقيق كل أهدافها لا سيما ما يتعلق منها بتغيير النظام، ووضع جارتها الأصغر تحت هيمنتها التامة. فهي أيضاً أخطأت الحسابات عندما اعتقدت أنها يمكن أن تحقق نصراً خاطفاً وتجتاح أوكرانيا في وقت وجيز لأن الغرب لن يتدخل عسكرياً خوفاً من تحول النزاع إلى حرب عالمية نووية.

اتضح منذ الأسبوع الأول للاجتياح أن حسابات النصر السريع لم تكن صحيحة، فأوكرانيا استطاعت بفضل الكميات الكبيرة من الأسلحة المتطورة التي حصلت عليها من الغرب قبل وإبان الحرب، إبطاء زحف القوات الروسية وإلحاق خسائر فادحة بها. فالدول الغربية أرسلت، وفق التقارير التي نشرتها وسائل الإعلام الغربية، أكثر من 17 ألف صاروخ مضاد للدبابات، وأكثر من ألفي صاروخ مضاد للطائرات، وأسلحة متنوعة أخرى إلى أوكرانيا التي حصلت أيضاً على طائرات «درون» مسلحة من تركيا ومصادر أخرى.

وعلى الرغم من أنه ليس هناك من يعتقد أن أوكرانيا يمكن أن تنتصر على الجيش الروسي، إلا أن الدعم العسكري الغربي الكبير يعني رفع كلفة الحرب على موسكو، وتحويلها إلى حرب استنزاف قاسية كلما طال أمد بقاء القوات الروسية. وقد سبق للرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أن أشارا إلى احتمال «حرب طويلة»، وهو سيناريو لن يكون مكلفاً لروسيا وحدها بل للعالم كله، بسبب تعقيدات هذه الحرب وتبعاتها على الاقتصاد العالمي والأمن.

قد يكون هناك من يفكر في حرب استنزاف ترهق روسيا وتضعف بوتين، لكن مثل هذا الأمر يحمل مخاطر عالية في طياته. ذلك أن بوتين يمكن أن يصعّد إذا اشتدت الضغوط عليه، ووقتها يزداد خطر اندلاع حرب عالمية، قابلة لأن تتحول إلى حرب نووية.

ما المخرج إذن؟

الحروب تندلع بالسلاح وتنتهي بالمفاوضات، وأوكرانيا لن تكون استثناء. فالمفاوضات جارية الآن على الرغم من التصعيد على جبهات القتال، وفي الحرب الإعلامية. ومنذ يوم الثلاثاء بدأت تصدر بعض الإشارات على أن المفاوضات تحرز تقدماً، وهو ما أكده الرئيس الأوكراني زيلينسكي مثلما أكده وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.

الحل المطروح هو أن تكون أوكرانيا دولة محايدة على غرار السويد أو فنلندا، وتتخلى عن فكرة الانضمام للناتو مقابل حصولها على ضمانات أمنية من الغرب ومن روسيا ذاتها. هذا الحل قد يكون مخرجاً لكل الأطراف، فهو يمهد لوقف الحرب وفتح الباب أمام تسوية الأمور الأخرى، وهي أيضاً ليست سهلة لكنها قابلة للحل إذا أزيلت العقدة الأكبر المتمثلة في عضوية الناتو.

العواصم الغربية لم تكن تستطيع أن ترفض علناً انضمام أوكرانيا لحلف الناتو لأن ذلك يعني أنها رضخت لروسيا، لذلك قالت إن الأمر يعود إلى كييف فهي التي تقرر ما إذا كانت تريد وقف المطالبة بعضوية الناتو. هذا الموقف العلني، لكن في الواقع ظلت مسألة انضمام أوكرانيا للحلف معطلة منذ 14 عاماً إما لأسباب داخلية أوكرانية، أو لحسابات الناتو ومعارضة بعض أعضائه للخطوة التي كان معروفاً أنها ستقود إلى رد روسي قوي.

كييف بعد أن دفعت الثمن الباهظ للحرب ووجدت أن الباب ليس مفتوحاً للدخول في الناتو كما كانت تعتقد، تبدو أكثر قابلية لفكرة الحل الحيادي. التحدي بالنسبة للناتو وروسيا هو أنه إذا قبلت أوكرانيا هذا الحل، لكن في الوقت ذاته قررت السويد وفنلندا التخلي عن الحياد وتحركتا جدياً لطلب عضوية الحلف، هل يواجه العالم وقتها أزمة أخرى؟

الشرق الأوسط

——————————

روسيا تخجل بقتلى حروبها/ بسام مقداد

منذ إنطلاق حرب بوتين على أوكرانيا تكثر على شبكات التواصل الإجتماعي دعوات المسؤولين والمدونين الأوكران الى الروس لسحب جثث قتلاهم من ساحات المعارك. وفي وقت تنشر وزارة الدفاع الأوكرانية دورياً بلاغات عن عدد القتلى من المدنيين والعسكريين الأوكران، لم تنشر وزارة الدفاع الروسية مثل هذه البلاغات سوى مرتين  24و 25 من الشهر الجاري. كما يشار إلى أن السلطات الأوكرانية نشرت غير مرة لقاءات للصحافة العالم (“المدن” مدرجة على قائمة الصحافة العالمية التي تطلعها وزارة الدفاع الأوكرانية على كل ما يصدر عن الحرب من الجانب الأوكراني) مع أسرى روس لديها، وهذا ما لم تقم به السلطات الروسية ولا مرة.

صحيفة  Novaya الليبرالية المعارضة(أحد كتاب الصحيفة أبلغ “المدن” أمس الإثنين أن الهيئة الروسية الناظمة للإعلام إتخذت قراراً بإقفالها) نشرت في 25 من الجاري نصاً بعنوان “… لماذا يخجل الوطن بالتحدث عن جنوده القتلى في ساحة المعركة”. النص، على وصف الكاتب السياسي في الصحيفة، عبارة عن ملاحظات من وداع مدينة سيبيرية لأحد شبابها الذي قتل في الحرب على أوكرانيا. ينقل الكاتب عن صحيفة سيبيرية قولها بأن البلدية لم تعلن عن مأتم الوداع على موقعها الرسمي، بل على مواقع التواصل الإجتماعي الخاصة بها، على الرغم من أن رئيسي البلدية ومجلس المدينة حضرا مأتم الوداع. كما أن الصحيفة السيبيرية نفسها لم تنشر التحقيق عن المأتم ووثائق الجندي على صفحاتها، بل نشرتها على مواقع التواصل الإحتماعي أيضاً. 

يتساءل الكاتب عن السبب في ما يسميه “عدم الثقة بالنفس” هذه التي تحول دون التبني الرسمي لمأتم وداع جندي، ويقول إذا كان الناس يؤمنون بأحقية قضيتهم، لن يصمتوا عن خسائرهم في الدفاع عنها، بل يعتزون بها، بالأبناء الذي سقطوا في سبيلها. كما يتساءل ما إن كان عدم الثقة هذا يخفي وراءه حيلة آخرى لكي يبقى الشباب يغنون أغاني موسيقى البوب التي أنشدوها في مأتم زميلهم، ولا يفكرون بأي شيئ آخر.

في ظل غياب المعلومة من الخارج والأعصاب التالفة والمستقبل المتفحم، في ظل الأعين المعصوبة والآذان الصماء، لا يستطيع أي جسم حي، أي مجتمع، أي شعب أن يختار الطريق الصحيح إلى أين يذهب، أين يهرب. “إنه موقف إنتحاري”.

“العملية الخاصة” بدأت قبل شهر من الآن، ولم تعلن وزارة الدفاع عن أعداد القتلى والجرحى سوى مرة واحدة في 2 من الجاري. وبتساءل الكاتب، لماذا حتى اليوم يتعين علينا أن نخمن حجم  الخسائر المفترضة من عدد الجرحى، وهؤلاء بدورهم يخمنوها من المشتريات غير الملحوظة من الأدوية للمستشفيات، من ما تنشره المدارس عن متخرجيها الذين سقطوا، من جنّازات الكنائس للقتلى الجدد من العسكريين.

يقول الكاتب أنه بينما كان يعد النص للنشر، علم بمقتل إثنبن آخرين من المنطقة السيبيرية. وإذا كان حاكم المنطقة هو من تولى شخصياً نعي القتيل الأول من أبناء المنطقة برتبة رائد، لكن، “حين تكاثرت التوابيت”، ترك الأمر للسلطات المحلية أن تعلن الوفاة أو “تصمت”. ولم يعد الحاكم إلى أنباء الحملة إلا حين كتب معلناً منح وسام “بطل روسيا” الى قتيل جديد من أبناء المنطقة برتبة كابتن.

الخدمة الروسية في “الحرة” الأميركية نشرت الإثنين في 28 الجاري مقابلة مع مسؤول (بقي إسمه مستتراً) في مدينة صغيرة في منطقة دانتسك غبر الخاضعة للسلطات الأوكرانية. يقول المسؤول “أسرانا في كل مكان، من سومي (مدينة في شمال شرق أوكرانيا) إلى نيكولاييف ( مدينة على ساحل البحر الأسود جنوب أوكرانيا). ويتساءل عن الإستفتاء الذي أعلن عنه قبل يوم من المقابلة رئيس ما يسمى “جمهورية لوغانسك” ليونيد باستشنيك بشأن الإنضمام إلى روسيا، فيقول بأنه لا يفهم كيف يمكن أن يجري الإستفتاء والمدارس،المكان التقليدي لإجراء الإنتخابات، تعج بالمهجرين ويشغل طبقة في إحداها الجرحى الأوكرانيون الأسرى.

وكان موقع الخدمة عينها قد نشر السبت المنصرم مقابلة أيضاً مع أسرة مجند روسي بعنوان “مجند. أسرة تنتظر مجنداً وقع في الأسر بأوكرانيا”. ينقل الموقع عن والدة المجند قولها بأن إبنها الذي استدعي للخدمة العسكرية الإلزامية السنة الماضية، كانت تنتظر عودته في تموز يوليو القادم. لكن في شباط/فبراير المنصرم تغير كل شيئ، حين تلقت إتصالاً من رقم هاتف أوكراني يطلعها فيه بأن إبنها أسير في أوكرانيا. وتلقت عروس المجند النبأ عينه على الإنستغرام. لاحقاً أتاحوا للأم إمكانية التحدث عبر الفيديو إلى إبنها ذي العشرين عاماً. تقول الأم بأن إبنها نفى أن يكون قد وقع عقداً للخدمة العسكرية، وأشارت إلى أن الناطق بإسم وزارة الدفاع الروسية أعلن في 9 من الجاري عن وقوع مجندين إلزاميين روس في الأسر بيد وحدة عسكرية أوكرانية. ومنذ ذلك اليوم والأم تنتظر مع العروس معلومة ما من السلطات، وتوجهتا إلى النيابة العامة العسكرية والصليب الأحمر وFSB (وريثة KGB السوفياتية) وإدارة البحث الجنائي، لكن من دون جدوى. وتقول الأم بأن لجنة التجنيد التي ترسل المجندين إلى موقع الخدمة “لا تعرف شيئاً”، ولا تعرف أين هو، بل “تسألنا نحن”.

الصحافية الروسية المستقلة التي تنشر مقابلاتها على موقعها في Telegram Canal مع مختلف الشخصيات الروسية والأوكرانية كاترينا غاردييفا، نشرت في 5 من الجاري مقابلة مع عضو المجلس الإجتماعي في وزارة الدفاع الروسية والسكرتيرة التنفيذية لإتحاد جمعيات أمهات الجنود الروس فالنتينا ميلنيكوفا.

تقول ميلنيكوفا بأن الروس يسحبون الجرحى من ساحة المعركة، لكنهم لا يسحبون القتلى الذين يمكن العثور عليهم في مقابر أوكرانية ما. وتشير إلى أن العادة جرت أن تعلن أثناء المعركة هدنة قصيرة لسحب الجرحى والقتلى، لكن الروس لا يقومون سوى الجرحى. وهي تستقي معلوماتها عن الأسرى والقتلى من القوائم الإسمية الأوكرانية التي تنشر دورياً. في حين لا ينشر الروس مثل هذه القوائم، بل ينشرون أسماء الوحدات المقاتلة وعدد القتلى والجرحى فيها. وتقول بأن روسيا وقعت على ثلاث معاهدات دولية وملحقاتها بشأن الحقوق المترتبة للقتيل العسكري وحق أسرته في دفنه وفق تقاليدها، لكن روسيا تضرب بعرض الحائط بهذه المعاهدات وسواها الكثير.

تتذكر ميلنيكوفا بأنها زارت مدينة ألمانية في إطار نشاطها، ونظمت لها الجهة المضيفة زيارة إلى مقبرة روسية إنكليزية لقتلى الحرب العالمية الأولى، وتقول بأنها صدمت لما شاهدته. في القسم الإنكليزي من المقبرة رأت صفوفاً من نُصب المرمر الأبيض حفر على كل واحدة منها إسم القتيل وموطنه ووحدته العسكرية وتاريخ ميلاده ومكان مقتله ونبتة ورد إلى جانب النصب. أما في القسم الروسي فرأت مساحة من الأرض تغطيها الأعشاب البرية، مزروعة بصلبان خشبية تكاد لا ترى ولا تحمل أية كتابة عليها. وحين سألت مضيفيها الألمان عما شاهدته، ردوا عليها بأن لديهم قوائم بالقتلى العسكريين الروس وكل معطياتهم الشخصية، وأثاروا المسألة غير مرة مع الروس، لكنهم لم يتلقوا أي رد.

تؤكد هذه السيدة بأن الحرب الروسية الوحيدة التي نشرت فيها وزارة الدفاع قوائم إسمية بالقتلى والجرحى والأسرى، كانت الحرب مع جورجيا العام 2008. وتتذكر أنه سقطت في تلك الحرب طائرة إستراتيجية روسية بوسعها حمل سلاح نووي، نجا مساعد قائد الطائرة، لكن قائد الطائرة فقد ولم ينجل مصيره حتى الآن. وحين ألحت زوجته لاحقاً على الجهات المعنية لمعرفة مصير زوجها، تم تهديدها بإنتزاع المسكن منها وكل مخصصات زوجها. وتتساءل ميلنيكوفا كيف يمكن إهمال مثل هذه المسألة، وعدد قادة الطائرات الإستراتيجية لا يتجاوز 40 قائداً في كل روسيا.

————————–

لِم تُساير إسرائيل روسيا إلى هذا الحد؟

لا ينسجم صوت إسرائيل مع باقي الأصوات “الغربية” حول الأزمة الأوكرانية، حيث يرفض قادتها مواجهة فلاديمير بوتين الذي تربطهم معه مصالح استراتيجية واقتصادية، حتى لو كلّفهم ذلك إغضاب الحليف الأمريكي.

ترجمت المقال من الفرنسية سارة قريرة.

منذ بداية الاجتياح الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط، تبنّت إسرائيل موقفا سياسيا فريدا من نوعه وسط ما يُسمى عادة بالـ“معسكر الغربي”. صحيح أنها صوّتت (بعد تلكّؤ) في الثاني من مارس/آذار على القرار الذي اعتمدته 141 دولة خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة، لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا ومطالبة موسكو بسحب قواتها، لكنها رفضت تبني العقوبات الاقتصادية ضد موسكو وعدد من قادتها، كما رفضت مدّ كييف بمعدات عسكرية حتى وإن كانت “دفاعية”. بل لم تكن إسرائيل مستعدة حتى الآن لتزويد كييف بنظام الدفاع الجوي المسمى بـ“القبة الحديدية”، والذي تستخدمه ضد الصواريخ التي تستهدفها من قطاع غزة أو جنوب لبنان، ولم تقترح على الأوكرانيين سوى إرسال ملابس أو مستشفى ميداني. أخيرًا، رفضت إسرائيل منذ بداية الحرب دخول اللاجئين الأوكرانيين إلى أراضيها.

بالموازاة مع ذلك، تسعى إسرائيل إلى أن تقدّم نفسها على الساحة الدولية كوسيط بين موسكو وكييف. وكان رئيس الوزيراء نفتالي بينيت من الشخصيات الدولية النادرة التي استقبلها فلاديمير بوتين مطوّلا في موسكو، في الخامس من مارس/آذار. ووفق جريدة “فايننشال تايمز” في عددها ليوم 16 مارس/آذار، فقد قدمت إسرائيل لكل من الروس والأوكرانيين “خطة” بـ15 نقطة لوضع حد لهذه الحرب

1

.

غارات جوية على سوريا

لا شك أن موقف إسرائيل متأثّر جدًا بالمكانة التي تحظى بها روسيا في الشرق الأوسط منذ 2015. فقد سبق وصرّح وزير الخارجية (والذي سيصبح وفق اتفاق ائتلافي رئيسًا للوزراء) يائير لابيد، أن “لإسرائيل حدودًا مشتركة مع روسيا” منذ تدخل موسكو العسكري والقوي في الصراع الداخلي السوري، ما يفرض على إسرائيل عدم تجاهل هذه القوة السياسية. وعليه فقد تفاوضت إسرائيل على اتفاق تنسيق ضمني مع موسكو، يسمح لها بقصف مواقع عسكرية إيرانية في سوريا، ومواكب نقل أسلحة إيرانية إلى حزب الله في لبنان. لا يزال هذا الاتفاق قائم الذات إلى اليوم، رغم بعض العوائق الطفيفة، مما سمح لإسرائيل بالقيام بمئات الغارات الجوية في سوريا على مدار السنوات الخمس الماضية، ومؤخرًا، بتدمير مئات طائرات بدون طيار إيرانية في سوريا.

هذا هو بالأساس الاتفاق الذي تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى الحفاظ عليه من خلال رفض تبنّي العقوبات الدولية ضد موسكو. إذ يقول جيورا إيلاند، وهو لواء سابق ومدير سابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي إنه “إذا قرر الروس قطع خط الهاتف الأحمر، فيجب أن نفكّر في إمكانية مواصلة ضرباتنا في سوريا من عدمها”

2

. قد يكون للخلاف مع موسكو عواقب وخيمة إذا قررت روسيا على سبيل المثال وردّاً على ذلك التشويش على إشارات الملاحة المخصصة للنقل العسكري، بل والأسوأ من ذلك، على تلك الخاصة بالنقل المدني. كما تخشى الدوائر الأمنية الإسرائيلية أن تؤدي استحالة استمرار إسرائيل في غاراتها الجوية على إيران في سوريا إلى “انتصار حزب الله” اللبناني، والذي ستصل إمداداته من الأسلحة الإيرانية في تلك الحالة إلى مستوى لم نشهده حتى الآن. باختصار، لا يُمكن لإسرائيل أن تخاطر بإغضاب الدب الروسي أكثر من اللزوم.

ثِقل الأوليغارشية الروسية

لكن هناك سبب آخر قد يفسّر هذا التهاون الإسرائيلي تجاه موسكو. فبين 8 و11 مارس/آذار، حلّقت في سماء إسرائيل ما لا يقل عن 14 طائرة خاصة قبل أن تحطّ الرحال في مطار بن غوريون، قرب تل أبيب. وقد كان على متن هذه الطائرات عدد من الأثرياء الروس الذين ينتمون إلى الأقلية الحاكمة، برفقة عائلاتهم وأقاربهم، ولا شك أنهم كانوا يحملون في أمتعتهم أصولا مالية نجحوا في أخذها معهم. نجد من بين هؤلاء رومان أبراموفيتش، مالك نادي تشيلسي الإنكليزي، والذي نجح قُبيل رحيله في الحصول على الجنسية البرتغالية، ليصبح بذلك أوروبيا، على أمل ألا تطاله العقوبات الأمريكية والأوروبية. في الأثناء، قرّر أبراموفيتش توخي الحذر وترك القارة الأوروبية للجوء إلى بيته في إسرائيل، علمًا وأنه تم فتح تحقيق ضده في البرتغال حول طريقة حصوله على جنسية هذا البلد من خلال شهادة زور.

يعود استقبال هذه الأقلية الثرية -والتي تعدّ الكثيرين من مقرّبي بوتين- إلى سببين، أوّلهما هو كون هؤلاء الأثرياء يهودًا، على عكس معظم عناصر الأوليغارشية الروسية، ما يجعلهم يستفيدون من “قانون العودة” الذي ينص على أن أي يهودي يحصل على الجنسية الإسرائيلية على الفور، بمجرد استقراره في البلد. أما السبب الثاني، فهو بكل بساطة كون إسرائيل هي إحدى الدول “الغربية” القليلة التي لم تتبنّ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة والقرارات الأمريكية والأوروبية بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا ذات بُعد غير مسبوق حتى الآن، ولا العقوبات الموجهة بشكل خاص إلى الأوليغارشية الروسية.

روابط سياسية

بيد أنه من غير الصعب تفهم دوافع القادة الإسرائيليين لحماية هؤلاء الأثرياء اليهود. فقد استقرّ بعضهم في إسرائيل بينما واصلوا امتلاك أصول مهمة في روسيا وحولها (في حين أن غيرهم يحمل الجنسية الإسرائيلية فقط ولديه استثمارات في إسرائيل لكن دون الإقامة فيها بشكل منتظم، مثل أبراموفيتش)، وقد جاؤوا بشكل أساسي من موسكو أو لينينغراد، ولكن أيضًا من كييف وطشقند وأماكن أخرى بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. بلغ عدد هؤلاء العشرات، وقد دخلوا في علاقات تجارية مع العديد من السياسيين الإسرائيليين لِما رأوا في ذلك من حماية إضافية، بينما وجد الإسرائيليون في هذه العلاقة صداقةً مدفوعة الأجر -وبسخاء. فلو أخذنا مثلاً زعيم اليمين الاستعماري العلماني المتطرف في إسرائيل ووزير المالية الحالي ووزير الدفاع السابق أفيغدور ليبرمان، فهو معروف بعلاقاته الكثيرة مع العديد من عناصر الأوليغارشية الروسية. نفس الشيء بالنسبة إلى وزير الإسكان الحالي زئيف إلكين. كما استفاد رئيس الأركان السابق بيني غانتس من مساعدة رجل الأعمال الروسي فيكتور فيكسيلبيرغ لإطلاق شركته الأمنية الناشئة “البعد الخامس”.

على غرار فيكسيلبيرغ، استثمر أغلب عناصر الأوليغارشية الروسية الذين أصبحوا إسرائيليين في شركات محلية. لكنهم أدرّوا على العديد من السياسيين الإسرائيليين من كرمهم، إما من خلال تنصيب هؤلاء في مجالس إدارة شركاتهم، أو من خلال تمويل حملاتهم الانتخابية، أو كليهما. لكنهم اليوم -كما يشرح محامي الأعمال الإسرائيلي رام غاملئيل- يعيشون في “مناخ من الذعر”

3

، وليس شركاؤهم بمنأى عن خسائر كبيرة. فحسب التقديرات، بلغ وزن هؤلاء الأثرياء الروس خلال الثلاثين سنة الأخيرة ما بين 5 و10٪ من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي، ما يدفع بإسرائيل بالفعل إلى الحد قدر الإمكان من آثار العقوبات التي يتعرضون لها. فقبل يومين فقط من هجوم بوتين على أوكرانيا، منح أبراموفيتش مبلغ ثلاثة ملايين دولار لمتحف إسرائيل للهولوكوست ياد فاشيم، وهو “توقيت من الصعب أن يكون مجرّد صدفة”، كما كتب الصحفي الإسرائيلي أنشل بفيفر

4

. حتى أن إدارة المتحف تواصلت في بادئ الأمر مع المسؤولين الأمريكيين لمطالبتهم باستبعاد هذا الرجل المفيد للغاية للذاكرة اليهودية من العقوبات، قبل أن تغيّر رأيها في النهاية وترفض التبرع الذي قدمه أبراموفيتش.

“عمى أخلاقي وتاريخي”

لم يُسفر موقف الحكومة من قضية العقوبات سوى على ردود فعل قليلة في إسرائيل. وقد علّق نفس الصحفي أنشل بفيفر على ذلك بغضب: “إن الموقف المخزي للقادة الإسرائيليين أمام ما قام به ديكتاتور من غزو لدولة مستقلة، والطريقة التي تجنب بها بينيت ذكر كلمة”روسيا“في خطاباته، والإدانات الضعيفة لوزير الخارجية يائير لابيد، جميع هذه المواقف تترجم عن عمى أخلاقي تاريخي”

5

. وقد تجسّد هذا الموقف المخزي وهذا العمى الأخلاقي أكثر من خلال موقف وزيرة الداخلية أييليت شاكيد (تابعة لليمين المتطرف العلماني)، والتي رفضت باستمرار قبول اللاجئين الأوكرانيين، خاصة أولئك الذين لا يستجيبون لمعايير اليهودية الأكثر صرامة. ثم غيّرت الوزيرة رأيها، واقترحت قبول اللاجئين غير اليهود، شرط أن تدفع عائلة إسرائيلية مضيِّفة مبلغ 10 آلاف شيكل (حوالى 3100 دولار) كضمان في حالة عدم مغادرتهم قبل انقضاء فترة ثلاثة أشهر. كما حرمت شاكيد اللاجئين من الحصول على الرعاية الصحية، باستثناء “حالات الطوارئ”. ومع بداية موجة استنكار أمام هذه التدابير -إذ وصف وزير الصحة نيتسان هورويتز (تابع لليسار الصهيوني) هذه القرارات بـ“المخجلة”-، تم أخيرًا استقبال حوالي 12 ألف و600 لاجئ أوكراني، ثلثاهم من غير اليهود، بينما رُفض ألف آخرون.

انتقد عدد قليل فقط من الشخصيات السياسية موقف الحكومة التصالحي تجاه بوتين، وظل الجدل السياسي في إسرائيل متواضعًا للغاية. فقد اعتبر وزير الدفاع السابق موشيه يعلون (التابع لحزب الليكود) أن الحكومة بالغت في حجم المخاطر التي ستنجرّ عن إظهار الدعم لأوكرانيا، وأن إسرائيل تتمتع بوسائل عدة لتجاوز الدعم الروسي في سوريا وتنفيذ ضرباتها هناك. كما أنكرت وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني على الموقف الرسمي تقديمه للوضع على أنه خيار صعب تواجهه إسرائيل بين “مصالحها الأمنية” و “قيمها الديمقراطية”، وقالت: “يجب أن نكون من الجانب الصحيح من التاريخ، وهو ليس جانبَ بوتين”. لكن أمام انقسام المعارضة، لم يكن لهذه التصريحات سوى صدًى قليل على المستوى السياسي.

“خطة للسلام” أو استسلام

سمح هذا الوضع لرئيس الوزراء بإحراز تقدم واقتراح “خطة للسلام” في 16 مارس/آذار. دون الخوض في التفاصيل، من شأن هذه الخطة أن تضمن تخلي أوكرانيا عن انضمامها إلى الناتو وعن تواجد أي قاعدة عسكرية أو قوة تابعة لحلف شمال الأطلسي على أراضيها، في مقابل أن تحظى بحماية دول حليفة مثل الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو تركيا، وهي كلها دول أعضاء في الناتو. إن طبيعة الضمانات التي قدمتها هذه الخطة لأوكرانيا ليست واضحة، كما لم تتطرق إلى مستقبل الأراضي الأوكرانية التي ضمتها موسكو سابقًا (القرم ودومباس). من جهتها، استقبلت روسيا هذه “الخطة” إيجابيا لكن دون أي حماس. بيد أن أحد المقربين من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي صرّح لصحيفة “فاينانشال تايمز” أنه لن يتم توقيع أي اتفاق دون الإجلاء الكامل للقوات الروسية من الأراضي الأوكرانية. قبلها بأيام قليلة، كان نفتالي بينيت قد اقترح على الرئيس الأوكراني قبول اقتراح وقف إطلاق النار الروسي. لكن الأوكرانيين رأوا فيه “مطالبة بالاستسلام”

6

، وأبلغوا الإسرائيليين بأنهم يعتبرون وساطتهم غير مجدية ابتداءً من ذلك اليوم.

من جهتها، عبّرت واشنطن عن امتعاضها بل حتى عن سخطها أمام المسافة التي وضعتها “حليفتها المفضلة” في الملف الأوكراني. وقد راسل ثُلّة من نواب الحزب الديمقراطي -وهم ستيف كوهين وماريا إلفيرا سالازار وتوم مالينوفسكي- البيت الأبيض، قائلين إن “معاقبة أبراموفيتش بات أمرا مستعجلاً” وإنه وجب “تكريس جميع الوسائل” للاستيلاء على الأموال التي يضعها رجل الأعمال الروسي في خدمة مصالح بوتين، حتى “يتم استعمالها في الدفاع عن أوكرانيا، وفي إعادة المهاجرين إلى أوطانهم، وفي إعادة بناء البلد”. وقد جاء أكثر نقد لاذع على لسان فيكتوريا نولاند، وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية، إذ صرّحت في حوار لها على القناة الإسرائيلية رقم 12: “يجب علينا أن نضغط على نظام بوتين، وأن نحول بينه وبين جميع العائدات التي يحتاجها، وأن نضغط على الأثرياء المقرّبين منه”، مضيفة أنه من المؤكد أن إسرائيل “لا تريد أن تصبح آخر ملجأ للمال القذر الذي يغذي حروب بوتين”. وختمت نولاند حديثها قائلة إن التزام إسرائيل بالعقوبات الدولية هو أهم بالنسبة لواشنطن من جهود الوساطة التي يقوم بها رئيس وزرائها. ووفق آرون ديفيد ميلر، أحد العناصر البارزة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، فإن هذه التصريحات تمثّل “أقسى هجوم من طرف واشنطن على السياسة الإسرائيلية منذ وقت طويل جدًا”

7

.

سيلفان سيبيل

صحفي وعضو سابق في رئاسة تحرير جريدة اللوموند ومدير سابق لمجلة “كوريي أنترناسيونال، مؤلف كتاب”المطمورون، المجتمع الإسرائيلي في طريق مسدود” من منشورات لا ديكوفيرت 2006

—————————-

المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في لعبة توازن خطرة

اختار حليفان مهمان للولايات المتحدة وفرنسا في الخليج -وهما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة- اتخاذ موقف حذر تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا. وهو موقف انتظار وترقب يعكس الدفعة الروسية في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، وأيضا حالة من الريبة تجاه الغرب الذي يتخلى عن حلفائه، كما هو الحال في أفغانستان، والذي يكيل بمكيالين وفقا لمصالحه.

ترجم هذا المقال من الفرنسية حميد العربي.

“الناتو هو أحد مفاتيح هذه الأزمة الأخيرة… من المؤكد أن روسيا، وهي الوريثة الشرعية للاتحاد السوفيتي، لن تقبل تحت أي ظرف بتوسع الناتو بالقرب من حدودها”، هذا ما لاحظه بعد ثلاثة أيام من بدء الغزو، كاتب افتتاحية في يومية “عكاظ”، أحد أهم الصحف السعودية في 25 فبراير/شباط 2022. في اليوم التالي، كتب معلّق آخر من نفس الجريدة: “من المؤكد أن غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا قد خلق واقعًا جديدًا على الأرض لا يمكن تجاهله. لقد فرض نظامًا عالميًا جديدًا مختلفًا تمامًا عن النظام الذي فرضه الغرب على روسيا”

1

.

على نفس المنوال، أكدت صحيفة الرياض اليومية السعودية في 3 مارس/آذار بأن “النظام العالمي القديم الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية كان ثنائي القطب، لكنه أصبح أحادي القطب بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. إننا نشهد اليوم بداية تحول نحو نظام متعدد الأقطاب”. وأضافت الجريدة مستهدفة الغربيين: “إن موقف بعض الدول من هذه الحرب لا يهدف إلى الدفاع عن مبادئ الحرية والديمقراطية، ولكن عن مصالحها المرتبطة بالحفاظ على النظام العالمي القائم”

2

.

نكاد ننسى ونحن نقرأ هذه التعليقات بأن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة حليفان استراتيجيان للولايات المتحدة. غير أن هذه الأسطر تلخّص جيدًا الموضوعين اللذين يهيمنان على وسائل الإعلام في هذين البلدين، بغض النظر عن إدانتهما النسبية لغزو أوكرانيا. هناك أولاً انتقاد لاذع أحياناً للرئيس الأمريكي جو بايدن والولايات المتحدة. إذ لم يعد ممكنًا الاعتماد عليها حتى وإن بقيت حليفاً، لأنها في الأخير تخون أصدقاءها. أما دفاعها عن القانون الدولي فهو من باب النفاق: ألم يقم نفس البلد بغزو وتدمير العراق في عام 2003 دون تفويض من الأمم المتحدة؟ وإذا كانت أوكرانيا محتلَّة جزئيًا منذ بضعة أسابيع، فإن فلسطين محتلة منذ عقود بدعم حازم من الولايات المتحدة، وبدعم يشوبه حرج أكبر من الأوروبيين. هذا دون أن ننسى العنصرية التي تظهر من خلال أزمة اللاجئين والكيل بمكيالين، “وفق ما إذا كنت” أوكرانيًا أو أفريقيًا.

وتتعلق اللازِمَة المهيمنة الأخرى للصحافة بمسألة إعادة تنظيم النظام الدولي الذي صار متعدد الأقطاب، مع مكانة جديدة لروسيا وخاصة للصين (وبصفة أوسع لآسيا)، والذي يترافق مع انسحاب الولايات المتحدة من الخليج. إذ أصبح بالتالي من مصلحة البلدين الاستمرار في تنويع علاقاتهما والخروج من العلاقة المتفردة مع الغرب. يلقي هذا الضجيج الإعلامي في خلفية المشهد السياسي الضوء على موقف قادة هذين البلدين، وأقل ما يمكن القول عنهما أنهما لا يريان أنفسهما ملتزمين – وكذلك الحال بالنسبة للدول الأخرى في المنطقة (مصر، تركيا، إيران) – بالحملة الغربية لمعاقبة روسيا.

تصويت ذو دلالة

لم يكن هناك أدنى شك في أن قرار مجلس الأمن الدولي المدين للتدخل الروسي في أوكرانيا في 25 فبراير/شباط 2022 سيُرفض بفضل الفيتو الروسي. ولكن -وهنا تكمن المفاجأة! – فضلًا عن الصين والهند، امتنعت دولة الإمارات عن التصويت على النص. بعد أيام قليلة، وتحت ضغط أمريكي وإسرائيلي وفرنسي، انضمت أبو ظبي إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2 مارس/آذار، ولكن دون أن تغير حقيقيا من موقفها الحذر. وفي 23 فبراير/شباط، التقى وزير الخارجية الإماراتي، الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، نظيره الروسي سيرغي لافروف في موسكو، وهو مؤشر عن التقارب بين البلدين اللذين نمت علاقاتهما التجارية بنسبة 38٪ خلال الأشهر الأحد عشر الأخيرة. كما ضاعفت روسيا من شراكتها مع الإمارات في التقنيات الجديدة وحتى في المجال العسكري، حيث وقع البلدان اتفاقية تعاون استراتيجي في عام 2018.

كما تعزز التنسيق السياسي مع موسكو سواء في الملف السوري -حيث أصبحت أبو ظبي تدعو لعودة نظام دمشق إلى جامعة الدول العربية- أو في مسألة ليبيا، حيث تتموقع الدولتان جنبا لجنب ضد تركيا. أما بخصوص اليمن، فقد تخلت موسكو أخيرًا عن فرض حق النقض على قرار مجلس الأمن الذي يصنف الحوثيين منظمة “إرهابية”.

في الوقت نفسه، تضاعفت شكاوى أبو ظبي ضد واشنطن بسبب رد فعلها المتأخر على هجمات الحوثيين في 17 يناير/كانون الثاني 2022، والتردد الأمريكي في دعم الحرب في اليمن، وعدم مراعاة مصالحها في المفاوضات حول الملف النووي الإيراني. ومن بين مؤشرات التوتر، تراجعت أبو ظبي في نهاية عام 2021 عن شراء 50 طائرة أمريكية من طراز أف-35 بقيمة 23 مليار دولار، كردّ على الشروط التي فرضتها واشنطن في مجال نقل التكنولوجيا. في أعقاب ذلك، حتى وإن كانت عملية شراء أكثر تواضعا، اقتنت الإمارات في فبراير/شباط 2022 دزينة من الطائرات المقاتلة الصينية من طراز هونغدو ال-15 (مع إمكانية زيادة عددها إلى 36)، وهو ما يتم تبريره بالرغبة في تنويع مشترياتها عسكرية.

وفي حين تسببت الحرب في أوكرانيا في ارتفاع أسعار الطاقة، تأبى الإمارات العربية المتحدة -وهي مصدر رئيسي للنفط- تلبية الطلب. وإذا كان سفيرها في الولايات المتحدة يوسف العتيبة أعلن في 9 مارس/آذار أن بلاده مستعدة للتدخل من أجل زيادة حصص الإنتاج -وقد أدى ذلك إلى انخفاض سعر البرميل بـ 15 دولارًا في يوم واحد-، فقد تم تكذيبه بعد ساعات قليلة من قبل وزير الطاقة الإماراتي. رأى البعض في هذا التكذيب نتيجة انقسامات داخل القيادة الإماراتية، في حين اعتبره آخرون -وهم محقون دون شك- إشارة إلى جو بايدن وتذكيرًا بقدرة الإمارات على التأثير في الأسعار، وبالتالي ضرورة أخذ ثقلها على الساحة الدولية بعين الاعتبار. هذا على الرغم من أن القرار النهائي بشأن مستوى الإنتاج يعود الى منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك+)

3

، أي أنه -بمعنى آخر- يعود قبل كل شيء إلى روسيا والمملكة العربية السعودية.

ولكن لا يبدو أن هذا التحالف مستعد لتلبية مطالب واشنطن، خاصة وأن حالات “سوء التفاهم” بين واشنطن والرياض، كما مع أبو ظبي، قد تراكمت. فحتى قبل وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، صُدمت السعودية برد الفعل الأمريكي الضعيف حيال الهجوم على منشآتها النفطية في شرق البلاد في 14 سبتمبر/أيلول 2019، حيث ذهب الرئيس ترامب حتى إلى التأكيد بأنه لم يَعِد أبدًا بالدفاع عن شبه الجزيرة العربية. كما أن الفشل الأمريكي في أفغانستان في سبتمبر/أيلول 2021، والتخلي المخزي عن الحلفاء المحليين، أقنع السعوديين وقادة الخليج الآخرين بأن الولايات المتحدة مستعدة لإدارة ظهرها لحلفائها وتركهم عرضة للخطر، كما شرح ذلك كاتب الافتتاحية المذكور في بداية هذه المقالة.

محمد بن سلمان “منبوذ” أم حليف؟

أدى انتخاب بايدن إلى زيادة في تعكير الجو. كان قد وعد بمعاملة المملكة العربية السعودية على أنها منبوذة بعد اغتيال الصحفي جمال خاشقجي -حيث حملت المخابرات الأمريكية محمد بن سلمان ولي العهد السعودي المسؤولية- كما استنكر الحرب الدائرة في اليمن. حتى وإن لم يطرأ أي تغيير -بالرغم من الوعود- على سياسة الإدارة الديمقراطية، فإن بايدن يرفض أي اتصال بمحمد بن سلمان.

و الترويج لموقعنا عبر منصات التواصل الاجتماعي الخاصة بكم، مع وضع رابط نحو orientxxi.info/ar.

هل سيغير الوضع في أوكرانيا قواعد اللعبة؟ ألم تقم واشنطن بإعادة التواصل مع نيكولاس مادورو، رئيس فنزويلا، والحال أنها كانت تدينه بأقسى العبارات، سعيا إلى زيادة إنتاج النفط؟ هذه التقلبات المثيرة ليست جديدة على المنطقة. وقد نذكّر من لا ذاكرة لهم بأن الرئيس جورج بوش تصالح مع نظام حافظ الأسد غداة غزو العراق للكويت في آب/أغسطس 1990، لتجنيده في تحالفه ضد صدام حسين.

لكن يبدو هذه المرة أن السعوديين هم المترددون. وفق ما جاء في صحيفة “وول ستريت جورنال” الصادرة في 8 مارس/آذار 2022، فقد رفض محمد بن سلمان الرد على اتصال من بايدن في بداية الحرب في أوكرانيا. وكان محمد بن سلمان طالب بالحصانة إن ذهب إلى الولايات المتحدة، لكن صار من الصعب منحها له، خاصة بعد إعدام 81 سجينا يوم 12 مارس/آذار، وتكرار المتحدثة باسم البيت الأبيض في أوائل مارس/آذار تصريحات الرئيس بأن المملكة لا تزال في سجل المنبوذين.

في مقابلة أجرتها معه مجلة “ذي أتلانتيك” الأمريكية في 7 مارس/آذار، وعن سؤال فيما إذا كان بايدن لا يفهمه، أجاب محمد بن سلمان باحتقار بأنه لا يهتم برأيه، ولكن على الرئيس الأميركي أن يفكر في مصالح الولايات المتحدة. بشكل عام، كما هو الحال بالنسبة للقيادة الإماراتية، تشعر القيادة السعودية بالغضب لعدم استشارتها، على عكس ما تم مع الحلفاء الغربيين، في الأسابيع التي سبقت الغزو. كما تلوم الولايات المتحدة على عدم دعمها بخصوص اليمن، وممانعتها في السماح للمملكة بامتلاك الطاقة النووية المدنية، بينما تشارك موسكو، عبر شركة روساتوم الحكومية، في عدة مشاريع محطات. وتبدو المملكة السعودية مصممة على تنويع علاقاتها التجارية، كما يتجلى من المفاوضات الجارية مع الصين والتي قد تسمح لهذا البلد بشراء النفط باليوان وليس بالدولار -وهناك بالفعل 10 إلى 20٪ من وارداتها النفطية تتم فوترتها باليوان.

عدم انحياز دائم؟

في مثل هذه الظروف، ما الذي سيدفع المملكة إلى معاقبة روسيا التي تطورت العلاقات معها خلال العامين الماضيين، خاصة مع إنشاء أوبك+ عام 2020 والتي أشركت روسيا في المفاوضات حول مستوى إنتاج النفط؟ وقد نتج عن هذه المشاركة تنسيق ممتاز بين روسيا والسعودية، تعتبره موسكو الآن استراتيجيًا

4

.

خلال لقاء في موسكو مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في 5 مارس/آذار، اكتفى وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، بالقول بخصوص الأزمة الأوكرانية أن “الأسلوب الصحيح لإدارة هذه الأزمة هو تعزيز الحوار بين الطرفين بهدف الوصول إلى حل سياسي يمكّن من استعادة الأمن والاستقرار في هذه المنطقة وفي العالم”. لا تبدو كل من المملكة العربية السعودية والإمارات مستعدة لفرض عقوبات على روسيا، بل بدأت دبي تتحول إلى ملاذ جميع رؤوس الأموال الروسية وجميع المليارديرات الذين يستفيدون من الرحلات الجوية المباشرة التي توفرها كل من شركة “أيروفلوت” والشركات الخليجية القوية

5

.

ما زال الوضع غير مستقر ومن الصعب تقييم تداعيات الحرب في أوكرانيا على العلاقات الدولية، والتي يَعدّ تأجيل التوقيع على الاتفاق النووي الإيراني أحد مؤشراتها المقلقة. ولكن في حال استمرار الحرب، وإذا أخذت المواجهة بين روسيا والغرب شكل حرب باردة جديدة، سيصبح الاصطفاف حتميا. ولا شك بأن الولايات المتحدة وحلفاءها سيكونون قادرين على استعمال وسائل الضغط على حلفائهم الخليجيين. ولهم في ذلك أدوات قوية

6

خاصة وأن العقوبات أضعفت كثيرًا روسيا اقتصاديًا، وسيصبح التعامل معها محفوفًا بالمخاطر. فهل يمكن لـ “عدم انحياز” البلدين أن يستمر في ظل الأزمة الحالية؟

ألان غريش

مدير مجلة أوريان ٢١، متخصص في شؤون الشرق الأوسط، له مؤلفات عديدة منها “علام يدل اسم فلسطين؟”، من منشورات “les liens qui libèrent 2010، و”أغنية حب، فلسطين وإسرائيل، قصة من تاريخ فرنسا“مع هيلين آلدغير ، منشورات”La Découverte 2017

————————–

لماذا يدعم قطاع هائل من الروس الحرب على أوكرانيا؟/ علي شرف الدين

يقول مواطن روسي شاب باغتته الحرب في بولندا، فتطوع هناك لمساعدة اللاجئين الأوكرانيين: “لا أعرف ما حدث لرفاقي المواطنين. لا أفهم كيف يمكن تبرير قتل الناس بأي شكل من الأشكال. لا يمكنني استيعاب أنّه يمكن للناس دعم ما يحصل. عندما أرى هؤلاء المؤيدين. لا أعتقد أنهم يفهمون تماماً ما الذي يدعمونه”.

لم يحصل أي شيء مماثل خلال حرب جورجيا (2008)، أو ضم القرم ومعارك دونباس (2014). الصدمة التي أحدثها الهجوم الروسي في نفوس بعض المواطنين لا مثيل لها، وانعكست في عدد من الاستقالات من وسائل الإعلام الرسمية وهجرات جماعية من روسيا بحثاً عن مكان أفضل، واحتجاجات متفرقة في المدن الروسية بالرغم من خطر السجن 15 عاماً.

ولكن في المنحى الآخر، وبالرغم من هول مشاهد الخراب والدمار والقتل، وبالرغم من قساوة فكرة قيام بلد بغزو بلد آخر، فإن قطاعاً كبيراً من المواطنين في روسيا يرحّب بالأمر. استطلاعات الرأي وإن كانت غير دقيقة (بسبب خوف الناس من التعبير عن الرأي المعارض للحرب)، تبيّن أن ثلثي الشعب الروسي يدعم “العملية العسكرية”. الحفل الذي جرى مؤخراً في ملعب “لوجنيكي” في موسكو، وحشد نحو 60 ألف شخص، وعدد كبير من الفنانين الروس الذين أعربوا عن دعمهم للجيش والرئيس الروسيين، بينما تتعرض مدن أوكرانية للحصار والدمار والموت، ما هو إلا دليل على وجود هذه التوجهات بشكل كبير في البلاد.

ولكن لماذا يدعم قطاع هائل من الروس أعمالاً عدائيةً، تبدو للعالم بأجمعه تقريباً، عدواناً وانتهاكاً سافرين لسيادة دولة أخرى وحرباً لم تشهدها أوروبا منذ 1945؟ قد يبدو الجواب بسيطاً، ولكنه واقعي: لقد تمكن التلفزيون الرسمي في روسيا، وهو التلفزيون الوحيد المتاح مجاناً، من رسم صورة العالم كما يراه الكرملين. صورة تظهر أن الغرب المتوحش، بقيادة الناتو والولايات المتّحدة، يريد تارةً الفناء لروسيا، وتارةً السيطرة على ثرواتها، وأحياناً تقسيمها، ومؤخراً قتل شعبها بالسلاح البيولوجي الذي تصنعه حكومات الدول المعادية لروسيا.

إن الإعلام الرسمي لا ينفك يردد أن الخطر يداهم الوطن، وأن الجميع ما عدا القلة الصالحة، يريدون عالماً من دون روسيا. وهناك “الطابور الخامس” الذي تحركه الاستخبارات المركزية الأمريكية والذي لا ينفكّ يعترض على قرارات الحكومة، أي يعترض على القرارات الوطنية. لأن الخلط بين الوطن والسلطة في روسيا يبلغ حدوده القصوى، ما يعني أن أي انتقاد للقرارات الحكومية يعادل الخيانة.

للأسف هناك جزء هائل من الناس، وخصوصاً في الأرياف والمدن البعيدة، يمتص هذه الدعاية بشكل فوري، وبسبب الحياة الصعبة لدى الكثير من الروس، فإنهم يحنّون إلى الزمن السوفياتي لأنهم مقتنعون بأنّه كان مكاناً أفضل للعيش، وأتت واشنطن و”عميلها غورباتشيوف” وهدماه. لا… لا شيء يدعو للضحك، لأن هذه الأفكار تتكرر يومياً على الإعلام الروسي، وتتكرر معها الإشارة إلى البطولات السوفياتية في الحرب العالمية الثانية وفي القضاء على النازية، حتى يبدو للمراقب الخارجي أن المجتمع الروسي يعيش في زمان وواقع مختلفين، رسمهما له الإعلام بشكل ناجح جداً.

من هم الاستثناء؟

الاستثناء في هذه القاعدة هم الأبناء، أي جيل الشباب، الذين يطّلعون على الحقائق من مصادر مختلفة، وتحديداً من الإنترنت، ويعرفون أن ما يجري في روسيا وأوكرانيا ليس ما تصوره شاشات التلفزة الرسمية في بيوت الناس. هذا الجيل اليوم يعاني من خلافات عميقة مع أهله والكثير منهم إما يضطرون إلى قطع العلاقات، أو عدم مناقشة الوضع السياسي/ العسكري. بعض الأمثلة تدل على عمق تأثير البروباغندا في عقول الناس في روسيا؛ أم تقول لابنها يوم إعلان بدء العمليات العسكرية: “أخيراً سنتخلص من سلاح الدمار الشامل الذي يمتلكونه في أوكرانيا. هؤلاء الفاشيون سينالون ما يستحقون”، وحين ينشر الأبناء شيئاً داعماً لأوكرانيا ترى الأهل كاتبين إليهم: “من المؤسف أنّه لدينا خائن في العائلة”، وتنتهي الأمور بمقاطعة فيسبوكية، أو حتى نهائية على صعيد العلاقات.

ودعونا هنا نفهم الأمور: الإنترنت متاح في روسيا، وبالرغم من الرقابة الصارمة والتي منذ بداية الحرب حجبت العشرات من المواقع، فإن الباحث عن أجوبة يستطيع أن يجدها عبر إتاحة المجال لنفسه لقراءة المصادر الأوكرانية والغربية ومشاهدتها وسماعها، ولكن الرغبة هذه تراود القلة، والقلّة الأخرى متأكدة من أن الإنترنت يزيّف الحقائق لأن هذا هو الخطاب السائد عند “المصدر الموثوق الوحيد”، ألا وهو التلفاز.

أعتقد أنّ الرأي العام الذي نراه في روسيا اليوم، هو نتيجة عمليّة فعالة وناجحة جداً من السلطات الروسية على مدار 20 عاماً للسيطرة على الخطاب الإعلامي الموجه إلى الروس، هذا من ناحية. لكن من الناحية الأخرى، هو أيضاً الخطاب الذي يلقى آذاناً صاغيةً لدى العامة، وهو الخطاب الذي يستسيغ المواطن الروسي العادي سماعه. لأن روسيا على شاشات التلفزة دائماً منتصرة، ومع الحق، ودائماً هي الفريسة التي يريد الآخرون الانقضاض عليها.

للأسف الشعوب لا تستفيق من هكذا سبات إلا إثر هزائم كبرى تهز واقعهم، وتفكك عالمهم وتعيدهم إلى الواقع المرير، وليس مستبعداً أن يكون الرئيس فلاديمير بوتين قد ساهم بقراره في استعجال هذا الأمر.

رصيف 22

————————-

===================

تحديث 30 أذار 2022

———————

منعطف ألماني على المنعطف الأوكراني/ موفق نيربية

سوف يتردّد صدى الحرب الأوكرانية وآثارها لسنوات طويلة، لكنّ هنالك منعطفاً آخر يبدو وكأنه نشأ عنه بشكل مفاجئ، ربّما ستكون له انعكاساته الأكبر، بذاته وبأثاره بعيدة المدى أيضاً، هو التغيير الذي طرأ بشكل غير متوقّع عموماً في السياسة الألمانية الدفاعية والخارجية، وهو فريد من نوعه منذ الحرب الكونية الأخيرة.

بعد تلك الحرب، سادت السياسة الألمانية نزعة سلمية أصبحت تقليداً راسخاً، بدافع من مستوى العنف الذي مارسته آنذاك وما نجم عنه دولياً ومحليّاً. وقد قاومت حكومة المستشار الجديد شولتس بقوة في البداية كل الضغوطات الأمريكية والبولونية والأوكرانية لزحزحة تلك السياسة، أو حتى لتغيير الموقف الرافض لوقف مشروع السيل الشمالي- 2، من دون نتيجة. حتى جاء الوقت الذي بلغ فيه السيل الأوكراني مدىً يفوق ما حلمت به دوائر الكرملين، وألقى المستشار خطاباً تاريخياً أمام البوندستاغ، أعلن فيه تخلّي ألمانيا عن عشرات السنين من القيود على علامتها التجارية التي تمنع إسهام صناعتها العسكرية في الأعمال العسكرية، ورفع المساهمة الألمانية في الدعم العسكري للأوكرانيين. وكان الأهمَّ إعلانُ تخصيص مئة مليار يورو لدعم قدرات الجيش الألماني وتحديثه، والتعهد برفع نسبة الميزانيات العسكرية إلى 2%، كالشركاء الآخرين في الناتو.

للأوروبيين على الأقل، كان هذا تحوّلاً مذهلاً، وكان يمكن في ظروف أخرى أن يكون كابوساً، وترتّب على ذلك أن يقوم الاتحاد الأوروبي مؤخراً بإصدار وثيقة حول تعديل سياسته الدفاعية والعسكرية بشكل نوعي، في الأسبوع الماضي.. إلّا أن السياسة الخارجية الألمانية في الواقع كانت تحضّر من قبل الحدث الأوكراني مقوّماتِ تغيير مهم، ابتدأت مقدّماته مسبقاً، وقبل تشكيل حكومة ائتلاف إشارة المرور( أحمر- أصفر- أخضر) الجديدة. ظهر ذلك في تقرير مفصلي كبير في الخريف الماضي. ونظّمه معهد العلاقات الدولية والأمن في برلين، أحد أهم مراكز صناعة القرار، الذي كان على رأسه حتى عامين سابقين الشخصية الاستراتيجية الذي نعرفه عربياً وسورياً منذ زمن – ويعرفه السودانيون جيداً حالياً بصفته ممثل الأمين العام للأمم المتحدة هناك وهو، البروفيسور فولكر بيرتس؛ ثم خلفه أكاديمي واستراتيجي بارز آخر هو نيكولاس فون بومهارت. ينطلق ذلك التقرير من رؤية واقع النظام الدولي الراهن، ليرسم مخططاً جديداً له يراعي الإئتلافات الجديدة، ولألمانيا دور أكبر فيه أيضاً. يجدّد فيه وعي التحولات في القوة الدولية، وفقدان نفوذ القوى الغربية، ونماذج الاستبداد المتزايدة، وضعف المؤسسات المتعددة الأطراف، والمشاكل العالمية الملحة مثل تغير المناخ ـ كلّها تحديات تتطلب إعادة تنظيم السياسة الخارجية الألمانية. وعند القيام بذلك، من المهم إجراء تقييم مناسب وموضوعي لحدود قدراتها، وكذلك المساحة الحالية للمناورة، وهذا كلّه يجب أن يوجه ويحدّد أهدافها وأولوياتها. وبناءً على ذلك، لا بدّ من أن تسترشد العلاقات الخارجية الألمانية بشراكات موثوقة وأشكال جديدة لتقاسم المسؤولية في مختلف المجالات، إضافة بالطبع لاعتماد الحوار كأساس للتفاوض على الأهداف المتضاربة. يتم تنظيم وتبويب المساهمات في التقرير المذكور- وهي كبيرة ومتعددة وتشكل جهداً جماعياً لافتاً- على أساس أربعة مجالات من التغيير، التي تحدد إجراءات السياسة الخارجية، وفي الوقت نفسه تقدم نقاط انطلاق لتحديد المسار في المستقبل.

أولها التكيف، حيث هنالك ظروف جديدة في السياسة الخارجية، كان هنالك تقليل من شأنها، يتعلق هذا بصعود الصين، وكذلك الطموحات الجيوسياسية للدول الأخرى للسيطرة على الموارد الاستراتيجية.

وثانيها ذلك التغيير المرتبط بالهوية، بالربط بين التغيير في الصورة الذاتية الوطنية، وتأثير المصالح السياسية المحلية، من جهة؛ وذاك التغيير في مفاهيم أدوار السياسة الخارجية في الزمن الراهن؛ هنالك إعادة تموضع للدولة في السياسة الدولية، مختلف عن الظروف السائدة السابقة.

وثالثها التغيير التكويني، التركيبي دولياً، فهنالك اهتمام طارئ بالوجود على المسرح الدولي، وسعي يستبق الفرص لممارسة التأثير، ورغبة في اكتساب مكانة أو تجنب فقدانها – يمكن أن تلهم هذه العوامل مشاركة أكثر نشاطًا في تشكيل السياسة الدولية، كما في حالتي كوريا الجنوبية وتركيا- مثلاً- وطموحاتهما الإقليمية والعالمية.

وأخيراً هنالك التغيير المرتبط بالشريك، لأن نطاق وتأثير تغيير السياسة الخارجية سيكون مرهوناً بشدة باختيار الشركاء ومجموعات الدعم. وهذا يمكن أن يبدأ بتعميق عمليات التقارب في السلوك الرسمي دولياً. وعلى سبيل المثال، إذا كانت الصين تظهر لألمانيا في وقت واحد كشريك ومنافس وخصم، فسوف تشكل الائتلافات المشتركة تعبيراً معيارياً وعملياً للمصالح وترتيب التفضيلات في ممارسة السياسة الخارجية.

تحمل الشراكات الضرورية للسياسة الخارجية الألمانية معها فرصاً، لكنها تحمل معها أيضا تَبِعات، لذلك، فإن إدارة التوقعات الشاملة، داخليا وخارجيا، أمر ضروري، وله أهمية مركزية، لاسيما في حلف الناتو، وكذلك في السياق الأوروبي. يجب ألا يؤدي التوجه – مثلاً- نحو الشراكة الفرنسية الألمانية المهمة إلى الشعور بالإقصاء بين أعضاء الاتحاد الأوروبي الآخرين، بذلك، لن يكون «الجوار» مفهوما إقليميا بعد الآن؛ «وتحتاج ألمانيا إلى جيران «عالميين» في مناطق مختلفة من العالم، إذا أرادت أن تساهم في حل مشاكل المستقبل، حيث لن يقتصر الأمر على تحقيق ترتيبات لتقاسم الأعباء فحسب، بل سوف يكون من الأهمية بمكان أيضا تطوير مجموعة جديدة من الأدوات لتقاسم المسؤولية وتشكيل المستقبل معا.

في هذا السيناريو لا يعود النظام الدولي مستنداً إلى «باكسا أمريكانا». إذ يبتعد هذا الأخير ليفسح المجال لنظام متعدد الأقطاب يكون في نواته ثنائي القطب من الخصمين الأكبر الولايات المتحدة والصين. هذان الاثنان – مع الاتحاد الأوروبي والهند واليابان وروسيا – سيشكلان الاتحاد الجديد، الأوركسترا الناظمة لحركة العالم، نسبياً. فهذه القوى الست تمثّل حوالي 70% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي والإنفاق العسكري، و65% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. في نموذج الاتّحاد هذا، التزام بالمحافظة على تعاون وثيق ومرن بغرض ضمان الاستقرار من حيث الوضع الإقليمي الراهن الطارئ هنا وهناك. يتجنّب «الستة» بشكل متبادل التدخل في الشؤون الداخلية. ويرى الاتحاد في نفسه مركز التحكم في السياسة الدولية، وهو يتفوق بقدراته العملية على الأمم المتحدة، ومجموعات مثل السبعة الكبار. تلك السلطة والشرعية مستمدة من قدرة الدول الست على إيجاد إجابات وحلول مشتركة للتحديات العالمية. وتشمل هذه انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتهديد الشبكات الإرهابية، والمخاوف بشأن الصحة العالمية، وتأثيرات تغير المناخ. كبار الدبلوماسيين يقومون بالعمل الأساسي؛ ولديهم مقر حصين، ممكن في جنيف أو سنغافورة، حيث تكون السكرتارية. ويهدف الاتصال الوثيق بينهم إلى التوافق، وإلى منع أحد الأعضاء من مفاجأة الآخرين بأفعال منفردة. ومع ذلك، عندما لا يمكن التوصل إلى اتفاق، فحتى مجموع القوى تلك، سوف يظل عاجزاً، ويمكن لأعضائها أن يتصرفوا بشكل أحادي إذا رأوا أن مصالحهم الوطنية الحيوية تتعرض للتهديد، ولا يُطرد العضو إلا إذا انتهك بشكل متكرر مصالح طرف آخر بطريقة عدوانية.

بالطبع، سيطرأ تغيير مهم على السيناريوهات والوقائع بعد العنف الذي شهدته أوكرانيا، ولم ينته بعد. فقد طوّر هذا الحدث الوحشي ظروفاً جديدة سيكون لها نتائجها على الموقف من روسيا ومستقبل العلاقة معها، وربّما على مركزها الذي أراد بوتين تطويره، ليرجع إلى مستوى أيام الحرب الباردة، حين كان يوجد عالم برأسين. ذلك المركز المتميّز آنذاك بقدرات عسكرية متميّزة واقتصاد لا بأس به ونفوذ دولي كبير، لم يعد ممكناً مع اقتصاد يقع في المركز الثاني عشر دولياً، وقوة عسكرية أثبتت المقاومة الأوكرانية تخلّفها حتى الآن، مع توفّر قدرات نووية لا تنفع إلا في حالة الانتحار.

قال زيلينسكي في الأسبوع الماضي، إن الصواريخ تنزل على أوكرانيا وقد كُتب عليها «إلى برلين» ليثير الهلع فيها فتسارع إلى تلبية طلباته ودعمه أوروبياً، بدلاً من الخضوع لضغط الغاز الروسي. وهو يدرك دور ألمانيا المحوري في أوروبا، وفي مستقبلها ومستقبل أوكرانيا أيضاً؛ كما أن انقلاب الاستراتيجية الدفاعية والخارجية في ألمانيا قد أحيا آماله وأنعشها.. لكن التغيّر والتغيير الألمانيين يحملان معاني أكبر وأكثر اتسّاعاً، حتى من نكبة بوتين المتوقعة في أوكرانيا. وغالباً، كانت الصين بدورها كذلك بانتظار نتائج المغامرة الروسية، لتبدأ مغامرتها في تايوان. ويتضاءل ذلك الاحتمال… حتى الآن!

كاتب سوري

القدس العربي

———————–

أوكرانيا تعمّق شروخ العلاقة الروسية الإيرانية/ مروان قبلان

بمقدار ما كشفت أزمة أوكرانيا حجم المصالح التي تربط حلفاء واشنطن في المنطقة (السعودية والامارات وإسرائيل ومصر) بروسيا، فإنها سلّطت في المقابل الضوء على التصدّعات العميقة في علاقة “الشريكين”، الروسي والإيراني. ويعد عزوف إيران عن تأييد موقف روسيا في الحرب على أوكرانيا، وامتناعها عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2 مارس/ آذار الجاري، الذي دان الغزو الروسي وطالب بإنهائه، بدلا من التصويت ضد القرار، كما فعل الحلفاء (سورية، وإريتريا، وبيلاروسيا وكوريا الشمالية)، فضلا عن إبداء إيران استعدادها لتزويد أوروبا بالغاز وتعويض أي نقصٍ محتمل في الإمدادات الروسية، وامتعاضها أخيرا من محاولات روسيا تعطيل مفاوضات إحياء الاتفاق النووي، يعد امتدادا لتاريخ طويل من عدم الثقة بين البلدين، حجبه زواجٌ اضطراريٌّ دفعهما إليه العداء الأميركي، وتوافق مصالح ظاهر في عدد من الملفات الإقليمية. والواقع أن من كان يُنصت جيدا لا بد أنه كان يسمع، بين حين وآخر، وإن بصوتٍ خافت، تذمر إيران من استخدام روسيا لها ورقةَ ضغط ومساومة في علاقتها المعقدة مع الغرب. ولم تكتفِ روسيا بالسماح بفرض عقوباتٍ قاسيةٍ في مجلس الأمن على طهران، بل صوّتت إلى جانب جميع القرارات ضدها بشأن برنامجها النووي (القرارات 1737 لعام 2006، و1747 لعام 2007، و1803 لعام 2008، و1929 لعام 2010). كما امتنعت موسكو في عام 2010، مراعاة لواشنطن، عن تنفيذ التزاماتها المتعلقة بتزويد طهران بمنظومة صواريخ “إس – 300” على الرغم من تسديد قيمتها البالغة 800 مليون دولار، ولم تتسلّم إيران هذه المنظومة إلا عام 2016، وقد قدّمت بسبب ذلك دعوى قضائية إلى محكمة التحكيم في باريس، طالبت فيها موسكو بتسديد أربعة مليارات دولار غرامة لعدم التزامها تنفيذ العقد الموقع بين الطرفين. كما رفضت روسيا على الدوام الطلب الإيراني المتكرّر بصيانة الغواصات الإيرانية التي كانت ستُمنح لإيران، في حال إعادة تأهيلها، مناورة عسكرية واسعة في الخليج العربي والمحيط الهندي. بالإضافة إلى ذلك، ماطلت موسكو زهاء عشر سنوات لإنهاء بناء مفاعل بوشهر النووي وتشغيله، بعد أن ظلت تستخدمه أداةً للمساومة مع الغرب. ولا شك أن إيران شعرت بـ “طعنةٍ” عندما استولت روسيا على حصتها السوقية بعد تبنّي إدارة الرئيس ترامب سياسة صفر تصدير للنفط الإيراني عام 2019. تاريخ العلاقة المعقدة هذا يستدعيه تيارٌ في طهران لا يثق بالروس، ويدعو إلى استغلال أزمتهم الراهنة للرد على أسلوب تعاملهم مع إيران.

أما الروس، فلديهم هواجسهم أيضًا تجاه السياسات الإيرانية، إذ تساورهم شكوكٌ عميقةٌ عن مساعي إيران امتلاك سلاح نووي، وهم يشاطرون الغرب معارضتهم أي توجّه من هذا القبيل. فوق ذلك، يسري اعتقاد واسع بين المسؤولين الروس بأنّ طهران سوف تبادر إلى الاستغناء عنهم في اللحظة التي تنفتح فيها آفاق التعاون مع الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة؛ فقد أبدت روسيا، مثلا، امتعاضًا شديدًا بسبب إقصائها عن المفاوضات السرّية التي كانت تجري بين واشنطن وطهران في سلطنة عُمان عامي 2012 – 2013، وأدت إلى التوصل إلى اتفاق جنيف المرحلي بشأن البرنامج النووي الإيراني. كما يبدي الروس شكوكًا متزايدة حاليا تجاه فتح مسار ثنائي بين أميركا وإيران بعيدًا عن أعين مجموعة 5+1 التي تشارك في مفاوضات فيينا حول برنامج إيران النووي. ولا ينسى الروس، بطبيعة الحال، أن إيران كانت شرطي الولايات المتحدة وحليفها الرئيس في منطقة الخليج وغرب آسيا بين عامي 1953 – 1979، وقد وصف وزير الخارجية الأسبق، هنري كيسنجر، خسارتها عام 1979 بأنها أكبر نكسة استراتيجية تعرّضت لها الولايات المتحدة خلال سنوات الحرب الباردة. فوق ذلك، لا يبدو خافيا أنّ الطاقة هي أحد أهم أسباب تسارع مفاوضات إحياء اتفاق عام 2015 النووي مع إيران، وأن الهدف من ذلك هو استكمال محاصرة روسيا وعزلها بعد غزو أوكرانيا، وأن إيران لن تتردّد في استغلال هذه الفرصة لعرض بضاعتها على الغرب.

سوف يُفضي على الأرجح الإحياء الوشيك لاتفاق إيران النووي إلى افتراق كبير في المصالح بين روسيا وإيران، وستكون لذلك ارتدادات إقليمية ودولية مهمة. بدأ هذا المسار مع وصول إدارة بايدن إلى الحكم عام 2021، لكن أزمة أوكرانيا سرّعت الوصول إلى نتائجه المتبلورة الآن.

العربي الجديد

———————

تركيا.. فرصة صغيرة وخطر كبير/ علي العبدالله

وضع الغزو الروسي لأوكرانيا تركيا في موقف دقيق وخطر، وفرض عليها التحرّك الحذر في ضوء علاقاتها التجارية والعسكرية مع روسيا وأوكرانيا من جهة، والعسكرية والأمنية مع طرفي الصراع الروسي الغربي من جهة أخرى، فالغزو الروسي، ببعديه الجيوسياسي والجيواسراتيجي، ضيّق هوامش تحرّكها وقلّص خياراتها وفرض عليها التصرّف بدقة وحذر، والسعي إلى لعب دور وسيط في حل النزاع بين روسيا وأوكرانيا عبر التحرّك، السياسي والدبلوماسي، والعمل، في الوقت نفسه، على تعزيز موقعها في التحالف الغربي على خلفية توجّسها من طموحات روسيا وتطلعاتها الجيوسياسية والجيواستراتيجية.

لم تكن تركيا على وفاقٍ مع دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي في ضوء ما تعدّه تمييزا وسوء معاملة، إن على صعيد تزويدها بأنظمة دفاع صاروخية وطائرات متطوّرة، أو على صعيد تعقيد عملية انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، حيث أمضت سنوات طويلة في المفاوضات من دون تقدّم ملموس. هذا مع عدم توقّف الأمر عند حدود عدم تزويدها بالأسلحة المطلوبة، بل تعدّاه إلى الاعتراض على تزوّدها بها من مصادر أخرى، كما حصل مع صفقة الصواريخ الصينية، وعلى سياستها الداخلية، قضايا الحرّيات وحقوق الإنسان. علما أن دولا في الاتحاد الأوروبي عارضت انضمامها من منطلقٍ ديني، باعتبار الاتحاد تجمّعا مسيحيا، يتعارَض مع المعايير والقيم الديمقراطية والعلمانية. وقد وجدوا في عقد صفقة الصواريخ الروسية إس 400 ضالتهم من أجل التشهير بسياساتها، بما في ذلك انخراطها في تفاهمات مع روسيا بشأن الملف السوري ومشاركتها في مسار أستانة، ومعاقبتها بإخراجها من المشاركة في صناعة الطائرة الأميركية، إف 35، طائرة متطوّرة من الجيل الخامس، ووقف عملية تسليمها طائراتٍ منها، كانت قد تعاقدت عليها ودفعت مليارا ونصف المليار دولار من ثمنها، وربطهم العودة عن ذلك بعودتها عن قرار شراء الصواريخ الروسية من دون وعد بتزويدها بمنظومة صواريخ باتريوت التي كانت قد طلبتها من قبل.

عزّز الغزو الروسي أوكرانيا، واحتمال تمدّده خارج حدود الأخيرة، موقف تركيا داخل حلف الناتو، في ضوء موقعها الجيوسياسي الهام، بالقرب من ساحة المعركة، وامتلاكها سواحل طويلة على البحر الأسود وسيطرتها على مداخله عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، وامتلاكها ثاني أكبر جيش في الحلف بعد جيش الولايات المتحدة، وقد تجلى ذلك في موقف الأخيرة منها، حيث أوفدت نائب وزير خارجيتها، ويندي شيرمان، إلى أنقرة، للتباحث في التطورات على الساحتين، الأوكرانية والإقليمية؛ وإجراء الرئيس الأميركي، جو بايدن، اتصالا هاتفيا مطولا بالرئيس التركي، أردوغان، معلنا استعداده لفتح صفحة جديدة في العلاقات، منهيا فترة فتور وبرود في العلاقات بين الجانبين، على خلفية إدانة بايدن سياستي أردوغان، الداخلية والخارجية، وتثمين الإدارة الأميركية المساعدات الإنسانية التركية لأوكرانيا. وعقد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، اجتماعا مع أردوغان على هامش قمة الحلف في بروكسل، وحديثه عن “فرصةٍ لتوضيح استراتيجي لدور تركيا في علاقتنا داخل الحلف الأطلسي”، على الضد من الموقف قبل عام، حيث دعت دول في الحلف إلى تجميد عضوية تركيا في الحلف، على خلفية صفقة الصواريخ الروسية، وإعلان دول التحالف الغربي عن استعدادها لإعادة تفعيل المشروع التركي الفرنسي الإيطالي لصناعة منظومة صواريخ سامب – تي، التي تعتبر بديلا لمنظومة إس 400 الروسية، وتوافد القادة الغربيين لزيارة أنقرة للتباحث مع أردوغان.

كما فتح الغزو الباب أمامها لتفعيل خططها في مشروع نقل غاز شرق المتوسط عبر أراضيها إلى الدول الأوروبية، في ضوء بحث الأخيرة عن بديل للغاز الروسي، وتخلي الإدارة الأميركية عن دعم مشروع “إيست ميد” لنقل الغازين، الإسرائيلي واليوناني، من شرق البحر المتوسط إليها. وقد منحها تعزّز موقفها لدى الحلفاء الغربيين فرصة للعودة إلى المطالبة بمطالبها العسكرية والاقتصادية السابقة، عبر مطالبة الحلف برفع حظر السلاح عنها، كان فرضه عليها بعد شرائها منظومة صواريخ روسية من طراز إس 400، وخلافها مع اليونان وقبرص حول التنقيب عن النفط والغاز في المياه الاقتصادية شرق المتوسط، ومطالبة الاتحاد الأوروبي بتحريك مفاوضات انضمامها إليه.

ولكن الغزو وضع تركيا، في الوقت نفسه، في موقفٍ دقيقٍ وخطر مع روسيا، في ضوء المصالح المتبادلة والعلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي نمت في السنوات الأخيرة، فمصالحها مع روسيا كثيرة ومتنوّعة، من استيراد الغاز عبر خط أنابيب السيل الشرقي، تحصل على 45% من احتياجاتها للغاز من روسيا، إلى أفواج السياح الروس، يزورها حوالي خمسة ملايين سائح روسي سنويا، إلى عمل مئات الشركات التركية في روسيا، مرورا بتصدير الخضار والفواكه واستيراد القمح الروسي، بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين أكثر من 30 مليار دولار، وصولا إلى بناء روسيا مفاعلا نوويا فيها. هذا بالإضافة إلى تفاهمات سياسية وعسكرية بشأن ملفات سورية وليبيا وأذربيجان وأرمينية، وفرض عليها التحرّك بحذر شديد كي لا تغضب الجانب الروسي، وفي ذهنها تبعات القطيعة التي ترتبت على إسقاطها طائرة روسية عام 2015، حيث أوقفت روسيا التبادل التجاري والرحلات السياحية، ألحقت بها خسائر قدرت بعشرة مليارات دولار، فروسيا تمتلك أوراق قوة في مواجهتها، تبدأ من وقف التبادل التجاري والسياحة، ما ينعكس سلبا على اقتصادها المتعثر، وهي على أبواب انتخابات رئاسية مفصلية، ستجري عام 2023، إلى الضغط عليها في الشمال السوري، والتسبب في موجة هجرة سورية جديدة، خصوصا وهي تعدّ الخطط لإعادة اللاجئين السوريين إلى الشمال، وتوظيف ذلك في تحسين صورة النظام واستعادة شعبية أردوغان.

هل يشكّل استهداف قوات النظام السوري مدرعةً تركية في ريف حلب الغربي وقتل وجرح عدد من الجنود الأتراك يوم الأحد 27 مارس/ آذار الجاري، رسالة تحذير روسية؟ وتستطيع روسيا عرقلة الاتفاقات الهشّة لوقف إطلاق النار بين حلفاء الروس والأتراك في ليبيا وبين أذربيجان وأرمينية، وتقويض الصورة التي كوّنها أردوغان عن نفسه لدى الرأي العام التركي رئيسا قادرا وكفؤا. لذا اختارت التوازن بين الموقفين، الروسي والغربي، حيث دانت الغزو، ووصفته، على الضد من التوجّه الروسي، بالحرب، وأعلنت تمسّكها بسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، وصوّتت مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي دان الغزو الروسي، وقدمت لأوكرانيا مساعدات أمنية واقتصادية ومالية وإنسانية، وأغلقت مضيقي البوسفور والدردنيل في وجه السفن الحربية الروسية، من جهة، ورفضت، في الوقت نفسه، الالتزام بالعقوبات الغربية على روسيا، وعزل الثقافة الروسية، وواصلت شراء النفط والغاز الروسيين، ودعت الأوليغارش الروس إلى الاستثمار في تركيا، وعملت على إبقاء باب الحوار مع روسيا مفتوحا، من جهة ثانية. وتوجّهت إلى تأكيد موقفها المتوازن إلى التوسّط بين روسيا وأوكرانيا فجمعت وزيري خارجية البلدين، سيرغي لافروف وديمترو كوليبا، في أنطاليا، وسعت إلى جمع الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وزار وزير خارجيتها، مولود جاويش أوغلو، موسكو وكييف، بحثا عن حل سياسي، يبدأ بوقف إطلاق النار، يضمن سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها وأمن روسيا وسلامتها، والإعلان عن استضافتها مفاوضات روسية أوكرانية.

يبقى أن الحياد أو شبه الحياد أو الحياد الإيجابي، وفق توصيفاتٍ متباينةٍ لمحللين سياسيين، لا ينهي الخطر الكامن في هذا الصراع على تركيا؛ ولا يوفر لها مخرجا مضمونا يحميها من الخطر، ذلك أن تمسّك طرفي الصراع، روسيا والتحالف الغربي، بمواقفهما، والتصعيد العسكري الحاصل على الأرض الأوكرانية، يثيران هواجس ومخاوف من وضع تركيا في موقفٍ حرج أكثر، فالتصعيد يدفع إلى فرز المواقف والصفوف ويضيق فرص الحياد، حيث يصبح الموقف مع أو ضد ولا خيار ثالثا. هذا بالإضافة إلى ما تنطوي عليه نتيجة الصراع من مترتبات مقلقة، فنهاية الحرب بنصر غربي ينطوي على احتمال عودة الفتور إلى العلاقات التركية الغربية، ومعاقبة تركيا على موقفها غير الحازم من الغزو الروسي، وانتصار روسيا ينطوي، هو الآخر، على خطر تغوّل روسيا على تركيا في البحر الأسود، فالأطماع الروسية في مضيقي البوسفور والدردنيل وإسطنبول معروفة؛ وقد سبق وطالبت بها خلال مفاوضات تصفية تركة السلطنة العثمانية، أو الرجل المريض، مع فرنسا والمملكة المتحدة قبل انسحابها منها بعد قيام ثورة أكتوبر 1917، وانعكاس سياسة التمدّد الروسي في دول الاتحاد السوفياتي سلبا على خطط تركيا لتوحيد العالم التركي، ربما يفسّر هذا الموقف الدقيق والحساس دعوة تركيا إلى تعزيز حلف الناتو والإبقاء على باب العضوية مفتوحا، بحيث تبقي التركيز الروسي بعيدا عنها، وتضعه في موقف المحتاج لموقف تركي حيادي، أو وسيط، للحوار مع الغرب.

العربي الجديد

————————–

الحرب على ماركس/ علي حسن الفواز

لأنّ كارل ماركس كان يكره السلطة الطبقية والمفهومية لرأس المال، فقد دخل في إثم الخطيئات الكبرى، حيث خطيئة الطبقة، وخطيئة الأيديولوجيا، وخطيئة الثورة، ولم تشفع له أطروحاته في الفلسفة وفي الجدل، ولا حتى في نزعاته الهيغلية ذات الرائحة البورجوازية..

ذه التوصيفات الحادة لماركس تحولت إلى تاريخ ملعون، وإلى اتهام «لا واع» وإلى خطيئة مقدسة تتطلب اعترافا دائما وتطهيرا دائما، كما قال القديس أوغسطين، وإلى رهان على سلطة الأيديولوجيا، وعلى قوى الهامش القابلة للتهييج والثورة والتمرد..

في حرب الروس والأوكران استيقظ الغائب الأيديولوجي، ليكون شاهدا على حاضر مأزوم، لا علاقة له بجدليات ماركس المادية والتاريخية، ولا بأطروحاته حول «بؤس الفلسفة» و»الأيديولوجية الألمانية» و»أصل العائلة» وكأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لبس قناع ماركس، وصار جليسه ونديمه في الليالي الحمر، وشاطره «خطيئة» كتابه «البيان الشيوعي» وهذا توصيف هو الأقرب لـ»الخيال الأمني» و»الخيال الثقافي» لإعادة ملاحقة ماركس، والتحريض على طرده من تاريخ الفلسفة، خشيةً من عدواه الثقافية والثورية، رغم أن بوتين لا علاقة له بتاريخ الفلسفة، ولا بمقارباتها المادية والمثالية، ولا بأسئلتها الثقافية، فهو رجل مخابرات عتيد، ورئيس حديدي لدولة كبرى ورثت مزاج القيصر وذكاء لينين الثوري، وصلادة الزعيم ستالين، وهي موروثات سلطوية، وليست فلسفية، ومن الصعب إعادة قراءتها وتوجيهها، والتخلّص من جذرها الجينالوجي، والقبول السهل بنعومة أفكار الغرب الرأسمالي، الذي ما زال ينظر للشرق، ربما أي شرق، بوصفه جغرافيا ملعونة..

تراجيديا الحرب انسحبت إلى الأنساق المضمرة، وجعلت الكثيرين يخشون رهاب تسريباتها النسقية، وعلى نحوٍ قد يتوهمها البعض بأنها تبشير إلى ما يشبه «كومونة» جديدة، وفي «بيان جديد» يمكنهما أنْ يجاهرا بكره الرأسمالية، وبأطروحات السيدين فوكوياما وهنتغنتون عن «نهاية التاريخ» و»صدام الحضارات» وبكره كلّ الحروب الطبقية والعسكرية والأنثربولوجية، التي بات بعضها مكشوفا وفاضحا، عبر ترسيمات اللون واللغة والهوية..

قيام جامعة فلوريدا الأمريكية بتغيير اسم قاعة دراسية تحمل اسم كارل ماركس واستبدالها برقم فقط، يكشف عن هذه الحساسية الأيديولوجية، وعن ذاكرة قديمة لم تغب عنها اوهام الشيوعية، ولا أشباح ماركس ذاته، تلك التي تحدث عنها الفيلسوف التوسير، رغم أن أحد المواقع الأمريكية نشر تقريرا يشرح طبيعة تسميات تلك القاعات الجامعية، وأنها محكومة بمرجعيات تاريخية أدبية وسياسية وفلسفية، ولا علاقة لها بذاكرة الصراع الأيديولوجي، لكن ما حدث يوحي بما يعيدنا إلى ذاكرة الكراهية المكارثية، واسم ماركس، ما زال يملك طعما مراً، وإن وجوده في البرنامج التعليمي سيوقظ الذاكرة الشيوعية التي تقوضت كثيرا، وتغيرت أطروحاتها بعد أن انتهت الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق.. علاقة كارل ماركس بالحرب الأوكرانية، تثير السخرية، وإزالة اسمه من يافطة غرفة للتدريس الجماعي، يضع علامات فارقة على توصيف تلك العلاقة، وكأن الرجل الذي ولد وعاش في ألمانيا، والميت في بريطانيا سيخرج من قبره ليجلس جوار بوتين في غرفته السرية والمحصنة، ليساعده على رسم خريطة طبقية للصراع النووي ضد البورجوازية، ويكشف له العورات الطبقية للرأسمالية.

تغويل الحرب بكل أخطائها، وترحيلها إلى المجال الثقافي سيكون خيارا كارثيا ومحفوفا بالمخاطر، وربما سيكون حافزا لإحياء النزعات الراديكالية في العالم، فرغم أن لوحة القاعة تصف ماركس بأنه «فيلسوف، واقتصادي راديكالي، وناقد ثوري، وأن المدى الفريد لتأثير تفسير ماركس المادي لأساليب عمل المجتمع والاقتصاد والتاريخ، جعلت النظرية الماركسية توسع حتماً تأثيرها إلى النقد الأدبي» إلا أن ما جرى سيثير لغطاً، وربما سيفتح سجالات حول استقلالية الجامعات، وانخراطها في تداولية مفاهيم العنف الثقافي، والعنصرية، والهويات القاتلة والمقتولة، وثنائيات اليمين واليسار والنزعات الشعبوية، وتغذيتها لأفكار التطرف ولتهديد الديمقراطية والحريات والحقوق الأساسية للإنسان.

الذهاب إلى الحائط المسلّح

ما أثارته الحرب في أوكرانيا، فتح الباب على سرديات التاريخ، وعلى احتمالات التعويم الثقافي، إذ باتت الكراهية عنوانا، والتضخم أفقا، والصراع حول الهويات عقدة أخلاقية، وتهديدا بحاجات الغذاء والطاقة تجريداً للوعي الثقافي، وتغولاً لمفهوم القوة، عبر اللجوء إلى الحائط المُسلّح، بوصفه نوعا من «الهابيتوس» الذي يجب أن يعتاده المواطن الأوروبي النقي، أو سيراجعه المواطن اللاجئ والمُدمَج، بوصفه جزءا من فكرة الهوية المطرودة..

الحرب على عالمية الثقافة، وأنسنتها، يعني الذهاب إلى خصخصة وإلى هيمنة وإلى سلطة نسقية، تملك مسوغات توجيه الخطاب الثقافي، ليكون خاضعا إلى تغذية عوامل المعركة، كما حدث في تاريخ صراعاتنا العربية حين رُفع شعار «كلّ شيء من أجل المعركة» وهي معارك فاشلة بالطبع، لأن سلطات اللامعركة تغولت، وتعسكرت، وربما صالحت العدو في الخفاء وصولا إلى العلن! الحرب على ماركس، هي تمظهر خفي ومخاتل لحربٍ ثقافية ستتضح ملامحها قريبا، وستنكشف خنادقها، وسيتغير المزاج العولمي إلى عصاب أقلّوي، تتحصن عنده الجماعات والهويات، وسترفع الشعارات الرنانة التي تروّج لهذه الجماعة او تلك، ترهيبا أو قلقا، أو خشية من هيمنة الآخر، وربما ستتحول إلى استراتيجيات، تتحفز فيها قوى اليمين، أو اليسار الراديكالي للسيطرة على السلطة، واتخاذ الإجراءات الحادة والعنفية، التي ستُزيد من ميزانيات التسلّح، مقابل تخفيض دعم برامج التنمية، والأخطر في هذا المعنى هو إعادة توجيه برامج وسياسات التعليم والأمن الثقافي، لتكون جزءا من سايكوباثيا المعركة، ما يعني العودة إلى الصراع الثقافي، باردا كان أم ساخنا، وسنجد انفسنا أمام مطارات وحدود ورقابات أمنية تُفتش في أسمائنا وفي سحناتنا وفي لهجاتنا عن المختلف، وعن المفارق، وعلى نحوٍ قد يجعلنا مطرودين، وهو ما صرح به أحد المرشحين للرئاسة الفرنسية، بأنه سيعيد اللاجئين إلى فرنسا إلى بلدانهم، لحماية العرق الفرنسي من المخالطة الهجينة، ومن المثاقفة المالحة.

ماركس لم يعد ماركسيا

لا أثق بطموطمية ماركس، ولا حتى بتقسيم التوسير لـ»ماركس الشاب» ذي النزعة الهيغلية، ولا ماركس الشيخ الذي ذهب إلى العلم، وإلى مقاربة رأس المال، لأنّ التاريخ الذي يشبه البلدوزر يمكنه سحق التفاصيل، وتغيير مساراتها، وحتى تقويض «السرديات الكبرى» التي يمكن أن تكون الماركسية جزءا منها، وهذا لا علاقة له بالقطيعة الأبستمولوجية، بل بطبيعة المتغيرات الحادة والسريعة التي باتت تحكم العالم، وتعيد إنتاج الأفكار والهيمنات، وحتى الأدلجات، إذ خرج ماركس من التاريخ، ليدخل المتحف، مثلما خرجت الشيوعية من نظام التداول لتدخل في حيز ثقافي، فيه من الرومانسية، أكثر من الواقعية، ويكتفي بتذكير البشرية بالحلم، والثورة الدائمة، وبفكرة التطهير الثقافي. إن ما حدث في جامعة فلوريدا الأمريكية يفضح نزعات تمثيلية اللاوعي المكارثي، عن خطورة التوظيف الثقافي في المؤسسات التعليمية، وهذا ما قد يكون سببا في تهييج وعي ضدي خبيء، أو وعي تحكمه المتغيرات، ليُعيد إنتاج خنادقه، وأطروحاته، وأسئلته، وشعاراته، وربما مظاهر عنفه وتطرفه، لاسيما وأن العنف العنصري في الولايات المتحدة خلال رئاسة رونالد ترامب، شهد تمظهرات ثقافية عنيفة شملت دولا أخرى، عبر الاحتجاجات الحقوقية، وعبر إسقاط تماثيل رؤساء ورموز تاريخية، وقادة ارتبطت أسماؤهم بحملات الاضطهاد العنصري.

الخوف من ماركس قد يعيد بعض أشباحه، وقد يدفع البعض إلى العودة لقراءة سيرته، وإلى تفتيش ملفاته الشخصية، بوصفه زعيما راديكاليا، وليس فيلسوفا، وباتجاه أن يكون منصة للاحتجاج على الحروب، ولمواجهة أزمات التضخم التي تعيشها أوروبا، وتغوّل العنف الرأسمالي، وهذه الاستعادة ستكون طاردة، فهي تطرد الثقافي لتستعيد السياسي، والاقتصادي، وتدفع أصحاب الهامش الطبقي في أوروبا وغيرها، وحتى الهاربين من الحرب، واللاجئين إلى أوهام الحلول الإنسانية للبحث مرة أخرى عن الحلم، بقطع النظر عن هوية ماركس الذي لم يعد ماركسيا، والذي لا يمكنه أن يطمئن إلى صداقات عنيفة مع السيد بوتين او السيد بايدن او السيد جونسون او ماكرون او حتى السيد زيلينسكي…

كاتب عراقي

القدس العربي

—————————-

عن الاصطفافات العالميّة المحتملة بعد الحرب الأوكرانيّة…/ حازم صاغية

جوليان بورغر، الكاتب البريطانيّ ورئيس تحرير الشؤون الخارجيّة في صحيفة «الغارديان»، كان أحد الكتّاب الذين تناولوا مؤخّراً دور الحرب الروسيّة على أوكرانيا في رسم اصطفافات دوليّة جديدة. نظريّته، التي صاغ معظمَها على شكل تساؤلات، توحي بانقسام بين الولايات المتّحدة وحلفائها الغربيّين وبين باقي العالم غير الغربيّ.

هذا الانقسام فيه ما هو جغرافيّ وما هو سياسيّ وآيديولوجيّ، لكنْ لا الجغرافيّ مكتمل ولا السياسيّ والآيديولوجيّ. الجغرافيّ فيه يسهّل تقديم الانقسام كـ «حرب حضارات» بموجب ثنائيّة the West and the rest الشهيرة. أمّا السياسيّ والآيديولوجيّ فيه فيسهّلان تقديمه كـ «حرب إرادات» أو «حرب مصالح».

في ما خصّ الجغرافيّ، بدا واضحاً، مع تصويت الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة قبل أيّام، أنّ الدول الحاسمة في تأييد روسيا هي بيلاروسيا وكوريا الشماليّة وسوريّا وإريتريا. ثلاث من هذه الدول غير أوروبيّة وواحدة (بيلاروسيا) قليلة الأوروبيّة. لكنّها أيضاً تلتقي كلّها على نمط في الحكم يشبه النمط الروسيّ ولا يربطه غير العداء والقطيعة بالنمط الأوروبيّ – الأميركيّ الشماليّ.

في ما خصّ السياسيّ والآيديولوجيّ، لوحظ أنّ الدول غير الأوروبيّة وغير الأميركيّة الشماليّة التي تجاوزت تأييد أوكرانيا إلى المشاركة في فرض العقوبات على روسيا، هي: اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبيّة ونيوزيلندا. كلّ تلك البلدان، وهي آسيويّة ونصف آسيويّة، تعتمد النمط المعمول به في أوروبا الغربيّة والولايات المتّحدة، أي ذاك الديمقراطيّ البرلمانيّ.

الصين، في هذا السياق، هي التوكيد الأكبر على دقّة اصطفاف جغرافيّ وسياسيّ – آيديولوجيّ كهذا: بلد آسيويّ ضخم ورافض بعناد للديمقراطيّة الغربيّة في وقت واحد. الهند، في المقابل، هي مصدر التشكيك الأكبر برسم هذا الاصطفاف على تلك الصورة: بلد آسيويّ ضخم وديمقراطيّ في آن معاً. الهند لا تتعاطف مع روسيا فحسب، بل تعمل على إنشاء ميكانيزم تجاريّ يعتمد عملتي الروبل والروبي كي يساعد موسكو على تجنّب العقوبات المدولرة.

هنا ننتبه إلى وجه آخر من أوجه النزاع الروسيّ – الغربيّ: إنّه نزاع الشعبويّة القوميّة والعولمة. فالشعبويّة القوميّة، ومن خلال الحرب الأخيرة، نجحت في البرهنة على هشاشة العولمة، وعلى إمكانات تعطيلها. وأغلب الظنّ أنّ نقص العدالة في توزيع الاقتصاد المعولم وسّعَ رقعة الكتل الكارهة للولايات المتّحدة، والتي يُصرف كرهها هذا تأييداً لروسيا «التي تكسر القطبيّة الواحدة» وغضباً على أوكرانيا.

على أيّ حال، من المتوقّع أن ينتشر ويتصاعد هذا التأويل «الحضاريّ» المستند إلى تقسيمات جغرافيّة عامّة وأوّليّة. بعض ما يساعد على انتشار التأويل المذكور المقارنةُ بخريطة الانقسام إبّان الحرب الباردة: يومذاك وجد «الجبّاران» الأميركيّ والسوفياتيّ مواقع كثيرة مؤيّدة لهما في القارّات الست، وذلك لأسباب مختلفة. مثل هذا لا يصحّ اليوم، أو لا يبدو ظاهريّاً أنّه كذلك.

أحد الأسباب التي تقف وراء هذا التحوّل هو انكفاء الولايات المتّحدة في العقدين الأخيرين عن مناطق من العالم على رأسها الشرق الأوسط. التجرّؤ الإيرانيّ عليها وتمكّن بشّار الأسد من البقاء في سلطته والانسحاب من أفغانستان أقنعت الكثيرين بأنّ نهاية الزعامة الأميركيّة باتت على الأبواب.

مع هذا كلّه يبقى هناك عامل لم يُحسب بالدقّة التي يستحقّها: صحيح أنّ العولمة هشّة، كما سبقت الإشارة، لكنّ هذا لا يعني بالضرورة أنّ تلك الهشاشة عادمة لكلّ قوّة. قوّة العولمة ينبغي عدم الاستهانة بها أيضاً. هذا قد يفسّر ما يعتبره البعض أحجيةً في الموقف الصينيّ، أو على الأقلّ تردّداً وتعثّراً. ذاك أنّ تجارة الصين مع الولايات المتّحدة وبلدان أوروبا الغربيّة تفوق، بلا أيّ قياس، مصالحها الاقتصاديّة مع روسيا التي سيتعاظم فقرها.

أمّا الهند فكثيرون هم الذين يشكّكون في قدرتها على الاحتفاظ مدّة طويلة بموقفها الحاليّ. فالصداقة السوفياتيّة – الهنديّة التي نشأت في عهدي جواهر لال نهرو ونيكيتا خروتشوف كانت وثيقة الصلة بسياسات التصنيع السريع التي اعتبرها نهرو العلاج الأنجع لفقر الهند. هذا بدوره صار من الماضي.

يضاف إلى ذلك أنّ العلاقة الروسيّة – الصينيّة الحاليّة تقلق الهنود وقد تنفّرهم وتحملهم على تغيير تموضعهم. وللتذكير، فإنّ تلك الصداقة السوفياتيّة – الهنديّة تلازمت أيضاً مع تصاعد الخلاف بين موسكو وبكين، خصم الهند الأكبر. هذا ما اختلف اليوم. كذلك كانت باكستان، خصم الهند الأصغر، مرعيّة من بكين وواشنطن على السواء، ما عزّز الاندفاع باتّجاه موسكو.

وعلى العموم سيكون من التبسيط والتسرّع القول إنّه «صدام حضاريّ» أو «منافسة حضاريّة»، ولو كانت بعض العلامات توحي بذلك. يكفي أنّ الحديث عن الصين والهند وحدهما، في وضعهما الرجراج والمفتوح على الاحتمالات، يطال أكثر من ثلث سكّان المعمورة. فكيف إذا خرجت روسيا مهزومة من مغامرتها، وسقطت بالتالي الأوهام المعلّقة عليها كطرف يكسر الأحاديّة القطبيّة ويكون مرجعاً للتقليد؟

الشرق الأوسط

————————-

فائزون بـ”نوبل السلام” يوقعون عريضة لمنع حرب نووية

وقّع أكثر من 870 الف شخص حول العالم، على عريضة الكترونية أعدها حائزون على جائزة “نوبل” للسلام ومواطنين من مختلف أنحاء العالم ضد الحرب والأسلحة النووية.

وتضمنت العريضة التي حملت عنوان: “نحن نرفض الحرب والأسلحة النووية” رسالة مفتوحة من حائزين على جائزة نوبل للسلام توجهوا فيها الى رفاقهم المواطنين من أنحاء العالم المشاركة معهم “في حماية كوكبنا وأوطاننا من هؤلاء الذين يهددون بتدميرهم”.

وأسفر غزو أوكرانيا عن كارثة إنسانية للسكان هناك، وتهديد العالم بأسره بخطر اندلاع حرب نووية واسعة النطاق قد تدمر الحضارة البشرية، وتسبب أضراراً بيئية هائلة في مختلف أنحاء الكوكب.

وقالوا في العريضة: “نطالب بوقف فوري لإطلاق النار وبانسحاب جميع قوات الجيش الروسي من أوكرانيا، وبذل كل جهد ممكن لتجنب وقوع هذه الكارثة القاضية من خلال الحوار والمفاوضات”.

ووجهوا دعوة الى روسيا وحلف شمال الأطلسي “للإعلان صراحة عن عدم اللجوء إلى أي استخدام للأسلحة النووية في هذا الصراع”، كما دعوا “جميع الدول إلى دعم معاهدة حظر الأسلحة النووية لضمان عدم مواجهتنا لخطر نووي مماثل في المستقبل”.

وقالوا: “حان الوقت الآن من أجل حظر وتدمير الأسلحة النووية. لأنها الطريقة الوحيدة لضمان سلامة الموائل الطبيعية على هذا الكوكب من ذلك الخطر الوجودي”، وحذروا من أنه “إما القضاء على الأسلحة النووية، وإما فناؤنا”.

ومن أبرز الموقعين على العريضة، الدلاي لاما الحائز على الجائزة العام 1989، ورابطة الأطباء الدوليين لمنع الحرب النووية، والحملة الدولية للقضاء على الأسلحة النووية، واليمنية توكل كرمان، ومحمود يونس وغيرهم.

للتوقيع على هذه العريضة اتبع الرابط التالي

https://secure.avaaz.org/campaign/ar/no_nuclear_war_loc/?fWckicb&fbogname=issa%2BH&fbclid=IwAR0Dg6o8-S1EWvmu4MZcGP8G8QC91aEYptpJungK7OsirCTF9Cf4V7hPAPI

—————————–

القوات الروسية لم تنسحب من محيط كييف..وتركز على”تحرير”دونباس

أكد المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون” جون كيربي أن تغيير روسيا استراتيجيتها مؤخراً في أوكرانيا لا يعني بالضرورة انسحاباً، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة رصدت بعض التحركات الروسية المحدودة.

وقال كيربي للصحافيين مساء الثلاثاء: “رصدنا بعض التحركات العسكرية الروسية الصغيرة والمحدودة في محيط كييف باتجاه الشمال، وتقييمنا أنها إعادة تموضع للانتشار في مناطق أخرى من أوكرانيا وليس انسحاباً”.

وأضاف كيربي أن “ما يحدث في محيط كييف ليس انسحاباً وتقييمنا أن روسيا تراجع أولوياتها ولا نستبعد شن هجوم على مناطق أخرى في أوكرانيا”.

وشدد كيربي على أن “القوات الأوكرانية استعادت السيطرة على بعض المناطق غرب كييف وفي الشرق”، مؤكداً أن “التهديد على كييف لم ينتهِ والقصف على المدينة لم يتوقف”. وتابع: “من الواضح أن الروس لم يكونوا مستعدين ولا قادرين على السيطرة على العاصمة كييف”.

وقال الرئيس الأميركي جو بايدن الثلاثاء، بعد اتصال هاتفي مع قادة فرنسا وبريطانيا والمانيا وايطاليا: “سنرى ما إذا كانوا سيلتزمون بكلمتهم”. وأضاف “يبدو أن هناك توافقاً على أنه يجب رؤية ما لديهم لتقديمه”.

وفي وقت سابق، قال نائب وزير الدفاع الروسي الكسندر فورمين إن موسكو ستقلّص بشكل جذري أنشطتها العسكرية في اتجاه كييف وتشيرنيهيف في شمال البلاد عقب تحقيق تقدم في المحادثات. وأكد رئيس وفد التفاوض الروسي فلاديمير منديسكي إجراء نقاشات مفيدة في المحادثات، مضيفاً أن المقترحات الأوكرانية ستُنقل للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وقال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إن روسيا حققت هدفها، وهو “خفض القدرة العسكرية للقوات المسلحة الأوكرانية بشكل كبير ما يتيح تركيز الانتباه والجهود على الهدف الرئيسي: تحرير دونباس”.

ومن جانبه، قال وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن إن “هناك فرقاً بين ما تصرح به روسيا وما تقوم به في أوكرانيا”، مشدداً أن على موسكو أن “توقف القصف وأن تسحب قواتها”.

وأضاف بلينكن “لم أرَ أي مؤشرات على أن هناك تقدماً من قبل روسيا في مفاوضاتها مع الأوكرانيين “. وتابع أن “بعد المحادثات المفيدة اتفقنا على اقتراح حل، يتيح إمكانية عقد لقاء بين رئيسي الدولتين تزامناً مع توقيع وزيري الخارجية المعاهدة بالأحرف الأولى”.

وأردف أن “إمكانية تحقيق السلام تصبح أقرب شرط العمل السريع على الاتفاق والتوصل إلى التسوية المطلوبة”.

من جهتها، قالت وزارة الدفاع البريطانية في تغريدة إنه “من المرجح جداً أن روسيا تسعى الى نقل قوتها الضاربة من الشمال نحو المناطق (الانفصالية) في دونيتسك ولوغانسك في الشرق”. وقال المتحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إن لندن ستحكم “على بوتين ونظامه على أساس أفعاله وليس كلماته”. وستنظم بريطانيا الخميس مؤتمراً للمانحين لحشد المزيد من الأسلحة لأوكرانيا.

في وقت سابق، حذر الغربيون من أي تهاون أمام الاجتياح الروسي وعبروا عن تصميمهم على مواصلة زيادة الكلفة التي تدفعها روسيا بسبب هجومها الوحشي على أوكرانيا.

وفي غضون ذلك، استهدفت ضربة روسية الثلاثاء مقر الإدارة الإقليمية في ميكولاييف، وهي مدينة قريبة من أوديسا شهدت فترة هدوء في الأيام الأخيرة. وقُتل 12 شخصاً وأصيب 33 آخرون في هذه الضربة بحسب حصيلة جديدة أوردها الرئيس الأوكراني.

ولا يزال الوضع صعباً جداً حول كييف حيث يفر السكان من القرى الواقعة شرق العاصمة، وأكد السكان أن “القوات الروسية تواصل احتلالها هناك”.

—————————–

حديث عن تحول إستراتيجي و10 مؤشرات على قرب الاتفاق.. هل تضع الحرب الروسية في أوكرانيا أوزارها بعد المفاوضات في تركيا؟

أمين حبلا

شهدت الساعات الأخيرة تطورات مهمة على مستوى مسار الحرب الروسية في أوكرانيا، وسط مؤشرات سياسية واقتصادية وميدانية ذات دلالة لافتة على وجود ما وصفه مسؤول أميركي بتحول إستراتيجي في خطة الحرب الروسية.

وأدّت الجولة الجديدة من المفاوضات الروسية الأوكرانية التي استضافتها إسطنبول اليوم الثلاثاء إلى حالة من التفاؤل بقرب انتهاء الحرب الروسية التي اندلعت قبل شهر وشهدت استعصاء على الحسم ومقاومة أوكرانية منعت سقوط العاصمة ومعظم المدن الكبرى في البلاد بيد القوات الروسية.

وبينما يبدو من السابق لوقته الجزم بأن الحرب تتجه إلى نهايتها، فإن عددا من المواقف والتصريحات يشير إلى وجود حالة غير مسبوقة من التقارب بين الطرفين المتفاوضين ومؤشرات لا تخطئها العين على تراجع حالة التصعيد ميدانيا وسياسيا، وهو ما قد يهيئ الأجواء لاتفاق بين الطرفين يضع حدا للحرب الدائرة منذ أكثر من شهر.

ومن أهم هذه التصريحات والمؤشرات ما يأتي:

1- تحدث وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو اليوم الثلاثاء عما وصفه بـ”التقدم الأهم” في المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا منذ اندلاع الحرب، في الجولة التي استضافتها إسطنبول.

وقال الوزير التركي عقب 3 ساعات من المحادثات بين الوفدين الروسي والأوكراني “إنه التقدم الأهم منذ بدء المفاوضات”، مضيفا أن المحادثات لن تستأنف الأربعاء.

2- وبالتزامن مع ذلك، وصفت روسيا المفاوضات التي جرت في تركيا بـ”المفيدة”، حيث أعلن الوفد الروسي إلى محادثات إسطنبول -الثلاثاء- أن موسكو ستقلص بشكل “جذري” نشاطها العسكري في شمال أوكرانيا وبما يشمل المناطق القريبة من كييف، وذلك عقب محادثات “مفيدة” مع الوفد الأوكراني.

وقال نائب وزير الدفاع الروسي ألكسندر فومين “نظرا إلى أن المحادثات عن إعداد اتفاق بشأن وضع أوكرانيا المحايد وخلوها من الأسلحة النووية انتقلت إلى مرحلة عملية.. اتُّخذ قرار بتقليص النشاط العسكري في منطقتي كييف وتشيرنيهيف بشكل جذري”.

3- وتعليقا على ذلك، نقلت قناة “سي إن إن” (CNN) الأميركية عن مسؤول أميركي قوله إن الانسحاب الروسي قرب كييف يمثل تحولا إستراتيجيا في خطتها بالحرب، وأضاف أن الانسحاب الروسي جاء بعد ما وصفه بسلسلة من العمليات الفاشلة ويعكس تحولا روسيا طويل الأمد.

4- كما تحدثت موسكو أيضا عن مشروع، أو “اقتراح حل” بعد مفاوضات إسطنبول، وقال رئيس وفد التفاوض فلاديمير ميدينسكي إن هذا المقترح (المقدم من أوكرانيا) سيُنقل إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وأضاف “بعد المحادثات المفيدة اليوم اتفقنا على اقتراح حل يتيح إمكانية عقد لقاء بين رئيسي الدولتين تزامنا مع توقيع وزيري الخارجية المعاهدة بالأحرف الأولى”.

5- بدوره، أعلن رئيس الوفد الأوكراني عن إحراز تقدم كاف في المحادثات التي أجريت الثلاثاء مع الوفد الروسي في تركيا لحل النزاع مع روسيا، بما يسمح بعقد لقاء بين رئيسي البلدين.

وقال المفاوض الأوكراني ديفيد أراخميا إن “نتائج اجتماع اليوم كافية لعقد لقاء على مستوى القادة” وهو اللقاء الذي كانت روسيا قد استبعدته أمس الاثنين معتبرة أنه سيأتي “بنتائج عكسية”.

6- وفي حين كشف رئيس الوفد الروسي فلاديمير ميدينسكي عن بنود المقترحات الأوكرانية لتوقيع اتفاق سلام بين الطرفين، أكد أن بلاده لا تمانع في انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهو مؤشر دال على أن بعض القضايا الخلافية بين الطرفين بدأت تأخذ طريقها إلى الحل.

7- وفي مؤشر آخر على التقدم الحادث في المفاوضات، تحدث ميدينسكي عما يوصف بخريطة طريق للاتفاق المنتظر، قائلا إن الحديث يدور في البداية عن إعداد وثيقة الاتفاق، ثم التوافق عليها من قبل الوفدين، ثم يصدّق عليها وزيرا الخارجية بعد ذلك، ومن ثم يتم بحث لقاء الرئيسين للتصديق عليها، ولكنه أشار إلى أن عقد مثل هذا اللقاء ليس بالأمر السهل، خاصة أنه يمكن أن يكون متعدد الأطراف وبمشاركة الدول الضامنة للسلام والأمن في أوكرانيا، حسب قوله.

8- وفيما يبدو تناغما مع نتائج مفاوضات إسطنبول اليوم، قال البيت الأبيض إن الرئيس الأميركي جو بايدن سيتحدث هاتفيا إلى زعماء فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة اليوم الثلاثاء لبحث أحدث تطورات الحرب الروسية على أوكرانيا، كما سيتحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اليوم مع نظيره الروسي هاتفيا.

ويأتي الإعلان عن الاتصال المتوقع بين الرؤساء الغربيين الداعمين لأوكرانيا بعد انتهاء الجولة الجديدة من المفاوضات التي تعهدت فيها موسكو بتقليص عملياتها العسكرية قرب مدينتي كييف وتشيرنيهيف الأوكرانيتين، في حين اقترحت أوكرانيا تبنّي وضع محايد مقابل ضمانات أمنية دولية تحافظ على سلامة أراضيها.

9- وقد تجاوبت الأسواق الدولية سريعا مع المؤشرات الإيجابية الجديدة، حيث تراجعت أسعار النفط بأكثر من 5% الثلاثاء، وذلك بعدما خفف التقدّم الذي يبدو أن المفاوضات بين موسكو وكييف تحققه المخاوف المرتبطة بإمدادات الخام الروسي على خلفية حرب أوكرانيا.

10- كما سجّلت أسواق الأسهم في أوروبا ارتفاعا اليوم الثلاثاء على خلفية التقدّم في مفاوضات السلام بين أوكرانيا وروسيا، في حين ارتفع الروبل بنسبة 10%.

المصدر : الجزيرة + وكالات

————————-

======================

————————————

عن طرق الحديث حول وباء كورونا.. معبر بين عالمين/ ديفيد فاريير

ترجمة: سارة حبيب

في إحدى الليالي، كنت أتحدث عبر الإنترنت مع صديقي بيتر، وهو طبيب عام في أدنبرة التي يعيش فيها كلانا، وكلّمني عن سير عمله خلال الجائحة. يحب بيتر الشعر (حتى أنه يستخدم القصائد في تدريس طلاب الطب) ولطالما كانت أفكاره تجري في هذا الاتجاه. لكن الاستعارات، على وجه الخصوص، كانت تضايقه؛ الاستعارات العسكرية التي تتحدث عن كوادر الخدمات الصحية الوطنية وهم على “الخطوط الأمامية” يحاربون “عدوًا خفيًا”.

“يبذل العاملون في قطاع الخدمات الصحية الوطنية قصارى جهدهم، وفي ظروف صعبة للغاية”، قال بيتر، “إننا بحاجة إلى استعارات جديدة تمكّن الناس من أن يتخذوا قرارات سليمة في أوقات الأزمات”.

أمضى بيتر في ذلك الحين أيامًا وهو يتحدث مع مرضاه الأكثر تقدمًا في السن حول ما يرغبون بفعله إن تدهورت صحتهم حدّ أن يحتاجوا إلى جهاز التنفس الاصطناعي. فما إن يتم تنبيبهم، لن يكون بعضهم قادرًا على التنفس من جديد من غير مساعدة. “هذه محادثات هامة للغاية، وشرف لي أن أكون جزءًا منها. لكن اللغة العسكرية لا تساعد أبدًا”، قال بيتر.

في كتابها “المرض بوصفه استعارة”، ناقشت سوزان سونتاغ أن للمرض والاستعارة تاريخًا مشتركًا بعيد الأمد ومُلتبسًا. الكثير من أمراض القرن التاسع عشر كان يُنظر إليها بوصفها تعابير ذات طابعٍ معيوب أو حتى، بالعودة إلى العالم الكلاسيكي، ذات حكم غيبي. وحتى في أيامنا هذه، أدى جعلُ المرضِ رمزيًا إلى الكثير من سوء الفهم والألم، حائلًا دون تلقي المرضى المعالجة الملائمة ومُشجّعًا اللامبالين. في بداية جائحة كورونا، ظل دونالد ترامب، لعدة أسابيع، يتحدث عن “الفيروس الصيني” كما لو كان تهديدًا معروفًا، مُخفيًا حقيقة أن كوفيد-19 كان ينتشر بين الأميركيين الذين لم يسافروا خارج البلاد. ومع دخول الولايات المتحدة إلى حالة الإقفال التام، كتب بول إيلي في “النيويوركر” متحسّرًا: “إننا بسبب كوننا مأسورين بالفيروس بوصفه استعارة وبالتعابير التي ارتبطت به – انتشار، تصاعد، امتداد، ارتباط- فقدنا احتراسنا”. كما أن العودة بالذاكرة إلى الانتصارات العسكرية الماضية قادت الكثيرين في بريطانيا لأن يقايضوا الإقفالَ باحتفالات الشوارع في “يوم النصر”، كما لو كانوا راغبين بجعل الفيروس يشبه عدوًا بوسعهم تمييزه والانتصار عليه.

يبدو إذًا أن صديقي كان يقارب منطقة خطرة في اقتراحه أننا نحتاج إلى استعارات جديدة. “إن أكثر طرق المرض صحةً”، وفق نصيحة سونتاغ، “هي الطريقة الأكثر تطهّرًا من التفكير الاستعاريّ، والأكثر مقاومة لـه”. إلا أن هذا يقلّل من قيمة الدور الذي تلعبه الاستعارة في مساعدتنا على فهم عالمٍ تغيّر من حولنا بصورة جوهرية. أصل مفردة “metaphor” (استعارة) يعود إلى التعبير الإغريقي الذي يعني “يُنقَلُ عبر”. تخلقُ الاستعارات المعنى بوضعِ مفردة مكان الأخرى. ومنذ وصول الجائحة، وجدنا أننا جميعًا نُقلنا إلى واقع جديد؛ ومحلَّ العالم الذي عرفناه حلّ عالمٌ جديد يشبهه إنما، في الآن ذاته، متغيّر تغييرًا جذريًا. قبل سبعة أيام من دخول المملكة المتحدة إلى حالة الإقفال التام، قررت عائلتي أن تعزل نفسها. لم يكن أحد منا ينتمي إلى الفئة عالية الخطورة، لكن زوجتي أصيبت بسعال وبدا من الصائب افتراضُ أن الفيروس كان ينتشر في عائلتنا. إلا أن ذلك بقي ملتبسًا: تطورت أعراض زوجتي لتشمل ضيق التنفس، الإعياء، وفقدان حاستي الشم والتذوق، لكن من دون حمى؛ بينما لم تظهر أي أعراض على بقيتنا. ثم تعافت، لكنها ظلت تصاب بضيق التنفس لأسابيع بعدها. هل كانت مصابة بالفيروس، أم لا؟ هل كان بقيتنا، بطريقة أو بأخرى، غير مصابين، أو ببساطة مصابين من دون أعراض؟

كتبت سونتاغ: “كل من يولد يحمل جنسية مزدوجة، في مملكة الأصحاء ومملكة السقماء”. إلا أن طبيعة هذا الفيروس الذي لا يُحدث أعراضًا قبل مرور بضعة أيام على الإصابة ويصيب بعض الناس من دون أي مؤشرات خارجية، تعني أن معظمنا لا يعرف أي مملكة يسكن. وفي غياب الأعراض الأكثر شدة، أو عدم اللجوء إلى فحص موثوق، فإن احتمال الإصابة بكوفيد-19 أو انتقاله بيننا ينقلنا باستمرار بين واقعين متناقضين.

وبما أن عائلتي قررت أن تعزل ذاتها، فقد كنا نعيش في مملكتيّ السقماء والأصحاء في الآن ذاته. إن شروط مواطنتنا المزدوجة تلك تعني أنه، لكي نكون مواطنين صالحين في كلا المملكتين، علينا أن نتخيل أنفسنا مرضى مسبقًا. حين كانت زوجتي مريضة، كنت مفرط الانتباه إلى أي وخز خفيف في حلقي أو سعال يصدر عن أطفالي، مُفسّرًا أي عارض دومًا على ضوء تشابهه مع “الأعراض” الشهيرة. وبعد أن استعادت عافيتها، بقينا في حالة من التناقض، كما لو أن واقعًا آخر يوجد خلف الواقع الذي نعيشه. بالتالي، وحين تبدو كل لمسةِ يدٍ على الوجه مشحونةً بالعواقب المحتملة، لا يعود بإمكاننا احتمال قراءة أنفسنا على نحو حرفي. فيتولى الأمر، بدلًا عن ذلك، نوع من كينونة استعارية: علينا أن نستمر بالتصرف كما لو كنا مصابين بالفيروس، بغضّ النظر عمّا نشعر به.

في مقالتها “عن المرض”، تكتب فيرجينيا وولف أن العالم يتبدل بالنسبة إلى الشخص المريض: “كم تغيّر شكلُ العالم؛ أدوات العمل باتت نائية؛ أصوات المهرجان… تُسمَع عبر الحقول البعيدة”. لكن، ما كانت يومًا بلاد السقماء أصبحت بلادنا جميعًا. الشوارع والأبنية فارغة، وفي السماء شحّت حركة المرور. شكل أيامنا تغيّر. وحتى حين نكون في منازلنا، في أكثر الأماكن ألفة، نرى أن حياة جديدة حلّت محلّ القديمة.

إن المرض، كما تقول وولف، يكشف عن “بلدان غير مكتشفة”. غير أن البلد غير المكتشف لعزلتي الذاتية لم يكن أقل غنًى بسبب كونه عاديًا ومبتذلًا. بل تضمّن صراعات وشجارات؛ لكننا تعلمنا أن نتبوأ إيقاعات جديدة. في أيام العزلة تلك، راقبت بامتنان أطفالي وهم يتأقلمون مع التغيير المفاجئ. كانت هنالك حسرة أيضًا، حسرةٌ على الحياة كما كانت، وفرص ضائعة للبكاء على الموتى، يوم كنت غير قادر على حضور جنازة جدتي. مع هذا، كنّا معًا نعيد صنع أيامنا من مخزون أكثرَ محدودية.

ورويدًا رويدًا، أصبحنا معتادين على قيود الإقفال. لكن، مع إلغاء الإقفال، وجدنا أنفسنا وقد نُقلنا، مرة أخرى، إلى عالم يشبه العالم الذي عرفناه، إلا أنه أيضًا مختلف بصورة جوهرية. خرجت البلدان من الإقفال، وتهرأت الصرامة في بعضها. استُؤنفت الحياة العامة إنما بشكل متقطع، وظللنا ننتقل من وإلى فترات عزلة. بالنتيجة، ولنتداول كل هذا، لن يضرّنا أن نقلّب الفكر في استخدام الاستعارة، وفحواها الغريب القائم على الانتقال بين عالمين.

اعتقدت وولف أن المرض يغيّرنا من الداخل، مبعدًا إيانا عن “الحاجات والمخاوف الاعتيادية”. إلا أن الحاجات والمخاوف الاعتيادية تجمعنا الآن أكثر من أي وقت آخر في الذاكرة البشرية الحية. والاستعارة، من حيث أنها تجمع أشياء مختلفةً ظاهريًا، ترعى شعورًا بالقواسم المشتركة. إن فهم ذواتنا باعتبارها سقيمة على نحو محتمل – منتقلين بين مملكتي السقماء والأصحاء- يمكّننا من الذهاب أبعد من ما نعرفه ودخول تجاربِ الآخرين. والقدرة على فعل هذا سوف تكون أساسية للعيش في الأوقات المضطربة القادمة، من أجل تجنب ذروة مهلكة أخرى، لا سيما إذا لم يُرد عالم ما بعد الوباء أن يكرّر أخطاء العالم الذي يحلّ محلّه.

ربما تكون الاستعارة، رغمًا عن سونتاغ، طريقةً سليمة لتناول الوباء وما سيأتي بعده. في مقالة لها في صحيفة “فايننشال تايمز”، شجبت أرونداتي روي، مثلما فعل صديقي بيتر، قادةَ العالم الذين يلجؤون إلى الاستعارات الحربية في أوقات الأزمات. الوباء “بوابة”، كتبت روي، “معبرٌ بين عالمٍ وآخرٌ تالٍ له”. وسوف يكون الخيار، وفقًا لروي، بين عالم نعرفه وعالم لا يزال علينا تصوّره. إن الاستعارة هي تحدّ لتخيّلاتنا. وهي تدعونا إلى التخلّي عن كيف تعلمنا أن نفكر بالأشياء، وإلى قبول طرق رؤية جديدة. تقدم كل استعارة لنا خيارًا: أن نركّز على ما يجمع بين جزأيها، أو على ما يفرّق بينهما. واعتناقُ الإمكانيات التي نجدها في الاستعارة يمكن له أن يساعدنا في العبور من العالم القديم إلى عالم أفضل نتمناه.

**********

ديفيد فاريير: صحافي، كاتب، ومدرّس في الأدب الإنكليزي والبيئة في جامعة أدنبرة. له الكثير من الكتب البحثية، منها “آثارُ أقدام: بحثًا عن المستحاثات المستقبلية”. وهو مهتم على وجه الخصوص بكيفية استجابة الأدب، لا سيما الشعر، لتحديات عصر الأنثروبوسين. يعيش اليوم في أدنبرة، اسكتلندا.

رابط النص الأصلي:

 المترجم: سارة حبيب

ضفة ثالثة

————————–

سوزان سونتاج: النظر في وجه المرض

الفصل الثاني من كتاب “المرض كإستعارة” والعنوان من إختيار “مدينة” لوصف كتابة سوزان سونتاج التي لم تضع عناوين لفصول كتابها

ترجمة أحمد زغلول الشيطي

الكتابة لعبة جميلة، لكن الكتابة عن المرض ليست كذلك تماماَ؛ وبالنسبة لكاتبة مثل سوزان سونتاج التي “لا تجد نفسها إن لم تكتب” كانت الكتابة عن المرض أمرًا يخص النظر في وجه المرض باللغة. سوزان سونتاج (ولدت في نيويورك 1933) كاتبة وناقدة وروائية أمريكية، كتبت للمسرح وأخرجت مسرحيات وكتبت للسينما وأخرجت أفلامًا وشاركت في بعض أفلام وودي ألن، ورحلت في نيويورك( 29 ديسمبر 2004)، تاركة عددًا من الكتب والأفكار التي لاقت صدى على نطاق واسع. من بين كتبها؛ حول الفوتوغراف (1977)، المرض كاستعارة (1978)، الكتابة نفسها: عن رولان بارت (1982)، في أميركا (2000). ولها عدد من الروايات منها؛ ملاذ أخير (1967) ورحلة الى هانوي (1969) ، بالإضافة إلي يومياتها التي صدرت في 3 أجزاء.

في الثالثة والأربعين من عمرها أصيبت سونتاج بسرطان الدم، وهو المرض الذي أنهى حياتها، بعد أن ظلت تقاومه لأكثر من 25 سنة. على مدار حياتها وقفت سونتاج ضد الحرب في كل مكان، بداية من الحرب الأمريكية في فيتنام، مرورًا بحروب إسرائيل المتكررة، وصولاً إلى حرب البوسنة في تسعينيات القرن الماضي. وقد كانت ترى أن الكتابة تحت سطوة الغضب أو الخوف أو الرعب أفضل كثيرًا من الكتابة تحت سطوة الإعجاب أو الحب، فهل كان كتابها “المرض استعارةً” أو ” المرض مجازًا” مكتوبًا تحت سطوة الخوف؟

ينظر الكتاب، وكاتبته، في وجه المرض، لذلك فهو حافل بالمجاز، الذي هو أمر لازم لوصف الشعور بالألم، وعلى الرغم من موضوع الكتاب سنجد جملاً من عينة أننا “حين الولادة، نتحصل على جنسية مزدوجة؛ تنسبنا إما الى عالم الأصحاء وإما الى عالم المرضى“. أو أن “السُّل يجعل من صاحبه شفَّافًا“، وإشارات إلى مدى شاعرية الميتات التي يحملها مرض ولا يحملها آخر، وذكر للنضال والصراع، بما فيه من تشخيص لهذا الألم الذي يجيء فيقضي علينا أو نقضي عليه. المجاز هنا يبدأ من اسم المرض نفسه؛ السرطان الذي سمي هكذا لأن الأوردة المتورمة التي يخلفها المرض تشبه أرجل الكابوريا.

*المنشور هنا هو الفصل الثاني من كتاب “المرض كإستعارة” والعنوان من إختيار “مدينة” لوصف كتابة سوزان سونتاج التي لم تضع عناوين لفصول كتابها

النص

—————————

لفترات طويلة من تاريخيهما، تداخلت وتقاطعت الاستعمالات المجازية لمرضى السُّل والسرطان. استخدم قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية كلمة “الاستهلاك” Consumption مرادفًا للسل الرئوي. في وقت مبكر من 1398 (كتب جون أوف تريفيزا: إذا ما أُضعِف َالدم، يواجه الجسد الإنهاك Consumpcyon  والانهيار التدريجي) 1 لكن الفهم ما قبل الحديث للسرطان يستحضر أيضا فكرة الاستهلاك. أعطى قاموس أكسفورد تعريفًا مجازيًّا مبكرًا لمرض السرطان وهو: أي شيء يُربك، يُتلف، يُفسد، أو يستهلك سرًا وببطء. (في 1528 أبدى توماس باينل: أن الكانكر  2  A kancerكآبة في الصدر تتغذى على أجزاء من الجسم).

التعريف الأول للسرطان هو نمو، كتلة، ورم، نتوء، واسمه باليونانية Karkinos كاركينوس، وباللاتينية سرطان Cancer وكلاهما يعنى سرطان البحر أو الكابوريا، وفقًا لجالن (كان أحد أطباء اليونان؛وأعظم أطباء العصور القديمة عاش بين 129 و200 ميلادية)  كان هذا مصدر ًا للإلهام للتشابه بين العروق والأوردة الداخلية المتورمة، وبين أرجل سرطان البحر، وليس كما يعتقد كثيرٌ من الناس من أن حركية المرض تتقدم ببطءٍ أو تنسل مثل السرطان، ولكن تشير الدراسة الإتيمولوجية (العلم المهتم بالبحث عن حقيقة الكلمة وأصلها) الى أن السُّل كان فيما مضى يعتبر نتوءًا غير طبيعي، الكلمة الإنجليزية Tuberculosis وتعنى مرض السُّل. الاسم المصغر في اللاتينية هوtuberculum ويعنى درنة أو حدبة، أو بروز أوتورم، ويعنى انتفاخ رهيب، أو سنام، أو نتوء، أو نمو. كان رادولف فيرتشو الذي أسس علم الامراض الخلوية (أحد فروع علم الأمراض المهتم بتشخيص ودراسة المرض على مستوى الخلية) سنة 1850 يعتقد في tubercle الدرنة كورم.

هكذا منذ العصور الوسطى وحتى وقت قريب كان مرضُ السُّل–تصنيفيًّا –هو السرطان، وقد وصِفَ كالسُّل الذي كان عمليةً يُستهلك بها الجسد.

لم تتحدد المفاهيم الحديثة للمرضين قبل ابتكار علم أمراض الخلية. فقط مع ظهور المجهر كان ممكنًا إدراك خصائص السرطان كنوع من النشاط الخلوي، وفهم أن المرض لا يأخذ دائمًا شكل ورمٍ خارجيٍ أو حتى ملموس. (قبل منتصف القرن التاسع عشر، لم يتمكن أحد من تعريف اللوكيميا Leukemia ( سرطان الدم ) كشكل من أشكال السرطان)، ولم يكن ممكنًا نهائيًا فصل مرض السُّل عن السرطان إلى ما بعد 1882 عندما اكتُشِفَ أن السُّل هو عدوى بكتيرية. هذا التقدم في التفكير الطبي مكَّن للاستعارات الرائدة في المرضين لتصبح واضحة المعالم، وفى الجانب الأكبر متعارضة ( بين السل والسرطان).  أمكن للتصورات الخيالية الحديثة حول مرض السرطان إذًا البدء في التشكل. سيرث الخيال منذ عشرينيات القرن العشرين معظم مشكلات المعالجة الدرامية المؤسسة على تصورات عن مرض السُّل، الا أن المتخيل المختلف تمامًا عن كل من المرضين الاثنين وأعراضهما جاءت تقريبًا متعارضة بطرق مختلفة.

    فُهم مرض السُّل كمرضٍ يُصيبُ عضوًا واحدًا هو الرئة، بينما أُدرك السرطان كمرضٍ يصيب أي عضوٍ، بل ويمكنه الوصول إلى كامل الجسم. عُرف السُّل بمرض التباينات الحادة: من شحوبِ الوجهِ إلى الأحمر المتورد، إلىفرط النشاط بالتناوب مع الوهن. يتضح المسار المتقطع للمرض بواسطة ما يعرف بالأعراض النموذجية للسل، والكحة، وحالة المصاب المحطم بالسعال، يعود للحركة بارتياح، ينتعش تنفسه، ويتنفس بشكل طبيعي، ثم يعود إلى السعال مرة أخرى. السرطان مرضٌ في حالةِ نموٍ غير طبيعية(مرئي في بعض الأحيان، أكثر خصائصه داخلية) وأخيرًا، نموٌ مميتٌ ذو إيقاعٍ منتظمٍ راسخٌلا يتوقف. على الرغم منوجود فترات يتوقف فيها الورم (فترة سكون)، لا ينتج السرطان تباينات من نوع التناقض في السُّلوكيات–النشاط المحموم أو الاستسلام العاطفي–التي يعتقد إنها تابعة لنموذج مرض السُّل. وفي حين أن شحوب المسلول مؤقت، فإن شحوبَ مريض السرطان ثابتٌ لا يتغير. يجعل السُّل الجسم شفافًا. الأشعة السينية أداة التشخيص القياسية تسمحُ للمرءِ، غالبًا منذ المرة الأولى، رؤية الداخل، ليصبح شفافًا لنفسه. في حين أن المفهوم عن مرض السُّل منذ وقتٍ مبكرٍ أنه غنىٌ بالأعراضِ المرئيةِ (الهزال التدريجي، والسعال، والوهن، والحُمى)، ويمكن أن يكتشف فجأة، وبطريقة دراماتيكية (دمفي المنديل)، أما في حالة السرطان يُعتقد على نحوٍ خاصٍ أن الأعراضَ الرئيسيةَ تكونُ غير مرئيةٍ–حتى المرحلة الأخيرة، بعد فوات الأوان. غالبًا يكتشف المرض عن طريقِ المصادفةِ، أو من خلال فحصٍ طبيٍ روتينيٍ، يمكن أن يكون المرض في حالة متقدمةٍ إلى حد بعيد دون أية أعراضٍ ملموسةٍ.يمتلك المرء جسدًا غامضًا يتحتم عليه حمله إلى متخصصٍ ليكتشف ما إذا كان يحتوي على سرطان. فما لا يمكن للمريض إدراكه سيحدده الاختصاصي بواسطةِ الأنسجةِ المأخوذةِ من الجسمِ. مرضى السُّل ربما يرون أشعتهم السينية أو حتى يمتلكونه؛ فقد كان المرضى بالمصحة في الجبل السحري(الرواية الأكثر شهرة للروائي الألماني توماس مان) مثلاً يحملونها في جيوبهم الأمامية. مرضى السرطان لا ينظرون في فحصِ الأنسجةِ المستأصلة من أجسادهم.

كان من المعتقد لفترة طويلة أن السُّل يسببُ نوباتٍ من النشوةِ، ويزيدُ الشهيةَ، ويفاقمُ الرغبةَ الجنسيةَ. جزءٌ من النظام المحدد للمرضى في الجبل السحري هو الإفطار الثاني، يُؤكل بحيويةٍ بالغةٍ. أما السرطان فيُعتقد أنه يشلُ الحيويةَ، يجعلُ الأكلَ محنةً، ورغبةً مميتةً. لقد تُصُوِر مرض السُّل كمنشطٍ جنسيٍ، ومانحٍ لقدراتٍ غير عاديةٍ في الاغراء، بينما اعتَبَر السرطان بمثابةلاغٍ للجنسِ–لكن من خصائصِ السُّل أن العديدَ من أعراضِهِ مُضَللٌ–الحيويةُ التي تظهرُ في التوردِ الخفيفِ للخدين وكأنها احدى علامات الصحةِ، وهي من أثرِ الحمى–وربما يكون الارتفاع المفاجئ في الحيوية علامةً على الاقترابِ من الموتِ. (هذا التدفق للطاقةِ عمومًا سوف يكونُ ذاتي التدمير، وربما يدمر الآخرين أيضًا:في هذا النحو تذكر أسطورة من أساطير الغرب الأمريكي بطلها دوك هوليداي Doc Holliday (هو جون هنري  .. مقامر محترف ومقاتل وطبيب أسنان أمريكي ، إنضم لمليشيا المأمور الأمريكي وايت إيرب الذي كان ينفذ القانون بأيديه ،وتحول دوك هوليداي معه إلي قتال قتلة ،واشتهر بقدرته الإستثنائية علي ضرب النارولد في 14اغسطس 1851 و توفي على سرير في غرفة بأحد الفنادق بمرض السل وهو في السادسة والثلاثين من عمره)..الأسطورة وصفت دوك هوليداي بأنه:رجل العصابات المسلول وقد تم تحريره من القيود الأخلاقية بسبب ويلات مرضه.

وحده السرطان يمتلكُ الاعراضَ الحقيقيةَ.أما مرضُ السُّل هو التفككُ، والتكاثرُ، والتجريدُ، هو مرض السوائلِ–يدخلُ الجسمُ في دورةٍ من البلغمِ، والمخاطِ، والبُصَاقِ، وأخيرًا الدمُ–والهواء، الحاجة إلى الهواءِ الأفضلِ. مرض السرطان هو التَفَسُخ، أنسجة الجسمِ تتحولُ الى شيءٍ عسيرٍ. أليس جيمس Alice James(صاحبة اليوميات الشهيرة في القرن التاسع عشر، و شقيقة الروائي هنري جيمس و الفيلسوف و عالم النفس الأمريكي ويليام جيمس) تكتبُ في يومياتِها في 1892 قبل سنةٍ على وفاتِها بسببِ السرطان، تتحدث عن “أحجارِ الجرانيتِ غير المقدسة في ثدييَّ.. هذه كتلةٌ حيةٌ، جنينٌ يمتلكُ إرادتَه الخاصة“. نوفاليس Novalis ( شاعر وكاتب ألماني إسمه الحقيقي فريدرديش فرايهير فون هاردنبرج ولد في  1772ومات في1801 ) في مدخلٍ مكتوبٍ لمشروعِ موسوعتِهِ 1798 يُعَرِّف السرطانَ جنبًا الى جنبٍ مع الغرغرينا باسم “الطفيليات الكاملة–تنمو، وتُستَولد، وتُوَّلِد، ولها هيكلها الخاص، يُفرز، يأكلُ“.

السرطان حملٌ شيطانىٌ. لابد أن القديس جيروم St. Jerome كان يفكر في السرطانِ عندما كَتَب َ“المرء ببطنه المتورمة حامل بموته الخاص“. 3 ومع أن الهزالَ هو جزءٌ من مسارِ كلا المرضين فإن لخسارةِ الوزنِ بسبب السُّل مفهومٌ مختلفٌ تمامًا عن خسارةِ الوزنِ بسبب مرضِ السرطان. في مرض السُّل الشخص “يُستَهلك” يُحرق. في السرطانِ المريض “يُنْتَهك” بواسطة الخلايا الدخيلة، التي تَتَضَاعفُ، وتتسببُ في ضمورٍ، أو انسدادٍ في وظائفِ الجسم. مريضُ السرطان “يذبلُ“ (كلمة أليس جيمس) أو “يَنْكَمِشُ“ (كلمة فيلهلم رايتش Wilhelm Reich’s). 

السُّل مرض الزمن. يُسَّرِع الحياة، يُسَلِّطُ الضوءَ عليها، يُرَوحِنِهَا. وهي في كل من الإنجليزية والفرنسية Consumption استهلاكٌ “خاطفٌ“. للسرطانِ مراحل بالأحرى بدلاً عن السرعِة. هو في (النهاية) “محطةٌ“. السرطانُ مخادعٌ يعملُ ببطءٍ: من التعبيرات الشهيرة في كتابةِ النعي هي أن شخصًا ما “توفى بعد مرض طويل“. كل وصفٍ لمرضِ السرطان يَسِمَه بالبطءِ، وهكذا تم استخدام الصفةِ مجازًا. كتب ويكليف Wyclif سنة 1382 (مترجمًا جملة من تيموثاوس الثانية2:17) “وَكَلِمَتُهُمْ تَرْعَى كَآكِلَةٍ“ note number=”4″] [/fnote] ومن بين أبكر الاستخدامات التصويرية للسرطان هي استعارة “الكسل” و“التراخى“؛ مجازًا السرطان ليس مرض الزمنِ، ولا من أمراضِ الفضاء. تُشير الاستعارات الرئيسية إلى انتمائِه إلى الطوبوغرافيا (السرطان “ينتشر” أو “يتزايد” أو يكون “منشرًا” يتم “استئصال” الأورام جراحيًّا) وهي النتيجة الأكثر رعبًا، موتٌ غير مكتملٍ هو تشويهٌ أو بتر جزءٍ من الجسمِ.

    غالبًا ما يُتَصَوّر السُّل كمرضٍ من أمراضِ الفقرِ والحرمان–من الملابسِ الرقيقةِ، الأجسام الهزيلةِ، والغرف الباردةِ، قليلة النظافة، وعدم ملائمةِ وكفاية الطعامِ. ربما لا يكونُ الفقرُ حرفيًّا مثل “ميمي“ في ” لا بوهيم” ( أوبرا كلاسيكية من تأليف جياكومو بوتشيني )، أو مثل درن مارجريت غوتيه في “غادة الكامليا” التي كانت تَعِيشُ في الترفِ بينما هي في الداخلِ مجرد متشردةٍ. على النقيضِ، السرطان هو مرضُ حياةِ الطبقةِ المتوسطةِ، وهو مرضٌ مرتبطٌ بالثراءِ، والوفرةِ. الدولُ الغنيةُ لديها أعلى معدلاتِ الإصابةِ بالسرطانِ، ويُنظر إلى ارتفاعِ معدلِ الإصابةِ بالمرضِ كنتيجةٍ في جزءٍ منها الى اتباع نظامٍ غذائيٍ غنىٍ بالدهونِ والبروتيناتِ، من التدفقاتِ السامةِ للمجتمعِ الصناعي الذي يخلقُ الثراء. يُعرَف علاج السُّل بتحفيز الشهيةِ، ويُعرَف علاج السرطانِ بالغثيانِ وفقدانِ الشهيةِ. ناقصو التغذيةِ وأسفاه يغذون أنفسهم دون جدوى. والمتخمُون بالطعامِ غير قادرين على الأكلِ!

كان يُعتَقَدُ أنه يمكن مساعدة مريضِ السُّل حتى الشفاءِ من خلال تغيير البيئة. وكان هناك قناعة أن السُّل مرضٌ مبللٌ، مرضُ الرطوبةِ والمدنِ الباردةِ. داخلُ الجسمِ صار رطبًا (“الرطوبة في الرئتين” كانت عبارةً أثيرةً) وكان لزامًا أن تجف. كان الأطباء عادة ما ينصحون بالسفرإلى الأماكنِ المرتفعةِ، الجافةِ–الجبال، والصحراء. لكن لا يعتقد أن تغييرًا فيما يحيط من الممكن أن يساعد مريض السرطان. المعركةُ كُلُها داخلَ جسدِ الإنسان. قد يكونُ المعتقدُ على نحوٍ متزايدٍ أن شيئًا ما في البيئة يُسببُ السرطانَ. ولكن حالما يتواجد المرض لا يمكن عكس اتجاهه، أو تحجيمه بالانتقال الى بيئةٍ أفضل، أقل تحفيزًا للمرضِ.

كان من المتصور أن السُّل غير مؤلمٍ نسبيًا.  بينما يُعتقد أن السرطان ذو ألمٍ حادٍ ودائمٍ. يُتَخَيّلُ أن السُّل يوفر موتًا سهلاً في حين أن السرطان بصورةٍ مثيرةٍ هو الفرد التعس. لأكثر من مئة عامٍ ظل السُّل الطريقةَ المفضلةَ لإضفاءِ المعنى على الموتِ –داءُ التهذيبِ المصفى. أدبُ القرن التاسع عشر وقد شٌحِن بأوصافٍ ميتاتٍ بهيجةٍ بالسُّل، تصيب لاسيما الشباب. مثل إيفا الصغيرة في “كوخ العم توم” وبول ابن دمبى وولده في“دمبى وولده“ وسيمك في “نيكولاس نيكلبي“ حيث وصف ديكنز السُّل (“كمرض رهيب“ صفى الموت ونقاه من الجانب العام.. حيث النضال بين الجسد والروح تدريجي، وهادئ، ومهيب، ونتيجته مؤكدة، يومًا بعد يومٍ، برهة بعد الأخرى، يذوى الجانب المميت بعيدًا، لتُنبِت روحُ الأملَ والتفاؤل البراق)

على النقيضِ من هذه الميتات النبيلة الرائقة بمرض السُّل بكل خسته، يأتي الموتُ الفاجع بالسرطان لوالد “يوجن جانت“ في رواية توماس وولف “النهر والزمن“ وكذلك الأخت في فيلم برجمان “صرخات وهمسات“.  وبينما صُور موت مريض السُّل بجنون، أكثر جمالًا، أكثر وجدانيةً، رُسم موتُ الشخصِ المصاب بالسرطان مستذلاً بالخوفِ والمعاناةِ. كمن سُرقت كل قدراته على السمو الذاتي.

هذه هي التناقضات المستمدة من الأساطير الشعبية عن كلا المرضين، العديد من مرضى السُّل ماتوا بألمٍ فظيع، وبعض الناس يموتون بالسرطانِ يشعرون بالقليل من الألمِ، أو دون أية ألمٍ. الفقراءُ والأغنياءُ على حدٍ سواء أصيبوا بالسُّل، والسرطان. ليس كل من مرض بالسُّل قد عانى من السعالِ، ولكن الأساطير تستمر، ليس فقط لأن السُّل الرئوي هو الشكل الأكثر شيوعًا لمرضِ السُّل، بل أيضًا لأن أغلب الناس تفكر في السُّل كمرضً يصيب عادةً عضوًا واحدًا مقارنة بالسرطانِ. هذا بسبب الأساطير حول مرضِ السُّل، والتي جعلته لا يناسب الدماغَ ،ولا الحنجرةَ، ولا الكليتين، ولا مواقع أخرى حيث يمكن لبكتريا الدرن أن تستقر أيضًا. لكن لدينا علاقة وثيقة مع التصور التقليدي (التنفس، الحياة) المرتبط بالرئتين.

بينما يأخذُ مرضُ السُّل مميزات الرئتين، اللتين هما ضمن الجزء العلوي من الجسم، الجزء المُرَوحَنْ من الجسد. فالسرطان سيء السمعة، لشهرته بمهاجمة أجزاءٍ معينةٍ من الجسمِ (القولون، المثانة، المستقيم، الثدي، عنق الرحم، البروستاتا، الخصية) وهي أجزاء يكون من المحرج الاعتراف بها. الإصابة بورم عمومًا يثير بعض مشاعر العار، ولكن التراتبية الهرمية لأعضاء الجسد، تؤدى الى الاعتداد بسرطان الرئة ليكون أقل عارًا من سرطان المستقيم. هناك نوعٌ واحدٌ من السرطان لا يأخذ شكل الورمِ يحتلُ الآن في الخيال التجاري، الدور الذي كان يحتكره السُّل، كمرضٍ رومانسيٍ، والذي يقطع حياة شابة (بطلة قصة حب إيريك سيجال تموت بسرطان الدم-“الأبيض” أو شبيه السُّل، شكل من المرض، حيث لا يمكن معه لجراحة البتر أن تكون هدفًا–وليس سرطان المعدة أو الثدي) مرض الرئتين مجازًا هو مرض الروح، أما السرطان فمن الممكن أن يضرب في أي مكانٍ، إنه مرض الجسد، بعيدًا عن أي كشوفٍ روحيةٍ، ويظهر أن الجسد، بكل حزنٍ، هو مجرد جسد. مثل هذه الأوهام تزدهر إذ يعتقد أن السرطان والسُّل أكبر كثيرًا من الأمراضِ القاتلة أو “التي كانت” قاتلةً. يُعرف المرضان بالموتِ نفسه. في نيكولاس نيكلبى، كتب ديكنز عن السُّل: مرض حيث الحياة والموت يمتزجان على نحوٍ غريبٍ، فالموت يأخذ وهج الحياة ورونقها، الحياةُ هزيلةٌ وشكلٌ مروعٌ من الموتِ، مرضٌ لم يتمكن الطبُ من علاجه قط، ثروةٌ لا ترد، يمكن للفقر التباهي بالإعفاء منها.

مثل هذه الأوهام تزدهر لأنه يعتقد أن السرطان والسُّل أكبر كثيرًا من الأمراضِ القاتلة “أو التي كانت” قاتلةً. المرضان يعرفان بالموتِ نفسه. في نيكولاس نيكلبى، ناجى ديكنز السُّل: مرض حيث الحياة والموت يمتزجان على نحوٍ غريبٍ، فالموت يأخذ وهج الحياة ورونقها، الحياةُ هزيلةٌ وشكلٌ مروعٌ من الموتِ، مرضٌ لم يتمكن الطبُ من علاجه قط، ثروةٌ لا ترد، يمكن للفقر التباهي بالإعفاء منها.

في أكتوبر 1917 كتب كافكا الى ماكس برود “توصلت الى التفكير أن مرض السُّل.. ليس مرضًا خاصًا، أو ليس مرضًا يستحق اسمًا خاصًا به، ولكنه فقط جرثومة الموت نفسها، مكثفة..”.

السرطانُ يلهم تأملاتٍ مماثلةٍ، وقد سبق جورج جوردك Georg Groddeck صاحب وجهات النظر البارزة عن مرض السرطان في كتابه “كتاب الأنا 1923″  فيلهم رايتش، فقد كتب “كل النظرياتِ التي طُرحت، والمرتبطة بمرض السرطان. واحدة فقط في نظري صمدت في مواجهة مرور الزمن، أعني، أن السرطان يقود إلى الموت خلال مراحل محددة، أي أن ما ليس مميتًا ليس سرطانًا. من هذا ربما تستنج أنى لا أملك أية أملٍ في طريقة علاجٍ جديدةٍ للسرطان.. إن الكثير من الحالات فيما يسمى بالسرطان“.

برغم كل التقدم في معالجة السرطان، لا يزال كثير من الناس يؤيدون معادلة جوردك. السرطان= الموت. ولكن الاستعارات المحيطة بالسُّل والسرطان تكشف الكثير عن فكرة المهووسين، وكيف تطورت من القرن التاسع عشر (حين كان السُّل هو أكثر الأسباب شيوعًا للموت) حتى وقتنا الحالي “حيث السرطان أكثر الأمراض إثارة للفزع“.

عمد الرومانسيون الى التفسير الأخلاقي للموت، بطريقة جديدة: مع الموتِ بالسُّل الذي يبدد إجمالي الجسد، تتحول الشخصية الى أثير، بوعي موسعٍ. كان هذا ممكنًا على قدم المساواة من خلال التصورات عن السُّل لأجل تجميل الموت. ثورو الذي كان مريضًا بالسُّل، كتب سنة 1852 “الموت والمرض جميلان في كثير من الأحيان، مثل الوهج المحموم للتآكل“. لا أحد يتصور السرطان على هذا النحو، مثلما كان يُتَصَوّر السُّل كحالةٍ زخرفيةٍ، في الغالب، كموتٍ غنائيٍ. فالسرطان موضوعٌ نادرلا يزال مخزيًا للشعرِ، ويبدو أنه من غير المتصور تجميل هذا المرض.

1

أدرجت الكاتبة النص باللغة اللاتينية كالآتي

“Whan the blode is made thynne, soo folowyth consumpcyon and wastyng.“

2

ورد المصطلح المشار اليه ضمن النص التالي

“A canker is a melancolye impostume, eatynge partes of the bodye.“

3

أدرجت سوزان سونتاج نص عبارة القديس جيروم باللغة اللاتينية بعد أن ترجمتها الى الإنجليزية وهذا نص العبارة باللاتينية

(“Alius tumenti aqualiculo mortem parturittr)

4

اعتمدت في ترجمة هذه الآية رقم 17 من الاصحاح الثاني من الكتاب المقدس على نص ترجمة فان دايك

Van Dyke المعتمدة من قبل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، الإسكندرية-مصر، ونص الآية كاملة وفقا لهذه الترجمة (وَكَلِمَتُهُمْ تَرْعَى كَآكِلَةٍ. الَّذِينَ مِنْهُمْ هِيمِينَايُسُ وَفِيلِيتُسُ،)

مدينة


========================

تحديث 31 اذار 2022

——————————–

هل بدأ بوتين بإعادة حساباته؟/ بكر صدقي

التصريحات التي أعقبت انتهاء المباحثات الروسية – الأوكرانية في إسطنبول، لا تشير إلى تحقيق شيء ملموس على طريق وقف الحرب الروسية، لكنها بالمقابل لم تغلق الباب تماماً أمام الخيارات الدبلوماسية. فقد وصف رئيس الوفد الروسي المفاوضات بـ”البنّاءة” في حين كان الرئيس الأوكراني أقل تفاؤلاً حين علق قائلاً: “الانطباعات القادمة من إسطنبول إيجابية، لكنها لا تغطي على أصوات القنابل”.

وبالفعل لم تحدث تطورات ملموسة في الميدان، في الساعات التي تلت انتهاء مفاوضات اسطنبول، باتجاه “تخفيض الأنشطة العسكرية” في محيط مدينتي كييف وتشيرنيغيف على ما ألزم الوفد الروسي نفسه به. وإذا كان لا يمكن الركون إلى وعود روسية بالنظر إلى سجلها الأسود في الإخلال بها وفي الكذب الصريح، سواء بشأن أوكرانيا أو في السنوات السابقة في سوريا، ولكن بالمقابل لا يمكن الركون إلى ما تنقله وسائل الإعلام الأمريكية والغربية التي تحوّلت إلى أجهزة بروباغندا بمناسبة الحرب في أوكرانيا. وفي هذا الوضع من عدم الثقة بالمعلومات لا بد من الانتظار لوقت أكثر لمعرفة ما يحدث على الأرض.

أما بالنسبة للنقاط السياسية التي طرحت في الاجتماع أو حدث “تقارب في الفهم” بين الطرفين بشأنها، فالمعلومات بشأنها شحيحة أيضاً. هناك تخمينات تتحدث عن تراجع بوتين عن أبرز هدفين من أهدافه المعلنة، وهما “القضاء على النازيين” في أوكرانيا، ونزع سلاحها. الطرف الأوكراني بالمقابل لم يعد متمسكاً بطلبه الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، لكنه طالب في اجتماعات إسطنبول بـ”ضمانة” 8 دول لأي اتفاق مع روسيا بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وبولونيا وتركيا. بالمقابل أعلنت روسيا أنها لا تعترض على انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي. وقال وزير الدفاع الروسي إن هدف بلاده هو تحرير مقاطعة الدونباس.

أما الرئيس الأمريكي جو بايدن فقد “بق البحصة” كما يقال حين قال إن على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يتنحى! صحيح أنه تراجع عن هذا الكلام لاحقاً وزعم أنه عبر عن “غضب شخصي” ولكن ربما الأصح هو أنه عبر عن التطلعات الحقيقية للإدارة الأمريكية بشأن روسيا، وهي تحجيم العملاق النووي الروسي بما يتناسب مع وزن روسيا الهزيل في ميادين الاقتصاد والتكنولوجيا والرفاه الاجتماعي والنفوذ الأيديولوجي خارج الحدود، باعتبار أن هذا التحجيم هو الضريبة التي يجب على روسيا دفعها عقاباً لها على حربها على أوكرانيا.

الواقع أن تصريح بايدن المشار إليه يعبر عن الدرجة التي بلغها الاستقطاب الدولي بما يتجاوز نظيره طوال فترة الحرب الباردة. ففي تلك الفترة لم تكن القنوات الدبلوماسية تقطع تماماً، كما هي الحال الآن، بين واشنطن وموسكو حتى في أكثر الأجواء توتراً، فكانت مكاسب كل طرف أو خسائره في الحروب الإقليمية الدائرة بالوكالة، تعالج على طاولة المفاوضات بالاعتراف المتبادل لمصالح كل منهما وحدودها. أما الآن فقد حل محل الاتصالات الدبلوماسية التراشق الكلامي عبر وسائل الإعلام.

يمكن الافتراض أن بوتين دخل مرحلة إعادة حساباته في الحرب على أوكرانيا، وربما بدأ يبحث عن مخرج منها بأقل الخسائر الممكنة. ولعل تعثر قواته في الحرب وحجم الخسائر التي منيت بها إلى الآن هما في مقدمة الدوافع لهذه المراجعة. هناك تخمينات بوقوع نحو عشرة آلاف قتيل من القوات الروسية، وعدد غير معروف من الطائرات والدبابات وغيرها من الأسلحة الثقيلة. هذه فاتورة أولية باهظة ليس من السهل ابتلاعها أو تبريرها أمام القسم المؤيد لحرب بوتين من الشعب الروسي، دع عنك القسم المعارض لها منذ البداية ولم تتوقف أنشطته الاحتجاجية ضد الحرب.

العامل الثاني الذي لا يقل أهمية عن الأول، بل ربما يتفوق عليه، هو العزلة الدولية الخانقة السياسية والاقتصادية التي فرضت على روسيا وبدأت نتائجها الكارثية بالظهور. سبق لبوتين أن هدد بالرد على العقوبات الاقتصادية التي وصفها بأنها “إعلان حرب” من قبل الدول الأطلسية، لكنه إلى الآن لم يحوّل تهديده إلى إجراءات عملية، كقطع توريدات الغاز إلى الدول الأوروبية على سبيل المثال. فمن شأن خطوة مماثلة أن تشكل كارثة فورية في الدول المستهدفة. عدم لجوء بوتين إلى إجراءات من هذا النوع هو مؤشر قوي إلى أنه يريد التهدئة ويبحث عن مخرج “مشرّف”، في حين أن واشنطن بصورة خاصة لا تريد منحه هذه الهدية، بل تريد أن تفرض عليه تراجعاً مذلّاً على أمل أن يؤدي هذا الإذلال إلى الإطاحة ببوتين بقوى المجتمع الروسي الذاتية.

لقد تورّط بوتين في مغامرة توهم أنها رابحة لتعزيز مكانة روسيا في النظام الدولي، ففوجئ بالمقاومة الأوكرانية وتوحّد الغرب الأطلسي بقيادة واشنطن في مواجهته. في حين أن روسيا (كانت؟) عضوا دائم العضوية في مجلس الامن، نداً للأعضاء الأربعة الآخرين في “نادي الأقوياء” هذا، ويشكل ثنائياً فيه مع الصين، مقابل واشنطن ولندن وباريس الذين لم يكونوا يوماً جبهة متماسكة لها صوت موحد، فسكتوا على ابتلاعه للقرم وسوريا وبيلوروسيا وكازاخستان. أما الآن فهي مهددة بخسارة كل هذه “المكتسبات” إضافة إلى إخراج قواته الذي لا مفر منه من أوكرانيا.

نلاحظ أيضاً تراجع التهديدات الروسية باستخدام السلاح النووي بعدما ظهر أنها أعطت مفعولاً عكسياً للغاية منها. فلا الدعم السياسي والعسكري لأوكرانيا توقف، ولا أعلنت واشنطن عن الاستعداد للرد النووي على هجوم نووي روسي محتمل، على رغم التهويل في وسائل الإعلام من احتمال تحويل بوتين تهديداته إلى هجوم حقيقي. حصل ما هو أسوأ من وجهة نظر بوتين حين هدد الرئيس الأمريكي بالرد على أي هجوم روسي بالسلاح الكيميائي. فهذا التهديد هو تحدٍّ صريح لبوتين لا يمكنه معه إلا التعقّل والابتعاد عن الألعاب النووية والكيميائية الخطيرة.

الوساطة التركية مهمة لهذا السبب، أي إيجاد مخرج لبوتين أقل إذلالاً مما تريده واشنطن، على أمل أن يؤدي ذلك إلى إنهاء الحرب في وقت قريب. أما تحجيم روسيا في العالم فقد تم منذ الآن.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

——————————–

من هم المرتزقة السوريون المستعدون للموت من أجل بوتين؟

الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – Siraj

هناك أسباب كامنة وراء اندفاع عشرات الشبان السوريين لترك عائلاتهم والسفر من أجل الوصول إلى جبهات المعارك المفتوحة بين روسيا وأوكرانيا والقتال كمرتزقة في صفوف جيش بوتين… هذا التقرير الاستقصائي يكشف المزيد عنهم وبعض من يقف من ورائهم.

تحقيق: علي الإبراهيم، بشار ديب، محمد بسيكي، أحمد عبيد

صبيحة الثالث من آذار/ مارس 2022، حطّت طائرة شحن روسية من طراز “يوشن” في أحد المطارات الواقعة شمال شرقي العاصمة الروسية موسكو.

 مصدر عسكري تابع تلك العملية وأفاد بأن الطائرة الروسية وصلت من قاعدة حميميم في الساحل السوري وهي القاعدة الروسية الأكبر في البلاد، وكانت تضم مجموعة مكونة من ثلاثين ضابطاً، جميعهم من مرتبات “الفيلق الخامس اقتحام”، الذي أُعلن عن تشكيله في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2016 بإشراف روسي مباشر.

على الفور وبعيداً من الأعين نُقلت المجموعة إلى النقاط المخصّصة لتمركز “مرتزقة” تعمل روسيا على تجنيدهم حالياً، حيث تخضع مجموعة الضباط هذه إلى دورة عسكرية في موسكو.

المصدر المطلع على سير العملية كاملة، رفض الكشف عن اسمه، وقال لمعدي التحقيق إنّ الدورة المخصصة لهذه المجموعة تتضمن تدريبات خاصة بـ”إدارة المواقع العسكرية”، وتنسيق الاتصال والارتباط، إضافة إلى قواعد خاصّة باستراتيجية القتال في بيئة مختلفة عن بيئة المقاتلين الأصلية، ولاحقاً ستكون هذه المجموعة مسؤولة عن وصول “المرتزقة” من سوريا إلى روسيا عبر قاعدة حميميم وتوزيع المهمات عليهم.

لم تمضِ أسابيع على الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط/ فبراير الماضي، حتى بدأ سماسرة مقربون من دوائر الأمن العسكري السوري والمخابرات الجوية وعبر شركات “أمنية” بدعوة الشباب لتسجيل أسمائهم للعمل إلى جانب القوات الروسية.

هذه الدعوات دفعت أعداداً كبيرة من الشبان في دمشق واللاذقية وحلب وحمص وغيرها من المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري إلى تسجيل أسمائهم في لوائح الراغبين بالسفر والانضمام على أمل الحصول على رواتب مغرية وبالدولار الأميركي، دون زجهم في جبهات القتال إلى جانب القوات الروسية، وفق ما رصد فريق التحقيق.

وزير الدفاع الروسي “سيرغي شويغو” كان صرح في اجتماع لمجلس الأمن، بأن 16 ألف “متطوعاً” في الشرق الأوسط مستعدون للقتال في إقليم “دونباس” شرق أوكرانيا، فيما لفت الناطق باسم الكرملين “ديمتري بيسكوف” إلى أن معظم الأشخاص الذين يرغبون وطلبوا القتال إلى جانب القوات الروسية، هم مواطنون سوريون وآخرون من دول الشرق الأوسط، معتبراً أن قرار إرسال مقاتلين “متطوعين” إلى أوكرانيا “أمر مقبول”.

وكشف رئيس لجنة المصالحة الروسية- السورية في دير الزور، شرق سوريا، عبد الله الشلاش، عن تجنيد مئات الشباب للقتال إلى جانب القوات الروسية والذين تم تسجيل أسمائهم ويتحضرون للسفر إلى أوكرانيا.

وقالت مصادر محلية إن الإعلان عن ذلك جاء ذلك خلال اجتماعه بعدد من الشبان  في صالة “العمال” في مركز “المصالحة” في دير الزور، أكد فيها أن “التطوع لدعم القوات الروسية في حربها على أوكرانيا، هو نوع من رد الجميل للقوات الصديقة”.

وأضاف أن جميع المتطوعين أبدوا جاهزيتهم للسفر إلى أوكرانيا، بانتظار التعليمات من القيادتين الروسية والسورية للموافقة على إرسالهم.

عمليات “التسوية” التي تجريها قوات النظام في مبنى الصالة الرياضية (فيس بوك/ شعبة حزب البعث في دير الزور)

في الأثناء كشفت مديرية المخابرات الأوكرانية، في بيان لها عن نقل 150 مقاتلاً سورياً من قاعدة حميميم العسكرية إلى أوكرانيا للقتال إلى جانب القوات الروسية، مشيرةً إلى أن القرار الصادر عن “حميميم” يقضي بإرسال 300 مقاتل يومياً.

حكاية عبدالمجيد

بعيداً من موسكو، في العاصمة السورية دمشق، ينتظر عبد المجيد وهو شاب ثلاثيني انتهاء تدريب الضباط لنقلهم إلى أوكرانيا بعدما استكمل جميع الأوراق المطلوبة منه.

عبدالمجيد كان جُنّد سابقاً لمصلحة القوات الروسية في ليبيا، مقابل التدخل لإطلاق سراح شقيقه المعتقل، لكن انتهاء عقده القتالي تزامن مع بداية الحرب الروسية- الأوكرانية، وتنصّل الروس من وعودهم بذريعة انشغالهم بهذه الحرب، فقرّر الاستعداد للانتقال للقتال إلى جانبهم مجدداً، لكن وجهته هذه المرة هي “أوكرانيا”، آملاً بالوصول إلى غايته بعد انتهاء عقده.

يقول عبد المجيد: “كان شقيقي على وشك الخروج من المعتقل، لكن الروس انشغلوا في حربهم مع أوكرانيا، ولن استطيع المطالبة لاحقاً ما لم أذهب إلى هذه المهمة الجديدة”.

أبدى عبد المجيد اهتمامه بالوعود الروسية، مبرّراً استعداده للقتال إلى جانب القوات الروسية في أوكرانيا بإنقاذ حياته شقيقه، إلا أن معظم من التقينا بهم كان دافعهم الأول للتسجيل والقتال إلى جانب القوات الروسية هو المكسب المادي.

ويأمل عبد المجيد بنقلهم سريعاً إلى أوكرانيا ويقول: “لن أتردد بفعل أي شيء لإطلاق سراح شقيقي المعتقل لدى استخبارات النظام السوري، لا سبيل لإطلاق سراحه دون تدخل وساطة قوية، ولا أقوى من الوساطة الروسية في هذه البلاد”.

استغلال الوضع المعيشي

من المتوقع أن يتولى “الفيلق الخامس” الذي يضم عناصر التسويات والمصالحة مع النظام السوري أيضاً، المهمات القتالية لجميع المرتزقة السوريين في أوكرانيا، على أن تتولى مجموعة الضباط التي تتلقى التدريب حالياً مهمة القيادة التنسيق المباشر لنقلهم وقيادة العمليات، إضافة إلى تعيينهم ضباط ارتباط بين المجموعات المقاتلة والقيادة الروسية.

بحسب الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم، الصادرة عن الأمم المتحدة في كانون الأول/ ديسمبر 1989، فإن “المرتزق” هو أي شخص يُجنَّد خصيصاً، محلياً أو في الخارج، للقتال في نزاع مسلح، ويكون دافعه الأساسي للاشتراك في الأعمال العدائية هو الرغبة في تحقيق مغنم شخصي عبر مكافآت من أحد أطراف النزاع.

تعددت الإغراءات التي قدمها ضباط سوريون موالون لروسيا في سوريا لتشجيع المقاتلين على الانضمام لغزو الجيش الروسي لأوكرانيا، مثل الوعود التي قدموها سابقاً للقتال في ليبيا مقابل مبالغ مالية لقاء القتال كحالة الشاب السوري حسين (اسم مستعار- 38 سنة) من أبناء ريف دمشق.

قبِل حسين بإبرام عقد قتالي في ليبيا مدّته 8 أشهر، حيث بدأ في ربيع 2021، وانتهى مع عودته إلى سوريا أواخر كانون الأول/ ديسمبر من العام ذاته.

واجه الشاب إخلال مشغليه في بنود العقد المُبرم، اقتُطع بموجبه قرابة نصف راتبه المتفق عليه، وخُيّر بالذهاب في مهمة جديدة إلى أوكرانيا مقابل دفع ما تبقى له من قيمة العقد السابق، لكنه قبل بالعرض دون أي اكتراث لمصداقية هذه الوعود قائلاً: “إن لم يدفعوا المبلغ المتبقي من العقد السابق، فإن المبلغ الذي سأحصل عليه حالياً أكبر مما سوف أجنيه خلال عملي في سوريا لعشرات السنوات”.

وتتركز مهمة الشركات الأمنية والضباط والوكلاء على استقطاب الشبان وتسجيل أسمائهم، وضمهم لصفوف “الفيلق الخامس”، للمشاركة لاحقاً في جبهات القتال المشتعلة في أوكرانيا.

وبحسب المعلومات التي أُبلغ بها المقاتلون المحتملون الذين سجلوا عبر هذه الشركة، فإن العقود التي سيتم توقيعها تبلغ مدتها ستة أشهر فقط، وصولاً إلى سنة.

استغلال وابتزاز

“عملت لأكثر من عشر سنوات في سوريا ، ولم أجمع خلالها ربع المبلغ المعروض علينا مقابل القتال في أوكرانيا إلى جانب القوات الروسية”، هكذا برّر حسين سعيه للحصول على عقد قتالي يتيح له الذهاب للمشاركة في الحرب الروسية- الأوكرانية، بعد أيام قليلة من انتهاء مهمته القتالية في ليبيا، وعودته إلى مدينته- السواء، بحثاً عن استعادة مبلغ مالي اقتطعته شركة “الصيّاد” التي جنّدته للقتال في ليبيا قبل أشهر، والحصول على مبلغ جديد لقاء مهمته المنتظرة في أوكرانيا.

حصل حسين الذي عاد مؤخرا من ليبيا في الأول من آذار/ مارس 2022، على وعد بتنظيم عقد جديد قريباً إلى أوكرانيا لمدة ستة أشهر أخرى، عبر التواصل مع أحد مندوبي التجنيد في مدينة “بصرى الشام” في ريف درعا، بعد بحث عن فرصة لإيجاد مجموعة ستغادر نحو أوكرانيا، لينضم إلى صفوفها ويحصل على عقد سريع، كون التنسيق الروسي مع شركة “الصيّاد” ينص على إرسال المقاتلين من السويداء لاحقاً، وليس لها أولوية في إرسال المجموعات، لافتاً إلى أنه لم يكن يرغب بالعودة إلى سوريا، لكن امتناع قائد العمليات الروسية عن تجديد عقده القتالي أجبره على العودة.

بحسب رصد فريق التحقيق عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومجموعات “واتساب” و”تلغرام” المخصصة لاستقطاب الراغبين بالانضمام للقتال في أوكرانيا، كان سوء الأوضاع الاقتصادية في سوريا والحاجة المادية من أبرز مبرّرات الشبان الراغبين بالحصول على عقود قتالية مع القوات الروسية، لا سيما أن الأخيرة عرضت مبلغ ثلاثة آلاف دولار أميركي يُقدم للمقاتل إلى جانب قواتها في أوكرانيا شهرياً، بخاصة أولئك الذين قاتلوا إلى جانبها سابقاً في ليبيا، وحصلوا على خبرة كافية بالقتال والعمل تحت إمرتها، ممارسة أساليب ابتزاز تمثّلت باقتطاع جزء من رواتب المرتزقة العائدين من ليبيا، لحين قبولهم بالمشاركة بالمهمات الجديدة في أوكرانيا.

فايسبوك – منشور من احدى مجموعات التجنيد العائدة للروس

يقول حسين: “يفترض أن أحصل على بقية مستحقاتي فور توقيع عقد المهمة الجديدة في أوكرانيا، العقد المبرم مع “الصيّاد” كانت مدته ستة أشهر في ليبيا، مقابل مبلغ 1500 دولار أميركي شهرياً، استلمت منها 4500 دولار فقط وعلى دفعتين، أولهما كانت 1500 دولار فور وصولي ليبيا، وأخرى 3000 دولار عند عودتي إلى سوريا، وبقي مبلغ 4500 دولار رهن تجديد العقود”.

ليست الأسباب المادية وحدها مبرّر المجندين، فالقوات الروسية قدّمت عرضاً خلال تجنيدهم، تعهدت فيه بإطلاق سراح أقارب لهم من معتقلات النظام السوري، بعد انتهاء المهمات القتالية، بذريعة “إثبات الولاء وحسن النية”، وكان عبد المجيد من ضحايا العرض الروسي، إذ قبل بإبرام عقد قتالي في ليبيا مدّته 8 أشهر، بدأ في 25 نيسان/ أبريل 2021، وانتهى مع عودته إلى سوريا أواخر كانون الأول/ ديسمبر الماضي.

قبل عبد المجيد بالعرض المُقدّم، وانتقل إلى ليبيا لأداء مهمته المتفق عليها بموجب العقد، لكن الروس تنصّلوا من وعودتهم بعد عودته، برغم مطالباته المتكررة بالتدخل، فعاد مندوب التجنيد لإبلاغه بأن الروس مشغولون بالحرب مع أوكرانيا، وأن تركيزهم حالياً يصب في تجنيد مجموعات جديدة لنقلها إلى أوكرانيا.

وتلقى عبد المجيد من مندوب التجنيد مطلع آذار (مارس) الجاري، عرضاً للانضمام مجدداً إلى مجموعات مقاتلة لصالح القوات الروسية خارج سوريا، مقابل مبلغ 1600 دولار أميركي شهرياً، والتدخل مجدّداً في ملف إطلاق سراح شقيقه، كون الروس سينسون من كان يقاتل معهم في ليبيا، وسوف يعملون على تحسين أوضاع وتلبية متطلبات المقاتلين في أوكرانيا، وفقاً لقوله.

كيف تسير عملية التجنيد؟

حصل فريق التحقيق على تسجيلات صوتية لأحد مندوبي “تجنيد المرتزقة” للقتال في أوكرانيا إلى جانب روسيا، وزعها على شبان يحتمل انضمامهم إلى لوائحه للراغبين بالسفر، أوضح فيها آلية التجنيد التي تبدأ بطلب “التطوّع” وإرسال صورة عن البطاقة الشخصية لاستصدار موافقة أمنية عن شعبة “المخابرات العسكرية”، لافتاً إلى أن إصدار الموافقة يستغرق مدة تتراوح بين 10 إلى 15 يوماً، يتم بعدها إبلاغ الحاصلين على الموافقات للاستعداد لنقلهم إلى أوكرانيا، دون تحديد موعد الانطلاق.

وتابع المندوب: “نخبر المجندين بموعد الانطلاق قبل ساعات قليلة، ونحدّد له نقطة انتظار في مدينتهم لنقلهم إلى معسكر للتدريب في ريف حمص، يخضع فيه “المتطوعون” اختبار لياقة بدنية وفحص طبي، وبعدها يتم تنظيم العقد المدون باللغتين الروسية والعربية، ومنه يتم نقلهم نحو قاعدة حميميم العسكرية للانطلاق إلى أوكرانيا في اليوم ذاته”، مضيفاً: “تستغرق عملية الاختبار والفحص الطبي مدة تتراوح بين 8 إلى 10 ساعات”.

أما عن شروط قبول المجندين، فأوضح المندوب أن أي شاب يتراوح عمره بين 23 و43 سنة يمكنه تنظيم عقد قتالي في أوكرانيا، بما فيهم المطلوبون للأفرع الأمنية التابعة للنظام السوري، والمتخلّفون عن الالتحاق في الخدمة العسكرية، والمطلوبون بقضايا جنائية ودعاوى شخصية، مستثنياً “المنشقين العسكريين” فقط.

وكشف المندوب في تسجيلاته عن مضمون العقود القتالية في أوكرانيا، التي تبلغ مدتها خمسة أشهر قابلة للتجديد، مقابل 3 آلاف دولار شهرياً، يتم تسليم “سلفة” تتراوح بين 1000 إلى 1500 دولار لحظة توقيع العقد، والمبلغ المتبقي فور العودة إلى سوريا بعد انتهاء مدة العقد، متابعاً: “الروس يتكفّلون بتأمين الطعام والشراب والسجائر والأدوية لجميع العناصر طيلة فترة المهمات القتالية في أوكرانيا”.

“الاختبارات عبارة عن جري لمسافة كيلومتر واحد بمدة لا تتجاوز خمس دقائق، وإجراء بعض التمارين الرياضية، فيما يشمل الفحص الطبي التحاليل الخاصة بالكشف عن أمراض الضغط والسكري، إضافة لفحص النظر والأسنان”، يقول أحد الشبان المراجعين لمعسكر شركة “صائدو داعش”، التي أعلنت عن استقطاب الراغبين بـ”التطوع” خلال يومي 17 و18 آذار، في حقل التدريب الواقع في بلدة “الصايد” بريف حمص، لإجراء الاختبارات، موضحة في إعلانها أن استدعاء المقبولين للاختبار سيتم في وقت لاحق “عند الحاجة”.

سياسة روسيا في تجنيد مرتزقة للقتال إلى جانب قواتها في أوكرانيا، لم تختلف عن سياستها في تجنيد آخرين لحماية منشآتها في ليبيا، والقتال إلى جانب حليفها “خليفة حفتر”، من حيث آلية التجنيد والموافقات الأمنية وتنظيم العقود وشروطها، وفقاً لـ”حسين” الذي قاتل إلى جانب القوات الروسية في مدينة “سرت” الليبية لمدة ستة أشهر، عبر التواصل مع قائد إحدى الميليشيات المحلية التابعة لفرع “الأمن العسكري” في السويداء، العاملين في تجنيد “مرتزقة سوريين” لصالح القوات الروسية، بالتعاون مع “شركة الصياد الأمنية”.

يقول حسين: “توجّهت برفقة عشرين شاباً من أبناء السويداء إلى معسكر الطلائع في ريف المحافظة، الذي حوّلته شركة “الصياد” إلى نقطة تجمع “للعناصر” الذين تحدّد موعد مغادرتهم نحو الأراضي الليبية، بعد حصولنا على الموافقات الأمنية، ونُقلنا منه إلى معسكر تابع للفرقة 18 في ريف حمص، خضعنا فيها لدورة عسكرية مدتها خمسة وعشرون يوماً، تلقينا خلالها تدريبات عسكرية على استخدام الأسلحة الفردية والرشاشات المتوسطة، ومنها إلى قاعدة حميميم العسكرية ثم إلى ليبيا”.

ما هي مهمة ” المرتزقة”؟

تواصل فريق التحقيق مع مندوب يعمل على تجنيد الشبان وذلك بصفة “شاب يرغب بالتطوع للقتال في أوكرانيا إلى جانب القوات الروسية”، وأكد المندوب في تسجيلات صوتية أن المهمات التي ستوكل للسوريين في أوكرانيا، محدّدة بالتمركز والتثبيت في النقاط التي تتقدم إليها القوات الروسية في أوكرانيا، والحفر والتحصين ورفع السواتر الترابية، إضافة لحماية نقاط التمركز.

وأضاف: “ستضم كل نقطة روسية مجموعات من المجندين السوريين، وسيكون هناك قائد لكل مجموعة صغيرة، وقائد الكتيبة بالكامل، يتولى قيادة كل مجموعة منهم قائد منفصل، ويتبع قادة المجموعات لقائد عام للموقع”، مشدّداً على أن عملية تنسيق المجموعات متعلقة بالمحافظات، بحيث يكون عناصر كل مجموعة من أبناء المحافظة ذاتها.

وقال المندوب إن المهمات بعد تثبيت النقاط ستقتصر على حماية النقاط وحراستها، بحيث تقسم لكل عنصر نوبتي حرس إحداهما صباحية وأخرى ليلية، ما خالفه “حسين” الذي كانت مهمته محدّدة بحراسة إحدى المنشآت النفطية في مدينة “سرت” الليبية.

يقول حسين: “في أوكرانيا الوضع مختلف تماماً، انتقالنا إلى ليبيا جاء بعد انتهاء العمليات العسكرية في محيط القواعد الروسية، وكانت العملية مجرد حماية للنقاط فقط، أما في أوكرانيا فالحرب لا تزال مشتعلة، ويمكن زجّنا في المعارك هناك، برغم الضمانات الروسية بأن المهمات هي حراسة القواعد فقط”، بينما أكّد عبد المجيد أنه لا يملك معلومات حول المهمات التي ستوكل إليهم في أوكرانيا، موضحاً أن مهمته السابقة كانت مقتصرة على حراسة منشأة نفطية في منطقة “الجفرة” تتمركز فيها القوات الروسية.

“الصيّاد” في المقدمة!

برزت شركة “صائدو داعش” التي عُرفت أيضاً باسم شركة “الصيّاد”، خلال العامين الماضيين، بعد تصدّرها ملف تجنيد “مرتزقة” سوريين للقتال خارج سوريا إلى جانب القوات الروسية وحلفائها.

تأسست شركة “الصيّاد” في السادس عشر من آذار/ مارس، 2017، في بلدة “السقيلبية” في ريف حماة الشمالي، بدعم روسي كامل مالياً وعسكرياً، وحصلت على ترخيص تجاري من مديرية التجارة الداخلية في حماة تحت صفة “شركة خدمات حراسة وحماية محدودة المسؤولية”، ويملكها ثلاثة شركاء هم “أديب أمين توما”، و”يسار حسين إبراهيم”، و”فواز ميخائيل جرجس” الذي عُيّن مديراً لها.

حسين الذي جُنّد لمصلحة شركة “الصيّاد” قال إن عملية التجنيد حصلت عبر التواصل مع أحد مندوبي الشركة في السويداء، يُدعى “أبو سومر”، وهو قائد إحدى الميليشيات المحلية التابعة للأمن العسكري، فيما قالت وسائل إعلام محلية  في تقرير سابق إن الشركة مرتبطة بأكثر من 10 مندوبين في المحافظة.

وبرز في الفترة الأخيرة اسم القيادي في صفوف ميليشيا “الدفاع الوطني” في مدينة السقيلبية بريف حماة، “نابل العبد الله”، المقرّب من القوات الروسية، والذي صرّح خلال اتصال هاتفي مع أنه مستعد لاستغلال خبرته في حرب المدن التي اكتسبها خلال الحرب في سوريا لمساندة روسيا، مضيفاً: “عندما تأتي توجيهات من القيادة السورية والروسية سنكون جاهزين لخوض هذه الحرب المحقة، فيما قال قائد الميليشيا في منطقة محردة المجاورة سيمون الوكيل، إن كثيرين من عناصره يريدون إدراج أسمائهم للانضمام لمن وصفهم بـ”أشقائنا وحلفائنا” الروس لكنهم “لم يتلقوا توجيهات من القيادة بعد”.

عبد المجيد الذي جُنّد سابقاً في ليبيا، ويتجهز حالياً للانطلاق نحو أوكرانيا في مهمة جديدة، قال إن جميع عقود التجنيد في بلدات “يلدا، وببيلا، وبيت سحم” جنوب العاصمة دمشق، تتم عبر المترجم الخاص بالقوات الروسية في المنطقة “إسماعيل شموط” المعروف باسم “أبو هاني”، وهو قائد فصيل “لواء العهدة العمرية” المعارض سابقاً، وأحد أبرز المساهمين في تجنيد المرتزقة لمصلحة روسيا منذ سنوات، مؤكّداً أنه الضامن لوفاء الروس بوعدهم في التدخل لإطلاق سراح شقيقه المعتقل.

رشاوى واحتيال

عشرات المنشورات في مجموعات أنشئت على مواقع التواصل الاجتماعي، متخصصة بتقديم عروض التجنيد وتلقي طلبات الراغبين، حذرت من الوقوع في فخ “الاحتيال” من قبل المُجنّدين، لافتة إلى أن مندوبي التجنيد يطلبون مبالغ مالية مقابل إصدار الموافقات الأمنية الخاصة بالتجنيد.

الشباب الباحثون عن “فرصة” لتنظيم عقود مع القوات الروسية، لم ينفوا وجود رشاوى للمندوبين، إنما كانت التحذيرات من دفع مبالغ مالية لأشخاص غير قادرين على إصدار الموافقات الأمنية، مشدّدين على أن يكون الدفع بعد الحصول على الموافقة.

مندوب التجنيد الذي تواصل معه فريق التحقيق، أفصح في تسجيل صوتي كيف اشترط تقاضي نسبة من “السلفة” التي يتم تسليمها للمجندين أثناء توقيع العقود دون تحديدها، مدعياً أنه سوف يتقاضى النسبة كونه المسؤول عن استصدار الموافقات الأمنية، ونقل العناصر من مدنهم إلى معسكر التدريب، ومنه إلى قاعدة حميميم العسكرية، كما أنه المسؤول عن تأمين الطعام والشراب ومستلزمات المجندين خلال فترة الانتظار في حقل التدريب.

وأكّد حسين أن حصوله على إجراءات توقيع العقد القتالي إلى ليبيا سابقاً، رتّب عليه دفع مبلغ 500 دولار أميركي إلى مندوب التجنيد، مقابل استصدار موافقة أمنية سريعة، حصل عليها بعد عشرة أيام على دفع المبلغ، موضحاً أن المندوب الجديد طالب بمبلغ 700 دولار أميركي أثناء توقيع عقد المهمة الجديدة في أوكرانيا، على أن يتم دفعها قبل مغادرة سوريا.

أنجز هذا التقرير المعمّق بالشراكة بين الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – سراج وLighthouse Reports. نشرت النسخة الإنكليزية عبر صحيفة التلغراف البريطانية.

درج

————————-

——————————

عن العولمة والحرب في أوكرانيا!/ أكرم البني

هل يصح ما أثير عن أن الحرب في أوكرانيا قد دشنت نهاية ظاهرة العولمة، أم يحمل هذا الاستنتاج الكثير من التسرع؟

سؤال يتواتر اليوم في ظل تقدم كتلة عالمية وازنة اقتصادياً، لمعاقبة روسيا ومحاصرتها وعزلها ليس فقط عن دوائر السوق العالمية وإنما أيضاً عن مختلف الأنشطة الإنسانية، ثم مع ارتفاع حرارة الدعوات لسياسة أوروبية تطمح إلى تحقيق الاستقلال الاستراتيجي في مجال الطاقة والمواد الحيوية، للتخلص من حاجتها لاستجرار النفط والغاز، وتالياً مع بدء تفشي خيار الاكتفاء الذاتي، وانكفاء الجماعات البشرية للاحتماء بقواعدها الوطنية أو الإقليمية العتيقة.

من الصعب الاتفاق على تعريف دقيق للعولمة، إلا أنها عموماً، ظاهرة تتفاغر فيها على المستوى الكوني وبشكل واسع، أمور الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع والسلوك، ربطاً بنتائج الثورة التي شهدتها مجالات النقل والاتصالات الحديثة والأقمار الصناعية والإنترنت والفضائيات وتدفق المعلومات، ما سهّل التواصل والتفاعل بين الأمم والشعوب وقلل المسافات المكانية والزمانية، وحضّ على التحول من الممارسات والمعايير والقواعد المحلية إلى العالمية، من فناء وطني ضيق إلى باحة دولية واسعة، فارضاً على مختلف المجتمعات إعادة صياغة وجودها وتكييف خصوصياتها مع الحقائق الجديدة.

صحيح أن ظاهرة العولمة توغلت خلال العقود المنصرمة في حياة البشر، وحاولت أن تكسح في طريقها مختلف التكوينات التقليدية للمجتمعات أو تدفعها نحو العطالة والعجز عن الإتيان بأي فعل مثمر، وصحيح أن تداعيات الحرب الأوكرانية، ومن قبلها آليات التعاطي الأناني مع جائحة «كورونا»، قد هزتا أركان هذه الظاهرة هزاً قوياً، لكن يبقى من دواعي العدل والإنصاف الاعتراف بأن هذه الظاهرة تمتلك من القوة والثبات ما يجعلها عصية على الهزيمة والفناء، يحدو ذلك وجوب التمييز بين وجهين لها، موضوعي وذاتي، ولنقل وظيفي وسياسي، الأول ذو منشأ تاريخي يعبّر عن التطورات الموضوعية التي وصلت إليها البشرية وتشابك مصالحها واحتياجاتها وتالياً ازدياد ميلها نحو التفاعل والتلاحم، مع اتساع التحديات والمعضلات المشتركة التي تتطلب مواجهتها رؤية عالمية وجهوداً عالمية. بينما يمثل الثاني تعاظم دور قوى الهيمنة والاستئثار واستفحال سيطرة نخب احتكارية على مختلف مناحي الحياة، ما يهدد استقلال الشعوب ويضيق فرص تطورها وتنفيذ تطلعاتها وطموحاتها لبناء مستقبل واعد، كما يضعف قدراتها الخاصة لتحسين موقعها في سلم الحضارة الإنسانية. وأيضاً من دواعي العدل والإنصاف، الاعتراف بأن الوضعية التاريخية الراهنة لتطور ظاهرة العولمة تثير صوراً مختلفة ومتنوعة من التناقضات والصراعات لجهة اعتداء العولمة السياسية على الوظيفية، فأن تكون العولمة الوظيفية شرطاً موضوعياً لا راد له وحصيلة متطلبات استدعاها المستوى الراهن من تطور البشرية وقواها الإنتاجية والمعرفية، فإن العولمة السياسية، وللأسف، تتجه إلى ابتلاع هذه المتطلبات ذاتها وتسخيرها في خدمة مآرب النخب الخاصة وبرامجها في النفوذ والاستئثار والهيمنة.

لكن كما أرسى تطور نموذج الاقتصاد الرأسمالي الغربي، في أوروبا وأميركا، سيطرة الشركات العملاقة متعددة الجنسية، وأدى إلى تفكيك نسبي للأسواق القومية التقليدية وإجهاض قدرتها الإنتاجية الخاصة وجعل السياسة الحمائية أقل فاعلية، فإنه في المقابل أرسى صورة لعولمة تقترن بقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، مانحاً هذه القيم موقعاً واهتماماً لافتين في مناخات العقود المنصرمة، بينما سار الأمر على العكس تماماً في ظل آليات تطور الرأسمالية في روسيا والصين، واتخذ منحى آخر لا يستند إلى قواعد الحياة الليبرالية بل يروّج لدور الدولة المركزية القاهرة وتعزيز آليات الضبط الحكومي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فاتحاً الباب أمام صورة مختلفة للعولمة تستمد قوتها من ماضٍ استبدادي، يحاول الإفادة من التكنولوجيا ومواقع التواصل ومن الثروات المتراكمة وانفتاح الأسواق وتبادل السلع لفرض نمطه السياسي وتمويل مشروعات توسيع الهيمنة والنفوذ.

ما سبق لا يتطلب فقط التمييز بين وجهي العولمة الوظيفي والسياسي، وإنما أيضاً بين وجهيها الديمقراطي والاستبدادي، وتالياً المفاضلة بينهما واختيار أهون الشرين إن صح التعبير، مسترشدين بحقيقة أن الاستبداد بغيض وصنو الفساد والعنف وانتهاكات حقوق الإنسان، بينما غاية الديمقراطية هي تظهير المشكلات وإدارتها ضمن تسويات وتوافقات تتجنب غالباً العنف، والأهم أنها ليست قيمة مجردة أو معزولة، بل ترتبط بالشرط السياسي والاقتصادي لتطور البشرية وتقدمها وبمصالح ملايين الناخبين، وتتوافق مع القيم الإنسانية المشتركة عن الحق والعدل والمساواة التي تشكل أساساً للتضامن بين الشعوب ولغة مشتركة تتخطى حدود العرق والقومية والطائفية.

واستدراكاً، من التسرع ركوب موجة التداعيات المرافقة لتطور الحرب في أوكرانيا للقول بانتهاء ظاهرة العولمة أو انتهاز الفرصة لرفضها ومقاومتها، لأن ذلك لن يتعدى شعارات أخلاقية تريح الضمائر فقط ولا تترك أي أثر نوعي للحد من تقدم هذه الظاهرة، بل من الأجدى القول بوجود مسؤولية تقع على عاتق مختلف الشعوب في التعاطي مع ما يرافق هذه الظاهرة الموضوعية من فرص وشروط بغرض تغييرها أو على الأقل تحسينها، بما يضعف تأثيرها السلبي ويعزز جوانبها الإيجابية، فوجه العولمة الموضوعي أو الوظيفي تيار جارف لا يمكن الانعزال عنه أو مقاطعته مهما تكن الأهداف مشروعة والنيات صادقة، بينما الانفتاح الجريء على العالم والقبول بخوض تحدي البقاء والمنافسة والتمسك بالقيم المشتركة والاستحقاقات الإيجابية للبشرية هو خير ما يعوق الوجه السياسي للعولمة ويجسر الهوة بين البلدان المتقدمة والمتخلفة التي يهدد توسعها خروج الأخيرة من التاريخ.

ويبقى الخيار الأصعب وأيضاً الأجدى، في مواجهة تعديات العولمة ومثالبها، وتجاه ما خلفه صناع الحروب من كوارث ومآسٍ، هو خيار البشرية لتطوير الأمم المتحدة ودورها في العملية الكونية، التي لا تزال تعاني عطالة وعجزاً مزمنين، في النظام القطبي الثنائي ثم في فترة التفرد الأميركي، على أمل أن تغدو مؤسساتها الأممية أشبه بحكومة عالمية لحفظ الأمن والسلم وهيئة تشريعية تسنّ قوانين الحقوق والمساواة وتراقب احترام الجميع لها، الأمر الذي يحتاج بداية، ربما، إلى عمل دؤوب لتعميم هذا الخيار وخلق قاعدة توافق بين مختلف الجماعات البشرية الرافضة والمناهضة لأشكال التفرد والاستئثار وأي توغل في منطق القوة والعنف أو التهديد بهما، والتشجيع على احترام قيم المساواة وحقوق الإنسان ودور المجتمع المدني ومنظماته الأهلية، لمحاصرة دول تغوّلت على حساب حقوق مواطنيها وأدوارهم.

الشرق الأوسط

————————————

عالم بلا مثال: كيف ستخوض أوروبا حربها العادلة؟/ محمد سامي الكيال

بدا الرئيس الألماني فرانك شتاينماير غير متفائل للغاية، في خطابه الأخير المخصص للتضامن مع أوكرانيا. فعلى الرغم من كل العبارات العاطفية حول الدفاع عن الحرية والديمقراطية، وضّح شتاينماير لمواطنيه بكل صراحة أن الأيام المقبلة شديدة الصعوبة، سيكون هناك مزيد من القيود، والاقتصاد الألماني سيعاني كثيراً. وهو قول صعب جداً بالنسبة لبلد تعلّم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أن «المعجزة الاقتصادية» ربما تكون الأمر الوحيد، الذي يجعل المرء سعيداً بكونه ألمانياً.

إلا أن تصريحاً لأرفع مسؤول ألماني لن يعني بالتأكيد مواطني بلده وحسب، فألمانيا قاطرة الاقتصاد الأوروبي، والركن الأساسي للاتحاد الأوروبي بأكمله، بكل قيمه وممارساته، سواء اعتُبرت إيجابية أو سلبية. وبالتالي فعندما تقول ألمانيا إن التفكير بالازدهار والرخاء لم يعد وارداً في الفترة المقبلة، يدرك جميع الأوروبيين أن مشروعهم المشترك يعاني بشدة.

الازدهار والرخاء ليسا مجرد قيمتين اقتصاديتين بالنسبة للأوروبيين، بل يمكن اعتبارهما مبدأين أخلاقيين وثقافيين، إنهما «الحق» الذي انبنى عليه الاتحاد الأوروبي. فالقارة التي لا تذكر من تاريخها في القرن الماضي سوى معارك الخنادق الطاحنة بين فرنسا وألمانيا أثناء الحرب العالمية الأولى؛ ومشاهد المدن المدمرة بعد الحرب الثانية؛ والاستقطاب حول جانبي جدار برلين في الحرب الباردة، أرادت تجاوز كل ذلك: الازدهار والرخاء يعنيان السلام، الانفتاح على الآخر؛ الحق بالتطور وتقرير المصير الفردي للجميع؛ الموقف الإنساني على مستوى كوني، الداعم لتقدم كل بلدان العالم، ولإيجاد حلول توافقية لكل المشاكل. تُنتقد المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل اليوم بسبب موقفها «المتهاون» مع أنظمة استبدادية مثل روسيا وإيران، لكنّ ما حركها لم يكن مجرد شراهة الاقتصاد الألماني لمصادر الطاقة، بل كان أيضاً قيما سلميّة، يدّعي المسؤولون الأوروبيون أنها ما دفعهم لجعل «أنشودة الفرح» نشيداً رسمياً للاتحاد، أي الحركة الختامية الشهيرة للسيمفونية التاسعة لبيتهوفن، التي تتغنى بالحرية والسلام والوحدة بين البشر.

اليوم يريد المستشار الحالي أولاف شولتس تخصيص المليارات لبناء جيش ألماني قوي، ويتشاور مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بخصوص سياسة حربية أوروبية مشتركة. بالطبع لن تكون الجيوش الأوروبية مخصصة للأعمال الإنسانية، بل لمواجهة روسيا أساساً، وربما الصين في المستقبل. ما الذي يؤول إليه الاتحاد الأوروبي إذن: خندق متقدم في الصراع الجيوستراتيجي بين «الشرق» و»الغرب»؟ إدارة بيروقراطية لحالة استثناء مستمرة، تطلب من رعيتها دائماً القبول بانخفاض مستوى حياتهم وحرياتهم لأجل «المعركة»؟

يبدو هذا بعيداً عن قيمتي الازدهار والرخاء، وربما نهاية للمشروع الأوروبي نفسه، وهو شأن لن يعني الأوروبيين لوحدهم غالباً، فما الذي سيخسره العالم إذا سقطت القيم الأوروبية؟ وكيف يمكن تأسيس الحق سياسياً وأيديولوجياً في عالم لا مثال فيه؟

زلازل أخلاقية

لا يتجاهل أشد المتفائلين بالاتحاد الأوروبي، الفرق بين القيم الأوروبية وممارسات الدول الأقوى في الاتحاد، فقد أذلّ الأوروبيون بعضهم بشدة في مناسبات عدة، لعل أهمها السلوك الألماني في الأزمة الاقتصادية اليونانية. كما أن دولاً أوروبية عدة شاركت في أعمال عسكرية، لا يمكن وصفها بالإنسانية، في أماكن مختلفة حول العالم. دعك من أن معظم تلك الدول من تجّار السلاح على المستوى الدولي. فحتى السويد، البلد شديد الليبرالية، يبيع العتاد الحربي بملايين الدولارات لدول غير ديمقراطية. إلا أن ما يسميه البعض «نفاقاً أوروبياً» لا يمكن اعتباره حجة ضد القيم نفسها، فمن الصعب الإشارة إلى مجتمع في التاريخ الإنساني عاش قيمه دون «نفاق». التوتر بين المثالي والملموس؛ ما هو كائن وما يجب أن يكون، أساس معظم الدعوات السياسية والاجتماعية عبر التاريخ، بل ربما جانبٌ محوريٌ من السعي الإنساني نفسه. قد تكون الدول الأوروبية منافقة، لكن توجد مرجعية لمحاسبتها على نفاقها، ومطالبتها بالتغير نحو الأفضل، وهذه المرجعية هي القيم التي ترفعها رسمياً، وبفضلها مثلاً أمكن للناشطين الأوروبيين الضغط لفتح الحدود للاجئين، محققين نجاحاً لا بأس به، لكن ماذا سيحدث إذا تم التراجع عن القيم نفسها؟

توجد تجربة سابقة لانهيار كيان سياسي ضخم، «منافق» بدوره، هو الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي لم يخلّف زلزالاً جيوستراتيجياً وحسب، بل أيضاً زلزالاً أخلاقياً وثقافياً. زالت مع الدولة السوفييتية قيم كانت تعني كثيراً من البشر، ويعرّفون ذواتهم على أساسها، ربما على رأسها الإنسانية التفاؤلية: بإمكان البشر السيطرة على عالمهم، تطويع الطبيعة، الوصول إلى الفضاء والحفر عميقاً في الأرض، تأسيس نمط إنتاج عادل لا يخضع لتقلبات وأزمات غير عقلانية لا يمكن السيطرة عليها، مثل التي يشهدها السوق الرأسمالي. مع نهاية الإنسانية التفاؤلية فقد كثير من البشر طموحهم بالسيطرة، وباتوا يخشون من انتقام «الطبيعة» وأزمات السوق. لقد صاروا أكثر «تواضعاً» ينظرون إلى جانب مهم من السعي الإنساني، مثل التصنيع والتحديث وزيادة مستوى المعيشة، على أنه خطيئة تستحق العقاب. ورغم غرق الأوروبيين بشعور الخطيئة، إلا أنهم حافظوا على ما يمكن التمسّك به: منظومات رعاية اجتماعية متينة، تدخلاً للدول للحد من توحش الأسواق، دعماً لما اعتبروه «ثقافة إنسانية رفيعة» وميلاً للسلم المستدام، على الأقل في قارتهم ومع جيرانهم الأقرب، رغم انتهاكه في عدة مناسبات، كما حدث في يوغسلافيا وليبيا.. وكان مما يثير نشوة كثيرين في أوروبا حديث اليسار الأمريكي عن ضرورة أوروبة السياسات الاقتصادية والاجتماعية الأمريكية، أو اعتماد «نموذج إسكندنافي».

لم يفقد العالم إذن مثاله تماماً، فالقيم الأوروبية شكلت دافعاً لكثيرين حول العالم، خاصة في الدول العربية وأوروبا الشرقية. ومعظم التحركات المطالبة بالديمقراطية استلهمت كثيراً من النموذج الأوروبي الغربي، وهذا ربما ما دفع مفكراً يتمتع بشعبية عالمية، مثل سلافوي جيجيك، إلى التحذير من تفكيك «المركزية الأوروبية». ماذا سيبقى للعالم إذا تم النيل من قيم أوروبا؟ النموذج الروسي والصيني، أم توحش الرأسمالية الأمريكية؟

عسكرة أوروبا، وتشديد انضوائها ضمن حلف الناتو يهددان بزلزال أخلاقي جديد، لا يقل إيلاماً عن الزلزال السوفييتي. قد لا يخسر العالم هذه المرة تفاؤله وحسب، بل أيضاً مثاله الأخير لحياة أفضل نسبياً، حتى لو كانت غارقة بالذنب.

الجنة ليست هنا

كثير من الأوروبيين لم يكونوا راضين بنموذجهم، وليس الرجعيون أو اليمينيون منهم فقط، فالاتحاد الأوروبي تطلّب ما اعتبروه تضحيات كبيرة، أهمها فكرة أساسية للديمقراطية، وهي الجماعة السياسية ذات القرار. بعض أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي اعتبروا «بريكست» انتصاراً إنكليزياً جديداً للديمقراطية: لا يحق لمجموعة من البيروقراطيين والتكنوقراطيين في بروكسل مصادرة الصوت السياسي للمواطنين الأوروبيين، وصياغة لوائح من الأنظمة والقرارات، تفرض نفسها بشكل مسبق على أي قرار ديمقراطي حر يمكن اتخاذه.

خسارة الجماعة السياسية ارتبطت بخسارات أخرى على المستوى الجمعي: تراجعت الجماعية النقابية لحساب فردانية العامل المرن؛ اضمحلت العائلة التقليدية لمصلحة روابط أخف، أكثر تحرراً، وتناسب ظروفاً اجتماعية ومهنية غير مستقرة؛ فيما خفت الجدل المفتوح في الحيز العام لحساب التسليم بعقلانية وتخصصية المؤسسات القائمة. وبخلاف حماس الجماعات السياسية، التي تعد دائماً بمستقبل أفضل، عاش الأوروبيون جنتهم هنا والآن، وربما بدت الحياة لكثير منهم ثقيلة دون يوتوبيا يمكن النضال لأجلها.

اليوم يُطالَب الأوروبيون بالتخندق ضمن معركة عالمية، لكن دون أن يستعيدوا شيئاً من جماعيتهم القديمة، وربما يكون هذا وضعاً غير مسبوق تاريخياً: كيف يجب أن تكون حراً ومرناً، وفي الوقت نفسه جزءاً من حشد متراص، ستتم عسكرة ظروفه المعاشية ضمن حالة استثناء دائمة؟ ربما تعجز القيم الأوروبية عن الإجابة على هذا السؤال.

عالم مغلق

قد تكون القيم، التي يتجه إليها العالم اليوم، بعيدة للغاية عن الازدهار والرخاء. تتفكك تدريجياً «السلاسل الطويلة» التي انبنى عليها انفتاح العولمة، والتي أمّنت نوعاً من الاعتماد المتبادل بين مختلف مناطق العالم. وتلجأ دول كثيرة إلى الانكفاء لحلول محلية أو إقليمية. وقد يكون هذا مستقبل الاتحاد الأوروبي: تجمع إقليمي لم يعد لديه ما يقوله للعالم.

بهذا المعنى فقد تكون حرب الليبراليين المعاصرين، الأنسب لقيمهم، ليست مواجهة روسيا أو تطوير القدرات العسكرية لأوكرانيا، بل السعي لإحلال السلام، وإعادة العلاقات والروابط حتى مع «التسلطيين». لأن عالماً متخندقاً ضمن أحلاف عسكرية ليس البيئة المثالية للنموذج القيمي الذي توصّل إليه الاتحاد الأوروبي. وربما كان «النفاق» أكثر مناسبة للحفاظ على المبادئ، فالانفتاح المؤدي للازدهار والرخاء له ثمنه، و»القبول بالآخر» قد يعني التعايش مع ممارساته، حتى لو كانت متعارضة تماماً مع القيم الأوروبية. أما الحل البديل فهو ابتكار قيم جديدة أقل قابلية للتناقض، وهو أمر غير مُفَكر به من قبل الليبراليين، وربما من قبل أي طرف أيديولوجي آخر.

كاتب سوري

القدس العربي

————————

خطوط واشنطن الحمراء في أوكرانيا “جوفاء”..كما كانت في سوريا

اعتبرت صحيفة “نيويورك بوست” الأميركية أن البيت الأبيض يفتقر إلى المصداقية بشأن تصريحات مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي جيك سوليفان عن وجود خطوط حمراء في أوكرانيا بسبب تجاوز بشار الأسد للخطوط الحمراء التي رسمتها الإدارة الأميركية في سوريا.

وقالت الصحيفة في تقرير، إن حلفاء الولايات المتحدة باتوا اليوم على قناعة تامة بعدم مصداقية تصريحات سوليفان، والذي حذّر نظيره الروسي الأسبوع الماضي، من مغبة استخدام الأسلحة الكيماوية أو النووية في أوكرانيا باعتبارها خطوطاً حمراء ستعاقب الولايات المتحدة روسيا عليها.

وأضافت الصحيفة أن آخر مرة حاولت فيها الإدارة الأميركية ثني مستبد عن استخدام الأسلحة الكيماوية كانت في عام 2013، في سوريا، عندما حذّر الرئيس السابق باراك أوباما، بشار الأسد من عواقب وخيمة إذا أقدم على استخدام الأسلحة الكيماوية في الصراع الدموي الدائر هناك.

وأوضحت أن الأسد لم يستجِب بالنهاية إلى تصريحات أوباما وقام بتنفيذ عشرات الهجمات الكيماوية ضد شعبه. وأوضح تقرير الصحيفة أن أوباما ومن خلفه نائبه والرئيس الحالي جو بايدن، كانوا يطمحون للحصول على تفويض دولي ساحق للتدخل لكن بسبب الانقسام الأوروبي قرر أوباما الرجوع الى الكونغرس ولم يضغط من أجل الحصول على التفويض مدمراً بذلك أي مصداقية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

وتابعت الصحيفة أن “التردد الأميركي أظهر الرئيس الروسي بمظهر القوي، والذي فور مشاهدته ملامح إلغاء التدخل الغربي، أرسل طائراته إلى سوريا لتقتل الثوار الذين هددوا حكم الأسد بالإضافة إلى نشر قوات روسية قاتلت إلى جانب قوات النظام السوري وحزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني مسببة سقوط مئات آلاف القتلى من السورين ونزوح عدد أكبر”.

واعتبر التقرير أن تجاوز الخطوط الحمراء الأميركية في سوريا لم يقتصر على تنفيذ الأسد لجرائم ضد الإنسانية ضد شعبه في سوريا وبقائه في السلطة وحسب، بل تعداه الأمر لتستفيد روسيا من 63 ألف مقاتل على مر سنوات الحرب في سوريا، تدربوا في ميدان المعارك هم يقاتلون بجانب روسيا في أوكرانيا. وأوضح أن نشر روسيا لمنظومات “إس-400” في سوريا كبّل أيدي إسرائيل عن تنفيذ غارات جوية ضد إيران في سوريا.

وأضافت الصحيفة أن الإدارة الأميركية تضغط على حلفائها في الشرق الأوسط من أجل زيادة انتاج النفط بينما هي على وشك أن تبرم اتفاقاً نووياً آخر مع إيران، سيعود على طهران بمليارات جديدة لتمويل مشاريعها ووكلائها والأسد هو المستفيد مرة أخرى.

ووصفت تحذيرات بايدن عن خطوط حمراء في أوكرانيا بالجوفاء بالنسبة لحلفائنا في الشرق الأوسط، بعد عشر سنوات من تصريحات مماثلة لبارك أوباما في 2013.

وقالت الصحيفة: “مثلما كان حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط شهوداً على تقاعس الولايات المتحدة بعد عشر سنوات في سوريا، سيكون حلفاؤنا الأوروبيين شهوداً على التقاعس الأميركي في أوكرانيا بعد عشر سنوات أيضاً”.

—————————–

الولايات المتحدة تُعاقب نفسها أيضاً/ مهند الحاج علي

لافتاً كان كلام غيتا غوبيناث نائب مدير عام صندوق النقد الدولي (نُشر في صحيفة الفايننشال تايمز)، عن انعكاسات العقوبات الأميركية القاسية على روسيا بعد حربها على أوكرانيا، وتحديداً الإشارة الى تقلّص هيمنة الدولار الأميركي في النظام المالي العالمي.

بيد أن غوبيناث ركزت على انعكاسات العقوبات على الحوكمة، لجهة أن النظام المالي العالمي سيتسم بتشتت إذ ستنشأ بلوكات عملات صغرى مبنية على التجارة بين مجموعات منفصلة من الدول. “سيبقى الدولار العملة العالمية الرئيسية في هذا المشهد لكن هناك تشتتاً على مستوى أصغر … وهذا نراه من خلال المفاوضات بين الدول بشأن العملة المتداولة في التجارة بينها”. ومثل هذه التجارة، وفقاً لغوبيناث، ستنعكس على نوعية الاحتياطات المالية في المصارف المركزية، “لأن الدول تميل للاحتفاظ باحتياطات بالعملات التي تُتاجر وتقترض منها مع بقية العالم، ولهذا قد نرى تحولاً بطيئاً (باتجاه الاحتفاظ بعملات غير الدولار الأميركي”. 

وهذا التحول البطيء اكتسب بعض الزخم مع الحرب التجارية والعقوبات على ايران في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، واليوم مع الحرب الأوكرانية. لكنه يبقى بطيئاً، إذ انخفضت نسبة الدولار في احتياطي العملات الأجنبية بالمصارف المركزية من 70 بالمئة الى أقل 60 بالمئة خلال عشرين عاماً.

ولكن ذلك لا يعني أن هناك عملة واحدة ستستبدل الدولار خلال العقود المقبلة، كالرينمينبي (اليوان الصيني)، اذ ارتفعت نسبة الاحتفاظ به الى ثلاثة بالمئة فقط، رغم أنها مرشحة للتصاعد. إلا أن هناك أيضاً العملات الرقمية التي تكتسب أهمية متزايدة، إلى جانب الدولار واليوان واليورو والاسترليني والدولار الأسترالي والين. (وفقاً للخبير المالي مارتن وولف، في الربع الثالث من العام الماضي، كان 59 بالمئة من الاحتياطي المالي في المصارف المركزية بالعالم، بالدولار الأميركي، و20 بالمئة باليورو، و6 بالمئة بالين و5 بالمئة بالاسترليني).

وغوبيناث ليست وحيدة في تحليلها، بل هناك تيار واسع من المسؤولين والخبراء الماليين، يتوقع حصول هذا التحول، ومنهم من كان يُحذر من الافراط في استخدام سلاح العقوبات المالية، أكان ضد ايران أو روسيا أو الصين، إذ أن ذلك سيُضعف الثقة بالدولار ويدفع المتضررين الى البحث عن بدائل وتعزيزها كي لا يبقى الدولار وحده مهيمناً.  قبل الحرب على أوكرانيا وتداعياتها، وتحديداً عام 2018، طالب وزير الخارجية الألمانية السابق هايكو ماس بنظام مالي بديل للاتحاد الأوروبي “لتعزيز الاستقلالية الأوروبية (مالياً) من خلال خلق آليات دفع مستقلة عن الولايات المتحدة، أي صندوق نقدي أوروبي ونظام سويفت مستقل”. كان التفكير الأوروبي حينها على ارتباط باستقلال القرار الأوروبي بعيداً عن سياسة إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب. لم تنجح أوروبا في انقاذ الاتفاق النووي الإيراني، رغم الإرادة السياسية بهذا الاتجاه، نتيجة الهيمنة المالية الأميركية عينها.

واذا كانت أوروبا تُفكر استراتيجياً بالاستقلال المالي، فكيف يكون موقف الصين مثلاً بعد العقوبات الأميركية على المصرف المركزي الروسي؟

بالتأكيد هناك اتجاه نحو المزيد من الاستقلالية، وربما هنا الخطر أكبر من أوروبا والصين من روسيا، وكذلك نقد ولو غير مباشر في الولايات المتحدة لاستخدام سلاح العقوبات في المجال المالي، لأثر ذلك على الثقة بالعملة الأميركية في التبادلات الدولية. مجلة “فورين أفيرز” المتخصصة بالشؤون الدولية نشرت مقالاً عنوانه “المحور المعادي للدولار”، ذكرت فيه أن “عرض بايدن للعضلات الأميركي بالاقتصاد سيُعزز روسيا ومنافسي الولايات المتحدة وخصوصاً الصين، لحرمان واشنطن من القوة التي تجعل العقوبات مدمرة بهذا الشكل”. ذاك أن الولايات المتحدة التي شجعت العالم على التداول بعملتها بعد ربطها بالدولار اثر مؤتمر “بريتون وودز” عام 1944، ومن ثم فكت ارتباطها في عهد الرئيس السابق ريتشارد نيكسون عام 1971، بعدما اعتمدت عليها الأسواق العالمية.

لكن بعيداً عن المحاولات المعاكسة، هناك عامل أساسي هنا. إلى أي مدى ستبقى الولايات المتحدة الاقتصاد الأول عالمياً (الناتج المحلي يبلغ 20 ترليون دولار وما زال أعلى بكثير من الصين التي يبلغ ناتجها المحلي 14 ترليوناً)؟ وهل ستُعيد تسريع عجلة النمو والابداع لكي تُحافظ على ريادتها وبفارق شاسع مع خصومها؟

هذه أسئلة على ارتباط بشكل وثيق كذلك بمصير هيمنة الدولار حتى لو قررت بضع دول التداول بعملاتها الوطنية أو الاستعاضة عنها بعملة رقمية مشتركة. حتى في حال استمرار الوضع على ما عليه، من المؤكد أن الدولار بعد عقد أو اثنين كحد أقصى، سيُمثل أقل من نصف إجمالي الاحتياطي بالعملات الأجنبية في المصارف المركزية. وهذا وحده كفيل بإظهار الكلفة الطويلة الأمد لسلاح العقوبات، مهما كان مدمراً وناجحاً في المديين المتوسط والقصير.

المدن

———————

سورية الأخت غير الشقيقة لأوكرانيا/ دلال البزري

السوريون معنيون مباشرة بالغزو الروسي لأوكرانيا أكثر من أيّ شعب عربي آخر. أكثر من أي شعب غير أوروبي آخر. الصور تؤكد على ذلك. أوكرانيون هاربون من لهيب المقْتَلة الروسية في بلادهم إلى جوارها، وأكثر الصور لأمهاتٍ دامعاتٍ حاملاتٍ يحملن الرّضع من أطفالهن، ويجررن الأكبر منهم كيفما اتفق، عجائز ملطّخة وجوههم بالدماء، وآخرون يمسكهم متطوّعون من هنا وهناك. وجموعٌ تجرّ شُنَطاً، تركت بيوتها المهدّمة خلفها، وتبحث عن عنوان، أو ملجأ، أو ربما قنينة ماء… وقطارات الرحيل، والعيون الدامعة الضائعة، غير الفاهمة ما يحصل، والدمار الشامل في المدن والبلدات، وأحياء صارت أشلاء، وأحجار فوق بعضها، متناثرة، موزّعة على وسع الطرقات، ومنقذون بالقبّعات الملوّنة، وخيم ومخيمات وملاجئ، وأب يرفع ابنه عالياً، لا يريد الاستسلام لليأس … أمام هذه الصور تذكّر كثيرون سورية، وكانت صرختهم مدوّية: “تذَكَّروا حلب … تذكَّروا حلب”.

والتشابه لا يتوقف عند الصورة. بديهي أنّ الغازي واحد في كلا البلدين. إنّها روسيا بوتين. وكلّ تجربته السورية التي أعطته تلك الوثبة الجبارة. نكّلَ بسورية المعارضة. واستولى على سورية الموالاة، بالقواعد العسكرية، وحقوق الاستثمار في موانئها. والآن يتجَوْهر في أوكرانيا. وفي سورية، صارت وزارة الدفاع الروسية تقصف المدن والبلدات بأسلحتها الجديدة. تسجّلها ثم تخرجها في شريطٍ مصوّر، أشبه بالإعلان التجاري، يروّج “دقة” الصناعة العسكرية الروسية. والمؤكد أنّ السلاح المجرَّب على سورية نفسه، ينزل الآن على رؤوس الأوكرانيين، كما سبق أن فعل برؤوس السوريين.

هذا لكي لا نتكلم عن طبيعة هذه “العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا” التي لا تملك من التكتيك العسكري سوى القصف والتدمير، وبإصرار ووحشية لا يختلفان عن تلك التي امتازت بها في سورية. النَيْل من المدنيين في الأوقات، أو الأماكن الأكثر “إنتاجية” لصواريخ هذه “العملية” وطائراتها. مسارح، مدارس، مستشفيات، مؤسّسات حكومية، ملاجئ، محطات المترو، نُصب تذكارية، منحوتات عامة، مخابز، منتزّهات، أسوار، قرى، مبانٍ خاصة وحكومية، بيوت، بيوت لا تنتهي، سقطت على أهلها، وأخرجهم الأحياء منهم من ديارهم… ومئات الحكايات التي تستحضر معها مئات أخرى من الحكايات السورية.

ومواقف سياسية، تفاجئك، مع أنّها منتظَرة. الذين خاضوا المعارك من أجل تثبيت عرش بشّار، بمليشياتهم، أو بقلوبهم… هؤلاء لم يتبدّلوا، لم يتساءلوا، لم يندهشوا. الغزو الروسي لأوكرانيا جاء ليثبت لهم، للمرّة الألف، أنّ أميركا هي الشرّ المطلق، هي والغرب كله. لكنّ الأثر في سورية نفسها كان نافراً، في قلب بشّار الأسد نفسه. تظاهرات قسرية أراد لها هذا الأخير أنّ تكون مليونية دعماً للمحتل الروسي في مغامرة احتلاله دولة أخرى. وأقوال خالدة لبشّار الأسد عن الغزو، لا يحسُن تكرارها، أمعن بحبّه لمحتله، تماهى معه. وأراد أن يظهر وكأنّه هو الذي منحه الإذن بالهجوم على دولةٍ أخرى، بصفته رئيساً لدولةٍ محتلة.

في المقابل، تزايدت، أخيراً، التظاهرات المعادية للأسد، في مناطق “التسوية” أو في أخرى أقلّ تحصّناً منها. وكلّها تبدو وكأنّها مستقوية بصمود الشعب الاوكراني بوجه آلة الحرب الروسية. و”أمل” كما يقول أحد الكتّاب السوريين، بأن تنهض سورية، بعد الذي حصل في أوكرانيا. وترجمة لهذا الأمل بالرايات السورية الخضراء المعارِضة، المرفوعة في التظاهرات في أوروبا وأميركا، والمناهضة للغزو الروسي…

واللفْتة اللماحة لأحد الكتاب السوريين: أنّ بوتين هجمَ على سورية بداعي محاربة “الإرهاب”. أي أنّه تسلّل من شباك الحرب الدولية على الإرهاب في أواسط العشرية الماضية، فبعدما انتهت هذه الحرب، سرق شعار “محاربة الإرهاب” وأدخله في خزينة احتلاله سورية. أما الهجوم على أوكرانيا، فقد سخّر له بوتين شعاراً آخر، هو “محاربة النازية”. لماذا؟ لأنّ “النازية” هي النظير الأوكراني لـ”الإرهاب” في سورية. ذريعة خطيرة، بمكوّنات واقعية، لكنّها غير أساسية. هي متفرّعة عن القضية الأولى. مثل الإرهاب، للنازية وجود، والأرجح أنّها تغذّت من المصدر نفسه، البوتينية وحلفائها. اسم أولئك النازيين “فوج أزوف” يحملون السلاح، لكنّ تأثيرهم محدود، كذلك وطاقتهم العسكرية. وعلى كلّ حال، كيف يستوي أن تتّهم أوكرانيا بـ”النازية”، وبـ”الصهيونية” في آن؟

ثم، تدفُق الأقلام السورية تحليلاً ومراقبة للحرب على أوكرانيا، أكثر من أيّ أقلام عربية أخرى. ومراجعات بدأت للتجربة السورية مع الدعم الخارجي أيام الثورة. والأمل، هنا أيضاً، بأنّ الرافعة الأوكرانية يمكن أن تساعد على الاستفاضة بهذا النقد، بما قد يوصل إلى اتفاقٍ وطنيٍّ للمعارضة السورية، لها وجهة نظر بعد أوكرانيا، ربما تكون جديدة، عن التنسيق، عن الوحدة، عن كيفية مخاطبة الداعم، عن الحفاظ على الاستقلالية… إلخ.

وتلك المقارنة التي تفرض نفسها: كيف أنّ بوتين يلبّي دعوة نظام دموي استبدادي ليسانده ضد شعبه المُطالب بحقوقه، حالة الأسد. وكيف يعتدي بوتين نفسه على نظامٍ انتُخب قادته ديمقراطياً، على رئيسه فولوديمير زيلنسكي، وعلى الشعب الذي انتخبه، فكان عقابه تلك الهجمة الشرسة، والسلاح الثقيل في الأجساد السائغة. الأول وريث الاستبداد المخابراتي، والثاني، زيلنسكي وريث الديمقراطية والانتخابات. تلك الانتخابات التي قتل بشّار السوريين المطالبين بها ..

ومقارنة متفرِّعة عن الأولى: كرامة الرئيس الأوكراني، وعزّة نفسه أمام الاستكبار الروسي، وإصراره على خلاص بلاده من عسكره، مقابل ابتلاع بشار كلّ الأفاعي والإهانات البروتوكولية الروسية، معتقداً أنّه بذلك يمارس لعبته إياها، المتذاكية، الرديئة، مع المحتلين بلاده. والقراران بأمر من بوتين: الأخير، بشّار، مجرم الحرب، فاستحق الحياة، والثاني، زيلنسكي، رئيس منتخب، فيستحقّ الموت.

للمرتزقة السوريين سوق في أوكرانيا. المؤكّد حتى الآن أنّ بوتين يحتاجهم لينفذوا أقذر المهمات وأخطرها على حياتهم. شرط أن يكونوا أصحاب خبرة، في سورية، أو في ليبيا، حيث لبّوا نداءه لدعمه ضد خصمه في الغرب الليبي. والغرب هذا جاءته هو أيضا “المؤازرة” من مرتزقة سوريين بإمرة تركيا. والتساؤل، من الجهة الأوكرانية المقابلة، إن كانت صحيحةً الأصوات السورية التي أعلنت عن استعدادها لمحاربة الجيش الروسي، بالانضمام إلى “الألوية الأممية”. وتناول هذه المسألة بالأقلام السورية، وتنبّهها إلى أخطار “الكفاح المسلح الخارجي” سواء كان مع الجهة المعادية أو الموالية لروسيا. ووصفٌ للبؤس السوري الذي أوصل شبابه إلى بيع قوة زِناده مقابل فُتات من الرواتب، غير المدفوعة غالباً. والمرتزقة اللبنانية على عتَبَة الإعلام. كما حصل في سورية، قبل بضع سنوات، يؤخّر حزب الله الإعلان الصريح عن تجنيد شبابه لمحاربة الشعب السوري المنتفض ضد بشّار الأسد.

وإسرائيل، الواقعة بين مؤيد لبوتين ومعارِض له. وحكومة تحاول أن تقف على الحياد حفاظاً على موقعها واقتصادها، والأهم من ذلك “حرية حركتها”… وأين؟ في الداخل السوري نفسه. سورية هنا أيضاً نقطة الإستراتيجيا الإسرائيلية. الصحافة الإسرائيلية كشفت عن مجموعةٍ من ضباط الاحتياط في الجيش الإسرائيلي تدرّب أوكرانيين على القتال ضد الغزاة الروس. ونقلت الصحيفة عن أحد هؤلاء: “الحقيقة أنّنا سئمنا جداً من القصة الروسية في سورية… صحيحٌ أنّه يوجد تنسيق دائم معهم لكنّنا لم نرتبك للحظة (…) الجنرالات الروس ينفّذون الأوامر التي يتلقّونها من الكرملين، لكنّهم ليسوا في جانبنا، فهم يتحدّثون معنا بعد أن كانوا قد نسّقوا عسكرياً بشكل مكثّف مع السوريين والإيرانيين وحزب الله في سورية”.

ردود الفعل الأولى العربية على مشاهد الغزو الروسي، والتصرّفات والتعليقات العنصرية، ومقارنة بين التضامنَين، الغربي والشرقي… كانت تنطق بالمرارة والحسْرة. على ما تحظى به أوكرانيا بأكثر ما حظيت به سورية. وهذه ردود فعل محقّة. لكن نسبيّتها تفرض نفسها أيضاً. ليس فقط لأنّ أوكرانيا على أبواب أوروبا شرقاً، ولها لغة ودين وتاريخ واحد… إلخ… لكن أيضاً لأنّ أوكرانيا مثل سورية هي نتاج تقاعس غربي عن ارتكابات بوتين وغيره، في الشرق الأوسط، ومن بعدها، أو قبلها، في أوروبا نفسها.

وهذه مرحلة جديدة في الوعي الغربي، بعد اعترافه بأخطاء استصغار نوايا بوتين التوسّعية، ستكون لها تغيرات وموازين واتجاهات تفكير مختلفة. وسورية هي الدولة غير الأوروبية الوحيدة الواقعة على تماسّ مباشر مع هذه التغيرات. فيكون السؤال: كيف سيتعدّى السوريون مرحلة الدهشة، لينتقلوا إلى الاشتغال على هذين الواقع والوعي الجديدَين؟

العربي الجديد

————————-

رمضان قديروف: جندي بوتين الذي يرعب الشيشان/ محمد خلف

بعد سنوات طويلة من “تطويع” الشيشان الجمهورية الصغيرة في شمال القوقاز الروسي، وحكمها بالحديد والنار، وسجل “دموي” في التعامل مع معارضي السلطات في جمهوريته وروسيا عموماً، يبدو أن الكرملين حدد مهمات جديدة لحاكم الشيشان رمضان قديروف.

أطلق الديكتاتور الشيشاني رمضان قديروف قناة باللغة العربية على تطبيق “تلغرام” للمراسلة، بعد إعلانه إرسال مقاتليه للمشاركة في الغزو الروسي لأوكرانيا.

 تحمل القناة اسم “قديروف نيوز عربي” وانطلقت في 18 آذار/ مارس على المنصة، التي تضم أكثر من 1.4 مليون متابع.

وصفت قناة قديروف النشط على وسائل التواصل الاجتماعي، نفسها بأنها منفذ مخصص لتقديم تحديثات حول حياته للجمهور العربي.

وتقدم القناة، منذ إطلاقها، ترجمات لمنشورات يركز محتواها إلى حد كبير على الحرب في أوكرانيا.كما

تتضمن منشورات صوراً تقول إنها لقوات شيشانية في مدينة ماريوبول الساحلية المحاصرة وهي تخوض معارك بالأسلحة النارية. وخُصص عدد كبير من المنشورات للتعبير عن “شجاعة وبطولة” المقاتلين الشيشانيين، الذين يتمتعون بسمعة رهيبة على جبهات القتال، وللتباهي بالمعدات العسكرية.

واتسعت القناة لضخ المنشورات الدينية، مع مقاطع فيديو لقديروف وأفراد قواته في أوكرانيا وهم يصلون ويستمعون إلى خطب دينية.

أطلق قديروف قناة أخرى تحمل اسم “الشيشان نيوز عربي”، قال إنها مخصصة للأخبار باللغة العربية حول الجمهورية الواقعة في شمال القوقاز. وظهر فيديو على القناة يتهم الغرب بنشر “قذارة” حقوق المثليين في روسيا، ووضع صوراً لأشخاص يرتدون أزياء معروفة في حياة المثليين.

 وبعد أيام معدودة نشرت قناة “غروزني” التلفزيونية الشيشانية مقطعاً مصوراً على قناتها في (تلغرام)، يظهر فيه قديروف في غرفة مظلمة وهو يناقش مع مقاتليه عملية عسكرية على بعد سبعة كيلومترات من العاصمة الأوكرانية..ونشر قديروف الذي غالباً ما يصف نفسه بأنه “جندي مشاة لبوتين” مقاطع مصورة لقوات شيشانية مدجّجة بالسلاح في منطقة كييف في إطار قوة “الغزو” الروسية.

إلا أن السلطات الأوكرانية كشفت في بيان نشرته وكالات الأنباء العالمية  خبراً عن تصفية وحدة خاصة من المقاتلين الشيشانيين، كانت تمكنت من دخول كييف بهدف اغتيال الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي ومسؤولين في الحكومة والقوات المسلحة. وأوردت الميديا الدولية أدلة دامغة تؤيد هذا الاعلان.

الشيشان: جمهورية قديروف الإقطاعية

يعتبر قديروف أحد أكثر الرجال إثارة للخوف في الشيشان، وهو صاحب نفوذ قوي في روسيا الاتحادية. ويعده المراقبون يد الكرملين القوية في بسط الأمن والاستقرار في الجمهورية القوقازية الشمالية منذ أكثر من عقد من الزمن لدرجة أن جمهورية الشيشان باتت أشبه بإقطاعية خاصة بقديروف، يحكمها دون منازع. عام 2018 التقى مراسل “بي بي سي” في روسيا ستيف روزنبرغ بقديروف وأثار معه الاتهامات الموجهة إليه بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، فرد بازدراء: “الكلب ينبح لكن القافلة تستمر بالسير. الذين يكتبون هذه الأشياء عني لا أعتبرهم بشراً”.

يتذكر روزنبرغ روح الدعابة التي يتمتع بها الرجل القوي منذ لقائهما الأول عام 2005. وبينما كان قديروف يعزف على الغيتار قال له روزنبرغ: “أنا أعزف على آلة موسيقية أيضاً، أنا أعزف على البيانو”. فرد عليه قديروف مازحاً: “إذاً اعزف على البيانو الخاص بي، وإذا كان عزفك رديئاً سأضعك في سجني”. في السياق، نشر موقع “ديلي بيست”، “إن قديروف اجبر شاباً على التعري و(اغتصاب نفسه) ومع تصويره في فيديو (اعتذار) مروع، وذلك عقاباً له على انتقاد النظام في وسائل التواصل الاجتماعي”.

وذكرت الصحيفة أن “سلمان تيبسوركاييف  Salman Tepsurkay المقيم في الشيشان، كان يديرقناة (1 إيه دي إيه تي) 1ADAT على ( تلغرام)  وهي  مناهضة لنظام قديروف، ظهر في الفيديو وهو يعتذر باللغة الشيشانية ثم يبتعد من الكاميرا، ويأخذ زجاجة فارغة ويجلس عليها”. وعلقت إيكاترينا سوكيريانسكايا، مديرة مركز تحليل ومنع النزاعات والمراقبة على الحادث، وقالت ” يمارس نظام قديروف انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في الشيشان”، وتحدثت عن تلقيها رسائل من مواطنين شيشان من جميع أنحاء العالم، يقولون فيها إنهم شعروا بالصدمة والإذلال.

كشفت بيانات منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان أن قدريوف يجبر معارضيه على الظهور بشكل مهين على التلفزيون المملوك من الدولة. وأشارت إلى أن بعض الأطباء اشتكوا من نقص في المعدات الطبية والأدوية اللازمة لعلاج فيروس كورونا، فكان عقابهم الظهور على شاشة التلفزيون والقول إنهم كانوا مخطئين. ونقلت “ديلي بيست” عن سوكيريانسكايا قولها “لا يعي الكثير من الناس في أنحاء العالم  كيف يواصل الشيشانيون حياتهم بكرامة”. وشددت على أن “على مسؤولي الكرملين أن يدركوا مدى احترام الشعب الشيشاني للتقاليد، فالكثير منهم يأخذ هذا الاغتصاب العلني المروع  شخصياً، وبالتالي تسببه في استفزاز للعنف في المجتمع”.

الصوفية القادرية أداة قديروف الدينية

اقتفى قديروف خطى والده الذي انتمى قبل اغتياله الى الطريقة الصوفية الرئيسية في الشيشان وهي القادرية. وعموماً كان الشيشانيون أتباع الطريقة القادرية معادين لروسيا على الدوام، لكنهم تحولوا للمرة الأولى في التاريخ إلى حليف لها ضد الإسلاميين. غير أن قديروف ارتبط بعلاقة مباشرة مع الكرملين متجاوزاً مؤسسات الدولة البيروقراطية في روسيا، وهو وضع مناسب لكلا الجانبين. وقد أتت هذه العلاقة  بثمارها حيث مولت روسيا إعادة بناء البنية التحتية في الشيشان، مثل شبكة الطرق الجديدة والمسجد العملاق في العاصمة غروزني. يقول سيروين مور، خبير شمال القوقاز في جامعة برمنغهام في المملكة المتحدة، إن روابط قديروف بجهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB) تعود إلى عام 2000 على أقل تقدير وهو العام الذي أصبح فيه بوتين رئيساً لروسيا.

وكانت وجهت اتهامات مباشرة لقادريوف بتصفية الصحافية الاستقصائية البارزة التي أدانت ممارساته البشعة بحق معارضيه آنا بوليتكوفسكايا. عام 2006 لقيت هذه الصحافية  مصرعها بإطلاق النار عليها أمام العمارة التي تسكنها في موسكو. وعام 2009 قُتلت المدافعة الروسية عن حقوق الإنسان ناتاليا إستيميروفا، بالرصاص في شمال القوقاز وكانت هي الاخرى من الأصوات البارزة التي عارضت أساليب قديروف القمعية. وأشار مور لـ”بي بي سي” إلى أن قديروف “بات أقرب ما يكون إلى زعيم طائفة دينية مثل بعض قادة الجمهوريات التي ظهرت في آسيا الوسطى عقب انهيار الاتحاد السوفييتي”، وبالتالي يعمل “عسكريون سابقون تحت إمرته بارتكاب جرائم قتل وتعذيب لمعارضيه، وينفذون عمليات مريبة بأوامره. ولم ينجُ من الاغتيال والقتل حتى رفاقه لمجرد أنهم اختلفوا معه، وفي مقدمتهم مرافقه الشخصي السابق عمر إسرائيلوف في فيينا وسليم ياماداييف في دبي. وعام 2020 أغلق “انستغرام” صفحة قديروف الذي كان يتابعه أكثر من مليون ونصف المليون متابع، وذلك بعد فرض الولايات المتحدة عليه عقوبات، فيما كان “فيسبوك” أغلق حسابه عام 2017.

بدأ الرئيس الشيشاني رمضان قديروف، مسيرته ضمن صفوف المقاتلين ضد القوات الفدرالية أثناء أحداث حرب انفصال الشيشان الأولى عن روسيا ما بين عامي 1994 و1996، قبل أن ينضم مع والده مفتي الشيشان ورئيسها السابق أحمد قديروف، إلى جانب السلطات المركزية مع بداية الحرب الثانية في عام 1999.

“قديروفتسي” وسياسة الأرض المحروقة

يرى خبراء في الشؤون الروسية أن الشيشان تعد نموذجاً مصغراً لما يسعى بوتين لتشكيله في أوكرانيا. فقد ظلت الشيشان جزءاً مضطرباً من الدولة السوفييتية والفيدرالية الروسية، حتى أعلنت انفصالها عن موسكو عام 1991، وأعلنت استقلالها بحكم الواقع في شمال القوقاز. قام الكرملين بالمحاولة الأوللى لإعادة فرض السلطة الاتحادية لكنها ادت الى نشوب الحرب الشيشانية الأولى بين 1994 و1996، وانتهت بفشل مذلّ لروسيا بعد أن حقق المقاتلون الشيشان نصراً مذهلاً على رغم أنهم كانوا أقل عدداً وعدَّة، ما أجبر روسيا على الانسحاب. وعند تولي بوتين الحكم أواخر عام 1999  شن حربا جديدة على هذه الدولة ،إلا أنه اتبع سياسة الأرض المحروقة، ما أدى إلى تسوية العاصمة  “غروزني” بالأرض، إضافة الى قيامه برشوة رشوة بعض القادة الرئيسيين للانشقاق مع قواتهم إلى صف الجانب الروسي، فكان أحمد قديروف أحد هؤلاء، وكانت مكافأته على خيانته تنصيبه رئيساً للبلاد. وبعد اغتياله سنة 2004، تولى ابنه رمضان- وهو أمّي غير متعلم- رئاسة الجمهورية، ومنذ ذلك الحين وهو يحكم الشيشان بقبضة من حديد ويسحق المعارضة بوحشية، مستعيناً بميليشياته التي تمولها موسكو المسماة “قديروفتسي، أي “رجال قديروف”. وشاركت هذه الميليشيات في القتال مع الروس في شرق أوكرانيا عام 2014 لاحتلال القرم، ويعودون الآن مرة أخرى وبأعداد كبيرة لتعزيز صفوف الروس في غزوهم لأوكرانيا بأكملها. ودعا قديروف الرئيس الروسي إلى شن حرب وحشية خاطفة في أوكرانيا لدفعها للاستسلام في غضون يوم أو يومين. وقال قديروف إنه يثق ببوتين ووصفه بأنه ابنه الذي لم ينجبه، ولكن التكتيكات العسكرية الحالية ضعيفة للغاية”. وفي رسالة صوتية بعثها لبوتين قال قديروف “لقد قلت مرات عدة إنني رجل متواضع، وإنني مستعد للتضحية بحياتي من اجلك. لكن لا تمكنني مشاهدة مقاتيلنا الذين يموتون”.

بعد سنوات طويلة من “تطويع” الشيشان الجمهورية الصغيرة في شمال القوقاز الروسي، وحكمها بالحديد والنار، وسجل “دموي” في التعامل مع معارضي السلطات في جمهوريته وروسيا عموماً، يبدو أن الكرملين حدد مهمات جديدة لحاكم الشيشان رمضان قديروف، تتجاوز حدود روسيا إلى أوكرانيا.وهو ما ينذر بارتكاب جرائم فظيعة في معركة الرئيس فلاديمير بوتين للسيطرة على أوكرانيا. وعلى عكس الإمام شامل الداغستاني (1797ـ 1871) الذي صدّ القياصرة الروس ومنعهم من السيطرة على جبال القوقاز لمدة ربع قرن (1834- 1859) على رغم المعارك غير المتكافئة، والمجازر بحق شعوب القوقاز، إلا أن قديروف قرر أن يكون “جندي بوتين” قولاً وفعلاً، بعدما وصف نفسه بهذه الصفة منذ أشهر، رداً على انتقادات معارضيه.

يصف المعارض الروسي ونائب رئيس حزب “بارناس” إيليا ياشين، جمهورية الشيشان الروسية بأنها “دولة إسلامية محلية” و”خلافة شيشانية منعزلة” تعيش وفقاً لتقاليدها وقوانينها الخاصة، إذ لا تسري قوانين روسية كثيرة في غروزني التي تبعد نحو 1000 ميل جنوباً من العاصمة الاتحادية موسكو، ولا يستطيع الموظفون الفيدراليون بجهات الأمن العمل بحرية خارج المباني الإدارية في العاصمة الشيشانية، كما يؤكد المختص في شؤون القوقاز، أوليغ أورلوف. يصف المحللون، مثل إيكاترينا سكيريانسكايا، الشيشان بأنها “خارجٌ داخلي” و”دولة داخل دولة” في روسيا. لكن هذه الخواص قد لا تكون كافية لوصف اتساع استقلالية دولة قديروف.

تحدثت وثائق “ويكليكس” في اواخر العام عن جوانب من شخصية قديروف، إذ ورد في برقيتين ديبلوماسيتين أرسلهما السفير الأميركي في موسكو نيكولاس بيرنز يزمي عام 2006 انه “أمير حرب في حرب الشيشان ثم ورث السلطة عن أبيه بصفقة مع فلاديمير بوتين اختزلت بعبارة الشيشنة”. وهي تعني بحسب السفير “تحويل الحرب في الشيشان من قتال شيشاني- روسي الى حرب اهلية شيشانية،عبر تسليم الحكم في  الشيشان الى مسلحين شيشانيين، مقابل الاستفادة من ولائهم وقدراتهم بشرط بقاء هذه الجمهورية في اطار الفيدرالية الروسية”. وأضاف أن التوافق على هذه السياسة تم بشكل شخصي بين بوتين وقديروف الأب الذي لقبه بـ”مفتي المتمردين الشيشانيين”، لكن تطبيقها كان يستند إلى انقسام داخلي بين “المتمردين”، يعود إلى حرب الشيشان الأولى التي اندلعت أواخر عام 1994، واكتسى شكل خلاف ديني كان يموه صراعاً بين “المتمردين” على السلطة بين جناح قديروف وجناح شامل باساييف (قتل في تموز/ يوليو 2006)… وقال الباحث في مركز “كارنيغي موسكو” الكسندر بونوف، يقال إن الباب ظل مفتوحاً لفترة طويلة جداً أمام قديروف كي يدير الأمور بطريقته… والآن تتطلع النخبة الحاكمة في موسكو لإخضاع الشيشان لبوتين”. وقال المتحدث الرئاسي ديمتري بيسكوب في شباط/ فبراير الماضي في إجابته على سؤال عن مصير قديروف بعد انتهاء ولايته، “إن قرار من يدير الشيشان أمر بيد الرئيس بوتين”. وحين اغتيل والده عام 2004 بتدبير من الاستخبارات الروسية  لمعارضته سيطرة الكرملين على نفط الشيشان (بحسب إحدى وثائق السفارة الأميركية بموسكو)؛ تولى قديروف الابن السلطة خلفاً له باعتباره- طبقاً لوصف السفير الأميركي- “أمير حرب نقياً وبسيطاً”. وتقول إحدى برقيات السفارة الأميركية إن قديروف الابن “لا يتمتع بالهيبة الدينية أو الشخصية التي كانت لأبيه”؛ لكنه كان محظوظاً، لأن والده ترك له قوة عسكرية كافية مكونة من مقاتليه السابقين ساعدته في إحكام سيطرته على السلطة. ويرى مراقبون أن شعور قديروف بالحاجة إلى الجاذبية الدينية والأيديولوجية- التي كان يتصف بها والده- دفعته إلى إطلاق حملة للترويج “للقيم الإسلامية”، ودعم الحفاظ على التقاليد في المجتمع الشيشاني. إلا أن محاولاته إضفاء الطابع الديني المتزمت على شخصيته لم يساعده على تبرئة نفسه من اتهامات بالفساد المالي وتبذير الأموال التي يحصل عليها من موسكو، في وقت يعتبرها هو بحسب تصريحات له “مدفوعات للحفاظ على الوضع”، عبر إنفاقها على أمراء الحرب القادرين على الاحتفاظ بالأمن في الشيشان، و”الوفاء” بالتزاماته المتعلقة بالتوازنات القبلية والعرقية في المنطقة، ويقيم قديروف وفقاً لتقارير استخباراتية غربية علاقات مشبوهة مع شركات النفط في الشيشان وداغستان وروسيا.

قديروف وبوتين وأهل السنة

في أواخر آب/ أغسطس 2016، نظم قديروف- بدعم من الكرملين- “مؤتمراً إسلامياً” لتحديد المفهوم الصحيح لـ”أهل السنة”، وقال البيان الختامي للمؤتمر “إن أهل السنة والجماعة هم أتباع الفرق التالية: فرقة المحدثين والصوفية والأشاعرة والماتريدية“، أما “السلفية والوهابية وجماعة الإخوان المسلمون فهي فرق طائفية دخيلة على السنة، وغير مرغوب بها في روسيا”. وهو ما أثار انتقادات عدة في العالم الإسلامي. يرى عضو مجلس مركز “ميموريال” لحقوق الإنسان والمختص في شؤون القوقاز أوليغ أورلوف، أن “الشيشان هو الإقليم الأكثر ولاء لبوتين شخصياً والحزب الحاكم وليس روسيا، مؤكداً أن “آل قديروف تم شراء ولائهم، بعد انتصارهم على الانفصاليين الشيشان”. ويتابع: “نظام الشيشان شمولي في ظل تحول قديروف من حاكم إلى قائد روحي وسياسي يتدخل في جميع مجالات الحياة وحتى يتحدث عن كيفية أداء الصلاة وتربية اللحية، ولا يمكن انتقاده علناً. ويتعامل قديروف مع الأئمة على أنهم موظفون حكوميون، ويتم إعداد النقاط الرئيسية لخطب الجمعة في المساجد مسبقاً”.

زج مجموعة قديروف في الحرب الاوكرانية يعيد الى الانتباه الاستراتيجية التي اتبعها بوتين للسيطرة على الشيشان واحكام قبضتها عليها بعد تدمير غروزني ،من خلال ما سماه السفير الاميركي الأسبق في موسكو بيرينز(الشيشنة)، والتي من الواضح أن الشيشانيين من الجانبين سيتقابلون بالسلاح وجهاً لوجهة في شوارع وازقة وحارات كييف و المدن الاخرى. وصف تقرير كتبته مجلة “لوبوان” الفرنسية، كتبه كريستيان ماكاريان من سمتهم “قوات الزعيم الشيشاني رمضان قديروف” بالمنقطعين جسداً وروحاً لخدمة قائدهم الذي يعرّف نفسه على أنه “شقيق بوتين”، وقالت إنهم بلحاهم الطويلة المميزة ينتشرون في العاصمة الأوكرانية كييف، وهم مستعدون للقيام بأصعب المهام الخاصة”. إلا أن المشهد في صورته المعاكسة، يظهر على أرض المعارك في أوكرانيا مقاتلين شيشانيين آخرين، ليسوا تابعين لقديروف أو موالين لبوتين، وهؤلاء وجدوا في الحرب الدائرة على أراضي أوكرانيا فرصة للقتال ضد روسيا التي يعتبرونها عدوهم الأول. هؤلاء هم  الفريق الثاني من الشيشانيين الذين ينتظرون المواجهة التي لم تكتمل مع قديروف وبوتين في غروزني، على طريقة “حرب العصابات”. هؤلاء المعارضون الشيشانيون وضعوا النواة الأولى لنقل النزاع الداخلي الشيشاني إلى شرق أوكرانيا، إذ انخرطوا في صفوف الفرق العسكرية الاوكرانية التي وجهت الانفصاليين الموالين لروسيا  في الأجزاء الشرقية من البلاد خلال الحرب عامي 2014 و2015.

شاركت هذه القوة الشيشانية المسلحة “كتيبة دوداييف” في القتال عندما غزت روسيا شبه جزيرة القرم بعدما عززت صفوفها بعدد من المقاتلين الشيشانيين ذائعي الصيت، وعلى رأسهم الجنرال عيسى منيف، القائد السابق لمجموعة عسكرية شيشانية شاركت في الحرب الروسية- الشيشانية الأولى بين عامي 1994 و1996.

حاز الجنرال منيف ثقة الجيش الأوكراني الذي زوده بمخزون من الأسلحة الخفيفة، كما وسُمح له -بصفته رئيس الحركة الاجتماعية السياسية “سفوبودا كفكاز (القوقاز الحر)”- بتشكيل وحدة حملت اسم الرئيس الشيشاني الراحل “جوهر دوداييف” الذي قُتل في غارة جوية روسية، تهدف لحفظ السلام وتقديم “المساعدة الدولية” للشعب الأوكراني في صراعه مع الروس المحتلين. ولقد خاضت “كتيبة دوداييف” قتالاً شرساً إلى جانب الجيش الأوكراني، وتألقت في معارك “دونيتسك ولوغانسك”، ما رفع من شعبية منيف وسط المواطنين الأوكرانيين، فقد كان يؤمن مثل غيره من الشيشانيين الذين التحقوا بقواته من تركيا وأوروبا، بأن خسارة أوكرانيا تعني هزيمة الشيشان.

اظهر استطلاع للرأي أجراه “معهد كييف الدولي لعلم الاجتماع” في كانون الأول/ ديسمبر الماضي أن واحداً من كل ثلاثة أوكرانيين سيكون على استعداد للانضمام إلى المقاومة المسلحة ضد القوات الروسية، ما يمنح أوكرانيا إمكانية إنشاء عشرات الآلاف من المجموعات الصغيرة والمتنقلة القادرة على مهاجمة القوات الروسية. ونقل موقع “الجزيرة نت” عن محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية الصراعات الدولية والعضو السابق في لجنة خبراء الأمم المتحدة قوله “إن الحضور العسكري الشيشاني في حرب أوكرانيا يضم قضيتين أساسيتين، فهو يعطي أولاً الفرصة لنشوب حرب انتقامية في أوكرانيا بين فئتين من الشيشانيين المتخاصمين، يناصر بعضهم الرئيس قديروف فيما يعارضه الطرف الآخر، إذ يستغل الطرفان الأزمة الأوكرانية لتصفية الحسابات والأحقاد السياسية العالقة بينهما؛ كما ستشكل أزمة أوكرانيا فرصة مهمة للاستثمار الإستراتيجي في العلاقات الشيشانية- الروسية، وتأكيد الحلف الشخصي والسياسي بين الرئيس بوتين في موسكو والرئيس قديروف في غروزني، ضمن إطار التوافقات على وضع الشيشان بعد الحرب مع روسيا بين عامي 1994 و1996”. يتقاطر مئات المقاتلين (المرتزقة) من سوريا ولبنان وتونس ولبنان وليبيا وأفريقيا والصومال للقتال في أوكرانيا على ضفتي الحرب، قسم مع روسيا والآخر ضدها، ما ينذر بتحول الساحة الاوكرانية الى حروب داخل الحرب الكبرى، وتصفية حسابات بين الأطراف المتحاربة في الشرق الاوسط. فهل هذه هي خطة بوتين بعد فشله في احتلال اوكرانيا في ثلاثة أيام، كما  كان اوحى له  الجنرال Yakov Rezantsev الذي لقي مصرعه بعمر 48 سنة، كسابع جنرال تخسره روسيا بشهر، على حد ما بثته الوكالات، وما ذكرته صحيفة “التايمز” البريطانية عن مقتله بغارة شنها الجيش الأوكراني على مطار Chornobaivka القريب من مدينة سيطرت عليها القوات الروسية في 3 آذار/ مارس 2022، هي Kherson المطلة إلى الشمال من شبه جزيرة القرم المحتلة على البحر الأسود.

درج

———————–

كيف ستكون الحياة في أعقاب الحرب بالنسبة لأوكرانيا؟/ ماري ديجيفسكي

اقتضى الأمر اندلاع حرب فعلية لكي يعترف الغرب بأنه لم يكن مستعداً للمجازفة بنشوب حرب عالمية ثالثة من أجل أوكرانيا، ولكي تقبل الأخيرة بذلك الواقع أيضاً، كما تكتب ماري ديجيفسكي في المقال التالي

“لماذا تواصل القتال؟ لماذا لم يكن هناك إعلان عن وقف لإطلاق النار، إذاً؟” (رويترز)

بعد ثلاثة أسابيع من القتال، كان أحد الجوانب العديدة غير المألوفة للحرب الروسية في أوكرانيا تزامن الرعب مع الأمل بشكل شبه يومي. فحتى في الوقت الذي تم فيه قصف المسرح في مدينة ماريوبول المحاصرة، وتدمير عمارة سكنية أخرى خارج العاصمة كييف، كان ممثلون رفيعو المستوى من كل جانب يدعون أن المحادثات التي بدأت قبل أسبوعين في بيلاورس، قد بدأت تؤتي ثمارها، وأن الجانب الآخر كان يظهر الآن موقفاً أكثر واقعية.

ومن الواضح أنه تم إحراز قدر كبير من التقدم إلى درجة القول إن خطة سلام مؤلفة من 15 نقطة كانت الآن مطروحة على طاولة البحث، وينص الجزء الأساسي فيها على التزام دستوري من قبل أوكرانيا بأن تكون دولة محايدة. وقد سلمت أوكرانيا بمبدأ الحياد، وتجري المفاوضات الآن حول شروط هذا الحياد، فهل ستتخذ من السويد، أو النمسا، أو فنلندا، ربما، كنموذج أصلي؟ وهل ستستطيع أوكرانيا أن تحتفظ بقواتها المسلحة؟ وإذا  كان الأمر كذلك، ما هي الحدود المعلنة التي يمكن أن توضع من أجل الإعداد، والتجهيزات، والقدرة؟ ما هي الضمانات الأمنية التي يمكن إعطاؤها لأوكرانيا ومن الذي سيعطيها هذه الضمانات؟

 إن أي شيء ينطوي على حياد أوكرانيا يجب أن يعتبر انتصاراً لروسيا. وكان هذا هو المطلب الروسي الأساسي قبل وقت طويل من استبدالها العمل العسكري بالدبلوماسية. غير أن الحياد لا يبدو حالياً خسارة كبيرة بالنسبة لأوكرانيا، كما بدا ربما ذات مرة، وخصوصاً إذا احتفظت البلاد بقواتها المسلحة.

ويعود السبب في ذلك إلى خيبة الأمل، سواء أكانت حقيقية أو مصطنعة، التي أعرب عنها رئيسها فلوديمير زيلينسكي بعد ما قوبلت مناشداته المتكررة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) من أجل حماية بلاده من خلال فرض منطقة حظر للطيران، بالرفض القاطع. ويمكن اعتبار اعترافه بطي صفحة عضوية “الناتو” عملياً بالنسبة لأوكرانيا، وسؤاله الخفي غير المعلن عن فائدة دعم “الناتو” على أي حال إذا قام بتسليح الجنود الأوكرانيين وتدريبهم فقط للوقوف متفرجين حين يبدأ القتال الحقيقي، أنهما بمثابة نقطة تحول مبكرة، ومنعطف أصبح فيه إنهاء الحرب ممكناً.

ولذلك، قد تتساءل: لماذا تواصل القتال؟ لماذا لم يكن هناك إعلان عن وقف لإطلاق النار، إذاً؟ إن إحدى الإجابات عن هذين السؤالين قد تتمثل في القول إن حياد أوكرانيا بالنسبة لروسيا، كان من الأهداف التي تبنتها قبل الحرب، وباعتبار أن موسكو قد عقدت العزم على شن عمل عسكري، فهي ترمي إلى تأمين شيء آخر، ربما كان يتراوح بين خضوع أوكرانيا الكامل وبين تحقيق المزيد من المكاسب الإقليمية المحدودة، يمكن أن تشتمل على تعزيز الاقتصاد وأمن شبه جزيرة القرم وحدهما، أو تضيف إليهما سلخ مناطق دونباس الانفصالية سابقاً.

كان الهدفان الأصليان لروسيا اللذان حددهما رئيسها فلاديمير بوتين في الخطاب الذي أعلن فيه الحرب، هما “نزع السلاح” و”اجتثاث النازية” من أوكرانيا. وتم تفسيرهما على أنهما يعنيان تغيير النظام، على الرغم من أن زيلينسكي يهودي ولا تشوب حكومته أي شائبة يمينية متطرفة مهما كانت ضئيلة، على الرغم من أن بعض المجموعات المسلحة التي تقاتل من أجل أوكرانيا لا ينظر إليها بعين الرضا.

وقيل إن هدف “اجتثاث النازية” قد جرى التخلي عنه في مرحلة مبكرة من المباحثات، كما يبدو أن تغيير النظام لم يعد شرطاً من الشروط، باعتبار أن حكومة زيلينسكي تمثل أوكرانيا في المباحثات. وعلاوة على ذلك، يبدو أن “نزع السلاح” قد تم تخفيفه هو الآخر، إذا كانت المناقشات فعلاً تدور حول نوع القوات المسلحة التي يمكن لأوكرانيا أن تحتفظ بها بموجب شروط اتفاقية السلام، وحول الشروط التي يمكن أن يسمح لها بموجبها بالاحتفاظ بهذه القوات.

ثمة تفسير آخر للقتال المستمر بأنه قد يعكس طموحات أوكرانيا. ومثلما هو معروف على الأغلب، في حين أن أداء القوات الروسية يعتبر بشكل عام أسوأ مما كان متوقعاً، فإن أداء القوات الأوكرانية هو أفضل بكثير. يعرف الأوكرانيون التضاريس، كما أن معنوياتهم بقيت عالية، وهم يستفيدون من تدفق لا ينقطع للأسلحة الغربية بدت روسيا حتى الآن عاجزة عن إبطائه. وفوق كل شيء، إنهم يقاتلون من أجل وطنهم، فقد لا يجدون سبباً يبرر توقفهم الآن عن القتال ، كما أنهم من خلال صد التقدم الروسي، وخصوصاً لجهة منعه من الوصول إلى المدن، يعززون موقفهم من أجل المباحثات المقبلة، والتي ستتركز بشكل أساسي على الأراضي.

وما تريده أوكرانيا من الأراضي واضح. وموقفها الأقصى يتمثل بالمطالبة بأوكرانيا كما كانت قبل الحرب، إضافة إلى إعادة دمج المنطقتين الانفصاليتين في الشرق وإعادة شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا. وهذا غير مرجح على الإطلاق. ويمكن القول أيضاً إن أوكرانيا قد تكون أحسن حالاً، من حيث التماسك الوطني، إذا بقيت من دون هذه المناطق المواجهة لروسيا. إن أفضل ما يمكن أن تأمل به على الأغلب هو عدم خسارة أي قطعة من الأراضي التي كانت تسيطر عليها قبل الحرب. ومن جديد، يعتبر حصول ذلك، غير مرجح، فإن حجم الأراضي التي تخسرها أوكرانيا سيكون مقياساً لتحديد مدى فوز روسيا، وفق التعريفات الضيقة لميادين القتال.

إن الحد الأدنى، والذي قد يعتبر خسارة صافية تقريباً، ويمكن أن يتم إنجازه من خلال عمل عسكري لايرقى إلى مستوى الحرب، من شأنه أن يكون “استقلال” المناطق الانفصالية في دونباس، ليجري لاحقاً دمجها في روسيا أو استخدامها كورقة للمساومة من أجل إقامة أوكرانيا اتحادية.

وثمة وضع أعلى من ذلك بدرجة، قد يكون الحد الأدنى الذي يمكن أن تقبل به روسيا بشكل واقعي في أي اتفاقية سلام، ومن شأنه أن يعني خسارة أوكرانيا ليس فقط لمناطق دونباس الانفصالية، بل أيضاً فقدانها إقليمين أكبر بكثير يعد دونباس جزء منهما. ويمكن لروسيا أن تتجه إلى الاعتراف بهذه الأراضي كدولة صغيرة مستقلة في حد ذاتها، الأمر الذي سيؤدي إلى خسارة أوكرانيا ماريوبول (التي حل بها الدمار سلفاً، لكنها تبقى في أيد أوكرانية) و”القناة الشرقية” التي تمد شبه جزيرة القرم بالماء العذب.

كانت الماء مشكلة واجهتها شبه جزيرة القرم منذ أن ضمتها روسيا في عام 2014، ولعل هذا واحد من الأسباب التي تفسر سبب تصميم بوتين على وضع يده على ماريوبول، لكن هناك في الأقل، سبب آخر، وهو أن روسيا قد احتلت ماريوبول في عام 2014، قبل أن تستعيدها منها قوات أوكرانية من كتيبة أزوف اليمينية المتطرفة. ويعتقد أن الروس يريدون الانتقام لتلك الخسارة. وهناك خياران طموحان إضافيان آخران ربما كانت روسيا قد فكرت فيهما، يتمثل أحدهما في الاستيلاء على ساحل البحر الأسود بأكمله، من أجل حرمان أوكرانيا من أي منفذ بحري على المدى الطويل أو إجبارها على المقايضة من أجل الحصول على منفذ بحري.

ولقد تعرض ميناء أوديسا الواقع في أقصى الغرب إلى الهجوم للمرة الأولى (من جهة البحر)، بيد أن الصعوبات التي لا تزال روسيا تواجهها في ماريوبول والمدينة الحاسمة التالية ميكولايف، توحي بأن الاستيلاء على الساحل كله، ناهيك بالاحتفاظ به، سيكون صعباً.

أما الخيار الآخر فيتجلى في الاستيلاء على أوكرانيا بكاملها بما في ذلك العاصمة كييف، لكن إذا كانت روسيا قد فكرت على الإطلاق بهذا الأمر، كما يوحي غزوها الشامل، فإن خطة كهذه من شأنها أن تبدو وكأنها خطة منقرضة قد عفا عليها الزمن، باعتبار أن القوات الروسية قد فشلت حتى الآن في الاستيلاء على أي مدينة أو احتلالها (مع استثناء محتمل هو خيرسون)، ونظراً لحجم الخسائر التي تفيد التقارير بأن روسيا قد تكبدتها روسيا.

ومن شأن هذا كله أن يترك بعض المرارة لدى كل من الجانبين، عندما يفسح القتال المجال للمباحثات، هذا إذا فعل ذلك على الإطلاق. ربما كانت روسيا تستطيع أن تحيد أوكرانيا أو أن تشدد قبضتها على شبه جزيرة القرم، إلا أن ذلك كان من الممكن أن يتحقق إما من دون حرب أو بعملية عسكرية أصغر بكثير تقتصر على الشرق.

وعلى نحو مماثل بالنسبة لأوكرانيا، فإن الشروط التي يرجح أن ترضى بها كانت مطروحة حتى نهاية الخريف، ولكن احتاج الأمر إلى حرب فعلية لكي يعترف الغرب بأنه لم يكن مستعداً للمجازفة بنشوب حرب عالمية ثالثة من أجل أوكرانيا، ولكي تقبل أوكرانيا بذلك الواقع أيضاً. وفي الوقت نفسه، فازت أوكرانيا سلفاً بمكسب ما من الحرب، قد ترى أنه يفوق خسائرها من حيث الأهمية.

ويتمثل هذا المكسب في الشعور الذي تم تعزيزه على نحو كبير بكيانها كأمة ذات سيادة، والذي يمكن فقط أن يتنامى عندما تأخذ المآثر البطولية مكانها في الميثولوجيا الوطنية. وبهذا المعنى، يمكن النظر إلى الحرب ضد روسيا على أنها بمنزلة حرب استقلال مؤجلة، وضعت اللمسات الأخيرة على الانفصال الذي بقي غير مكتمل لثلاثين عاماً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

*نشرت إندبندنت هذا المقال في 17 مارس 2022

© The Independent

——————————-

الغارديان: تركيا هي الرابح في لعبة الوساطة بين روسيا وأوكرانيا والخطوة المقبلة هي لقاء بوتين- زيلينسكي

إبراهيم درويش

الت صحيفة “الغارديان” في تقرير أعده المحرر الدبلوماسي باتريك وينتور، إن تركيا لم تلتزم بالعقوبات الغربية على روسيا، لكنها تحظى بدعم الطرفين في الحرب.

وأضاف أنه من بين عدة دول تتنافس على التوسط في الحرب الروسية- الأوكرانية، ظهرت تركيا كرابح، وزادت من مكانة الدبلوماسية التركية، حتى لو بدت الجهود مسرحية بدون تحقيق نتائج قوية. ويواصل الرئيس إيمانويل ماكرون جولته من المكالمات العنيدة مع الرئيس فلاديمير بوتين، إلا أن وزارة الخارجية التركية هي الوحيدة القادرة على جمع الطرفين- الروس والأوكرانيين.

وهو موقف غريب، بحسب الصحيفة. فتركيا عضو في حلف الناتو، وتواصل تزويد أوكرانيا بالسلاح، وترفض في  الوقت نفسه الالتزام العقوبات التي فرضتها أوروبا على روسيا، ومع ذلك، تحظى بالاحترام الكافي من الطرفين لعقد اجتماعات بين روسيا وأكرانيا. ويعرف الأتراك ما هو على المحك. ففي تصريحات لمستشار الرئيس التركي إبراهيم قالن في منتدى الدوحة قال فيها: “بعد نهاية كل هذا، سيظهر معمار أمني عالمي جديد، والكيفية التي سيظهر فيها هذا المعمار ستشكل مسار الأحداث  لعقود قادمة. وكل خطوة نقوم بها، وكل تحرك نفعله لإنهاء الحرب سيترك أثره على المعمار الأمني الجديد”.

وبعبارات مختصرة، فهذه -حسب الكاتب- مجموعة من محادثات السلام سيتردد صداها ليس بين المتقاتلين فحسب، ولكن في العالم. وليس من الخطأ التفكير أن تركيا ليس لديها رأيها كما قال قالن: “سبب الحرب يحتاج لدراسة متأنية. اختلال التوازن الذي شكل النظام الدولي بعد نهاية الحرب الباردة أدى دورا مهما في ظهور الأزمة الحالية والحرب التي نحاول وقفها”.

ومع أن الحرب ليست مبررة كما قال، إلا أنه أضاف: “مهما كانت أسبابها والتظلمات أو مظاهر القلق الأمني التي دفعت روسيا للحرب، فهي غير مبررة ونحن بحاجة للحديث مع روسيا. ولو حرقنا كل الجسور مع روسيا فمن سيتحدث معهم في نهاية اليوم؟”. ويشي كلامه أن عهد الهيمنة الأمريكية يجب أن ينتهي.

وعبّر وزير الخارجية التركي يوم السبت عن اعتقاده أن أفضل مصلحة لأوكرانيا هي ممارسة سياسة خارجية متوازنة. واقترح أن تركيا قد تقدم مثالا، ورفض الاختيار بين الشرق والغرب. وهو أمر أُجبرت تركيا على اختياره بسبب موقعها الجغرافي. والحقيقة أكثر تعقيدا، ومحاولة لخدمة النفس، فبعدما ضايقت الكثيرين في المنطقة، أجبرت تركيا على إصلاح علاقاتها نظرا لما تعانيه من مشاكل اقتصادية.

ومهما يكن الأمر، فقد قال تشاوش أوغلو: “علينا أن نعثر على طريقة تحفظ الوجه، وخروج مشرف لكلا الطرفين، يمكن تسويقها محليا ودوليا”. وكانت أول مبادرة لتركيا قد جرت بداية الشهر الحالي على هامش المؤتمر الدبلوماسي بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأوكراني ديمتري كوليبا، حيث تم عرض فكرة تخلي أوكرانيا عن العضوية في الناتو وتبني موقف حيادي، مقابل ضمانات أمنية من عدة دول لم تسمًّ. ولم يكن لدى لافروف الإيجازات التي تجعله يقدم ردا على العرض. لكن لقاء إسطنبول يوم الثلاثاء الماضي، قدم العرض بطريقة رسمية ومكتوبا. وقاد الوفد الأوكراني هذه المرة مستشار الرئيس ميهالو بودلياك، بينما ترأس الوفد الروسي فلاديمير ميدنيسكي. وكان قالن محوريا في تجميع القائمة.

 وأظهر حضور المالك السابق لنادي تشيلسي رومان أبراموفيتش موقعه المهم الذي يحظى به. وقال بودولياك إن بلاده تريد دولا ضامنة تضم الصين وروسيا والولايات المتحدة وفرنسا وتركيا وإسرائيل وكندا. وسيكون دورها مشابها للبند 5 في التزامات الناتو بحماية سيادة أوكرانيا حالة تعرضها للتهديد. وهذا بمثابة إعادة صياغة لمذكرة بودابست عام 1994.

وزعم بودولياك أن قبولا من دول يريدها أن تكون ضامنة قد تم، مضيفا أن الأرضية موجودة للقاء تستضيفه تركيا وهو هدف إلى جانب المعابر الإنسانية قابل للتحقيق، كما قال تشاويش أوغلو.

وفي نبرة غير مشجعة من موسكو، قالت الأربعاء: “لم يحدث أي شيء واعد”. والهدف المقبل الذي تسعى إليه تركيا هو جمع بوتين وزيلينسكي في غرفة واحدة خلال أسبوعين. وفي هذا الوقت، لا يعتقد بوتين أنه خاسر أو أنه سيخسر من هذا اللقاء. ويختم الكاتب بالقول إنه “لو استطاعت تركيا تحقيق ذلك، فسيكون تحولا مهما لأردوغان الذي كان مهددا بالعزلة بسبب نزعاته الأوتوقراطية”.

—————————

خلاصات شهر من حرب روسيا على أوكرانيا/ محمود علوش

يطوي الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا شهره الأول. لا يزال الهجوم متعثّراً على مستويات عديدة. لم تنجح روسيا حتى اليوم في فرض سيطرتها على الأجواء الأوكرانية. كما أنّها تواجه مقاومة شرسة لم تكن متوقعة من الجيش الأوكراني في المدن الحضرية الكبرى. كما تكبدت روسيا على ما يبدو خسائر عسكرية فادحة. تشير تقديرات غربية إلى أن عدد القتلى من الجنود الروس في الحرب يتراوح بين سبعة آلاف وخمسة عشر ألف جندي. كما تتحدث عن أن موسكو خسرت ما يقرب من عشرة في المئة من معداتها العسكرية خلال شهر من الحرب. قد يصعب التأكد من هذه الإحصاءات بالنظر إلى أن روسيا لا تزال تتجنب الإقرار بالخسائر العسكرية الفعلية. لكن ما هو واضح أن خطط الرئيس فلاديمير بوتين لتحقيق نصر سريع في الحرب ذهبت أدراج الرياح. مع ذلك، يجب أن لا تدفع هذه الانتكاسة إلى الاعتقاد بأن روسيا ستبقى عاجزة عن حسم الحرب لصالحها. لكن التكاليف ستكون باهظة للغاية. فضلاً عن الخسائر العسكرية، تُعاني روسيا من وطأة العقوبات الاقتصادية الغربية بشدّة. كما أنها عرضة لمزيد من العقوبات في الفترة المقبلة. لا تزال الأموال التي يجنيها بوتين من بيع الغاز والنفط إلى الغرب تُشكل مصدر دخل مهماً لتمويل الحرب. لكنّ هذا المصدر قد يتلاشى مع الاتجاه الغربي لتشمل قطاع الطاقة في العقوبات.

لقد أدّى الإخفاق العسكري الروسي في الحرب إلى دفع موسكو للدخول في مفاوضات مع كييف من أجل التوصل إلى تسوية سياسية للصراع. بالتوازي مع ذلك، يواصل الجيش الروسي هجومه الذي يتركز الآن على مدينة ماريوبول الساحلية المطلة على البحر الأسود. من غير الواضح بعد ما إذا كان بوتين قرر تقليص الأهداف العسكرية إلى مجموعة أضيق. خلال الأيام الماضية توقفت القوات الروسية عن محاولة التقدم نحو العاصمة كييف وبدأت بدلاً من ذلك تحصين نفسها في ضواحي المدينة، حيث يقيم الجيش الروسي تحصينات دفاعية على بعد تسعة أميال على الأقل خارج وسط العاصمة. يشير التكتيك الجديد الذي تتبعه روسيا إلى فشل جهود تطويق كييف لأن أوكرانيا تمكنت من إبقاء بعض الطرق الجنوبية المؤدية إلى كييف مفتوحة. تكمن الإشكالية الرئيسية في هذا الصراع في صعوبة التكهن بما يُفكر به الرئيس الروسي. لكن الخيارات تضيق عليه أكثر كلما طال أمد هذه الحرب. في الوقت الراهن، تستمر الأعمال القتالية على الأرض رغم الحديث عن تقدم محتمل في مسار المفاوضات، ما يعني أنه لا يزال من الصعب تحديد إلى أي مدى سيتمكن كل طرف من تحقيق الأهداف التي دفع ثمنها بالفعل في الأرواح البشرية والدمار والأضرار الجسيمة في الاقتصاد.

مع ذلك، فإن التداعيات العالمية للصراع تتضح بشكل أكبر. فبينما جلبت الحرب تكاليف متبانية لبعض القوى الدولية، فإنها كانت بمثابة فرصة لقوى أخرى لزيادة تأثيرها الدولي على المدى البعيد. بالنسبة لأوروبا، يتحمل الأوروبيون حتى الآن التكاليف الأكبر في هذا الصراع بعد روسيا وأوكرانيا. لقد أدت الحرب إلى تمزيق معظم العلاقات التجارية والاقتصادية مع روسيا. كما أنّهم يجدون صعوبة في إيجاد بدائل للنفط والغاز الروسيين في المستقبل المنظور. علاوة على ذلك، تتحمل أوروبا العبء الأكبر في أزمة اللجوء الأوكراني. كما غيّرت الحرب من أولوياتها وباتت تتركز على سبل زيادة الإنفاق الدفاعي على حساب المشاكل الاقتصادية التي تُعانيها من جراء تداعيات أزمة كورونا. على العكس من ذلك، تبدو التكاليف المترتبة على الولايات المتحدة أقل بكثير. فمن جانب، أدى حظر بايدن على استيراد النفط الروسي إلى زيادة في أسعار الوقود في الداخل. ومن شأن ذلك أن يُقلص فرص الديمقراطيين للحفاظ على الأغلبية الضئيلة في الكونغرس مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي. في غضون ذلك، سيتعين على الولايات المتحدة زيادة وجودها العسكري في أوروبا على حساب تركيز الموارد على احتواء الصين في آسيا والمحيط الهادئ.

رغم ذلك، استطاعت واشنطن تحقيق بعض المكاسب. بالنظر إلى حاجة أوروبا لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي، فإن شركات الطاقة الأميركية ستحصل في الفترة المقبلة على حصة أكبر من بيع الغاز المسال في السوق الأوروبية. على صعيد آخر، ستؤدي زيادة الإنفاق العسكري في أوروبا إلى زيادة مساهمة الأوروبيين في الأمن الأوروبي المشترك. وهذا هدف لم ينجح في تحقيقه رؤساء أميركا السابقون بدءاً من بوش الابن إلى أوباما وصولاً لترامب. علاوة على ذلك، تُتيح الأزمة الراهنة الفرصة لحلف شمال الأطلسي لمزيد من التوسع مع إبداء دول جديدة رغبتهما في الانضمام له خشية من التهديد الروسي كفنلندا والسويد. أما على صعيد الصين، فقد ساعد الصراع إدارة بايدن في عملية الضغط على بكين ومحاولة دق إسفين بينها وبين روسيا. قد لا تظهر نتيجة ذلك في المستقبل القريب، لكنّ تجنب بكين إبداء الدعم العلني للغزو الروسي لأوكرانيا يُحقق بعضاً من الأهداف الأميركية بهذا الخصوص.

إذا كان من رابح وحيد يُمكن التكهن به في هذه الحرب حتى الآن فهو الصين التي لديها مجال أكبر للمناورة. على عكس الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فإن التكاليف الحالية للصين ستكون ضئيلة للغاية. الضغط العسكري والسياسي عليها من واشنطن آخذ في التراجع. نظرًا للعقوبات واسعة النطاق ضد روسيا يمكن للصين أن تطالب بجزء كبير من السوق الروسية الآجلة. ستكون موارد الطاقة الروسية الآن في متناول الصين ومن المرجح أن يكون سعرها أقل بكثير من ذي قبل. كما أصبحت الصين أيضًا أهم شريك مالي لروسيا وستكون هذه الشراكة غير متكافئة لصالح الصين. مع الأخذ في الاعتبار تجربة العقوبات ضد روسيا، ستقوم الصين بعمل مهم لتحسين أمنها الاقتصادي في حالة حدوث تعقيدات مماثلة مع الغرب. المستفيدون من هذه الحرب أيضاً هم البلدان التي تخضع حاليًا لعقوبات أميركية شديدة. من بينها فنزويلا وإيران. قد تقوم واشنطن بتخفيض جزئي على الأقل لضغط العقوبات على فنزويلا من أجل تعويض الخسائر في السوق. مع إيران، الوضع أكثر تعقيدًا، حيث نتحدث عن برنامج نووي عسكري ونسخة جديدة من اتفاق نووي وعملية متعددة الأطراف، تشارك فيها روسيا أيضًا. قد تسمح الولايات المتحدة للنفط الإيراني بدخول السوق العالمية دون خطة العمل الشاملة المشتركة الجديدة.

————————–

استدراج أمريكي لروسيا في أوكرانيا.. والقطبية المهيمنة/ أسامة آغي

استطاع الأمريكيون زرع الشك في ذهن الكرملين حول مصير أوكرانيا، هذا الشكّ تمثّل باحتمال انضمامها لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، إضافة لإمكانية قبولها عضواً في الاتحاد الأوروبي، وهو ما أيقظ الخوف لدى بوتين، وعزّز تصميمه على استعادة المجال الحيوي المنقرض للإمبراطورية الروسية بعهديها قبل ثورة عام 1917 وما بعدها.

الأمريكيون أرادوا استدراج الروس إلى شن حربهم على قاعدة هذه المخاوف، بغية تحقيق عدة أهداف تخدم إستراتيجيتهم المستقبلية، ومنها إجبار الروس على الانشغال بمحيطهم الحيوي من جهة، وفرض عقوبات اقتصادية شديدة الوقع عليهم، الغاية منها تبديد القدرة على تحقيق وتطوير تنمية بلادهم، إضافة إلى استنزاف متعدد يشمل تكاليف الحرب بشرياً واقتصادياً وسياسياً.

بوتين الذي يمثّل الخلاصة الكثيفة لذهنية أنظمة القمع الشمولية، والرأس المدبّر للأوليغارشية المالية والاقتصادية الروسية، يدرك أهمية استعادة ما يعتقده مجالاً حيوياً لبلاده، وهو تحدّث عن عهود الإمبراطورية الروسية في عهد بطرس الأكبر ودولة السوفييت، وهو بذلك يمهّد لاستعادة هذا الدور المنقرض، عبر آلته العسكرية المدججة بسلاح نووي تدميري.

احتفوا به وانقلبوا عليه.. حقائق صادمة عن لبناني ساهم باعتقال المتهم السوري بجريمة أنصار

طعنوهم من المسافة صفر.. فيديو تعذيب أسرى روس بأوكرانيا يفجّر غضب موسكو والأمم المتحدة تعلق

بوتين ونظامه، يريدان أن يغيّرا قواعد اللعبة السياسية الدولية الحالية، القائمة على مبدأ قطبية أمريكا الوحيدة عالمياً، وهو باجتياحه أوكرانيا وتدمير نظامها الديمقراطي الوليد، إنما يوسّع من نفوذ روسيا ومن إمكانية خلقها قطباً دولياً ندّاً للقطب الأمريكي.

روسيا وأمريكا وبوتين

الروس حسبوا أن حربهم ضد نظام زيلينسكي ستكون خاطفة، دون أن يضعوا في الاعتبار ردود الأفعال الحقيقية للغرب عموماً، وللولايات المتحدة خصوصاً، وهم وفق ذلك، شنّوا حربهم، ولكنهم اكتشفوا أن تحقيق أهدافهم السياسية أمر صعبٌ، سيما وأن استدراج الجيش الروسي إلى حرب عصابات في أوكرانيا، سينهك هذا الجيش، ويدفع الطغم الأوليغارشية إلى إعادة حساباتها بعيداً عن طموحات رأسها “بوتين”.

حرب بوتين على أوكرانيا، أيقظت خوف أوروبا من تهديدات هذه الحرب عليهم، ومن اندفاعة روسية محتملة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، من خلال محاولة بوتين قضم أوكرانيا بطريقة أو أخرى، لتشكّل لاحقاً عتبة حروبه الأخرى، لاستعادة الشرق الأوروبي من القبضة الغربية.

الأمريكيون وقبل الحرب بكثير، كانوا ضد مشروع نقل الغاز الروسي إلى أوروبا، لأن ذلك يساعد نظام بوتين على الدفع بتنمية مضطردة، تشكّل لاحقاً حلقة تحالف اقتصادي وسياسي وعسكري مع الصين وربما مع الهند أيضاً، ما يهدّد جدياً هيمنة القطبية الأمريكية على العالم.

الأمريكيون يريدون من الأوربيين استبدال مصدر تزويدهم بالطاقة، عبر الاعتماد عليهم بدلاً من الروس، حيث يمكنهم تلبية حاجات أوروبا من هذه الطاقة، وهو يعني زيادة ارتباط الاقتصاد الأوروبي الغربي بعربة الجرّ الأمريكية، التي تقود الاقتصاد العالمي، وتثبّت زعامة الولايات المتحدة كقطب عالمي أوحد من جهة، وتعطّل عوامل التنمية الروسية من جهة أخرى، وتقطع الطريق على إمكانية تحالف حقيقي محتمل بين الروس والصينيين، هذا التحالف لو تعزّز اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً فإنه سيشكّل قطباً جديداً نداً للقطب الأمريكي الحالي.

إذاً، شنّ الروس لحربهم على أوكرانيا كانت خطوة استباقية لتشكيل قطب دولي جديد، يمهّد لتشكّل عالم متعدد الأقطاب، وهي بنفس الوقت محاولة لاستعادة إمبراطورية فات وقتها التاريخي، ولهذا أراد بوتين شنّ هذه الحرب الخاطفة وفق حساباته، دون أن يحسب حساباً لاحتمال انفتاح هذه الحرب على مدى زمني طويل، ما ينهك جيشه واقتصاده، ويخلق ظروفاً سياسية جديدة معترضة على هذه الحرب في الداخل الروسي.

هنا تأتي قيمة الاستدراج الأمريكي للروس في أوكرانيا، فالرئيس جو بايدن قال إنه لن يرسل جنوده للقتال ضد الروس في أوكرانيا، لكنه سيدعم الأوكرانيين في مقاومتهم للغزو الروسي، وجعل هذا الغزو باهظ التكاليف، وبناء على هذه الرؤية، قدّم الأمريكيون والأوروبيون أسلحة خفيفة ومتطورة، فتكت بمدرعات الجيش الروسي وحيّدت طيرانه، ما جعل الجيش الروسي يدخل في حرب غير تلك التي خطط لها بوتين.

إن الاستدراج الأمريكي للروس في أوكرانيا يشكّل حلقة من حلقات الحرب الاقتصادية والسياسية القادمة مع الصين، فإضعاف الروس من خلال تورطهم بالحرب في أوكرانيا، سيجعل من روسيا عبئاً على حليفهم الصين، ولهذا لم تتورط الصين بمساندة الروس خشية أن تتحول هذه الحرب إلى استنزاف غير محسوب لديهم.

إن إنهاك روسيا في أوكرانيا سيكون له نتائج متعددة ومختلفة، فبالرغم من حجم التضحيات التي سيقدمها الشعب الأوكراني في مقاومته للغزو الروسي، فإن الروس سيجدون أنفسهم أمام استحقاقات فواتير صراعات أخرى مع الغرب، سواء في ملف تدخلهم في ليبيا، أو دفاعهم المستميت عن نظام الأسد، أو غيرها من قضايا الصراع مع الغرب الأوروبي ومع الولايات المتحدة.

استنزاف الروس في أوكرانيا يحدث الآن، وزيارة بايدن لأوربا هو لوضع أطر الاستنزاف المختلفة قيد التشغيل، وظهر هذا من خلال توقف ستريم2، ومن خلال انعطاف الألمان نحو تطوير وتوسيع صناعاتهم العسكرية، التي تأتي على أرضية تخوفهم من حرب روسية قادمة ضد أوروبا.

وفق ما تقدّم، يمكننا القول إن جوهر الصراعات بين روسيا والغرب يقف خلفه الصراع الاقتصادي، فالاقتصاد محدّدٌ رئيس لأي تطوير وتقدّم واستقرار سياسي، ولهذا، لن يسمح الغرب للروس بالعمل على تشكيل القطب العالمي الثاني، وهم يقبلون روسيا كدولة ليست عظمى بالمعنى الاقتصادي، ولا يقبلون بتصنيفها كدولة عظمى اعتماداً على حيازتها للسلاح النووي، الذي يقابله سلاح مماثل لدى الغرب.

إن إمكانية إطالة مدى الحرب في أوكرانيا إمكانية محتملة وكبيرة، فاستمرار استنزاف الروس في هذه الحرب، سيمنعهم من توفير القدرة العسكرية والاقتصادية اللازمتين لهما، لتهديد استقرار أوروبا بعد سقوط المنظومة الشيوعية السوفييتية، وهذا الخيار هو أقل كلفة من خيارات أخرى لدى الغرب والولايات المتحدة. كذلك سيضعف دور روسيا وتدخلها في سوريا،ما سيغيّر في معادلات الصراع الحالية التي يستفيد منها نظام الأسد.

إن اكتشاف بوتين لهذه الحقيقة يعني وضع حربه على أوكرانيا موضع المراجعة، فانسحابه من هذه البلاد، يعني إقراراً بخسارته للحرب، ما يجبره على دفع فواتير سياساته العالمية.

أما استمراره فيها فهو نزيف لا يقدر على المدى الطويل دفع استحقاقاته، ما يمهّد الطريق لإبعاده عن السلطة من قبل جيشه ومجموعته الأوليغارشية.

في كل الحالات، لا يمكن لبوتين أن يعلن انتصاره على أوكرانيا ونظامها الديمقراطي حتى لو بسط سيطرته العسكرية عليها، فهو غير قادر على تحويل انتصاره العسكري فيما لو حدث إلى استثمار سياسي رابح لروسيا ولنظامه الشمولي المرعب.

اروينت

—————————–

لإنهاء الحرب على أوكرانيا.. هل يمكن التفكير بـ”تسوية” مع بوتين؟

قبل الحرب الروسية على أوكرانيا، أكدت الولايات المتحدة مرارا أن الخيار الدبلوماسي يبقى قائما لتلافي نشوب حرب في أوكرانيا، لكن الجهود الدبلوماسية لم تنجح في ردع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي أشعل في الـ24 من فبراير الماضي، حربا تسببت في مقتل آلاف وتشريد أكثر من ثلاثة ملايين أوكراني حتى الآن.

وفيما تسعى الدول الغربية، النيتو تحديدا، إلى مساعدة أوكرانيا عسكريا وإنسانيا والضغط على موسكو اقتصاديا بالدرجة الأولى، تواصل القوات الروسية اجتياحها وقصفها للمدن الأوكرانية، ما يعني أن العقوبات الغربية “غير المسبوقة” لم تنجح حتى الآن في إجبار الروس على التراجع.

وفي ظل حذر النيتو من إشعال فتيل حرب عالمية ثالثة من خلال الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا، هل يمكن لواشنطن التفكير في اللجوء إلى “مساومة” أو “تسوية” بشأن مطالب بوتين، لإنهاء الحرب؟

“هذا يعتمد على عاملين: الأول، إذا كان بوتين يريد تسوية وهذا ما لم يفعله بعد، والثاني، إذا أخذ الأوكرانيون زمام المبادرة في المفاوضات، وهو ما يحاولون القيام به من دون أن ينجحوا حتى الآن”، يقول أستاذ العلاقات الدولية في جامعة واشنطن، وليام لورانس لموقع “الحرة”.

لا لمكافأة بوتين

ويضيف لورانس “نعرف ما هي القضايا التي تهم الروس، لديهم مشكلة مع النيتو وتوسع النيتو، لديهم مشكلة مع مواقع أسلحة النيتو، ولدى بوتين مشكلة مع الحكومة في كييف في ما يتعلق بالعلاقة مع موسكو في ضوء ما يرى أنها مصالح روسيا الاستراتيجية في دول الجوار”.

ويتابع لورنس بأن العديد من هذه القضايا تمت مناقشتها في الاجتماعات الخاصة واللقاءات العلنية، وكان يمكن حلها قبل الحرب، لكن “المشكلة هي أن بوتين ما إن غزا أوكرانيا وقتل آلافا من المدنيين جعل إمكانية الوصول إلى تسوية أمرا صعبا”.

ويستدرك “لكن التسوية لا تزال ممكن إذا أخذت أوكرانيا زمام المبادرة وأوفت روسيا بالتزاماتها، وأن تستمر الولايات المتحدة وأوروبا في الحفاظ على وحدة النيتو”.

في المقابل، يرى الأستاذ في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، حسن منيمنة، أن الولايات المتحدة “ترى أنه لا يجوز مكافأة بوتين على مغامرته في أوكرانيا، ولهذا المساومة قد لا تكون خيارا للولايات المتحدة”.

وأوضح منيمنة في حديث لموقع “الحرة” أن “الغرب والولايات المتحدة يريدون معاقبة روسيا، واستمرار هذا الأمر يرتبط بشكل كبير بمدى صمود أوكرانيا وقيادتها في مواجهة القوات الروسية”.

ويؤكد أن “الولايات المتحدة لا تبحث عن أي وسيلة للمساومة أو التسوية مع بوتين، وأن هذا القرار ليس من بين خياراتها لمواجهة روسيا”.

وأفاد تحليل نشرته مجلة فورين أفيرز إلى أن “التسوية” مع الرئيس بوتين، قد تكون الخيار الأفضل أمام واشنطن.

وأشار إلى أن السعي إلى تسوية تفاوضية سيعيق أي انتصار روسي محتمل على المدى الطويل.

وذكر أن التصريحات التي أطلقها الرئيس الأميركي، جو بايدن، السبت الماضي، خلال زيارته لأوروبا مؤخرا تعكس أن “الولايات المتحدة تعطي الأولوية لمعاقبة بوتين”.

أهداف وأولويات

ويشرح التحليل أنه على الإدارة الأميركية تحديد نوعين من الأهداف: الأول على المدى القريب بحرمان بوتين من الانتصار في معاركه على الأرض وتجنب تصعيد الصراع، والثاني على المدى الطويل، إعادة تشكيل السلوكيات الروسية وتقليل مخاطرها على المصالح الجيوسياسية للولايات المتحدة وتقليل احتمالية نشوب صراع إقليمي في المستقبل.

ويؤكد أنه من الصعب “على واشنطن أن تحقق أهدافها قصيرة أو طويلة المدى إذا استمرت الحرب لأشهر طويلة” وبالرغم “من أن التوصل إلى حل وسط مع بوتين بعد المذبحة التي تسبب تعد أمرا مقيتا”، إلا أنه يجب على الولايات المتحدة “العمل على تأمين تسوية تفاوضية للصراع عاجلا وليس آجلا”.

الكاتب، المحلل السياسي، إيلان بيرمان يرى أن التركيز في الأزمة الأوكرانية ينصب على “خفض التصعيد”، ويوجد أمام الولايات المتحدة وأوروبا أولويتان: “منع توسع الصراع حتى لا يصل لمرحلة استخدام أسلحة الدمار الشامل، والتوصل إلى حلول سياسية تسمح لبوتين بحفظ ماء الوجه، مع الحفاظ على استقلال أوكرانيا وسيادتها”.

وأضاف في رد على استفسارات موقع “الحرة” أن نظام بوتين بدأ يشهد بعض الثغرات إذا ثمة نوع “من السخط في الجيش، وظهور اليأس بشكل متزايد بين الأوليغارشية الروس الذين لا يستطيعون الوصول إلى أموالهم”.

ويؤكد بيرمان أن “موسكو أخطأت في الحسابات بشكل كبير في تخطيطها وتنفيذها لغزو أوكرانيا، وليس لديها القوة البشرية لحملة عسكرية طويلة الأمد”.

ويضيف التحليل أنه “إذا حقق بوتين السلام بشروطه، فسيشكل هذا نكسة استراتيجية كبيرة للولايات المتحدة”، مشيرا إلى أنه كلما استمرت الحرب يزداد خطر “المواجهة المباشرة بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائها الغربيين الذين يتملكون مجتمعين أكثر من 90 في المئة من الأسلحة النووية في العالم”.

قبول على مضض

ويرى منيمنة أن الحالة الوحيدة التي قد “تقبل بها الولايات المتحدة على مضض بالمساومة، في حال قرار أوكرانيا الرضوخ والتنازل لطلبات بوتين”.

وأشار إلى أن اعتداء روسيا على أوكرانيا سيكون له “تبعات ثقيلة طويلة الأمد سياسيا واقتصاديا على موسكو، ولكن الغرب يتعامل بحذر كبير حتى لا يدخل في دوامة حرب عالمية ثالثة”.

ويرجح أن “تستمر العقوبات الغربية على روسيا، خاصة في ظل توافق واشنطن مع الدول الأوروبية، وستتعرض روسيا لضغوطات طويلة المدى”.

ويرى أستاذ العلاقات الدولية، لورانس أن “لا موسكو ولا حتى كييف جاهزة لعقد صفقة أو تسوية فيما بينهما”.

وذكر أن “العقوبات الدولية على روسيا حتى الآن لم تجعل موسكو تصل إلى درجة تدفعها إلى عقد صفقات، ولهذا يجب الاستمرار بهذه العقوبات للتأثير على روسيا”، مضيفا أن أي صفقة يمكن أن تبرمها الدول الغربية مع روسيا تحتاج إلى عناصر تتضمن “ضغوطا عسكرية على بوتين، الاستمرار بالعقوبات الاقتصادية، وتحالف المجتمع الدولي بالتعامل مع روسيا”.

ودعا لورانس حلف الناتو إلى القيام بالمزيد من أجل الضغط على روسيا، أكان على الأرض أو في الجو وحتى في البحر أو الفضاء.

وحذر تحليل “فورين أفيرز” من أن التحدي الرئيس هو “أن المقاومة الأوكرانية من غير المرجح أن تتغلب على المزايا العسكرية الروسية، أو الإطاحة ببوتين، وهو ما قد يعني الاستمرار بحرب طويلة وشاقة من الأرجح أن تكسبها روسيا”.

ولفت إلى أن ما تواجهه روسيا من صعوبات في أوكرانيا حتى الآن لا يعني “أنها ستخسر الحرب”، ولكن موسكو غيرت أهدافها بإلحاق مزيد من الألم والمعاناة في أوكرانيا في محاولة لإجبار كييف على قبول شروطها للسلام، بما في ذلك الاعتراف بمناطق دونيتسك ولوهانسك كدول مستقلة.

ويدعو التحليل إلى أن مشاركة واشنطن مع الدول الأوروبية من أجل إجبار روسيا على التخلي عن مطالبها المتطرفة مقابل تخفيض بعض العقوبات، مشيرا إلى أهمية هذا الخيار رغم صعوبة اتخاذه من واشنطن خاصة وأن هذا الأمر سيعني “تخفيف الضغط الذي يمارس على بوتين”.

والأربعاء، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن قواتها ستلتزم اعتبارا من الخميس وقفا لإطلاق النار في ماريوبول إفساحا في المجال أمام إجلاء المدنيين من المدينة الأوكرانية المحاصرة.

وتعهدت موسكو التي تقول إنها تريد التركيز على إقليم دونباس حيث تقع المنطقتان الانفصاليتان دونيتسك ولوغانسك، “الحد بشكل جذري من نشاطها العسكري في اتجاه كييف وتشرنيهيف” في شمال البلاد، بحسب تقرير بثته وكالة فرانس برس.

وأعلن الرئيس الأوكرني، فولوديمير زيلينسكي، الأربعاء أنه لا يصدق التعهدات التي أطلقتها روسيا بشأن تقليص عملياتها العسكرية في بلاده، مشيرا إلى أن قواته تتحضر لخوض معارك جديدة في شرق البلاد.

وقال زيلينسكي في رسالة مصورة “نحن لا نصدق أحدا، ولا حتى عبارة جميلة واحدة”، مشيرا إلى أن القوات الروسية تعيد انتشارها لمهاجمة إقليم دونباس الواقع في شرق البلاد.

الحرة

————————-

مركز عمران للدراسات” يبحث التداعيات الاقتصادية للحرب الأوكرانية: وقائع وسيناريوهات

عقد مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، مساء اليوم الأربعاء، ندوة بحثية، حملت عنوان: “التداعيات الاقتصادية للغزو الروسي على أوكرانيا”، وتمركزت محاورها حول الظلال الثقيلة التي ألقتها العملية العسكرية الروسية على الاقتصاد العالمي.

الباحث مناف قومان الذي أدار الندوة، مهد لها بالإشارة إلى أن  العالم الذي ما زال يعاني اقتصادياً من تداعيات وتأثيرات أزمة كورونا، استيقظ على عملية عسكرية روسية زادت من ضبابية المشهد على الأسواق العالمية.

ونوه قومان، إلى أن مؤشرات اقتصادية غير تقليدية بدأت تظهر، مثل زيادة تخزين السلع، خاصة المستوردة بالنسبة للعديد من دول العالم.

وقدمت الدكتورة سلام سعيد الباحثة والمحاضرة الجامعية، في بداية مداخلتها، توضيحات حول بعض القرارات والسياسات الاقتصادية المتولدة عن الحرب، ومن بينها طلب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، دفع ثمن الغاز بالروبل.

ورأت في هذا المجال، بأن الطلب الروسي، لا يأتي لمنافسة الدولار كعملة عالمية، وإنما فقط للحفاظ على مستوى الروبل تجاه الدولار، خاصة بعد خسارة موسكو نحو 30 بالمئة من قيمة عملتها المحلية.

وبالنسبة لرفض مجموعة الدول الصناعية السبع، الطلب الروسي، رأت سعيد، بأن ذلك دليل على إحجام هذه الدول عن أي خطوة من شأنها أن تدعم العملة الروسية.

لكن بالمقابل، توقعت الخبيرة الاقتصادية، الوصول إلى حل قريب في هذا المجال، خاصة وأن بوتين لا يريد أن ينهي هذه الورقة، نظراً لأهميتها.

وحول تداعيات الحرب على الاقتصاد العالمي، شددت سلام على أن من أهمها أسعار النفط، الذي بطبيعة الحال يدخل في كل أسعار السلع المنتجة، وهذا يؤدي إلى زيادة التضخم، وتأثيرات أخرى متعلقة بالركود.

واختتمت مداخلتها بالتنبؤ بوجود ترتيبات اقتصادية جديدة: “سيكون هناك لاعبون اقتصاد جدد وطرق جديدة لتوريدات الطاقة، ونحن قادمون على فترة اقتصادية صعبة”. حسب وصفها.

ماذا عن تركيا وسورية؟

تداعيات العملية الروسية على سورية وتركيا، من محاور الندوة التي تحدث فيها الباحث سنان حتاحت، وأشار خلالها إلى أن لتركيا حصة كبيرة من التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي مع البلدين (روسيا وأوكرانيا).

وذكّر الدكتور حتاحت، بأن 30 % من مصادر الطاقة في تركيا تعتمد على روسيا، وأنها بالمقابل تصدّر منتجاتها الزراعية إلى روسيا، وتستورد القمح والزيت النباتي من أوكرانيا، وبالتالي الغزو الروسي هو بالنسبة لأنقرة حرب على أبوابها وتأثيراته مباشرة.

ولا يعول حتاحت كثيراً على المفاوضات الجارية حالياً بين الطرفين المتحاربين، مشيراُ إلى أنها في بدايتها ، وتصطدم بالموقف الروسي الذي لا زال على حاله، وبموقف أوكراني لا يستطيع أن يقدم تنازلات مجانية، وبالتالي الاتفاق بينهما ما زال بعيداً.

وفيما يتعلق بالجانب الاقتصادي، رأى حتاحت بأن هناك خيارات لتركيا مثل الشراء من فرنسا، لكن بالمجمل تأثرها الاقتصادي بالحرب يحتاج إلى سنوات للظهور، أما بالنسبة لنظام الأسد، فإن هناك تلميحات حول التوجه إلى الهند.

ورأى حتاحت أن هناك قوتان تستطيع الاستفادة من الحرب، وهي إيران مع قرب الإعلان عن اتفاق نووي جديد يعطيها دفعة من أموالها المحجوزة، ومساحة أكبر للتحرك في المنطقة.

وفيما يتعلق بتركيا، رأى حتاحت بأنها يمكن أن تستفيد، وأن لديها الإمكانية، لكن لا تتوفر لديها الإرادة، مفسراً ذلك باعتماد تركيا في سياستها حول الشأن السوري على نهج الاحتواء، سواء بالملف الامني أو بالملفات الأخرى، و”هي تعمل على ردود الأفعال أكثر منها فاعل مباشر”. حسب قوله.

مدير البحوث في “مركز عمران” معن طلاع، بدوره، شدد على أن هناك عقلانية ما تزال تحكم سلوك الدول بشكل بعيد فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية، وهذا مؤشر على عدم وجود تغيرات كبرى في النظام الدولي.

وحول تأثيرات الغزو، يرى طلاع بأن ذلك منوط بالسيناريوهات الثلاثة المتوقعة، مرجحاً أولها المتمثل في الخروج بصيغة تفاوضية تنتهي بأن “لا تنتصر روسيا كل الانتصار، ولا تنتهي أوكرانيا”.

السيناريو الآخر وفق رأي طلاع، هو تدحرج الأزمة واستنزاف اقتصادي لروسيا، وهو “سيناريو للتنويه منهك لكل الدول، لذلك سيسعى الجميع إلى عدم الانزلاق إليه”. حسب قوله.

وأضاف: “السنياريو الثالث الأخير، هو تحقيق مكاسب استراتيجية لروسيا والسيطرة على مناطق مهمة عسكرية، والدخول في لعبة التوازن وفصل الملفات”.

 استاذ العلاقات الدولية خطار ابو دياب، وفي إجابة على تساؤل إن كانت مغامرة بوتين محسوبة المخاطر ام لا؟ قال بأن بأن الروس سقطوا في فخ، وأن بوتين من أجل حماية نفسه من الخطر الاوكراني أوقع نفسه في خطأ أكبر.

ونوه في هذا المجال، إلى اعتراف موسكو بمقتل ما يزيد عن 1300 جندي، بينما أوساط أوروبية تتحدث عن 15 ألف قتيل وجريح، ما يعني 15 بالمئة من حجم القوات المهاجمة.

وراى أبو دياب، بأنه لا أحد يعلم متى تتوقف الأحداث،  وانتهاء الحرب، مختتما حديثه بالتأكيد على أن الحرب زادت العالم اضطراباً، وربما ستكون فاتحة لمصادر نزاع أخرى حول الاقتصاد والطاقة، وحول مستقبل العملات.

——————–

وقائع من داخل العالم السري للقراصنة الموالين لروسيا

باحث أوكراني يكشف عن عمليات “تريك بوت” إحدى أقوى شركات الجرائم الإلكترونية

كفاية أولير صحافية

في غرفة محادثة سرية تديرها مجموعة من مجرمي الإنترنت الذين يُقال إنهم تابعون لروسيا، أعرب أحد المتسللين عن حماسه بشأن خطة لمهاجمة وتعطيل أكثر من 400 مستشفى في الولايات المتحدة. وكتب المخترق باللغة الروسية “سيكون هناك ذعر”.

كان عام 2020، فترة عصيبة تفشت فيها جائحة كورونا، وشكلت فرصةً لعصابة “تريك بوت” لاحتجاز أنظمة الكمبيوتر في المستشفيات كرهائن، التي كان عديد منها يحارب لإنقاذ المرضى من وباء “كوفيد-19”. لكن السلطات الأميركية وباحثي الأمن السيبراني أحبطوا أجزاءً كبيرة من الخطة، مُحذرين المستشفيات قبل أن يتم تثبيت برنامج الفدية للمتسللين، لكن المتسللين تجاهلوا هذه الانتكاسة، وفقاً لذاكرة تخزين مؤقت للبيانات والوثائق التي تم تسريبها عبر الإنترنت في الأسابيع الأخيرة.

وتقول صحيفة “وول ستريت جورنال”، إن شركة القرصنة التي أطلق عليها المدعون الفيدراليون اسم “تريك بوت غروب”، والشركات التابعة لها جمعت بالفعل مئات ملايين الدولارات عن طريق إغلاق غرف الطوارئ وحكومات المدن والمدارس العامة منذ عام 2018.

وكتب أحد المتسللين في” تريك بوت” الذي استخدم الاسم المستعار “تارغيت” أو “الهدف”، في رسالة بعد إحباط الخطة، “أجد كل هذا مضحكاً”.

هذه النظرة المفتوحة على نطاق واسع للأعمال الداخلية لما قد يكون أكبر وأخطر مجموعة جرائم إلكترونية منظمة في العالم، هي نتيجة مفاجئة للحرب في أوكرانيا. وبحسب الصحيفة، فقد قام باحث مجهول تسلل إلى خوادم تلك المجموعة، وعرف عن نفسه على أنه أوكراني، بنشر البيانات على “تويتر” بتاريخ 27 فبراير (شباط) الماضي، قائلاً إن “أوكرانيا ستسمو” مردداً التغريدة بتاريخ 2 مارس (آذار) الحالي.

وقال باحثون في مجال الأمن والمسؤولون الأميركيون، إن المحادثات الداخلية ترقى إلى نظرة عامة كاملة وصريحة حتى الآن على عمليات مؤسسة إجرامية لبرامج الفدية. وكشفوا عن أن السلطات الأميركية كانت تتعقب مجموعة “تريك بوت”، لكن لم يُعرف سوى القليل عن عملياتها ومداولاتها الداخلية قبل ظهور ذاكرة التخزين المؤقت للوثائق التي نشرها الباحث الأوكراني.

نقابة إجرامية منظمة ترتبط بوكالة المخابرات الروسية

وكشفت أكثر من 200 ألف رسالة تبادلها 450 مديراً وموظفاً وشركاء تجاريين لـ “تريك بوت” منذ يونيو (حزيران) 2020 عن نقابة إجرامية منظمة جيداً لها صلات محتمَلة بوكالات المخابرات الروسية. وتقول “وول ستريت جورنال”، “لقد أظهروا مرونة تنظيمية سمحت للمجموعة بالتعافي سريعاً من الهجمات المضادة من قبل تحالفات إنفاذ القانون الدولية، وطموحات كبيرة لتنويع وتطوير عملة مشفرة”. وتضيف أن “الحياة تتأرجح داخل المجموعة بشكل كبير بين الخطير والدنيوي، حيث يخطط المديرون لخطط باهظة الكلفة، مثل فتح قسم تجسس موالٍ لروسيا، مع وضع ميزانية لقضاء الإجازات وتخفيف نزاعات القوى العاملة”.

لقد دفعت الحرب الروسية على أوكرانيا الشهر الماضي، الباحث الأوكراني إلى تسريب المعلومات، وفقاً لشخصين يعرفانه ويمكنهما التحقق من العمل الذي قام به لالتقاط اتصالات “تريك بوت” ونقلها إلى متخصصي الأمن السيبراني الغربيين. ولم يرد الباحث على طلبات التعليق من الصحيفة المرسلة إليه عبر وسيط.

كما لم يتحقق مسؤولو إنفاذ القانون في الولايات المتحدة علناً من المواد. ويقول باحثو الأمن السيبراني ومسؤولو الأمن السابقون، إن سجلات الدردشة وغيرها من الوثائق المسربة تبدو أصلية، بينما امتنع مكتب التحقيقات الفيدرالي عن التعليق.

تفاصيل تقنية تفشي الهجمات باستخدام الفدية

وتتضمن البيانات تفاصيل تقنية تتماشى مع الهجمات باستخدام برامج الفدية التي تُسمى “كونتي”، والتي اعتمدتها “تريك بوت” سابقاً، إضافة إلى اختراق خبراء الأمن سابقاً سلسلة أخرى من برامج الفدية التي طورتها مجموعة تُسمى “رايوك”، وفقاً لتحليل البيانات الذي أجرته الصحيفة.

كما استُخدم مطور برامج ضارة، شارك في الدردشات باسم مستعار، تم تحديده مسبقاً ضمن لائحة اتهام فيدرالية، كمبرمج لـ “تريك بوت”. وتتزامن الثغرات في السجلات مع فترات كان من المعروف أن البنية التحتية لكمبيوتر المجموعة قد تعطل من قبل وكالات إنفاذ القانون أو المخابرات، وفق باحثين أمنيين والمدون الأمني ​​بريان كريبس.

وتقوم برامج الفدية بتأمين ملفات شبكة الكمبيوتر المستهدَفة حتى يتم الدفع مقابل إصدارها. وشهدت تضخماً كمشروع إجرامي في السنوات الأخيرة. وقالت وزارة الخزانة الأميركية في الخريف الماضي، إن مدفوعات برامج الفدية من قبل الشركات الأميركية التي أبلغت عنها البنوك الأميركية في الأشهر الستة الأولى من عام 2021، قد تضاعفت تقريباً لتصل إلى 600 مليون دولار تقريباً عن فترة العام السابق.

وكان الرئيس الأميركي جو بايدن بدأ الضغط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الصيف الماضي، لاتخاذ إجراءات للحد من برامج الفدية التي تنشأ في روسيا. ويقول باحثو الأمن والمسؤولون الحكوميون، إن جرائم إلكترونية عدة في العالم (بما في ذلك برامج الفدية) تنشأ هناك أو في أوروبا الشرقية.

نفي روسي للاتهامات الأميركية

من جانبها، نفت روسيا الاتهامات الأميركية بأن جهاز أمن الدولة لديها متورط في جرائم إلكترونية أو يتسامح معها. ولم ترد سفارة روسيا في واشنطن على طلبات التعليق من “وول ستريت جورنال”. كما لم يتم الرد على استفسارات البريد الإلكتروني المرسلة إلى 22 مشاركاً ظهرت عناوين بريدهم الإلكتروني في محادثات “تريك بوت”.

ويقول المسؤولون، إن الجماعات التي ترتكب جرائم الإنترنت يمكن أن تستهدف الولايات المتحدة كشكل من أشكال الانتقام لدعم الغرب لأوكرانيا ضد الحرب التي شنتها موسكو. من جانبه، حذر الجنرال بول ناكاسوني، رئيس وكالة الأمن القومي والقيادة الإلكترونية الأميركية، خلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ هذا الشهر، من أن روسيا قد تصبح أكثر عرضة للهجوم ببرامج الفدية أو الهجمات الإلكترونية العدوانية الأخرى مع استمرار الصراع في أوكرانيا.

ويوم الاثنين الماضي 28 مارس، تعرض مزود خدمة الإنترنت الأوكراني الذي يستخدمه الجيش في البلاد لهجوم إلكتروني واسع النطاق، ما أدى إلى تعطيل خدماته. ولم يذكر المسؤولون الجهة المسؤولة.

وقال بايدن الأسبوع الماضي، إن المعلومات الاستخباراتية المتطورة تشير إلى أن الكرملين كان يتطلع إلى استهداف الولايات المتحدة بهجمات إلكترونية رداً على العقوبات الاقتصادية.

خطط لمنع الشركات الأميركية من دفع طلبات الفدية

ويدرس المسؤولون الأميركيون ما إذا كانوا سيعاقبون مجموعة “تريك بوت”، وفق ما ذكرت مصادر مطلعة على تداولات وزارة الخزانة. في حين، ستجعل هذه الخطوة من غير القانوني للشركات الأميركية دفع طلبات الفدية الخاصة بها. وحددت إدارة بايدن عصابات برامج الفدية (لا سيما تلك التي تعمل من داخل حدود روسيا) باعتبارها أكبر تهديد للأمن القومي لقدرتها على تعطيل البنية التحتية الحيوية، مثل هجوم العام الماضي على شركة “كولونيال بايبلاين” التي قطعت مؤقتاً إمدادات البنزين. وكشفت وزارة العدل يوم الخميس الماضي، عن تهم ضد أربعة مواطنين روس اتهمتهم بتنفيذ حملة قرصنة استمرت لسنوات تستهدف منشآت الطاقة.

فيروسات الفدية الأكثر استخداماً

وتُعد “تريك بوت” واحدة من أكثر مجموعات برامج الفدية انتشاراً على نطاق واسع. وكانت برامج الفدية “كونتي” الأكثر استخداماً في عام 2021، وفقاً لباحثي التهديدات الإلكترونية في “الوحدة 42″، وفريق مطاردة المتسللين في شبكة “باولو إلتو نيتووركس”. وتدير “تريك بوت” برنامجاً تابعاً يسمح للمجرمين الآخرين بالتسجيل كشركاء واستخدام برامج الفدية الخاصة بالمجموعة والخوادم، وحتى مفاوضي الفدية المدرَّبين مقابل نسبة مئوية من مدفوعات كل ضحية.

وتم استخدام سلالة “كونتاي رانسوم وير” للفديات، من قبل المجموعة في 16 هجوماً مستهدفاً المستجيبين للطوارئ في الولايات المتحدة العام الماضي، بما في ذلك المستشفيات ومراكز الاتصال 911، وفق مكتب التحقيقات الفيدرالي. كما تم استخدامها في الهجمات على نظام الرعاية الصحية الوطني في إيرلندا الذي أجبر الأطباء على إلغاء علاج السكتة الدماغية والسرطان. وتم استخدام رمز “رانسوم وير” الآخر للمجموعة “رايوك”، في هجمات على ما لا يقل عن 235 مستشفى عام، ومنشآت رعاية صحية أخرى في الولايات المتحدة منذ عام 2018.

وفي 27 فبراير الماضي، نشر الباحث الأوكراني المجهول، ما يقرب من عامين من البيانات (ورسائل الدردشة الخاصة والمعلومات المالية وكود المصدر والتفاصيل الفنية الأخرى) التي وصفها بأنها تنتمي إلى مشغلي برامج الفدية “كونتي”.

وقال جون فوكر، رئيس التحقيقات السيبرانية في شركة الأمن “تريليكس”، إن “التسريبات تُصور مؤسسة برمجيات فدية عالية الاحتراف وعديمة الرحمة في صدارة لعبتها”. وأضاف “هم لا يميزون في الأهداف ولا يهتمون إذا ذهبوا إلى المستشفى، الأمر كله يتعلق بكسب المال.”

المصدر المجهول للتسريب هو واحد من حفنة من محللي الأمن السيبراني الذين تسللوا سراً إلى البنية التحتية الإلكترونية لـ “تريك بوت” في السنوات الأخيرة. ووفقاً لأليكس هولدن، الباحث الأمني ​​الذي تراقب شركته الأمنية “هولد سيكيوريتي” جرائم الإنترنت في أوروبا الشرقية و”تريك بوت”، سجل الباحثون محادثات خاصة لم يتم اكتشافها وقوضت بعض خطط المجموعة من خلال تحذير الضحايا عندما انتهكت المجموعة شبكاتهم.

مؤامرة الانتقام

وفي سبتمبر (أيلول) 2020، نجح المسؤولون الأميركيون في القيادة الإلكترونية الأميركية وأماكن أخرى في تحرير آلاف أجهزة الكمبيوتر من سيطرة المتسللين، وفقاً لمسؤولين حاليين وسابقين وآخرين على دراية بالعملية. وقالوا إن شبكة الآلات أُصيبت بغرض شن هجمات إلكترونية.

في الوقت ذاته تقريباً، عملت “مايكروسوفت كورب” مع تحالف عالمي لشركات التكنولوجيا لحظر الخوادم في ثماني شركات مضيفة أميركية استأجرتها “تريك بوت” لتشغيل النهاية الخلفية لعملياتها.

وتظهر رسائل الدردشة ومضات من الإحباط جراء الهجوم المضاد، في حين اشتكى أحد مديري “تريك بوت”، مشيراً إلى أن “أجهزة الكمبيوتر التي تم اختراقها، والتي توقفت فجأة عن قبول الطلبات من المجموعة تي، وهذه الروبوتات غير المتصلة بالإنترنت ستحبط معنويات الجميع”.

وأظهرت الرسائل أن المجموعة بدأت في إعادة بناء شبكتها من أجهزة الكمبيوتر المخترَقة على الفور، وفي غضون أسابيع عادت إلى قوتها الكاملة وبدأت مؤامرة انتقامية خطيرة. كما بدأ المتسللون في اختراق مستشفيات الولايات المتحدة بشكل منهجي، عازمين على شل المئات منهم في وقت واحد وهم يكافحون مع ارتفاع عدد الإصابات بفيروس كورونا.

من جانبهم، حذر باحثو الأمن السيبراني الذين كانوا يتابعون المجموعة، السلطات الأميركية، وحذرت وزارة الأمن الداخلي المستشفيات، وعمل خبراء الأمن السيبراني على تقليل الضرر.

وقال جوشوا كورمان، كبير الاستراتيجيين السابق في فرقة عمل “كوفيد” التابعة لوكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية، وهي مجموعة للأمن الداخلي تم إنشاؤها لحماية قطاع الرعاية الصحية أثناء الوباء، إنهم واعون جداً لمخاطر الاختراق.

وبعد التصدي لخطة الهجوم على المستشفى، تُظهر رسائل مديري “تريك بوت” أنهم يبحثون عن كيفية تسريب خططهم. وقال أحد أعضاء المجموعة “فحصت كل شيء ذهاباً وإياباً، لا يوجد شيء على جهاز الكمبيوتر، ولا توجد تسربات في حركة المرور”.

وعلى الرغم من عدم نجاح الهجمات المنسقة على المستشفيات، إلا أن الأموال غير المشروعة كانت تتدفق من الضحايا اليائسين في قطاعات الشركات الأخرى.

وتلقت أعمال “كونتي رانسوم وير” لبرامج الفدية التابعة لمجموعة “تريك بوت”، مدفوعات بقيمة 70 مليون دولار في عام 2020، وأكثر من 200 مليون دولار في عام 2021، وفق شركة تحليل “بلوم تشين تشيناليسيس”. وقالت “تشيناليسيس”، إنها، حتى أوائل مارس 2022، استحوذت على 13.5 مليون دولار.

ضد روسيا

وتقدم الدردشات إشارات إلى صلات محتملة بين عصابة “تريك بوت” ومسؤولي الأمن الروس. وقالت كيمبرلي جودي، مديرة تحليل الجرائم الإلكترونية في شركة الأمن “مانديات”، “يمكننا أن نرى محادثات توحي بشدة بأن جزءاً صغيراً على الأقل من هؤلاء الفاعلين المُهددين قد يكون لهم نوع من العلاقة مع المخابرات الروسية أو جهاز الحكومة الروسية”، حيث قد يعمل المتسللون للحصول على معلومات استخباراتية للحكومة.

وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، نقل عضو يُدعى “كاغاس” كلمة عن تحقيق أُعيد فتحه حديثاً في روسيا بشأن المجموعة، بطلب من المسؤولين الأميركيين. وأضاف “لقد طلب الأميركيون رسمياً معلومات عن المتسللين الروس. استدعانا المحقق يوم الثلاثاء المقبل للحديث، ولكن كشهود الآن”.

وفي وقت سابق من العام الماضي، ناقش أعضاء المجموعة استهداف “الأشخاص الذين يعملون ضد الاتحاد الروسي” تحديداً، بدلاً من قصر هجماتهم على الشركات الكبيرة التي يمكنها تحمل مدفوعات فدية كبيرة، وهي استراتيجيتهم السابقة.

وزعم أحد المتسللين أنه اخترق حساب البريد الإلكتروني لمراسل في منظمة التحقيقات مفتوحة المصدر “بلينغكات”، وفقاً للمحادثات، وبحث عن معلومات حول تحقيق يورط جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، ووكالة المخابرات المدنية الروسية، في استخدام التسمم بغاز الأعصاب لعام 2020 لقتل زعيم المعارضة الروسية أليكسي نافالني. وكتب عضو آخر في المجموعة “بالطبع نحن وطنيون”.

وأثارت الحرب الروسية على أوكرانيا المشاعر الوطنية لدى بعض أعضاء المجموعة، فكتبوا “إجازة سعيدة، قوات الإنترنت!” كما كتب أحد أعضاء المجموعة في 23 فبراير، “يوم المدافع عن الوطن” في روسيا، واليوم الذي دخلت فيه القوات الروسية إلى منطقة دونباس، شرق أوكرانيا، قبل يوم واحد من الحرب الأوسع، “دعونا نهزم الأميركيين!”.

وتُظهر السجلات أن بعض الأعضاء يرشدون كبار المديرين إلى مشاريع الحيوانات الأليفة واستراتيجيات تحقيق الدَخل الجديدة. وكتب مدير متوسط ​​المستوى يُدعى “مانجو”، “بينما كنت نائماً، خطرت لي فكرة رائعة”، ثم اقترح نظام مزاد الدفع المصغر لبيع بيانات الضحايا غير المتعاونين المسروقة في شكل قطرات وبقايا.

زيارة طبيب الأسنان

وكان للمجموعة مكاتب في موسكو، استخدمتها لتوظيف “مواهب جديدة”، ولكن، مثل الشركات الأخرى، تحولت إلى نموذج العمل من المنزل أثناء تفشي “كوفيد”، وفقاً لفيتالي كريمز، الرئيس التنفيذي لشركة الأمن” أدفيلينتيل”، الذي توصل إلى تلك الاستنتاجات بناءً على جمع المعلومات الاستخبارية الخاصة به.

وقال إن المجموعة بشكل عام لا مركزية للغاية. وأضاف كريمز، “لا توجد طريقة لإزالتهم ما لم تكن هناك اعتقالات كبيرة”. وتابع “لا توجد نقطة فشل واحدة خارج نقطة الفشل البشرية.”

وأخذ المتسللون فترات راحة لزيارة طبيب الأسنان، وتظهر الدردشات أن لديهم موظفين من الموارد البشرية. كما يتحدث المتسللون عن النضال من أجل توظيف المواهب الفنية، وإلقاء النكات، والاحتجاج على أيام الإجازات، ويتطرقون إلى إطلاق “بلوك تشين” خاص بهم.

ويتحدثون عن إيلون ماسك، حيث قال أحد أعضاء الفريق في محادثة أغسطس (آب) 2020 حول الفوائد المحتملة لخدمة “ستارلينك” من خلال الأقمار الصناعية عبر الإنترنت، “أتمنى أن يكون بصحة جيدة”.

وفي العام الماضي، اعتقل مكتب التحقيقات الفيدرالي في ميامي، مواطنة من لاتفيا تُدعى السيدة ويت، متهمة بالخدمة كأحد المطورين الرئيسين لمجموعة جرائم الإنترنت. وعمل المتسللون على تعيين محام لها، وناقشوا استخدام أرباحهم من الفدية لتمويل دفاعها. وكانت استراتيجيتهم تتمثل في تصوير السيدة ويت على أنها متواطئة عن غير قصد مع جرائم المجموعة، وكتبوا “سنحاول إخراج الضحية والحصول على وظيفة على الإنترنت، ولم أر مع من كانت تعمل.”

كما حاولت المجموعة توجيه الضحايا نحو الشركات التي تفاوض بشأن برامج الفدية المفضلة، واستخدمت استراتيجيات للضغط على الضحايا للخضوع لمطالب ابتزاز متصاعدة. في إحدى الدردشات، وادعى مشغلو “تريك بوت” أن لديهم صحافياً، لم يتم الكشف عن اسمه ومنظمته، على جدول الرواتب، سيحصل على عمولة بنسبة 5 في المئة على مدفوعات الابتزاز، مقابل الضغط على الضحايا من خلال التهديد بالتغطية الحرجة للانتهاكات.

وفي أواخر فبراير الماضي، أعلنت “تريك بوت” أنها تدعم الكرملين وهددت بالرد بقوة على أي هجمات إلكترونية ضد روسيا، وفق ما أعلنت في منشور على شبكة الإنترنت المظلمة، التي عادةً ما تُستخدم لنشر البيانات الخاصة للضحية. ما دفع الباحث الأوكراني إلى إصدار “ميغابايت” من السجلات والأكواد والمستندات التي جمعها من وقته الذي كان يراقب المجموعة، وفقاً لـ “هولدن”، المحلل الأمني ​​في “هولد سكيوريتي”.

وقال “هولدن”، “العصابة نفسها في حالة فوضى”، مشيراً إلى أن التسريب عطل عمليات المجموعة على الأقل في الوقت الحالي. وأضاف “لقد رأيناهم يحاولون إعادة التجميع قليلاً، لكنهم لا يعيدون البناء بأي طريقة مفيدة.”

وأعقب التسرب الكبير في أوائل شهر مارس الحالي، من قبل الباحث نفسه لسجلات الدردشة الذي التقط استجابة المتسللين للتسرب. وتُظهر السجلات أن شركة “تريك بوت” تكافح لتمزيق بنيتها التحتية وتدمير الأدلة الإلكترونية. وتساءل عضو “مَن الذي سرّب؟”.

——————————–

نتيجة حصول خطأ فني في القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة” نستمر في تغطية هذا الملف الحيوي هنا

=========================

تحديث 03 نيسان 2022

—————————–

حرب أوكرانيا أو مسمّى الجهل بعالم يطعمنا الخبز/ هيثم الزبيدي

مرة أخرى يمسك بالمثقفين متلبسين بعدم المعرفة وقلة الاطلاع. المثقفون المقصودون غربيون وعرب على حد سواء. الحرب في أوكرانيا، بكل مقترباتها غير العسكرية، تبدو شديدة الغموض لكثيرين. اكتشفنا تدني معرفتنا بروسيا وأوكرانيا على حد سواء. كيف يمكن قراءة أزمة كبرى من هذا النوع فكريا وسياسيا من دون أن تستبقها قراءة طويلة لحال البلدين، والمنطقة. المعنى في مفردة طويلة أننا لا نأتي اليوم ونقرأ الكثير عن البلدين ونبدأ ببناء الاستنتاجات المتسرعة وليدة مناخ الأزمة. كان علينا أن نبدأ منذ وقت طويل في تتبع هذه الدول المحورية في عالم اليوم.

في الغرب، يبدو الجميع منذهلا. طالما ركزت التغطيات الصحفية على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فأن المعرفة العامة محصورة في شخصيته. أضف أنه من خلفية مخابراتية، وهو من الجانب الشرقي السلافي الأرثوذوكسي من أوروبا، فتكتمل صورته كمخادع ومتآمر لا يمكن الوثوق به. ماذا عن بقية روسيا والروس؟ هذا تفصيل كان بعيدا عن اهتمام المثقفين. أدركوا متأخرين أن مراجعة ما كتبه المثقفون من الأجيال السابقة عن روسيا السوفياتية ليس ذا قيمة في فهم الروس اليوم. مرت ثلاثون عاما على انهيار الاتحاد السوفياتي، وتغيّر الناس. اكتشف المثقفون الغربيون أنهم لا يعرفون أيّ شيء تقريبا حتى عن الأثرياء الروس الذين يعيشون بينهم في الغرب. إنهم أوليغارية (مفردة ممتعة صارت مفيدة في شيطنة هؤلاء الأثرياء) من أصدقاء بوتين. لا أحد سأل كيف عاشوا وماذا فعلوا في سنوات العلاقة الجيدة. كانوا مقبولين طالما كانوا رأسمالية ما بعد الشيوعية التي حولت مئات المليارات من الدولارات إلى الغرب. الأوكرانيون بدورهم شعب مهمل لا تتجاوز أهميته أكثر من ساحة سابقة للشيوعية وللغة الروسية.

لم يتابع أحد الثقافة الروسية أو الأوكرانية، ولم يهتم بأدب هذه الشعوب أو حتى إنتاجها التلفزيوني المعاصر. عندما عاد الاهتمام، كان الوقت قد تأخر. كان التأخير مزدوجا. مرة من عدم الانتباه للتغيرات السياسية والنفسية بين البلدين مع احتلال شبه جزيرة القرم عام 2014. ومرة عندما اختلط السياسي بالاستراتيجي بالثقافي بالاجتماعي لنصل إلى اجتياح كامل لأوكرانيا من قبل القوات الروسية بعد أن صار واضحا أن أوكرانيا هي المحطة القادمة للناتو. يصدمك كمتابع كيف أن المثقفين صاروا يتساءلون: لماذا لا يرفض المثقف الروسي قرارات زعيمه؟ وهل تعرفون شيئا عن المثقف الروسي؟ فيودور ديستوفسكي ونيكولا غوغول وليو تولستوي مهمّون، ولكن ماذا عن الأدب الروسي الحديث الذي يمكن أن يفسّر الجرح الإمبراطوري القيصري السوفياتي المشترك؟ هل سأل مثقف غربي نفسه كيف يمكن أن يوصل الشعب الأوكراني ممثلا كوميديا إلى منصب الرئاسة؟

الكوميديا الحقيقية تتجلى برد فعل المثقف العربي في مواجهة حرب أوروبية. مستوى السذاجة في التفسيرات مذهل. في العموم، كان الحديث ليس عن منطق اندلاع الحرب ومن على حق ومن على باطل. لم نر الكثير من التحليلات أو التوقعات لما يمكن أن يحدث عالميا من احتمال لاندلاع حرب كونية جديدة. أغلب مثقفينا لم تكن له دراية أن رغيف الخبز الذي أمامه قادم إما من حقل قمح روسي أو آخر أوكراني. نحن غاضبون من الولايات المتحدة زعيمة العالم الغربي وقائدة الناتو. وطالما هي متوترة من بوتين وروسيا، فنحن نرى الأمور بعيني رئيس روسيا الثعلبيتين. فليقطع بوتين الغاز أو يهدد بقطع النفط. ثم يقف مثقفنا المهتم بالأدب فقط (وربما الساذج منه) ليتساءل: لماذا قفزت فواتير الطاقة وسعر البنزين؟ يكتب مثقفنا عن العولمة وعينه على الإنترنت باعتبارها رمزا لتلك العولمة ولا يدرك أن العولمة تعني توفر القمح وزيت عباد الشمس على مائدته والبنزين في سيارته والغاز في منزله. مثقف اليسار مع روسيا وريثة العناد السوفياتي. المثقف الطائفي مع روسيا أيضا لأنها لا تقف ضد إيران. مثقف اليمين مع روسيا أيضا وأيضا لأنها ساهمت في رفع أسعار النفط عالميا، فاستفادت دول الخليج وصار واردا عودة العطايا المنقطعة بسبب التقشف.

اسأل أيّ مثقف عربي عن مفردات الثقافة الروسية، فسيرد عما يعرفه من الثقافة الوجودية الروسية التي تفسر بالتأكيد ثقافة روسيا القيصرية في القرن التاسع عشر، لكنها لا تقدم أيّ رؤية عن عالم اليوم. لا تستغرب أن يرد أحدهم بأن غوغول كان أوكرانياً وليس روسيا. لن تجد جوابا ملهما مهما حاولت.

ربما ما نعرفه عن الثقافة الروسية أو الأوكرانية هو ما أرسله لنا الاتحاد السوفياتي السابق أيام عزه، عندما كان يترجم أدبه وثقافته وأيدولوجيته الشيوعية ويرسلها هدايا لمعارض الكتب والمراكز الثقافية في العواصم العربية. هناك توقف ما نعرفه عن ذاك العالم.

كاتب من العراق

الجديد

———————

«حلول» سورية للمعضلة الأوكرانية/ إبراهيم حميدي

كيف يبدو مشهد الحرب الأوكرانية من دمشق، التي تغوص فيها موسكو حليفتها الرئيسية مع طهران؟ هل من «دروس» مستفادة من النزيف السوري؟ هل من «حلول» سورية لمعضلة قلب أوروبا؟ كيف سيتغير التوازن بين موسكو وطهران في سوريا؟

بعد مرور نحو 40 يوماً على الحرب، تغير موقف دمشق كثيراً عن بداياتها. في البداية، كان هناك تلاصق أو مزايدة على موقف موسكو. كان الرهان على «نصر سريع وصاعق للحليف الروسي، يعزز موقفنا». لكن سرعان، ما بردت التصريحات الرسمية مع تغيير الوقائع الأوكرانية. وبعدما كانت «تزاود على موقف موسكو الرسمي وبياناتها، بالحديث عن القضاء على النازيين الجدد وعن الحقد الغربي»، انتقلت إلى نظرة أكثر واقعية، بضرورة «البحث عن حلول وتسويات» و«صعوبة انتصار أي طرف»، والقلق من أنه «إذا كانت روسيا معزولة، فإنها لن تستطيع مساعدة سوريا المعزولة، ولن تستطيع الدفاع عنها في المنابر الدولية. كما أنها لن تستطيع تزويد دمشق بالحبوب والنفط والدعم الاقتصادي».

هذا لا يعني أبداً إرسال أي إشارة بالشك في الحليف الروسي. بالعكس، فإن رسائل الدعم العسكري مستمرة بالقطعات العسكرية، وصور الرئيس فلاديمير بوتين منتشرة في الشوارع السورية، وبيانات «التعاطف» مبثوثة في وسائل الإعلام الرسمية.

وراء الكلام، هناك بحث عن خيارات ومخارج وأسئلة. أحدها، هل تملأ إيران الفراغ؟ بالفعل، هناك رهان في دمشق، على توقيع الاتفاق النووي بين الغرب وإيران، الذي يسمح لطهران بالتحرر من العقوبات وتقديم الدعم الاقتصادي والنفطي والمساهمة في بناء البنية التحتية الانتقائية ذات الأولوية لدمشق أو طهران. الجواب في دمشق واضح: «نعم إيران قد تملأ الفراغ، ونتحدث مع الجانب الإيراني على هذا الأساس، بحيث تنشط إيران اقتصادياً ومالياً وميدانياً مع انكفاء الدور الروسي».

وماذا عن دور بكين؟ قناعة أحد المعنيين أن «الصين لا تريد سقوط روسيا في أوكرانيا، لكنها لا تريد نصراً مدوياً أيضاً. الحفاظ على روسيا الضعيفة المحتاجة للصين، هو ما تريده بكين»، حسب شخص معني في دمشق. بالطبع هذا يشمل سوريا، حيث لا تزال بكين مترددة كثيراً في المغامرات والاستثمارات في المعادلات السورية، بانتظار تمظهر خط طهران – موسكو.

ضمن هذه المعادلات، جاءت زيارة الرئيس بشار الأسد إلى أبوظبي. هو يبحث عن دعم اقتصادي وغطاء سياسي، وهي تبحث عن هيكلية أمنية جديدة في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية، ولا تريد دمشق أن تكون معادية لهذه «الهندسة الإقليمية»، التي تلعب تل أبيب دوراً فيها، ولا تريد لسوريا أن تكون ساحة مفتوحة لـ«إيران الجديدة – القديمة»، كما أنها تريد إرسال رسائل ودية إلى روسيا، وتسعى لإقناع عواصم عربية رئيسية برفع الفيتو عن عودة سوريا إلى قمة الجزائر في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

هذا بالنسبة لانعكاسات الحرب على دمشق، لكن هل من «حلول» سورية في أوكرانيا؟ يتداول دبلوماسيون مقربون من موسكو بدمشق، سيناريوهات عدة يمكن أن تلقي بظلالها على المخرجات الأوكرانية: الملاحظة الأولى، أن إسرائيل رفضت تقديم الدعم لأوكرانيا خوفاً من أن تقوم موسكو بـ«تقييد أيديها» في سوريا خلال الغارات ضد «مواقع إيران». الملاحظة الثانية، أميركا قررت زيادة اهتمامها بشرق سوريا اقتصادياً وعسكرياً ومالياً وسياسياً بعد الحرب الأوكرانية في إطار الضغط على روسيا. كما أن هناك إشارات بأن تمديد القرار الدولي للمساعدات الإنسانية «عبر الحدود» رقم 2585 سيواجه بمأزق أمام انسداد الحوار الروسي – الأميركي أو أن تربطه موسكو بقرار مشابه يخص أوكرانيا.

الملاحظة الثالثة أن تركيا تموضعت بطريقة تسمح لها بـ«تسهيل» حوار بين موسكو وكييف، في إطار «الرقصات العدائية» بين روسيا وتركيا في ليبيا وناغورنو قره باغ وسوريا. لكن اللافت في الدور التركي أنه يجري بغياب الغرب الذي يمسك بأهم ورقتين يهتم بهما الرئيس فلاديمير بوتين: الدعم العسكري للجيش الأوكراني، والعقوبات الغربية على المؤسسات والشخصيات الروسية.

هذا يشبه إلى حد كبير تجليات الحرب السورية، حيث إن المتحاورين والوسطاء يجتمعون، بغياب اللاعبين الحقيقيين على الأرض. وهناك تشابه آخر قد يتبلور قريباً، حسب دبلوماسي في دمشق. ويقول: «هناك سيناريوهات عدة لنهايات الحرب الأوكرانية ومصيرها، أحدها تقسيم أوكرانيا إلى مناطق نفوذ». يضيف: «أحد المآلات أن تسيطر روسيا على شرق الطريق من أوديسا (جنوب) إلى كييف (شمال). هذا يشمل أن تربط بين بحر آزوف وإقليم دونباس عبر ماريوبول وأن توسع الرابط مع شبه جزيرة القرم وأن تمتد من أوديسا باتجاه الجمهورية الموالية لموسكو، التي تريد الاستقلال شرق مولدوفا، لتكون محطة جديدة لتدخلات روسيا مستقبلاً. شرق أوكرانيا، منطقة غنية بالثروات الطبيعية والصناعات والطاقة النووية وقريبة من القلب الروسي».

أما بالنسبة إلى القسم الغربي، فإنه يشمل أقاليم غرب كييف التي تحصل على دعم من «حلف شمال الأطلسي» (ناتو) وأميركا لإيصال المعدات العسكرية والاستخباراتية عبر خطوط إمداد. ويشرح دبلوماسي آخر: «توفر أميركا مظلة أمنية لخطوط الإمداد القديمة التي تعود إلى ما بعد 2014 من رومانيا وبولندا إلى غرب أوكرانيا. كما أنها تشوش على الرادارات الروسية لمنع قصفها». ويضيف: «الانخراط الأميركي في أوكرانيا أكثر بكثير مما كان في سوريا، عندما أقامت وكالة الاستخبارات الأميركية برنامجاً لتدريب المعارضة السورية عبر الأردن وتركيا».

بين الإقليم الشرقي التابع لروسيا والإقليم الغربي التابع لأميركا والغرب، يبقى مصير كييف معلقاً بين أن تكون جزءاً من الغرب، كما الحال مع دمشق التي تقع في الإقليم الغربي المدعوم من روسيا، أو تكون مقسمة كما قسمت حروب أهلية أو عالمية عواصم أخرى مثل بيروت أو برلين.

ليست هذه الإسقاطات السورية الوحيدة، حسب الدبلوماسي. ويضيف: «لن يكون نهر دنيبر هو الحد الفاصل بين (الإقليمين)، كما كان الحال في سوريا، حيث إن نهر الفرات، يفصل بين مناطق تسيطر عليها قوات مدعومة من أميركا شرق سوريا، وأخرى تسيطر عليها الحكومة بدعم روسي – إيراني في الغرب».

سوريا وصلت إلى الاستقرار على ثلاث «مناطق نفوذ» بعد 11 سنة من الحرب، بعد تدمير كثير من مدنها التي باتت في الإعلام الغربي رمزاً للحرب الروسية في أوكرانيا، خصوصاً حلب، ومقتل وهجرة ولجوء ملايين من شعبها. لكن المعضلة الأوكرانية، لا تزال في أسابيعها الأولى… ومآلاتها تحتاج لسنوات.

الشرق الأوسط

—————————

سقوط النموذج الروسيّ على أبواب كييف/ أسعد قطّان

من اللافت، ومن الغرائبيّ في آن، أنّ الذين ينتقدون فلاديمير بوتين بسبب غزوه لأوكرانيا، والذين يتعاطفون معه، كلاهما متّفق على أنّ الرهان الأخير للحرب الروسيّة-الأوكرانيّة ليس مجرّد أمن روسيا القوميّ الذي ستهدّده طحشة الناتو عليها، إذا انضمّت إليه أوكرانيا، بل هو الصراع ما بين خيار حضاريّ «غربيّ» وآخر «شرقيّ». ولم يعد خافياً على أحد أنّ سيّد الكرملين، بالإضافة إلى حنينه إلى الاتّحاد السوفياتيّ، وهو ما جاهر به علانيةً معتبراً أنّ سقوطه هو أعظم كارثة شهدها القرن العشرين، يغازل أيضاً نموذجاً ثقافيّاً يستمدّ بعض عناصره من فكرة الحضارة الأوراسيّة التي قال بها المفكّرون الروس «المحبّو السلافيّة» (Slovophiles) إبّان القرن التاسع عشر. يضاف إلى ذلك استلهام للإمبرياليّة الروسيّة القيصريّة التي كانت تسعى إلى مقارعة الإمبرياليّات الأوروبيّة الأخرى، وتتوسّل الوصول إلى الأبيض المتوسط، أي ما عُرف بحلم المياه الدافئة. أمّا الحلف الذي نسجه بوتين مع المُؤَسّسة الكنسيّة الروسيّة، فهدفه تدعيم مداميك هذا النموذج عبر خطاب كنسيّ يتلبّس أحياناً لبوس الإيديولوجيا.

من المفيد، هنا، التوقّف قليلاً عند محمولات الفكرة الأوراسيّة وقراءة دلالاتها. جنح القائلون بهذه الفكرة إلى الاعتبار أنّ روسيا، من حيث إنّها تنبسط على قارّتين، أي أوروبّا وآسيا، تمثّل نموذجاً حضاريّاً يختلف عن النموذج الغربيّ. وعندهم أنّه يغلّب الروح الجمعيّة على فردانيّة الغرب. ويضيف بعضهم إليه «قيم» الكنيسة الأرثوذكسيّة التي تختلف عن قيم الكنيسة الكاثوليكيّة والكنائس الإنجيليّة بوصفها تشكّل منزلةً بين منزلتين، إذا جاز التعبير، أي موقعاً وسطاً بين «سلطويّة» الكثلكة، المتمثّلة في المؤسّسة البابويّة، و«تشرذم» الكنائس البروتستنتيّة. وقد رأى محبّو السلافيّة أنّ الشعب الروسيّ، في سلوكه اليوميّ، يعبّر عن هذه القيم المخالفة لقيم «الغرب»، علماً بأنّ بوتين اليوم، ومن ورائه القيادة الكنسيّة الروسيّة، يضيف إليها عناصر قيميّة جديدة كالمحافظة على العائلة وحماية مؤسسّة الزواج من «هجمة» المثليّين.

من النافل القول إنّ مشكلة هذا النموذج الأساسيّة تكمن في أنّه يستعيد الماضي ويعيد إنتاجه بطريقة جديدة، ولا يقيم وزناً للانزياحات المجتمعيّة والتبدّلات الثقافيّة التي يمكن أن يرصدها أيّ إنسان يزور روسيا اليوم، ويراقب أوضاع الناس هناك، إذا ما تمتّع بشيء من رجاحة العقل النقديّ. فمواجهة تحدّيات الراهن، وهذه اليوم في روسيا اسمها الفقر والفساد وغياب التنمية والدكتاتوريّة المقنّعة، لا تكون عبر استنساخ الماضي ورشّ بعض بهارات الحاضر عليه، بل عبر اجتراح نموذج حضاريّ واقتصاديّ جديد يعيد روسيا إلى صدارة الأمم التي تصنع الحضارة. وهنا مربط الفرس.

إنّ سلوك فلاديمير بوتين اليوم يذكّر بما كتبه الشاعر الفرنسيّ لافونتين عن الضفدع الذي يريد أن يبدو عظيماً كالثور، مع الفرق أنّ الرئيس الروسيّ يخيّل له أنّه يستطيع أن يفرض هذه العظمة بقوّة السلاح. لا أحد ينكر أنّ روسيا أمّة عظيمة بثقافتها وإرثها الفكريّ والروحيّ. لكن ينبغي التذكير بأمرين: الأوّل هو أنّ تعملق روسيا الحضاريّ والثقافيّ أتى من تفاعل خصب وخلاّق مع الغرب، ولا سيّما مع ألمانيا وفلسفتها وموسيقاها وتجربتها الصناعيّة الرائدة. روسيا منذ القرن السابع عشر عيناها إلى الغرب، ومعظم مواطنيها يعيشون اليوم في الجزء الغربيّ من الروسيا، ويشعرون بأنّ مداهم الدينيّ والحضاريّ هو الغرب عبر أوكرانيا، لا الشرق عبر الحدود المترامية مع الصين. الأمر الثاني هو أنّ عظمة الدول لا تقاس بما تملكه من سلاح، حتّى ولو كان نوويّاً، بل بحضورها الاقتصاديّ وقدرتها على التنمية وإنتاج المعرفة. بهذا المعنى، العالم لم يكن يوماً أحاديّ القطب حتّى بعد سقوط الاتّحاد السوفياتيّ، إذ من يستطيع إنكار الحضور الاقتصاديّ اللافت للصين واليابان والهند وأوروبّا الموحّدة وبريطانيا وكندا وأوستراليا وكوريا الجنوبيّة؟ على هذا الصعيد، روسيا هي أشبه بالضفدع الذي يريد بقوّة السلاح أن يعترف به الجميع ثوراً على الرغم من اقتصاده القزم، وذلك بناتج محلّيّ يقارب ذاك الإسبانيّ، أي ما هو دون اقتصادات ألمانيا وفرنسا وإيطاليا منفردةً، مع أنّ روسيا هي أكبر دولة في العالم، وتصنع السلاح لها ولسواها، وتصدّر الغاز والنفط إلى أوروبّا. لكنّ المرجّح أن يتغيّر هذا في المستقبل لا بسبب الحرب الأوكرانيّة فحسب، بل لأنّ أوروبا الموحّدة تراهن أيضاً على احتمالات الطاقة المتجدّدة بفعل التبدّلات المناخيّة. وثمّة خبراء يقولون إنّ الصين ستضطرّ، في نهاية المطاف، إلى مجاراتها طمعاً في المحافظة على قدراتها التنافسيّة في الصناعة والإنتاج التكنولوجيّ.

يعتب فلاديمير بوتين على الدول التي خرجت من عروة الاتّحاد السوفياتيّ، وهي اليوم تمجّ فكرة «العالم الروسيّ»، وتغرّد في أسراب أخرى. من الواضح أنّ سيّد الكرملين لم يسأل نفسه يوماً ما هو النموذج الذي قدّمته روسيا لهذه الدول، على الأقلّ منذ اعتلائه هو العرش الروسيّ الجديد، حتّى لا تنخرط في مسارات جديدة وتذهب في اتّجاه «الغرب» المزدهر؟ تداول السلطة على أساس ديمقراطيّ؟ الحرّيّات الفرديّة؟ المساواة؟ الازدهار الاقتصاديّ؟ التنمية؟ محاربة الفقر؟ اجتثاث الفساد؟ أم مؤسّسة الغولاغ المتوحّشة التي لم تلغَ حتّى اليوم؟ لا تستطيع أن تقدّم لجيرانك نموذجاً سياسيّاً واقتصاديّاً فاشلاً، ثمّ تقول لهم: أنا إمبراطوريّة عظيمة ويجب أن تعترفوا بي.

غداً تنتهي الحرب الروسيّة في أوكرانيا. لكنّ السؤال الأهمّ يبقى معلّقاً حتّى ولو ربحتها روسيا. لقد فضحت هذه الحرب ضحالة النموذج الروسيّ وسقوطه على أبواب كييف. فهل يتشبّث الشعب الروسيّ بهذا النموذج رغم عقره وافتضاح أمره؟ هل يرتمي في أحضان الصين، عدوّته القديمة، وهو المختلف عنها حضاريّاً وثقافيّاً ودينيّاً؟ أم يجترح نموذجاً جديداً ينسجم مع تجربته التاريخيّة المرّة  والتماعات إرثه الثقافيّ، نموذجاً يحمله إلى مصافّ الأمم التي تسنّ قوانيناً تحترم الإنسان وتقدّس الحرّيّة؟

المدن

——————————–

درس أوكرانيّ للعرب؟/ حازم صاغية

فولوديمير زيلينسكي، رئيس أوكرانيا، تناولته أوصاف كثيرة تمتدّ من أقصى الإيجابيّة تثميناً إلى أقصى السلبيّة تنديداً. شيء واحد فيه يصعب أن يكون موضع اختلاف: أنّه حاول ويحاول بجهد استثنائيّ كسب الرأي العامّ في العالم، والتأثير في حكومات البلدان التي قد تلعب دوراً في مسار الحرب الأوكرانيّة. هكذا، وبوتيرة شبه يوميّة، رأيناه يخاطب الدول والشعوب التي يُفترض أنّها تملك القدرة على التأثير. من خلال برلماناتها، خاطبها دولةً دولةً وشعباً شعباً، مؤكّداً على القواسم المشتركة معها، مستشهداً بتجاربها وبأقوال قادتها ومواقفهم، ومحاولاً إقناع سامعيه بأنّ تخلّيهم عن بلاده يضرّ بمصالحهم هم، ويجافي، في الوقت نفسه، القيم التي يزعمون الولاء لها. من الولايات المتّحدة إلى السويد، ومن أستراليا إلى كندا، ومن فرنسا إلى إسرائيل…، كلّها توجّه إليها وحاول أن يتعامل مع حساسيّاتها وخصوصيّاتها التاريخيّة أو السياسيّة.

الشيء نفسه فعله سياسيّون آخرون في بلاده، وكذلك مثقّفون وكتّاب وفنّانون نشروا في صحف العالم أو تحدّثوا إلى تلفزيوناته، طالبين الدعم والتأييد. وهم لم يَبدوا «أذلاّء» أو «عديمي الكرامة»: لقد قالوا للمستمعين إليهم إنّ واجبهم ومصلحتهم يستدعيان منهم أن يقفوا مع الأوكرانيّين. وهم، مثلهم مثل رئيسهم، انتقدوا من يخاطبونهم إنّما من داخل الإجماعات التي يتوافقون عليها، وأخذوا عليهم ما اعتبروه تقصيراً منهم حيال مسؤوليّاتهم، أو مسؤوليّاتهم المفترضة.

وبغضّ النظر عن مدى الدقّة في المخاطبات الأوكرانيّة، ومدى تقيّد الأوكرانيّين أنفسهم بها، فقد ساد فيها التوكيد على مشتركات أخلاقيّة وإنسانيّة، كرفض الظلم وإكبار العدل وإدانة العدوان الذي يمارسه القويّ على الضعيف، والكبير على الصغير.

عربيّاً، لم نشكّك مرّةً بتأثير العالم في النزاعات التي يكون العرب معنيّين بها، لا سيّما ما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة. وهم لم يشكّكوا خصوصاً بأهميّة التأثير الأميركيّ، ومن بعده الأوروبيّ الغربيّ. دليل ذلك حرب أكتوبر (تشرين الأوّل) 1973 التي أراد منها الرئيس المصريّ أنور السادات «دفع الولايات المتّحدة إلى الاهتمام بالمنطقة». القائد الفلسطينيّ الراحل ياسر عرفات وُصف مراراً بأنّه يقاتل من أجل أن يعترف به الأميركيّون وباقي الدول الغربيّة الفاعلة. حتّى الطريقة الخرقاء التي مثّلها خطف الطائرات في السبعينات وصف أصحابُها الهدفَ منها بأنّه «لفت أنظار العالم إلى قضيّتنا». النظريّة الشائعة عربيّاً عن «الكيل بمكيالين» كانت، ولا تزال، تعلن هذا الإقرار بطريقتها التظلّميّة. المولعون بالاستشهادات الشعريّة امتهنوا لسنوات تذكيرنا بثنائيّة المتنبّي في وصف سيف الدولة: أنت الخصم والحَكَم، وكانوا يقصدون الغرب بالأمير الحمدانيّ.

الإقرار، في الأحوال كافّة، لم يترافق مع أيّة مخاطبة دؤوبة ومتواصلة لمن يُفترض أنّهم مؤثّرون. لم يحصل، ربّما باستثناء ما يجري في العالم الدبلوماسيّ الضيّق، أيّ اشتغال على ما هو مشترك في الثقافة أو القيم أو التجارب أو المصالح. حتّى في النطاق الدبلوماسيّ، خوطبَ القادة وكبار السياسيّين وأشيحَ النظر عن قادة الرأي العامّ أو رموز المجتمع المدنيّ على تعدّد مراتبه. كذلك كانت هناك دوماً مشكلة لغة: مثلاً، لاحظ بعض نقّاد المفاوضات في كامب ديفيد بين السادات ورئيس الحكومة الإسرائيليّة مناحيم بيغن افتقار الأوّل إلى لغة سياسيّة: في لحظات التوافق يتحدّث بلغة «الأخوّة» مع بيغن وعنه، وفي لحظات التعارض يلوّح بالعودة إلى الحرب. لغةٌ للأخوّة إذاً ولغة للحرب، أمّا ما بينهما فلا أكثر من عدم.

وهناك طبعاً تاريخ في المخاطبة، لم نعرّضه حتّى الآن لأيّ نقد، مفاده: «الإمبرياليّة والصهيونيّة» شيء واحد، أي أنّ الغرب، الذي نريده أن يتدخّل لصالحنا ويكفّ عن «الكيل بمكيالين»، متماثل مع من نحاربه ونراه عدوّاً. بموجب تلك الحكمة، آثر خاطفو الطائرات أن يلفتوا نظر الغرب بخطف مسافريه المدنيّين! هكذا كنّا، في أحسن الأحوال، نعفي الغرب من التدخّل لصالحنا بعد أن نوسّع جبهة أعدائنا. أمّا في أسوأ الأحوال فكنّا نغذّي استعدادات الغرب كي يتدخّل لصالح إسرائيل.

في العقد الأخير بدأ يظهر من يطالب القادرين على التدخّل بأن يتدخّلوا لوقف مذبحة في سوريّا أو في ليبيا. لكنّ الخجل بذلك أو التقطّع في متابعته ظلّا قويّين جدّاً، مثقَلين بتجارب الماضي ومهجوسين بتجنّب التعرّض للتخوين.

اليوم قد يقول قائل: لا جدوى. أوكرانيا أوروبيّة ونحن لا. الغربيّون يستمعون إليها ولا يستمعون إلينا. أغلب الظنّ أنّ هذه الحجّة لا تخلو من صحّةٍ مردُّها الفارق في العواطف والمصالح ودرجة التأثّر. لكنّ السبب هذا سبب إضافيّ كي نبذل جهداً أكبر من أجل أن نُسمَع أكثر وأن نستميل الذين نقرّ بقدرتهم على التأثير من دون أن نوافقهم بالضرورة في أمور كثيرة أخرى. لكنّ ذلك مرهون طبعاً بالتغلّب على معوقات عدّة.

فلدينا شعور عميق بالطرَفيّة يتغذّى على صراعات الماضي ويسهم في إضعاف أيّ وعي كونيّ لدينا، وهناك فهم للسياسة يقصرها على ما يدور بين حاكم وحاكم، وافتقارٌ إلى لغة للمخاطبة تحتلّ موقعاً متوسّطاً بين الأخوّة والحرب، وبالتأكيد هناك تعقّل إمبراطوريّ للذات يحملنا على الظنّ أنّ طلب العون تسوّلٌ يتعفّف عنه أصحاب الكرامات.

وعلى العموم، تتضامن أشكال الوعي ويعزّز واحدها الآخر، إلاّ أنّها لا تحمل للمهزوم، في آخر المطاف، سوى تعميق هزيمته.

الشرق الأوسط

————————————–

بوتين من “الحديقة الخلفية” إلى المستنقع!/ سعد كيوان

ما كان مرجّحاً أن يكون عملية خاطفة تحوّل بسرعة إلى مستنقع للدب الروسي، بعدما دخلت مغامرته شهرها الثاني، وبدا عاجزاً عن أن يكون الآمر الناهي في “الحديقة الخلفية” لروسيا التي يحلم فلاديمير بوتين أن يجعل منها إمبراطورية جديدة. وبسبب عجزه عن التقدّم وعدم قدرته، في الوقت عينه، على التراجع، فإنّه يسلك نهجاً يعتمد الآن على التمركز، فقد تمكّن من الوصول، وهو ليس بكثير، وترويع السكان الأوكرانيين بالقصف العشوائي وتدمير المدن وتهجيرهم من جهة، وإحكام القبضة الحديدية في داخل روسيا بقمع الحريات وإسكات الأصوات المعارضة، وإغلاق الصحيفة الوحيدة المستقلة المعارضة “نوفيا غازيتا” التي يرأس تحريرها ديمتري موراتوف الحائز عام 2021 جائزة نوبل للسلام، لاستعمالها مصطلح “حرب” في الكلام عن اجتياح أوكرانيا (؟!)، عدا عن بدء هروب الأدمغة ورؤوس الأموال من جهة أخرى. عشية الغزو، كان الانطباع السائد أنّ بوتين لن يفعلها، وأنّ جلّ ما في وسع أميركا والغرب أن يفعلاه هو التهويل، لأنّهم يعرفون أنّ أوكرانيا التي يعرفها بوتين جيداً، وكانت جزءاً من روسيا في الزمن السوفييتي، لن تقف حجر عثرة أمامه، وسيكون في وسعه إنهاء العملية خلال أيام. وهو كان قد اشتغل على صورته وهيبته ونفوذه طوال سنوات حكمه الطويل الذي فاق عشرين سنة، خصوصاً في السنوات الأخيرة، صاحب شخصية قوية واستراتيجي محنك، وصاحب نفس طويل قادر على تحدّي أخصامه، خصوصاً رؤساء الدولة العظمى والإيقاع بهم، بدءاً من الرؤيوي و”المسالم” باراك أوباما مرورا بـ”المجنون” دونالد ترامب وانتهاء بـ”النعسان” جو بايدن. وقد أكّد ذلك، منذ بدء حربه في الشيشان التي تمرّس بها قبل أن يستلم الحكم فعلياً، ثم في تدخله عام 2008 في جورجيا ولاحقاً في أوكرانيا عام 2014 بضمّه جزيرة القرم من دون أن يلقى أيّ معارضة تذكر، ثم جاء استعراضه القوة وأطماعه التوسعية من خلال تدخله العسكري بأسطوله الجوي في سورية عام 2015 لإنقاذ النظام الأسدي الدموي، وتحويل سورية إلى محمية روسية، معزّزاً أسطورة الجيش الثاني الأقوى في العالم، فأمسك بخيوط اللعبة، وأحكم كمّاشته على الشرق الأوسط وضبط حركة القوى الإقليمية الثلاث، إيران وتركيا وإسرائيل على إيقاع ساعته، ناهيك عن المرتزقة (فرقة فاغنر) الذين نشرهم في عدة دول أفريقية، أما العرب فحدّث ولا حرج…

من أوروبا إلى آسيا وأفريقيا أصبح بوتين سيد المسرح، وصاحب صورة الزعيم الذي لا يقهر، إلى درجة أنّ الغرور دفع به إلى الكشف عن وجهه الحقيقي، والتمثل بالزعيم السوفييتي الديكتاتور جوزيف ستالين، وإذ به يقع في الحفرة – الفخ أوكرانيا… هل أخطأ الحسابات أم أنّ الغرور قد أعمى بصيرته، أم أنّه انكشف على حقيقته؟ كان بوتين يعتقد أنّ الكرملين حيث يقيم هو نفسه الكرملين السوفييتي الذي يسعى إلى إحياء أمجاده بالمعنى السياسي والدولي والاستراتيجي، وأنّ أوكرانيا ستكون مجرّد عملية عسكرية خاطفة، بعدما اختبر في سابقاتها ردّات فعل أميركا وأوروبا التي أقصى ما وصلت إليه من إجراءات هو العقوبات، وأنّه، في أسوأ الاحتمالات، يمسك في وجه أوروبا بورقة سلاح خط أنابيب الغاز الذي يتزوّد منه الاتحاد الأوروبي بأكثر من 40% من حاجته الاستهلاكية. غير أنّ المفاجأة الكبرى التي لم يكن ينتظرها هي هذا الموقف الجماعي الشامل والمتضامن والمتماسك والصارم من أوروبا وأميركا وحلف شمال الأطلسي معاً في دعمهما الكامل، السياسي والعسكري واللوجستي، لأوكرانيا، وتطبيق عقوبات سريعة وشاملة وغير مسبوقة على كلّ المستويات، وفي المجالات كافة، رغم الضرر الذي بدأ يلحق بالاتحاد الأوروبي من جرائها على الصعيدين الاقتصادي والتجاري والتزود بالطاقة، إلى درجة أنّ الصين، خصم الولايات المتحدة والحليف لروسيا، اضطرّت للتعاطي بحذر، واضطرّت شركات صينية إلى تجميد نشاطاتها الاستثمارية في روسيا. في المقابل، ردّة فعل الدول الأوروبية هي، على الأرجح، انعكاس لسوء تقدير، وربما استخفاف، منها، واعتقادها أنّ بوتين لن يصل إلى حد الإقدام على اجتياح أوكرانيا، وإذ بها اليوم مرعوبةٌ تشعر أنّ الحرب أصبحت في عقر دارها، فطالما كان يتدخل في محيطه، ويمارس نفوذ الأقوى، ويتوسّع شرقاً، سعياً وراء استعادة نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق، ومحاولة فرض نفسه دولة عظمى، كانت أوروبا وأميركا تغضّان النظر، كما فعلت عملياً الولايات المتحدة عندما تركته يسرح ويمرح في سورية، تماماً كما فعل أوباما ثم خلفه ترامب، فهل كان قراراً تكتيكياً أو تعبيراً عن عجز أم فخّاً؟ أما بايدن فقد دخل البيت الأبيض وأمامه هدفان أساسيان: إعادة تنشيط الاقتصاد الأميركي ومقارعة الصين التي تشكل التحدّي الأكبر بالنسبة لأميركا في القرن الواحد والعشرين. لكنّه أجبر على تناسي الشرق مؤقتاً، وها هو يحطّ مجدّداً في القارّة العجوز لمواجهة الحرب في داخل أوروبا ومشعلها بوتين الذي يعتبره الآن “مجرماً يجب أن يغادر السلطة”!

الصدمة قوية، إذ يبدو العالم خلال أقل من شهر بات يقف على توازن دولي خطير، وعلى رئيس الولايات المتحدة مهمّة تطمين الحلفاء الأوروبيين، ودعم صمودهم ووقوفهم صفا واحدا، نتيجة اضطرارهم للالتزام بعقوباتٍ ستكون مضاعفاتها سلبية على اقتصادهم وعلى حياتهم اليومية، من أجل وقف عمليات تمويل حرب بوتين من خلال شرائهم النفط والغاز الروسيين، ناهيك عن أزمة اللاجئين التي ستقع على كاهل أوروبا بشكل أساسي، والذين أصبحت أعدادهم بالملايين، خصوصا في دول أوروبا الشرقية المحيطة باوكرانيا؛ وقد فاق عددهم في بولندا وحدها أكثر من مليونين، لذلك خصّها بايدن بزيارة. وما يواجهه المعسكر الغربي الآن هو مفاجأته بالصعوبات التي يلقاها الجيش الروسي المعتبر من أقوى جيوش العالم، ما يجعل، بالتالي، مسار الحرب معقدا ومجهولا، ويطرح لديهم علامات استفهام عمّا إذا كانت ستتحوّل إلى حرب استنزاف طويلة أم إلى حرب قصف وتدمير منهجي للمدن. وخوفا من التورّط المباشر في الحرب ومخاطر توسّعها، فقد سارع إلى تقديم سلاح نوعي وكثيف، لتعزيز صمود الأوكرانيين الذين فاجأت مقاومتهم العالم، غير أن بايدن يبقي عينه على التنّين الصيني الذي سيكون له تأثير حاسم على التوازن الدولي، فيما لو قرّر دعم بوتين باسم “الصداقة بلا حدود” التي تجمعهما، كما وصفها البيان المشترك الذي صدر بين البلدين، عقب زيارة بوتين بكين في 4 فبراير/ شباط الماضي. أرادت الإدارة الأميركية استباق الأحداث وإحراج الصين، إلا أن الرئيس الصيني، شي جين بينغ، يبدي حذراً شديداً في مقاربة الأزمة محافظا على شيءٍ من الغموض في الموقف، ونافيا، في الوقت نفسه، أن يكون بوتين قد طلب مساعدته، وبالأخص في محاولة الالتفاف على العقوبات. إذ إنّ الأهم والأبعد في خلفية المشهد بالنسبة لبكين مسألة أخرى مشابهة، وتعنيها بشكل مبدئي ومباشر، هي تايوان التي تتمتع حاليا باستقلالية، فيما الصين تتحيّن الفرصة لإعادة ضمّها إلى أراضيها، ولكن الرئيس الأميركي قد سارع، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إلى تحذير بكين من أن الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان إذا تعرّضت لهجوم من الصين (شبكة سي أن أن)، تماما كما يفعل حاليا مع بوتين في غزوه أوكرانيا.

ما يقوم به الآن بوتين محاولة تغيير معالم أوكرانيا ومقوماتها دولة حرّة ومستقلة في خياراتها وانتماءاتها، وطبعاً ليس بالضرورة أن تصبح دولة أطلسية أو معادية، وإنما ما يطرحه من شروط هو مجرّد تعمية عن الهدف الأساس الذي يريدها أن تصبح مجرّد دولة تدور في فلك موسكو، كما بعض جيرانها الذين انتقلوا من الحضن السوفييتي السابق وعادوا اليوم إلى الحضن الروسي البوتيني. وما يريده بوتين من روسيا ألّا يتمكّن معارضوه من إيجاد مساحة لهم، ولو ضئيلة، للتعبير والاعتراض، كما فعل مع المعارض ألكسي نافالني الذي جرى تسميمه، ونقل إلى ألمانيا للعلاج، ثم عاد إلى روسيا، واعتقلته السلطات مجدّداً فور وصوله إلى المطار. ومع بدء غزو أوكرانيا، صدر قرار بسجنه تسع سنوات. استراتيجية الرعب والإبادة الجماعية مارسها بوتين في غروزني (الشيشان)، ثم في حلب عام 2016، وهي من أساليب أنظمة استبداد القرن العشرين البائدة، مع الفارق أنّ بوتين يمارسها اليوم بنهم يريد الجمع والتوفيق بين العقلية الإمبراطورية وحداثة العصر. ومهما طالت الحرب على أوكرانيا أو جرى إيجاد تسوية مقبولة، في القريب، لها، فإنها ستشكل درساً للقيصر الروسي، عنوانه الأبرز عزلة روسيا في الأقرب، وتراجع اقتصادي عقوداً إلى الوراء!

العربي الجديد

—————————–

بوتين.. الجسر الذهبي أم غابة الأنياب السوداء؟/ عبدالناصر العايد

 من ثلاث وجهات نظر، عسكرية واستراتيجية وذاتية تتعلق بالرئيس فلاديمير بوتين، فإن الحرب في أوكرانيا ستشهد تصعيداً خطيراً في المرحلة المقبلة، والهدوء القلق الحالي ما هو سوى برهة تحضير لانتقام روسي مروع.

لقد كان الهدف العسكري لعملية بوتين “الخاصة” هو اسقاط كييف، وكان يظنّ أنه قادر على ذلك بالصدمة والرعب الذي يحدثه توجيه جيش جرار نحوها، تتنزه بعد ذلك الدبابات الروسية من شرق البلاد إلى غربها وتحتلها، ثم تفرض حاكماً دمية، وينتهي الأمر. استجدّ أن الشعب الاوكراني يريد أن يقاوم، وأن الناتو يدعمه بقوة، وأن زيلنسكي يريد أن يصنع مجده الخاص بتحدي زعيم القوة النووية الثانية في العالم، وأن القوات الروسية ليست بالكفاءة التي بدت عليها في سوريا.

ولأن سمعة الجيش والأسلحة الروسية رأس مال موسكو، وهي تعتمد عقيدة الحرب الهجينة استراتيجياً، أي حشد الجيش النظامي إلى جانب جيش ظل من المرتزقة، وتسخر له القوى الدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية والسيبرانية، فإن اعداد حملة جديدة، تؤلف بين هذه القوى بجدية أكبر، وتستعد لحرب طويلة مع الغرب على الأرض الأوكرانية، لا بد أن يستغرق بعض الوقت، يراوح فيه الجنود في المكان، أو ينسحبون إلى مناطق آمنة ريثما تُحدد الوجهة الجديدة على صندوق الرمل.

تتناقض التصورات عن انتهاء الحرب بسبب نكوص بعض القوى هنا وهناك مع الحشد المتوالي للقوات الروسيّة في بلاروسيا المجاورة، التي قد يكون جيشها ذاته جزءاً رئيساً من الحملة القادمة، ولا يعني اقتصار القتال في الدونباس أن روسيا لا تريد سواها، بل هي تشغل ما نسبته ٤٠ بالمئة من القوات الأوكرانية في تلك المنطقة لتثبتها هناك ومنع نقلها إلى محور كييف عندما يبدأ العمل مجدداً، كما لا يعني ترك الروس لجثث جنودهم وراء ظهرهم أنهم هزموا، بل إنهم لا يعتبرون تلك خسائر يعتد بها مقارنة بما هو آت… أخيراً لا تشي عمليات تجنيد ونقل المرتزقة إلى جبهات القتال بأن القتال انتهى، بل إنه على وشك أن يبدأ.

نظرياً لم يقدم حلف الناتو لأوكرانيا الكثير من العون، لكن ميدان المعركة يشهد بخلاف ذلك، فالكم الكبير من صواريخ ستينغر وجافلين وغيرها من الأسلحة المتوسطة، جعل الأرض الأوكرانية غابة من الانياب السوداء الصغيرة التي تفتك بجيش من المجندين قليلي الخبرة، وقد ساعدت المعلومات الاستخبارية الغربية الدقيقة على تحديد الاهداف والتصويب الفعال عليها، فيما عزز الموقف الغربي المعلن الزخم المعنوي للمقاتلين الاوكرانيين.

خطة اركان بوتين العسكرية الجديدة لا بد أن تراعي مكامن الضعف هذه، وتفرض نقطة قوة جديدة. وللقفز فوق الأنياب الصغيرة، لا بدّ له من حملة جوية ساحقة على الارتفاعات العالية، تدمر قبل معنويات الاوكرانيين مدنيين وعسكريين قبل أن تدمر البنية العسكرية الرئيسة للمقاومة.

سيكون على الخطة أيضاً أن تتضمن أن يتلو الحملة الجوية الشاملة، عملية انتشار بري واسعة النطاق بقوام لا يقل عن خمسمائة ألف جندي، بدل مئتي ألف جندي التي خصصت للحملة السابقة، طوفان القوّة ذاك، الذي يتقدمه مرتزقة متمرسون في حرب العصابات، وحده ما يستطيع اغراق الأنياب المختبئة في الغابات والمناطق السكنية والمزارع، ويلغي فاعليتها.

الحرب السيبرانية أيضاً سيكون لها نصيب وافر من التحضيرات القائمة، فاختراق اتصالات الجيش الروسي من قبل الناتو على الأرجح، جعله عارياً في العمق العملياتي، أي في غرف القيادة ذاتها، ما مكّن الاوكرانيين من استهداف قيادات رفيعة للغاية. والطائرات التي يتم التحكم بها عن بعد أصبحت عين منظومة “الانياب” الفتاكة، ولا بد من قطع اتصالها والقدرة على توجيهها الكترونياً.

اخيراً، لا بد أن يبقى احتمال هزيمة الجيش الروسي قائماً حتى لو هاجم بالقوة الحيوية العظمى، فهو يواجه حلف الناتو ولا أقل من ذلك، وعند هذه النقطة لا بد من استخدام، أو التلويح جدياً، بسلاح ردع نووي، أو كيميائي، فيما لو وقعت اعداد كبيرة من قواته في الحصار على سبيل المثال، أو قدم الغرب عوناً حاسماً يؤدي إلى تدمير أحد جوانب تلك الخطة كمنظومات الدفاع الجوي للارتفاعات العالية، وهذه لعبة خطرة تحتاج إلى تحضير الذريعة المسبقة، والاستعداد للعواقب وحصرها، بحيث لا تستدعي رداً نووياً شاملا من الغرب.

خارج الميدان العسكري، يشكل بوتين أيضا استراتيجية دبلوماسية واقتصادية ملائمة، تبدأ من ادعاء الضعف والانكسار، كما في ردود الكرملين على التصريحات النارية لبايدن، ولا تنتهي بمناورات لافروف لاستدراج الصين ودول أخرى إلى ميدان الصراع، أو بإيفاد وزير ثقافة ومؤرخ روسي ليقود المفاوضات العقيمة مع الاوكرانيين في أنقرة، وتخدير الطرف الآخر بإبداء المرونة وإمكانية الوصول الى حل تفاوضي.

أما على الجانب الاقتصادي فقد أصدر بوتين قراره إيقاف تصدير الغاز لأوروبا ما لم تدفع بالروبل، وهذا يعني انه سيستخدم سلاح الطاقة ما أن تبدأ حربه، ولا أحد يدري أيضاً ما يعده للحظة الحاسمة اعلامياً ودبلوماسيا واستخباراتيا، لكن يمكننا أن نقرأ في انفجارات مستودعات النفط داخل روسيا، واتهام القوات الأوكرانية، التي نفت ذلك، نوعاً من الاستراتيجية المستقبلية القائمة على ادلة يجري زرعها الآن في ميدان الصراع.

إضافة لكل تلك الأسباب، لدى بوتين، الذي يتصرف كما لو أنه الدولة الروسيّة وكما لو أنها هو، أسبابه الذاتية لرفض الهزيمة، فهذه الحرب هي ما سيحدد موقعه في التاريخ، بل وربما مصيره الشخصي، إذ سبق للشعب الروسي أن أطاح بثلاثة حكام كبار على خلفية هزيمتهم عسكرياً، وانكساره في أوكرانيا سيهزّ نفوذه في كل مكان بنى قوته في الجوار الروسي البعيد، ما دام قد خسر المواجهة على أسوار إمبراطوريته المتخيلة.

يلوح الغرب اليوم لبوتين بمخرج يحفظ ماء وجهه، ويخيره بين العبور على جسر المهانة الذهبي هذا، أو قطع”غابة الانياب السوداء”، لكن الرجل الذي عرف أنه سيد في فن المجازفة العقلانية، يبحث بدل ذلك عن الصراط الحاد بين المغامرة والواقعية، آملاً أن يجنبه المروق عليه كلا الخيارين السابقين.

المدن

——————————-

متحدثون في مؤتمر لمركز الجزيرة للدراسات:  الحرب الروسية على أوكرانيا تزعزع النظام الدولي وتُعجِّل بتحولاته

نظَّم مركز الجزيرة للدراسات بالتعاون مع قناة الجزيرة مباشر مؤتمرًا بحثيًّا عن بُعد، يومي 28-29 مارس/آذار 2022، تحت عنوان “إعادة رسم مناطق النفوذ: ديناميات الحرب الروسية-الأوكرانية وتداعياتها”، شارك فيه نخبة من الأكاديميين والباحثين والخبراء، من روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة الأميركية، فضلًا عن بلدان أوروبية وعربية وآسيوية أخرى، وأدارته وعد زكريا، المذيعة بقناة الجزيرة مباشر.

ناقش المؤتمر على مدى يومين الخلفيات التاريخية وطبيعة العلاقات الاجتماعية والروابط العرقية والدينية التي تربط الجارتين، روسيا وأوكرانيا، وركَّز المتحدثون بشكل خاص على تطور العلاقات السياسية بينهما منذ الإعلان عن تفكك الاتحاد السوفيتي والاعتراف باستقلال جمهورياته، عام 1991، وما أعقبه من توجهات لدى أوكرانيا للانضمام إلى المنظومة الغربية فكريًّا وسياسيًّا ودفاعيًّا، ورد الفعل الروسي على تلك التوجهات، والمخاوف التي انتابتها جرَّاء ذلك، لاسيَّما مع توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقًا وضمه عديد الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي السابق.

وسلَّط المؤتمر الضوء كذلك على طبيعة العمليات العسكريات الدائرة في أوكرانيا حاليًّا، وبخاصة ما تعلق منها بأسباب وعوامل الصمود الأوكراني في وجه الآلة العسكرية الروسية، ودور المساعدات الغربية في هذا السياق، والمدى الذي يمكن أن تبلغه أوكرانيا في هذا الصمود وذلك التصدي. 

كما تناول المؤتمر ردود الأفعال الدولية على الاجتياح الروسي لأوكرانيا، وناقش العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية وحلفاؤها على روسيا، وأثر ذلك على الاقتصاد الروسي والغربي والعالمي، والبدائل المتاحة أمام عديد دول العالم للتعامل مع التداعيات الناجمة عن تلك العقوبات، خاصة فيما يتعلق بارتفاع أسعار الطاقة والحبوب وعديد السلع الاستراتيجية الأخرى على الآماد القريبة والمتوسطة والبعيدة.

وأخيرًا، استشرف المتحدثون في المؤتمر أثر تلك الحرب -سواء اقتصرت على الأراضي الأوكرانية أم امتدت إلى دول أخرى مجاورة- على موازين القوى بين روسيا والغرب، وما يمكن أن يتمخض عنها من تغيُّرٍ فيما إن خرج أحدهما (روسيا أو الغرب) ضعيفًا وترك خلفه فراغًا يشجع قوى أخرى طامحة على التمدد فيه.

وقد غلب على جلسات المؤتمر الخمس طابع التعدد والاختلاف والتباين في وجهات النظر، وذلك لتعدد الجنسيات وتنوع المشارب السياسية والفكرية للمشاركين، وقد أثْرَت هذه الاختلافات النقاش الذي دار بين المتحدثين وقدَّمت زوايا نظر متعددة انعكست على حيوية الجلسات وعمق ما توصلت إليه.

العلاقات الأكرانية-الروسية: تمزقات متتالية في وشائج القربى

استعرض المتحدثون في الجلسة الأولى الخلفيات التاريخية للعلاقات الروسية-الأوكرانية؛ وقدَّموا سرديات تاريخية مختلفة؛ كلٌّ من زاويته ووجه نظره والكيفية التي ينظر بها إلى التاريخ، وخلص النقاش إلى أن أوكرانيا، ورغم بعض القواسم المشتركة بينها وبين روسيا فيما يتعلق بالدين والعِرق وتداخل اللغة، فإنها تمتعت بهوية وشخصية قانونية مميزيْن، وحسٍّ قوميٍّ مستقل، وكان ذلك ديدنها حتى في ظل خضوعها للنفوذ والهيمنة الروسية، سواء في فترة حكم روسيا القيصرية، أو خلال حكم البلاشفة ومنظومة الاتحاد السوفيتي إلى تفككه رسميًّا عام 1991.

وأوضحت النقاشات التي دارت في الجلسة أن في الفترات التي خضعت فيها أوكرانيا للهيمنة الروسية ظلت القومية الأوكرانية حاضرة، وإن كان حضورًا كامنًا ينتظر الفرصة للبروز، وأن ما نراه من توتر وتأزم في العلاقات الراهنة بين الاتحاد الروسي وأوكرانيا هو في جزء منه نتاج لتلك الحقب التاريخية وأثرٌ من تداعياتها.

الحسابات الروسية والغربية

سلَّطت الجلسة الثانية من المؤتمر الضوء على الحسابات الروسية والغربية في الحرب التي أعلنتها روسيا على أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير/شباط الماضي، وكانت الأسئلة الأساسية التي حاول المتداخلون الإجابة عليها ذات منحى استراتيجي، من قبيل: ما الرؤية الاستراتيجية التي أطرَّت قرار روسيا بشنِّ هجومها على أوكرانيا؟ وما حساباتها الجيوسياسية والجيوستراتيجية في ذلك؟ وكيف فهم الغرب، وبالأخص حلف الناتو والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تلك الحرب؟ وما الحسابات التي أخذها بعين الاعتبار وهو يقدم دعمه العسكري والاقتصادي والدبلوماسي لأوكرانيا ولدول شرق أوروبا؟

وكما سبقت الإشارة، فيما يتعلق باختلاف زوايا النظر وتعدد الآراء، فإن الجانب الروسي المشارك في هذه الجلسة، والذي مثَّله ألكسندر نيكيتين، مدير مركز الأمن الأورو-أطلسي في موسكو، ذهب إلى أن روسيا استشعرت الخطر والتهديد الاستراتيجييْن من تمدد حلف الناتو وضمه البلدان المحاذية لحدود الاتحاد الروسي ولاسيما بولندا وهنغاريا ورومانيا، وأنها (روسيا) باتت على قناعة بأن الناتو يطوِّقها ويهدد مصالحها، بل إن الحضور العسكري الأميركي -والكلام لنيكيتين- قد وصل إلى قرابة مئة ألف جندي في عموم أوروبا، وأن الموازنة الدفاعية الجماعية لحلف الناتو زادت حتى بلغت حوالي تريليون دولار أميركي، أي أكثر من 25 ضعف الموازنة العسكرية الروسية، لهذا -يضيف نيكيتين- فإن موسكو قررت شنَّ “عمليتها العسكرية” على أوكرانيا لمنع تمدد هذا الحلف، ولحماية المواطنين الناطقين بالروسية خاصة في المناطق الشرقية، ولنزع سلاح أوكرانيا حتى لا يمثل تهديدًا مستقبليًّا لروسيا، كما هدفت روسيا من حربها في أوكرانيا إلى “اجتثاث النازية” خاصة مجموعات آزوف، و”تطهير” المؤسسة العسكرية الأوكرانية من القيادات التي تحمل الفكر النازي (القومي)، وأن موسكو عازمة -يختم نيكيتين- على تغيير المناهج الدراسية الأوكرانية في إطار مسعاها لإتمام “اجتثاث النازية” والعمل على تحويل أوكرانيا إلى دولة محايدة.

وينتهي نيكيتين إلى تصور لمستقبل أوكرانيا يتحدث فيه عن احتمالية تقسيمها خلال الأعوام الخمسة القادمة إلى ثلاثة أجزاء، اثنان منها ينضمان إلى دول الجوار والثالث يبقى مستقلًّا محايدًا: الجزء الأول -بحسب نيكيتين- يشمل المناطق الشرقية بما فيها شبه جزيرة القرم وإقليم الدونباس؛ ينضم إلى روسيا، والجزء الآخر، خاصة الواقع في حدود أوكرانيا الغربية، ينضم إلى بولندا وهنغاريا ورومانيا، أما الجزء الثالث؛ الوسط، فيبقى دولة محايدة تحظى بتعاون سياسي طبيعي مع روسيا.

ويختم ألكسندر نيكيتين حديثه بالقول -ردًا على سؤال عن طبيعة الحسابات الروسية من شنِّها الحرب على أوكرانيا-: إنَّ تلك الحسابات تتمثل في “رغبة موسكو في إعادة رسم علاقاتها مع الغرب من خلال إرسال رسالة عبر عمليتها العسكرية في أوكرانيا مفادها أننا نود العودة إلى أسرة القوى العالمية”.

وعن الحسابات الغربية في تلك الحرب، فقد أوضحها يوجين تشاوسوفسكي، الزميل غير المقيم في معهد “نيو لاينز” بالولايات المتحدة الأميركية، وماتيا نيليس، خبير الشؤون الأوكرانية والروسية في مركز الحداثة الليبرالية بألمانيا، وأشارا إلى أن “مزاعم” روسيا فيما يتعلق بتهديد أوكرانيا لها إن انضمت لحلف الناتو هي مزاعم “واهنة”، والدليل على ذلك أن الدول الغربية، مثل ألمانيا وفرنسا على سبيل المثال، ومنذ العام 2008، كانت واضحة بأنها لن تقبل عضوية أوكرانيا وجورجيا في الناتو، لأن ذلك مخالف لبنود الانضمام؛ إذ لديهما حدود دولية متنازع عليها.

ويذهبان إلى أن إقدام روسيا على ضم شبه جزيرة القرم، عام 2014، دفع أوكرانيا إلى بذل مزيد من الجهد المصحوب بالعزيمة والإصرار للانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبية، رغبةً في حماية نفسها من التهديد الروسي المستمر.

ويخلصان إلى أن دول شرق أوروبا التي انضمت إلى الناتو إنما فعلت ذلك لأن “الناتو كان ولا يزال الضمانة الوحيدة أمامها لتستشعر الأمن”، وعليه -يختمان مداخلاتهما- فإن الغرب ينظر إلى روسيا على أنها “عامل مزعزع للأمن”، وأنه ضمَّ الدول التي كانت في حلف وارسو إليه “ليدعم سياسته الدفاعية”، وهو، وإن كان لا يمانع من حيث المبدأ في ضم أوكرانيا وجورجيا، لكنه في “المرحلة الحالية على الأقل” لن يفعل، نظرًا للمشاكل الحدودية في كل منهما كما سبق القول.

وينتهيان إلى أن الموقف الغربي الداعم لأوكرانيا عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا إنما مرجعه “الرغبة في إضعاف روسيا” حتى يفشل هجومها على أوكرانيا من جهة ولكي لا تهاجم دولًا أخرى إذا خرجت من هذه الحرب منتصرة من جهة ثانية.

المنظور العسكري والاستراتيجي

تحدث الخبراء المشاركون في هذه الجلسة عن مسار ومآل العمليات العسكرية الجارية حاليًّا، وخلص أوليفييه كيمبف، العميد المتقاعد؛ والخبير في شؤون حلف الناتو وقضايا التحول الرقمي والسيبراني، إلى أن الروس لم يتمكنوا من تحقيق الأهداف التي أرادوها تحقيقًا كاملًا؛ وأن عملياتهم تعثرت، ولذلك فهم بصدد “إعادة تقييم لموقفهم العسكري”، آخذين بعين الاعتبار رفض غالبية الشعب الأوكراني لهم، وفشلهم في السيطرة على العاصمة كييف والمدن الرئيسة الأخرى مثل خاركيف وأوديسا وليفيف..، وأشار إلى أن الجيش الأوكراني أظهر كفاءةً قتاليةً عاليةً وقدرة على الصمود واستيعابًا للأسلحة الحديثة التي زودته بها الدول الغربية، وأنهم فاجؤوا المراقبين والخبراء العسكريين بهذا الأداء العالي، وتوقع كيمبف أن يطول أمد هذه الحرب حال فشلت المفاوضات الجارية بين الطرفين حاليًّا.

ويختتم كيمبف مداخلته بالقول: إن الجيش الروسي لا يستطيع الدخول في “حرب شوارع” إن قرر اجتياح المدن الأوكرانية الكبيرة، وبرر ذلك بقوله: “لأنهم لا يمتلكون أدوات النصر في مثل هذا النوع من الحروب”.

أما الخبير الروسي، فاديم. ب. كوزيولين، رئيس مركز الدراسات العالمية والعلاقات الدولية بمعهد الدراسات الدولية المعاصرة في روسيا، فقد أوضح في مداخلته أن ثمَّة سوء فهم لدى الجانب الغربي -يشير إلى أوليفييه كيمبف- للخطط العسكرية الروسية في هذه الحرب، وأنهم كانوا يعتقدون أن القيادة الروسية قد خططت لعملية عسكرية خاطفة تنتهي في أسبوع أو ما شابه؛ فهذا الفهم “ليس صحيحًا”، لأن العملية العسكرية الروسية هدفها “نزع سلاح أوكرانيا”؛ ما يعني أن تصبح القوات المسلحة الأوكرانية من دون سلاح يهدد روسيا، وقد التزم الجيش الروسي في عملياته بخفض عدد الضحايا من المدنيين قدر المستطاع، وذلك في إطار القانون الدولي الإنساني ولهذا طال أمد الحرب.

وأضاف كوزيزلين قائلًا: إنه لمَّا كان الجيش الأوكراني أكبر جيش في أوروبا من حيث عدد الجنود والمدرعات، فإن المرحلة الأولى من “العملية العسكرية” الروسية استهدفت خفض القدرات العسكرية لهذا الجيش من خلال تدمير مدرعاته ومركباته وطائراته الحربية ومروحياته ومخزونه من الذخيرة.. وحسب التقديرات الروسية -يقول كوزيلين- فإنَّ الجيش الأوكراني قد خسر ما بين 60% إلى 70% من أصوله ومقدراته وقدراته العسكرية والقتالية حتى اليوم، ولهذا ووفقًا لتقديرات القوات الروسية فإن “المرحلة الأولى من العملية العسكرية في أوكرانيا تمت بنجاح”.

أما ألكسندر خارا، نائب رئيس معهد البحر الأسود للدراسات الاستراتيجية بأوكرانيا، فيرى عكس ذلك تمامًا، ويقول: إنَّ استهداف المدنيين والأطفال والنساء هو الهدف الأساسي للجيش الروسي، ويضيف أن الروس فشلوا في السيطرة على العاصمة، كييف، كما أرادوا، وأن الجيش الأوكراني تمكن من طردهم بعيدًا عنها واستطاع تحرير البلدات والقرى التي سيطروا عليها من قبل، وكذلك الحال في عديد المدن الأخرى، وأكد أن القوات الأوكرانية استطاعت كذلك إيقاف تقدم الروس في المناطق الجنوبية حتى صعب عليهم حتى الآن السيطرة على المدن والبلدات المطلة على البحر الأسود والتي كانوا يريدون من خلال السيطرة عليها قطع الطريق على أوكرانيا والحيلولة دون اتصال أراضيها بالبحر الأسود، وهو جزء من التحرك الروسي الذي بدؤوه عام 2014 حينما ضموا شبه جزيرة القرم “وقد أفشلناهم في ذلك”.

ويضيف خارا أن الروس يحاولون استخدام أسلوب “الأرض المحروقة” كما فعلوا في الشيشان وسوريا، بغرض نشر الرعب بين المدنيين، وأنهم لهذا السبب “يستهدفون البنى التحتية المدنية استهدافًا عشوائيًا”، ومع كل ذلك فإنهم لم يحققوا أهدافهم.

وبسؤاله عن السبب في إحجام الجيش الأوكراني عن تحرير الدونباس، قال خارا: إنَّ ذلك يتطلب سحب قوات من خاركيف، وهو ما لا تريده القوات الأوكرانية لأنه خطأ استراتيجي إن حدث، وذلك لأن سحب القوات من خاركيف يفتح الطريق إلى العاصمة، كييف، ومن ثمَّ إلى البحر الأسود، لذلك فمن “الحكمة أن نُبقي دفاعنا صلدًا عن كييف، ولدينا من القوات ما يكفي للقيام بذلك”.

وقبل ختام هذه الجلسة، علَّق الخبير العسكري، أوليفييه كيمبف، على مداخلة الخبير الروسي، أليكسندر كوزيلين، خاصة فيما قاله بخصوص تدمير القوات الروسية من 60% إلى 70% من القوات العسكرية الأوكرانية قائلًا: “إن كان هذا صحيحًا فلماذا لم تنتصر القوات الروسية حتى الآن على جيش لم يعد يمتلك سوى 30% إلى 40% من قواته؟”.

وانتهت الجلسة كما بدأت بالتباين الشديد في وجهات النظر بشأن أسباب ومسوغات شن الحرب، وقراءة نتائج العمليات العسكرية بعد شهر من اندلاعها، غير أنه يمكن القول: إن المتحدثين اتفقوا على صعوبة حسم المعركة عسكريًّا ما دام صمود الجيش الأكراني والدعم الغربي له مستمرَّيْن.

التداعيات الاقتصادية: الآماد القريبة والبعيدة

عالجت هذه الجلسة الآثار الاقتصادية للحرب الروسية على أوكرانيا سواء على البلدين المتحاربين أو على أوروبا وبلدان وأقاليم أخرى في العالم يرتبط اقتصادها بالاقتصادين، الروسي والأوكراني، بشكل أو بآخر، وركزت بشكل أساس على تأثيرها على السلع الأساسية كالنفط والغاز والقمح وزيت الطعام.

في بداية الجلسة قال الدكتور أحمد خليفة، أستاذ الاقتصاد المشارك بجامعة قطر، في مداخلته: إن أضرار تلك الحرب متفاوتة من دولة لأخرى، لكنها في العموم تسببت في ارتفاع أسعار بعض السلع الأساسية على المستوى العالمي، ومنها النفط والغاز اللذان ارتفع سعرهما لأكثر من 60% خلال شهر واحد، مما ترتب على ذلك ارتفاع أسعار الكهرباء وتكاليف النقل والشحن بين دول العالم.

وأضاف أن الحرب تسبَّبت في أضرار لحقت بقطاع الصناعة الذي يعتمد على الطاقة خاصة في أوروبا وبعض دول العالم الأخرى، فضلًا عن آثار سلبية مشابهة لحقت بقطاعات السياحة والزراعة والتجارة.

وأشار إلى أن ثمة دولًا كان تأثير الحرب على اقتصادها مدمرًا مثل أوكرانيا التي تعرضت للغزو، ومثل روسيا ذاتها التي فُرِضت عليها عقوبات واسعة، وثمة دول أخرى -يضيف خليفة- كان التأثير السلبي على اقتصادها كبيرًا وسيتعاظم أكثر في المستقبل إن استمرت الحرب، خاصة تلك التي تعتمد في غذائها على ما تستورده من روسيا وأوكرانيا، وتقع أغلب هذه الدول في إفريقيا. وفي المقابل، ثمة دول سوف تستفيد من تلك الحرب مثل إيران وفنزويلا باعتبارهما من مصدِّري النفط والغاز، ومن المحتمل أن يخف الضغط الأميركي عليهما للاستفادة من إنتاجهما من هاتين السلعتين الحيويتين. أما الصين، فقد أشار المتحدث إلى أنها قد تكسب من تلك الحرب في الأجل القصير لعلاقتها الاقتصادية مع روسيا لكنها عُرضة على المديين، المتوسط والبعيد، للضرر البالغ إن فرضت عليها الولايات المتحدة وأوروبا عقوبات بسبب تلك المساعدة.

من جانبه، أوضح الدكتور محمود حداد، أستاذ المالية في كلية الأعمال والشؤون العامة بجامعة تنيسي بالولايات المتحدة الأميركية، أن تأثير إخراج روسيا من نظام التحويلات البنكية العالمي “سويفت” سيكون له تأثير سلبي على المستورد والمورِّد في الآن معًا، وأوضح أن ثمة بدائل أمام روسيا يمكنها أن تتجاوز بها نظام سويفت، وهي البدائل التي كان معمولًا بها قبل عام 1973 وتتمثل في التحويلات البنكية عبر التيلكس، رغم أنها ليست سريعة وليست آمنة فضلًا عن كونها أكثر كُلْفةً، لكنه أكد أن ذلك ليس سهلًا في المدى المنظور (يقصد إحداث العقوبات الاقتصادية الغربية تأثيرًا سريعًا على الاقتصاد الروسي)، وضرب مثلًا بإيران التي خرجت من نظام سويفت ومع ذلك صمدت.

أما الباحث ناصر التميمي، المتخصص في اقتصاديات دول الخليج، فأوضح أن استبدال واردات الطاقة الأوروبية في المدى القصير بالنسبة إلى دول أوروبا مستبعد لأنه سيكبِّدها تكلفة اقتصادية عالية. وأشار إلى أن المشكلة الأساسية بالنسبة لأوروبا تتمثل في الغاز ثم النفط يليهما الفحم، على الترتيب، وقال: إن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى عقد من الزمان ليستغني تمامًا عن الغاز الروسي، أما النفط الروسي فمن المستبعد استبداله في المدى القصير، والذي يتراوح بين عام إلى ثلاثة أعوام، لتعقيدات كثيرة متعلقة بالمصافي وأنابيب النفط الواصلة من روسيا إلى الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن نوعية الخام بالسوق، بالإضافة إلى عدم وجود بدائل ذات جدوى إلا عند الدول الأعضاء في منظمة أوبك، والتي لا توجد دلائل حتى الآن على أنها تتجه نحو زيادة الإنتاج لتعويض النقص بالسوق، أما الفحم -يختم التميمي- فعلى الرغم من أن واردات أوروبا من الفحم الروسي تصل إلى النصف، وهي نسبة عالية، إلا أن الاتحاد الأوروبي أوضح أن بإمكانه الاستغناء عن استيراده من روسيا خلال هذا العام لوجود بدائل في استراليا وإندونيسيا وجنوب إفريقيا.

الخلاصة التي انتهى ناصر التميمي إليها أن الواردات الأوروبية من الغاز الروسي ستبقى إلى فترة طويلة ما لم يحدث تصعيد في الحرب بأوكرانيا غير محتمل، أما النفط فيمكن استبداله خلال المدى القصير، بينما بالإمكان استبدال الفحم هذا العام.

تداعيات بنيوية: إعادة ضبط موازين القوى الدولية

خصص المؤتمر جلسته الخامسة والأخيرة لمناقشة تداعيات الحرب على موازين القوى وتأثيرها في النظام العالمي. في بداية الجلسة، تحدث الدكتور تشين هوات وونغ، أستاذ العلوم السياسية بمركز جيفري ساكس للتنمية المستدامة في ماليزيا، وبعد أن أشار إلى ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع الأزمات الدولية، ارتأى أن الحرب في أوكرانيا من شأنها أن تدفع قدمًا الدعوات المطالبة بتغيير طبيعة مجلس الأمن الدولي وتوسعته حتى لا تبقى خمس دول فقط متحكمة بالقرار الدولي.

من جانبه، أوضح الدكتور براهما تشيلاني، أستاذ الاستراتيجية بمركز أبحاث السياسات في الهند، أن الحرب الجارية في أوكرانيا سوف تعمل على زيادة التسلح في العالم وسعي عديد الدول لامتلاك سلاح الردع النووي حمايةً لأنفسها من القوى الكبرى. وأوضح تشيلاني أن من دلائل سباق التسلح الناجم عن تلك الأزمة ما أعلن عنه الاتحاد الأوروبي من رفع نسبة الميزانية المخصصة للتسلح، وهو ما يعني دخول العالم في موجة جديدة من سباق التسلح ومن الحرب الباردة.

وأشار تشيلاني إلى أن العقوبات التي فُرضت على روسيا ستؤثر على عديد دول العالم، وأن من المحتمل أن ينقسم الاقتصاد العالمي إلى كتلتين عوضًا عن نظام العولمة المعمول به حاليًّا، خاصة فيما يتعلق بالسعي نحو إيجاد نظام مالي بديل عن نظام الـ”سويفت”.

أما الدكتورة كارينا كوريستيلينا، مديرة مختبر السلام وتسوية النزاعات والانقسامات المجتمعية في جامعة جورج ميسون الأميركية، فقد ذهبت في مداخلتها إلى أن الحرب زادت من تنامي الشعور القومي لدى الأوكرانيين، وأن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حقَّق عكس ما كان يسعى إليه؛ إذ تسبَّب في تنامي الهوية الأوكرانية، وهو ما لم يكن يريده. وأضافت أن تلك الهوية كانت أحد أسباب قوة أوكرانيا وعاملًا من عوامل ضعف العمليات العسكرية الروسية.

كما أوضحت كوريستيلينا أنه إذا ما طال أمد الحرب فإنَّ قضية اللاجئين الأوكرانيين، الذين تدفقوا على دول أوروبا ولاقوا حتى الآن ترحيبًا وتعاطفًا، سوف تتحول إلى “أزمة”، وسوف يعانون في المجتمعات والبلدان التي لجؤوا إليها بسبب ضغطهم على الخدمات والمرافق والموارد.

وأخيرًا، أشار الدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ردًّا على سؤال بشأن تداعيات حرب أوكرانيا على “الربيع العربي”، إلى أن هزيمة بوتين أو انتصاره في حربه على أوكرانيا لن يؤثر على الشعوب العربية الراغبة في التخلص من الاستبداد والأنظمة الشمولية، مرجعًا السبب في ذلك إلى تجذر تلك الأنظمة وصعوبة اقتلاعها في الفترة الحالية.

وقلَّل نافعة من قدرة الدول العربية، التي أبدت ترددًا في إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، على إحداث تأثير في المواقف الدولية، وذلك، كما قال، لقلَّة عدد هذه الدول من جهة ولهامشيتها في المنظومة الدولية من جهة ثانية.

خلاصة

في ختام المؤتمر، وبعد استعراض أبرز ما دار من نقاشات، يمكن القول: إن الحسابات الروسية في تلك الحرب، سواء من الناحية العسكرية أو الاستراتيجية، لم تكن دقيقة، وإن روسيا تفاجأت بقدرات الجيش الأوكراني، وبصمود النظام السياسي، كما تفاجأت بحجم الدعم والتأييد والمساندة الغربية، وبوحدة دول الناتو والاتحاد الأوروبي، ولم تكن تتوقع هذا الكمَّ الكبير وغير المسبوق من العقوبات التي فُرِضت عليها. وعليه، فإن هذه العوامل مجتمعة قد تضافرت في إقناعها بضرورة إعادة حساباتها في هذه الحرب، ومراجعة أهدافها، والبدء في مفاوضات مبنية على أسس جديدة أكثر واقعية.

كما خلص المؤتمر إلى أن تلك الحرب أظهرت أن النظام الدولي الحالي، والذي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية، بدأ مرحلة التغيير بوتيرة أسرع مما كانت عليه من قبل، خاصة بعد أن أظهرت روسيا والصين والهند وغيرها من الدول المهمة مواقف تنمُ عن عدم الرضا بطبيعة هذا النظام وآلياته السياسية والاقتصادية.

وانتهى المؤتمر إلى أن العالم سوف يشهد سباقًا للتسلح يعيد إلى الأذهان ما كان سائدًا إبَّان الحرب الباردة، وأن الإقبال على السلاح النووي سيكون نصب أعين عديد الدول حول العالم التي ترغب في امتلاك سلاح ردع يدعم موقفها في الحروب والصراعات والأزمات الدولية الخطيرة.

——————————–

معركة بوتين والأوهام الغربية/ شتيفان فايدنَر

ركز الغرب نظره طيلة عشرين عاما على عدو خطأ لم يكن يشكل أي تهديد وجودي يمكن مقارنته بمن شن الحرب على أوكرانيا. 

في منتصف شهر شباط/فبراير (2022) أرسلت قناةُ الجزيرة الإخبارية الناطقة بالعربية بشكل مفاجئ مراسليها المختصين بتغطية الحروب -الذين عرفتُهم كمراسلين من بغداد وغزة وبيروت وكابول- إلى لفيف وكييف وأوديسا – وهي مدن أوروبية مفعمة بالحياة والمرح عرفتُها وأحببتها في رحلات كثيرة. لم يكن من الواضح بعد إن كان بوتين سيهاجم أوكرانيا، ولكن عندما شاهدتُ مراسلي قناة الجزيرة في أوكرانيا، لم يعد بإمكاني تجاهل إدراكي بأنَّ السلام في أوروبا بات ينتهي الآن وهنا. وصارت تداهمنا فوضى مستعرة كما في العالم الإسلامي منذ عام 2001 – مثل حيوان مفترس يتشمَّم فريسته السمينة، وهي في هذه المرة: مجتمعات الرفاهية في أوروبا الوسطى وساحتها الخلفية المهملة منذ فترة طويلة، أي أوكرانيا.

مطاردة العدو الخطأ

ركَّز السياسيون والخبراء لدينا نظرهم طيلة عشرين عامًا على العدو الخطأ، على الإسلام السياسي، الذي كما يبدو بات غير مؤذٍ عند النظر إليه من منظور اليوم! ولم يكن يشكِّل في أي وقت تهديدًا وجوديًا يمكن مقارنته بالحرب الدائرة حاليًا. كان الإسلام المثقل بالأزمات خصمًا يشعر بالامتنان. وكان الغرب يخوض حملة صليبية إيديولوجية من أجل “نزع تطرُّف” المسلمين وبهدف هدايتهم إلى “القيم الغربية”. ولكن معظم العرب والمسلمين يشاركون الغرب قيمه هذه منذ فترة طويلة، مثلما يتَّضح ذلك مثلًا من خلال النظر إلى الأدب العربي – إذا قرأناه فقط!

وفي حين كان الأمريكيون يبحثون عن إرهابيين في العراق وأفغانستان ويخلقون خلال هذا البحث إرهابيين جددًا ويخوضون ضدَّ الإرهاب حروبًا “غير متكافئة” لا أمل فيها، كان يتم تجاهل التهديد الأكبر الموجود أمام أبوابنا: ليس أسامة بن لادن، بل “فلاديمير بن بوتين” إرهابي لديه أسلحة بيولوجية وكيماوية ونووية. وبدلًا من مراقبته عن كثب، بقينا نرعاه ونغذيه طيلة عشرين عامًا، وسامحناه على غزواته في جورجيا وفي شبه جزيرة القرم وفي دونباس، وتحمَّلنا هجماته بالغازات السامة واغتيالاته السياسية في مدننا، وعقدنا معه صفقات وأعمالًا تجارية بقدر ما يمكن – وما نزال نفعل ذلك.

والرئيس الروسي فلاديمير بوتين غير مضطر للاختباء في الكهوف ولا يحتاج إلى مفجرين انتحاريين ويبدو عليه أنَّه رجل مهذب جدًا يرتدي بدلة سوداء وربطة عنق حمراء وبإمكانه أن يخوض حربه بحسب اتفاقية لاهاي لعام 1907 الخاصة بقواعد وأعراف الحرب البرية. وفي حال لم تكن دباباته وطائراته كافية من أجل النصر، فلديه أسلحة نووية كافية لتدمير العالم.

وبالتالي فقد كان خبراؤنا الأمنيون يطاردون العدو الخطأ. والعدو الصحيح بات يطاردهم ويخيفهم. فهل ما يزال بإمكاننا تصديقهم بأنَّه يريد في الحقيقة فقط غزو أوكرانيا ولا يسعى إلى صراع كبير مع “الغرب”؟ إلى حرب عالمية حقيقية تجعل من بوتين اسمًا لن تنساه البقية الباقية من البشرية؟

الحرب تم الإعلان عنها مسبقًا

فشلُ خبرائِنا الأمنيين التام هذا يُذكِّر بالفترة التي سبقت الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. فعلى الرغم من أنَّ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي أي إيه) كانت تراقب أسامة بن لادن وبعضًا من الأشخاص المشاركين لاحقًا في الهجوم، إلَّا أنَّها لم تستنتج الاستنتاجات الصحيحة وقللت من حجم الخطر وانهمكت في جدالات حول الاختصاص. وبعد أيَّام قليلة، تم اختطاف طائرات ركاب وتوجيهها إلى مركز التجارة العالمي.

والأمريكيون تعلموا من هذا الحدث وحذَّروا هذه المرة من وقوع الحرب. ولكن حتى في هذه المرة كان الوقت قد تأخَّر جدًا. وكان قرار بوتين بالهجوم قد تم اتخاذه منذ فترة طويلة – مثلما يمكن قراءة ذلك من مقاله المنشور في شهر تموز/يوليو العام الماضي (2021) “حول وحدة الأوكرانيين والروس التاريخية”.

لقد كان الخطر الصادر عن بوتين وحاشيته معروفًا منذ زمن طويل. إذ إنَّ الأصدقاء والزملاء القادمين من روسيا إلى أكاديمية فنون العالم في مدينة كولونيا الألمانية لم يعودوا إلى وطنهم روسيا حتى في عام 2014. وكانوا يعرفون السبب.

لقد وصف في عام 2015 عالم الاجتماع الروسي ليف غودكوف السيناريو المستقبلي على النحو لتالي: “تصعيد النزاع المسلح بين الأطراف المتنازعة يبدأ في أوكرانيا ويُجبر بوتين على أمر الجيش الروسي بغزو المناطق الشرقية والجنوبية في أوكرانيا بشكل مباشر وعلني. ومن الممكن أن نتوقَّع نوعًا من مغامرة حرب لم يكن تصوُّرها ممكنًا حتى الآن – مثلًا، الهجوم على كييف والاستيلاء على وسط أوكرانيا مع ضمّ المناطق الشرقية والجنوبية إلى روسيا فيما بعد”.

مع الرئيس الروسي في قارب واحد

صحيح أنَّ ليف غودكوف اعتقد أنَّ بوتين سيخسر مثل هذه الحرب ومن بعدها السلطة أيضًا، ولكن هذا مجرَّد عزاء ضعيف. وكما في حالة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، فقد حقَّق المهاجم هدفه في اللحظة التي بدأت فيها الحرب. وهذا الهدف يكمن في إلقاء عالم ما قبل الحرب المكروه عند المهاجم في سلة نفايات الماضي. وقد نجح بوتين في ذلك. إذ إنَّ ما كان يعتبر قبل الرابع والعشرين من شباط/فبراير 2022 أمرًا بديهيًا صار بعيدًا اليوم مثل ثقافة الترفيه والمرح في التسعينيات بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001.

وذلك لأنَّ قواعد اللعبة تتغيَّر أيضًا تلقائيًا مع الهجوم. ومن أجل المواكبة، يجب علينا اللعب بحسب قواعد جديدة. ونتيجة لذلك نحن نتغيَّر ولن نعود كما كنا: فقد كنا حتى وقت قريب دعاة سلام أزليين لم نكن نريد إنفاق المال على التسلح؛ أو كما كنا قبل الحادي عشر من أيلول/سبتمبر: أتباع تعدُّدية ثقافية حالمين. وعندما يتم اكتساح الجميع، فلن يكون هناك مخرج جيّد لأي أحد ولا نصر من أي نوع. وأفضل ما يمكن أن نأمله هو الحدّ من الأضرار. وسواء أردنا ذلك أم لا فنحن الآن في قارب واحد مع بوتين. ومن حولنا محيط من مستقبل غير مؤكِّد، حيث يمكن لأي طرف أن يسحب السدَّادة ويغرق القارب.

اليمينيون في أوروبا: طابور بوتين الخامس

وحرب بوتين تلقي أيضًا ضوءًا غير متوقَّع على الخلافات السياسية الداخلية بين أوروبا والولايات المتَّحدة الأمريكية خلال العشرين عامًا الماضية. وعلى أبعد تقدير منذ “أزمة اللاجئين” في عامي 2014 وَ2015، دخل اليمينيون الجدد -الذين يُعرِّفون أنفسهم منذ الحادي عشر من أيلول/سبتمبر خاصةً من خلال معاداة الإسلام- في تحالف مع بوتين ودعايته يُذكِّرنا بعبودية الشيوعيين الغربيين لموسكو خلال الحرب الباردة.

إنَّ حقيقة سير منتقدي الإسلام وبوتين بخطوة منسجمة لا تعتبر أمرًا تافهًا، بل هي جزء من حسابات بوتين لهذه الحرب – ومن الممكن أن تحسمها في يوم ما لصالحه. وذلك على أبعد تقدير عندما يفوز جمهوريو ترامب في الانتخابات الأمريكية المقبلة. دعونا نتذكَّر: ترامب ما يزال لديه حساب مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي، الذي أراد في عام 2019 الحصول على أسلحة مضادة للدبابات من الولايات المتَّحدة الأمريكية. وترامب طلب منه مقابل ذلك محاكمة ابن بايدن، الذي يعمل في أوكرانيا. وقد أفضى هذا الخلاف إلى إجراءات عزل ترامب. ولذلك هناك خطر كبير من أنَّ أمريكا بقيادة جمهوريي ترامب يمكن أن تتخلى عن أوكرانيا وأوروبا وتتركهما وشأنهما وتستأنف التجارة مع روسيا من جديد.

تجدُّد خطاب صراع الحضارات

وجاذبية بوتين السلطوية لليمينيين الجدد تظل قوية أيضًا لأنَّه يستخدم خطابًا مناهضًا للغرب ومعروفًا منذ زمن طويل. وهو يمنح مفهوم صراع الثقافات والحضارات القديم والمحافظ حياةً جديدةً. وبهذه الطريقة يتم تعزيز منطق التمييز والإقصاء ويمكن بعد ذلك تطبيقه في أي وقت على الآخرين: على المسلمين والأفارقة والصينيين…

ولذلك فإنَّ التوسُّل بـ”الغرب” المحتفى به حاليًا لا يُبشِّر بالخير. فهذا “الغرب” بات على وشك الانخداع بدعايته الخاصة. بوتين لم يهاجم (حتى الآن) “الغرب”، بل هاجم بلدًا لم يكن يحسبه حتى وقت قريب أيُ سياسي من الغرب. وفي ظلّ هذه الحقيقة فإنَّ الادِّعاء الوقح بأنَّ الأوكرانيين يدافعون عنا “نحن”، وعن الديمقراطية، وحتى عن “العالم الحر” برمَّته، يبدو ادِّعاءً غريبًا. وهو يثقل على كاهل الأوكرانيين -الذين يخوضون بشجاعة معركة خاسرة- بدور منقذي العالم. هذا الدور الذي لا يمكنهم ولا يجب عليهم أيضًا القيام به.

ذكريات أفغانستان

وهذا السيناريو يعيد ذكريات أفغانستان بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. صحيح أنَّنا أردنا في أفغانستان “الدفاع عن حرِّيتنا في منطقة الهندوكوش أيضًا”، مثلما كان يقال في تلك الأيَّام، ولكن كان يجب منذ البداية وحتى النهاية على الأفغان بشكل خاص أن يتحمَّلوا ثمن الحرب. ولكننا على الرغم من ذلك لم نكن مستعدين بعد ذلك لاعتبار هؤلاء الأفغان “منا نحن” واستقبالهم، مثلما أظهرت عمليات الإجلاء الفاتر للموظفين المحليين الأفغان في صيف عام 2021. ومثلما لاحظ الكاتب عمران فيروز قبل فترة غير بعيدة وعن حقّ فنحن على أية حال لم نحسب قَطّ جنود الجيش الأفغاني، الذين حاربوا في الواقع “من أجلنا” طيلة عشرين عامًا، كجنود كانوا يحاربون من أجلنا.

والاستنتاج الخالي من المجاملة يفيد بأنَّ الغرب هو “مجتمع من قيم مشتركة” أتقن فنّ جعل الآخرين يحاربون من أجله من دون منحهم أي مقابل حقيقي. ومن خلال ادِّعائنا بأنَّ الأوكرانيين يحاربون “من أجلنا” لا يجب علينا أن نقوم بالمهمة القذرة المتمثِّلة في دخولنا نحن أنفسنا في مواجهة عسكرية مع بوتين. وهذا هو السبب -الأعمق والمُحرَّم الإفصاح عنه- الكامن وراء رفعنا راية تحديد هويَّتنا مع أوكرانيا وتضامننا معها.

والدليل هو: نحن نبتعد بمجرَّد أن يبدو لنا أنَّ الأمر بات يهدِّد بأن يصبح مؤلمًا حقًا ونقول: الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي معقَّد جدًا والإجراءات المستعجلة تتعارض مع مبادئ الاتحاد وفرض منطقة حظر الطيران خطير جدًا والتخلي عن الغاز والنفط الروسيين مسألة باهظة الثمن.

وبمجرَّد أن يتعلق الأمر بأكثر من رفع الرايات المرفرفة والاحتفاء بـ”الرئيس الأوكراني البطل” (بحسب وصف صحيفة بيلد الألمانية)، يصبح الفرق بين “نحن” و “هم” واضحًا. وبقدر ما تعتبر مساعدة الأوكرانيين أمرًا صحيحًا عندما يطلبون المساعدة، بقدر ما يعتبر من النفاق التظاهر بأنَّهم متطابقون معنا وأنَّهم يقاتلون قبل كلِّ شيء “من أجلنا”. وهذا غرور ونفاق تمامًا مثل ادِّعاء بوتين “بوحدة الروس والأوكرانيين التاريخية”.

والخلاصة: ليست روسيا الوحيدة، التي تحتاج إستراتيجية خروج تحفظ ماء وجهها من هذه الحرب – مثلما يقال كثيرًا، بل يحتاجها أيضًا الأوكرانيون و”الغرب” الثمل بإيمانه بتفوُّقه. وإذا لم نتمكَّن من إيجاد إستراتيجية الخروج هذه فسيتحقَّق حلم بوتين المصاب بجنون العظمة وسيخوض في الواقع حربًا ضدَّ “الغرب”. والخطوة الأولى نحو التخفيف من حدة التصعيد تكمن في مواجهتنا بحزم الدعاية الحربية المستعرة من جميع الأطراف وخطاب الغدر اليميني المزعج حول صراع القيم والثقافات والحضارات.

شتيفان فايدنَر

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2022

ar.Qantara.de

شتيفان فايدنَر مؤلف ومترجم. صدر له في عام 2021 كتاب تحت عنوان: “غراوند زيرو (المنطقة صفر). الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وولادة الحاضر”. ونشر له مقال حول رحلته عبر أوكرانيا تحت عنوان “في يونان الشرق” ككتاب إلكتروني على موقع أمازون.فايدنَر مؤلف ومترجم. صدر له في عام 2021 كتاب تحت عنوان: “غراوند زيرو (المنطقة صفر). الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وولادة الحاضر”. ونشر له مقال حول رحلته عبر أوكرانيا تحت عنوان “في يونان الشرق” ككتاب إلكتروني على موقع أمازون.

—————————-

المفاوضات الروسية الأوكرانية عالقة..ودول البلطيق تستغني عن الغاز الروسي

يعقّد ملف شبه جزيرة القرم واقليم الدونباس، المفاوضات الروسية الاوكرانية، إذ يحول تمسك روسيا بموقفها حيالهما، دون التوصل الى اتفاق حاسم يستدعي لقاءً على مستوى القادة بين البلدين، وسط ضغوط متزايدة على روسيا، كان أبرزها إعلان دول البلطيق عن وقف استيراد الغاز الطبيعي الروسي.

وقالت روسيا، الأحد، إن محادثات السلام لم تحرز تقدماً كافياً لعقد اجتماع على مستوى القادة. وذكر كبير المفاوضين الروس فلاديمير ميدينسكي عبر تطبيق “تليغرام” أن “مسودة الاتفاق ليست جاهزة لتُقدم إلى اجتماع على المستويات العليا”، مجدداً التأكيد أن “موقف روسيا بشأن القرم ودونباس لم يتغير”.

وأجرى الجانبان محادثات دورية منذ بدأت روسيا غزوها في 24 فبراير/ شباط، لكن لم تحدث أي انفراجة وما زالت هناك خلافات كبيرة بين الجانبين بشأن مسألة الأراضي.

وقال ميدينسكي إن أوكرانيا بدأت في إظهار نهج أكثر واقعية في محادثات السلام، لافتاً الى ان “أوكرانيا وافقت على أن تكون محايدة ولا تمتلك أسلحة نووية وألا تنضم إلى تكتل عسكري وأن ترفض استضافة قواعد عسكرية”.

لكن في ما يتعلق بقضية شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا من أوكرانيا في 2014، ومنطقتين للانفصاليين المتحالفين مع روسيا في دونباس في شرق البلاد واعترف الرئيس فلاديمير بوتين باستقلالهما في فبراير/شباط، أشار ميدينسكي إلى عدم إحراز تقدم. وقال إنه لا يشارك المفاوض الأوكراني ديفيد أراخاميا تفاؤله.

وقال إن “الخبراء الدبلوماسيين والعسكريين الأوكرانيين متأخرون كثيرا حتى في تأكيد تلك الاتفاقيات التي تم التوصل إليها بالفعل على المستوى السياسي بشأن مسودة النص”، مضيفاً أن المحادثات عبر الفيديو ستستمر الاثنين.

وكان كبير المفاوضين الأوكرانيين في مفاوضات السلام مع روسيا ديفيد أراخاميا قال للتلفزيون الأوكراني أمس السبت إن مسودة الاتفاق في وضع متقدم بما يكفي للسماح بإجراء مشاورات بين بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وقال أراخاميا إن موسكو وافقت “شفهياً” على المقترحات الأوكرانية الرئيسية باستثناء مسألة شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا العام 2014، مضيفا أن كييف تنتظر تأكيداً خطياً.

مقاطعة للغاز الروسي

وفي خطوة تشدد الضغط على روسيا، أوقفت دول البلطيق استيراد الغاز الطبيعي الروسي. وأعلن رئيس شركة “كونيكسوس بلطيق غريد” اللاتفية للتخزين أن الغاز الروسي “لم يعد ينقل إلى لاتفيا وإستونيا وليتوانيا منذ الأول من نيسان/أبريل”.

وباتت دول البلطيق تستمد الغاز من الاحتياطات المخزنة تحت الأرض في لاتفيا. وكتب الرئيس الليتواني غيتاناس ناوسيدا في تغريدة: “اعتباراً من هذا الشهر فصاعداً، لم يعد هناك غاز روسي في ليتوانيا”.

وحسب “يوروستات”، كانت روسيا تؤمن 93% من واردات إستونيا من الغاز الطبيعي و100% من واردات لاتفيا و41.8% من واردات ليتوانيا.

وحظرت الولايات المتحدة استيراد النفط والغاز الروسيين بعد غزو أوكرانيا فيما لم يصدر قرار مماثل عن الاتحاد الأوروبي الذي كان يستورد حوالى 40% من حاجاته من روسيا عام 2021.

———————————–

 أوكرانيا تدخل المرحلة الثانية من الحرب

يقول ليون تروتسكي: «إن لم تكن مهتمّاً بالحرب، فهي مهتمّة بك». وإذا كانت أوكرانيا غير مهتمّة بالدب الروسيّ، فالدبّ مهتمّ جدّاً بأوكرانيا. فقدريّة الجغرافيا وثقل التاريخ هما الأساس. هذا ما كتبه الرئيس فلاديمير بوتين في مقالة طويلة، جاء فيها أن الشعب الأوكراني والشعب الروسي هما شعب واحد، ولا وجود لما تُسمّى أوكرانيا. هذا مع التذكير بأن كلمة أوكرانيا يعود أصلها إلى اللغة البولنديّة، عندما كانت بولندا تحتلّ قسماً كبيراً منها.

حتى أن القيصر كاترين الكبرى، وبعد التقسيم الثاني لبولندا في عام 1793، كانت تنظر إلى المكاسب من منظار إثني وديني بحت. وعليه، كتبت إلى سفير روسيا في بولندا قائلة: «لن نحظى بحدود آمنة مع بولندا إلا إذا كانت بولندا في حالة ضعف وعجز كبيرين».

واليوم، تشكّل بولندا رأس الحربة الغربيّة لـ«الناتو» والولايات المتحدة، في دعم الجيش الأوكراني لمنع الانتصار الروسيّ.

فلنذهب إلى الوضع الميداني في أوكرانيا مباشرة لتقييم ما حصل، وإلقاء نظرة على صورة المرحلة القادمة، من ضمن المعادلة الذهبيّة الثابتة التي تقول: «لا يجب التركيز على الأهداف الموضوعة من قبل طرف ما؛ بل يجب التركيز على التقييدات والموانع التي تعيق هذا الطرف عن تحقيق أهدافه».

الآن، لننظر إلى التطبيق على الأرض الأوكرانيّة.

أراد الرئيس بوتين كلّ شيء، وقد لا يحصل على شيء. بمعنى أنه لن يكون قادراً على قياس نجاحه العسكري في أي منطقة من أوكرانيا. بكلام آخر، إذا لم يستطع الرئيس بوتين تحويل المكسب العسكري إلى مكسب سياسي، أي اعتراف الآخر له به، فهو لن يكون قادراً على فكّ الحبال الغربيّة التي بدأت تُضيّق الخناق عليه، اللهم إلا إذا ذهب إلى غير المعقول، أي إلى النوويّ.

كيف تبدو الساحة العسكريّة الآن؟

• انسحاب جزئي من شمال غربي كييف للقوات الروسيّة لإعادة التنظيم. لكن، قد لا تشارك هذه القوات في جبهة ثانية؛ لأنها مُنيت بخسائر كبيرة ومعنوياتها ليست مرتفعة. فعادة، تُسحب هذه الوحدات إلى ثكناتها، وأحياناً تُحلّ. لكن هذا لا يعني ترك مُحيط كييف، لا بل إبقاء أرضيّة عملانيّة للانطلاق منها في حال أي هجوم مستقبليّ.

• من هنا استغلّت القوات الأوكرانيّة هذه البلبلة في صفوف القوات الروسيّة، وبدأت بهجمات عكسيّة استردّت فيها مدينة أربين، وبلدة ماكاريف، والهدف هو دائماً إبقاء طرق الإمداد والطرق اللوجستيّة من جهة الغرب الأوكراني ومدينة لفيف مفتوحة.

• بدء الاستعداد والتحضير للاستيلاء على كلّ إقليم دونباس. فهو يُشكّل 9 في المائة من الأراضي الأوكرانيّة، ويلامس الحدود الروسيّة، الأمر الذي يُسهّل عملية النقل اللوجستيّة في حال الحرب. ويتميّز هذا الإقليم بأراضٍ منبسطة نسبيّاً، وبكثافة سكانيّة قليلة، الأمر الذي يُسهّل عنصر المناورة بالدبابات، وأيضاً يُسهّل عملية قنص هذه الدبابات بالأسلحة الغربيّة المضادة للدروع. وستشهد هذه المنطقة قصفاً نارياً لم تشهده كل أوكرانيا من قبل.

• لكن المهمّ للقوات الروسيّة هو تسريع عمليّة سقوط مدينة ماريوبول، الأمر الذي يُسهّل وضع الإقليم بين فكّي كماشة روسيّة، من الشرق ومن الغرب، انطلاقاً من الجنوب.

• كما يُنتظر في الحرب على الإقليم أن يتمّ استعمال قوات لها خبرة في هكذا نوع من القتال. والمقصود قوات من «فاغنر»، أو ممن شارك في الحرب السورية والليبية أو من غرب أفريقيا.

هذا في الشق العسكري. فماذا عن الأبعاد الأخرى؟

• صرّح الناطق الرسمي باسم الرئيس بوتين، ديمتري بيسكوف، بأن استعمال النووي في أوكرانيا مُستبعد؛ لأن الحرب فيها لا تشكّل خطراً وجوديّاً على روسيا.

• في الوقت نفسه، هناك دبلوماسيّة نشطة للمتضرّرين من الحرب في أوكرانيا، وهم:

• إسرائيل؛ لأنها جارة روسيا في سوريا، هذا عدا وجود الجاليتين اليهوديّتين: الروسيّة كما الأوكرانيّة، في إسرائيل.

• فرنسا؛ لأنها عادة هي الولد المشاغب في أوروبا وفي حلف «الناتو» منذ أيام الرئيس شارل ديغول وحتى الآن، مروراً بموقف الرئيس جاك شيراك قبيل الاجتياح الأميركي للعراق.

• تركيا، وهي الأكثر تضرّراً لعدّة أسباب، منها: التطويق الروسي لها من جهة البحر الأسود، ومن الجهة السورية. وهي تستذكر مطالب جوزيف ستالين بحصّة له في المضايق البحريّة. والخطر أن تنتصر روسيا. لكن هذه المبادرات تدور ضمن الشعار التالي: من هو قادر لا يريد، ومن يريد ليس قادراً. فكيف سيجتمع الرئيس بوتين بالرئيس الأوكراني، وهو أصلاً لا يعترف بكلّ أوكرانيا؟ ألا يُعتبر هذا الأمر انتحاراً سياسياً للرئيس بوتين؟

وعليه، يعتمد الرئيس بوتين المقاربة التالية:

• تغيير الاستراتيجيّة العسكريّة لامتصاص الهزيمة في المرحلة الأولى.

• إعادة تنظيم القوى، وتغيير في بعض القيادات، والعودة إلى المرحلة الثانية لتحقيق نصر ما.

• في الوقت نفسه، فتح باب التفاوض مع أوكرانيا لكسب الوقت، ومحاولة تعديل موازين القوى العالميّة، سواءً باتجاه الصين أو الهند. فكل مكسب عسكري على الأرض الأوكرانيّة سيُعزّز موقفه.

• لكن الأكيد والظاهر أن الرئيس بوتين لا يزال يعتقد أن بإمكانه تحقيق كلّ أهدافه في أوكرانيا، والتي كان قد أعلنها قبيل بدء الحرب.

فهل يمكن لنا تسمية هذه الحرب بالحرب الطويلة؟

الشرق الأوسط

————————

هل ينتهي الهجوم الروسي على أوكرانيا خلال شهر فعلاً كما تقول إدارة بايدن؟

عربي بوست

يبدو أن الهجوم الروسي على أوكرانيا يقترب من مرحلته الأخيرة، فالمفاوضات تقترب من التوصل لاتفاق وتقارير أمريكية تحدد موعداً لإعلان النصر من جانب فلاديمير بوتين، فماذا يحدث على الأرض فعلاً؟

كان الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه عملية عسكرية خاصة هدفها منع عسكرة كييف، بينما يصفه الغرب بأنه غزو غير مبرر، قد بدأ يوم 24 فبراير/شباط الماضي مثيراً عاصفة من العقوبات الغربية غير المسبوقة الهادفة إلى عزل روسيا.

وفي ظل حرب المعلومات المشتعلة بين الجانبين، من الصعب الوقوف على حقيقة ما يحدث بالفعل على الأرض، فالتقارير الغربية تحتفي بالمقاومة الأوكرانية تكتيكاتها الأقرب لحرب العصابات، بينما يقول الروس إن خططهم العسكرية تحقق أهدافها المرسومة لها منذ البداية.

حرب العصابات الأوكرانية

قالت أوكرانيا، السبت 2 أبريل/نيسان، إنها استعادت السيطرة على جميع المناطق المحيطة بمدينة كييف، وأعلنت السيطرة الكاملة على منطقة العاصمة للمرة الأولى منذ أن بدأ الهجوم الروسي. وقال أوليكسي أريستوفيتش، مستشار الرئيس الأوكراني، إن القوات الأوكرانية استعادت السيطرة على أكثر من 30 بلدة وقرية في المنطقة منذ أن أعلنت روسيا الأسبوع الماضي الانسحاب من المنطقة، بحسب رويترز.

ونشرت صحيفة Financial Times البريطانية تقريراً رصد كيف تستخدم أوكرانيا هجمات مضادة بأسلوب حرب العصابات وتبادر بالهجوم على روسيا، فإربين، على سبيل المثال، كان يفترض أن تكون جسراً سهلاً للروس يدخلون منه إلى كييف. لكن قرار أوكرانيا بتفجير الجسور في العاصمة عطّل تقدم الجنود الروس، مجبراً إياهم على اللجوء إلى الالتفاف وعرّضهم للقصف والأسلحة الغربية المضادة للدبابات.

ونجحت وحدات أوكرانية صغيرة مرتفعة الروح المعنوية في صد القوات الروسية والمدرعات، حيث استغلت تفوقها في جمع المعلومات الاستخبارية لتحديد مواقع تمركز جنود العدو.

وقال قائد عسكري أوكراني بارز، الخميس 31 مارس/آذار، للصحيفة البريطانية إن القوات الروسية سحبت قرابة 700 عربة عسكرية من مواقعها شمال كييف، بعد فشلها في اختراق العاصمة.

شحنة من صواريخ جافلين المضادة للدبابات تصل إلى أوكرانيا من حلف الناتو عن طريق الحدود مع بولندا، Getty

وإلى الشمال الغربي من كييف، أعاد الأوكرانيون فرض سيطرتهم على إربين وقالوا يوم الجمعة الأول من أبريل/نيسان إنهم استعادوا ضاحية بوتشا. واندلع قتال عنيف أيضاً حول مطار هوستوميل الذي يحتدم عليه القتال منذ بدأ الهجوم في واحدة من أكثر المعارك رمزية في الحرب.

وفي الجنوب، وخاصة حول ميكولايف، أعاقت الهجمات المضادة الناجحة التقدم الروسي في مدينة أوديسا الساحلية الاستراتيجية. وتزعم أوكرانيا أيضاً أنها حققت مكاسب حول مدينة تشيرنيهيف الشمالية، على بعد 100 كيلومتر فقط من الحدود الروسية. وحتى السيطرة على خيرسون، المدينة الكبيرة الوحيدة التي احتلتها القوات الروسية حتى الآن، موضع خلاف، وفقاً لتقارير الاستخبارات الأمريكية.

وزادت الهجمات المضادة من عزيمة المقاتلين الأوكرانيين وخرقت الهجوم الروسي عن طريق استغلال نقاط ضعفه: طرق الإمدادات اللوجستية الطويلة، والإمدادات المحدودة، والجهل بالمناطق المحلية، وانخفاض الروح المعنوية. وهذا ينطبق أكثر من غيره على المجندين الروس، الذين أشارت تقارير إلى أن عديداً منهم لم يعرفوا أنهم نُقلوا إلى الحدود الأوكرانية لمهاجمة البلاد، بحسب “فايننشال تايمز”.

لكن ماذا عن الرواية الروسية؟

لكن على الجانب الآخر، تصف موسكو مسار الحرب بطريقة مختلفة تمام، إذ قالت وزارة الدفاع هذا الأسبوع إن روسيا ستنتقل إلى “المرحلة النهائية” من العملية بعد “إنجاز جميع المهام الرئيسية” في شمال أوكرانيا. وأضافت أن القوات تنسحب من كييف لـ”تحرير” إقليم دونباس في الشرق.

فالعملية العسكرية الخاصة التي بدأها بوتين تهدف، بحسب وجهة النظر الروسية، إلى حماية الأقلية الروسية في شرق البلاد، والتي يوجد فيها منطقتا لوجانسك ودونيتسك الانفصاليتان ضمن إقليم دونباس واعترف بوتين باستقلالهما يوم 21 فبراير/شباط الماضي.

وشدد مسؤولون ومحللون عسكريون غربيون على أن الهجمات الأوكرانية المضادة والتحول في التركيز العسكري الروسي لا يعني أن أوكرانيا على حافة النصر. وقال أحدهم: “لم يحدث تحول تام على الأرض. فلا نشهد تحولاً في المسار، وإن حققت القوات الأوكرانية نجاحاً في بعض المناطق”.

ويتمثل أحد التحديات التي يواجهها الأوكرانيون في أن تركيز روسيا لجهودها على دونباس يجعلها أقدر على علاج مشكلات الخدمات اللوجستية والإمدادات التي أعاقت الهجوم الأول.

وقال المسؤول: “انسحابهم إلى مواقع دفاعية أكثر في الشمال سيقصّر خطوط الإمداد، وهذا سيساعدهم، وانسحاب القوات الروسية لا يعني بالضرورة تراجع التهديدات”.

ويرى محللون أن مبدأ العقيدة العسكرية الروسية يؤكد أيضاً على فكرة “الدفاع الهجومي”، المبنيّ على هزيمة الخصم عن طريق كسب الوقت والحفاظ على القوات واستخدام القصف المدفعي والصاروخي لإضعاف العدو. ولفتوا إلى استمرار القصف في ضواحي كييف وأماكن أخرى في الأيام الأخيرة.

وتعمل روسيا على تشكيل ما لا يقل عن 10 كتائب تكتيكية جديدة، تضم عادة حوالي 700 جندي، ومدرعات ومدفعية، لإرسالها إلى دونباس، وفقاً للاستخبارات الغربية. وستحتاج أوكرانيا أيضاً إلى استمرار تدفق الأسلحة إذا أرادت مواصلة هجماتها المضادة. وقد زودها الغرب بمجموعة من الأسلحة، وخصوصاً الصواريخ المضادة للدبابات المحمولة على الكتف، لكن زيلينسكي طالبهم غير مرة بإرسال دبابات وطائرات وأنظمة مدفعية.

وبإمكان أوكرانيا استغلال أفضليتها بشن “هجوم دبلوماسي مضاد” في محادثات السلام مع روسيا. وكانت كييف قالت الأسبوع الماضي، أثناء المحادثات الدائرة في تركيا، إن موسكو لا تزال مصرة على مكاسب غير مقبولة على الأرض في دونباس وشبه جزيرة القرم المحتلة.

وقد أعرب مسؤولون أمريكيون وأوروبيون عن شكوكهم في صدق روسيا والتزامها بالمحادثات، وقالوا إن وقف إطلاق النار الكامل وانسحاب القوات وإعادة الأراضي التي استولت عليها روسيا قد يُطلق مناقشات بخصوص رفع العقوبات عن الاقتصاد الروسي.

يقول سيرجيو خاراميو، المسؤول العسكري الكولومبي السابق الذي رتب عملية السلام في البلاد مع قوات المتمردين ويعمل الآن مستشاراً في المعهد الأوروبي للسلام في بروكسل: “هذا هو الوقت المناسب للأوكرانيين لتحديد المشكلات التي يرغبون في تحديدها في ظل وجود هذا الزخم والوحدة والدعم الأوروبيين”. وقال: “من الأفضل دائماً التفاوض حين تكون في أقوى حالاتك، وهكذا قد يكون حال الأوكرانيين الآن”.

هل تضع الحرب أوزارها في مايو فعلاً؟

شبكة CNN الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه “روسيا تغير خطتها لإعلان الانتصار في شرق أوكرانيا أوائل مايو”، نقلت فيه عن عدة مسؤولين أمريكيين وصفتهم بالمطلعين على أحدث التقييمات الاستخباراتية الأمريكية بشأن الحرب في أوكرانيا.

وبحسب تلك المصادر، قرر الرئيس فلاديمير بوتين تحويل التركيز في هجومه على أوكرانيا على الأقاليم الشرقية وأهمها دونباس؛ حتى يتمكن من الإعلان عن الانتصار ووقف الحرب بالتزامن مع احتفالات يوم النصر في روسيا، أي يوم 9 مايو/أيار بالتحديد.

ويعتبر 9 مايو/أيار واحداً من أهم العطلات القومية في روسيا، حيث يتم الاحتفال بالانتصار على النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، وقال المسؤولون الأمريكيون لـ”سي إن إن” إنهم يتوقعون أن يستغل بوتين تلك المناسبة الهامة وما ترمز إليه كي ينهي “مغامرته في أوكرانيا” معلناً الانتصار.

ولا يمكن بطبيعة الحال التأكد من مدى دقة التقارير الاستخباراتية الأمريكية في هذا الشأن، خصوصاً أن استراتيجية بوتين العسكرية المعلنة لم تكن تشمل من الأساس احتلال أوكرانيا بالكامل، بل منع عسكرة البلاد والقضاء على “النازيين القوميين”، في إشارة إلى الحكومة الأوكرانية برئاسة فولوديمير زيلينسكي على ما يبدو. لكن في كل الأحوال، تتبع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أسلوباً غير معتاد من التسريب المستمر لما تصفها بأنها “نوايا بوتين العسكرية”، لإجهاضها كما تقول واشنطن أو لتوريط بوتين كما يقول منتقدو إدارة بايدن.

سحب روسيا قواتها تدريجياً من غرب أوكرانيا والتركيز على إحكام السيطرة على الأقاليم الشرقية، وخصوصاً إقليم دونباس والشريط البري الرابط بينه وبين شبه جزيرة القرم، التي ضمتها موسكو عام 2014، يتم تصويره الآن من جانب التسريبات الاستخباراتية الأمريكية على أنه هزيمة لبوتين أو على الأقل فشل لخطته الأصلية، على الرغم من أن ذلك يعتبر انتصاراً ضخماً للكرملين بالطبع.

ماذا عن مسار المفاوضات؟

الحقيقة هنا هي أن الحرب لن تضع أوزارها ما لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق سلام من خلال مسار المفاوضات التي تستضيفها تركيا حالياً، وهو المسار الذي يبدو قريباً من الوصول إلى محطته النهائية في أي وقت، بحسب ما تشير إليه التصريحات الخاصة باحتمال عقد قمة بين بوتين وزيلينسكي في إسطنبول بضيافة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

صحيح أن روسيا قالت، الأحد 3 أبريل/نيسان، إن محادثات السلام لم تحرز تقدماً كافياً لعقد اجتماع على مستوى القادة وإن موقف موسكو بشأن وضع القرم ودونباس لم يتغير، إلا أن المؤشرات تصب في اتجاه احتمال الإعلان عن حدوث انفراجة بالفعل والتوصل لاتفاق في أي وقت.

زيلينسكي كان قد قال إن القوات الروسية تسعى للسيطرة على شرق وجنوب البلاد، واشتكى من أن الدول الغربية لم تزود كييف بما يكفي من الأنظمة المضادة للصواريخ. ووصف الجانبان المحادثات التي جرت الأسبوع الماضي في إسطنبول، وعبر رابط فيديو، بأنها “صعبة”. لكن مفاوضاً أوكرانياً قال إن روسيا أشارت إلى إحراز تقدم في مسودات معاهدة السلام بما يكفي للسماح بإجراء محادثات مباشرة بين بوتين وزيلينسكي.

وفد أوكرانيا في المفاوضات/ الأناضول

وقال المفاوض ديفيد أراكاميا للتلفزيون الأوكراني: “إنهم (الروس) أكدوا وجهة نظرنا بأن مسوّدات الوثائق تم العمل عليها بما يكفي للسماح بإجراء مشاورات مباشرة بين قادة البلدين”.

ورد كبير المفاوضين الروس فلاديمير ميدينسكي عبر تطبيق تليجرام: “مسودة الاتفاق ليست جاهزة لتُقدم إلى اجتماع على المستويات العليا. أكرر مراراً وتكراراً.. موقف روسيا بشأن القرم ودونباس لم يتغير”. لكنه أضاف أن أوكرانيا بدأت في إظهار نهج أكثر واقعية في محادثات السلام، حيث وافقت على أن تكون محايدة ولا تمتلك أسلحة نووية وألا تنضم إلى تكتل عسكري وأن ترفض استضافة قواعد عسكرية.

لكن تظل نقطة الخلاف الرئيسية بين ما يقوله ميدينسكي وما أعلنه أراكيما هي وضع شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس، فالروس يريدون إغلاق ملف القرم رسميا، أي الاعتراف بأنها أصبحت جزءاً من الاتحاد الروسي منذ 2014، والأمر نفسه بالنسبة لإقليم دونباس الآن.

وبالتالي فإنه ربما يكون من المبكر الحديث عن أن روسيا قد قررت تركيز عملياتها العسكرية في الأقاليم الشرقية فقط من أوكرانيا، إذ أفاد مسؤولون أوكرانيون بوقوع ضربات صاروخية على أهداف في مختلف أنحاء البلاد.

—————————

الفائزون والخاسرون في حرب بوتين/ ريتشارد هاس

مضى شهر على حرب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ضد أوكرانيا. والواقع أن هناك حربين: حرب روسية تشن بالأساس ضد مدن أوكرانيا والسكان المدنيين، وحرب تخوضها القوات المسلحة الأوكرانية ضد القوات الروسية. وروسيا هي المنتصرة في الحرب الأولى، بينما أوكرانيا هي الفائزة في الحرب الثانية.

ومن الناحية المثلى، ستؤدي المفاوضات إلى وقف إطلاق النار وتسوية دائمة. ولا يقل ترجيحا أن يستمر الصراع لبعض الوقت، خاصة إذا قرر بوتين اعتماد استراتيجية تقلل من تعرض قواته للقتال ورفض نتيجة تفاوضية بشروط يمكن أن تقبلها حكومة أوكرانيا. وستكون النتيجة «حرب محدودة، وليس السلام»، على حد تعبير «تروتسكي».

فمن سيكون الرابح والخاسر في هذا السيناريو؟

من السهل الإشارة إلى الخاسر الأكبر، وهو روسيا. إذ يبدو واضحا، الآن، أن بوتين لن يكون قادرًا على تحقيق الأهداف السياسية التي على الأرجح أنه سعى إليها، وهي السير إلى كييف واستبدال حكومة الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بحكومة صديقة للكرملين. وربما تكون الحرب التي اختارها بوتين قد دمرت الكثير من البنية التحتية في أوكرانيا، لكن العقوبات غير المسبوقة والعزلة الاقتصادية التي أحدثها قراره تدمر روسيا اقتصاديًا.

وفضلا عن ذلك، غادرت العديد من المواهب الروسية البلاد تعبيرا عن رفضها للحرب، واستنزف الجيش الروسي (إذ فقد ما يصل إلى 15000 جندي في شهر واحد)، فتراجع كما تراجعت قوات «بوتيمكين»، تلك التي ستستغرق سنوات لإعادة بنائها.

ويصبح التقييم أكثر تعقيدًا عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا. فصمود قيادتها ومجتمعها وقواتها المسلحة إنجاز رائع؛ كما أن الهوية الوطنية أصبحت أقوى من أي وقت مضى؛ وعززت المقاومة القوية التي أبدتها أوكرانيا ديمقراطيتها الفتية.

ولكن هذا التعزيز كلف باهظا. إذ يقدر أن عشرة ملايين أوكراني، أي ربع السكان البلاد، مشردون في بلادهم أو لاجئون؛ ودمر الاقتصاد؛ وستستغرق عملية إعادة البناء الكثير من الوقت والمال.

ويعد الناتو، على الرغم من عدم اختباره عسكريًا، فائزًا كبيرًا حتى الآن. إذ أصبح أكثر اتحادا وأكثر قوة جراء العدوان الروسي. كما أنه يستفيد من الأداء الضعيف للقوات المسلحة الروسية التي لا تضاهي الحلف الغربي، ومن رئيس أميركي يؤمن بها.

إن ألمانيا وحكومتها الجديدة ومستشارها من أكبر الفائزين أيضا. ويفهم من ضمن رد حكومة المستشار، أولاف شولتس، أن إرث سلف شولز، أنجيلا ميركل، أصبح الآن أكثر اختلاطا، لأنها سمحت لألمانيا بأن تصبح شديدة الاعتماد على الطاقة الروسية.

ويمثل قرار شولتس بإلغاء خط أنابيب الغاز «نورد ستريم2»، والالتزام بمضاعفة الإنفاق الدفاعي، والاستعداد لنقل الأسلحة إلى أوكرانيا تغييرات كبيرة ومهمة. وخيبة الأمل الوحيدة هي أن الاقتصاد الألماني سيستغرق سنوات لفطم نفسه عن الغاز الروسي، وهو واقع يشكل ثقلًا كبيراً على الاقتصاد الروسي.

وبدوره، حقق الرئيس الأميركي، جو بايدن، مكاسب من الحرب. فقد كان في معظم الأوقات ماهرا في إدارة سياسة دعم أوكرانيا، ومعاقبة روسيا؛ وبرفضه الدعوات لإرساله «جنودا إلى ساحة المحركة» أو إنشاء منطقة حظر طيران، فقد تولى تلك المهمة دون المخاطرة باندلاع الحرب العالمية الثالثة.

ووحد بايدن بين حلفاء أميركا أيضًا، وهو أمر تمس الحاجة إليه بعد أربع سنوات من إدارة دونالد ترامب، وبعد الانسحاب الأمريكي السيئ من أفغانستان. وكانت إحدى زلاته الرئيسية هي محاصرة بوتين بصورة أكبر من خلال وصفه بمجرم حرب، والتلميح إلى تغيير النظام عندما يجب أن يكون هدف السياسة الأميركية هو حمل بوتين على وقف الحرب، وتجنب أي تصعيد من أي نوع.

إن الصين ورئيسها، شي جين بين، في وضع استراتيجي أسوأ مما كانا عليه قبل شهر واحد فقط. إذ بسبب الارتباط الوثيق مع بوتين، عرض شي نفسه للنقد بسبب حكم معيب يضر بسمعة الصين، ويزيد من مخاطر استهدافها بعقوبات ثانوية.

ورغم أن الصين طالما سعت إلى تقسيم الغرب، إلا أن تحالفها مع روسيا أدى إلى عكس ذلك، ما أدى إلى تنفير أوروبا الغربية حيث كانت تحقق نجاحات اقتصادية كبيرة. كما أنه سيؤدي إلى سياسة أميركية أكثر صرامة تجاه الصين، وإلى تسليط الضوء على التكاليف التي يمكن أن تواجهها الصين إذا تحركت عسكريا ضد تايوان.

وبالمقابل، الخاسرون في هذه الحرب أكثر بكثير من الفائزين، وهذا مفيد للحرب. وتبدو الأمم المتحدة، وخاصة مجلس الأمن، عاجزة عن التدخل. فالحرب ضارة بالجهود العالمية الرامية لإبطاء انتشار الأسلحة النووية. فقد تخلت أوكرانيا عن مخزونها منذ 28 عامًا في مقابل ضمان سلامتها الإقليمية، إلا أنها تعرضت للغزو مرتين منذ العام 2014. كذلك، أثرت الأزمة سلبا على الجهود المبذولة لمكافحة تغير المناخ، والتي يبدو أنها تراجعت مؤقتًا، على الأقل فيما يتعلق بالتدابير التي ترمي إلى تعزيز أمن الطاقة.

وتشكل الحرب أزمة سيئة أيضًا بالنسبة لمن كان يجادل بأن غزو الأراضي والحروب بين البلدان أصبحت من الماضي، أو من جادل في السنوات الأخيرة بأن الأمور لم تكن أبدا أفضل من أي وقت مضى. واستخدمت الأحداث أيضًا ضد حجج اليساريين واليمينيين التي تقول إن الخطر الأكبر على الأمن الدولي هو تجاوز الولايات المتحدة، وإن الولايات المتحدة ستكون أكثر أمانا إن اهتمت بشؤونها الداخلية.

أخيرًا وليس آخرًا، هناك مسألة ماذا سيعني هذا الصراع بالنسبة للنظام العالمي. لقد انتهك الغزو الروسي المبدأ الأساسي للاستقرار في العالم: ألا يتم تغيير الحدود بالتهديد أو باستخدام القوة. وسيتوقف الكثير على ما إذا كان بوتين يفلت من مقامرته، أو ما إذا كان الثمن الذي يجبر على دفعه يفوق مكاسب معينة. وسيحدد هذا، أكثر من أي شيء آخر، الحكم النهائي للتاريخ فيما يتعلق بمكاسب وخسائر حرب بوتين.

*هو رئيس مجلس العلاقات الخارجية.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت.

الغد

——————–

مراحل العملية الروسية في أوكرانيا… كما تراها موسكو/ فيتالي نعومكين

تمر العملية العسكرية الخاصة التي أطلقتها روسيا في أوكرانيا، مثل أي عملية عسكرية، بأطوار أو مراحل تتطور بشكل منهجي وفقاً لخطة القائد الأعلى للقوات المسلحة، رئيس الاتحاد الروسي، بطبيعة الحال.

ولا نعرف المضمون الفعلي لهذه الخطة، ولكن، بالاعتماد على ملخص تصريحات كبار العسكريين الروس، وتعليقات الخبراء والمحللين الروس في وسائل الإعلام الروسية، يمكننا الحكم على بعض الملامح المهمة للعملية العسكرية الموجهة لحماية سكان الدونباس من الإبادة الجماعية التي تعرضوا لها طوال مدة ثماني سنوات، وعلى النتائج التي حققتها.

– أولاً، لقد تم الانتهاء من المرحلة الأولى للعملية الخاصة، التي كان مضمونها الرئيسي يكمن في إضعاف القدرات العسكرية للقوات المسلحة الأوكرانية وتحرير معظم أراضي الدونباس (جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك). فقد تم تدمير مراكز كبيرة لتخزين المعدات العسكرية والأسلحة ومراكز الاتصالات، وواقعياً، تم تدمير القوات الجوية الأوكرانية وقوات الدفاع الجوي والأسطول البحري الأوكراني بشكل كامل. فلم تعد أوكرانيا قادرة على إصلاح وصيانة المعدات الثقيلة المعطوبة، ولا سيما الدبابات، ولم يعد بالإمكان تمرير إمدادات من الأسلحة الثقيلة من أوروبا أو الولايات المتحدة، ولن يستطيع أحد تعويضها الخسائر التي تكبدتها.

تم أيضاً تطويق المدن الكبرى، مثل العاصمة كييف، وخاركوف وتشيرنيغوف وسومي ونيقولاييف. بالإضافة إلى ذلك، فرض الجيش الروسي سيطرة كاملة على مقاطعة خيرسون ومعظم مناطق مقاطعة زابوروجيا. ووفقاً للنائب الأول لرئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة للاتحاد الروسي، الفريق أول سيرغي رودسكوي، أنجزت القوات المسلحة الروسية المهام الرئيسية للمرحلة الأولى من العملية الخاصة. في الوقت نفسه، يجدر الاعتراف هنا بأن الجيش الروسي يواجه أحياناً مقاومة شرسة من القوات المسلحة الأوكرانية والفصائل القومية المتطرفة. ومع ذلك، يمكننا التحدث بالفعل عن الإنجاز الجزئي لإحدى مهام العملية الخاصة، ألا وهي مهمة نزع سلاح أوكرانيا، والتي بات يناقشها الممثلون الروس، من بين أمور أخرى، خلال المفاوضات مع الوفد الأوكراني.

– ثانياً، يقوم الجنود الروس بتنفيذ مهامهم بحذر وجدية وفاعلية، مع الحرص، وفقاً للأوامر، على تجنب وقوع إصابات بين المدنيين وتجنب الدمار، قدر الإمكان، عبر توجيه ضربات دقيقة، بينما لا تستثني القواتُ المسلحة الأوكرانية، ولا سيما المقاتلون من الجماعات القومية المتطرفة العاملة إلى جانبها، والتي تشبه أساليبُها تلك التي استخدمها الفاشيون الألمان خلال الحرب العالمية الثانية، لا تستثني لا المدن ولا سكانها. فهي تقاتل متمركزة في الأبنية السكنية، ولا تسمح للسكان بالخروج منها، مستخدمة إياهم كدروع بشرية، وتمنعهم من استخدام الممرات الإنسانية التي أنشأها الجيش الروسي، حتى أن قيادة هذه القوات نفسها لم ترحمها، وتركتها أمام مصير محكوم عليها بالهلاك من دون أن تهتم بخلاصها أو إنقاذها.

لقد تسبب تعرض الأسرى العسكريين الروس للتعذيب والتنكيل من قبل النازيين الأوكرانيين بسخط جماعي. وهذه الأعمال موثقة بتسجيل فيديو مصور. بيد أن الخسائر التي تكبدها الجيش الروسي، سواء بالأفراد (وفقاً لوزارة الدفاع في الاتحاد الروسي، 1351 قتيلاً و3825 جريحاً) أو في المعدات، ليست كبيرة بالنسبة لقوات قوامها 120 ألف جندي. فهي، وخلافاً للقوات الأوكرانية، يمكن تجديدها بسهولة، نظراً لوجود احتياطيات كبيرة لدى روسيا لم يتم استخدامها بعد.

– ثالثاً، يسمح استكمال المرحلة الأولى من العملية الخاصة، وفقاً للخبراء العسكريين، وكما قال رودسكوي، بتركيز الجهود الرئيسية على تحقيق الهدف الرئيسي، ألا وهو تحرير الدونباس. في المرحلة الثانية للعملية، سيصل الجيش الروسي وقوات الدونباس إلى الحدود الإدارية التاريخية لمقاطعتي دونيتسك ولوغانسك. وبعد تحرير ماريوبول، سيتم فتح طريق بري مباشر من الدونباس إلى شبه جزيرة القرم، حيث سيتم عبره نقل الشحنات العسكرية والمدنية وحركة الركاب. فكما يستنتج الخبير العسكري يفغيني لينين، أنه ونظراً لأن بحر آزوف سيصبح بحراً داخلياً بالنسبة لروسيا، لم يعد بإمكان الأوكرانيين الوصول إلى هذه المنطقة، لا عن طريق البر ولا عن طريق البحر.

– رابعاً، قررت وزارة الدفاع الروسية، كما قال نائب وزير الدفاع في الاتحاد الروسي ألكسندر فومين، «تقليص النشاط العسكري في اتجاهي كييف وتشرنيغوف بشكل جذري». وقد تم القيام بذلك بهدف تعزيز الثقة المتبادلة، وهي أمر ضروري لتهيئة الظروف اللازمة لمواصلة المفاوضات وتحقيق الهدف النهائي المتمثل في التوقيع على معاهدة بشأن الوضع الحيادي وغير النووي لأوكرانيا، وكذلك بشأن توفير الضمانات الأمنية لها.

بالتأكيد، بحلول وقت نشر هذا المقال، ستظهر معلومات إضافية حول النتائج الأولية للمفاوضات (على الأقل حول هذه المسألة) بين الوفدين التي عقدت في إسطنبول في 29 و30 مارس (آذار). بمعنى آخر، لن يكون هناك اقتحام لكييف وبعض المدن الكبيرة الأخرى، التي، على ما يبدو، لم تكن جزءاً من مهام الجيش الروسي. وتعليقاً على القرار، أشار الخبير المذكور أعلاه إلى أن القوات الروسية توجهت إلى هذه المدن فقط من أجل «تحويل اهتمام قوات وموارد الجانب الأوكراني إلى الدفاع عن هذه المدن». لقد تم تحقيق ذلك بالفعل، حيث تم تركيز الكثير من القوات هناك للدفاع عن المدن الكبيرة، وتم دفع المعدات العسكرية إليها. وتركزت مجموعات كبيرة بما فيه الكفاية من القوات المسلحة الأوكرانية في هذه المدن للدفاع عنها. إذ نرى بالفعل أن القوات المسلحة الأوكرانية حشدت معدات عسكرية وعدداً كبيراً من الأفراد في هذه المدن.

هل من الممكن توقع بداية مرحلة ثالثة من العملية الخاصة؟ لم أكن لأقوم بهذا التوقع، فهو برأيي عمل سابق لأوانه. ومع ذلك، سأشير مرة أخرى إلى رأي الخبير العسكري يفغيني لينين، الذي تطرق إلى المهام المحتملة للعملية العسكرية، حيث يقول إن «القوات الروسية، بعد الانتهاء بنجاح من المرحلة الثانية (وهو أمر لا شك فيه)، من المرجح أن تعيد تجميع صفوفها، وعلى الأرجح (سيكون هناك قطع على طول الحدود مع مولدوفا. وسيتم فصل نيكولاييف وأوديسا عن غرب أوكرانيا، وسيمر الجيش الروسي على طول الضفة اليمنى لنهر دنيبر. والختام سيكون في استكمال العملية في الجزء الغربي من أوكرانيا. وربما ستكون بولندا موجودة هناك من أجل ما يسمى حماية الأراضي المتبقية من أوكرانيا، وسترسل قواتها إلى لفوف. والمجريون بدورهم سيكونون في منطقة الكاربات لحماية المواطنين الذين حصلوا على جوازات سفر جمهورية المجر. وهنا ستنتهي أوكرانيا)». أعتقد أن هذا الجزء الأخير من توقعات الخبير هو ضرب من الخيال.

الأهم من ذلك بكثير هو التكهن بمهمة أخرى للخطة الروسية، ألا وهي ما يسمى «اجتثاث النازية من أوكرانيا». ويبدو أن تنفيذ هذه المهمة سيواجه صعوبات كبيرة، لأن آيديولوجيا القوميين الراديكاليين كانت قد سممت عقول الأوكرانيين طوال فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي بأكمله، ولا سيما في السنوات الثماني الماضية. ولا يسعني هنا إلا أن أقارن هذا بالأفكار السامة لتنظيم «داعش»، المحظور في روسيا تماماً، مثل تنظيم «القطاع الأيمن» و«آزوف» والجماعات النازية الأخرى في أوكرانيا. ومن المستحيل التغلب على هذه الأفكار باستخدام أساليب القوة وحدها. بيد أن هذا الموضوع تجدر مناقشته بشكل منفصل في المستقبل.

– خاص بـ«الشرق الأوسط»

————————–

بوتين نمر من ورق في أوكرانيا/ جويس كرم

37 يوما من القصف والتدمير والترهيب والتهجير ولم تفلح قوات فلاديمير بوتين في السيطرة على مدينة أوكرانية واحدة، وها هي تتراجع في محيط العاصمة كييف وترحل من تشيرنوبل وتفشل في الإمساك بخيرسون وماريوبول وغيرها.

روسيا التي استعرضت عضلاتها في سوريا لأعوام ويزعم الخبراء أنها الجيش الثاني الأكثر قوة في العالم تغرق في وحول أوكرانيا، فيما يحاول بوتين من خلف الشاشة الظهور بقوة القيصر والتهويل بحلم “روسيا الأم”، فيما أمهات روسيا يسألن عن جثث أبنائهم.

بوتين قبل 24 فبراير كان العملاق الاستراتيجي والقيادي الفذ الذي ملأت صوره عواصما عربية وأشبعته بعض القيادات الإقليمية إعجابا وغزلا وألعاب نارية. كانت هذه القيادات تقول ليس من فترة بعيدة إن بوتين هو القوي والصلب خصوصا أمام جو بايدن، الذي سخر منه البعض وتهكموا من تلعثمه بالكلام وتراجع شعبيته.

بوتين بعد فبراير 24، هو قبطان سفينة تغرق في عاصفة اختارت الإبحار باتجاهها وهي غير قادرة على الخروج منها. أوكرانيا كسرت هيبة روسيا وحجمت بوتين سياسيا وعسكريا واقتصاديا إلى مستوى يضعه اليوم مع قيادات هدمت دولها واشتمت رائحة النجاح واختارت الفشل.

ساحة المعركة تضع عدد الضحايا في صفوف الروس فوق الـ15 ألف في شهر وأسبوع، وهو رقم يقارب 3 أضعاف الضحايا الأميركيين في حربي العراق وأفغانستان وعلى مدى عقدين من الزمن. فأين هو الذكاء الاستراتيجي الذي زعمه البعض لدى بوتين؟ أين القوة الروسية والآلة الروسية العسكرية التي تحترق في شوارع ماريوبول وشارفت على الاستسلام في كييف؟

حتى في إقليم الدونباس التي تقول روسيا إنها ستركز عليه في شرق أوكرانيا فهي غير قادرة على السيطرة عليه بالكامل، علما بأنها موجودة فيه قبل الحرب. فهل أخطأت الاستخبارات الروسية إلى هذا الحد في قراءة الساحة الأوكرانية؟

هناك عدة عوامل اليوم أمام تراجع روسيا، الأول فشل استخباراتها في رصد تحضيرات أوكرانيا الدفاعية، وثانيا فشل جيشها في التحضير للحرب. إنما أهم من كل ذلك، فإن نجاح الغرب وخصوصا بايدن في خلط الأوراق الدفاعية لكييف ورص صفوف الناتو لم يكن في حسبان بوتين. فالتفوق الاستخباراتي والتكنولوجي للغرب أفشل خطط بوتين، حتى قبل دخوله الحرب بتسريب خططه، والتجسس على شبكات اتصاله ومنح أوكرانيا الأدوات لضرب هذه الشبكات في ميدان الحرب.

من هنا مقاربة أوكرانيا بسوريا هي مقاربة خاطئة، لأن أوروبا التفت حول أوكرانيا بمعاقبة روسيا واستقبال اللاجئين فيما الصورة اختلفت كثيرا في دول الشرق الأوسط وطريقة التعاطي مع سوريا. كما جاء إمداد كييف بسلاح متطور ليختلف تماما عن جهوزية المعارضة السورية. أيضا، يجب إعادة النظر الى القوة الروسية في سوريا، فهل هي موسكو التي حسمت الحرب لصالح الأسد أم هل هي إيران ومعها حزب الله؟

أوكرانيا هي مفصل استراتيجي في التاريخ الحديث بتحجيمها لروسيا وتكسير طموحات بوتين وهيبته الدولية، وهي درس أكبر في حشد تحالف ليبرالي وديمقراطي ضد نظام سلطوي منعزل يخيف جنرالاته انما غير قادر على إخافة الأوكرانيين. حرب أوكرانيا غيرت المشهد الجيوسياسي الدولي في خمسة أسابيع دموية، وصورة بوتين القائد على الحصان باتت شيئا من الخرافة أمام دبابات الأرماتة المشتعلة في خاركيف، وطائرات السوخوي المدمرة في أربين. ونحن ما زلنا في أول الحرب..

كاتبة وصحافية مقيمة في واشنطن

الحرة


أوكرانيا وروسيا.. حرب الذاكرة والكتاب والصورة/ بشير البكر
بدأ التراشق الثقافي بين روسيا وأوكرانيا منذ عقدين، خلال فترة حكم الرئيس الأوكراني، فيكتور يوشتشينكو (2005 ـ 2010)، والذي أثار موضوع الإبادة الأوكرانية المعروفة باسم “هولودومور”، أو القتل بالتجويع، التي تعرض لها الأوكرانيون أيام حكم جوزيف ستالين (1932 ـ 1933)، حيث تشير التقديرات إلى أن ما بين 2.2 و 3.5 مليون أوكراني قد ماتوا في هذه المجاعة، والبعض يطرح أرقامًا أعلى من ذلك بكثير، وأصدرت وزارة الخارجية الروسية ستة آلاف وثيقة تنفي فيها المجاعة، وعدتها “نتيجة سياسة ستالين الإجرامية” ضد الفلاحين، وليس ضد أي مجموعة عرقية معينة. وتحاشى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من أن يتحول الدفاع عن روسيا إلى إعادة اعتبار للستالينية، وجرى التوجيه بنشر الأسطورة القائلة بأن النخب هم الذين عانوا أكثر من غيرهم من عمليات التطهير التي قام بها ستالين.
وجاء موقف يوشتشينكو في إطار الفهم المتزايد لأوكرانيا ككيان سياسي متعدد الثقافات، والتقدير للثقافة الأوكرانية كأداة للقوة الناعمة، ومن باب الرد على النظرة الدونية للثقافة الأوكرانية باعتبارها ضيقة الأفق وقديمة وريفية، بالنسبة للثقافة الروسية التي يجري تقديمها على أنها عالمية وحديثة وحضرية. وتوصلت بعض الشخصيات الثقافية، مثل الروائي الأوكراني الشهير أندريه كوركوف، الذي يكتب باللغة الروسية، إلى فكرة أن “أوكرانيا يجب أن تمتلك ثقافتها الناطقة باللغة الروسية، والتي تختلف عن العالم الثقافي للاتحاد الروسي”، وحتى لإنشاء معهد لدراسة اللغة الروسية الأوكرانية.
ومن يتأمل المشهد جيدًا يجد أن التاريخ والذاكرة الجماعية أصبحا مصدرًا مهمًا لشرعية النخب السياسية الأوكرانية في فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي. ورأى هؤلاء أن بناء وترسيخ هوية وطنية جديدة هدفهم الأساسي، ونشأت حرب ثقافية جديدة منذ عقدين حول قضايا مثل حصص المحتوى باللغة الروسية في وسائل الإعلام الأوكرانية، والقيود المفروضة على استيراد الكتب الروسية، وحظر الشبكات الاجتماعية الروسية، وجولات الفنانين الأوكرانيين في روسيا، وعروض الفنانين الروس في أوكرانيا. ولم يكن رد الفعل الأوكراني على الصراع من جانب واحد، فقد تم إغلاق المكتبة الأوكرانية الوحيدة في موسكو، على سبيل المثال، واعتقال مديرها بتهمة التطرف.
قبل ذلك، لم يتعرض الأوكرانيون للقمع، أو التمييز الثقافي، من قبل النظام السوفياتي، وتم استيعابهم في الثقافة الروسية؛ ولم يعاملوا أبدًا على أنهم “آخرون”، بل شاركوا بنشاط في بناء الإمبراطورية الروسية، ثم السوفياتية. ومن هذا المنظور للغة والثقافة الروسية مكانة شرعية في أوكرانيا ما بعد الاتحاد السوفياتي، ولكن ذلك انتهى بين يوم وليلة، وقرر القادة الأوكرانيون الجدد طي هذه الصفحة، والعمل في اتجاهين، الأول هو فك كل ارتباط بالثقافة الروسية، والثاني هو بناء شخصية وطنية ثقافية أوكرانية تكون ملهمة سياسيًا، ومغذية لنزعة الانفصال عن روسيا. وهذه المفاهيم يجري العمل بها منذ عام 2019.
كان لضم روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، ودعمها للانفصاليين في شرق أوكرانيا في إقليم دونباس، وتدخلها العسكري هناك، تأثير ضار على جميع جوانب العلاقات الأوكرانية- الروسية، ومنها الثقافة، واتخذت حكومة كييف جملة من إجراءات المقاطعة الثقافية التي لقيت دعمًا كبيرًا بين الأوكرانيين. وفي الواقع، جاءت المبادرة، والضغط القوي، في كثير من الأحيان، من المجتمع المدني. ومنذ ذلك الوقت، ارتفع منسوب النزاع​​ على قضايا الثقافة والذاكرة التاريخية والهوية، وبات هو الاتجاه السائد الجديد في أوكرانيا ردًا على ما يسمى بـ”العدوان الهجين” الروسي، والذي تضمن دعم القوى الراديكالية المعادية لأوكرانيا، والتحريض على الصراع الداخلي، واستخدام الأخبار المزيفة، ونظريات المؤامرة، واستغلال السرديات والرموز التاريخية في التعبئة المؤيدة لروسيا. وأصبحت وسائل الإعلام أداة للدعاية، وصار يجري النظر إلى الثقافة الجماهيرية الروسية على أنها سلاح في حرب مختلطة، وفي كانون الثاني/ يناير 2015، أعلن البرلمان الأوكراني روسيا “دولة معتدية”، وهي صيغة مستخدمة في التشريع الجديد، وتهدف إلى تقييد وصول المنتجات الثقافية الروسية إلى السوق الأوكرانية، وكانت الكتب والإنتاج التلفزيوني والسينمائي في طليعة الضحايا، ثم تطور الأمر ليشمل الفنانين والكتاب الروس الذين تعرضوا للمنع من إقامة حفلات، أو المشاركة في منتديات، أو معارض كتب في أوكرانيا.
وتحوّلت الكتب الروسية إلى قضية سياسية ساخنة في صيف 2014، عندما أعلن منظمو معرض الكتاب الأقدم والأكثر شهرة في أوكرانيا، منتدى الكتاب في مدينة “لفيف”، جنبًا إلى جنب مع المبادرة المدنية حركة المقاطعة الاقتصادية، أن الناشرين الروس غير مرحب بهم في هذه المدينة الواقعة في الغرب، والقريبة من الحدود البولندية، وجرى ربط ذلك باستمرار المواجهة في دونباس. وبرر مجلس بلدية المدينة قراره بمقاطعة الناشرين الروس طالما استمرت الحرب ضد أوكرانيا. وجرى التعامل مع الكتاب مثل أي سلعة أخرى، وشراء السلع المنتجة في روسيا يعني تمويل قتل الأوكرانيين، واحتلال الأراضي الأوكرانية. أثار الأمر انقسامًا بين الكتاب الأوكرانيين المشهورين، ومنهم من برر مقاطعة الكتب الروسية بكون “دور النشر في روسيا اليوم هي مؤسسات دعاية، وبالتالي فهي “جيش خفي” لحرب المعلومات، كما كانت الحال في ظل الاتحاد السوفياتي”. وانتقد آخرون المقاطعة، ودافعوا عن نهج أكثر انتقائية، مثل حظر الكتب ذات المحتوى المعادي لأوكرانيا فقط. ونتيجة للحملة، لم يشارك الناشرون الروس في معرض الكتاب.
وبعد عام واحد، في تموز/ يوليو 2015، انضمت الدولة الأوكرانية إلى “حرب الكتاب”، وقامت بمنع 38 كتابًا روسيًا بمحتوى مناهض لأوكرانيا في “قائمة السلع المحظورة من الدخول” رسميًا إلى المنطقة الجمركية لأوكرانيا. تم تبرير القرار من خلال “ضرورة منع استخدام الاتحاد الروسي لحرب المعلومات وأساليب التضليل ضد المواطنين الأوكرانيين، ونشر أيديولوجية الكراهية والفاشية وكراهية الأجانب والنزعة الانفصالية”، عند القوميين الروس، مثل: ألكسندر دوغين، وإدوارد ليمونوف، وسيرجي غلازييف. وفي حين تم الترحيب بالقرار في أوكرانيا كإجراء طال انتظاره، حذر بعض نشطاء حقوق الإنسان من أن هذا قد يكون الخطوة الأولى نحو الرقابة.
وفي كانون الأول/ ديسمبر 2016، اعتمد البرلمان الأوكراني قانونًا “بشأن دخول المطبوعات الأجنبية ذات المحتوى المناهض لأوكرانيا إلى السوق الأوكرانية”. وينص القانون، الذي دخل حيز التنفيذ في كانون الثاني/ يناير 2017، على “الحصول على إذن لاستيراد الكتب من روسيا والأراضي المحتلة مؤقتًا في أوكرانيا”. والأمر ذاته في ما يخص منح التصاريح من قبل لجنة الدولة للبث التلفزيوني والإذاعي، بعد تقييم المحتوى من قبل “مجلس الخبراء” الذي تم إنشاؤه خصيصًا لهذا الغرض. وهكذا أصبح توزيع الكتب الروسية من دون إذن جريمة بموجب القانون المدني يعاقب عليها بغرامات. ومع ذلك، يحق للمواطنين العاديين إحضار ما يصل إلى عشرة كتب روسية إلى أوكرانيا من دون إذن خاص. بالإضافة إلى ذلك، حظر القانون “الترويج والدعاية للدولة المعتدية” (أي روسيا) في وسائل الإعلام المطبوعة.
أما المواد التلفزيونية والموسيقية والفنية الروسية فتعرضت للمقاطعة الأولى في ربيع 2014، وأعلنت بعض دور السينما في كييف، ولفيف، وأوديسا، أنها ستمتنع مؤقتًا عن عرض الأفلام الروسية. وبعد هزيمة الجيش الأوكراني في دونباس، تم إطلاق حملة مقاطعة الأفلام الروسية، التي بدأها نشطاء نظموا حشودًا سريعة، وعروضًا مسرحية في الشوارع، وأعمالًا احتجاجية أمام المكاتب الحكومية ودور السينما التي تعرض أفلامًا روسية. وشرع النشطاء أيضًا في مراقبة محتوى القنوات التلفزيونية الأوكرانية، وبعد ذلك تم فرض القيود على الفنانين الروس الذين يتجولون في أوكرانيا. وأثرت هذه الإجراءات على الممثلين، وصناع الأفلام، ومغنيي البوب،​​ والموسيقيين، الذين أيدوا ضم شبه جزيرة القرم، أو أدلوا بتصريحات مناهضة لأوكرانيا. وما بين آب/ أغسطس 2014، وتشرين الأول/ أكتوبر 2018، تم حظر حوالي 780 فيلمًا ومسلسلًا روسيًا.
كان يمكن للمرء أن يتوقع أن فوز فولوديمير زيلينسكي وحزبه “خادم الشعب” (سلوها نارودو) في كل من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية سيحدث تغييرًا في السياسة الثقافية لأوكرانيا، في ما يتعلق بالقيود المفروضة على الثقافة الروسية، وذلك لأنه كان فاعلًا وممثلًا ناجحًا ذائع الصيت في البلدان الناطقة بالروسية، وكانت شركته الترفيهية Kvartal 95 Studio تحقق أرباحًا في روسيا، ولكن القيود المفروضة على الثقافة الجماهيرية الروسية بقيت سارية حتى اليوم!

ضفة ثالثة


مشاهير كتاب روسيا ومثقفيها يهاجرون/ بسام مقداد
موجة الهجرة الأخيرة من روسيا ليست الوحيدة في تاريخ روسيا، بل سبقتها موجات هجرة أو تهجير قسري منذ عهد القيصر “إيفان الرهيب” في القرون الوسطى. وافترضت الBBC في العام 2012 أن عدد الذين هاجروا من روسيا خلال المئة عام الأخيرة تراوح بين 4,5 – 5 مليون روسي. وقالت أن موجات الهجرات الروسية خلال 500 عام يمكن إيجاز أسبابها بتعبيرين وردا في الرسائل التي كان يتبادلها أحد النبلاء الروس المهاجرين مع “إيفان الرهيب”: “مثل الشيطان الذي يتخيل نفسه إلهاً” و “نحن أحرار في رحمة أقناننا، كما وإعدامهم بالجملة”. وتميز ال BBC بين 5 موجات من الهجرات الروسية منذ العام 1917 حتى ذلك التاريخ، تختلف في ما بينها ليس بالوقت فقط، بل بطبيعة كل منها ودوافعها وحجمها وسوى ذلك.

ما يمكن أن نسميه الموجة الخامسة من الهجرة الروسية إستمرت منذ تسعينات القرن المنصرم حتى الحرب على أوكرانيا. الهجرة الأخيرة التي أعقبت الحرب على أوكرانيا، تتشارك مع الهجرات السابقة في الفرار من عسف قاطني الكرملين، لكنها تختلف عن سابقاتها، وقد تكون للمرة الأولى، في أن سببها الرئيسي هو الإحتجاج على هذه الحرب والوقوف الصريح ضدها. وتضم الهجرة الأخيرة بين صفوفها مشاهير الكتاب والموسيقيين والفنانين والنخب المتنورة، من نجمة الغناء الروسية الأبرز آللا بوغاتشوغا حتى نائب رئيس الحكومة الروسية غير مرة أناتولي تشوبايس. آخر المشاهير الذين أُعلن في31 الشهر المنصرم عن هجرتهم كانت مقدمة البرنامج الطبي الأشهر على القناة الأولى الرسمية للتلفزة الروسية يلينا ماليشف، والتي لم يكن أحد ليتوقع هجرتها، هي التي لم يرتفع صوتها مرة إحتجاجاً على عسف الكرملين. وعلق أحد المواقع الأوكرانية على نبأ هجرنها وإقامتها في الولايات المتحدة بالقول “ومن سيعلم الروس الآن قضاء حاجتهم بالشكل الصحيح”.

بين أشهر الكتاب الروس الذين غادروا روسيا كانت الكاتبة لودميلا أوليتسكايا الحائزة على 18 جائزة أدبية روسية وعالمية، من بينها جوائز أدبية فرنسية وجائزة الدولة النمساوية للأدب الأوروبي. وكان آخرها جائزة “الدفاع عن حقوق الإنسان بالوسائل الثقافية والفنية” العام 2021 من مجموعة موسكوــــــ هلسنكي. في مقابلة مع الإعلامية المستقلة كاترينا غاردييفا، بعد يومين من وصولها إلى ألمانيا عن طريق دبي وإسرائيل، قالت الكاتبة بأنه منذ 80 عاماً لم تندلع حرب كبرى كالتي نشهدها الآن، وكل الحروب التي خاضها بوتين في الشيشان وجورجيا وأوكرانيا 2014 كانت حروباً صغيرة، لم تتميز بالدموية كالحرب الحالية. وترى أن كل حرب محكومة بالهزيمة، وتضرب مثالاً على ذلك روسيا التي إنتصرت على ألمانيا العام 1945، وقالت لنقارن الآن بين ألمانيا المزدهرة المتطورة وبين روسيا المتخلفة المعزولة عن العالم. وتقول بأن الإنتصار في الحرب لا يتوقف على النصر العسكري فقط، وهو ما يمكن ان يحققه بوتين على أوكرانيا اليوم ولو بعد حين، لكن النصر يفترض جهوزية المنتصر لإستثمار نصره في إعمار بلده وتطويره. وتقول بأن بوتين “المنتصر المفترض” يقترب أكثر فأكثر من المرحلة التي لا يعود يتحدث معه أحد في العالم.

موقع الخدمة الروسية في ال BBC، وفي نص بعنوان “الشخصيات الثقافية تغادر إحتجاجاً على الحرب مع أوكرانيا”، نقل عن نجمة رقص الباليه في ” مسرح بولشوي ” أولغا سميرنوفا” قولها بأنها لم تفكر يوماً بأنها سوف تخجل بروسيا. وتضيف النجمة بأنها كانت دوماً تفتخر بالموهوبين الروس، بالمنجزات الروسية الثقافية والرياضية. لكنها تشعر الآن بأنه قد وُضع خط يفصل بين ما قبل وما بعد. من المؤلم أن الناس يموتون، يفقدون السقف فوق رؤوسهم أو يضطرون لترك منازلهم، “بكل ذرة من روحي أنا ضد الحرب”. ويشار إلى أن نجمة الباليه الروسية إنتقلت للرقص في الباليه الوطنية الهولندية، ولم يشر الموقع ما إن كانت ستعود إلى روسيا، كما يعلن كثيرون غيرها، أم ستبقى في هولندا.

وينقل الموقع عن مغني موسيقى الراب قوله أنه بسبب غزو روسيا لأوكرانيا غادر روسيا نهائياً ولن يعود إليها. وقدم المغني إعتذاره “إلى كل الشعب الأوكراني على ما سببه بلدنا لكم من معاناة”. وقال بأنه طُرد مع المقربين منه “من بيتنا، من أرضنا، طردتنا دولتنا التي، منذ هذه اللحظة، أرفض أن أعتبرها دولتي”.

ناقد مسرحي يقول، حسب الموقع، “إن حياة كل إنسان يعيش في روسيا، يتكلم الروسية أو على علاقة ما بالثقافة الروسية، قد تغيرت دون رجعة”. وتنقل BBC عن موقع الناقد في “تلغرام كانال” قوله بأنه غادر روسيا لأسباب عديدة، مع أن السبب في الحقيقة واحد هو”الحرب المجرمة في أوكرانيا” التي أشعلتها قيادة الإتحاد الروسي. ليس من الممكن العيش في بلد، “حتى لو كان بلدي الحبيب” يكمّون فيه الأفواه، خاصة بالنسبة لشخص مثلي، الكلمة هي أداته الوحيدة.

ينقل الموقع عن مخرج مسرحي، من دون أن يشير إن كان غادر أم لا، قوله ” سلطات روسيا تشن حرباً وحشية مجرمة في أوكرانيا”. نشر المخرج على موقعه الرسمي رسالة إلى كل المسارح الحكومية الروسية قال فيها أن النسبة المئوية التي يحصل عليها من مبيع بطاقات الدخول سوف يحوّلها إلى صندوق دعم أوكرانيا، لكن للآهداف الإنسانية فقط.

مخرج سينمائي قال الموقع أنه غادر روسيا مطلع الشهر المنصرم، ونقل عنه قوله في إنستغرام بأنه يغادر روسيا مع الأسف الشديد. وأضاف المخرج “نحن مدمّرون. في لحظة إنتزعوا منا مستقبلنا، إنتزعوا حياتنا، إنتزعوا منا أهلنا وأصدقاءنا، شيئ واحد لم يتمكنوا من إنتزاعه منا هو السينما. قلوبنا مع أوكرانيا وسكان روسيا الذين يقفون ضد هذا الكابوس”.

تشديد القبضة البوليسية في روسيا، والتي بلغت أقصاها مع الحرب على أوكرانيا، كانت السبب في مغادرة الكتاب ومشاهير الفنانين والموسيقيين والنخب الروسية. يقول موقع News.ru أواخر كانون الثاني/يناير المنصرم بأن أكثر من 1500 من مشاهير النخب الروسية غادروا البلاد في العام 2021. ويشير إلى أن الكاتب والشاعر والسيناريست الروسي فيكتور شندروفيتش أدرجته السلطات أواخر السنة الماضية في قائمة العار ك”عميل أجنبي”. وفي مطلع السنة الحالية غادر الكاتب روسيا، بعد أن رفع ضده يفغيني بريغوجين المعروف ب”طباخ بوتين” ويشرف على مرتزقة الكرملين “فاغنر” دعوى في المحكمة بتهمة “القدح والذم”. ويشير الموقع إلى أن الكاتب تحدث عبر أثير إذاعة “صدى موسكو” ( توقفت عن العمل الشهر المنصرم) عن علاقة بريغوجين المحتملة مع “فاغنر”، مما حمل السلطات على تبليغه تحذيراً جعل محاميه ينصحوه بالمغادرة. وينقل عن الكاتب قوله من بولونيا بانه “طالما بريغوجين هذا هو نخبة هنا(في روسيا)، فسوف أستمر في القيام بمهمة عميل أجنبي بعيداً عن الوطن، إنما من دون كمّامة الكلب. هكذا سيكون الأمر أفضل بالنسبة لي وأكثر متعة لكم”.

يقول الموقع بأن صحافيين، موسيقيين، مدونين وكتاب يعلنون كل سنة عن مغادرتهم روسيا لأسباب مختلفة. ويشير إلى كاتب روسي غادر روسيا في العام 2014 ويقيم مع زوجته في لندن، ويؤكد بأنه لن يعود إلى روسيا إلا بعد أن تتغير السلطة.

أما كيف ترد السلطة الروسية على المعترضين على حربها وهجرتهم، فقد إنطلق أواسط الشهر المنصرم موقع إلكتروني “الخونة” ينشر أسماء وصور الفنانين “خونة روسيا” الذين يعارضون “العملية الخاصة” في اوكرانيا، ويذيل كل صورة بوصم صاحبها إما “خائن” أو “عدو”


=======================

تحديث 08 نيسان 2022

——————————

كيسنجر وأوكرانيا: وصفة سحر منقلب على الساحر/ صبحي حديدي

في آذار (مارس) 2014، ضمن مقالة نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» وتُستعاد اليوم على نطاق واسع، اقترح وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر النقاط الأربع التالية على سبيل معالجة حال أوكرانيا، التي تأزمت يومذاك رغم أنها لم تبلغ شأو تدخل عسكري روسي، وتداعيات أمريكية وأوروبية وأطلسية ودولية تعيد ترجيع أصداء الحرب الباردة:

1 ــ يتوجب ان تمتلك أوكرانيا الحقّ في الاختيار الحرّ لارتباطاتها الاقتصادية والسياسية، بما في ذلك التوجّه نحو أوروبا.

2 ــ لا يتوجب على أوكرانيا الانضمام إلى الحلف الأطلسي.

3 ــ يتوجب أن تكون أوكرانيا حرّة في اعتماد أية حكومة متطابقة مع الإرادة الحرّة للشعب، وعلى الحكماء من ساسة أوكرانيا أن يجنحوا إلى سياسة مصالحة مع مختلف الأجزاء في بلدهم. وعلى صعيد دولي يتوجب أن يقتفوا مساراً يمكن مقارنته مع فنلندا، فذاك البلد لا يترك مجالاً للشكّ في استقلاليته القوية لكنه يتعاون مع الغرب في معظم الميادين ويتفادى بعناية أي عداء تأسيسي مع روسيا.

4 ــ ليس متطابقاً مع النظام الدولي الراهن أن تلجأ روسيا إلى ضمّ القرم، لكن من الممكن إقامة علاقات القرم مع أوكرانيا على أساس أقلّ شحناً، ولهذا يتوجب على روسيا الاعتراف بسيادة أوكرانيا على القرم، وأن تعزز أوكرانيا استقلال القرم الذاتي عبر انتخابات تُجرى تحت إشراف مراقبين دوليين. وعلى السيرورة أن تزيل أي اعتبارات غامضة تتعلق بأسطول البحر الأسود في سيفاستوبول.

ورغم أنّ «حكيم» الدبلوماسية الأمريكية المزمن، بمعنى الإدمان الواسع على استشارة ما يجود به من «حكمة» بين أزمة دولية وأخرى، لم يصنّف مقترحاته تلك تحت بند «الوصفة»، بقدر ما اعتبرها «مبادئ» ليس أكثر؛ فإنّ الاجتياح العسكري الروسي الراهن في أوكرانيا أغوى الكثيرين، من المشتغلين بالسياسة، أسوة بالمعلّقين عليها والمحللين لظواهرها، بإحيائها مجدداً على سبيل اعتبارها… وصفة، بالضبط، وسحرية أيضاً! والقليل من هؤلاء يذهب بالإغواء خطوة تالية أبعد، واحدة وحيدة ربما، تتساءل ببساطة: إذا كانت لم تنجح يومذاك في علاج تأزّم لم تصعّده موسكو إلى سوية المواجهة العسكرية والغزو، فلماذا يُنتظر منها أن تنجح اليوم في سياق الاجتياح والحرب والضمّ والإلحاق والمجازر والخراب والتشريد؟ وأيضاً، إذا لم يكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أصغى إلى ذلك الجزء من الوصفة التي يوصي بعدم ضمّ القرم، فلماذا سوف يصغي اليوم بعد أن أضاف إلى شبه الجزيرة أجزاء كاملة انفصالية من أوكرانيا في دونتسك ولوغانسك وسواهما؟

هذا على الصفّ الذي يواصل الإيمان الشديد بفضائل الحكمة الكيسنجرية، ويرفع عقيرة بأعلى الصخب تقول إنّ وصفة الرجل، أحببتموه أم كرهتموه، هي الأصحّ والأفضل اقتراباً من معنى الدبلوماسية الحديثة، والأقرب إلى التطبيق من النواحي العملية. أمّا على صفوف أخرى، لأنها في الواقع ليست صفاً واحداً قابلاً للتوحيد أو الاختزال، فإنّ كيسنجر قد يكون أحد أكثر قرّاء التاريخ الدبلوماسي حصافة بمصطلح الواقعية السياسية الذرائعية على وجه التحديد، لكنه قد يكون الأبرع على الإطلاق في تسخير ما يتعلّم من التاريخ ويعلّم من دروسه بهدف اعتناق التأويلات الأسوأ لقضايا الشعوب، وتقديم الخدمات الأنفع للسياسات الأمريكية الإمبريالية وخاصة منها الغزو والإخضاع والهيمنة.

لندعْ جانباً، ولأغراض الاختصار فقط، سجلّ كيسنجر الملطّخ بالدماء والانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية، فنقتصر على «الخدمات» التي قدّمها في الشرق الأوسط:

ــ نصح دولة الاحتلال الإسرائيلي بسحق انتفاضة 1987 «على نحو وحشيّ وشامل وخاطف»، وهذه كلمات كيسنجر الحرفية التي سرّبها عامداً جوليوس بيرمان الرئيس الأسبق للمنظمات اليهودية الأمريكية؛

ــ الموقف «التشريحي» المأثور من الاحتلال العراقي للكويت، ودعوة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب إلى تنفيذ ضربات «جراحية» تصيب العمق الحضاري والاجتماعي والاقتصادي للعراق (البلد والشعب، قبل النظام وآلته العسكرية والسياسية)؛

ــ الدعوة العلنية، المأثورة تماماً بدورها، إلى «نزع أسنان العراق» دون تدمير قدرته على مقاومة أي غزو خارجي من جانب جيرانه المتلهفين على ذلك، في مقالة مدوّية بعنوان «جدول أعمال ما بعد الحرب»، نشرها بتاريخ 28/1/1991؛

ــ توبيخ فريق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين، لأنّ ما تعاقدوا عليه مع ياسر عرفات في أوسلو ثمّ في البيت الأبيض ليس سوى «إوالية» Mechanism متحرّكة ستفضي عاجلاً أم آجلاً إلى دولة فلسطينية (هي التي رفضها كيسنجر كيفما جاءت، وأينما قامت، واستوى لديه أن تتخلق من محض «إوالية» أو تنقلب الى أقلّ من بلدية)؛

ــ سخريته من بعض «الفتية الهواة» في البيت الأبيض ممّن يخلطون «البزنس» بالأخلاق، والتجارة بحقوق الإنسان (مثال الصين)، ولا يميّزون في حروب التبادل بين العصبوية الأورو ــ أمريكية وشرعة التقاسم الكوني لسوق شاسعة بقدر ماهي ضيقة (مواثيق الـ «غات» وأخواتها).

ليس صاحب هذا السجلّ هو الساحر الذي تصحّ استعادة وصفاته العتيقة، التي ثبت فشلها أو اتضحت عواقبها المعاكسة لمطامح أهالي القضايا أنفسهم، من فلسطين إلى العراق ومن تشيلي إلى أوكرانيا؛ بل هو «حكيم» السحر الذي ينقلب وبالاً على صانعه، خاصة حين يتعمّد الاتكاء على التاريخ بهدف أوّل وأعلى هو إساءة تفسير التاريخ، أو ليّ عنق المنطق التاريخي نحو التلفيقات تارة والأباطيل تارة أخرى. أو، في وجهة أخرى من المعادلة، ليس خطأ أن يلجأ المناهضون لـ»حكمة» كيسنجر إلى اختيار وصفة أخرى شهيرة، صاغها في مجلده الضخم «الدبلوماسية»، 1994؛ وسارت بعض أبرز بنودها هكذا:

1 ــ العالم الراهن يقتضي، أكثر من أي وقت مضى، امتلاك المعنى الأشدّ وضوحاً وبروداً ونفياً للعواطف بصدد مضمون وجدوى مفهوم المصلحة الوطنية (والكونية، لأنّ المصلحة الوطنية الأمريكية هي مصلحة البشرية، شاءت تلك البشرية أم أبت).

2 ــ ينبغي وضع أكبر قدر ممكن من علامات الاستفهام والريبة على أي ترتيبات متصلة بالأمن الجماعي، سيما تلك التي ترتكز جوهرياً على ذلك «الإجماع الصوفي الغامض» حول أخلاقية انتفاء القوّة (وبالتالي اللجوء إليها) في مختلف ميادين العلاقات الدولية.

3 ــ لا مناص من ترجيح (ثم صياغة وتطوير) التحالفات الصريحة القائمة على المصلحة المشتركة، وغضّ النظر عن التحالفات المقابلة، تلك التي تحوّل مقولات «السلام» و»الحرّية» إلى شعارات وشعائر زلقة ومطاطة وجوفاء. أعراف «القرية الإنسانية الكونية» ليست قابلة للصرف في سوق مزدحمة شرسة لا ترحم؛ وبالتالي، ينصح كيسنجر: أعيدوها إلى أفلاطون والأفلاطونيين!

4 ــ تأسيساً على ذلك، لا بدّ من إقرار الحقيقة القاسية التالية، واعتمادها: التنازع، وليس السلام، هو الأقنوم الطبيعي الذي ينظم العلاقات بين الشعوب والقوى والأفراد. «لا يوجد أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون، بل توجد مصالح دائمة فقط». كان اللورد بالمرستون (وزير خارجية بريطانيا خلال ثلاثينيات القرن الماضي) على حقّ حين اجترح هذه العبارة الذهبية. إنه على حقّ اليوم أيضاً، أكثر من أي وقت مضى.

وليس عجيباً أن يجد امرؤ أنّ بعض نصائح كيسنجر تتردد في سلوك بوتين أو رؤساء أمريكيين أمثال باراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن، سواء بسواء. وهذه السطور تقصدت اختصار «الحكمة» الكيسنجرية، ونقائضها، إلى بنود ونقاط، لأنّ التبويب هنا ينطوي في ذاته على حُسْن الإبلاغ ويُسْر التبيان؛ عدا عن كونها أقصر طريقاً إلى الحكمة الماركسية الشهيرة، عن تاريخ يعيد نفسه في صيغة مهزلة، بعد مأساة.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

—————————–

الحرب في أوكرانيا .. المرحلة الثانية/ بشير البكر

تهدف الولايات المتحدة من تزويد أوكرانيا بأسلحة جديدة إلى إطالة أمد الحرب وتحويلها إلى حرب استنزاف، نتيجتها في صالح أوكرانيا، وخسارة روسيا عسكريا وسياسيا. وهذا يشكّل، في هذه المرحلة، بديلا للتدخل المباشر، في وقتٍ يجعل تقدّم الحرب من الدفاع أكثر مرونة، ويفرض إدخال تعديلاتٍ على نمط القتال، حسب وزير الدفاع البريطاني بن والاس، الذي كشف، أمام مؤتمر المانحين العسكريين لأوكرانيا في لندن، الأسبوع الماضي، أنه بعد تغيير تكتيك الروس على الأرض، جرى بحث تغيير التكتيك وإضافة أسلحة جديدة لدعم الجيش الأوكراني. وقال إنه جرى الاتفاق على رفع مستوى الدعم العسكري، من خلال تقديم أسلحة فتاكة إضافية، وتزامن ذلك مع قرار واشنطن تزويد الجيش الأوكراني بأسلحةٍ جديدة أكثر تطوّرا من تلك التي تلقاها خلال المرحلة الماضية من عدة أطراف دولية، وكانت دفاعيةً ضد الدروع والطيران. ومن المقرّر أن يحصل الجيش الأوكراني من أميركا على صواريخ موجّهة بالليزر وطائرات مسيّرة ودبابات روسية الصنع. ووفقًا لموقع التحليل العسكري أوريكس، استولت أوكرانيا على 161 منها على الأقل من روسيا في ساحة المعركة. وتخطّط واشنطن أيضًا لشحن مائة نظام جوي تكتيكي بدون طيار، طائرات صغيرة بدون طيار، غالبًا ما يتم إطلاقها يدويًا، وتكون صغيرة بما يكفي لتناسب حقائب الظهر، ويمكن للجنود استخدامها لتوسيع نطاق ساحة المعركة، أو في بعض الحالات، للهجوم، بشكل أساسي لصنع قنابل طائرة يمكن توجيهها إلى الأهداف من مسافة بعيدة.

ومن الواضح أن هذه الأسلحة لغير نمط من القتال الذي دار حتى الآن، ولم تنجح فيه القوات الروسية باقتحام المدن التي حاصرتها. ولذلك قرّرت أن تمتصّ الصدمة الأولى، قبل أن تقوم بخطوة إلى الوراء، وتنتقل إلى المرحلة الثانية من الحرب، والتركيز على الشرق، وهذا ما يفسّر الانسحابات التي قامت بها في نهاية الأسبوع الماضي من محيط مدينة كييف تلاحقها اتهامات بارتكاب جرائم حرب، بعدما واجهت مقاومةً شرسةً فرضت عليها تغيير خططها التي أعلنت عنها موسكو في الرابع والعشرين من فبراير/ شباط الماضي. وبدلا من الاستيلاء على المدن الكبرى وإسقاط الحكومة وتنصيب حكومة موالية، قرّرت روسيا وضع ثقلها العسكري في حرب الاستيلاء على لوغانسك ودونيتسك، وهذا لا يعني أنها تلقت هزيمة نهائية في أوكرانيا، بل خسرت معركة، وهذا ما استدعى تغيير الخطة الأولى، ما فرض على الطرف الآخر اتباع الأسلوب نفسه، والانتقال إلى معارك جديدة تختلف عن تلك التي خاضتها القوات الأوكرانية، وسيكون عنوان المرحلة الجديدة تحرير الأراضي التي احتلتها روسيا في الشرق والجنوب، ومنعها من التمركز من أجل ضم الجمهوريتين الانفصاليتين.

ويبدو أن القتال سوف يشتد في المرحلة المقبلة، وتكون الخسائر أكبر من الطرفين. وبذلك يصبح هدف وقف إطلاق النار بعيدا في المدى المنظور، رغم أن أوساط بوتين تضرب موعدا لذلك بعد شهر، في التاسع من مايو/ أيار المقبل، الذي يصادف يوم استسلام ألمانيا ونهاية الحرب العالمية الثانية. إلا أن ما تطرحه واشنطن لوقف إطلاق النار ووضع نهاية للحرب هو أن تخرج روسيا ضعيفة من الحرب، وتتحمل كلفة إعادة إعمار أوكرانيا، وهذه نقطةٌ سبق أن أثارها الرئيس الأميركي جو بايدن، ولكنه لم يتوقف أمامها مطوّلا، ما يعني أنها على جدول الأعمال، وتنتظر اللحظة المناسبة، وهي تحضر في تصريحات المسؤولين الأميركيين. وقالت مساعدة وزير الخارجية فيكتوريا نولاند: “النهاية الوحيدة لهذه الحرب عندما يتعرّض بوتين إلى هزيمة استراتيجية”. وهذا يفرض على واشنطن وحلفائها الالتزام بمساعدة أوكرانيا في المرحلة الثانية من الحرب، وتقوية موقف الأوكرانيين في ساحة المعركة، وعلى طاولة المفاوضات، واستمرار تدفق المساعدات العسكرية والإنسانية والاقتصادية.

العربي الجديد

————————

روسوفوبيا وإسلاموفوبيا: هل «الغرب» قادرٌ فعلاً على تجاوز رُهابه؟/  سيمحمد سامي الكيال

تثير الأنباء عن تصاعد ما يسمى بـ«الروسوفوبيا» بعد الحرب الأوكرانية، كثيراً من الجدل. وتشكّل، إلى جانب ادعاءات القيادة الروسية عن حربها ضد النازية العائدة، جانباً مهماً من مبررات المواجهة التي تخوضها موسكو ضد «الغرب» عموماً. الخوف المرضي من كل ما هو روسي، حسب هذا المنظور، ليس طارئاً في الدول الغربية، بل يمكن رده إلى حقب مغرقة في القدم، ربما منذ انقسام المسيحية إلى كنيستين شرقية وغربية. ومن ثم الحملة الصليبية الرابعة بين عامي 1202 و1204، التي اجتاحت الدولة البيزنطية الأرثوذكسية. وبعدها بروز الإمبراطورية الروسية بوصفها وريثة بيزنطة، عقب سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين. ويضاف إلى هذه «الروسوفوبيا» ما يمكن تسميته «السوفيتوفوبيا» أي عداء كل ما يُذّكر بإرث الاتحاد السوفييتي، المٌصنّف غربياً، في أواخر الحرب الباردة، بوصفه «إمبراطورية الشر».

الحديث عن مثل هذا الرُهاب يجعل المشكلة بين روسيا والغرب نوعاً من تصفية الحسابات التاريخية والحضارية والدينية، أكثر من كونها مجرد صراع جيوستراتيجي بين دول كبرى. ويبدو شبيهاً بما يتم تداوله عن «الإسلاموفوبيا» بوصفها تكثيفاً لمشكلة غربية مع الحضارة الإسلامية عموماً. ما يدفع البعض للتساؤل عن قدرة الغرب على قبول الاختلاف الفعلي، ومدى ميله لإقصاء واستبعاد، وأحياناً تدمير وإبادة «الآخر».

إلا أن التركيز على الروسوفوبيا يبدو مبالغاً فيه لدرجة كبيرة، فباستثناء بعض الحوادث المحدودة، التي تبدو أنسب لإثارة اللغط على وسائل التواصل الاجتماعي، ما زالت الثقافة الروسية تحتل موقعها في الجامعات والمؤسسات الثقافية الغربية، لدرجة أن السفير الأوكراني في ألمانيا قاطع حفلة تضامن موسيقية رسمية مع بلاده، تمت برعاية الرئيس الألماني ذاته، لكثرة العازفين الروس فيها.

لا ينفي هذا وجود استقطاب كبير في الدول الغربية ضد روسيا، لكنّ هذا الاستقطاب لا يتخذ شكل هيستيريا هوياتية تجاه كل ما هو روسي، بقدر ما يبدو نوعاً من التعبئة العامة ضد خصم سياسي وعسكري فعلي، يمكن لـ»الغرب» أن يضحي بجانب من رفاهه لضرورات المواجهة معه. وهو ما لم يكن وارداً حتى في عز الحديث عن الإسلاموفوبيا، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. فلماذا يبدو الرهاب الغربي من الروس مختلفاً عن رهاب الإسلام الشهير؟ ولماذا يلعب الجانب الرمزي، أكثر من الجانب السياسي والاستراتيجي المباشر، الدور الأكبر في المواجهة المفترضة بين الغرب والإسلام؟ هل لأن روسيا بالنسبة للدول الغربية أقلّ «آخرية» من العالم الإسلامي، أم لأنها، على العكس، تشكّل نقيض «الغرب» الفعلي؟

لا جدوى الاندماج

برز كثير من الدراسات، خاصة بعد أحداث الحادي عشر سبتمبر، في سياق إعادة تأويل المشكلة بين الإسلام والغرب. وبالاعتماد على تراث مدرستي نقد الاستشراق وما بعد الكولونيالية، توصّل أصحاب تلك الدراسات إلى النتيجة التالية: قامت الذات الغربية أساساً على تعيين «الآخرية» عن طريق وسم مناطق ومجموعات بأكملها بالاختلاف الجوهري عن «الغرب» وإلصاق مجموعة من الخصائص والسمات الدونية بها، ومن ثم إقصائها أو اضطهادها على أساس تلك السمات. بهذا المعنى المشكلة ليست في اختلاف غير الغربيين، وعدم قدرتهم على التأقلم والاندماج بالثقافة والقوانين والمؤسسات الغربية، بل في «الغرب» نفسه، ومنظوماته في بناء «الاختلاف» ومن ثم التفاخر بـ»التسامح» معه. لن تؤدي محاولات غير الغربيين للاندماج في المنظومة الغربية إلى نتيجة جدية، مهما تم قبولهم و»تمكينهم» مؤسساتياً، لأنهم سيبقون دوماً الآخر، ضروريَ الوجود للحفاظ على الذات الغربية. الأجدى تفكيك مفهوم «الغرب» نفسه، لكي يقبل اختلافاً لا يقوم على ثنائيات جوهرية بين ذات وأخرى. وعندما تنتهي العنصرية المؤسساتية فلن يبقى «الغرب» الذي نعرفه موجوداً.

الإسلاموفوبيا إذن في عمق تعريف «الغرب» لذاته، ولن تزول إلا بزواله، أما الروسوفوبيا فشأنها مختلف، فعلى الرغم من كل المعارك التي خاضتها الدول الغربية ضد روسيا في القرون الماضية، إلا أن الهوية والثقافة الروسية لم تكونا نقيضاً جذرياً للغرب، ولم تساهمها في تعريفه لذاته بشكل جوهري. إذ لا يمكن الحديث عن أدب أو موسيقى أو سينما، أو حتى علوم غربية، مع تجاهل الإسهامات الروسية في كل هذه الميادين. اندرج الروس، رغم كل تحفظاتهم وهواجسهم المحلية، في مشروع الحداثة الغربية، فلم يشكّلوا «نقيضاً» بقدر ما كانوا «منافساً» ربما لا يتمتع بكثير من الكفاءة. إنهم الخصم الذي يمكن دائماً إرجاعه إلى حجمه الطبيعي، بخلاف الإسلام، الذي يشكل تهديداً وجودياً.

إلا أن هذا المنظور يعاني من مشكلات كثيرة، أولها وأهمها أن محاولات تفكيك «الغرب» لمصلحة إبراز صوت غير مُستلب للإسلام، لا تلقى معارضة كبيرة في المؤسسات الغربية، التي من المفروض أنها أشد المتضررين من مواجهة «العنصرية الهيكلية الغربية». على العكس من ذلك، نرى أن دراسات تفكيك «الغرب» مدللة جداً في تلك المؤسسات، وأمسى الأساتذة، الذين يشنون هجومهم على «الغرب» في قلب التيار الثقافي الرئيسي، متمتعين باحترام وحيثية كبيرة. فيما يحتاج المرء لشجاعة استثنائية كي يبدي موقفاً مخالفاً لما يقرره التيار الرئيسي بخصوص الصراع مع روسيا.

يمكننا اليوم أن نرى جموع المصلين المسلمين تؤدي صلاة التراويح في «تايمز سكوير» في قلب نيويورك، فيما يبدو تخيّل متظاهرين من الجنسية الروسية يرفعون صور بوتين في الميدان نفسه أمراً شديد الصعوبة. ربما كان «الغرب» يحتفي بقدرته على قبول الاختلاف، كي يُبقي على «آخرية» من اعتبرهم مختلفين، لكنه يعاني بشدة في قبول من لا ينشد الاختلاف «الحقيقي» بقدر ما يريد المنافسة في ميادين التماثل والنديّة، أي الميادين التي يعتبرها الغربيون في صلب «خطيئتهم» التاريخية تجاه الآخر: التحديث؛ آلة الحرب الضاربة؛ المنافسة في الطاقة النووية وغزو الفضاء ومحركات الصواريخ، وغيرها من الأمور التي تجعل غزو روسيا ليس بسهولة غزو دول إسلامية مثل أفغانستان والعراق.

فلسفة الاحتقار

ربما لا يكون من التجنّي بهذا المعنى القول إن نقد الحداثة، ضمن المؤسسات الثقافية والأكاديمية الغربية، ليس أكثر من احتقار للذات: يمكن لأساتذة من مختلف الأصول العرقية والثقافية أن يوغلوا في انتقاد «الغرب» ثقافياً، وتفكيكه رمزياً، دون أن يشكّل هذا أي خطر فعلي على المنظومة القائمة في دوله. الأمر أشبه بالتسامح مع أحاديث الأطفال والعجزة. فالمرء يحتاج لفظاظة استثنائية كي يشغل باله بما يقوله أشخاص لا يعتبرهم أنداداً له، خاصة إذا كان قولهم يساهم في توسيع نفوذه، وزيادة رأسماله الرمزي. الحرية في «الغرب» تؤهلك أن تكون أستاذاً جامعياً معادياً لـ»الهيمنة» بمرتب محترم، لكن ماذا سيحدث إن اتخذت موقفاً قد يُفهم منه أنك مؤيد، أو حتى متسامح، مع من لا يمكن احتقارهم ببساطة: المهندسون والجنرالات الذين يملكون قرار تشغيل القاعدة الصناعية والترسانة النووية الروسية مثلاً؟

لهذا فقد يكون بإمكان «الهيمنة الغربية» قبول الآخرية الفعلية، أي أن تكون مختلفاً فعلاً عن العناصر التي تشكّل أساس تعريف «الغرب» لذاته، لكن من الصعب عليها قبول من ينافسها في هويتها نفسها. بمعنى أن «العنصرية الغربية» لا تبدي خشية كبيرة من تفكيكها ثقافياً، لكن التهديد الحقيقي قد يكون مادياً، بالمعنى الأبسط والأكثر ابتذالاً لمفهوم «المادة»: الإمكانات التي قد تجعل خصمي يطردني من بقعة جغرافية ما؛ يضغط عليّ في عائداتي وأرباحي؛ يقلّل قدراتي بوصفي مرجعية مالية في الاقتصاد العالمي.

جموع المصلين في «تايمز سكوير» رغم إيمانها الكبير، لا يمكنها فعل هذا. أما الروس فيشكلون تهديداً، حتى لو كان ضئيلاً. ولذلك قد تكون «الروسوفوبيا» رغم عدم تناقضها الجذري مع الحداثة الغربية، هي الهاجس الفعلي لـ»الغرب».

المنافس الضعيف

لا يعني هذا أن روسيا تشكّل تهديداً فائقاً للهيمنة الغربية، فأداء موسكو يبدو متعثراً في معظم الملفات، وربما كانت الهزيمة الروسية، سياسياً وأيديولوجياً واقتصادياً، وحتى عسكرياً، شبه حتمية، ولذلك فقد يكون رهان المتفائلين بسياسات القيادة الروسية خاسراً بالضرورة. قد يكون الأجدى عدم التعويل على هذا المنافس الضعيف والخاسر، بل إدراك الحداثة «الغربية» بوصفها واقعة كونية، ليس الخلاص منها إلا دعوات على هامش الحداثة نفسها. فيما مضى كان المنافس الجدي للعنصرية والتهميش ليس مجرد قيادة قمعية، تمتلك آلة حرب حديثة، لكنها غارقة في الأوهام الجيوستراتيجية، بل قوى وأيديولوجيات تحتفي بكونها الأكثر أمانة لقيم الحداثة، وربما «الغرب» نفسه: تنظيمات عمالية، تطلّب دمجها في النظام القائم كثيراً من التنازلات من قبل المنظومة الرأسمالية؛ ثورات تحرر وطني، غيّرت الخريطة العالمية، ودمرت الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى؛ حركات حقوق مدنية، لم تقم إلا بتوسيع إلا ما اعتبره «الرجال البيض» حقاً أصيلاً لهم، وجعلته ينطبق على كل البشر، على اختلاف أعراقهم وأجناسهم.

كاتب سوري

القدس العربي

—————————-

مجلس الأمن الدولي وإمكانية إصلاحه على ضوء الأزمة الأوكرانية/ عبد الحميد صيام

خاطب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، عبر الفيديو من كييف يوم الثلاثاء الماضي أعضاء مجلس الأمن الدولي، خلال جلسة مخصصة لبحث الأوضاع في أوكرانيا قائلا: «إن بإمكان مجلس الأمن إما استبعاد روسيا حتى لا تتمكن من عرقلة القرارات بشأن عدوانها وحربها على بلاده، ومن ثم القيام بكل ما في وسعه لإحلال السلام، أو وضع خطة حول كيفية إصلاح المجلس، وإنْ لم يكن هناك بديل، فسيكون الخيار التالي هو حل أنفسكم تماماً».

إطلاق صرخات قهر ضد تركيبة المنظومة الدولية المكلفة بصيانة السلم والأمن الدوليين ليس جديدا. فكم مرة أطلق مثل هذا النداء من دول تعرضت لجريمة العدوان، مثل العراق وفيتنام وكمبوديا وليبيا وفلسطين وأفغانستان والبوسنة وبنما وغرانادا ونيكاراغوا وغيرها. ولا يكاد يمر شهر من دون أن يصرخ المندوب الفلسطيني «متى سيتحمل مجلس الأمن مسؤولياته ويطبق قراراته» لكن تلك الصيحات تقع على آذان صماء، خاصة عندما يتعلق الأمر بالدول الكبرى وإسرائيل المحمية من الولايات المتحدة.

لقد ظهرت أصوات عظيمة من داخل المجلس وخارجه بضرورة إصلاح مجلس الأمن، الذي لم يعد يمثل عالم اليوم بدوله الـ193 مقارنة بـ50 دولة عند إنشاء الأمم المتحدة. الدول الصغيرة والمتوسطة والمعتدى عليها، تلجأ للمجلس وتطالبه بالقيام بدوره في حفظ السلم والأمن الدوليين وتنفيذ قراراته ومنع جريمة العدوان وفرض السلم بين الأطراف المتخاصمة وفرض سلة عقوبات تردع المعتدي، إذا ما استمر في عدوانه، لكن الردع والعقوبات لم تكن موجهة للدول الكبرى بسبب هذا النظام المختل والمركب بطريقة خبيثة ليخدم مصالحها أصلا. لقد وضع حلفاء الحرب العالمية الثانية الثلاث (روسيا وأمريكا وبريطانيا) آلية أمنية رصينة حقيقية، لكنهم أبقوا أعنة تلك الآلية في أيديهم. تشرتشل أصر على إضافة فرنسا كي لا يستفرد به الدب الروسي وأيده روزفلت، وستالين أدخل الصين التي لم تكن قد تحررت بعد من بقايا الاحتلال الياباني. وقد أجلست الصين الوطنية (تايوان) في المقعد ثم تم التشبت بتلك الجزيرة ممثلا للصين كلها إلى أن تم طردها عام 1971 بعد التقارب الأمريكي الصيني في عهد الرئيس نيكسون.

عملية الإصلاح

لقد ظن البعض أن صرخة زيلينسكي هي الأولى التي تطرح فكرة إصلاح مجلس الأمن، علما أن مجلس الأمن تم توسيع عضويته عام 1965 من 11 عضوا إلى 15، حيث أضيف أربعة أعضاء جدد للعضوية غير الدائمة يمثلون القارات الأربعة. فكيف تتم عملية الإصلاح أو التغيير أو التوسيع أو إعادة النظر في الفيتو؟ جاء في المادة 108 من ميثاق الأمم المتحدة ما يلي: التعديلات التي تدخل على هذا الميثاق تسري على جميع أعضاء «الأمم المتحدة» إذا صدرت بموافقة ثلثي أعضاء الجمعية العامة، وصدق عليها ثلثا أعضاء «الأمم المتحدة» ومن بينهم جميع أعضاء مجلس الأمن الدائمين، وفقا للأوضاع الدستورية في كل دولة. والمادة 109 البند 2: كل تغيير في هذا الميثاق أوصى به المؤتمر بأغلبية ثلثي أعضائه يسري إذا صدق عليه ثلثا أعضاء «الأمم المتحدة» ومن بينهم الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن وفقا لأوضاعهم الدستورية. إذن أي تغيير في الميثاق يتطلب عقد مؤتمر خاص لأعضاء الجمعية العامة، ويتم التصويت على التغيير. ويجب أن تضم الأصوات الإيجابية جميع أعضاء مجلس الأمن الدائمين الخمسة. وهذا لا يكفي ولكن يجب أن تذهب هذه التعديلات إلى البرلمانات أو المجالس التشريعية ويتم التصديق عليها بغالبية الثلثين، بما في ذلك جميع الدول الخمس دائمة العضوية. إذن التعديل وإصلاح مجلس الأمن الذي يمثل الجهاز التنفيذي للأمم المتحدة أقرب إلى المستحيل إلا إذا حدث التوافق بين الأعضاء الخمسة الدائمين.

محاولات تطوير دور الأمم المتحدة

بعد نهاية الحرب الباردة انتخب بطرس غالي أمينا عاما سادسا للمنظمة الدولية ممثلا عن القارة الافريقية. وقد دعا لقمة دولية على مستوى الرؤساء لأعضاء مجلس الأمن الخمسة عشر في 31 يناير 1992 للإجابة على سؤال واحد: كيف يمكن للأمم المتحدة أن ترتقي لمستوى التحديات الجديدة في عالم ما بعد القطبين؟ كيف يمكن للأمم المتحدة أن تصبح أكثر فاعلية وتأثيرا وحضورا وقوة وقادرة ليس على حل النزاعات الدولية، بل على درء وقوعها والتنبه للأزمات قبل وقوعها. وبعد مناقشة بين الحضور، طلب من بطرس غالي نفسه أن يضع تصوره خلال ستة أشهر لدور المنظمة الدولية بعد الحرب الباردة. وبالفعل وضع كتيبا مهما في 17 يونيو 1992 أطلق عليه «خطة للسلام». أراد بطرس غالي أن ينقل دور الأمم المتحدة من دور الشرطي الذي يذهب بعد وقوع الجريمة ليكتب تقريرا عنها إلى دور الإطفائي الذي ينشر أجهزته الصغيرة أولا لتشم الحرائق قبل وقوعها واحتوائها وهي صغيرة إن وقعت، والتأكد من عدم انتشارها إلى الغرف المجاورة، وإن لم يكن ذلك ممكنا على الأقل حماية المباني المجاورة. وقسّم غالي أدوار الأمم المتحدة إلى ثلاثة: قوات منع النزاع أو الوقاية، كما حصل في مقدونيا الشمالية، وقوات حفظ السلام بعد توقف المعارك، ثم قوات بناء السلام بعد النزاعات، كما حدث في تيمور الشرقية وناميبيا وكمبوديا مثلا. ولتحقيق ذلك طالب بطرس غالي بتأمين قوات سلام مدربة وجاهزة للتحرك تعمل تحت علم الأمم المتحدة سماها «وحدات فرض السلام». وعلى الفور عارضته الولايات المتحدة وأفشلت مشروعه، ظنا أن نهاية الحرب الباردة سيؤدي إلى قيام عالم القطب الواحد الآمر الناهي إلى الأبد (على رأي فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ) وما الأمم المتحدة إلا آلية من آليات تنفيذ السياسة الأمريكية كما فعلت في ليبيا والعراق ويوغسلافيا في تسعينيات القرن الماضي.

إصلاح مجلس الأمن

كان بطرس غالي يعرف أن المنظمة الدولية لا يمكن أن ترقى لمستوى التحديات القديم منها والمستجد إلا بإصلاح مجلس الأمن. وإصلاح المجلس يعني التعامل مع أربع مسائل أساسية: عملية توسيع العضوية، تمثيل عادل للمجموعات الجغرافية وخاصة أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، إعادة النظر في نظام الفيتو، توسيع صلاحيات المجلس ليشمل الأخطار المستجدة مثل الإرهاب، والتحديات البيئية، والأوبئة والتكنولوجيا الحديثة، وما جلبته من إمكانيات وعسكرة الفضاء وغير ذلك.

كتب بطرس غالي رسالة إلى جميع الدول الأعضاء وطلب منهم أن يكتبوا على ورقة كيف ترى كل دولة إصلاح مجلس الأمن، ثم أنشأ لجنة خاصة لمراجعة جميع الاقتراحات وتصنيفها، دون إهمال أي منها. لكن سفيرة الولايات المتحدة آنذاك، مادلين أولبرايت، قررت أن تستخدم الفيتو ضد بطرس غالي وتخرجه من الطابق الثامن والثلاثين، وتأتي بكوفي عنان مكانه، وهو الذي قدم تقريرا للجمعية العامة حول أهم الاقتراحات التي جمعتها اللجنة لإصلاح مجلس الأمن نستطيع أن نلخص أهمها:

– تضاف للعضوية الدائمة دولتان صناعيتان (اليابان وألمانيا) وثلاث دول من آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا (الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا أو نيجيريا).

– يضاف تسع دول غير دائمة العضوية، ولكن تستمر عضوية الدولة أربع سنوات بدل سنتين ويمكن تجديدها برضى المجموعة الجغرافية التي تمثلها.

– تضاف مجموعة دول إلى العضوية الدائمة دون حق الفيتو ويتم توسيع العضوية غير الدائمة ليصل عدد الأعضاء إلى 25 عضوا.

– يتم تقييد استخدام الفيتو للقضايا المهمة المتعلقة بالأمن القومي على أن يكون مربوطا بتصويت عضوين دائمين وثلاثة أعضاء غير دائمين.

لكن الخلافات دبّت بين الدول الإقليمية المرشحة للعضوية الدائمة. فأفريقيا طالبت بمقعدين دائمين، لأن المقعد الدائم الواحد تنازعت عليه كل من نيجيريا وجنوب أفريقيا ومصر والجزائر. وفي آسيا رفضت باكستان ومعها العديد من الحلفاء ترشيح الهند للمقعد، كونها طرفا في نزاع كشمير وفي حالة انتهاك للقانون الدولي. وتنازعت دول أمريكا اللاتينية على المقعد، واعتبرت المكسيك أكثر أهلية من البرازيل التي تنفرد بتكلم اللغة البرتغالية في قارة كلها تتحدث اللغة الإسبانية تقريبا. الأرجنتين اعترضت على المكسيك وقالت إنها جزء من أمريكا الشمالية.

انتهت المحاولات إلى لا شيء، وبقيت الأمور تراوح مكانها إلى يومنا هذا، وأحيل الأمر إلى لجنة منبثقة عن الجمعية العامة لمراجعة عملية الإصلاح. وهذا ما تريده الدول الخمس دائمة العضوية التي لا تسعى إلى أي تغيير لأنه سيكون على حسابها.

وبما أن إصلاح المجلس شبه مستحيل فالأفضل تعزيز دور الجمعية العامة وقيام غالبية ساحقة فيها باتخاذ قرارت مصيرية، وقد حدث ذلك من قبل. فقد أنشأت الجمعية العامة آليات خارج نطاق مجلس الأمن مثل مجلس حقوق الإنسان ليراقب الانتهاكات على مستوى العالم ومحكمة الجنايات الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب. كما أنشات الجمعية العامة محكمة للتجارة العالمية وأخرى لقانون البحار. صحيح أنها ليست بقوة مجلس الأمن لكنها لا شك تسد بعض الثغرات في آليات العمل الدولية التي أنشئت عام 1945 لتعكس هموم تلك المرحلة لا هموم وتحديات عالم اليوم.

محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي

القدس العربي

—————————

هل يمكن طرد روسيا من مجلس الأمن؟/ أسامة أبو ارشيد

في خطابه عبر الفيديو أمام مجلس الأمن الدولي، يوم الثلاثاء الماضي، دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى طرد روسيا منه جرّاء ارتكابها “جرائم حرب” ضد المدنيين في بلاده، ومنعها المجلس من القيام بواجبه المتمثل بـ”حماية السلام” بسبب تمتّعها فيه بحق النقض (الفيتو). وليس زيلينسكي أول من يدعو إلى طرد روسيا من مجلس الأمن، فقد سبقه إلى ذلك آخرون، مثل المندوب الأوكراني الدائم لدى الأمم المتحدة سيرجي كيسليتسيا، والسفير الأميركي السابق لدى روسيا مايكل ماكفول، والخبير في العلاقات الدولية البروفيسور إيان هيرد. ولكن، هل فعلاً يمكن طرد روسيا من مجلس الأمن، أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو حتى تعليق عضويتها فيهما أو في أحدهما؟ الإجابة السريعة والمباشرة أن ذلك صعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً، وفي ما يلي بعض تفصيل، من دون استغراق، وهو جهد مبنيٌ على بحث.

من الناحية المبدئية، لا يحتوي ميثاق الأمم المتحدة على طريقةٍ لعزل عضو دائم في مجلس الأمن. ومعلوم أنه مجلس يتكون من 15 عضواً، خمسة منهم دائمون يتمتعون بحق النقض، وعشرة غير دائمين تنتخبهم الجمعية العامة لعامين ممثلين عن المجموعات الإقليمية. ومع أن ميثاق الأمم المتحدة ينصّ، في مادته السادسة، على أنه “إذا أمعن عضو من أعضاء الأمم المتحدة في انتهاك مبادئ الميثاق جاز للجمعية العامة أن تفصله من الهيئة”، إلا أن ذلك لا يكون إلا “بناءً على توصية مجلس الأمن”. وطبعاً، روسيا، وهي عضو دائم فيه وتتمتع بحق النقض، لن تصوت أبداً على قرار يتيح طردها من الأمم المتحدة.

ولم يحدُث قط، في تاريخ الأمم المتحدة منذ إنشائها عام 1945، أن طُردت دولة منها، مع أنه جرى تعليق عضوية بعض الدول فيها، بموجب المادة الخامسة من الميثاق، كما في حالة جنوب أفريقيا تحت حكم نظام الفصل العنصري، ما بين أعوام 1970-1974، ولم تشارك جنوب أفريقيا في أنشطة الجمعية العامة إلا عام 1994 بعد انهيار نظام الأبارتهايد فيها. ولكن، حتى تعليق العضوية في الجمعية العامة للأمم المتحدة يحتاج موافقة مجلس الأمن، إذ تنصّ المادة الخامسة على أنه “يجوز للجمعية العامة أن توقف أي عضو اتخذ مجلس الأمن قِبَله عملاً من أعمال المنع أو القمع، عن مباشرة حقوق العضوية ومزاياها، ويكون ذلك بناءً على توصية ‏مجلس الأمن، ولمجلس الأمن أن يردّ لهذا العضو مباشرة تلك الحقوق والمزايا”. هذا يعني أن أي محاولةٍ لتعليق عضوية روسيا سيكون شبه مستحيل.

أمام هذه المعضلة، يقترح بعضهم، مثل زيلينسكي، إصلاح الأمم المتحدة، وهو ما يعني تعديل ميثاقها. لكن تعديل الميثاق ينبغي أن يجري بموجب الفصل الثامن عشر منه، والذي ينصّ على أن “التعديلات التي تدخل على هذا الميثاق تسري على جميع أعضاء الأمم المتحدة إذا صدرت بموافقة ثلثي أعضاء الجمعية العامة وصدّق عليها ثلثا أعضاء الأمم المتحدة، ومن بينهم جميع أعضاء مجلس الأمن الدائمين”. إذاً، تعديل الميثاق ليس خياراً مطروحاً، فلن توافق روسيا على أي خطط تستهدفها وتستهدف نفوذها في الأمم المتحدة، وهي ستلجأ إلى حق النقض في مواجهة أي مسعىً في هذا الصدد.

هل هذا يعني أنه لا توجد أي طريقة لمحاسبة روسيا، أو أي عضو دائم في مجلس الأمن، في الأمم المتحدة؟ الإجابة السريعة والمباشرة، بلى، ولكنها طريقة غير ذات معنى كبير وغير ذات جدوى عملية. يتعلق الأمر هنا بتعريف “حق النقض” وكيف يمكن استخدامه، وهو ما يخضع للمادة السابعة والعشرين من ميثاق الأمم المتحدة. تنص هذه المادة على: “1. يكون لكل عضو من أعضاء مجلس الأمن صوت واحد. 2. تصدُر قرارات مجلس الأمن في المسائل الإجرائية بموافقة تسعة من أعضائه. 3. تصدر قرارات مجلس الأمن في المسائل الأخرى كافة بموافقة أصوات تسعة من أعضائه تكون من بينها أصوات الأعضاء الدائمين متفقة، شرط أنه في القرارات المتخذة تطبيقاً لأحكام الفصل السادس والفقرة 3 من المادة 52 يمتنع من كان طرفاً في النزاع عن التصويت”.

ما الذي يعنيه ذلك؟ من دون تفاصيل كثيرة، تتمتع الجمعية العامة للأمم المتحدة، بموجب قرارها 377 (د-5) لعام 1950، المعروف باسم “الاتحاد من أجل السلام”، بسلطة تقديم توصياتٍ لاتخاذ تدابير جماعية للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين أو استعادتهما إذا رأت أن مجلس الأمن غير قادر على التصرّف بسبب غياب الإجماع بين أعضائه الخمسة الدائمين. يتعلق الأمر هنا بـ”المسائل الإجرائية” المنصوص عليها أعلاه في المادة السابعة والعشرين من الميثاق، إذ يكفي تصويت تسعة أعضاء في مجلس الأمن على تحويل قضيةٍ إلى الجمعية العامة، ولا يحقّ لأي عضو دائم أن يستخدم “الفيتو” هنا. هذا ما جرى في السابع والعشرين من شهر فبراير/ شباط الماضي، عندما حوّل مجلس الأمن مشروع قرار 2623 إلى الجمعية العامة بموجب “الاتحاد من أجل السلام”، ولم تستطع روسيا منع ذلك. وفي الثاني من مارس/ آذار الماضي، صوتت الجمعية العامة بأغلبية كبيرة على إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا. المشكلة أن قدرة الجمعية على إنفاذ قراراتها محدودة للغاية، فهي توصياتٌ غير ملزمة، على عكس قرارات مجلس الأمن.

وعلى الرغم من أن النقطة الثالثة من المادة السابعة والعشرين سابقة الذكر تنصّ على ضرورة امتناع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن عن التصويت، عندما يتعامل المجلس مع نزاع هم طرف فيه، إلا أن ذلك محصورٌ في الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة والفقرة 3 من المادة 52 فيه، واللذين يقتصر نطاقهما على التسوية السلمية للمنازعات، ولا تشملان الإجراءات المتعلقة بالأمن والسلم الدوليين بموجب الفصل السابع. هذا يفسّر كيف تمكّنت روسيا من نقض مشروع قرار يدينها في مجلس الأمن، في حين أنها لم تتمكّن من وقف قرار إجرائي بإحالة الأمر إلى الجمعية العامة بعد تصويت تسعة من أعضاء مجلس الأمن على ذلك.

يبقى هنا سيناريو أخير يطرحه بعضهم لطرد روسيا من مجلس الأمن والأمم المتحدة. يقوم عماد هذا الرأي على أن روسيا، أصلاً، ليست عضواً دائماً في مجلس الأمن. ويستند من يقولون بذلك إلى الفقرة الأولى من المادة الثالثة والعشرين من ميثاق الأمم المتحدة، أن “الأعضاء الدائمين” في مجلس الأمن هم: “جمهورية الصين، وفرنسا، واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، والمملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية، والولايات المتحدة الأميركية”. وحسب هذه القراءة، فإن الاتحاد السوفييتي لم يعد قائماً منذ عام 1991، ولم يجر تعديل الميثاق ليشير إلى وراثة روسيا له، وبالتالي، حسب المندوب الأوكراني لدى الأمم المتحدة، كيسليتسيا، فإن “عضوية روسيا ليست شرعية، حيث لم تصوّت الجمعية العامة على قبولها في المنظمة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في ديسمبر (كانون الأول) 1991”.

تواجه هذا الرأي مشكلات من أوجه عدة. أولاً، أنه يخالف الممارسة المعتمدة منذ عقود طويلة داخل الأمم المتحدة ووكالاتها، والتي استقرّت على قبول وراثة الكتلة الكبرى بعد تفكّك دولة أو اتحاد ما لهما. حدث هذا بعد تفكك الجمهورية العربية المتحدة عام 1961، والتي كانت قد جمعت بين مصر وسورية، وخلفتها مصر، ثمَّ في انفصال سنغافورة عن ماليزيا عام 1969، وخلفتها ماليزيا، وبعد ذلك انفصال صربيا والجبل الأسود عام 2006، وخلفتها صربيا. ثانياً، أن وراثة روسيا الاتحاد السوفييتي عام 1991 في الأمم المتحدة وأجهزتها ووكالاتها جرت بدعم من بلدان الكومنولث المستقلة حينئذ عنه، بما فيها أوكرانيا. ثالثاً، إذا طبّق هذا المعيار على روسيا، فإن أوكرانيا نفسها ستجد نفسها خارج عضوية المنظمة الدولية، إذ إنها ورثت، من دون تصويت، مكان “الجمهورية السوفييتية الاشتراكية الأوكرانية” والتي كانت عضواً في الأمم المتحدة منذ 1945.

باختصار، ليس فقط أن مسألة طرد روسيا أو تعليق عضويتها في الأمم المتحدة مجرّد وَهْمٍ لا أساس له، بل الأمر أعمق من ذلك، إذ إن كل هذه المنظومة الأممية فاسدة، وبحاجة إلى هدم وإعادة بناء، لا إصلاح فقط. ويكفي أن نُذَكِّرَ هنا بأنه ليست روسيا وحدها من تخلّ بالتزاماتها بموجب ميثاق الأمم المتحدة، متسلحة بحق الفيتو، فالأعضاء الدائمون الأربعة الآخرون ليسوا أقل إجراماً وفساداً منها.

العربي الجديد

——————————

كي تعيش الحرب يجب قتلُ الحقيقة/ سوسن جميل حسن

يبدأ التضليل الماكر بدايةً من صياغات لغوية محكمة لتحديد مفاهيم تصبح بمثابة أساسيّات أو قواعد ثابتة، تربط ما يليها بها، مثلما لو أنها من المقدّمات المسلّم بها التي يبنى عليها منطق واستنتاجات، كمفهوم “جرائم الحرب”. هذا المفهوم الذي يطمس حقيقة لا يمكن الخلاف حولها بين فردين يمتلكان العقل السليم والضمير السليم، فهل الحرب حميدة وأخلاقية؟ أم إنها في الواقع جريمة متكاملة كيفما جاءت؟

لقد شرّعت البشرية الحرب، وصار لها قواعد تدوّنها المعاهدات والاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقية جنيف، وتقول هذه القواعد: لا يمكن مهاجمة المدنيين عمدًا، ولا استهداف البنية التحتية الحيوية لبقائهم على قيد الحياة. كذلك وضعت لائحة بالأسلحة المحظورة والمحرّم استخدامها كالألغام الأرضية المضادّة للأفراد، والأسلحة الكيماوية أو البيولوجية. أو الاعتناء بالجرحى وعدم تعذيب الأسرى، بل حماية حقوقهم حتى لو كانوا من الجنود المقاتلين، وحظّرت ممارسة ما يُسمّى بـ “الجرائم ضد الإنسانية”، ومنها الإبادة الجماعية التي يعرّفها القانون الدولي على أنها القتل العمد لأشخاصٍ من جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية ما، بقصد تدمير الجماعة كلّيًا أو جزئيًّا، إلى ما هنالك من تفصيلاتٍ حول الفظائع والأعمال الشنيعة الإجرامية التي تحصل في أثناء الحروب، الداخلية والخارجية لا فرق، وآخر ما يدعو إلى الحديث عن هذه الجرائم المرتكبة فعلًا، هو المجزرة التي ظهرت أخيرا في مدينة بوتشا الأوكرانية التي يُتّهم الروس في ارتكابها.

قالت القوات الأوكرانية إن هناك أدلّة على مقتل مدنيين بالرصاص بعد تقييد أقدامهم وأيديهم. واتهمت أوكرانيا الروس بارتكابها، كما أن هناك علامات إطلاق النار من الخلف، وأناسًا قتلوا في داخل بيوتهم، ولقد شاهد العالم المشاهد والصور المروّعة على هذه المجزرة، بحيث لا يبقى مجال للتشكيك بها والادّعاء بأنّها مزوّرة ومفبركة، كما قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بغض النظر عن ما يُطرح في الميديا من فيديوهات وصور مزيّفة كل يوم، ومن تضليل يمارسه الطرفان، وهذا أمرٌ صار من ملامح العصر الرقمي والميّزات والتطبيقات الفائقة التي تُطرح للاستخدام بزخم كبير، وصار أحد أهمّ أدوات التضليل والدعاية والحروب النفسية في النزاعات والحروب.

إنها “الحقيقة الغائبة”، خصوصا في الحروب والنزاعات على مرّ التاريخ، وأكثرها وأشدّها في العصر الحديث، والشواهد أمامنا كثيرة، عدا ما يخبّئه التاريخ في خزائنه السريّة، وجديدها في الحرب الدائرة في أوكرانيا إثر الغزو الروسي أراضيها، مثلما كان قبلها في العراق وأفغانستان واليمن وسورية وغيرها في غير بلاد، الحقيقة التي هي أولى الضحايا في الحروب كما يُقال.

على شاكلة الحروب، مثلما حصل في سورية، تُكتشف جثث أو بقاياها بشكل جماعي كلّ حين، نادرًا ما يُعرف مرتكبوها المباشرون، حتى لو توفّرت بعض الأدلّة التي يمكن اعتبارها دامغة لتأكيد الجرم على طرفٍ ما، لكنّ السياسة، بدهائها ونفاقها وتزويرها وتضليلها، تعمل على إخفاء الحقائق أو تشويهها، لكن من يتابع مجريات الحرب الأوكرانية سوف يرى تشابهًا كبيرًا بين ما كان يدور في سورية وما يحصل في أوكرانيا اليوم، تدمير مبانٍ سكنية ومستشفيات وبنية تحتية ومسارح، كما في ماريوبول، ومحطّات وقود وأفران كما رأينا في سورية، حصار على المدن ومنع الإمدادات اللوجستية من الدخول، إلى ما هنالك من قرائن يمكن استدعاؤها دليلا على ممارسات متشابهة حدّ التطابق. هذا يطرح أسئلة بشأن التحقيق المطلوب، ولماذا تدور السجالات حول التحقيقات، وتجري المماطلة بالمُدد الزمنية على الرغم من أهميّة كل ساعة تمرّ على الحادثة، وما ينجم عن تأخيرها من ضياع الأدلّة أو فقدان بعضها؟

لم يعد، في عصرنا الحالي، أمر يمكن إخفاؤه، فحتى الحياة الفردية لكل إنسان صارت مكشوفة، وصرنا في العراء جميعنا، إن الأقمار الصناعية تصوّر كوكبنا ليل نهار، لا توجد بقعة في العالم واقعةً في النقطة العمياء بالنسبة إلى عيون الأقمار الصناعية التي لا تنام في سماء الكوكب، ويمكنها رصدُ أسراب الذباب وهي تتحرّك في فضائها، فكيف بجيشٍ نظاميٍّ يقوم بحربٍ تشغل العالم؟ وكيف بمقاومةٍ يتابعها العالم مجتمعًا لحظة بلحظة؟ فهذه الحرب لا تخصّ أوكرانيا وحدها، وليست المستهدفة بشكل منعزل، لا داعي إلى القول إنها حربٌ بين قوى عالمية، حرب مصالح ونزاع على السيادة والهيمنة، حربٌ تديرها السياسة التي يصنعها الاقتصاد والمال، السياسة المرتهنة إلى نهم رؤوس الأموال والاستثمارات لشركات عملاقة تتغوّل في البشرية، وهذا جعل العالم مجتمِعًا، يتلقّى الهزّات الارتدادية من جهة، والقوى الكبرى تكثّف حراكها وتستنفر لإدارة هذه الأزمة العالمية، في محاولةٍ لإعادة ترتيب التحالفات الدولية وتعديل ميزان القوى، من جهة أخرى، وإعادة ترتيب الأولويات في كل دولةٍ من تلك المعنية بالحرب، بشكل مباشر أو غير مباشر، كأوروبا مثلًا.

في النهاية، ما يحصل في أوكرانيا حصل قبلها في بقاع عديدة في العصر الحديث والمعاصر، ولم يتغيّر أداء المنظمات والهيئات والمجالس الدولية، بل تبدو كما لو أنها قامت من أجل تحقيق التوازن ورعايته في ما بينها في سيطرتها على العالم وامتلاك أسباب القوة من أجل الحفاظ على مكتسباتها ومكانتها، فما الذي يمكن لهيئة الأمم المتحدة ومنظماتها التابعة فعله طالما القوى الكبرى، ومنها دائمة العضوية وتمتلك حق النقض في مجلس الأمن، أن تفعل إذا ارتكبت إحداها جرائم حرب؟ ليس فقط إحداها، بل أنظمة تواليها أو مشمولة بحمايتها؟ هناك دائمًا “الفيتو” الذي يعرقل القرارات التي تمسّها مباشرة، هل عوقبت دولةُ من تلك الدول عمّا ارتكبت؟ هل عوقبت أميركا عمّا فعلت في العراق وأفغانستان وسورية؟ عندما وجّه الرئيس الأوكراني كلمته في اجتماع مجلس الأمن أخيرا يوم الخامس من إبريل/ نيسان الجاري، طالب الأمم المتحدة بأن تصلح ذاتها، وأن يُحاسب المعتدي فورًا، وقال إن كل هذه المذابح كان يجب أن تتوقف منذ أمد بعيد، فلو عوقب طاغيةٌ واحدٌ كان الكل سيرتدع، ربما إذا ما حورب أولئك الطغاة ما كان هناك حربٌ في بلاده، العالم سكت على احتلال القرم، كيف نوقف هذه المهزلة؟ يسأل، ينبغي أن يحاسَب كل من أصدر أمرًا بقتل الشعب أمام العالم على غرار محاكم نورنبرغ، فالمادة الأولى من الفصل الأول من ميثاق الأمم المتحدة تقول بوجوب الحفاظ على السلام والأمن الدوليين. فهل يُحفظ الأمن والسلام في العالم؟

يوجد مجلس أمن لكنه غير موجود طالما لا يضمن الأمن والسلام، على ما قال الرئيس الأوكراني. وفي هذا حدّ كبير من الحقيقة، لكن أين كان العالم ممّا جرى في سورية، عندما ترك الحبل على الغارب لكل شياطين الأرض تقتل وتدمّر وتغتصب وتهجّر بواسطة جيوش نظامية أو فصائل تساندها؟ أين الحقائق التي ما إن كانت تومض حتى يجري طمسها والتضليل بشأنها، إلى أن صارت سورية دولة فاشلة على مستوى الشعب والمجتمع والحكومة وسلطات الأمر الواقع، بلادًا مقسّمة مرتهنة في كل جزء منها إلى إرادة غير إرادة شعبها، ارتكبت بحقها الجرائم من كل الأطراف، وأوّلها النظام وداعموه؟ ولم تستطع المنظمات الدولية أن تؤثّر في واقع الأمر، أو أن تنهي الحرب الدائرة منذ 11 سنة، لأن القوى الفاعلة صاحبة القرار في المنظمات الدولية تدير لعبة القرارات من فوق، مثلما تدير لعبة الحروب والصراعات في القاعدة، في العالم أجمع، فهي تتقن إدارة خصوماتها وتواطؤاتها.

تغييب الحقائق في الحروب، أو اغتيالها، أمرٌ تسعى إليه القوى الكبرى قبل الصغرى، فهي إحدى أهمّ روافد الصراعات وتأجيجها، الحرب لا أخلاقية، ومهما وُضعت لها مبادئ وضوابط وتوصيف للجرائم المرتكبة، تبقى أهمّ وأكبر الشرور المحدقة في البشرية وفي المصير الإنساني، ومن حقّ الشعوب أن تنظر إلى مستقبلٍ تلغى فيه كل هذه المنظمات المدّعية، والأنظمة العالمية التي لم تقدّم غير الهلاك. لقد ضاقت البشرية بهذا النظام العالمي الذي كلّما اهتزّ عرشه أو عانى من أزمة، دفعت الثمن شعوب الأرض، خصوصا في الدول الفقيرة الضعيفة، قد يبدو الكلام طوباويًّا، لكن التاريخ يقدّم لنا الأدلّة على أن هذه البشرية تسعى إلى اجتراح دين جديد كلّما ضاقت بها القوالب القديمة، ولم تعد تقدّم لها الحلول لمشكلاتها والإجابة عن أسئلتها.

العربي الجديد

————————–

جرائم حرب… خيار وفقوس/ ناصر السهلي

لا يمكن لعاقل ومنهم العرب إلا رفض وإدانة الجرائم المرتكبة في بوتشا الأوكرانية، ولو على قاعدة “من قتل نفساً بغير حق… فكأنما قتل الناس جميعاً”.

لكن ذلك لا يحجب حقيقة انتشار الشعور بازدواجية المعايير الأوروبية وغياب العدالة والإنصاف لضحايا آخرين، بعد مراقبة حجم الردود الغربية المتضامنة مع ضحايا بوتشا، بما يعمّق توجس الشارع العربي إزاء أغلب سياسات أوروبا وحليفها الأميركي، وما يسوقان له من قيم ومبادئ.

يعرف ساسة أوروبا بالتأكيد مشاعر غضب الشارع العربي جراء التعامل مع جرائم الحرب وفق المثل القائل: “خيار وفقوس”. فالقائمة الممتدة من مذابح النكبة الفلسطينية عام 1948، وتواصل إرهاب المستوطنين برعاية رسمية، إلى بحر البقر وصبرا وشاتيلا وقانا، وقتل مئات آلاف العراقيين حصاراً وغزواً، بالطبع تشير إلى عدالة عوراء.

فمن يفرش السجاد الأحمر لقتلة، محليين ومحتلين، ملطخين بدماء الضحايا، معتقداً أن الناس سذّجاً، يراهن في الواقع على ديمومة قمع شوارع العرب، والاستخفاف برأيهم العام، على قاعدة المصالح وتزييف الوعي وتمييع الجرائم لإسقاطها بالتقادم.

لكن، إذا كانت الشوارع الأوروبية تعبر صادقة عن صدمتها من مشاهد بوتشا، مثلما فعلت خلال مذبحة سربرنيتسا البوسنية عام 1995، فثمة في المقابل حاجة عربية للنظر جيداً في المرآة.

ذات يوم من أيام ثورة 25 يناير المصرية، فرض الشارع على دولة الاحتلال الإسرائيلي والقوى الغربية، النظر بجدية إلى بداية تشكّل شيء من رأي عام عربي وازن، وهو ما أمكن ملاحظته في صحافة ومراكز أبحاث وتقارير السفارات وتحرك ساسة أوروبا. ولعل ذلك سرّع في إطلاق الثورات المضادة.

أما اليوم، وإذا فتشنا بعمق عن حالة الاستهتار الذاتي بالضحايا، فإن الناتج يفسّر الكثير. فمقابل استنفار المنظومة الأوروبية، برأي عام وصحافة ضاغطين، لإبراز الجرائم في أوكرانيا، فإن منظومة الحكم العربية تُجرم التعاطف مع الضحية، وتُدخل دعمها في تصنيفات عقيمة عن “الإرهاب”، وذلك يتعلق بفلسطين وسورية، وقضايا أخرى كثيرة. كما أنها ترعى، قبولاً وصمتاً، جرائم موسكو في سورية، مثل جريمة سوق معرة النعمان في 2019، والمسالخ البشرية، وحماية الكرملين لقتل البشر بالسلاح الكيميائي.

ذلك، وغيره كثير، يعبّر ربما عن الفارق بين رأي عام حاضر وضاغط وآخر مغيّب. ببساطة، ينظر الغربيون جيداً إلى احتقار المنظومة العربية للضحايا، واعتبار تفاعل الناس مع قضاياهم، ولو من باب إنساني، مؤامرة ضد الحكم، لإنتاج مشاهد قبول تهاوي القيمة والدوس على القيم. وماذا يهم الغرب، طالما أن مصالحه متواصلة، فيما تضبط المنظومة، قمعاً وتجويعاً وفساداً، مسألة تحرر الشارع؟

——————————

هجوم على صحافي روسي حائز على “نوبل للسلام

قال الصحافي الروسي، ديمتري موراتوف، الحائز على جائزة “نوبل” للسلام، أنه تعرض لهجوم على متن قطار روسي، الخميس، من قبل مُهاجم ألقى عليه طلاء أحمر، ما تسبب في إزعاج شديد لعينيه.

وقال موراتوف لـ”نوفايا غازيتا أوروبا”، وهو مشروع أطلقه موظفو الصحيفة بعد تعليق عمليات الصحيفة الأسبوع الماضي بسبب ضغط الحكومة، أن الهجوم وقع على متن قطار متجه من موسكو إلى سامارا. وذكر موراتوف عبر قناة الصحيفة في “تليغرام”: “عيناي تحترقان بشكل رهيب”، مضيفاً أن المهاجم صرخ: “مراتوف، هذا من أجل أولادنا”.

وتقاسم موراتوف، المحرر منذ فترة طويلة في الصحيفة، جائزة “نوبل” للسلام للعام 2021 مع الصحافية الفلبينية ماريا ريسا. وأظهرت المنشورات في “تليغرام” صوراً لموراتوف ومقصورة قطار غارقة في سائل أحمر، حسبما نقلت وكالة “أسوشييتد برس”.

وأعلنت “نوفايا غازيتا”، الصحيفة الروسية المستقلة الرائدة، في 28 آذار/مارس أنها ستعلق عملياتها طيلة ما أشارت إليه بعلامتي الاقتباس باسم “العملية الخاصة” في أوكرانيا، وهو المصطلح الذي تصر السلطات الروسية على أن وسائل الإعلام يجب أن تستخدمه لوصف الحرب على أوكرانيا.

وكانت الصحيفة آخر وسيلة إعلامية مستقلة كبرى تنتقد حكومة الرئيس فلاديمير بوتين بعدما أغلق آخرون مواقعهم الإلكترونية، أو حُجبت منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط/فبراير. وكان سبب الإغلاق تحذيراً رسمياً ثانياً من شركة “روسكومنادزور” المنظمة للإعلام الروسي، التي تولت بشكل متزايد دور الرقيب في السنوات الأخيرة، علماً أن “نوفايا غازيتا” كانت تتمتع بعلاقة صعبة مع الحكومة منذ فترة طويلة.

وما زال سبب التحذير الذي تلقته “نوفايا غازيتا” بالتحديد غير واضح. وقالت “روسكومنادزور” لوكالة الأنباء الحكومية “تاس” أن الصحيفة فشلت في تحديد منظمة غير حكومية لم تذكر اسمها على أنها “عميلة أجنبية” في تقاريرها، كما يقتضي القانون الروسي. ولم تحدد التقرير المعني.

——————————–

موسكو منزعجة..الأسد يخرج عن سيطرتها ويسافر بلا حمايتها

شككت صحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا” الروسية بما ذكرته صحيفة “حرييت” التركية حول نوايا أنقرة التقرب من نظام رئيس النظام السوري بشار الأسد، مستغلة إنشغال روسيا بحربها في أوكرانيا، من دون أن تخفي انزعاج موسكو من الأسد، وخوفها من تفلته من سلطتها مؤخراً.

وقالت الصحيفة في تقرير بعنوان: “عملية روسيا العسكرية الخاصة أعطت سبباً للصلح بين أردوغان والأسد”، إن السلطات التركية كثفت عملها على استعادة العلاقات مع سوريا على خلفية الأحداث حول أوكرانيا، فقد أفادت بذلك صحيفة “حرييت” نقلا عن مصادر رفيعة المستوى.

ومن بين الأولويات، كما ذكرت الصحيفة التركية، التصدي لنفوذ التشكيلات الكردية في المناطق الشمالية الشرقية وعودة اللاجئين السوريين الذين يعيشون في الأراضي التركية إلى ديارهم، والاعتقاد في أنقرة أن تراجع العامل الروسي والإيراني خلق بيئة مناسبة للتقارب.

ونقلت “نيزافيسيمايا غازيتا” عن الباحث الزائر في معهد الشرق الأوسط بواشنطن والخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية أنطون مارداسوف قوله: “يتبين أن المعلومات الواردة في صحيفة حرييت مبالغ فيها. وربما تهدف إلى جس النبض”.

وأضاف مارداسوف “أظن بأن هناك الآن لحظة مؤاتية لانتقال العلاقات بين تركيا وسوريا إلى مستوى جديد، ولكن ليس لأن روسيا قد ضعفت أو ليس لديها ما تفعله”، مشيراً إلى أن “نقطة التركيز انزاحت قليلاً، وتراجعت الإدارة المباشرة التي يمارسها الكرملين في سوريا. المسألة في أن قضية دمشق باتت الآن على هامش جدول الأعمال العالمي”.

وقال: “القتال يدور في أوروبا وهذا يقلق العالم الغربي أكثر من سوريا التي تعب منها الجميع بعد 11 عاما من الحرب. الانزياح الإعلامي من الشرق الأوسط إلى أوروبا يهيئ لإجراء اتصالات”.

ورأى مارداسوف أن الاتصالات بين الإمارات وتركيا وبين الإمارات والأسد يمكن أن تلعب دورا في التقارب. وأضاف “أكثر ما يزعج موسكو هو أن النظام السوري أصبح أكثر حرية في أفعاله، وأصبح من الصعب للغاية السيطرة على اتصالاته. حتى إننا لا نعرف كيف تم ضمان أمن الأسد أثناء رحلته إلى الإمارات. وعادة ما كانت هذه القضية حكراً على موسكو”.

وكانت صحيفة “حرييت” المقربة من الحكومة التركية، قالت إن أنقرة ترى أن دورها في الأشهر الأخيرة وخاصة تجاه حل الحرب الأوكرانية وتركيز روسيا هناك، قد يكون توقيتاً جيداً لحل المشكلة السورية.

ونقلت كاتبة التقرير نوراي باباجان عن مصادر في أنقرة أن سياسة التوازن الحالية لتركيا، مهمة للعديد من الدول لا سيما الأوروبية منها، مضيفة أن “السياسة القائمة على التصالح قد تسهم في اتخاذ خطوات جديدة في مناطق المشاكل، وفتح فصول جديدة مع أرمينيا وإسرائيل وسوريا”.

ورأت الصحيفة أنه إذا سارت الأجواء بشكل صحيح، فقد تكون لصالح تركيا، لافتة إلى أن “هناك فرصة لاستعادة العلاقات مع النظام السوري وضمان عودة اللاجئين إلى بلادهم”. وأشارت إلى أن لدى تركيا ثلاثة شروط وهي الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وضمان أمن اللاجئين العائدين إلى بلادهم، وحزب “العمال” الكردستاني.

لكن صحيفة “الوطن” التابعة للنظام السوري نقلت عن مصادر في وزارة الخارجية نفيها صحة ما ورد في “حرييت” التركية. وقالت المصادر إن “دمشق لا يمكن أن تفكر بأي حوار” مع أنقرة، مشترطة كخطوة أولى لتحقيق ذلك “سحب قوات الاحتلال التركي الموجودة بشكل غير شرعي على الأراضي السورية، ووقف دعم الإرهابيين والكف عن الانتهاكات المتكررة بحق السوريين”.

——————————–

من تهاون مع الروسي في سوريا… لا تفاجئه أوكرانيا!/ خيرالله خيرالله

تكمن خطورة ما فعله فلاديمير بوتين في نقله الحرب إلى قلب أوروبا. في الواقع، نقل أوروبا من مكان إلى آخر في لمحة بصر بمجرّد اتخاذه قرارا بغزو أوكرانيا في الرابع والعشرين من شباط – فبراير الماضي.

أعاد إحياء مخاوف كان الأوروبيون يعتقدون أنها زالت إلى الأبد مع هزيمة النازيّة وانتهاء الحرب العالميّة الثانيّة في العام 1945.

كان العالم يتغاضى في الماضي عن مجازر تحدث هنا أو هناك أو هنالك خارج أوروبا، من نوع مجزرة مدينة حماة السوريّة في شباط – فبراير 1982. هذه المجزرة التي ذهب ضحيتها ما يزيد على عشرين ألف مواطن سوري على يد النظام العلوي الذي أقامه حافظ الأسد. كانت تلك المجزرة بمثابة وضع لحجر الأساس للنظام السوري الحالي الذي يشنّ منذ العام 2011 حربا واسعة على شعبه. شملت الحرب، التي ما زالت دائرة منذ أحد عشر عاما، تدمير أجزاء من مدن سوريّة أخرى فيما يقف العالم، ولا يزال، متفرّجا. ليس صدفة أن يكون فلاديمير بوتين طرفا أساسيا، إلى جانب إيران، في الحرب على الشعب السوري. قبل غزوه لأوكرانيا، جرّب أسلحة الدمار التي يمتلكها في سوريا. اعترف بذلك علنا عندما أكّد في سياق إبداء إعجابه بالترسانة العسكريّة الروسيّة أنّ سوريا كانت أفضل حقل تجارب لما تحويه هذه الترسانة.

عندما بدأت يوغوسلافيا بالتفتت، مطلع تسعينات القرن الماضي، سارع الغرب إلى احتواء الموقف. وقعت مجازر عدّة في يوغوسلافيا السابقة، لكنّ أميركا وأوروبا استطاعتا في نهاية المطاف ممارسة ما يكفي من الضغوط  السياسيّة والعسكريّة كي يجري تقسيم يوغوسلافيا وكي يقف الصرب عند حدودهم بعدما صارت عاصمتهم بلغراد نفسها مهدّدة.

تبدو الحرب الأوكرانيّة طويلة في عالم يكيل بمقياسين. مقياس لأوروبا وآخر لخارج أوروبا. يؤكّد وجود مثل هذين المقياسين الردّ الأوروبي على غزو روسيا لأوكرانيا، خصوصا بعد التأكّد من المجازر التي ارتكبتها قوات روسيّة قبل انسحابها من مناطق قريبة من كييف. تلجأ دول أوروبيّة حاليا إلى طرد دبلوماسيين روس من أراضيها من منطلق أن العلاقات مع موسكو لم تعد تهمّها لا من قريب أو بعيد. دولة مثل اليونان راعت دائما روسيا اتخذت تدابير في حق دبلوماسيين روس!

ما نشهده الآن نقطة تحوّل على الصعيد الأوروبي، خصوصا بعدما اتخذت دول عدّة قرارات تقضي بإعادة الاعتبار لجيشها ولترسانتها العسكريّة. لا يقتصر الأمر على دول أوروبيّة فقط. قررت الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا التعاون في مجال إنتاج  صواريخ جديدة  أسرع من الصواريخ الحالية. تدرك الدول الثلاث أنّها مقصرة في هذا الحقل. اكتشفت التقصير عندما استخدم الروس صاروخا من هذا النوع السريع في أوكرانيا. كذلك، اكتشفت أن الصين متقدمة عليها في إنتاج مثل هذه الصواريخ التي لا تمتلك بريطانيا، أقلّه إلى الآن، أيّا منها!

هل تهتمّ أوروبا بغير أوروبا، أي بما يدور في الشرق الأوسط والخليج تحديدا حيث طموحات في غاية العدائيّة لإيران؟ ذلك هو السؤال الذي سيطرح نفسه في عالم يتبيّن كلّ يوم أن مشاكله وأزماته مرتبطة ببعضها البعض بقوّة

بعد حرب أوكرانيا، تغيّرت أوروبا كلّيا. لا يتوقف المسؤولون الأوربيون عن ترديد أنّهم لن يسمحوا بانتصار روسي وهزيمة أوكرانيّة في وقت قرّر فيه فلاديمير بوتين اعتماد خطّة جديدة مختلفة في ضوء فشله في الاستيلاء على العاصمة الأوكرانيّة كييف. بدأ سحب القوات الروسيّة التي كانت تطوّق كييف. كشف ذلك مدى وحشيّة هذه القوات وتوقها إلى ارتكاب مجازر على طريقة نظام بشّار الأسد. لم يكن ما حدث في مدينة بوتشا التي تبعد نحو 40 كيلومترا عن كييف سوى مثال على الممارسات الروسيّة التي لا تذكر سوى بممارسات ألمانيا النازيّة ثم ممارسات ستالين داخل الاتحاد السوفياتي نفسه.

إلى أيّ حد ستتغيّر أوروبا التي سيتوجب عليها إعادة النظر في كلّ استراتيجياتها، بما في ذلك الإنفاق العسكري؟ هل ينسحب ذلك على المناطق القريبة من أوروبا، مثل الشرق الأوسط والخليج وشمال أفريقيا؟

ليس في استطاعة أوروبا الاكتفاء بالاهتمام بنفسها ومستقبل حلف شمال الأطلسي… والبقاء بعيدة عن الضفّة الأخرى من البحر المتوسّط حيث يسعى فلاديمير بوتين، بالتحالف مع إيران، إلى لعب دور القوّة العظمى وتحقيق الحلم القيصري الروسي القديم بالتمدّد إلى المياه الدافئة.

لولا سكوت العالم عن التدخل الروسي المباشر في سوريا ابتداء من أواخر أيلول  – سبتمبر 2015، لما كان فلاديمير بوتين تجرّأ على خطوة غزو أوكرانيا حيث مشاهد الرعب ماثلة أمام العالم كلّه. لم يوجد، لا في أوروبا ولا في الولايات المتحدة من يضع حدّا لما ارتكبه الروسي في سوريا. قبل ذلك، لم يوجد من يسأل ماذا يفعل الإيراني وميليشياته في سوريا ولماذا استعان الراحل قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني بالجانب الروسي في نهاية صيف 2015 عندما اكتشف أن سقوط النظام السوري الأقلّوي بات أمرا واردا!

واضح أنّ كلّ دولة أوروبيّة باتت تشعر نفسها مهدّدة. لولا ذلك لما انضمت اليونان… أو إسبانيا إلى نظام العقوبات على روسيا. أكثر من يشعر نفسه مهدّدا هو دول البلطيق (لاتفيا وإستونيا وليتوانيا) التي كانت في طليعة الجمهوريات السوفياتيّة التي تمرّدت على موسكو مع سقوط جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989. توقّع الخبراء في سياسات الكرملين وقتذاك بأن تأتي نهاية الاتحاد السوفياتي من الجمهوريّات الإسلاميّة الآسيوية التي كان يضمّها. لكن الواقع أثبت أن تكهنات هؤلاء الخبراء، بمن في ذلك الفرنسيّة إيلين كاريردونكوس التي كانت أكثرهم شهرة، لم تكن في محلّها. ولدت الثغرة في جمهوريات البلطيق التي أخذت مبادرة الانفكاك عن الأخ الأكبر في موسكو… هذه الجمهوريات جزء من أوروبا وليست في قارة أخرى.

هل تهتمّ أوروبا بغير أوروبا، أي بما يدور في الشرق الأوسط والخليج تحديدا حيث طموحات في غاية العدائيّة لإيران؟ ذلك هو السؤال الذي سيطرح نفسه في عالم يتبيّن كلّ يوم أن مشاكله وأزماته مرتبطة ببعضها البعض بقوّة.

يُفترض بمن تهاون مع المجازر التي ارتكبها النظام الروسي، الذي على رأسه فلاديمير بوتين، في سوريا… ألّا يتفاجأ بما يحدث حاليا في أوكرانيا لا أكثر. وهذا الكلام برسم الأوروبيين قبل غيرهم!

إعلامي لبناني

العرب

————————-

رسالة أوكرانية إلى العرب/ منير الربيع

لا يمكن للمرء الناظر إلى تطورات الحرب الروسية الأوكرانية إلا أن يتعاطف مع الأوكران. ليس بالأمر المنطقي أن يتخذ رجل قراراً بالدخول إلى دولة أخرى سعياً إلى تمزيق مجتمع وتغيير جغرافيا وفرض وقائع استراتيجية.

حسابات الدول ومصالحها تتعارض مع تمنيات الناس التي تبحث عن حياة مستقرة. أكثر من يلقى أصداء المعركة الأوكرانية وتضج بها أماكنه هم العرب. ينظر العرب إلى الأوكرانيين كما ينظرون إلى أنفسهم، يعبرون فوق ضفاف الخيبات، بخسارة الرهان على حلفاء وأصدقاء. لطالما شبّه الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي كييف بحلب السورية. حلب وغيرها من المدن السورية التي لم تجد من يتعاطف معها أو يقف إلى جانبها ويمنعها من سقوط ويبقي أهلها فيها.

نجحت تركيا في إحراز دور متقدم في قلب أوروبا من خلال موقف منحها فرصة استضافة المحادثات الروسية الأوكرانية وحماية كييف، ووضع أسس لحوار من شأنه أن يدفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى لقاء زيلينسكي ووضع أسس لاتفاق سياسي يوفر الحماية لكييف من التدمير والتهجير والسقوط العسكري. هذا بالضبط ما كانت تحتاجه حلب وكان هناك رهان على تركيا القوة الوحيدة التي كانت قادرة في تلك الفترة أن تفرض شروطها ودورها كما فرضت نفسها في مناطق نطاق عمليات غصن الزيتون ودرع الفرات وغيرها، وكما فرضت واقعاً لا يزال قائماً حتى الآن في إدلب.

هنا تتحسر حلب، ونتحسر نحن على أحلام أجهضتها حسابات الدول ودسائسها، وما تحتويه من رهان على الصراعات القومية والعرقية والدينية والطائفية، استخدمت لشرذمة مجتمع وإبقاء نظام تتوافر فيه كل مواصفات تلبية المصالح الإقليمية والدولية فتحوّل إلى حاجة لقوى متناقضة. ما دفعت ثمنه حلب، دفعت بمثل دمشق وبغداد والموصل وصنعاء وفلسطين. منذ الأيام الأولى للاجتياح الروسي لأوكرانيا كان موقف الرئيس الأوكراني واضحاً بأنه لا يمكن الاتكال على الحلفاء ولا على وعودهم، قاد حملة استنهاض لشعبه وللمجتمعات الأخرى وقرر خوض المعركة، وهذا ما لم يحسنه العرب لا في العراق ولا في سوريا، فيما تأخروا في التقاط ما يتوجب التقاطه في اليمن.

وصل الأوكران إلى قناعة تامة بعدم صدقية الغرب تجاههم. في الحملات السياسية والإعلامية تركزت على جملة نقاط لا يعتبر الأوكران أنفسهم معنيين بها، سواء كانت حسابات خطوط النفط والغاز ومصالح أوروبا أو إضعافها وإضعاف الناتو، في مقابل المواقف السياسية التي تعتبر أن بوتين خسر الحرب والحقيقة ليست كذلك، لأنه في مثل هذه الحالات التي يتم فيها تدمير مدن وتهشيم دول وتهجير مجتمعات لا يمكن الحديث عن الفوز بالحرب على ما نجح في إلحاق الخراب.

منذ اليوم الأول كانت الأهداف الأساسية للحرب هي جيوستراتيجية وسياسية، إبعاد أوكرانيا عن الاتحاد الأوروبي والناتو، وعندما تقدم زيلينسكي بطلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي خذله الأوروبيون. فرض الروس واقعاً على الأرض، في حين دخلت المفاوضات مرحلة جديدة، قد تكون فرصة ليعلن فيها بوتين تحقيق أهدافه الاستراتيجية بالسيطرة الكاملة على الدونباس، والسيطرة على نهر دنيبر الموصول إلى شبه جزيرة القرم وبذلك يقسم أوكرانيا إلى قسمين قسم شرقي وقسم غربي، ويمنعها من الإطلالة على البحر الأسود.

وبحال سيكون هناك حلّ للحرب الروسية الأوكرانية، خاصة أن الرئيس الروسي يضع سقفاً زمنياً مهلته أيام قليلة لإعلانه النصر وتحقيق أهدافه، فإن ذلك سيؤدي إلى متغيرات في الوقائع الاستراتيجية والسياسية في منطقة الشرق الأوسط. خاصة أن الأزمة الأوكرانية أعادت إحياء اصطفافات غير تقليدية في العلاقات الدولية لدول عربية وخليجية معظمها اصطف إلى جانب الروس وفي مواجهة الأميركيين، الذين لم يكن همّهم سوى رفع الإنتاج النفطي والذهاب إلى اتفاق مع إيران، ما أدى إلى موقف سعودي وخليجي مضاد، برفض رفع نسبة الإنتاج النفطي اليومي، وبالاعتراض على السياق الذي تذهب به واشنطن لإبرام اتفاق مع طهران. هنا لا بد من العودة في الحسابات إلى التناقض في المصالح الأميركية الخليجية منذ ثمانينيات القرن الفائت والخلاف السعودي الأميركي على صفقة صواريخ سعودية صينية، وقد امتد ذلك إلى ما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول والاعتراض على الغزو الأميركي للعراق، فيما المشكلة الأعمق والتي كانت تتعلق بالنفط تعود إلى العام 2008 حينذاك زار الرئيس الأميركي جورج بوش المملكة العربية السعودية وطلب رفع الإنتاج النفطي لأن الارتفاع في أسعار النفط سيؤدي إلى أزمة مالية عالمية، ووقعت الأزمة حينذاك ما أدى إلى حصول تباعد كبير في العلاقات الأميركية الخليجية، واستمر التباعد في عهد باراك أوباما ولا يزال قائماً إلى اليوم. كل هذه الشواهد والوقائع تفرض على السعودية ومصر الذهاب إلى إنتاج تحالف إقليمي جديد قادر على حماية الأمن القومي العربي ولا يرتكز فقط على انتظار الأميركيين في توفير الحماية من هنا لا بد من استعادة الدور في الساحات العربية المختلفة، من العراق إلى سوريا ولبنان توازياً مع اليمن، فكما يُستحضر مثَلُ حلب اليوم في كييف، لا بد من أن يُضرب المثل نفسه بالنسبة إلى الأمن القومي العربي والخليجي، وذلك لا بد أن يرتكز على تعاون وتنسيق خليجي عربي تركي لاستعادة تكريس توزان مفقود في منطقة الشرق الأوسط.

تلفزيون سوريا

——————————

انفصام بوتين ونفاق الآخرين/ د. يحيى العريضي

 يُصاب المنفصم بعوارض تجعله يتخيّل نفسه أقوى مخلوق في العالم؛ يستطيع أن يُطعِم ويَحرِم، يرفع ويَخفِض، يجعل الأسود أبيض والأبيض أسود، يحمي القيم ويخرقها، يحرر ويحتل؛ ثم يستفيق على قدرته المحدودة، وتناقضاته المفضوحة، وطموحاته المتكسرة؛ وهذا فعلياً ما يحدث الآن للقائمين على السياسة الروسية، الذين عاشوا في كنف إمبراطورية كانوا هم ذاتهم مِن بين الأدوات التي أجهزت عليها؛ وبمفارقة عجيبة يسعون الآن إلى إعادة تركيبها كما تشتهي تناقضاتهم؛ فيجدون أنفسهم يغوصون في بهلوانيات يدفع ثمنها ما ومَن يحتكّون به دماً ودماراً وكوارث. والكابوس الأوكراني أحدث مغامراتهم؛ بعد أن دمروا سورية بالاشتراك مع منظومتها الاستبدادية، في غفلة من ضمير العالم، ونفاق بعض قواه الكبرى.

يصعب وصف صَحْوة الغرب شِبه المفاجئة على بوتين وأفعاله، رغم أن مراكز البحوث الغربية، ومرجعياتها، وسمعتها الذائعة، قد حذّرت على الدوام من أن رائحة هتلرية تزكم الأنوف، تأتي من “الكرملين”، قد بدأت تفوح في كوكبنا. حتى صرخات رجالات السياسة كانت تدوي بتحذيراتها؛ ولكن يبدو أن كل ذلك كان يقع على آذان صماء، وربما عقول خبيثة، تكتم ما نراه اليوم. ومن هنا، لا يليق بها وصفاً إلا النفاق وازدواجية المعايير التي تدفع الشعوب ثمنها، ولا بد أن يصلهم لهيبها.

في إحاطة ليست ببعيدة لرئيس لجنة الخارجية في الكونغرس الأمريكي، “مينيندز”، ذكّر الرجل بتصريح لبوتين يطلب فيه من “أوكرانيا” أن تتعامل “بحسن نية”؛ ويتابع ساخراً أن “بوتين يريد من أوكرانيا أن تُستباح وتكون “حسنة النية” تجاه ذلك؛ وتتركه يسيطر عليها”. وفي هذا السياق، كم كنّا نأمل من السيد “مينيندز”، الذي نقتبسه هاهنا، أن يضيف بأن بوتين وجوقته يعتبرون أنفسهم “منقذين لسورية”، رغم أن تدريباتهم الدموية على ما يدور في أوكرانيا قد تمت في سورية، ولا تزال مستمرة.

في خطبته العصماء قبل غزوه لأوكرانيا، رافع بوتين عن مظلوميات تاريخية وقعت في بلاده، ولم يعفِ قادة الاتحاد السوفييتي من ارتكاب أخطاء بحق التاريخ الروسي، ويرى بنفسه ناشراً للفضيلة و”مصححاً للتاريخ”- كما وصفه صديقه بشار الأسد – ولكن ذاكرته تخونه عنوة، فيغفل عن تعداد ما “أنجزه” على صعيد داخلي في التحوُّل إلى رئيس أبدي لروسيا، وتنصيبه مجلساً نيابياً للدمى؛ وخارجياً عن سياسة الأرض المحروقة في الشيشان، واقتطاع “أبخازيا وأوسيتيا” عن الجسد الجورجي الأم، ووضع يده على “القرم”، واستخدامه لعصابات ومرتزقة “فاغنر” وصولاً إلى احتلاله لسورية، وأخيراً غزوه لأوكرانيا.

كَثُرت التكهنات والتوصيفات السلبية لحال الرجل، وتراوحت بين المريض والمنفصم والمغرور والقاتل ومجرم الحرب. في إحاطته للكونغرس حول بوتين، يظن المتلقي أن “مينيندز” يتحدث عن “هتلر”؛ لقد حمّله جرائم موثقة لا تزال تقع خلال العقدين الماضييْنِ من ضم “القرم” إلى غزو “أوكرانيا” وسحق سيادتها، إلى محاولاته تخريب الانتخابات الأمريكية، واستهداف قطاعات صحية وعلمية واقتصادية من قِبل عصابات تعمل برعايةٍ روسيةٍ رسمية، وصولاً إلى الاستمرار بدعم نظام الأسد الإجرامي، وارتكاب قوات بوتين لجرائم حرب وثّقتها الأمم المتحدة.

يغمز “مينيندز” من جانب تعاوُن الإدارة الأمريكية مع إدارة بوتين في سورية بالقول “إنه حتى ولو تم ذلك التعاون لخلق شيء من الاستقرار وتيسير المساعدات الإنسانية في سورية، علينا ألا ننسى سجل بوتين الأسود، ومسؤوليته عن كل تلك الجرائم، وفضح دوائر الفساد حوله وبرعايته؛ وعلى السيد “بايدن” أن يتذكّر بأنه وصف بوتين بالقاتل؛ ولا يخفى على أحد دعمه لنظام مافيوي تديره سلطة إجرامية مارقة”. ولو أن “مينندز” يقدم إحاطته اليوم، لكان تركيزه الأساس على ما تم ارتكابه في سورية، وكم كان قد وفّر على العالم من جرائم تقع الآن في أوكرانيا.

في الأقوال والشهادات أيضاً، عضو مجلس الشيوخ الأمريكي “ليندزي غراهام”، يرى أنه إذا فاز بوتين في حربه على أوكرانيا، فإن الصين سوف تسيطر على تايوان سريعاً. ويرى “غراهم” مثل آخرين أن الجيش الروسي يضعف على الأرض، ولا بد من زيادة الدعم العسكري لأوكرانيا. وتصل الأمور بحدة تصريحاته للرد على تلميحات إدارة بوتين حول النووي بالقول: “إذا قمتم بهجوم نووي، فسوف نرد عليكم بقوة وسرعة”. ويبشّر “غراهام” الروس بأن مستقبل بوتين سيكون سيئاً، وعليهم التحرك سريعاً؛ ويقترح أن يقوم الشعب الروسي بنفسه، ويأخذ الأمور بيده؛ ويشرع بتغيير النظام في موسكو.

وإذا كان لنا أن نذكّر السيد “غراهم” بأمر كان قد وفّر على عالمنا وعلى الأوكرانيين الكثير من الدم والدمار والتشرد؛ فهو فقط استحضار واستذكار ما فعل بوتين في سورية؛ حيث لا بد من ربط المسألتين ببعضهما البعض الآن.

ما قام به بوتين من تدمير الحَجَر والبَشَر في سورية؛ وخاصة عند التفاخر العلني الوقح باستخدام مئات أصناف الأسلحة في سورية؛ يعطي مثالاً صارخاً على عقليته العدوانية وسلوكه اللامُتَوَقَّع؛ والذي يجعل الاستقرار العالمي مستحيلاً؛ وهذا ما تجلّى أمام أنظار العالم في أوكرانيا. وها نحن نشهد صَحْوة العالم المفاجئة؛ التي نأمل أن تكتمل. ليأخذ هذا العالم ومجلس أمنه بعين الاعتبار أن ممارسة روسيا للإبادة الجماعية لم تبدأ في “بوتشا”، ولكنها كانت ممارسة دائمة ومديدة ترجمتها أَولاً في سورية.

———————

=====================

تحديث 10 نيسان 2022

——————–

عن قوّة الحرب الروسيّة وضعفها/ حازم صاغية

هناك تفاوت ملحوظ بين الحرب الروسيّة على أوكرانيا، بوصفها حدثاً عسكريّاً، والتطوّرات السياسيّة التي تخدم تلك الحرب. فقد صار من المتّفق عليه أنّ الهجوم، الذي انكفأ نحو الشرق وانحصر فيه، متعثّر ومتضارب، يندمج فيها التقدّم البطيء والتراجع السريع، وتكثر عنه التقارير التي لا تسرّ متحمّساً للروس أو معجباً بجيشهم وسلاحهم. لكنْ، وعلى رغم التعاطف الواسع، السياسيّ والإنسانيّ، مع أوكرانيا، وعلى رغم تصويتين متتاليين في الأمم المتّحدة حيث صوّتت الأكثريّة لمعاقبة روسيا، ينبغي عدم التهوين من مكاسب، كبيرة وصغيرة، تصبّ في رصيد الحرب الروسيّة وسياستها.

فالصين، التي كثر اللغط بشأن تردّدها وحيرتها، أشهرت تأييدها لموسكو من خلال حزبها الشيوعيّ الحاكم. ذاك أنّ الأخير أعدّ فيلماً وثائقيّاً، ناقشه كبار المسؤولين، صُوّر فيه فلاديمير بوتين بالبطل، وشُبّه بستالين (الذي تُجلّه الماويّة الصينيّة) إبّان الحرب العالميّة الثانية. ويبدو، وفق تقارير صحافيّة غربيّة، أنّ الحزب الحاكم والجامعات، الرسميّة طبعاً، يرعون حملة منهجيّة لنشر «الفهم الصائب» للحرب واتّهام الولايات المتّحدة حصراً بالتسبّب فيها.

وغير بعيد عن الصين، اتّهم رئيس الوزراء الباكستانيّ عمران خان الولايات المتّحدة إيّاها بأنّها تقف وراء محاولة لعزله من ضمن رغبتها في تغيير النظام الباكستانيّ. أمّا دليله على الرغبة الأميركيّة تلك فلقاؤه بالرئيس الروسيّ مع بداية الحرب الأوكرانيّة، وبالتالي انتهاجه «سياسة خارجيّة مستقلّة». ومعروف أنّ البرلمان الباكستانيّ قد صوّت لحجب الثقة عن عمران، تماماً قبيل حملته على واشنطن.

وهناك طبعاً التعثّر على جبهة النفط والغاز، حيث لا يبدو من السهل ربط التعاون بالتعاون على جبهات أخرى إقليميّة تعني بلداناً صديقة تقليديّاً للولايات المتّحدة. ويمتدّ هذا التعثّر إلى أوروبا ذاتها. فرغم الضغوط المتزايدة عليها، تكاد ألمانيا تجزم بأنّها لن تستغني بالكامل عن النفط والغاز الروسيّين، وإن كانت ستقلّل، بعد مجرة بوتشا، الاعتماد عليهما. وكان الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي قد اتّهم المستشارة الألمانيّة السابقة أنغيلا ميركل، ومعها رئيس الجمهوريّة الفرنسيّة السابق نيكولا ساركوزي، بتقديم تنازلات كثيرة لبوتين شجّعته على اتّباع سياساته الحربيّة.

كذلك حقّق رئيس الحكومة الهنغاريّة فيكتور أوربان انتصاراً انتخابيّاً كبيراً (135 من 199 مقعداً لحزبه «التحالف الهنغاريّ المدنيّ») سوف يمنحه ولاية رابعة. لكنّ أوربان ما إن ابتعد قليلاً عن «صديقه» بوتين، بُعيد الهجوم على أوكرانيا، حتّى عاد «طبعه»، بمجرّد إحرازه نصره الانتخابيّ، يغلب «تطبّعه». ففي خطابه الأوّل بعد الانتخابات، هاجم «بيروقراطيّي بروكسل» وزيلينسكي وسمّاهم «خصوماً». وقد سبق للأخير أن انتقد سياسة أوربان في منع نقل السلاح إلى أوكرانيا المجاورة لبلده. كذلك سارع الزعيم الهنغاريّ إلى إعلان موقف آخر في المنحى ذاته، مُبدياً استعداده لأن يدفع لروسيا بالروبل مقابل الغاز الذي يشتريه منها، غير عابئ بموقف الاتّحاد الأوروبيّ الرافض.

وكما في هنغاريا كذلك في صربيا، حيث فاز برئاسة ثانية للجمهوريّة القوميّ المتطرّف، المناهض للغرب والمُحبّ لروسيا، ألكسندر فوشيش. والأخير، مثل أوربان، من أكثر الذين طالتهم انتقادات المعارضين وبلدان الاتّحاد الأوروبيّ بسبب حقوق الإنسان في بلديهما ورصيدهما السالب في معاملة أصحاب الرأي الآخر.

بوتين، من ناحيته، كان من أوائل المهنّئين لرئيس الحكومة الهنغاريّ ورئيس الجمهوريّة الصربيّ بفوزهما.

وقد يضاف هامش ليس عديم الصلة بهذه الوجهة: إنّه المهاترة الفرنسيّة – البولنديّة. فقد اتّهم رئيس حكومة بولندا ماتيوش مورافيسكي الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون بأنّه كان في تفاوضه مع بوتين كمن يفاوض هتلر وستالين وبول بوت. جاء هذا الاتّهام القاسي بُعيد مجزرة بوتشا وقُبيل الدورة الأولى للانتخابات الفرنسيّة، فاستحقّ ردّاً لا يقلّ ناريّةً من الرئيس الفرنسيّ الذي اتّهم نظام وارسو بمناهضة القيم الديمقراطيّة والإصلاحات الاقتصاديّة، وأنّ شعب بولندا «يستحقّ ما هو أفضل».

لكنّ الدعم السياسيّ لروسيا أو الامتناع عن دعم أوكرانيا يرتبط تأثيرهما، أو ضعف تأثيرهما، بأداء الجيش الروسيّ على الأرض، وبالتالي بقدرة موسكو على الاستفادة من هذا الدعم، أو الاستفادة من عدم دعم الأوكرانيّين. ما يبدو، حتّى إشعار آخر، أنّ الأداء العسكريّ الروسيّ ليس مدعاة لتفاؤل من يؤيّدونه.

يُلاحَظ، إلى ذلك، أنّ معظم الدعم السياسيّ المُهدى إلى موسكو ناتج عن تأزّمٍ ما في العلاقة بواشنطن، أو بالاتّحاد الأوروبيّ. المتعاطفون مع بوتين لا يكنّون بالضرورة محبّة خاصّة له، وباستثناء «التسريب السرّيّ» للحزب الشيوعيّ الصينيّ، ليست هناك مرافعات تدافع عن مزايا بعينها في النظام الروسيّ. وأخيراً، هناك المقاومة الأوكرانيّة التي توحي المعطيات حتّى الآن أنّ قدرتها على خلط الأوراق لن تكون بسيطة في حرب يتزايد عدد الذين يتوقّعون أنّها ستكون طويلة. أمّا تلك القدرة فيُرجّح أن تغدو أكبر فأكبر مع تعاظم المآسي الأوكرانيّة وتوسّع حجمها نتيجةً لتعاظم الإخفاق العسكريّ الروسيّ والإمعان في استراتيجيّة «الأرض المحروقة».

الشرق الأوسط

————————

حرب أوكرانيا تسلط الأضواء من جديد على سوريا/ عبد الباسط سيدا

 من الواضح أن حرب بوتين على أوكرانيا لم تحقق أهدافها المعلنة، وهي الأهداف التي كانت تتمثل في السيطرة على كييف، وإسقاط الحكومة المنتخبة هناك بذريعة أنها نازية النزعة، وتعيين حكومة دمية هناك. هذا بالإضافة إلى نزع السلاح الأوكراني وفرض صيغة من التبعية التامة لموسكو تحت اسم الحياد؛ إلى جانب شرعنة الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم، والتمهيد لضم مناطق شرق أوكرانيا لروسيا تحت شعار استقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك في إقليم دونباس؛ وربما إعداد العدة بعد ذلك لابتلاع أوكرانيا بالكامل التي شكك بوتين قبل الحرب في شرعية وجودها أصلاً خارج الفضاء الروسي.

فبعد الاستبسال القوي الذي أبداه الأوكرانيون دفاعاً عن بلادهم، وجد بوتين ضرورة التعديل في خططه، ليكون التركيز على المناطق الشرقية والجنوبية من أوكرانيا، وذلك بعد أن أدرك أن الاستمرار في محاولات السيطرة على كييف وغيرها من مناطق الغرب الأوكراني سيؤدي إلى استنزاف كبير في أعداد قواته وعتادها، وهو الأمر الذي لا تتحمله موسكو، لا سيما من جهة أعداد القتلى. فالمجتمع الروسي يعاني بصورة عامة من تراجع عدد الولادات وهجرة الشباب؛ الأمر الذي ينذر بحدوث ردة فعل عامة لدى الأسر الروسية التي تكتفي غالبيتها بولد واحد. ولعل هذا ما يفسر اعتماد الجيش الروسي على القوات الشيشانية والداغستانية وغيرها؛ كما يلقي الضوء على ما كشف بوتين النقاب عنه من ناحية التفكير بجلب المرتزقة من منطقة الشرق الأوسط، خاصة من سوريا، وهي المنطقة التي تعاني من النقص في كل شيء ما عدا العنصر البشري الذي بات الفائض فيه يسيل لعاب أصحاب المشاريع الامبراطورية الذين يقومون باستغلال حاجات الناس، ويدغدغون عواطفهم ونزعاتهم في عملية تشكيل ميليشيات عسكرية تستخدم في المهام القذرة في مختلف المناطق، ومن دون أي ضمان لأبسط حقوق القتلى في صفوفها.

وفي الوقت الذي لا يمكن لأي كان أن يشكك في شجاعة الأوكرانيين، وإصرارهم على الدفاع عن بلادهم في مواجهة الغزو الروسي التدميري؛ لا يمكن لأحد في المقابل أن يتصور أن مثل هذا الصمود كان من شأنه أن يكون لولا الدعم الغربي اللامحدود، سواء من جانب حلف الناتو أم من جانب الاتحاد الأوروبي، وعلى جميع المستويات، بما في ذلك الدعم العسكري الذي تمثل في شحنات متواصلة من الإمدادات العسكرية التي شملت، وتشمل، مختلف أنواع الأسلحة والذخائر، بما في ذلك الصواريخ المضادة للطائرات والدروع. هذا ناهيك عن كل العقوبات الاقتصادية وغير الاقتصادية بما فيها الرياضية، التي فرضت على روسيا، وتفرض تباعاً.

وفي سياق المقارنات الكثيرة التي تُجرى هذه الأيام من مواقع مختلفة بين الوضعين السوري والأوكراني، والإشارات المتكررة من مختلف الأطراف إلى جرائم روسيا في سوريا؛ نذكر هنا بالإصرار الدولي، الأمريكي تحديداً، على منع حماية المدنيين السوريين من القصف الهمجي الذي بدأ به طيران سلطة بشار الأسد على المدن والبلدات السورية منذ أوائل عام 2012، واستمر على مدى أعوام.

وكانت الحجة المستمرة التي تقدم دائماً هي الخشية من وقوع الصواريخ المضادة للطيران بأيدي الجماعات الإرهابية؛ هذا مع العلم بأن الجماعات المعنية لم تكن قد ظهرت بعد، وكانت التوقعات تتمحور حول وجود خطة لدى السلطة بالتواصل مع تلك الجماعات، وتشجيعها، بل وتصنيعها، لتسيطر على المناطق التي انسحبت منها قوات السلطة في إطار سعيها للتركيز على ما عُرف في ذلك الحين بـ «سوريا المفيدة»، لا سيما دمشق العاصمة التي كانت في صيف 2012 قابلة للخروج من دائرة سيطرة سلطة بشار، هذا فيما لو حصل السوريون المناهضون لها على جزء محدود جداً مما حصلت، وتحصل، عليه أوكرانيا، حالياً.

لقد اُدخلت في الأعوام الأولى للثورة كميات كبيرة من الأسلحة إلى الداخل السوري عبر أقنية شتى، وكل ذلك كان يتم بعيداً، وخارج نطاق دائرة قرار ومعرفة وتأثير المجلس الوطني السوري. ولكن السلاح الدفاعي المطلوب لحماية السوريين، ونعني به الصواريخ المضادة للطيران، ظل بعيداً عن متناول السوريين، لذلك استمر طيران بشار بالقصف، كما استمر دعم قوات السلطة بمختلف أنواع الأسلحة من جانب الروس، هذا على الرغم من ادعاءاتهم في ذلك الحين بأنهم مع الشعب السوري، ومزاعمهم في الاجتماعات الخاصة بأنهم ليسوا متمسكين ببشار الأسد.

وأذكر في هذا المجال أننا حين خاطبنا وزير الخارجية الروسي لافروف وجهاً لوجه أثناء زيارة وفد المجلس الوطني السوري إلى موسكو صيف 2012، وقلنا له أن السوريين المدنيين يقتلون بالسلاح الروسي، وأن المشافي والمدارس والمجمعات السكنية تقصف بالسلاح الروسي، وأن روسيا تتحمل مسؤولية أخلاقية وقانونية لقاء ذلك، كان جواب الوزير أن تلك الأسلحة تصل إلى السلطة بناء على عقود قديمة، فكان ردنا عليه: ولكن حتى هذه العقود القديمة لا بد أن تُراجع، طالما أن السلاح يستخدم في غير محله، فهو يستخدم ضد الشعب السوري نفسه.

وبمناسبة زيارتنا إلى موسكو، أذكر في ذلك الحين أنه كان من ضمن برنامجنا أن نلتقي مع الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، ومع المفتي العام للمسلمين في روسيا. اللقاء مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لم يتم، وكانت الحجة أن البطريرك مشغول. أما اللقاء مع المفتي، فقد حل محله اللقاء مع نائبه الذي استقبلنا مع وفد من مجلس الإفتاء، وكان الاستقبال ودوداً. وحينما بدأنا بالحديث عن معاناة السوريين، وما كانوا يواجهونه من قتل وتشريد وتعذيب وتدمير كان الرجل يعبر عن تعاطفه معنا لدرجة أن الدموع كانت تترقرق في عينيه، ويسجل كل كلمة نقولها. ولكن حينما بيّنا له في نهاية المطاف أن كل ذلك بفعل بدعم روسي، وأن السوريين يُقتلون بالسلاح الروسي، توقف الرجل عن الكتابة، وتحول إلى شخص جامد، ينتظر بشغف موعد مغادرتنا للمكان.

لكن الأنكى من هذا وذاك، أن بعض المعارضين السوريين ممن اعتبروا انفسهم «معلمين» من خارج المجلس الوطني، وقسما ممن كانوا في صف النظام طوال حياتهم، وتحولوا بقدرة قادر إلى معارضين، كانوا يتحفوننا بالنصائح والإرشادات العامة المبهمة التي لم يتمكن أصحابها، رغم ايحاءاتهم بأنهم من الملمين بكل شيء، من تقديم أفكار ملموسة، أو آليات واضحة تبين كيفية التنفيذ، لتصبح تلك النصائح واقعاً على الأرض يمكن الاعتماد عليه. فهؤلاء، إلى جانب بعضهم ممن سوقوا أنفسهم باسم «معارضة الداخل» كانوا يسخرون من إلحاحنا على مطلب ضرورة تدخل المجتمع الدولي لحماية المدنيين من أبناء شعبنا، ولكننا لم، ولن، نخجل أبداً في المطالبة بحقنا المشروع في تلك الحماية. فلو حصل السوريون على 100 صاروخ فاعل مضاد للطيران لتغيرت المعادلة بصورة كاملة في سوريا ومنذ منتصف عام 2012، ولكن يبدو أن الإرادات الدولية كانت تراعي الحسابات الخاصة بها لا تطلعات السوريين.

واللافت اليوم أن الرئيس الأوكراني يطالب اليوم بإصلاح منظمة الأمم المتحدة، بما في ذلك تغيير القواعد ضمن مجلس الأمن أو إخراج روسيا منه، أو تجميد عضويتها فيه، كما حدث مع عضويتها في مجلس حقوق الإنسان. وهذا ما طالبنا به باستمرار. فروسيا استخدمت الفيتو سواء مع الصين، أم بمفردها أكثر من 15 مرة لتعطيل أي قرار في صالح الشعب السوري، وهي اليوم تعطل مجلس الأمن تهرباً من الإدانة الدولية.

وما أذكره في هذا المجال، انه خلال لقاء وفد من المجلس الوطني السوري مع الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند صيف 2012 طرحنا الرأي التالي: ما فائدة التمسك بالشرعية الدولية إذا كانت هذه الأخيرة عاجزة عن حماية المدنيين السوريين؟ فمثل هذه الشرعية ستكون في هذه الحالة مجرد شرعية ورقية لا قيمة لها بالنسبة إلى الشعوب التي تعاني من حكوماتها.

اليوم نلاحظ أن الموقف الدولي، والغربي على وجه التخصيص هو أكثر تشدداً في مواجهة الحرب الروسية على أوكرانيا، وهذا أمر جيد ومطلوب.

ولكن علينا أن نشير هنا إلى التساهل الغربي الأمريكي تحديداً مع الروس، والتفاهم الشهير الذي كان بين بوتين وأوباما في خريف 2015 حول توزيع ميدان العمليات بين شرق وغرب الفرات تحت شعار: الأولوية لمحاربة الإرهاب وليس لحماية السوريين من إرهاب سلطة الأسد.

ونشير أيضاً إلى سياسة غض النظر التي أتبعتها الدول الغربية إزاء دخول ميليشيات «حزب الله» والميليشيات العراقية التي استخدمها نظام ولي الفقيه الإيراني أذرعاً في قمع السوريين وقتلهم وتهجيرهم وتدمير مدنهم وبلداتهم.

معركة أوكرانيا مستمرة، وهي ستترك من دون شك آثاراً عملية على التحالفات الدولية والإقليمية سواء في المدى المنظور، أم على المدى البعيد. ولكن المؤكد هو أن الأنظمة الديمقراطية إذا كانت حريصة على مستقبلها ومستقبل شعوبها، لا يمكنها أن تحافظ على نفسها من دون مساعدة الشعوب التواقة إلى الحرية في مختلف أنحاء العالم، وإلا فإن بلدان تلك الشعوب ستصبح قواعد ونقاط استناد لصالح الأنظمة الاستبدادية التي ترى أن القوة العسكرية هي أساس كل شرعية، وهذا مؤداه العودة إلى شريعة الغاب.

*كاتب وأكاديمي سوري

القدس العربي

————————–

الحرب على أوكرانيا بعيون روسيا: عملية إنسانية خاصة/ بشير البكر

الحرب على أوكرانيا هي أكثر حرب شهدت تغطية إعلامية من بين كل حروب العالم، كونها تدور في وقت تطورت فيه وسائل الإعلام والاتصال، وجرت في وسط القارة الأوروبية داخل منطقة مفتوحة، سهلّت انتقال محطات التلفزة والصحافيين، ومن دون رقابة مباشرة على الأخبار، كما حصل في الحروب الكبيرة التي جرت خلال العقدين الأخيرين في أفغانستان والعراق، حين تحكمت الولايات المتحدة بالصحافة والصحافيين. ومن بين البلدين المتحاربين استفادت أوكرانيا من الإعلام أكثر من روسيا، التي خسرت الجبهة الإعلامية منذ اليوم الأول للحرب.

وهناك أكثر من وجه للخسارة الروسية. أولها عدم امتلاك خطاب إعلامي مقنع ومحاولة تصدير حجج تاريخية وتهم غير قابلة للتسويق حتى في الداخل الروسي، مثل القضاء على “الحشاشين والنازيين الجدد” في أوكرانيا، والفشل في استخدام حرب التضليل التي مارستها في سورية، ونجحت في إلصاق تهمة الإرهاب بـ”الخوذ البيضاء” لأنها نقلت للعالم الجرائم الروسية ضد المرافق الإنسانية.

والثاني التحكم بوسائل الإعلام الروسية بطريقة سوفييتية من خلال الرقابة وفرض قوانين من أجل إعلام أحادي ورأي واحد. ومع سريان السرية والرقابة في روسيا، سيطرت أوكرانيا على الرواية من خلال إصدار تقارير عن الخسائر على كلا الجانبين، ومقاطع فيديو للجنود الروس الأسرى، ولقطات للدمار من الضربات الجوية الروسية.

وعلى الرغم من أن الإعلام الأوكراني لم يكن محصناً من المبالغة والعرض الانتقائي للحقائق، إلا أنه لا تمكن مقارنته بمحاولات روسيا خلق واقع مشوه موازٍ.

تجاهل روسي لوسائل الإعلام

والثالث إغلاق الأبواب بوجه وسائل الإعلام الأجنبية. ويبدو أن سبب هذا القرار هو الحسابات السياسية والعسكرية التي لم تأخذ في عين الاعتبار دور وسائل الإعلام، التي وصلت إلى عين المكان قبل إطلاق الرصاصة الأولى في 24 فبراير/شباط الماضي، وبقيت تتوافد إلى المدن الأوكرانية على الرغم من ضراوة القتال.

والرابع هو أن “فيسبوك” و”تويتر” حذفتا كل الأخبار والفيديوهات الروسية المضللة عن شبكاتها في وقت مبكر، وهذا ما دفع روسيا إلى حظرهما كلياً.

والسبب الخامس هو الفارق بين أسلوبي الرئيسين الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والروسي فلاديمير بوتين في إدارة المواجهة، الأول صريح ومباشر وفي الميدان، والثاني يعتمد على الخطب المسجلة، متعال ومتعجرف. وتبين أن أوكرانيا تمتلك خبرة مباشرة في مواجهة روايات الدعاية الروسية.

ووجّه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لوماً شديداً لوسائل الإعلام خلال زيارته الأخيرة إلى الهند في الأول من إبريل/ نيسان الحالي، وظنّ بعض الصحافيين أنه يمازحهم، حين قال لهم إن استعمال تعابير “حرب” و”غزو” لوصف ما يجري في أوكرانيا ليس دقيقاً، ويعبّر عن تحامل على روسيا.

ووصف ما يجري بأنه عبارة عن “عملية عسكرية إنسانية خاصة بهدف حرمان كييف من قدراتها العسكرية”. وحين شدد الوزير الروسي بقوة على هذه الجملة، فهم الصحافيون أن ما جاء على لسانه ليس من قبيل دعابات أول إبريل، بل هذا هو الموقف الروسي الرسمي الذي تبلغه الإعلام المحلي والأجنبي في 26 فبراير الماضي.

وجرى العمل به منذ ذلك الوقت، ولم يتغير فيه حرف واحد رغم العدد الكبير من الضحايا والمهجرين والنازحين الأوكرانيين الذين تجاوز عددهم 10 ملايين، والدمار الذي وصل في بعض المدن إلى 90 في المائة من العمران والبنى التحتية كما هو الحال في مدينة ماريوبول الساحلية، و30 في المائة لمدينة خاركيف المحاذية للحدود الروسية.

لا تزال الرواية الروسية الرسمية تصر على أن ما يجري ليس حرباً، ولم تغير التهديدات باستخدام أسلحة نووية من موقف موسكو، في حين أن قوة عدوها الذي استنفرت لتقطع رأسه، فولوديمير زيلينسكي، تكمن في أنه لعب منذ اليوم الأول لعبة الإعلام، ما مكنه من خلط الأوراق الدولية وكسب الرأي العام إلى صفه.

وبالتالي، تحركت الحكومات لتزويده بالسلاح والمال وفتحت أبوابها أمام اللاجئين الأوكرانيين من النساء والأطفال الذين يشكلون عبئاً كبيراً في الحرب. ووجد زيلينسكي جيشاً أقوى من كل الجيوش: الإعلام الدولي الذي يقف معه لسببين.

الأول هو الوقوف ضد الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي لم تفرق بين الأهداف المدنية والعسكرية، خصوصاً المستشفيات كما حصل مع قصف مستشفى الأطفال في مدينة ماريوبول.

والثاني هو الموقف من روسيا التي بدأ خطاب ومواقف رئيسها فلاديمير بوتين تثير قدراً كبيراً من القلق لدى الرأي العام، وخصوصا التلويح بالأسلحة النووية.

ومن أبرز أخطاء روسيا في إدارة المعركة الإعلامية، القانون الذي صدر عن الهيئة الناظمة للاتصالات في روسيا “روسكومنادزور” في 26 فبراير الماضي، الذي يلزم وسائل الإعلام، المحلية وغير المحلية، بحذف أي إشارة إلى “مدنيين قُتلوا على يد الجيش الروسي في أوكرانيا”، ومصطلحات “الغزو” أو “الهجوم” أو “إعلان الحرب”، من مضمون ما تنشره.

إعلام وحريات

صحافيون روس يعترضون على الحرب ضدّ أوكرانيا

وجرى حصر المعلومات بالمصادر الرسمية الروسية، التي “لديها وحدها معلومات آنية وموثوقة”، فيما تصف موسكو رسمياً تدخلها في أوكرانيا بأنه “عملية عسكرية خاصة” تهدف إلى “حفظ السلام”، وهو المصطلح الذي استخدمه بوتين عندما أعلن أن القوات الروسية ستدخل أوكرانيا لحماية الناطقين بالروسية في الجمهوريتين الانفصاليتين اللتين اعترفت بهما موسكو قبل يومين من إعلان الحرب: جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية.

وهنا يطرح السؤال نفسه عن سبب تعاطي موسكو مع الإعلام على هذا النحو في اليوم الثالث للعملية العسكرية، في وقت لم تتضح فيه صورة المواقف الدولية، واتجاهات وسائل الإعلام المحلية والدولية، وحتى قبل أن تحظر الدول الغربية وسائل الاعلام الروسية التي تعمل من بعض البلدان الغربية، مثل قناة “روسيا اليوم” التي كانت تحتفظ بمكاتب ومراسلين عبر العالم.

ويمكن استنتاج أجوبة كثيرة، أولها أن موسكو لم تراهن على كسب وسائل الإعلام الدولية، أو المعارضة لها في الداخل مثل صحيفة “نوفايا غازيتا”، التي صنفتها في عداد وسائل الإعلام الروسية “العميلة للأجانب”.

ولم تصمد هذه الصحيفة طويلاً وقررت التوقف عن الصدور في 28 مارس/آذار الماضي، إلى حين الانتهاء من “العملية العسكرية الخاصة”.

وجاء ذلك بعد منع السلطات نشر المقابلة التي أجرتها مجموعة من الصحافيين الروس المستقلين مع زيلينسكي، وينتمي هؤلاء إلى صحيفتي “نوفايا غازيتا” و”كوميرسانت”، وقناة “تي في راين”. والسبب الثاني هو أن الإعلام بالنسبة لروسيا لا يزال هو البروباغندا، التي تمتلك منها الكثير على مستوى العالم.

وهي تشتغل بشكل جيد في إطار التشويش على وسائل الإعلام ونشر الأخبار الكاذبة والشائعات، ولكن تأثيرها ظل محدوداً أمام الصور والتحقيقات التلفزية المهنية من الميدان، وكان يكفي نقل صور طوابير اللاجئين الأوكرانيين وهي تغادر ديارها لإدانة الغزو الروسي.

قمع إعلام الداخل الروسي

وما لم تحسب موسكو حسابه هو أن يتعرض إعلامها الرسمي إلى هزة من الداخل، وتحصل حركات تمرد واستقالات، وكانت البداية من الخطوة الشجاعة التي قامت بها الصحافية في القناة الأولى مارينا أوفسيانيكوفا، عندما خرقت جدار الصمت في 14 مارس الماضي، لتقطع البث التلفزيوني للقناة الأولى التي تعمل بها، وتعلن أمام الجميع رفضها الحرب.

وظهرت خلف المذيعة ترفع لافتة مكتوبة بخط اليد “لا للحرب” و”لا تصدق الدعاية. إنهم يكذبون عليك هنا”. وسرعان ما انقطع البث، واعتُقلت الصحافية التي دعت في فيديو مسجل “اخرجوا واحتجوا”، “لا تخافوا. لا يمكنهم سجننا جميعاً”.

وهذا ما حصل فعلاً، وتوالت ردود فعل من أوساط إعلامية، وقالت الصحافية الروسية يفغينيا ألباتس، التي تعد من أهم الوجوه الصحافية في موسكو، إنه “أورويل 1984، في هذا العالم.. الكذب حقيقة والحرب سلام”.

وصرحت النجمة التلفزيونية ليليا جيلديفا “معظم الروس ليسوا مع ما يحدث الآن. كل هذا الجحيم والرعب”، ومن ثم استقالت من قناة “أن تي في” التابعة لعملاق الطاقة “غازبروم” بسبب الغزو، وغادرت روسيا.

وكان الرد الرسمي هو المزيد من القمع، وخلال الأسبوع الأول من شهر مارس وحده، حجبت روسيا ما يقرب من 30 موقعاً لوسائل الإعلام الروسية والأوكرانية المستقلة.

كما أوقف تلفزيون دوجد المستقل عملياته وسط ضغوط حكومية. كما أن محطة إذاعة صدى موسكو العريقة في المشهد الروسي، بوصفها رمز حريات الصحافة التي ظهرت في أوائل التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أُزيلت بشكل غير رسمي من موجات الأثير واستُبدلت ببرامج حكومية.

ومع ذلك، فإن صحيفة التابلويد الروسية “كومسومولسكايا برافدا” الشهيرة، والتي تعني “الحقيقة”، ظلت تصدر بمانشيتات رئيسية مثل “الأبطال على الخطوط الأمامية”، “الرقيب دمر 10 قوميين”، “البلطجية المحترفون من الفيلق الأجنبي الأوكراني يكسبون 5000 دولار في اليوم”.

وظهرت تقارير مثيرة للسخرية مفادها أن روسيا تساعد أوكرانيا، و”منذ بداية العملية الخاصة، سلمت وزارة حالات الطوارئ الروسية أكثر من 2000 طن من المساعدات الإنسانية إلى سكان دونباس وأوكرانيا”.

وكشفت حرب أوكرانيا عن أن الإعلام الرسمي، تحديداً التلفزيون الحكومي، ظل المصدر الأول للأخبار بالنسبة للروس، ولم ينافسه سوى عدد قليل من المواقع المستقلة والرقمية في كثير من الأحيان.

ولذا أصبحت مجموعة وسائل الإعلام المدعومة من الكرملين، بما في ذلك القناة الأولى وقناة “أن تي في” وقناة الأخبار “روسيا 24″، مصادر للبروباغندا وبث الأخبار الكاذبة.

وفي حين تركز في تقاريرها وأخبارها الموجهة للخارج إلى حد كبير على معاناة المدنيين الأوكرانيين، فإنها تقدم للروس قصصاً مختلفة تماماً عما يجري على أرض الواقع. وتعرض الشاشات روايات عن مهمة إنسانية، عن استهداف الضربات الجوية “الجراحية” القوميين الأوكرانيين وتجنّب المدنيين، وتواجه روسيا ما يقوم به “العملاء الأميركيون” لنشر أسلحة بيولوجية ضد روسيا، ومواجهة تحركات قادة أوكرانيا بشدة للحصول على أسلحة نووية لمهاجمة الوطن الروسي.

وفي جميع الشبكات، يعتبر المقاتلون الأوكرانيون “إرهابيين” و”متمردين”، وحلف شمال الأطلسي هو “سيد أوكرانيا في الخارج” والصواريخ الروسية تضرب أهدافاً عسكرية فقط، بينما تستخدم القوات الأوكرانية المستشفيات والمباني السكنية من أجل تخزين الأسلحة.

——————————-

من أوكرانيا إلى سوريا: السوريون ضحايا ازدواجية المعايير وفشل المنظومة الدولية/ حسام محمد

اتحدت كبرى دول العالم، اجتمعت الكيانات الدولية على وجه السرعة، قرارات داعمة للحقوق والحريات وعقوبات ودعم عسكري مع إنساني، الحدود فُتحت والخدمات قُدمت والوساطات تكاثرت، كلها إجراءات وخطوات اتخذها الغرب والكثير من عواصم العالم على عجل لمواجهة الحرب الروسية على أوكرانيا، ودعما لحقوق الشعب الأوكراني.

سلسلة القرارات العالمية الطويلة يصفها البعض بالطبيعية، فهناك دولة معتدية ودولة يتم الاعتداء عليها، وهناك جرائم ترتكب وحقوق تنتهك، وبالتالي فإن لغة المنطق تقول: لا بد من حماية حقوق الإنسان فكل القرارات الدولية تفيد بذلك وأن المؤسسات والمجالس الدولية وضعت حول هذا الخصوص.

لكن ما آثار دهشة السوريين على وجه الخصوص، أن الجهة المعتدية على الشعب الأوكراني هي ذاتها التي أذاقتهم عذابات لا تعد ولا تحصى منذ عام 2015. إذ أن الجيش الروسي يستخدم في حربه على أوكرانيا ما كان قد جربه على أجساد السوريين من أسلحة وعتاد وذخائر طيلة السنوات التي تحرك فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لحماية النظام السوري من السقوط.

جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الروسي في أوكرانيا وأكدها العالم بدوله وجمعياته ومؤسساته الحقوقية قابلتها عقوبات صارمة من المجتمع الدولي كان آخرها تعليق عضوية موسكو في مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، إضافة إلى سلسلة من العقوبات الاقتصادية والتجارية لا تكاد تحصى لكثرتها من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وغيرها من الدول، وأن العمل جار نحو تحديد كل الجهات أو المجموعات الروسية الضالعة في ارتكاب جرائم حرب بغية محاسبتها وفق المحاكم الدولية.

في حين أن روسيا ذاتها تُركت بكامل حريتها في سوريا رغم الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها ضد الشعب السوري السائر تحت رايات الحرية والتغيير، ليبقى السؤال بحاجة لأجوبة شافية ومنطقية، هل حقوق الإنسان خاصة بشعوب دون أخرى؟

المعادلة واحدة

سارع رأس النظام السوري بشار الأسد إلى إعلان دعمه المباشر للحرب الروسية على أوكرانيا، إذ اعتبر «روسيا اليوم لا تدافع عن نفسها فقط وإنما عن العالم وعن مبادئ العدل والإنسانية».

الأسد اعتبر وفق وكالة «سانا» أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا «هي تصحيح للتاريخ وإعادة للتوازن إلى العالم الذي فقده بعد تفكك الاتحاد السوفييتي» وفق تعبيره، معلنًا عن دعم نظامه لروسيا تحت ذريعة «أن العدو الذي يجابهه الجيشان السوري والروسي واحد، ففي سوريا هو تطرف وفي أوكرانيا هو نازية».

أما الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فكانت سوريا حاضرة في العديد من تصريحاته منذ بدء الحرب الروسية على بلاده، وربط عدة مرات ما بين ما تعيشه أوكرانيا وما عانته المدن السورية من التدخل العسكري الروسية لصالح الأسد.

المعارضة السورية من جانبها، سارعت في التنديد بالحرب الروسية على أوكرانيا وربط ما يجري هناك بما تعانيه سوريا، إذ أشار رئيس الائتلاف السوري سالم المسلط إلى أن جرائم روسيا في سوريا ما زالت قائمة رغم انشغالها بالعدوان على أوكرانيا، مشدداً على ضرورة دعم دولي حقيقي وجدي لقوى الثورة العسكرية من أجل الإسهام في انحسار الوجود العسكري الروسي في سوريا، وفي الوقت ذاته عدم السماح لإيران باستغلال ذلك للتمدد عسكرياً ونشر ميليشياتها.

ربط الحرب الروسية على أوكرانيا بالملف السوري لم يشمل الأطراف المتداخلة فحسب، بل تعداه إلى العديد من الصحف والمجلات العالمية، إلا أنه كان غائبا فعليا في مجالس صناع القرار.

في هذا الإطار، نشرت «الغارديان» البريطانية مقالا لهاميش دي بريتون غوردون، وهو خبير بالأسلحة الكيميائية، تحدث فيه عما اسماه «دروسا» كان ينبغي للغرب تعلمها حول الرئيس الروسي بوتين، إلا أنها مرت من دون أي ملاحظة، حيث تستمر جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية في ظل النظام السوري الذي ترعاه روسيا، حتى مع رغبة بعض القادة في إعادة بشار الأسد إلى المجتمع الدولي، مشيرا إلى استمرار جيش النظام السوري بقصف المدارس والمستشفيات وحرق القرى في سياسة الأرض المحروقة على غرار العصور الوسطى.

اختلاف جذري

الحرب في أوكرانيا تختلف جذريا من وجهة نظر عضو هيئة القانونيين السوريين، المحامي عبد الناصر حوشان، عما يجري في سوريا، فالأولى حرب بين دولتين مستقلتين تتعدد أسبابها وأهم الأسباب المعلنة منع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف الناتو.

في حين أن الصراع في سوريا هو نزاع داخلي «مدوّل» لم يرتق إلى درجة الحرب بين الأطراف الدولية المتواجدة في سوريا، ومن هنا نجد ان الحرب الروسية الأوكرانية هي حرب غير مباشرة من روسيا ضد أوروبا والولايات المتحدة، لذلك وجدنا وحدة الموقف الأوروبي والأمريكي والذي حشد وراءه أكثر من 145 دولة للوقوف ضد العدوان الروسي في الجمعية العامة للتصويت ضد العدوان وكذلك يتكرر الموقف اليوم في الجمعية العامة للتصويت على طرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان.

حوشان، قال لـ «القدس العربي»: «هنا تظهر الازدواجية في المعايير الدولية، والتي تكيل بمكيالين لأن العلاقات الدولية تقوم على المصالح، وليس على المبادئ، وقد تبين أن النظام السوري ما زال يشكل ضرورة لضمان أمن إسرائيل لذلك نرى التهاون والتخاذل الأمريكي والأوروبي تجاه القضية السورية».

أما الباحث في المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام رشيد حوراني، فقد علق على المقارنة بين تهافت الغرب لدعم أوكرانيا التي تتعرض للغزو الروسي وبين الموقف العربي العام من القضية السورية بالقول: «الأنظمة العربية تفتقد للبرامج الخاصة، وغالبيتهم وكلاء، حتى هوامش تحركاتهم تبقى ضعيفة من دون الحصول على ضوء أخضر من القوى المؤثرة فيهم».

ويضيف «في حين أن أنظمة الدول الغربية لا تريد الوقوع تحت ضغط الشارع الذي يتعاطف مع الشعب الأوكراني، لذلك تحركت القيادات الغربية على اعتبار أن مشروع بوتين بات يهدد مستقبل بلادهم، ولضرورة الحفاظ على مستقبلهم السياسي».

السوريون ضحايا التمييز

مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، اعتبر أن كل التحركات والقرارات التي اتخذها الغرب لدعم أوكرانيا وحقوق الشعب الأوكراني، مرحب بها، وكان عليهم واجب القيام بذلك فهو الحالة الطبيعية لمثل هذه الحالات سواء في أوكرانيا أو في أي دولة كانت.

ولكن المعالجة غير الطبيعية، هي ما فعله الغرب في سوريا، وكيفية تعاطيه مع القضية السورية، على سبيل المثال ما حصل من تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان بسبب ارتكابها انتهاكات تمس حقوق الإنسان في أوكرانيا، وشكلت جرائم حرب.

في العودة للساحة السورية، قال عبد الغني لـ «القدس العربي»: «روسيا ارتكبت انتهاكات وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا، ولكن لم يتم تعليق عضويتها أو محاسبتها، بل أن موسكو ظلت تصوت في المجلس لصالح النظام السوري كل السنوات الماضية، وتشجع كل حلفاء بوتين لدعم بشار الأسد في الجامعة العربية كما تفعل الجزائر حاليا.

كل هذه الإجراءات سببها ومردها المعايير المزدوجة التي يتم التعامل فيها، على اعتبار أن الحقوق لا تُبنى على التمييز وإلا سيكون التمييز عنصريا، وهو ما فعله الغرب تجاه السوريين، فحقوق الإنسان مبنية لصالح الإنسان بغض النظر عن دينه أو عرقه أو غيرها أمام القانون».

وأضاف، لقد كان حديث بعض الدول عن تطبيع العلاقات مع النظام السوري من أشدِّ الأمور استهجاناً في عام 2021 وكان الأسوأ من ذلك عدم اعتراض الدول الديمقراطية على هذا الطرح البشع، الذي لا يقيم أي اعتبار للملايين من الشعب السوري الذين هم ضحايا قتل، تعذيب، وتشريد، من قبل النظام السوري، والذي لم يغير شيئاً من سلوكه المتوحش تجاه شعبه.

كما أنه ما زال يرفض تماماً أي حلٍّ سياسي على أسس ديمقراطية تراعي مبادئ حقوق الإنسان. كما أن بقية أطراف النزاع ما تزال منخرطة في ارتكاب انتهاكات متعددة وما زال الجميع يعتاش على أنقاض الدولة السورية المنهارة.

أما المحامي عبد الناصر حوشان، فقد رأى أن الغرب نجح بمساعدة أوكرانيا لأنه يتعامل مع دولة قائمة، بينما كانت التفرقة والشرذمة التي سادت سوريا، من أهم الأسباب في عدم اقناع الغرب بالوقوف مع القضية السورية واقناعه بأننا أفضل من آل الأسد إضافة لتعدد وتضارب المصالح وأهداف الدول التي تدخلت في النزاع السوري.

التحرك الحقوقي ضد روسيا في أوكرانيا كان قويا وفعالا استند إلى قرار الجمعية العامة لإصدار قرار باعتبار ان التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا هو «عدوان» وهو جريمة حرب، مما منح الأوكرانيين الحق باللجوء إلى محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية بدعم من الغرب.

بينما ما زال الغرب والولايات المتحدة تنظر للنزاع في سوريا على اعتباره حربا أهلية وحربا على الإرهاب، وهو ما ندفع ثمنه من دمائنا وديارنا، خاصة أن روسيا ما زالت تمتلك حق النقض الفيتو حتى اليوم، وهو كفيل بإحباط أي محاولة لتحقيق العدالة الدولية في سوريا.

فشل المنظومة الدولية

قرأ الباحث في المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام رشيد حوراني، تكثيف الرئيس الأوكراني تحشيد الرأي العام العالمي ضد بوتين وجرائمه، كما أنه يريد أن تكون الحرب على أوكرانيا بدعم دولي محطة بوتين الأخيرة التي تكسره، لأن بوتين في حال ربح المعركة في أوكرانيا فإن هناك دولا أخرى سيعمل على الزحف باتجاهها.

كما أنه يريد تعزيز صورته أمام الرأي العام السوري ودعوة غير مباشرة لقوى المعارضة السورية للتحرك سياسيا ضد بوتين.

وقال حوراني لـ «القدس العربي»: الحفاوة باللاجئين الأوكران عكس أمرين، الأول فشل المنظومة الدولية في تحقيق وتكريس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واقعا معاشا، وكذلك الاتفاقية الدولية الخاصة باللاجئين.

والثاني أن البعد الهوياتي أمر لا يمكن انكاره لأي فئة «مكون اجتماعي أو دولة» وإن تم تذويبه أو محاولة مسحه بأساليب ناعمة أو خشنة فإنه ينمو في الظل منتظرا فرصة أو أزمة ما تسنح له بالظهور والتعبير عن نفسه.

أما أخطر ما حل بالسوريين من العرب فهو أمر يتعلق بأن أنظمة الحكم العربية تمكنت من إعادة تكوين العقل الجمعي العربي الذي لا يعترف بصلته بالعربي الآخر، وهو أمر له مخاطره على المستوى الإنساني بشكل خاص، كون من يغمض عينه عن مصيبة أبناء جلدته فيغمضها أمام مصائب الآخرين، وله مخاطره على المستوى المتوسط والبعيد وهو ما نراه من تهافت الأنظمة العربية للتطبيع مع إسرائيل دون أي اعتراض من الشارع العربي.

المعارضة تأسف وتطالب بالمزيد

ساهمت الحرب الروسية على أوكرانيا في تحرك المياه السورية الراكدة، إذ طالبت المعارضة السورية المجتمع الدولي بالتحرك بشكل حقيقي وتفعيل آلية المحاسبة الدولية لمرتكبي جرائم الحرب في سوريا بهدف إيقاف الجرائم المستمرة.

رئيس الائتلاف الوطني السوري سالم المسلط، وفي مقال نشره موقع تلفزيون «سوريا» بمناسبة إعلان الخارجية الأمريكية أن شهر آذار/مارس 2022 شهر محاسبة للأسد، أكد المسلط على أنها مبادرة إيجابية ولها رمزية لدى السوريين، مضيفاً أنها تحتاج لتحويلها لخطوات عملية تبدأ بطرد نظام الأسد من منظومة الأمم وإسقاط كل شرعية عنه في المنظمات الدولية، تمهيداً لمحاسبته في محكمة دولية، بالترافق مع برامج تعزل النظام أكثر، ويمكن أن تعيد للشعب السوري الحرية.

وعبّر المسلط عن أسفه لعدم قدرة عقوبات قيصر حتى الآن على سَوق نظام الأسد نحو العدالة، مؤكداً على أن سلاح العقوبات الاقتصادية قد يسهم في تقويض آلة الإجرام، لكنه قد يكون غير كافٍ لتحقيق مطالب الشعب السوري.

وشدد على أن محاسبة الأسد محكٌ حقيقي يختبر منظومة الأمم المتحدة، ويختبر آلياتها وأدواتها من مجلس أمنٍ إلى محكمة جنايات دولية، مضيفاً أنه جديرٌ بالمجتمع الدولي ألا يدع مجرماً كالأسد يزعزع ما تمخضت عنه الحضارة الإنسانية من أدوات.

كما وجّه رئيس الائتلاف الوطني السوري سالم المسلط، رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، طالب فيها بطرد النظام السوري من الأمم المتحدة وجميع المنظمات الدولية، وأعرب عن تأييده لقرار الجمعية بخصوص إدانة العدوان الروسي على أوكرانيا.

وأكد على أن الشعبين السوري والأوكراني يواجهان عدواً مشتركاً هو نظام بوتين، وعلى عدم قبول الشعب السوري أن يكون جزءاً من الجرائم الروسية بحق الشعب الأوكراني.

وأضاف المسلط أنه و«بصفتنا الممثل الشرعي للشعب السوري، نؤكد على أن الشعب يرفض بشكل قاطع الغزو الروسي لأوكرانيا، ولا يقبل على الإطلاق المشاركة بالمعارك الروسية على الأراضي الأوكرانية» وأكد على عدم مشاركة أي سوري من أبناء الثورة السورية في الحرب ضد أوكرانيا.

القدس العربي

———————————

الاتحاد الاوروبي يفتح أبوابه لأوكرانيا..وجونسون في كييف متعهدا بالاسلحة

أجرى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون زيارة غير معلنة لكييف السبت في “بادرة تضامن” مع أوكرانيا غداة قصف صاروخي طال محطة قطارات في شرق البلاد ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى والجرحى وأثار موجة تنديد غربية.

عرض تسليح

وعرض جونسون خلال الزيارة، تزويد أوكرانيا آليات مدرعة وصواريخ مضادة للسفن، مشيداً بأداء الجيش الأوكراني.

وقال إثر لقائه الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بحسب بيان لمكتبه: “بفضل القيادة الراسخة للرئيس زيلينسكي وبطولة وشجاعة الشعب الأوكراني، تم إحباط الأهداف الوحشية ل(الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين”.

وتابع البيان أن جونسون أعلن مساعدات عسكرية تشمل 120 آلية مدرعة وأنظمة صواريخ جديدة مضادة للسفن “لدعم أوكرانيا في هذه المرحلة الحاسمة مع استمرار الهجوم الروسي غير المشروع”.

واعتبر جونسون في مؤتمر صحافي السبت، أن الفظائع التي ارتكبت في مدينة بوتشا قرب كييف حيث عُثر على عشرات من جثث المدنيين بعد انسحاب القوات الروسية، “شوهت في شكل دائم” سمعة الرئيس الروسي. وقال: “ما فعله بوتين في بوتشا وإيربين هو جرائم حرب، وقد شوهت في شكل دائم سمعته وسمعة حكومته”.

واعتبر جونسون أن بوتين “تعرض لانتكاسة”، محذراً من أنه “سيُصعّد الضغط الآن في دونباس والشرق”. وتابع: “لهذا السبب فإنه من الأهمية بمكان… أن نواصل نحن، أصدقاءكم، تقديم كل ما في وسعنا من دعم”، متعهدا تزويد كييف آليات مدرعة وصواريخ مضادة للسفن.

كما تعهد المسؤول البريطاني بتكثيف العقوبات “أسبوعاً بعد آخر” ضد روسيا و”الابتعاد عن استخدام المحروقات الروسية”. وأكد أنه قبل الغزو الروسي “أشارت تقارير الاستخبارات العسكرية التي كانت متوافرة إلى أن الروس يعتقدون بإمكان السيطرة على أوكرانيا خلال أيام وأن كييف ستسقط في أيدي جيشهم في غضون ساعات. كم كانوا مخطئين!”.

تضامن دولي

وفي إطار التضامن الدولي مع اللاجئين الأوكرانيين جمعت حملة تبرعات 10.1 مليارات يورو (11 مليار دولار)، على ما أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في وارسو.

ومع مقتل الآلاف في المعارك وفرار أكثر من 11 مليون شخص داخل أو خارج البلاد، قال زيلينسكي إن الضربة على كراماتورسك جريمة جديدة تتطلب رداً غربياً. وقال في رسالة مصورة: “هذه جريمة حرب أخرى ترتكبها روسيا سيحاسب عليها كل شخص ضالع فيها”، داعياً إلى “رد عالمي شديد لجريمة الحرب هذ”.

وأكد في وقت لاحق عقب محادثات مع المستشار النمساوي الزائر كارل نيهامر أنه “لا يزال مستعداً” لمواصلة المفاوضات مع روسيا لتسوية النزاع.

وقال زيلينسكي إن تقارير وردت في موسكو عن القصف قبل سقوط الصواريخ. ودعا إلى مزيد من التسليح لمواجهة العدوان الروسي. وأضاف “أنا على ثقة بأن النصر في أوكرانيا مسألة وقت فحسب، وسأبذل كل ما بوسعي لتقليص هذا الوقت”.

وتجمعت حافلات ركاب صغيرة أمام كنيسة في كراماتورسك السبت، لإجلاء مدنيين في حالة صدمة. وأمضى نحو 80 شخصاً غالبيتهم من كبار السن، ليلتهم في مبنى الكنيسة غير البعيد عن المحطة التي طاولها القصف الجمعة.

زيارات أوروبية

وتزامن الهجوم على كراماتورسك الجمعة، مع وجود رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ووزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في كييف لمحادثات مع زيلينسكي. كما توجه المسؤولان الأوروبيان إلى بوتشا قرب كييف التي باتت رمزاً للفظائع التي تتهم روسيا بارتكابها.

وقالت فون دير لاين في مؤتمر صحافي مع زيلينسكي، إن روسيا تواجه “الانهيار” بسبب تشديد العقوبات وبأن أمام أوكرانيا “مستقبلاً أوروبياً”.

وعن بوتشا، قالت بعد الزيارة، “إحساسي يقول لي: إذا لم تكن هذه جريمة حرب، فماذا يشكّل جريمة حرب؟”.

وقدمت رئيسة المفوضية الأوروبية لزيلينسكي، الأوراق اللازمة لانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي. وقالت متوجهة لزيلينسكي: “رسالتي اليوم واضحة، أوكرانيا تنتمي إلى الأسرة الأوروبية، سمعنا طلبكم بصوت عال وواضح، ونحن هنا اليوم لنقدم لك أول رد إيجابي”.

وتسعى القوات الروسية على ما يبدو لشق طريق بري بين القرم التي ضمتها موسكو والمنطقتين الانفصاليتين في دونيتسك ولوغانسك في إقليم دونباس.

وقال بوريل السبت قبيل مغادرته وفون دير لاين أوكرانيا: “واضح أن هذه الحرب ستُحسم في معركة دونباس”.

وأعلنت وزارة الدفاع في موسكو السبت، أن القوات الروسية دمرت مستودعا للذخيرة في منطقة دنيبرو وأصابت 85 هدفاً عسكرياً أوكرانياً في الساعات ال24 الماضية.

في الجنوب استعدت مدينة أوديسا المطلة على البحر الأسود لهجمات صاروخية إذ أعلنت عن حظر تجول في نهاية الأسبوع.

وتنفي موسكو استهداف مدنيين، لكن أدلة متزايدة على ارتكاب فظائع حركت حلفاء أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي الذي وافق على حظر الفحم الروسي وإغلاق موانئه أمام السفن الروسية. وجمد الاتحاد الأوروبي 30 مليار يورو من الأصول الروسية والبيلاروسية العائدة لأفراد وشركات، على ما أعلن الجمعة. كما قرر فرض عقوبات على ابنتي بوتين وأكثر من 200 شخص آخرين في إطار عقوبات جديدة، بحسب قائمة رسمية.

وقال وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا بعد لقاء وزراء خارجية دول حلف شمال الأطلسي في بروكسل: “إما أن تساعدونا الآن، وأنا أتحدث عن مسألة أيام وليس أسابيع، أو تأتي مساعدتكم متأخرة جدا وسيموت عدد كبير من الناس وسيخسر عدد كبير من المدنيين منازلهم، وستُدمر العديد من القرى”.

—————————–

أوكرانيا تتوقع إستئناف الهجوم الروسي على كييف..بعد دونباس

أعلنت أوكرانيا اليوم الأحد أن روسيا تكثف عملياتها بهدف السيطرة الكاملة على دونيتسك ولوغانسك (شرقي البلاد)، مؤكدة استعدادها لخوض “معركة كبيرة”، بينما يتواصل إجلاء المدنيين.

ومع دخول حرب روسيا على أوكرانيا يومها الـ46، قالت هيئة الأركان الأوكرانية إن القوات الروسية تكثف عملياتها للسيطرة الكاملة على لوغانسك ودونيتسك، وسط تأكيدات بأن السيطرة على شرق البلاد “يمثل أولوية بالنسبة لموسكو”.

وقال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في مقابلة خاصة مع قناة “الجزيرة”، إنه “إذا لم تستطع القوات الأوكرانية صد الهجوم في إقليم دونباس شرقي البلاد، فمن المحتمل أن تعود القوات الروسية لمهاجمة العاصمة كييف من جديد”.

وأكد زيلينسكي أن الروس فشلوا في دخول العاصمة والسيطرة على سائر مناطق أوكرانيا، “بفضل إرادة الأوكرانيين”. وقال: “لو استطاع الروس السيطرة على كافة أراضينا لفعلوا، ولكنهم فشلوا”، لكنه أكد أن الحرب لم تنته بعد، وقال إن الكثير من مناطق أوكرانيا محتلة من قبل روسيا.

وفي ظل تصعيد روسي في شرق البلاد، نقلت وكالة الأنباء “انترفاكس-أوكرانيا” عن مستشار الرئيس الأوكراني ميخايلو بودولياك قوله إن “أوكرانيا مستعدة للمعارك الكبيرة. أوكرانيا يجب أن تكسبها بما في ذلك في دونباس”. وأضاف: “عندما يحدث ذلك سيكون لأوكرانيا موقف أقوى في المفاوضات وهذا يسمح لها بفرض بعض الشروط”.

من جانبها، قالت الاستخبارات الأوكرانية إن الجيش الروسي يعيد تجميع قواته شرقي البلاد، ويخطط للتقدم نحو خاركيف ثم ماريوبول ليعود لاحقا لمهاجمة كييف.

تبادل أسرى وممرات انسانية

ودفع هذا التصعيد من وتيرة الدعوات لاجلاء السكان المدنيين. وقال الصليب الأحمر الدولي إن عددا كبيرا من المدنيين ما زالوا محاصرين في ماريوبول. وشدد في تغريدة له على حاجتهم الماسة إلى ممر آمن قبل فوات الأوان.

وكانت نائبة رئيس الوزراء الأوكراني إيرينا فيريشتشوك قالت إنه تم الاتفاق على أن تفتح اليوم 10 ممرات إنسانية، بينها ممرات في مدينة ماريوبول.

الى ذلك، أعلنت موسكو وكييف عن تنفيذ عسكرييهما صفقة جديدة لتبادل الأسرى، هي الثالثة منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، سلمت خلالها موسكو إلى كييف 26 شخصاً منهم 12 عسكرياً.

وأكدت مفوضة حقوق الإنسان الروسية، تاتيانا موسكالكوفا، على قناتها في تطبيق “تيليغرام” الأحد أن عملية التبادل نفذت مساء السبت، وشملت خصوصا أربعة موظفين في المؤسسة الحكومية الروسية للطاقة النووية “روس آتوم” وعدداً من العسكريين الروس.

————————–

=================

تحديث 12 نيسان 2022

——————-

البوتينية وتاريخ الحركة القومية الأوكرانية/ سوار ملا

صحيحٌ أن عالمنا لم يعرف ديمقراطيّة خالية من العيوب والنواقص، بل ثمّة ديمقراطيّات ارتكبت العديد من الفظائع في تاريخها، لكن الصحيح أيضاً أن أيّ مُقارنة جادّة لن تخطئ في ملاحظة الفارق الجوهريّ بين الحياة، السياسيّة والإنسانيّة، في بلدان تحكمها أنظمةٌ ديمقراطيّة وأخرى تحكمها سلطاتٌ تنبذ الديمقراطيّة بذرائع مختلفة. ولن يُفشي أحدُنا سرّاً بالقولِ إنّ السلطة الحاكمة اليوم في موسكو ليست ديمقراطيّة بحال، بل إنّها في جوهرها تقترب من أوتوقراطيّة شعبويّة تُحاربُ كلَّ بزوغٍ ديمقراطيٍّ بالقرب من حدودها، أو حتى بعيداً عنها إن أمكنها ذلك. لكن من غير الممكن أيضاً إنكار هشاشة المحاولة الديمقراطيّة في سنوات أوكرانيا المنصرمة، وربّما يصحُّ القولُ بأنّ ما تعيشه أوكرانيا راهناً هو، في المقام الأول، «هروبٌ» من اللاديمقراطيّة الروسيّة-البوتينيّة أكثر منه توجّه نحو الديمقراطيّة الغربيّة، بمعنى أنّ سعي أوكرانيا للتخلّصِ من قبضة روسيا هو أساسُ توجّهها غرباً قبل النزوع الديمقراطي.

ولأجل تفسير ما يمكن تسميته بإعراض القوميّين الأوكرانيين عن جارتهم الكبيرة، لا بدّ من العودة إلى تاريخ الحركة القوميّة الأوكرانيّة وسياقات تشكّلها في ظلِّ الهيمنة السياسية والثقافيّة الروسية. لكننا قبل ذلك نحتاج إلى معرفة رؤية فلاديمير بوتين حول أوكرانيا، وفهم خطابه الراهن بشأن وجودها وهويّتها، وطبيعة مُبرّراته ذات الخلفيّة السياسيّة والتاريخيّة للحرب الأخيرة.

فلاديمير بوتين «مؤرِّخاً»

منذ سنوات تمارسُ حكومةُ بوتين سياسةً دعائيّة شرسةً عمادُها الترويج لــ «تاريخ روسيٍّ ناصع»، يعجُّ بانتصارات عظيمة وأبطال أسطوريين ودولة عظيمة ذات نظام اجتماعيٍّ مُستقر تماماً. وكثيراً ما تكون فترة الاتحاد السوفيتي هي المرجع الأساس لهذه السياسة، من دون أن تغيب الحقبة القيصريّة أيضاً كلّما اقتضت الحاجة.

ولا تقتصر الماكينة الدعائيّة الروسيّة على الوسائل الإعلاميّة والمؤسسات الرسميّة فحسب، بل حاول بوتين نفسه غير مرّة المساهمة كـ «مؤرخ» عبر مقالات تتناول التاريخ وتعرضه كما يُحبُّ له أن يكون. وقد تبدّت هذه النزعةُ «التأريخيّة» لدى بوتين بصورةٍ جليّة أكثر منذ حربه الأخيرة ضدّ أوكرانيا، فنجده يلجأ في سياق تبرير هذه الحرب إلى ما هو أبعد من مجرد مخاوف استراتيجيّة، مُعتمداً سرديّةً «تاريخيّة» تنفي في جوهرها صفة الدولة المُستقلّة عن أوكرانيا، باعتبارها ليست إلا «روسيا الصغرى». هذه السرديّة تُقدّم أوكرانيا كابنة ضالّة ضيّعت بوصلتها، وانحرفت مع رفاق السّوء في غفلة من الزمن، وليس في وسع الأمّ (روسيا) سوى أن تهرع لنجدتها من الأشرارِ وتُريها طريق الحق القويم.

يفيضُ خطابُ بوتين حول هويّة أوكرانيا وتاريخها بكثير من الغطرسة وعدم الاكتراث. فنراه يُخبرُ الأوكرانيين بوسائل شتى كيف أنّهم مُخطئون في تحديد هويّتهم وتاريخهم، إذ أنهم في الواقع ليسوا أوكرانيين كما اعتقدوا طوال الوقت، إنّما «روسٌ صغار». بهذه الطريقة الباردة المُتعالية يتناولُ بوتين مسألة حسّاسة كهويّة شعب، مُقدِّماً نفسه كمُصحِّح لأخطاء تاريخيّة.

وحريُّ بالذكرِ أن هذا الخطاب القوميّ-البوتينيّ يتزامن مع «صحوة» قوميّة أوكرانيّة بدأت في الواقع منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، لكنّها تجلّت بوضوح منذ العام 2014، وبلغت منذ الحرب الأخيرة ذروة غير مسبوقة، حتى بين فئة معقولة من الأوكرانيين الروس أو الناطقين بالروسيّة. ثمّة تحوّلٌ حقيقيٌّ حدث في أوكرانيا على الصعيد الشعبيّ، وليس عادلاً القولُ إنّ ما يحصلُ هناك الآن مجرّد صراعٍ بين روسيا والناتو، إذ ثمّة أيضاً نفورٌ شعبيٌّ أوكرانيٌّ مُتراكمٍ من «شرقٍ» تقوده وتمثّله روسيا. كما أن اعتبار بوتين أوكرانيا جزءاً تاريخيّاً طبيعيّاً من روسيا، أي أنّها في النهاية ليست إلا أرضاً روسيّة، لا ينبع فقط من مجرّد نزعة إمبراطوريّة أو غطرسة أو خوف من توسّع الناتو شرقاً، بل يقوم في جانب منه أيضاً على الطريقة التي تعامل بها الغرب عبر الزمن مع أوكرانيا، ثقافةً وكياناً، أي على صورة ومكانة أوكرانيا لدى الغرب. وهذا ما ستحاول المقالة التطرق إليه بشيء من الاقتضاب فيما يلي.

أوكرانيا في المنظور الغربي

عند الحديث عن صورة أوكرانيا في المخيّلة الغربيّة، لا مناص من التطرُّقِ لكليشيهات نمطيّة استعلائيّة، لا تقتصرُ بطبيعة الحال على أوكرانيا فحسب، بل تنسحبُ على معظم أرجاء أوروبا الشرقيّة. ولعلّه من الممكن في هذا السياق التحدُّث عن «استشراق غربيّ»، لجهة التنميط السلبيّ والتعميم الاختزالي والأحكام المسبقة المُقولِبة حول الأوروبيين الشرقيّين بصورة عامّة. لكن هذا الاستشراق يكتسي طابعاً مُضاعفاً حين يدور الأمر حول أوروبيين شرقيين مُهمّشين قليلي القوة والمكانة والحضور، كما كان حال الأوكرانيين لزمنٍ طويلٍ.

لطالما تمّ في الغرب النّظر إلى أوكرانيا بوصفها جزءاً من روسيا، أو باعتبارها كياناً نتج عن «سوء فهم تاريخي» و«مجتمع منقسم بعمق»، كما يذكرُ المؤرّخ والبروفيسور الأوكراني، روسيّ اللسان، أندري بورتنوف. هذا التصوّر الغربيّ لم يغب، أو يخفت بريقه، إلا مؤخراً، سيما منذ ضمّ القرم سنة 2014 وبشكل أوضح بكثير منذ بداية الحرب الأخيرة. بل حتى بُعيد ضمّ القرمِ من قبل الروس، دعا المستشار الألماني السابق هيلموت شميت إلى «تفهّم سياسة بوتين» بذريعة أن «وجود قوميّة أوكرانيّة ما زال موضوعاً إشكاليّاً لدى المؤرخين». قولُ شميت الآنف يُظهر تصوّراً مُتجذّراً في الغرب يُشكّك في أصالة أوكرانيا كقوميّة وثقافة ودولة مُستقلّة، ويُبدي كذلك أنّ دفاع الحكومات الغربيّة الراهن عن أوكرانيا ذو منبع سياسيّ-استراتيجي، أكثر منه إنساني أو حقوقي مؤمن باستقلاليّة أوكرانيا وشعبها. لكن هذه مسألة أخرى لا يتسع لها المقال هنا.

«معاداةُ الروسيّة» ذريعةً للحرب ضدّ أوكرانيا

من اللافت سعيُّ فلاديمير بوتين الحثيث إلى إبرازِ أوكرانيا كياناً احتلّه «نازيون» مُعادون للروس. أي أنّه يبني سرديّته، في مكان ما، على ابتداع تَماثُلٍ بين وضعيّة روس مُستهدَفين من «النازيّة الجديدة» ووضعية اليهود الذين استهدفتهم النازيّة الأصليّة في القرن الفائت. وبالتالي يصبحُ كلّ من يعادي سياسات بوتين أو يُعارضها «نازيّاً مُعاديّاً للروس» بشكل تلقائي. غير أن ثمّة مُفارقة رهيبة تعترضُ درب هذا التماهي المنشود مع المظلوميّة اليهوديّة، فيهود أوروبا كانوا في مقتبل القرن البائد ضعفاء سياسيّاً واجتماعيّاً ومسلوبي القوّة على أتمّ وجه، بينما «روس بوتين» تحميهم دولةٌ نووية كبرى، تحتلُّ وتعتدي على أراض مترامية الأطراف في أنحاء العالم. كما أن بوتين ذا النزعة الإمبراطوريّة التوسّعية أقربُ لأدولف هِتلر بأضعاف ما يمكن لزيلنسكي أن يكون؛ وما الحديثُ المُبالغ فيه عن الــ«روسوفوبيا» والــ«آنتي روسيّة» كذريعة للحربٍ ضدّ الأوكرانيين إلا ضربٌ من الشعبويّة البوتينيّة.

لكن، ولسوء حظّ بوتين، فإن عالم اليوم قد غدا أشدّ ترابطاً وتواصلاً، ما جعل الناس أكثر درايةً بخبايا ما يجري على أرض الواقع. لذا أيضاً نجد أن كثيراً من الروس، خصوصاً البعيدين عن قبضة الــمخابرات الروسيّة، يرفعون صوتهم الرافض للحرب عاليّاً، مُعلنين تضامنهم الكامل مع الشعب الأوكراني مُحترِمين حريّته في تقرير مصيره.

هل حقاً الحركةُ القوميّة الأوكرانيّة نازيّة؟

لم يكد يمضي يومٌ من أيامِ الحربِ الروسيّة الأوكرانيّة دون أن نسمعَ من المسؤولين الروس، أو من مُعجبيهم حول العالم، بأنّ حربهم قائمةٌ لدحرِ نازيّة تحتلُّ بلداً مُجاوراً وتُشكّلُ تهديداً وجوديّاً للروس شعباً وثقافةً وكياناً. لكن هل ثمّة حقاً سلطةٌ قومويّةٌ نازيّةٌ في أوكرانيا، بالشكل الذي يعرضه فلاديمير بوتين؟

من المعلوم بالطبع أنّ علاقاتٍ مُريبةٍ، لا تخلو من نتائج إرهابيّة، جمعت في ثلاثينيات القرن المنصرمِ بين النظام النازيِّ المُعادي للاتحاد السوفيتي وبعضِ التيارات داخل الحركة القوميّة الأوكرانيّة، التي كانت ترى الاتحاد السوفيتي آنذاك كياناً مُحتلّاً للأرض والثقافة الأوكرانيّة.

مرّت الحركةُ القوميّةُ الأوكرانيّة مطلع القرن الفائت، لا سيما بعد انهيار الإمبراطوريّة النمساويّة-المجريّة وانهيارِ الإمبراطوريّة الروسيّة، ومن ثمّ تشكّل الاتحاد السوفييتي، بسياقاتٍ تطرّفيّة مختلفة. ولعلّ تأسيس منظّمة القوميين الأوكرانيين (ONU) شتاء 1929 في فيينا من أبرزِ تجليّات هذا النزعة القومويّة المتطرّفة، لكن الصورة الأشدُّ تطرّفاً ظهرت إلى العلنِ بُعيد انشقاق المُنظّمة سنة 1940 إلى كيانين: أولهما (ONU – M) وأُطلِقَ على أعضائه لقب «الميلنكيّين» نسبة لزعيمهم آندريه ميلنيك المُعتدِل نسبيّاً، أمّا التنظيمُ الآخر، الأشدُّ تطرّفاً وشباباً، فسُمّي (ONU – B) وكان أعضاؤه يُعرفون بــ «البانديريين» نسبة لزعيمهم المعروف ستيبان بانديرا. ويمكنُ القولُ إنّ التنظيم البانديري كان ذا نزعةٍ فاشيّة دمويّة مُعاديةٍ للروس واليهود، وبالتالي كان البانديريّون قريبين جداً من الإيديولوجيا النازيّة. وقد ارتكب التنظيم فظاعاتٍ عديدة، لا سيما بحقّ الأوكرانيين المُعتدلين، الذين كانوا في نظره «خطرين على فكرة قيام الدولة الأوكرانيّة المُستقلّة». إذاً، مُعاداةُ النازيّة الهِتلريّة للاتحاد السوفييتي من جهة، والنزوع اللاساميُّ المُشتركُ من جهة أخرى، قرّبا تنظيم بانديرا من النازيّة إلى حدّ بعيد وحصل نوعٌ من التحالفِ بينهما، ما جعلَ أعضاء التنظيم على قائمة المُلاحقات السوفييتيّة.

بعد هزيمة هِتلر وانتصار السوفييت، تمّت مُلاحقة الزعيم الدمويّ ستيبان بانديرا في ألمانيا، وتمكّن العميل السوفييتي بوغدان شتاسينسكي من اغتياله سنة 1959 في ميونيخ بطريقة مُرعِبة، حيث رشّ على وجهه غاز الهيدروسيانيك بواسطة مُسدّس مُطوّرٍ.

لكن مع تسليم شتاسينسكي وزوجته الألمانيّة الشرقيّة نفسيهما، في يوم قيام جدار برلين، إلى سلطات برلين الغربيّة، طرأ تحوّل أساسيٌّ على قضيّة قتل بانديرا ومكانته في وجدان الكثير من القوميّين الأوكرانيّين. حيث اعترف العميلُ السوفييتي السابق باغتيال لبانديرا بتلك الطريقة المروّعة بطلبٍ من السلطات السوفييتيّة، وفي خريف 1962 تمّت محاكمة ستاشينسكي في كارلسروهه الألمانيّة وحُكِم عليه بالسجن لثمان سنوات، باعتباره مجرّد أداة للمجرم الأساسي مُتمثّلاً بالقيادة السوفييتيّة. لم تمر محاكمة ستاشينسكي مروراً عاديّاً، بل جذبت اهتماماً عالميّاً بالغاً، وأثّرت بشكلٍ ملحوظٍ على صورة الإتحاد السوفييتي. ونتيجة لهذا الجوّ المُرافِقِ لمحاكمة العميل السوفييتي السابق، راحت صورةُ بانديرا تأخذُ بُعداً تقديسيّاً لدى كثيرٍ من القوميين الأوكرانيين، خاصّة في غرب البلاد، حيث اعتُبر رمزاً وطنيّاً رفيعاً وزعيماً تحرريّاً.

لكن ما سلف لا يعني بحالٍ حصر القضيّة القوميّة الأوكرانيّة بشخصِ بانديرا وتنظيمه الدمويّ في سياقِ حربٍ عالميّة دمويّة. فالأمر، بطبيعة الحال، أشدّ تعقيداً من هذا التصوّر الاختزاليّ السهل. وللتقرّب من ذلك أكثر يمكنُ العودة إلى تاريخ أسبق للحركة القوميّة الأوكرانيّة وإلقاء الضوء على سياقات تشكّلها وطبيعة نضالِها.

اللغة والحركة القومية الأوكرانية

من شأن معاينة تاريخيّة لمسيرة الحركة القوميّة الأوكرانيّة أن تُضعضع كلام بوتين عن الدولة الأوكرانيّة بوصفها وهماً نتج عن خطأ تاريخي ارتكبه زعيم البلاشفة، لينين، في مطلع القرن العشرين.

ثمّة بطبيعة الحال تداخلٌ تاريخيٌّ عميقٌ بين كلٍّ من روسيا وأوكرانيا من نواح عديدة، دينيّة وثقافيّة وجغرافيّة، لكن هذا لا يعني بحال غياب تمايز أوكراني، قوميّاً وثقافيّاً ولغويّاً، أفضى في أواسط القرن التاسع عشر لنشوء حركة قوميّة أوكرانيّة جذريّة في سعيها للتحرّر من السطوة الروسيّة.

لقد كان الجزء الأكبر من أوكرانيا الحاليّة خلال القرن التاسع عشر في قبضة الإمبراطوريّة الروسيّة متعدّدة اللغات والإثنيات، وكانت الغالبية العظمى من الأوكرانيين فلاحين أميين يتحدّثون الأوكرانيّة بلهجاتها المختلفة لكن المُتمايزة، إلى هذه الدرجة أو تلك، عن الروسيّة. وقد كان ذلك بالطبع قبل تَبلور حركة قوميّة أوكرانيّة وتشكّل لغة أوكرانيّة جامعة.

بالنسبة للطبقة الحاكمة المُتعلّمة ذات اللسان الروسيّ، والمتمركزة في المدن الكبيرة، كان هؤلاء الفلاحون «روساً صغار» ومُتمّمين طبيعيين للشعبِ الروسي رغم تمايزهم الثقافيّ واللغويّ الجليّ. أمّا بالنسبة لطبقة النبلاء ومالكي الأراضي المُتحدّثين بالبولونيّة في الجزء الغربي، فكانت اللهجاتُ الأوكرانيّة أيضاً محلّ ازدراء باعتبارها «لغة فلاحين». ولأجل الاختصار، يمكن القول إنّ معظم الأوكرانيّين كانوا في تلك الحقبة فلاحين بسطاء غير قادرين على إثباتِ أنفسهم، إلى أن بدأت تظهرُ في أواسط القرن التاسع عشر ملامح حركة قوميّة أوكرانيّة مُتعلّمة: «الأوكرانوفيليّة». حيث راح روادها يطالبون بتحرير اللهجات الأوكرانيّة المختلفة من سجنِ الشفاهة، ودمجها في لغة مكتوبة شاملة. وفي هذا الجوّ النّشط للحركة القوميِّة الأوكرانيّة دعا المؤرخ والفيلسوف ميخائيل دراماهونوف (1841 – 1895) إلى الاعتراف باللغة والثقافة الأوكرانيّة، قائلاً لرفاقه إن كلّ «أوكرانوفيليّ» لا يتجذّر في مطالبه ليس إلا أوكرانوفيلاً سيّئاً. وفي ظلّ تنامي النزعة القوميّة الاوكرانيّة من جهة، وتصاعد ضغط السلطات على استعمال اللغة الأوكرانيّة، أقدم كثير من الأوكرانوفيليين المُتعلّمين، الطليعيين إذا جاز التعبير، على الزواج من فلاحات أوكرانيّات بغية أن ينشأ أبناؤهم على اللغة الأوكرانيّة المُهدَّدة. وبلغ الأمر بزميل دراماناهوف، المؤرخ والبروفيسور في جامعة كييف فولوديمير أنتونوفيتش (1834 – 1908)، حدَّ الإعلان عن أن «التزاوج بين الأوكرانيين والروس محكومٌ بالفشل لأسباب آنثروبولوجيّة». وبذلك أخذت الحركة القوميّة الأوكرانيّة تُشكّل تهديداً مُتصاعداً وملموساً للقيصريّة الروسيّة، ما جعل الأخيرة تُضيّق الخناق بلا رحمة على مُناصري الحركة والداعين إليها. وفي هذا السياق أقدم القيصر الروسي إلكسندر الثاني على نفي الناشطين القوميين الأوكرانيين، ليعقب ذلك بإصدار «مرسوم باد إس» سنة 1876 الذي يحظر النشر والتعليم باللغة الأوكرانية في أرجاء القيصريّة الروسيّة. وبقي النشر باللغة الأوكرانيّة محظوراً حتى العام 1905. ولم تنته معاناة الأوكرانيّة حتى أواخر القرن العشرين، كنتيجة للقمعِ القيصريّ الطويل والسياسة السوفييتيّة الداعمة بشكل ممنهجٍ للثقافة الروسيّة وترسيخها كلغة المدن والعلم و«الكارير». فقط أولئك الذين ولدوا في نهاية الثمانينيات نشأوا ثقافيّاً باللغة الأوكرانيّة، التي أصبحت منذ 1991 لغة إلزاميّة في المدارس. وفي هذا السياق تذكر الكاتبةُ والمؤرخة الأوكرانية أولها مارتينيوك أنّها حين جاءت في بداية الألفية من مدينة لفوف الغربيّة إلى كييف كانت تشعرُ بالخجل من التحدّث بالأوكرانيّة، هذه اللغة التي كانت لاتزال موصومةً إلى حد بعيد ومُزدراة بوصفها «لغة الفلاحين وغير المتعلمين».

وبالاستناد لما سلف، نلحظُ أن تاريخ العلاقة الروسيّة الأوكرانيّة – قبل النازيّة الجديدة- ليس ورديّاً قطُّ كما تُحاولُ السلطات الروسيّة إظهارها، وأنّ الحركة القوميّة الاوكرانيّة، بوصفها حركة تحرّر، كانت قد تشكّلت ونشطت قبل ثورة أكتوبر ووصول البلاشفة ومن ثمّ النازيّين للحكم في روسيا وألمانيا، وأنّ التمايز الإثني واللغوي والثقافي المرفق بنزعة استقلاليّة، مهما تباينت درجاته، كان على الدوام قائماً وليس وليد «خطأ تاريخي» يجبُ تصحيحه كما يُشدّد الرئيس الروسيُّ. والخطأ التاريخيُّ الفادحُ الذي يقصدُه بوتين هنا هو إقامة كيان أوكرانيٍّ من قبل لينين وأصدقائه، «بشكلٍ فجّ ضدّ مصالح روسيا، من خلال فصل جزء من أراضينا التاريخيّة وتمزيقها إرباً» كما يقول في أحد خطاباته.

ويمكنُ أيضاً الذهاب أبعد من ذلك وإبرازَ الدور الذي يلعبُه الرئيس الروسيُّ في تمتين دعائم البانديريّة، وتحفيز الناس على الالتفاف حولها، أو التغاضي عن تاريخها، سبيلاً لمواجهة مُشتركة ضدّ عدوٍّ هائل مُتمثّل بروسيا بوتين.

بوتين و«النازيّة» في أوكرانيا

إنّ إظهار البانديريّة جزءاً عضويّاً من النازيّة، ومن ثمّ اعتبار أنصارها «نازيّين جدداً» ليس أمراً صحيحاً تماماً. فالنازيّةُ الأصلُ لم تكن راضيّة قطّ عن النزعة الاستقلاليّة الأوكرانيّة، ومن دلائل ذلك الزجّ بـ بانديرا في معسكر اعتقال نازي إثر إعلانه قيام دولةٍ أوكرانيّة مُستقلّة بالتزامن مع الغزو الهِتلريّ للاتحاد السوفييتي، واحتلاله مدينة لفوف في غرب أوكرانيا الحاليّة. فبالنسبة للنازيين، لم يكن بانديرا وتنظيمه سوى أدوات قد تخدم مصالحهم في شرق أوروبا، من دون أن تُشاركَها جوهر خطابها القائم على «تأسيس كيان قوميّ أوكراني مُستقل». بل اعتُبرَ تأسيس هذا الكيان الأوكرانيّ تعدّياً على المصالح والمخططات النازيّة في أوروبا الشرقيّة، وتمّ على إثره الزجّ بـبانديرا في المعتقلِ النازيّ، حيث مكث وصولاً للعام 1944. وخلّفت هذه الفعلة النازيّة نوعاً من العداوة بين القومويين البانديريين والنازيّة، لكن من دون أن يكون لذلك أثر جوهري على استمراريّة «النضال» القوميّ الأوكراني. ولم تنقضِ حالة الصراع الدمويّ بين القوميين الأوكرانيين والسلطات السوفيتيّة باعتقال بانديرا ولا بانقضاء الحرب العالميّة الثانيّة ودحر النازيّة. وقد بلغ عددُ الأوكرانيين الذين قُتِلوا على يد السلطات السوفييتيّة بين عامي 1944 و1952 قرابة 150 ألفاً، أمّا عدد المعتقلين والمُرحّلين قسراً فضاهى الــ 300 ألفاً.[1] لكن، ومهما يكن من أمرٍ، ليس منطقيّاً اعتبار كلّ نزعةٍ استقلاليّة أوكرانيّة «بانديريّةً» بالضرورة. فثمّة من بين المُناهضين لأوكرانيا الروسيّة والمؤيّدين لأوكرانيا الأوروبيّة العديد من المُعارضين لتمجيد بانديرا واعتباره رمزاً قوميّاً معياريّاً. وليس ثمّة علاقةٌ وجوديّةٌ بين النزعة الأوكرانيّة المُعادية للسطوة الروسيّة وبين الانتماء ليمين بانديري أو نازي. بالطبع هناك الكثير من مُمجّدي بانديرا في أوكرانيا، خاصّة في أجزائها الغربيّة، لكن هذه مسألةٌ شائكةٌ تحتاجُ معاينةً لسياقاتِ تحوّل تاريخيّة ولا يمكن اختصارها بأنّ كلّ القوميين الأوكرانيين نازيون وكفى. هذا التبسيطُ البوتينيُّ لمُناهضيه من الأوكرانيين، بوصفهم نازيّين كارهين للروسِ، يُشكّلُ جزءاً هامّاً من سرديّته وخطابه في الداخل الروسيِّ؛ فاعتبار العدوّ نازيّاً، والسعي لإظهارِه كذلك بوسائط دعائيّة شتّى، يُقوّي من مكانة بوتين بين الروسِ، سيّما العاديين غير المُهتمّين أو غير القادرين على قراءة ما يحدثُ بعيداً عن سلطة الخطاب الرسمي المهولة.

الأمرُ ليس أبيض أو أسود كما يحب الرئيس الروسي إظهاره. فثمّة أوكرانيّون قومويّون بانديريون، بل وحتى أوكرانيّون «نازيّو الهوى»، وهذا ليس موضع إنكار. لكن يجب في الوقت عينه عدم إغفال وجود أوكرانيّين رافضين للهيمنة الروسيّة وللبانديريّة على حد سواء. وتحديداً هذا ما يُقلقُ الرئيس الروسيّ. فحربُهُ الأخيرة موجّهةٌ في جزءٍ أساسيٍّ منها ضدّ هؤلاء المُناهضين له ولبـانديرا. وليس عصيّاً إدراك إلى أيّة درجةٍ يُساهمُ بوتين بــ «سعيه لإزالة النازيّة عن أوكرانيا» في تمتين التطرُّفِ القوميّ فيها. فهل ثمّة أساساً مصلحةٌ بوتينيّة في «غياب النازيّة» عن أوكرانيا؟ أعتقدُ أنّ العكس هو الصواب. فقوّة أيِّة نزعة متطرّفة، كما هو حال البوتينيّة، تستندُ بدرجة أساسيّة على قوّة النزعة المتطرّفة المُعادية، والمتمثّلة في هذه الحالة بالبانديريّة. كلُّ تطرُّفٍ مُحرّكٌ للتطرُّفِ النقيض. وبتعقّبِ مسارِ البانديريّة في أوكرانيا، خصوصاً بعد انهيار الإتحاد السوفيتيّ، نجدُ أنّها تزدهرُ بجلاءٍ منذُ ضمِّ القرم، وتظاهرات ميدان، وبشكل مُتزايدٍ مع احتدام الخطاب البوتيني الأخير. وربّما أمكن اختصار الأمرِ بالقولِ إنّ نموّ البانديريّة من أبرز مكاسب فلاديمير بوتين في حربِه الراهنة؛ فكلّما اشتدّ عودها هناك، مَتّنَ خطابُه في الداخل الروسيّ وقُويت مُبرّراته الأوتوقراطيّة الحربيّة.

لا شكّ أنّ أوكرانيا تعيشُ، أسوةً بالعديد من دول أوروبا الشرقيّة، أزمة تطرّف قومويّ مُتزايدٍ، وهي في حاجةٍ ماسّة لمُعالجة هذه المشكلة بشكل جذري. لكن من أجلِ تخليص أوكرانيا من القومويّة المتطرّفة لا يمكنُ اللجوء لخطاب متغطرسٍ يستهزئ بها ويشكّكُ في أصالتِها، ومن ثمّ يُعلنُ حرباً على أرضها وبين شعبها. على العكس، هذه خدمةٌ كبيرةُ للقومويّين المُتشدّدين وحملةٌ دعائيّة لا تُقدَّر بثمنٍ لهم. فأوكرانيا المُحارَبة والمُهدّدة والخائفة لا تستطيعُ مُجابهة تاريخ حركتِها القوميّة بعينٍ نقديّةٍ. بينما أوكرانيا المرتاحة ستكونُ قادرةً على ذلك، وجليٌّ أن هذا تماماً ما يتفاداه الرئيس الروسيُّ، لأنّ أوكرانيا المُتحرّرة من إرث القومويّة التعس والمنفتحة على العالم ستُشكّلُ تهديداً لعرين «بانديرا روسيا».

وفي ختام هذه المقالة أودّ أن أستعينَ بتساؤلاتٍ دوّنها عالم النفس والروائي الأوكراني سيرجي غيراسيموف في أحدِ نصوصِه حول يوميات الحرب الراهنة في مدينته خاركوف:

    أعرفُ تماماً ماذا جرى لحديقة Ecopark. تم قصفها. وقد هربت بعض الحيوانات، لكن معظمها بقي في الأقفاص، دون عناية، يموت من الجوع والعطش. (…) بعد أيام قليلة عاد اثنان من موظفي الحديقة لإطعام الحيوانات المُحتضرة. لكن بعض الروس قاموا بتمزيقهما بالأسلحة الآلية. (…) فهل كان هؤلاء البشر الذين حاولوا إطعام الحيوانات المُحتضرة نازيون؟ أو ربّما كانت القرود الجائعة أيضاً نازيةً؟ أو ربما كان أطفالها حديثو الولادة، الذين لاقوا حتفهم جوعاً وعطشاً، نازيين؟

    كان في خاركوف ذات مرّة أقدم وأطول نظام ترام في أوكرانيا، أو ربما حتى في العالم. حينما أرى عربة ترام مُحترقة، مثقوبة بالقذائف، وبنوافذ محطمة، لكن واقفةً بعدُ على سكّتها، أتساءلُ إن كان كلّ الركاب في داخلها نازيين، أم السائق لوحده؟

موقع الجمهورية

——————————–

 “باندورا روسيا”: 11 ألف كيان مالي روسي في الخارج!

ينشر “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” وشركاؤه تحقيقات جديدة توضح كيف قام مصرفيون وأوليغارشيون روس وغيرهم ممن يدورون في فلك بوتين، بإخفاء ثروات هائلة في الملاذات الضريبية بمساعدة عوامل التمكين الغربية.

فجأة استيقظ العالم على ظاهرة الأوليغارشيين الروس وعلى أدوارهم في تعزيز سلطة قيصر روسيا فلاديمير بوتين. غزو أوكرانيا هو من أيقظها، في وقت سبقت هذا الغزو عشرات الوقائع التي كان يفترض أن تحد من مسار الاندماج المالي والاقتصادي بين امبراطورية بوتين الاقتصادية والنفطية وبين النظام المالي والمصرفي العالمي. وبين أيدينا اليوم دفعة جديدة من “وثائق باندورا” أطلق عليها “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” اسم “باندورا روسيا”، تحتوي على وقائع مذهلة لم تكن بعيدة من أنظار العالم قبل غزو أوكرانيا، والمذهل أكثر أنها كانت جزءاً من الماكينة المالية الروسية المنخرطة بالآلة المصرفية العالمية، وما اللجوء إلى الجنات الضريبية سوى جزء من لجوء شركات كبرى غير روسية إلى هذه الكيانات.

نعم بوتين غازٍ وجشع ومحتل، لكن هذه حاله قبل غزو أوكرانيا، وهو تمكن من توظيف المصارف الغربية ومناطق الـ”أوف شور” الغربية في عملية بناء امبراطوريته المالية المترامية، وهو أرسل أوليغارشييه إلى مختلف مناطق العالم واستدعى المصرفيين من العواصم الأوروبية، من دون أن يثير حساسية وجدنا أنها استيقظت فجأة في أعقاب غزوه أوكرانيا. ففي التحقيق الذي ننشره اليوم عن سليمان كريموف، وهو أحد الأوليغارشيين المقربين من بوتين، وردت تفاصيل تكشف طبيعة العلاقة التي ربطت الأخير بالمصارف الغربية نقتطع منها مثلاً هذه الفقرة: “بنى كريموف سمعة طيبة بإقامة حفلات فخمة تصل كلفتها إلى 10 ملايين دولار تجمع المصرفيين الغربيين بمسؤولين حكوميين روسيين، وفقاً لما ذكرته صحيفة فاينانشيال تايمز، التي وصفت كريموف بأنه الأوليغارشي السري لروسيا. كريموف وظّف بيونسيه وشاكيرا لاحتفالاته، وامتلك أحد أكبر اليخوت في العالم”.

صَمتَ العالم على تغول بوتين في سوريا، وهذا الصمت كان مقدمة لتغوله في أوكرانيا. وفي لحظات أخرى جعل العالم من القيصر شريكاً، فأوكلت إليه مهمات الموازنة بين موقعي طهران وتل أبيب في سوريا، وأتيحت له شراكات اقتصادية مع إسرائيل وتركيا، وفي هذا الوقت استدرج إعجاب دول الخليج في جمعه بين الثروة والسلطة المطلقة. أما علاقته بإيران، فبدورها استدرجت أوهاماً حول إمكان توظيفها في ضبط طموحات طهران، وفي موازنة أدوارها في المشرق.

لقد لوث بوتين العالم قبل غزوه أوكرانيا، لكنه أيضاً كان جزءاً من تمدد عالم المال على القيم التي لطالما حصنت ليبرالية الأنظمة المالية من احتمالات الشطط. فهناك أكثر من 11 ألف كيان خارجي مرتبط بروسيا أضيف إلى قاعدة البيانات الرسمية لتسريبات شركات. هذه الكيانات كانت جزءاً “طبيعياً” من الآلة المالية التي هضمت تحول الاتحاد السوفياتي إلى روسيا الاتحادية من دون أن يرافق هذا التحول ما أملته الليبرالية من شروط.

ينشر “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” وشركاؤه تحقيقات جديدة توضح كيف قام مصرفيون وأوليغارشيون روس وغيرهم ممن يدورون في فلك بوتين، بإخفاء ثروات هائلة في الملاذات الضريبية بمساعدة عوامل التمكين الغربية. والمقصود هنا بعوامل التمكين الغربي هو تماماً ما عنيناه بضعف الحساسية الغربية حيال مصادر هذه الثروات وحيال تحولها واجهة لنظام أفضى الصمت عنه إلى غزوه أوكرانيا.

كل هذا قبل أن نباشر البحث في ظاهرة تحول روسيا إلى مصدر أول للغاز في أوروبا، وهذا التحول إذ كان له الدور الأكبر في تضخم الـ”أنا” البوتينية، مترافقاً مع شعور النظام في موسكو بقبول العالم بوظائفه الخارجية، لا سيما في سوريا وليبيا، مثل أيضاً دليلاً جديداً على ما أصاب الليبرالية الغربية، خصوصاً في العقدين الفائتين، من ضعف في الحساسية الديموقراطية لمصلحة ما تمليه الريوع من تنازلات أخلاقية. في العقود الفائتة، شهد العالم طفرة الأوليغارشية الروسية على كل مرافقه. أينما ولينا كنا نلتقيهم، في لارنكا وفي دبي وفي المنتجعات التركية، وكانت أرصدتهم، وما زالت، تُتخم خزائن المصارف، وهؤلاء كانوا أبناء البوتينية، وورثة الإمبراطورية السوفياتية.

بوتين هو تماماً ابن هذا الاختلال، وابن الـ”نيو ليبرالية”، وابن الجزر التي تغاضى النظام المالي العالمي عن إقامة الأشرار فيها.

————————-

وثائق باندورا – روسيا”: من هم المالكون الروس لمئات الشركات السرية خارج البلاد؟

الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين

بينما تفرض حكومات من حول العالم عقوبات على الموالين للكرملين، هناك أكثر من 11 ألف كيان خارجيً مرتبط بروسيا أضيف إلى قاعدة البيانات الرسمية لتسريبات شركات “الأوف شور”، والتي تضم حتى الآن أكثر من 800 ألف شركة وهمية وصناديق ائتمانية وكيانات أخرى.

بقلم نيكول صادق، جيلينا كوزيك، أوجستين أرميناريز، دلفين رويتر، كاري كيهو، ميغيل فياندور، مارجوت ويليامز، إميليا دياز ستروك.

ينشر الإتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين ICIJ تفاصيل عن شركات خارجية لم يكشف عنها من قبل، لها ارتباط برعاة روس.  المعلومات الجديدة هي جزء من جهد أوسع لتسليط الضوء على العالم الخارجي والثروة الخفية لشخصيات مرتبطة بالكرملين في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا.

أسماء الشركات والبيانات الأخرى الخاصة شملت أكثر من 800 روسي من شركة “ألفا للاستشارات المحدودة” Alpha Consulting Ltd. ومقرها سيشيل، وهي مزود خدمات خارجي يخدم العملاء الروس في الغالب. تتضمن البيانات تفاصيل اكتُشفت حديثًا حول الشركات الوهمية والكيانات الأخرى المرتبطة بحلفاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وشخصيات سياسية روسية أخرى تحمي أصولًا خلف شركات مبهمة، ويمكن استخدامها أيضاً للهروب من العقوبات الدولية.

ومن بين الروس الذين تظهر أسماؤهم في البيانات، وزير الاتصالات السابق في عهد بوتين، وزعيم سياسي إقليمي رفيع المستوى، وأخصّائي عملة مشفرة مسجون وأوليغارشيون، يمكن الوصول إليهم من خلال قاعدة بيانات التسريبات الخارجية للاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين.

تحتوي قاعدة البيانات الآن على معلومات حول أكثر من 800,000 شركة خارجية ومؤسسات وصناديق ائتمانية وروابط لأشخاص وشركات في أكثر من 200 دولة وإقليم، يمكن البحث عنها وتنزيلها.

بالإضافة إلى نشر البيانات، ينشر الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين وشركائه تحقيقات جديدة توضح كيف قام المصرفيون الروس وأوليغارشيون وغيرهم في فلك بوتين، بإخفاء ثروة هائلة في الملاذات الضريبية بمساعدة عوامل التمكين الغربية. إنّ البيانات والقصص مستمدة بشكل أساسي من وثائق باندورا، وهي ملايين السجلات المالية الخارجية التي غذّت تحقيقًا عالميًا في عام 2021.

تمثل هذه التحقيقات الجديدة، التي أطلق عليها اسم Pandora Papers Russia، أحدث جهد قام به الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين لإلقاء الضوء على واحدة من أكثر الأساليب سرية في العالم – ويتبع عقدًا من التحقيقات حول المناورات البحرية الروسية على وجه الخصوص. لتسهيل الوصول، قام الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين بتجميع الكثير من التقارير السابقة في صفحة مخصصة تسمى أرشيف روسيا.

تأتي هذه التحقيقات والبيانات في الوقت الذي تتدافع فيه السلطات الأمريكية والبريطانية والأوروبية وغيرها للبحث عن أموال وأصول الأوليغارشيين وغيرهم ممن لهم علاقات مع الكرملين، وهي مهمة جعلها سماسرة السرية في الخارج، مثل Alpha Consulting، أكثر صعوبة.

أربعون في المائة من أكثر من 2000 شركة ومؤسسات وصناديق ائتمانية موجودة بين بيانات Alpha Consulting التي تم تسريبها والتي يتم نشرها اليوم لديها واحد أو أكثر من المالكين الروس المستفيدين. 23٪ أخرى لديها مالك أوكراني مستفيد واحد أو أكثر.

تربط البيانات الجديدة أيضًا الشركات الخارجية بشركات وأفراد آخرين من أكثر من مئة دولة وأقاليم أخرى. ومن بين العملاء البارزين لشركة “ألفا للاستشارات”: إيزابيل دوس سانتوس -أغنى امرأة في إفريقيا، والتي كانت بؤرة تركيز تحقيق تسريبات لواندا الذي أجراه الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين- ومارتن رشوايا -جنرال زيمبابوي ومستشار رئاسي، ودافيد جالستيان -صاحب شركة الأسلحة الأرمينية التي اعترفت السلطات الأرمينية بأنها زودت ليبيا بالذخيرة أثناء حظر توريد الأسلحة.

لم يرد دوس سانتوس ورشوايا على أسئلة الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين. صرح محامي جالستيان، أرمين أندريكيان، أن إحدى شركات جالستيان الخارجية مغلقة “منذ سنوات”، لكن لديه شركتان خارجيتان ناشطتان تعملان في التجارة الدولية. ونفى أن تكون شركة جالستيان للأسلحة قد زودت ليبيا بالذخيرة، مشيرًا إلى أن جالستيان “لم يورد أبدًا أسلحة للجماعات المسلحة” وأن عمليات التسليم إلى الإمارات العربية المتحدة “تمت تحت إشراف الناتو”. وأضاف أن جالستيان يمتلك وثائق تدحض مزاعم اللجنة.

تعد “ألفا للاستشارات” واحدة من بين 14 من مزودي الخدمات الخارجيين الذين سُرِّبت مستنداتهم إلى الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، ما أدّى إلى بدء تحقيق “وثائق باندورا”، الذي راجع أكثر من 11.9 مليون سجل، يحتوي على 2.94 تيرابايت من المعلومات السرية. يتخصص مقدمو الخدمات الذين يمارسون نشاطهم خارج البلاد في تأسيس وتشغيل الشركات والصناديق الائتمانية والمؤسسات المستخدمة عادةً لإيواء الأصول في ولايات قضائية سرية بعيدًا عن نظر سلطات الضرائب وإنفاذ القانون والمحاكم وعامة الناس.

يُعد نشر بيانات Alpha Consulting جزءًا من جهود ICIJ المستمرة لنشر المعلومات من مشروع Pandora Papers. سيتم نشر المزيد من البيانات المرتبطة بمقدمي الخدمات الآخرين في الأسابيع المقبلة.

بعد دمج بيانات ألفا، تحتوي الآن قاعدة بيانات التسريبات المتعلقة بشركات “الأوف شور” العامة للاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين على معلومات حول أكثر من 800000 كيان خارجي وروابط لأشخاص وشركات في أكثر من 200 دولة وإقليم.

أنشأ الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين  ICIJ في عام 2013 قاعدة بيانات التسريبات المتعلقة بشركات “الأوف شور”، ويحتفظ بها ويشرف عليها بمساعدة فرق البيانات والتقنية؛ ترفع قاعدة البيانات هذه حجاب السرية عن الشركات والصناديق الائتمانية المدمجة في الملاذات الضريبية، وتكشف عن هويات الأشخاص الذين يقفون وراءها.

تحتوي قاعدة البيانات على معلومات من التسريبات التي كانت بمثابة الأساس لخمسة مشاريع للاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين: تسريبات شركات “الأوف شور” في عام 2013، ومشروع وثائق بنما الضخم، وتسريبات جزر الباهاما في عام 2016، ووثائق بارادايس في عام 2017، ووثائق باندورا العام الماضي.

تكشف قاعدة البيانات التفاعليّة عن أكثر من 740 ألف اسم لأشخاص وشركات ينشئون ويديرون كيانات خارجية سرية. وأحيانًا ما تتضمن البيانات أسماء المالكين الحقيقيين، إن وجدوا. ونظراً لأن هذه السجلات مسربة -وليس مأخوذة من سجل شركة معتمد- فقد تكون هناك نسخ مكررة. وفي بعض الحالات، تدرج أسماء الشركات باعتبارها مساهمة في شركات أخرى أو صناديق ائتمانية، وهي طريقة تساعد غالباً على إخفاء هوية الأشخاص الحقيقيين وراء الكيانات الخارجية.

لكن الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين لا ينشر الوثائق الأولية -سواء كانت شخصية أم متعلقة بشركة معينة- بشكل جماعي. تحتوي قاعدة البيانات على قدر كبير من المعلومات المنظمة والمؤكّدة حول مالكي الشركات والوكلاء والوسطاء في الولايات القضائية السرية، ولكنها لا تكشف عن الاتصالات الخاصة أو معلومات الحساب المصرفي أو المستندات الشخصية الخاصة.

ينشر الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين هذه المعلومات من أجل الصالح العام. في حين أن وجود اسم شخص أو شركة لا يقصد منه الإيحاء أو الإيعاز بأن هذا الشخص أو هذه الشركة متورطة في سلوك غير قانوني أو غير لائق، إلا أن الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين يعتقد أن توفير هذه البيانات للجميع مجاناً يساعد في تسليط الضوء على اقتصاد “الأوف شور” والضرر الذي يحدثه.

تكشف بيانات “ألفا للاستشارات” عن شخصيات روسية بارزة

تأسست “ألفا للاستشارات” في عام 2008 على يد فيكتوريا فالكوفسكايا؛ المترجمة الروسية السابقة من موسكو، التي انتقلت إلى سيشيل (دولة على شكل جزيرة في المحيط الهندي) وافتتحت الشركة مع زوجها آنذاك روي ديليسي، وهو من مواطني سيشيل. وكما هو معتاد في الأعمال التجارية الخارجية، توفر الشركة ما يسمى بالمديرين المعينين، أو الاحتياطيين، للأعمال الورقية الرسمية للشركة لمساعدة أصحاب الشركات الوهمية الفعليين. ذكرت الشركة في عام 2019 أن الروس يشكلون 75٪ من قاعدة عملائها.

 بدأ رومان أفدييف، وهو رجل أعمال روسي بارز وعميل في شركة “ألفا للاستشارات”، في بيع مكونات الراديو وأجهزة فك التشفير لأجهزة التلفزيون في أواخر الثمانينيات. وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي في أواخر عام 1991، اشترى أفدييف بنك موسكو الائتماني، وهو أحد المؤسسات المالية الروسية الكبرى. كما يملك سلسلة صيدليات ولديه حصص في قطاع البناء والأخشاب والصناعات النفطية. واشترى نادي توربيدو موسكو لكرة القدم في عام 2017. وقد قدرت فوربس ثروته بحوالي 1.3 مليار دولار حتى بداية أبريل/نيسان 2022. ويخضع بنك موسكو الائتماني للعقوبات الأميركية منذ فبراير/شباط.

تُظهر سجلات شركة “ألفا للاستشارات” أن شركات “الأوف شور” المرتبطة بأفدييف مسجلة في سيشيل وجزر “فيرجن” البريطانية وبيليز. وإحدى هذه الكيانات، هي شركة “إتش آي كابيتال كورب”، مدرجة في السجلات بوصفها شركة مدّخرات شخصية.

ليونيد ريمان، هو خريج ما يعرف الآن بجامعة سانت بطرسبرغ الحكومية للاتصالات، عمل مهندساً، ثم شغل بعد ذلك مناصب عليا فيما يعرف الآن بشبكة هاتف مدينة سانت بطرسبرغ. وعين وزيراً للإعلام والاتصالات في روسيا الاتحادية عام 1999، قبل أن يشغل منصب وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ثم مستشاراً للرئيس.

في عام 2006، وجدت هيئة تحكيم سويسرية أن ريمان استخدم إحدى صناديق “الأوف شور” للاستثمار المشترك كواجهة للسيطرة على حصة كبيرة في صناعة الاتصالات الروسية عندما كان وزيراً للاتصالات. وقد نفى ريمان امتلاك أصول حكومية في قطاع الاتصالات.  تُظهر سجلات شركة “ألفا للاستشارات” شركات “الأوف شور” المرتبطة بريمان، وتوضح أن أنشطتها تركز على تداول الأوراق المالية. ورفض ريمان، من خلال ممثله القانوني، الإجابة على أسئلة الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين.

وتربط السجلات أيضاً بين شركات “الأوف شور” وألكسندر فينيك، وهو خبير كمبيوتر روسي. يُزعم أنه كان يدير منصة لتداول العملات الرقمية تعرف باسم “بي تي سي-إي” (BTC-e) إلى أن استولت عليها السلطات الأميركية عندما قُبض عليه في اليونان بناءً على أمر من الولايات المتحدة في عام 2017 وتم تسليمه فيما بعد إلى فرنسا حيث أدين بتهمة غسل الأموال ويقضي عقوبة السجن لمدة خمس سنوات. وصرح محاميه أنه يخشى أن يتم تسليم فينيك إلى الولايات المتحدة بعد أن يكمل فترة عقوبته. وحسبما تُظهر الوثائق، قدمت شركة “ألفا” تقريراً إلى السلطات المالية في سيشيل عام 2018، أوضحت فيه أنها علمت بسجل فينيك الجنائي خلال عملية التحقق من كفاية أنظمة وإجراءات العناية الواجبة تجاه العملاء. لم يرد محامي فينيك على طلب التعليق من الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين.

يضيف إدراج بيانات شركة “ألفا للاستشارات” إلى الكم الهائل من المعلومات الموجود بالفعل حول النخب الروسية في قاعدة بيانات تسريبات شركات “الأوف شور”. فقد تضمنت قاعدة البيانات بالفعل سجلات من اثنين من مقدمي الخدمات المالية في “وثائق باندورا” وقد سجل الروس أعلى نسب بوصفهم المالكين المستفيدين في شركة Alemán, Cordero, Galindo & Lee المعروفة اختصاراً باسم “ألكوغال” (Alcogal) في بنما، وشركة Fidelity Corporate Services، التي تأسست في جزر فيرجن البريطانية. ومن الممكن الإطّلاع على سجلات الثلاث شركات المتوفرة الآن في قاعدة بيانات تسريبات شركات “الأوف شور”.

 تتضمن قاعدة البيانات الآن معلومات مستمدة من خمسة تسريبات، عن أكثر من 11 ألف كيان لها روابط مع روسيا. يربط تحقيق “وثائق باندورا” ما يقرب من 3,700 شركة بأكثر من 4,400 مواطن روسي – وهي إلى الآن الجنسية الأكثر حضوراً في البيانات من بين جميع الجنسيات الموجودة في “وثائق باندورا”. إذ يسيطر الروس على نحو 14٪ من جميع الشركات والكيانات القانونية الأخرى التي جرى الكشف عنها في التسريبات.

وسينشر الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين مزيداً من أسماء الكيانات “الأوف شور” والمسؤولين من مزودي خدمات “الأوف شور” الآخرين من “وثائق باندورا” في الأسابيع المقبلة.

“وثائق باندورا”: عشرات السياسيين الروس والأوليغارشيين يكنزون الثروات في الخارج

فرضت السلطات الغربية عقوبات على مئات الروس منذ أن أمر بوتين بغزو أوكرانيا. بيد أن الجهود الرامية إلى تحديد الأصول التي تمتلكها الدائرة المقربة من بوتين وتجميدها قد تعثرت على سواحل الولايات القضائية التي توفر السرية. إذ تمتلك حشود من رجال الأعمال الروس من ذوي النفوذ القوي أعمالاً تجارية في أماكن لا توفر سوى قدر ضئيل أو معدوم من المعلومات المتعلقة بالملكية. وفي حين تُستخدم بعض الشركات لإخفاء الأصول مثل اليخوت والقصور، يُستخدم بعضها الآخر للتلاعب بتحويل الأموال في ضمن مخططات تهدف إلى إثراء بوتين بطرقٍ غير مشروعة.

 تُشير “وثائق باندورا” إلى أن شخصيات سياسية روسية -بما في ذلك وزراء سابقون وأعضاء سابقون في البرلمان الروسي (مجلس الدوما) وأحد المرشحين الرئاسيين- يمتلكون 163 كياناً مستقلاً. ويتجاوز عدد شركات “الأوف شور” هذه تلك التي يمتلكها السياسيون من أي بلد آخر.

تستخدم الشخصيات السياسية الروسية في الغالب مقدميّ الخدمات المالية، “ألكوغال” (Alcogal) و”دادلو” (Dadlaw)، ومعظم شركاتهم مسجلة في جزر فيرجن البريطانية وقبرص، وهما اثنتان من الولايات القضائية التي توفر السرية، وتشتهران بضرائبهما المنخفضة.

يرتبط ميخائيل غوتسيرييف، مؤسس شركة النفط الروسية الكبرى “روس نفط”، وعضو سابق في مجلس الدوما، وشقيقه سيت-سلام غوتسيرييف، وهو عضو سابق أيضاً في مجلس الدوما، بنحو 84 شركة من شركات “الأوف شور” المسجلة لدى “ألكوغال” و”دادلو”. ويمتلكان أغلب شركات “الأوف شور” بين السياسيين الروس في “وثائق باندورا”. ولم يرد أي منهما على طلبات التعليق الموجهة إلى المكتب الصحفي لـ RussNeft.

بالإضافة إلى السياسيين، يظهر أكثر من 45 من الأوليغارشيين الروس في بيانات “وثائق باندورا”. ويختلفون ما بين رجال الأعمال (المليارديرات) الذين يديرون شركات النفط الكبرى وأقطاب في عالم الرياضة. وقد فرضت عقوبات على ما لا يقل عن 12 منهم في 11 أبريل/نيسان.

 المساهمون: كارولين ديسبرات، وبيير روميرا، وماكسيم فانزا، وأنطونيو كوتشو، وهاميش بولاند-رودر، وإسراء مصطفى، وجورجي غونزاليس، وخافيير لادرون دي جيفارا، ودين ستاركمان.

 درج

 ——————————–

باندورا – روسيا”:  كيف ساعدت “برايس ووترهاوس كوبرز” قطب الفولاذ الروسي في توسيع إمبراطوريته؟

شيلا أليتشي

تكشف الوثائق المسربة كيف ساعدت ثاني أكبر شركة محاسبة في العالم  أليكسي مورداشوف، ليصبح أغنى رجل في روسيا بحلول 2021، بثروة صافية بلغت 29 مليار دولار، وفقاً لتقديرات مجلة “فوربس”.

قبل أقل من عقدين، أدرجت مجلة “فوربس” قطب صناعة الصلب الروسي أليكسي مورداشوف -إلى جانب أوبرا وينفري وأحد مؤسسي شركة “ريد بول”-  ضمن “الوافدين الجدد” على عالم أصحاب المليارات. كان وقتها رجل أعمال غير معروف في الـ37 من عمره. وقد وصفته المجلة حينها بأنه “عصامي”.

والآن، تكشف الوثائق المسربة كيف ساعدت ثاني أكبر شركة محاسبة في العالم  أليكسي مورداشوف، منذ ذلك الحين، ليصبح أغنى رجل في روسيا بحلول 2021، بثروة صافية بلغت 29 مليار دولار، وفقاً لتقديرات مجلة “فوربس”.

كانت شركة “برايس ووترهاوس كوبرز” بجانب قطب صناعة الصلب (الفولاذ) منذ أن حقق أول مليار دولار في مسيرته في مطلع الألفية، وكانت في طليعة العشرات من شركات المحاسبة والمحاماة الغربية التي سارعت بحماسة إلى تقديم خدماتها لطبقة الأوليغارشية الروسية (أي الشخصيات الثرية المقربة من السلطات الروسية) التي ازدهرت في عهد بوتين.

ساعدت “برايس ووترهاوس كوبرز” شركة قابضة لها صلات بِمورداشوف، من أجل إنشاء وإدارة أكثر من 65 شركة وهمية في جزر فيرجن البريطانية وغيرها من الملاذات والولايات القضائية التي تلتزم بالسرية، وفقاً لما جاء في “وثائق باندورا” التي نجح “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” في الحصول عليها.

تظهر وثائق باندورا والوثائق المسربة الأخرى التي راجعها ونشرها “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” أن مورداشوف استغل شبكة شركات “الأوف شور” هذه للاستثمار في شركات أوروبية- داخل روسيا- والتوسع في أعماله لتشمل مجالات أخرى غير صناعة الصلب، والاستحواذ على حصص كبيرة في قطاعات الفحم وقطع الأشجار والإعلام.

تُظهر السجلات السرية أيضاً أن شركات “الأوف شور” هذه شاركت في صفقات ترتب عليها تدفق مبالغ طائلة حول العالم بطرق مشبوهة وغامضة. يتضمن ذلك أربع صفقات على أقل تقدير شارك فيها أحد المساعدين المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، وهي صفقات تثير تساؤلات حول مزاعم مورداشوف بأنه لا تربطه علاقات وطيدة ببوتين.

توضح وثائق باندورا المسربة، التي تشتمل على ما يزيد عن 11.9 مليون سجل مالي سري حصل عليه الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، كيف ساعدت الشركة القبرصية التابعة لـ”برايس ووترهاوس كوبرز” مورداشوف في  تأسيس الهياكل الأساسية لِإمبراطوريته التجارية خارج البلاد.

ساعده المستشارون أيضاً هو وزوجته، مارينا مورداشوف، في تسجيل شركات وهمية بهدف امتلاك يخت رياضي يبلغ طوله 213 قدماً وطائرة بومباردييه فاخرة. وفي أوقات الأزمات، مثل مجموعة العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على الشخصيات والشركات الروسية ذات النفوذ، ساعدتهما الشركة من أجل إعادة هيكلة ملكية شركاتهما الوهمية.

تتبع معظم هذه الشركات مجموعة “يونيفيرم” Unifirm، وهي شركة يملكها مورداشوف في قبرص، الملاذ  الخارجي المفضل لكثير من الأثرياء الروس.

مورداشوف هو واحد من الطبقة الأوليغارشية الروسية الآخذة في التكاثر، التي فرض الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة عقوبات على أفرادها عقب الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط/ فبراير 2022.

وقد ساهمت الحرب في تقليص صافي ثروته، شأنه شأن بقية الأوليغارشيين الروس. فعندما نشرت مجلة “فوربس” قائمتها السنوية الأخيرة لأصحاب المليارات، قدَّرت المجلة صافي ثروته بنحو 13 مليار دولار، أيّ أنها انخفضت بمقدار 16 مليار دولار تقريباً عن العام الماضي. وهو ما أدى إلى تراجعه إلى المركز الخامس في قائمة أغنى الأفراد في روسيا.

في حين احتل فلاديمير ليسين -وهو أحد أقطاب صناعة الصلب أيضاً- المركز الأول في قائمة أصحاب المليارات الروس، بثروة صافية بلغت 18.4 مليار دولار. لكن يعتقد بعض المراقبين أن بوتين -الذي لا يعرف أحد مقدار ثروته الحقيقية- هو أغنى رجل في روسيا.

تعد شركة مورداشوف الرئيسية،”سفرستال”،  أكبر شركة للصلب (الفولاذ) في روسيا. وتفتخر الشركة بتصنيع الصلب المدرع لِغواصات وسيارات الجيش الروسي المصفحة. مع ذلك، أنكر مورداشوف مراراً قربه من بوتين.

فقد قال في مقابلة عام 2018 مع قناة “بلومبيرغ” التلفزيونية، “أنا رجل أعمال مستقل في القطاع الخاص، ولا علاقة لي بالحكومة”.

لم يجب مورداشوف على أسئلة “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” بشأن هذا التقرير.

تعد شركة “برايس ووترهاوس كوبرز” واحدة من الشركات الرائدة عالمياً التي تلعب دوراً مهماً في تمكين الأشخاص فاحشي الثراء وأصحاب الصلات السياسية من مضاعفة ثرواتهم وتفادي التدقيق في مصادرها. يظهر تحقيق أجراه الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين في 2020 كيف أن الشركة عملت لصالح إيزابيل دوس سانتوس، ابنة رئيس أنغولا السابق المتهم باختلاس الأموال العامة، متجاهلة كل الثغرات في حسابات شركاتها التي جنت ملايين الدولارات من صفقات تمت الموافقة عليها بواسطة والدها. وقال بوب موريتز الرئيس العالمي للشركة إنه شعر “بالصدمة وخيبة الأمل” عقب الكشف عن معلومات تتحدث عن تقديم شركته المشورة لشركات مملوكة لدوس سانتوس.

دائماً ما كانت روسيا هي السوق المفضلة لشركة “برايس ووترهاوس كوبرز” في مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.

خلال السنوات التي سبقت الحرب في أوكرانيا، ذكرت شركة “برايس ووترهاوس كوبرز” أن الشركة التابعة لها في روسيا عملت مع أكثر من ألفي شركة تجارية روسية، من بينها 124 شركة كبرى يشكل مجموع إيراداتها ما يقرب من نصف الناتج المحلي الإجمالي الروسي. ووفقاً لتقارير إعلامية، فإن هذه الشركات تتضمن: شركة “غازبروم”، عملاقة الطاقة التي توصف بأنها “أداة بوتين الجيوسياسية”، وبنك “سبيربنك”، أكبر مصرف عالمي مملوك للدولة في روسيا، وشركة “سيبو”، عملاقة البتروكيماويات المملوكة لكيريل شامالوف، صهر بوتين السابق.

وفي معرض ردها على الغزو الروسي لأوكرانيا، أعلنت الشركة أن الفرع التابع لها في روسيا لن يكون جزءاً من شبكتها العالمية بعد الآن، وأن فروعها خارج روسيا سوف “تتوقف عن المشاركة في أيّ عمل لمصلحة أيّ كيانات روسية خاضعة للعقوبات، سواء أكانت شركات أم أفراد.

تظهر وثائق باندورا أن فروع الشركة خارج روسيا كانت تساعد الأوليغارشية المقربين من بوتين من أجل إدارة ثرواتهم وحمايتها، مثلها مثل الفروع الموجودة داخل روسيا تماماً.

بل إن الفرع التابع لها في سنغافورة كان مسؤولاً عن مراجعة الحسابات الخاصة بصندوق استثمارات كيريل أندروسوف -مساعد سابق لبوتين-  وأيضاً حسابات شركة نفط مقرها لندن استثمر صندوق أندروسوف فيها، مثلما تُظهِر الوثائق المسربة.

راجعت “برايس ووترهاوس كوبرز” جزء من حسابات الأعمال العقارية الخاصة بالملياردير أوليغ ديريباسكا، حليف بوتين الذي جرى التحقيق معه بشبهة الضلوع في جرائم مالية في بلجيكا وأسبانيا واليونان والولايات المتحدة. وعام 2017، قبل أشهر فحسب من فرض الولايات المتحدة عقوبات على ديريباسكا، ساعده فرع الشركة في قبرص هو وطفليه من أجل الانتفاع بنظام “التأشيرة الذهبية” الخاصة بدول البحر المتوسط والحصول على جواز سفر قبرصي -وحقوق المواطنة في الاتحاد الأوروبي- من خلال استثمار 3 ملايين دولار في القطاع العقاري في البلاد، وفقاً لما جاء في تقرير حكومي حصل عليه “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” ضمن تحقيقات “مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد”.

نفى ديريباسكا ارتكاب أيّ شيء غير مشروع ولم توجه إليه أيَّ تهم.

لم يجب محاميه عن أسئلة وجهها له “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” بهذا الشأن.

في 2021، أخبر مدير في شركة “برايس ووترهاوس كوبرز” لجنة حكومية قبرصية أنه على مدار العقد الماضي ساعدت الشركة 217 ثري أجنبي ليصبحوا مواطنين أوروبيين من خلال نظام “التأشيرة الذهبية”، لكنه نفى تعامل الشركة مع أيّ “شخصيات سياسية، وفقاً لما جاء في تقرير اللجنة.

وقال ديفيد ويبر، وهو أستاذ في المحاسبة وخبير في الجرائم المالية في جامعة “سالزبوري” في ماريلاند، إنه على المحاسبين المختصين التأكد من أنهم لا يساعدون عملاء متورطين في صفقات تجارية مشبوهة أو عملاء يستفيدون من علاقتهم بأنظمة وحكومات فاسدة.

مضيفاً، “نضع- نحن العامة- ثقتنا في أولئك المختصين ليكونوا حراساً للمبادئ ويبادروا بفعل الصواب. لذا عليهم التدقيق في حسابات عملائهم قبل مساعدتهم على المشاركة في غسيل الأموال واختلاس المال العام”.

لم تجب شركة “برايس ووترهاوس كوبرز” على الاستفسارات التي وجهها إليها “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين”.

في تصريح أُرسل عبر البريد الإلكتروني، كتب متحدث باسم الشركة أن “برايس ووترهاوس كوبرز” تعكف حالياً على قطع علاقتها مع الكيانات والأفراد الخاضعين لعقوبات، والهيئات التي يديرها أفراد مشمولون بالعقوبات”.

وأضاف أن الأعمال التي قدمتها الشركة لعملائها “تتفق مع القوانين واللوائح المعمول بها، وتتماشى أيضاً مع المعايير الداخلية للشركة نفسها”.

تكشف الوثائق المسربة كيف ساعدت ثاني أكبر شركة محاسبة في العالم  أليكسي مورداشوف، ليصبح أغنى رجل في روسيا بحلول 2021، بثروة صافية بلغت 29 مليار دولار، وفقاً لتقديرات مجلة “فوربس”.

الدبابة

أصبح مورداشوف- الذي ولد لأبوين يعملان في النجارة من مدينة تشيربوفتس الواقعة في شمال روسيا- الرئيس التنفيذي لشركة “سفرستال” وهو في الحادية والثلاثين من عمره. يتميز مورداشوف بأسلوب صارم لا تزعزع فيه، ويُلقبه البعض “بالدبابة”.

عام 2003، أسس الملياردير الشاب شركة في قبرص ستعرف فيما بعد باسم مجموعة “يونيفيرم”، التي تتربع على قمة شبكة الشركات التي أسستها في الخارج.

عَمل مستشارو شركة “برايس ووترهاوس كوبرز” في مكتب قبرص بالتنسيق مع شركة “ترايدنت تراست”، المختصة في تأسيس الشركات في جزر فيرجن البريطانية، وذلك لمساعدتهم في فتح شركات وهمية تابعة لمجموعة “يونيفيرم” ولِإبقاء تلك الشركات قيد العمل.

كان الترتيب- الذي يتضمن “خليطاً” من شركات فرعية في جزر فيرجن البريطانية وشركة قبرصية رئيسية تعمل في روسيا وبلدان أوروبية أخرى- معتاداً بالنسبة إلى الشركات الروسية التي ترغب في خفض فواتيرها الضريبية من خلال الاستفادة من الاتفاقيات القائمة بين الحكومات الروسية والقبرصية وجزر فيرجن البريطانية.

خلال المراحل المختلفة، استحوذت الشركات التابعة على حصص في شركات أخرى تمتلك مصانع صلب أميركية وقنوات تلفزيونية روسية ووكالة سفريات ألمانية ومصانع لتجهيز الأخشاب.

عام 2006، لفت مورداشوف أنظار العالم عندما أعلن أنه يحاول إتمام أول عملية استحواذ على شركة أجنبية من قِبل تكتل روسي، وهي صفقة تمت بمباركة بوتين واحتفى بها اليكسي كودرين، وزير المالية الروسي آنذاك.

لم تنجح محاولة مورداشوف من أجل الاستحواذ على تلك الشركة المصنعة للصلب في لوكسمبورغ. لكن هذه الخطة الطموحة دعمت صورته بوصفه رجل أعمال تلقى تعليمه في المملكة المتحدة ومنفتح على التعامل تجارياً مع الغرب. في ذلك الوقت، وصف مورداشوف التقارير التي تتحدث عن علاقة الصداقة التي تربطه ببوتين بأنها “مبالغة كبيرة”، لكن برغم ذلك، أعلنت  إمؤسسات علامية أوروبية أنه كان حريصاً على البقاء في وفاق مع بوتين.

تشير المراجعة التي أجراها الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين لوثائق باندورا أن شركات “الأوف شور” في إمبراطورية مورداشوف التجارية قد ساهمت في نقل عشرات الملايين من الدولارات إلى شركات مرتبطة بواحد من أعضاء الدائرة المقربة من بوتين: وهو سيرجى رولدغين، عازف التشيلو وأحد أصدقاء بوتين القدامى.

يصف تحقيق “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” الخاص بـ”وثائق باندورا” سيرجي رولدغين بأنه طرف فاعل في شبكة سرية يديرها شركاء بوتين ومساعدوه، والتي ساهمت في تدفق ما لا يقل عن ملياري دولار عبر البنوك وشركات “الأوف شور”. وكثيراً ما لجأ هؤلاء المساعدون والشركاء إلى التعامل بقروض مشكوك فيها تمت الموافقة عليها دون ضمان ودون وجود جدول زمني للتسديد.

تظهر وثائق باندورا أنه في عام 2007، قدمت واحدة من مجموعة شركات “الأوف شور” المملوكة لِمورداشوف، وهي شركة “ليفنز ترادينغ”، قرضاً يقدر بـ 6 مليون دولار إلى شركة في جزر فيرجين البريطانية مملوكة لِرولدغين. وتشير وثيقة ضمن السجلات المسربة أنه فيما بعد، أُسقط هذا الدين مقابل دولار واحد فقط.

بموجب عدة عقود خاصة بتقديم “خدمات استشارية” في 2009 و2010، قامت شركتان وهميتان بدفع 30 مليون دولار لهيئة يديرها ألكسندر بليكوف -أحد شركاء رولدغين- مقابل معلومات عن “فرص الاستثمار في الاتحاد الروسي” و”قوانين الضرائب وتشريعات العملة الأجنبية في قبرص”. تكشف وثائق باندورا أن تلك الشركات الوهمية كانت جزءاً من مجموعة “يونيفيرم” المملوكة لِمورداشوف.

راجع ويبر، الخبير في المحاسبة الجنائية، الوثائق التي تتناول الدين البالغ 6 ملايين دولار والعقود التي تقدر بـ30 مليون دولار، بناءً على طلب من الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين. وقال إنه عندما يتولى الأشخاص أنفسهم إدارة عدة شركات، فإن معدل الفائدة المنخفض والصيغة المبهمة للعقود الاستشارية تثير شكوكاً عن مدى شرعية هذه المعاملات.

في أواخر عام 2010، وضعت شركة “دولستون فينتشرز”- شركة وهمية أخرى ضمن مجموعة “يونيفيرم” المملوكة لِمورداشوف- 830 ألف دولار في حساب شركة مرتبطة برولدغين، وهي شركة يصفها تحقيق “وثائق باندورا” الذي أجراه “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” بأنها الدعامة الرئيسية لشبكة بوتين المالية بأكملها.

وردت تفاصيل هذه المعاملة المالية، التي اتضح أن الهدف منها هو سداد مبالغ خاصة بعقد إقراض يعود لعام 2008، في “وثائق فنسن”، وهي ملفات مسربة تتضمن أكثر من 2600 وثيقة من سجلات مصرفية سرية قدمها موظفون في قسم الامتثال المصرفي وحصل عليها موقع “بازفيد نيوز”، الذي شاركها بدوره مع الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين.

تقدم وثائق “فنسن” تفاصيل أيضاً عن معاملة أخرى لفتت أنظار موظفي إدارة الامتثال وتتضمن شركة مورداشوف الرئيسية: “سفرستال”.

على مدار أسبوعين من شهر تموز/ يوليو 2013، أرسلت شركة وهمية في المملكة المتحدة، تعرف باسم “ستايل ماكس” -وهي شركة تضامنية محدودة المسؤولية- أربع تحويلات إلكترونية بلغ مجموعها نحو 1.2 مليون دولار إلى شركة “سفرستال” في روسيا، وفقاً لما ورد في تقرير مصرفي. لاحقاً، ذكر موظف في قسم الامتثال في بنك “بي إن واي ميلون”، المصرف المراسل الذي عالج التحويلات الإلكترونية، في تقريره أن التحويلات “مثيرة للشبهات”، لأن الشركة الكائنة في المملكة المتحدة حققت مبيعات بلغت 24 ألف دولار عام 2012 وحده.

وجد تحليل أجراه “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” لسجلات المملكة المتحدة والوثائق المسربة أن ملكية شركة “ستايل ماكس” قد تغيرت وأن الشركة مملوكة لأفراد قال المحققون الدوليون إنهم مرتبطون بثلاث قضايا جنائية على الأقل.

وقال غراهام بارو، وهو خبير في مكافحة غسيل الأموال من المملكة المتحدة، إن حساب شركة “ستايل ماكس” هو على ما يبدو “حساب تمويل عام” لنقل الأموال.

وأخبر بارو “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” أن “السبب الوحيد الذي يجعلك تستخدم حساب مثل حساب شركة “ستايل ماكس” هو تمويه مصدر هذه الأموال”. مضيفاً أن هذا “حساب غسل أموال تقليدي”.

لا تزودنا الوثائق المسربة بمعلومات عن علاقة شركة “ستايل ماكس” بشركة “سفرستال” وسبب هذه التحويلات.

وقال متحدث باسم شركة “سفرستال” إنه “كان يلتزم على الدوام بالقوانين الروسية والدولية خلال ممارسته لأنشطته في روسيا وخارجها”.

مع توقيع شركات مورداشوف عقوداً مع هيئات وكيانات مرتبطة برولدغين وتلقيها أموالاً من مصادر مجهولة، أخذت إمبراطورية الصناعة في الخارج تتوسع بمساعدة مستشاري شركة “برايس ووترهاوس كوبرز”.

ففي خطاب أُرسل في عام 2008 إلى شركة “ترايدنت تراست”، التي تقدم خدمات لشركات “الأوف شور”، قال مدير مكتب شركة “برايس ووترهاوس كوبرز” في قبرص إن شركة المحاسبة تعمل مع مورداشوف منذ ست سنوات وتثق به. مضيفاً، “نعرف أنه شخص نزيه وصادق وحسن السلوك”.

كانت إحدى شركات مورداشوف الوهمية -التي ساعدت شركة “برايس ووترهاوس كوبرز” في إدارتها- تسيطر على شركة “سفرستال كولومبوس هولدنغز المحدودة”، التي يقع مقرها في الولايات المتحدة. كانت الشركة الأميركية- المسجلة بولاية ديلاوير- جزءاً من مجموعة “سفرستال” في أميركا الشمالية، والتي تمتلك مصانع للصلب في ولاية ماريلاند وولايات أخرى.

بيعت ثلاثة من هذه المصانع في بداية الأزمة المالية لعام 2008، وسرعان ما أصبحت عبئاً على التكتل الروسي؛ ففي المصنع الواقع في سباروز بوينت بالقرب من بالتيمور، أوقفت “سفرستال” مئات الوظائف، حيث اشتكى العمال من انتهاء العقود والمنشآت العتيقة.

وفي عام 2011، قررت “سفرستال” بيع عمليات مصنع سباروز بوينت مع منشأتين من منشآتها الأميركية المتعثرة لشركة “آر جي ستيل”، وهي شركة تصنيع حديد أميركية، ولكن نشأ نزاع قانوني بين الشركتين.

اتهمت “آر جي ستيل” “سفرستال” بأنها لم تكشف عن انتهاكات العقود وديونها مع البائعين والسقطات المحاسبية الأخرى، بما في ذلك ادعاء وجود ألواح صلب بقيمة 538000 دولار بجانب مخزون آخر اعتبرته “آر جي ستيل” عديم القيمة. نتيجة لذلك، ادعت “آر جي ستيل” أن سعر الشراء الأولي قد تضخم بمقدار 83 مليون دولار. من جانبها، أكدت “سفرستال” أن الفرق بين تقييم “آر جي ستيل” وسعر الشراء الأولي يرجع إلى الأساليب المحاسبية المختلفة التي استخدموها.

قررت الشركتان في نهاية المطاف حل المسألة أمام مُحكّم، وقد اتفقا على تحكيم شركة مألوفة هي: “برايس ووترهاوس كوبرز”.

يوضح خطاب الارتباط السري الذي فحصه الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين أن شركة “برايس ووترهاوس كوبرز” راجعت عملها السابق مع الشركتين وخلصت إلى ما يلي: “لسنا على علم بأي مواقف تشكل- في رأينا- تضارباً في المصالح أو قد تؤثر على قرارنا كمُحكّم”.

وفي هذا الخطاب، كتبت “برايس ووترهاوس كوبرز” أنها قدمت المشورة لمجموعة “سفرستال” الأميركية بشأن بعض مطالبات التأمين. لكن ما لم يرد في الخطاب هو أن وحدتها القبرصية كانت تقدم خدمات على مدى عقد لأكثر من ستين شركة وهمية مرتبطة بمورداشوف.

وقال ويبر-خبير الجرائم المالية- إن “برايس ووترهاوس كوبرز” ربما انتهكت قواعد الأخلاق بشأن الموضوعية والاستقلالية، إذ لم تكشف عن النطاق الكامل لعملها مع رئيس “سفرستال”.

وقال إن شركة “آر جي ستيل” “كان من حقها معرفة ذلك”.

وفي عام 2013، حلت شركة أخرى محل “برايس ووترهاوس كوبرز” كمُحكّم في القضية، بعد استقالة شركة المحاسبة “بسبب تضارب في المصالح مع شركة “آر جي ستيل”، حسبما جاء في سجلات المحكمة. كان المُحكّم في الشركة الجديدة شريكاً سابقاً لشركة “برايس ووترهاوس كوبرز”.

تمكنت “سفرستال” و”آر جي ستيل” من حسم الأمر بعد ذلك بشهور؛ حيث وافقت الشركة الروسية على دفع 30 مليون دولار لشركة صناعة الصلب الأميركية، التي كانت قد أعلنت إفلاسها بالفعل في مايو/أيار 2012، بدعوى “تدهور” سوق الصلب.

“أم أطفاله”

عام 2014، غزت القوات الروسية شبه جزيرة القرم؛ حينها أعلن بوتين أنها جزء من روسيا، لكن القوى الغربية الكبرى لم تصمت.

ففرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودولٌ أخرى قيوداً مالية على بعض البنوك المفضلة لدى الكرملين؛ كان أحدها “بنك روسيا”.

لا تزال “مجموعة سيفر – Severgroup” التابعة لمورداشوف -التي اشترت حصة في “بنك روسيا” عام 2003- واحدة من مساهمي البنك وتمتلك 5.825 في المئة من الأسهم، وفقًا لآخر بيان مالي متاح. تصف وزارة الخزانة الأميركية “بنك روسيا” بأنه “البنك الشخصي” للدائرة المقربة من بوتين.

عام 2014، كان من بين المساهمين في البنوك الأخرى: رولدوغين -عازف التشيلّو والأب الروحي لابنة بوتين الكبرى- ويوري كوفالتشوك -الملقب بـ”المصرفي الخاص” لبوتين- وسفيتلانا كريفونوتشيك؛ عاملة نظافة سابقة في أحد الفنادق تحولت إلى مليونيرة، وكانت لها علاقة رومانسية مع الرئيس، بحسب ما أفادت به منافذ إخبارية روسية مستقلة.

نفى البنك تأثير العقوبات على أعماله، قائلاً إن الإجراء الأميركي- على وجه الخصوص- “لم يكن له تأثير كبير على الأوضاع المالية للبنك”.

ولم يوضع أي من أعمال مورداشوف على القائمة السوداء.

إلى أن جاءت الضربة الأولى لإمبراطوريته التجارية عام 2018، عندما فرضت الولايات المتحدة عقوبات جديدة على الأفراد والشركات الروسية، لدورهم في تعزيز “النشاط الخبيث لروسيا حول العالم”، بما في ذلك التدخل في الانتخابات الأميركية عام 2016، واحتلال شبه جزيرة القرم، ودعم نظام الأسد في سوريا.

وفي مقابلة مع تلفزيون بلومبيرغ، قال مورداشوف إنه لم يكن يستعد لاحتمال أن ينتهي به المطاف في قائمة العقوبات؛ وقال “هل كنت أستعد لذلك حقاً؟” لأن الإعلان كان متوقعاً؛ وتابع قائلاً: “لم أفعل الكثير، لأنني لا أعرف ما يمكنني فعله”.

أثرت العقوبات في شركته “باور ماشينز” Power Machines، التي زودت مجموعة شركات روسية تعمل في شبه جزيرة القرم بتوربينات غازية.

كشفت وثائق باندورا أن مورداشوف لم يُعاقَب، ولكن استراتيجيته المعتمدة على الملاذات الخارجية قد تغيرت.

بعد نحو ثلاثة أشهر من إعلان العقوبات الأميركية عام 2018، أصبحت السيدة مارينا مورداشوفا -التي وُصفت بأنها “شريكة حياته”- مالكة شركة في جزر فيرجن البريطانية، وهي شركة “رانِل أسيتس المحدودة – Ranel Assets Ltd”. كان غرض الشركة هو “استثمار دخلها الذي تتحصل عليه في الأدوات المالية (الودائع، خيارات (التمويل)، العقود الآجلة) من أجل تحقيق مكاسبها على شكل فوائد”، وهذا النوع من الدخل مُعفى من الضرائب في جزر فيرجن البريطانية، أحد الملاذات الخارجية الرائدة في العالم.

ساعدت وحدة قبرص التابعة لشركة “برايس ووترهاوس كوبرز” -التي استمرت في مساعدة شركات مورداشوف الوهمية- مورداشوفا في جمع الأوراق اللازمة لفتح الشركة. وأظهرت السجلات المسربة أن موظفاً في “برايس ووترهاوس كوبرز” في قبرص أدرج اسمه وبياناته باعتباره الشخص المسؤول عن التواصل معها في “الوثائق الداعمة” لشركتها.

وكما تشير الملفات، بلغت قيمة أسهم مارينا مورداشوفا في “رانِل أسيتس” نحو 40 مليون دولار في ذلك الوقت. وقد كان مصدر الأموال هو مورداشوف، كما تشير الوثيقة التي ورد فيها أنها “أم أطفاله”.

خارج نطاق الرقابة

ف شباط/ فبراير، فرض الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة عقوبات على أليكسي مورداشوف للمرة الأولى، وجمدوا أصوله.

وأوضح المشرعون في الاتحاد الأوروبي القرار بالقول إنه يستفيد من “صلاته بصانعي القرار الروس”.

ومن جانبه نفى مورداشوف هذه المزاعم في بيان مكتوب، مضيفاً: “لا أفهم كيف ستساهم هذه العقوبات المفروضة ضدي في تسوية الصراع المروع في أوكرانيا”.

من ناحية أخرى، حجزت السلطات الإيطالية على يخته “ليدي إم” الذي تبلغ تكلفته 27 مليون دولار. ويخمن موقع SuperYacht Fan -موقع متخصص في تتبع اليخوت في جميع أنحاء العالم- بأن مورداشوف أطلق على القارب الذي يبلغ طوله 213 قدماً اسم شريكة حياته. كما كشفت “وثائق باندورا” أن اليخت- المسجل في جزر كايمان- كان مملوكًا لشركة وهمية في جزر فيرجن البريطانية أنشئت بمساعدة “برايس ووترهاوس كوبرز”.

كما صادرت السلطات الإيطالية فيلته الفاخرة التي تبلغ قيمتها 116 مليون دولار في سردينيا، وهي جزيرة جميلة في البحر المتوسط ​​حيث يقال إن الأوليغارش الروس يمضون عطلاتهم هناك.

أما يخته الضخم “نورد”- الذي تبلغ قيمته 500 مليون دولار وطوله 465 قدماً- فقد ظل راسياً بأمان في جزر سيشل.

إلا أن مورداشوف أُجبر على التخلي عن حصته في شركة التعدين “نوردغولد” وفي “تي يو آي”، وهي شركة ألمانية مساهمة عامة تمتلك فنادق ومنتجعات في جميع أنحاء العالم.

إذ حول سراً معظم حصصه في كلتا الشركتين إلى شريكته، مارينا مورداشوفا بقيمة إجمالية تتجاوز الـ 2.5 مليار دولار.

أما مجموعته “يونيفيرم” في قبرص فقد حصلت على مساهم جديد أيضاً، لكنها ظلت ضمن عائلة الشركات التي ترتبط بمورداشوف.

ففي آذار/ مارس، أعلن مورداشوف أنه نقل جزءاً من “يونيفيرم” إلى شركة “أونديرو المحدودة – Ondero Ltd”، إحدى شركاته في جزر فيرجن البريطانية.

تكشف وثائق باندورا أنه منذ عام 2018، خضعت “أونديرو” لسيطرة شركة مارينا مورداشوفا الصورية؛ “رانِل أسيتس”.

تظهر السجلات أن “أونديرو” أصبحت أيضاً مساهماً في شركة صورية من جزر فيرجن البريطانية مسؤولة عن تأجير طائرة “بومباردييه غلوبال 6000” بقيمة 37 مليون دولار. تظهر الملفات أن الشركة الصورية- التي كانت تخضع في السابق لسيطرة شركة تابعة لشريكها مورداشوف- كانت تُدار بمساعدة شركة “برايس ووترهاوس كوبرز”.

وبعد هبوطها في موسكو في 4 آذار، وفقاً لموقع إلكتروني يتتبع الرحلات الجوية الدولية، اختفت إشارة طائرة مورداشوف، وأضحت خارج نطاق المراقبة.

وكانت جزيرة مان قد ألغت تسجيل الطائرة مع 20 طائرة أخرى تخص الأوليغارشية الروسية.

درج

——————–

وثائق باندورا- روسيا: سليمان كريموف الأوليغارشي الذى أغوى المصارف الغربية واستضاف شاكيرا

ICIJ – سبينسر وودمان

تشير الإنذارات المصرفية الخاطئة بشأن تحويلات مشبوهة بقيمة 700 مليون دولار إلى التحديات التي تواجه محاولة العثور على الأموال المرتبطة بالكرملين.

احتل أحد أكبر البنوك العالمية مقعد الصدارة في تدفقات مئات الملايين من الدولارات من خلال شركات وهمية خارجية غامضة.

على مدار ست سنوات، أرسل بنك “بي إن واي ميلون” BNY Mellon سلسلة من التحذيرات إلى السلطات الأميركية بشأن تحويلات مصرفية بلغ مجموعها أكثر من 700 مليون دولار. لكن البنك لم يتمكن من معرفة أموال من هذه المتورطة في تلك العملية. حاولت هذه التحذيرات أن تخمّن هوية المرسَل إليه في إحدى الحوالات فأظهرت -بشكل غير صحيح- أن تاجراً بريطانياً “يتاجر في الفواكه والخضروات” كان متورطاً.

في الواقع، كانت الأموال جزءاً من إمبراطورية شاسعة خارج الحدود مرتبطة بسليمان كريموف، ملياردير روسي وسياسي مقرب من الرئيس فلاديمير بوتين. كُشفت صلاته بهذه المعاملات في وثائق باندورا؛ وهي عبارة عن ملايين السجلات المالية الخارجية المسربة التي حصل عليها “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين”…

كريموف هو قطب من أقطاب الذهب، وقد جمع ثروة طائلة من شراء أصول الطاقة وحصص كبيرة في البنوك الروسية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وهو أيضاً عضو في مجلس الشيوخ بالبرلمان الروسي، وكان واحداً من مجموعة مختارة من الأوليغارشية القوية التي استدعاها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى موسكو في اليوم الذي غزت فيه روسيا أوكرانيا. وفرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات للمرة الأولى عام 2018. وحذت حذوها بريطانيا والاتحاد الأوروبي هذا العام.

ربما يكون من أكثر الأمور التي تهم السلطات الأميركية، أن كريموف تربطه علاقات بشبكة مالية سرية يعتقد أنها تحفظ ثروة بوتين السرية، وفقاً للاتحاد الأوروبي وتحقيقات من شركاء “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” في تحقيق “أوراق بنما” لعام 2016.

في أوائل آذار/ مارس، أعلنت الولايات المتحدة عن برنامج حكومي دولي كبير لتتبع وتجميد أصول أفراد هذه الأوليغارشية والكشف عنها، والتي غالباً ما تكون مخبأة تحت طبقات من الشركات الوهمية وخلف شخصيات تلعب دور الأقنعة والواجهة الظاهرية فقط. وتعهد الرئيس جو بايدن في خطابه السنوي عن حالة الاتحاد قائلاً: “نحن عازمون على كشف مكاسبكم غير المشروعة”.

لكن التعهد بالكشف عن أموال الأوليغارشية شيء، وتحديد مكانها بالفعل شيء آخر.

تُعد الملفات الاستخباراتية لبنك “بي إن واي ميلون”، المعروفة باسم تقارير الأنشطة المشبوهة، دليلاً على مدى صعوبة تعقب الثروة الروسية. تحولت النخبة الروسية إلى الشركات الوهمية السرية والوسطاء الماكرين لإخفاء الأموال واليخوت والمنازل؛ وعلى مدى عقود، ثبت أن البنوك والسلطات الحكومية غير قادرة على تتبع مسارها.

شبّه غراهام بارو، خبير الجرائم المالية، الشركات الوهمية التي يستخدمها الأوليغارشيون الروس ووكلاؤهم بأنها دمى متداخلة، حيث تخفي كل طبقة عنصراً آخر داخلها. قال بارو: “لم يتم الكشف عن أسماء شركاتهم الوهمية، ووضعهم كمستفيد نهائي محجوب”. وهذا يجعل من الصعب للغاية تطبيق العقوبات”.

الشخصيّة المركزيّة  في التحويلات التي حيّرت مسؤولي الامتثال كانت ألكسندر ستودهالتر؛ وهو ممول سويسري له علاقات وثيقة مع كريموف. عام 2017، وصفت السلطات الفرنسية ستودهالتر بأنه واجهة لكريموف في رفع تهم غسل الأموال والتهرب الضريبي ضد الاثنين، والتي تم إسقاطها لاحقاً.

تظهر “وثائق باندورا” أن شركة ستودهالتر ساعدت في إدارة  شركات خارجية في جزر فيرجن وجزر كايمان البريطانية، التي كانت ممراً لأكثر من عشرات الحوالات المصرفية التي أُرسلت بين عامي 2010 و2015 وقد صنَّفها بنك “بي إن واي ميلون” بأنها حوالات مشبوهة.

أدرج ستودهالتر رسام وشم في بلدته السويسرية بصفته مالكاً لشركة وهمية نقلت حوالات مصرفية بأكثر من 300 مليون دولار لشركات مرتبطة بكريموف. كما أدرج ابن شقيق كريموف باعتباره المساهم الوحيد في شركة أخرى مولت طائرتين خاصتين، بما في ذلك طائرة بوينج 737 مخصصة، بحسب البيانات المسربة. تظهر البيانات معاملات بمليارات الدولارات بين الشركات المملوكة لعائلة كريموف والشركات الوهمية المدرجة على أنها مملوكة أو مدارة من قبل ستودهالتر.

يأتي هذا التحقيق كجزء من “وثائق باندورا”- روسيا، وهو مشروع جديد لـ”الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” والشركاء العالميين يهدف لإلقاء الضوء على التدفقات المالية السرية المرتبطة بالأوليغارشيين وغيرهم من المقربين من الكرملين في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا. يأتي ذلك بعد عقد من التحقيقات التي قدمها :الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” حول الاقتصاد الخارجي- وحول المناورات البحرية الروسية على وجه الخصوص. يقوم الاتحاد أيضاً بتحديث قاعدة بيانات التسريبات الخارجية بمعلومات وبيانات عن الشركات المرتبطة بمئات المواطنين الروس، بما في ذلك السياسيون والمصرفيون، الذين أسسوا أعمالاً من خلال مزود خارجي بارز في سيشيل.

التفاصيل في هذا التحقيق مستمدة أيضاً من ملفات “شبكة التحقيق في الجرائم المالية (فِنسِن)”؛ وهي عبارة عن بيانات مسرّبة لتقارير الأنشطة المشبوهة التي حصل عليها موقع “بازفيد نيوز” وشاركها مع “الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين”، وقد كانت هذه التحقيقات بمثابة حجر الأساس لتحقيق 2020 في التدفق الحر للأموال المشبوهة عبر البنوك العالمية.

في المجمل، تظهر السجلات المسربة معاملات بمليارات الدولارات بين الشركات المملوكة لعائلة كريموف والشركات الوهمية التي تمتلكها أو تديرها شركة ستودهالتر.

قال بنك “بي إن واي ميلون” إنه ممنوع من التعليق على ملفات المخابرات السرية الخاصة به، لكنه قال إنه يمتثل تماماً للقوانين واللوائح ذات الصلة.

لم يستجب الفريق القانوني لكريموف لطلبات مفصلة للتعليق، وكل ما قاله إنه بعد سنوات من التحقيق، لم تقدم السلطات الفرنسية شكوى رسمية.

وفي ردّه على “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين”، قال ستودهالتر إن السلطات الفرنسية اختلقت الدعوى المرفوعة ضده. وتابع قائلاً إنه رجل أعمال ومستثمر مستقل، ولم يتصرف كواجهة لأي شخص. وقال إنه ووالده يمتلكان الشركات التي تُمثل معظم التحويلات المصرفية المقدرة بنحو 700 مليون دولار.

إضافة إلى التحويلات المصرفية المشبوهة، تحتوي وثائق باندورا على وثيقة قرض يُقدر بنحو 3 مليارات دولار بين عامي 2012 و2015 من شركة تقع في جزر العذراء البريطانية تُسمى “فرِن غلوبال” Fren Global Corp، إلى شركة تسيطر عليها عائلة كريموف.

يظهر توقيع ستودهالتر على وثيقتين من وثائق الشركة لعام 2016 تحددان أنه مالك الشركة، Fren Global، التي قدمت القرض. عندما سئل عن الأمر، ادعى ستودهالتر عدم التعرف على ما وصفه بأنه “توقيع إلكتروني مشوه”، وقال إنه باع شركة Fren Global لابن شقيق كريموف عام 2014.

كان ستودهالتر مالك شركة “فرِن غلوبال”، وذلك بحسب ما ورد في وثيقة تسجيل الشركة المسربة في وثائق باندورا التي تحمل توقيعه. وأخبر ستودهالتر “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” أن السجل “خاطئ” دون الخوض في التفاصيل.

تبين التقارير أن كريموف شق طريقه نحو الثراء من بداية متواضعة، واستفاد من الاستثمارات الصغيرة وحولها إلى استثمارات أكبر، ويشمل ذلك شركة النقل التي توقف نشاطها الآن بعدما كانت إحدى شركات الطيران الرئيسية في روسيا في التسعينات.

بحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، استطاع كريموف أن يحتل مقعداً في البرلمان الروسي، وكان يبني حصة كبيرة في شركة “غازبروم” الروسية المنتجة للغاز. وبحلول عام 2012، ركز كريموف استثمارات عائلته في صناعة الذهب الروسية، وسيطر على شركة “بولي يوس” -أكبر منتج للذهب في البلاد- والتي تُمثل الآن جزءاً كبيراً من ثروته الصافية التي تبلغ 14 مليار دولار تقريباً، وفقاً لتقديرات “بلومبرغ نيوز”.

وفي خضم هذه الممارسات؛ بنى كريموف سمعة طيبة بإقامة حفلات فخمة تصل تكلفتها إلى 10 ملايين دولار تجمع “المصرفيين الغربيين بمسؤولين حكوميين روسيين”، وفقاً لما ذكرته صحيفة “فاينانشيال تايمز”، التي وصفت كريموف بأنه “الأوليغارشي السري لروسيا”. ورد أن كريموف وظّف بيونسيه وشاكيرا لاحتفالاته، وامتلك أحد أكبر اليخوت في العالم.

عام 2006، أصيب بحروق بالغة بعد اصطدام سيارته الفيراري بقيمة 650 ألف دولار بشجرة في شارع على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط في فرنسا.

ومع نمو شهرته، واجه كريموف شكوكاً عدة حول مصدر ثروته المتزايدة، وما إذا كان يمثل واجهة لأموال الكرملين السرية.

وعام 2016، كشف تحقيق “وثائق بنما” الذي أجراه “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” أن شركات كريموف دفعت 200 مليون دولار من الدفعات مجهولة المصدر إلى شبكة من الشركات المرتبطة بصديق طفولة بوتين؛ سيرجي رولدوغين، الذي يُشتبه في أنه يمثل واجهة رئيسية لثروة الرئيس الروسي السرية. وضعت التقارير كريموف وسط أحد أهم العناصر المكتشفة حتى الآن بشأن ما يوصف بأنه ثروة سرية تخص الرئيس الروسي تقدر بمليارات الدولارات.

في أواخر عام 2017، ألقي القبض على كريموف واحتجز لفترة وجيزة في مدينة نيس الفرنسية للاشتباه في غسل الأموال والتهرب الضريبي بعد شراء فيلا بقيمة 127 مليون يورو، إلى عقارات فاخرة أخرى. كما ألقى المدَّعون القبض على ستودهالتر، المحاسب والممول السويسري.

وصف الفرنسيون ستودهالتر بأنّه بمثابة الواجهة الأمامية لإخفاء كريموف، إذ ساعده على التهرب من الضرائب على مشترياته من العقارات.

وتدخل الكرملين بما سماه بذل “أقصى الجهود” للدفاع عن كريموف، ودعا إلى اجتماعات ديبلوماسية في موسكو وباريس.

عام 2020، دفعت شركة Swiru Holding AG التابعة لشركة ستودهالتر غرامة قدرها 1.4 مليون يورو كجزء من اتفاقية تأجيل الملاحقة القضائية في القضية الفرنسية. تم إسقاط التهم الموجهة إلى كريموف وستودالتر في النهاية.

في ردّه على أسئلة “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين”، قال  ستودهالتر إن شركة Swiru مملوكة له بالكامل، وأنه اشترى العقارات الفرنسية في مركز اعتقاله وأجَّرَها ببساطة لكريموف. وقال إن التحقيق الفرنسي ركز على الضرائب التي أهمل بائع العقارات دفعها، وليس هو. وأضاف ستودهالتر في بيان له: “القضية برمَّتها قد اختُلقِت للتو، ولا تزال تتناقلها بعض وسائل الإعلام بشكل خاطئ”.

طوارئ جديدة تدفع بضرورة العثور على الأموال الروسية

مع تساقط قذائف المدفعية الروسية على المدن الأوكرانية، تسعى الدول الغربية المتحالفة مع أوكرانيا إلى فرض حصار على الاقتصاد الروسي؛ وعليه فقد أَدرجت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي البنوك الروسية الكبرى في القائمة السوداء، وعزلتها عن النظام المالي العالمي، وشجعت الشركات الغربية الكبرى على الانسحاب من البلاد.

تشير هذه التحركات إلى اهتمام جديد بتعقب عائدات الفساد السياسي؛ لكن السؤال هو هل ستؤتي ثمارها هذه المرة؟ يقول الخبراء إن الدول الغربية اتبعت منذ سنوات سياسة رخوة ومتساهلة في مكافحة الأموال المشبوهة، وكانت النتيجة الفشل في محاسبة البنوك على جني الأرباح من الجرائم المالية، بل سُمح بازدهار الملاذات الضريبية داخل حدود هذه الدول.

قالت جوليا فريدلاندر- المستشارة السابقة لعقوبات وزارة الخزانة في مركز أبحاث “أتلانتيك كاونسل”- “سيتعين عليهم القيام بالكثير من الخطوات من أجل اللحاق بالركب إذا كانوا يريدون متابعة خطتهم”.

لقد وعدت حكومة الولايات المتحدة بأنها “سوف تستخدم كل أداة لتجميد ومصادرة” أصول الأوليغارشية الروسية. من المتوقع أن تلعب شبكة إنفاذ القانون على الجرائم المالية التابعة لوزارة الخزانة الأميركية، أو FinCEN، دوراً رئيسياً.

تجمع شبكة التحقيق تلك أكثر من مليون تقرير عن الأنشطة المشبوهة كل عام، وتشارك هذه المعلومات مع الوكالات الفيدرالية الأخرى والحكومات الأجنبية.

ومثل الكثير من أقسام الامتثال للبنوك التي تعمل معها، عانت “فنسن” من نقص الموظفين وميزانية محدودة؛ فقد قالت إليز بين- المحققة السابقة في اللجنة الفرعية الدائمة للتحقيقات في مجلس الشيوخ- “تعاني شبكة فنسن من قصور شديد في التمويل؛ فليس لديهم ما يحتاجون إليه لإتمام عملهم”.

يقع مكتب التحقيقات الصغير “فنسن” في قلب الجهود المبذولة لمكافحة الأموال المشبوهة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن تجار المخدرات والإرهابيين وأفراد الأوليغارشية وغيرهم من المخالفين، لهم هدف مشترك، مثل كثر من عملاء البنوك الذين يعملون عبر الحدود، وهو نقل الدولار الأميركي، العملة العالمية الفعلية، بين الحسابات في دول مختلفة.

يمتلك بنك “بي إن واي ميلون”، مقره في نيويورك، 2.4 تريليون دولار من الأصول تحت إدارته. وقد كان البنك الأقدم منه من بين أوائل البنوك الكبرى التي دفعت غرامة كبيرة للسلطات الأميركية بسبب إخفاقاته في مكافحة غسيل الأموال. في عام 2005 -قبل عامين من اندماجه مع “ميلون فاينانشيال” Mellon Financial، دفع بنك نيويورك 38 مليون دولار، ووقع اتفاقية مقاضاة مؤجّلة بعدما خلص تحقيق فيدرالي إلى أنه سمح بتدفق 7 مليارات دولار من الأموال الروسية غير المشروعة عبر حساباته.

يعد هذا البنك إحدى الركائز الرئيسية في مساعدة المؤسسات المالية الأجنبية على إرسال تحويلات مصرفية دولية بالدولار الأميركي، وتعرف البنوك التي تمارس هذا النوع من الأعمال باسم البنوك المراسلة. لم يحتفظ “بي إن واي ميلون” بحسابات مصرفية لأي من الشركات الوهمية المشاركة في المعاملات المشبوهة المرتبطة بكريموف، بل ساعد في معالجة بعض التحويلات المصرفية الدولية الكبيرة بالدولار الأميركي.

حتى إدارات الامتثال في البنوك التي تتمتع بموارد جيدة يمكن أن تواجه صعوبات جمة في الربط بين التحويلات المالية والأشخاص المعنيين بإنفاذ القانون. ومع ذلك، تشير ملفات “بي إن واي ميلون” إلى أن مسؤولي الامتثال التابعين له اعتمدوا بشكل أساسي على الانترنت للبحث عن الشركات الوهمية التي تقف وراء 700 مليون دولار من المعاملات المشبوهة. أظهر تحقيق “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” أنه لا يوجد ما يشير إلى أن “بي إن واي ميلون” قد تواصل العمل مع مصرف “كريدي سويس” Credit Suisse، المصرف الأساسي للكثير من الشركات الوهمية، لتحديد مصدر الأموال المشبوهة التي تدفقت عبر حساباته.

قال غاريت ماركيز، المتحدث باسم “بي إن واي ميلون”، في بيان أُرسل عبر البريد الإلكتروني: “يؤدي بي إن واي ميلون دوره في حماية نزاهة النظام المالي العالمي بكل جدية وصرامة، ويشمل ذلك تقديم تقارير حول الأنشطة المشبوهة. وبصفتنا عضواً موثوقاً في المجتمع المصرفي الدولي، فإننا نلتزم تماماً بجميع القوانين واللوائح المعمول بها، ونساعد السلطات في العمل الحساس والمهم الذي تقوم به. وبموجب القانون، لا يمكننا التعليق على أي تقارير حول أنشطة مشبوهة مزعومة كنا قد قدمناها أو ربما كشفت عنها أطرافٌ ثالثة لوسائل الإعلام بشكل غير قانوني”.

وفقاً لسجلات وزارة الخزانة المسربة؛ ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2013، قدم ضباط الامتثال في “بي إن واي ميلون” تقريراً إلى السلطات الأميركية عن نشاط مشبوه بخصوص تحويلين مصرفيين بلغ مجموعهما 270 مليون دولار من شركة صورية مبهمة في قبرص إلى شركة صورية أخرى في جزر كايمان تُسمى SH Advisors Limited.

انتبه البنك إلى التحويلين، لكنه أبلغ السلطات بمعلومات غير دقيقة حول الشركات الوهمية. أخطأ البنك في مكان المنشأ وهو شركة في قبرص تدعى Nitokris Ltd، لأن ثمة شركة مجرية صغيرة تحمل الاسم نفسه، وبنى على هذه المعلومة استنتاجاً خاطئاً هو أن الشركة القبرصية الوهمية مملوك، نصفها، لرجل اسمه بالاز ماركوس.

وفي رسالة عبر البريد الإلكتروني، قال ماركوس -وهو محاضر غير متفرغ في جامعة كورفينوس في المجر- إنه وزوجته يديران شركة مقرها بودابست تحمل الاسم نفسه، لكنهما لم يسمعا سابقاً عن الشركة القبرصية.

تُظهر السجلات المسربة من “ترايدنت ترست”- وهو مزود خدمات خارجي رئيسي- أن شركة جزر كايمان الوهمية التي تلقت التحويلات، شركة SH Advisors، تنتمي إلى Heritage XXI Holding Ltd، وهي شركة صورية في جزر فيرجن البريطانية. وتظهر السجلات أن المالك النهائي لشركة Heritage هي مؤسسة سليمان كريموف؛ وهي مؤسسة خيرية مسجلة في سويسرا.

وبحسب ما ورد في السجلات، استخدم كريموف المؤسسة للتنصل من القوانين الروسية التي تمنع المسؤولين الحكوميين من الاحتفاظ بحسابات مصرفية في الخارج أو شراء أوراق مالية أجنبية، بحسب Moscow Times.

عام 2014، أبلغ “بي إن واي ميلون” السلطات أن شركة صورية في جزر العذراء البريطانية تدعى Fletcher Ventures Ltd أرسلت مبلغ 100 مليون دولار لشركة LT Trading Ltd، وهي شركة تأسست في المنطقة نفسها. وفي تقريره الذي قدمه إلى السلطات الأميركية، أخطأ البنك في تخمين شركة LT Trading، بأنها شركة بريطانية متخصصة في “بيع الفواكه والخضروات”، وصرح البنك بأن المصدر الذي اعتمد عليه في هذا الاستنتاج هو “بحثٌ على الإنترنت”.

تجسد الشركتان الحُجُب الكثيفة للسرية المالية التي سمحت للأموال المرتبطة بأوليغارشية الرئيس الروسي بالتدفق بحرية في جميع أنحاء العالم؛ إذ لم تتمكن التقارير العامة من الكشف عن ملكيتها أو خط عملها.

تُظهر السجلات أيضاً أن Swiru Holding، الشركة السويسرية التابعة لشركة ستودهالتر، والتي دفعت لاحقاً غرامة قدرها 1.4 مليون يورو متعلّقة  بالتحقيق الفرنسي، عملت مع “ترايدنت ترست” لإدارة كل من LT Trading و”فليتشر فينشرز”، بحسب البيانات.

مع “فليتشر فينتشرز” Fletcher Ventures، قام ستودهالتر بحيلة شائعة في أكثر الجوانب سرية من التمويل الخارجي؛ إذ إنه أنشأ طبقة إضافية من السرية باستخدامه شخصية تؤدي دور الواجهة، وذلك على ما يبدو لمحاولة إخفاء المالك الحقيقي لشركة “فليتشر فينشرز”. ووفقاً لوثيقة التسجيل من “ترايدنت ترست”، كان مالكها هو ريناتو كوبو، رسام وشم يعيش في لوسيرن، وهي المدينة السويسرية نفسها التي يقع بها مقر شركة ستودهالتر. ويظهر توقيع ستودهالتر على الوثيقة.

عندما اقترب مراسلون من “تاميديا”- شريك “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين”- ​​من كوبو في الاستوديو الخاص به؛ وعندما سُئل عن دوره في “فليتشر فينشرز”، أو طبيعة الشركة، أو لماذا أُرسلت مئات الملايين من الدولارات في شكل حوالات مصرفية من حساباتها، أحال كوبو الأسئلة إلى ستودهالتر. تُظهر البيانات المسربة أن شركة “فليتشر فينشرز” أرسلت أيضاً 202 مليون دولار إلى شركة تدعى LLC Gilia، وهي شركة روسيّة مرتبطة بشركة استثمار لكريموف.

أخبر ستودهالتر “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” أنه هو، وليس كوبو، المالك الحقيقي لشركة “فليتشر”، وقال إنه واثق من أن “ترايدنت ترست” على علم بهذه الحقيقة. وأضاف أن المعاملات “تضمنت تمويل استثمارات عقارية، وهو نشاط طويل الأمد” لشركته السويسرية.

قال ستودهالتر إنه أو عائلته يمتلكون الكثير من الشركات التي فحصها تحليلُ “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين”، وأشار إلى أن الأموال التي تعاملت معها هذه الشركات كانت ملكه. قال ستودهالتر: “لقد شاركت وما زلت في عدد من المعاملات لحسابي الخاص بملايين الدولارات”. قال إنه عمل مع كريموف “في مناسبات عدة” كشريك “وليس كمقدم خدمة”.

وصرح ستودهالتر بأن جميع الشركات التي أسسها خضعت للتدقيق من قِبل سلطات الضرائب السويسرية، وأنه هو وشركاته يتبعون اللوائح ذات الصلة، وقال إنه لم يعمل مع كريموف منذ عام 2017.

ردّاً على أسئلة ICIJ، قالت ترايدنت ترست أنها لا تناقش قضايا العملاء مع وسائل الإعلام وقالت إنها ملتزمة بالامتثال للأنظمة ذات الصلة في جميع المجالات التي تعمل فيها.

تظهر وثائق باندورا أن LT Trading، الشركة التي تلقت تحويلاً ماليّاً بقيمة 100 مليون دولار لشركة Fletcher Venture، لا علاقة لها بشركة الإنتاج البريطانية، وقد تم إنشاؤها أيضاً مع وكيل شكلي كمالكها. وهي شركة مسجّلة في جزر العذراء البريطانية مملوكة، وفقاً لوثائق تسجيل الشركة، لناريمان جادجييف، ابن شقيق كريموف. من المعروف أن جادجييف يعمل بشكل وثيق مع كريموف.

تظهر التسريبات أنه في عام 2012، عملت LT Trading مع Credit Suisse، على تأمين قرض بقيمة 67 مليون دولار لتصميم وشراء طائرة Boeing 737 Business Jet، إضافة إلى طائرة Bombardier Global Express، وهي علامة تجارية مفضلة للطبقة فائقة الثراء. بعد سنوات قليلة، وصف مقال في مجلة “فوربس “روسيا أن كريموف يمتلك النوع ذاته من طائرات “بوينغ”.

وبالاستناد إلى قوانين السرية المصرفية، رفض “كريدي سويس” الرد على السؤال حول إجراءات التدقيق الضرورية التي اتبعها البنك في تعاملاته مع LT Trading. وقال البنك إنه يحافظ على ضمانات صارمة ضد الجرائم المالية، ويتخذ “إجراءات فورية وحاسمة” عندما يكتشف احتمال وجود نشاط غير مشروع.

وقالت ناتالي بياسين، المتحدثة باسم “كريدي سويس”، في بيان عبر البريد الإلكتروني: “من حيث المبدأ والسياسة، يُطبِق البنك جميع العقوبات، لا سيما تلك الصادرة عن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وسويسرا. وعلى رغم أن “كريدي سويس” لا يمكنه أن يُعلق على العلاقات مع العملاء المحتملين بموجب القانون، إلا أنه يمكننا أن نؤكد أنه عندما نجد علامات تشير إلى إساءة استخدام محتملة للحساب في أنشطة غير مشروعة، فإننا نتخذ إجراءات تتماشى مع السياسات المعمول بها والمتطلبات التنظيمية”.

لا يوجد بين تقارير “بي إن واي ميلون” المسربة المتعلقة بالأنشطة المشبوهة أي تقرير بشأن التحويلات المصرفية لشركة LT Trading باسم كريموف أو جادتسييف أو ستودهالتر. كما رفض جادتسييف -المقيم في سويسرا- التعليق على العلاقات التي يكشفها هذا الاستقصاء.

يقول خبراء البنوك إنه على رغم السرية العميقة التي تكتنف LT Trading، إلا أنه لا يزال بإمكان مسؤولي البنوك اتخاذ إجراءات. فبحسب ما صرح به غراهام بارو- الخبير المصرفي- كان على البنك الاتصال بمصرف “كريدي سويس” للاستفسار عن الشركة الصورية.

وفي هذا السيناريو، إذا لم يقدم “كريدي سويس” معلومات وافية، فسيصبح بإمكان “بي إن واي ميلون” رفض إجراء مزيد من المعاملات الخاصة بشركة LT Trading. قال بارو إن مجرد طلب المعلومات من بنك آخر يعد أداة مهمة للبنك لوقف تدفق الأموال المشبوهة.

وبحسب بارو: “كان ينبغي أن يدق هذا كل أجراس الإنذار؛ فمن المؤكد أنه كان ينبغي عليهم طرح الأسئلة”.

شارك في إعداد التقرير: جيمس أوليفر، كنزي أبو ساب، كاثرين بيلتون، أندرو ليرين، أوليفر زيلمان، كريستيان برونيمان، ريتشارد إتش. بي. سيا، أوجستين أرمينديز، جريج ميلر، كاري كيهو، دلفين رويتر، عبد الحق الإدريسي، ياسمين سالمون، إميليا دياز ستروك، نانسي إنغ.

درج

———————-

اليمين الأوكراني: نظرة عن قرب/ عبداللطيف حاج محمد

مع بدء التحضيرات للغزو الروسي على أوكرانيا في نهاية شتاء 2022، أطلقت الحركة حملة علاقة عامة تحث الناس على التزام الهدوء والاستعداد. كان شعار الحملة التي أجرتها “آزوف” بأسلوبها المعتاد هو بالضبط “لا داعي للذعر – استعد!”.

يعيش يورغي (60 سنة) في السويد منذ 2014، رجل متحفظ، وهادئ، لا يرغب في التحدث مع الغرباء، استغرق الأمر بعض الوقت، و الكثير من الأخذ والرد، قبل أن يوافق على إخباري عن غضبه وخيبة أمله تجاه عائلته، و وتحديداً أخوته.

نشأ يورغي في غرب روسيا، في مدينة سانت بطرسبرغ ويتحدث اللغة الروسية، لكنه انتقل في سن مبكرة إلى الأجزاء الأوكرانية من الاتحاد السوفياتي آنذاك. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي واستقلال أوكرانيا، طور ما سماه “الانتماء القومي” لأوكرانيا.

يقول يورغي: “ليس لدى الكثير من أفراد عائلتي المشاعر ذاتها تجاه أوكرانيا. لأنهم عاشوا في أجزاء مختلفة من روسيا، مع معظم السكان الناطقين بالروسية، لم يتمكنوا أبداً من التعرف إلى أوكرانيا وكانوا يرون الأوكران بدلاً من ذلك روساً. لذلك نحن الآن على جوانب مختلفة من خط المواجهة. لا أستطيع أن أقبل أن روسيا تغزو حدودنا، وأشعر بكراهية شديدة لما يعرضون بلادنا له”.

قاتل ستيبان بانديراس في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي ضد الاتحاد السوفياتي وبولندا من أجل استقلال أوكرانيا. بالنسبة إلى القطاع الأيمن، فهو بطل، بينما في روسيا وشرق أوكرانيا يُنظر إليه على أنه أحد المساعدين النازيين في روسيا.

من هو اليمين الأوكراني – وما هو الدور الذي يلعبونه في الحرب ضد روسيا؟

لقد كانت رسالة متكررة ومكثفة من بوتين أثناء الاستعدادات لغزو أوكرانيا: “اجتثاث النازية” من أوكرانيا. كان بإمكان الرئيس بالسهولة نفسها أن يلفظ اسم “آزوف” – الوحدة العسكرية التي يقودها يمنيون راديكاليون أوكرانيون، التي تأسست عام 2014 للقتال بشكل أساسي ضد الانفصاليين الروس في منطقة دونيتسك الشرقية.

تعود أصول حركة “آزوف” إلى وحدة عسكرية تطوعية تشكلت في بداية الحرب في شرق أوكرانيا دونباس، 2014. أسس الوحدة مثيرو الشغب ونشطاء كرة القدم اليمينيون المتطرفون تحت اسم كتيبة آزوف. كان للكثير من الأعضاء خلفية سياسية في منظمة باتريوتس الأوكرانية المنحلة الآن، وهي منظمة عنصرية ومعادية للسامية كانت في الأصل اتحاداً شبابياً متشدداً للحزب اليميني المتطرف SNAP، الذي تأسس عام 1991 تحت اسم “الحزب الوطني الاجتماعي الأوكراني” (SNAP)، وعام 2004 غير اسمه إلى “سفوبودا” (الحرية)، ولديه تاريخ طويل من الانتفاضات المعادية لروسيا ومعاداة السامية.

أعلن زعيم الحزب أوليه تاهنيبوك عام 2004 أن أوكرانيا تحكمها مافيا “يهودية من موسكو”، وقد وضعه مركز Simon-Wiesental عام 2012 في المركز الخامس بين معادي السامية الرائدين في العالم.

تعتقد المنظمة رسمياً أنه في “الكيان المعين من قبل الدولة والذي يُسمى الآن أوكرانيا”، والذي هو في الواقع “ليس أوكرانياً”، استولى “المحتلون الداخليون” على الحكومة.

 لكن منذ عام 2012، تم تقليص الرسائل الأكثر تطرفاً. اليوم، يظهر الحزب كحزب يميني شعبوي تمكن مقارنته بـ”حزب الجبهة الوطنية” في فرنسا، كما تقول مريدولا غوش، التي تبحث في التطرف اليميني في أوكرانيا في معهد التنمية لأوروبا الشرقية في كييف.

في نهاية عام 2014، تمت إعادة هيكلة “كتيبة آزوف” إلى فوج خاص مع دمجها رسمياً في الحرس الوطني، الذي يخضع بدوره لوزارة الداخلية في البلاد. يقع الفوج الذي ضم حوالى 800-900 فرد عند تأسيسه في ماريوبول في جنوب شرقي أوكرانيا، على حافة البحر الأسود – وبشكل أكثر تحديداً في البحر الداخلي الذي يحمل الاسم ذاته، بحر آزوف – وتستخدم “خطاف الذئب“، الذي استخدمته قوات الأمن النازية الخاصة تاريخياً، من بين أشياء أخرى، كرمز للحركة.

زعيم “حركة آزوف” هو أندريه بيلتسكي، الذي أعلن سابقاً أن مهمة أوكرانيا التاريخية هي “قيادة البيض في الأرض في حرب صليبية نهائية ضد البشر الذين يقودهم الساميون”. اليوم، الخطاب الرسمي لـ”آزوف” أقل تطرفاً، لكنه يعكس نظرة عالمية استبدادية عرقية.

المحلل المقيم في كييف في مركز دراسات أوروبا الشرقية في معهد السياسة الخارجية (UI) في السويد، أندرياس أوملاند، يرى أنه في الوقت نفسه الذي تطورت  “حركة آزوف” ككيان عسكري، بدأت تتشكل حولها حركة سياسية تحمل الاسم نفسه.

“منذ عام 2014، ظهرت حركة واسعة حول فوج “آزوف”، تتألف من حزب سياسي (الاتحاد الوطني)، وحرس مدني (سنتوريا، الميليشيا الوطنية سابقاً، يرتدون الزي العسكري يسيرون بالمشاعل وما شابه بطريقة تشبه ألمانيا في الثلاثينيات)، وناشر كتب (أورينتير)، نوادي فنون الدفاع عن النفس، ومراكز اجتماعية، مراكز أنشطة الشباب.”

في الانتخابات البرلمانية لعام 2019، حصلت الكتلة القومية الموحدة، التي تضم “اتحاد آزوف الوطني”، على نحو 2.3 في المئة فقط من الأصوات. في الوقت نفسه، كان لآزوف حلفاء في مناصب حكومية قوية. على سبيل المثال، يُعتبر أرسين أفاكوف، الذي شغل منصب وزير الداخلية لسنوات عديدة حتى استقالته الصيف الماضي، صديقاً لآزوف. مثال آخر هو فاديم تروجان، القائد السابق لفوج “آزوف”، الذي كان نائب رئيس هيئة الشرطة الوطنية حتى استقالته.

في عام 2016، أصدر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تقريراً يتهم كتيبة آزوف بانتهاك القانون الإنساني الدولي.

وصف التقرير الأحداث التي وقعت خلال الفترة بين 2015 و 2016 حيث قيل إن آزوف استولى على مبانٍ مدنية في أوكرانيا واستخدمها كمخزن لأسلحتهم وشرد السكان بعد نهب منازلهم. كما اتهم التقرير الكتيبة باغتصاب وتعذيب سجناء في منطقة دونباس. من جانب الكونغرس الأميركي، كانت هناك مصلحة في تصنيف الكتيبة في قوائم الإرهاب.

مع بدء التحضيرات للغزو الروسي على أوكرانيا في نهاية شتاء 2022، أطلقت الحركة حملة علاقة عامة تحث الناس على التزام الهدوء والاستعداد. كان شعار الحملة التي أجرتها “آزوف” بأسلوبها المعتاد هو بالضبط “لا داعي للذعر – استعد!”.

 ما يقولونه ليس أن زيلينسكي أحمق أو خائن أو عميل روسي لا يستطيع أو لا يريد رؤية غزو وشيك. ولكن بالأحرى فقط أن الدولة ليست مستعدة بما فيه الكفاية لأسوأ احتمال ممكن، ولهذا السبب يتعين عليهم الصمود. وهو بالضبط ما كانوا يقولونه منذ فترة طويلة: إنهم حركة قوية وغير متطرفة تصمد عندما لا يستطيع السياسيون غير الأكفاء في البلاد القيام بذلك. بدلا من ذلك، يقولون، “زيلينسكي ليس قويا بما فيه الكفاية، لكننا كذلك”.

“هم فعلاً من وراء المقاومة  في معركة ماريوبول الأن، و المعركتين السابقتين في 2014-2015 ضد القوات الروسية” بحسب فراس زياد بورزان، الباحث والكاتب في الشؤون الأوراسية.

في مقطع فيديو انتشر على منصة خدمة الرسائل Telegram، قام عضو ملثم من كتيبة آزوف الأوكرانية بوضع الذخيرة في شحم الخنزير – استهزاءً بجنود مسلمين من الشيشان جاءوا للقتال تحت قيادة رمضان قاديروف إلى جانب القوات الروسية. حساب الحرس الوطني الأوكراني على “تويتر”، قام بمشاركة المقطع أيضاً.

“آزوف” ليست الوحيدة

في الوقت نفسه، هناك قدر كبير من التداخل بين كتيبة “آزوف” والحركات والتيارات النازية العلنية، مثل “ووتانجوغيند” Wotanjugend، التي تعبد هتلر، والتي وصفها مؤسسها عام 2016 بأنها “جامعة صغيرة على الإنترنت لمؤيدي أيديولوجية اليمين”. ويشارك موقع الويب الخاص بهم ترجمات ومقالات بشكل حصري تقريباً باللغة الروسية.

 تعود جذور” ووتانجوغيند” إلى المشهد الموسيقي للنازيين الجدد في روسيا في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ووفقاً لمؤلفي كتاب “التطرف اليميني المتشدد في روسيا بوتين: الموروثات والأشكال والتهديدات” ، فإن قادتها وأعضاءها “نصبوا أنفسهم كنخبة من طليعة النازيين الجدد”.

أشادت الحركة بالأعمال الإرهابية النازية مثل تلك التي حدثت في كرايستشيرش في شهر آذار/ مارس 2019 في نيوزيلندا و جزيرة أوتويا 2011 في النرويج .

في منشور على الموقع الرسمي بعد الهجمات، وصفت “ووتانجوغيند”  مطلق النار بـ”فايكنغ الانتقام الذي حصل بالتأكيد على مكانه في فالهالا. (في الأساطير الإسكندنافية، فالهالا عبارة عن قاعة مهيبة ضخمة تقع في أسكارد، يحكمها الإله أودين).

أليكسي ليفكين (Alexei Levkin) هو الوجه الأكثر شهرة في ووتانجوجيند. في مقابلة عام 2019 مع مجلة من النازيين الجدد في اليونان Golden Dawn، وصف ليفكين نفسه بأنه “أيديولوجي سياسي” في الميليشيا الوطنية في آزوف.

لدى ليفكين ماضٍ من التطرف والعنف النازيين في وطنه روسيا. عام 2006 تم القبض عليه بتهمة القتل المزدوج، ولكن تم إسقاط التهم في ما بعد؛ كان أيضاً جزءاً من عصابة للنازيين الجدد يُزعم أنها شاركت في تخريب مقابر لليهود والمسلمين، وفي عدد من الاعتداءات وأربع جرائم قتل على الأقل.

تأسس القطاع الصحيح Right Sector، خلال تظاهرات كييف عام 2013. جنباً إلى جنب مع الجماعات القومية المتطرفة الأخرى، عرفوا أنفسهم من خلال عنفهم ودورهم القيادي خلال الهجمات على الشرطة وقوات الأمن.

من الناحية الأيديولوجية، يرى القطاع الصحيح نفسه على أنه قومي ويؤسس ايديولوجيته على تعاليم القومي الأوكراني ستيبان بانديراس.

قاتل ستيبان بانديراس في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي ضد الاتحاد السوفياتي وبولندا من أجل استقلال أوكرانيا. بالنسبة إلى القطاع الأيمن، فهو بطل، بينما في روسيا وشرق أوكرانيا يُنظر إليه على أنه أحد المساعدين النازيين في روسيا.

– من الصعب الحديث عن إيديولوجيا متماسكة لهذه الجماعات الصغيرة، التي لا تشكل سوى 2 في المئة من مجموع المقاعد في البرلمان، بينما الرئيس يهودي من منطقة ناطقة باللغة الروسية وانتخب بنسبة 73 في المئة بحسب الباحث فراس زياد بورزان.

ويضيف: “أنه في الغالب هي كيانات عبر الإنترنت، بحيث لا يمكن تمثيله في المجال العام، كمنظمة مادية نشطة على الأرض. لذلك أنا أفضل وصفها بأنها حركة قومية اوكرانية متشددة لها توجه معاد للهيمنة الروسية التي لها جذور تاريخية بعيدة في إخضاع هذه المنطقة”. و ينبه زياد إلى ضرورة  إدراك أن هذه الجماعات “تهتم بالقيم التقليدية الأوكرانية، وهذا يشترك فيه جزء واسع من الأوكرانيين، ليسوا بالضرورة من اليمين المتطرف، على سبيل المثال النظرة إلى الكنيسة، وشكل الأسرة و تفسير الأخلاق، لذلك الحكم على الصور المنتشرة في الحرب صعب.”

فريق “درج” اطلع على تقرير  قدمه ألكسندر ريتزمان، كبير المستشارين في معهد الأبحاث الدولي مشروع مكافحة التطرف في برلين، عن خطر أن تصبح الحرب في أوكرانيا أرضاً خصبة للتطرف العنيف، والتي حذرت أيضاً مجموعة التحليل الأميركية SITE Intelligence منها مع بداية الغزو الروسي، حيث  أطلقت الحكومة الأوكرانية موقع التجنيد الخاص بها. هناك رسالة مفادها أن الجميع مطلوب، حتى أولئك الذين لم يحملوا سلاحًا في أيديهم من قبل، وتشكيل لواء من المقاتلين الدوليين الذين يرغبون في المشاركة في الحرب إلى جانب القوات الأوكرانية، حيث تتكون النسبة الأكبر من المتطوعين الأجانب الذين يسافرون الآن إلى أوكرانيا للمشاركة في القتال من المواطنين الأوكرانيين المقيمين في الخارج. وبحسب السلطات المحلية، فإن هؤلاء يبلغ عددهم حوالى 80 ألف شخص. وثاني أكبر مجموعة هم المتطوعون الأجانب الذين يحملون أفكار يمينية قومية.

درج

——————–

كيف تحولت الحرب الأوكرانية الى فرصة لدول نفطية؟/ هلا نهاد نصرالدين

لا يزال مشهد الحرب الأوكرانية والتغيرات السياسية التي ستفضي إليها غير واضحة بعد، وبالتالي فإن توقع مشهد سوق النفط لا يزال خاضعاً للتأويل.

برغم التبعات المأساويّة للعدوان الروسي على أوكرانيا، إنسانياً واقتصادياً وسياسياً، إلّا أنّ الأزمة شكّلت لبعض الدول، تحديداً النفطيّة منها، فرصة لانتعاش اقتصادها وتحقيق أرباح سريعة وسهلة حتى وإن لفترة محدودة.

بسبب الحرب الأوكرانية، تعود إلى الواجهة أزمة الاعتماد المفرط على سوق خارجي واحد لاستيراد النفط، وهو ما جعل دولاً أوروبية ومتوسطية وآسيوية تعيد التفكير في ضرورة إيجاد أسواق بديلة لاستيراد النفط الخام والغاز الطبيعي والفحم، عوضاً عن السوق الروسي نتيجة الأزمات السياسيّة والخضّات الأمنيّة التي قد تؤثّر في عمليّة استيراد وتصدير النفط.

وفي سياق البحث عن تنوع مصادر النفط وجدت دول نفطية بعينها تحقق أرباحاً لم تكن متوقعة ما ساعدها مالياً وسياسياً لتتمكن من فرض أجنداتها في ملفات عالقة بينها وبين دول غربية.

من أبرز المستفيدين من الحرب الروسيّة- الأوكرانيّة هي دول الخليج والعراق. فبعدما أعلنت الولايات المتّحدة الأميركيّة في آذار/ مارس 2022 حظر واردات النفط الروسي والغاز الطبيعي والفحم، ارتفعت أسعار النفط والغاز لتسجّل أعلى سعر لها للمرّة الأولى منذ 14 عاماً، بحيث وصلت قيمة برميل النفط في الأسبوع الأوّل من آذار إلى 139 دولاراً أميركيّاً قبل أن تعود وتنخفض لاحقاً.

برغم التبعات المأساويّة للعدوان الروسي على أوكرانيا، إنسانياً واقتصادياً وسياسياً، إلّا أنّ الأزمة شكّلت لبعض الدول، تحديداً النفطيّة منها، فرصة لانتعاش اقتصادها وتحقيق أرباح سريعة وسهلة حتى وإن لفترة محدودة.

الاتحاد الأوروبي في أزمة!

الدول الأوروبيّة، خلافاً لما جرت العادة، لم تجارِ البيت الأبيض في قراره، فهي لم تحظر استيراد النفط والغاز من روسيا. فمثلاً قال رئيس الوزراء الألماني أولاف شولز إن أوروبا “تعمدت استثناء” الطاقة الروسية من العقوبات لأنه لا يمكن تأمين إمداداتها “بأي طريقة أخرى” في الوقت الحالي. فيما صرّح رئيس الوزراء الهولندي مارك روته: “الحقيقة المؤلمة هي أننا ما زلنا نعتمد إلى حدّ كبير على الغاز الروسي والنفط الروسي، وإذا أجبرنا الآن الشركات الأوروبية على التوقف عن التعامل مع روسيا، فستكون لذلك تداعيات هائلة حول أوروبا بما في ذلك أوكرانيا وكذلك حول العالم”.

في هذا السياق، ذكر بيان البيت الأبيض أنّ “الولايات المتحدة قادرة على اتخاذ هذه الخطوة بسبب بنيتنا التحتية القوية للطاقة المحلية، ونحن ندرك أنه ليس كل حلفائنا وشركائنا في وضع يسمح لهم حالياً بالانضمام إلينا. لكننا متحدون مع حلفائنا وشركائنا في العمل معاً لتقليل اعتمادنا الجماعي على الطاقة الروسية والحفاظ على الضغط المتزايد على بوتين، مع اتخاذ خطوات نشطة في الوقت نفسه للحد من التأثيرات في أسواق الطاقة العالمية وحماية اقتصادنا”.

في العام الماضي، استوردت الولايات المتحدة نحو 700 ألف برميل يومياً من النفط الخام والمنتجات البترولية المكرّرة من روسيا. وبناءً على ذلك سيحرم الحظر الأميركي روسيا عائدات بمليارات الدولارات سنوياً، وفقاً لبيان البيت الأبيض.

روسيا كانت تصدّر نحو 5 ملايين برميل يوميّاً من النفط الخام ونحو مليوني برميل يومياً من المنتجات بشكل رئيسي إلى أوروبا وآسيا، قبل اجتياحها لأوكرانيا في 24 شباط/ فبراير 2022، بحسب “رويترز“. عام 2021، كانت روسيا أكبر دولة مصدرة للغاز الطبيعي في العالم، وثاني أكبر دولة مصدرة للنفط الخام بعد المملكة العربية السعودية، وثالث أكبر دولة مصدرة للفحم بعد إندونيسيا وأستراليا، وفقاً لـ“إدارة معلومات الطاقة الأمريكية” (U.S. energy information administration).

فرض العقوبات وتجنّب بعض الدول الصادرات الروسيّة، قد تعرّضان ثلاثة ملايين برميل يومياً من إنتاج النفط الروسي للخطر في شهر نيسان/ أبريل، بحسب وكالة الطاقة الدوليّة. وفي هذا السياق، صرّح  نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك في 7 نيسان/ أبريل إن إنتاج روسيا النفطي في هذا الشهر قد ينخفض بنسبة 4 – 5 في المئة، بسبب الصعوبات المالية واللوجستية.

ولم تنشر روسيا بيانات إنتاجها لشهر آذار/ مارس أي الشهر الذي يلي اجتياحها لأوكرانيا.

لكن بسبب ارتفاع أسعار النفط العالمي في مقابل عدم قدرة الدول الأوروبيّة على مقاطعة النفط الروسي، فإنّ روسيا تحقّق أرباحاً اليوم من صادراتها النفطيّة، وذلك في مقابل خسائرها الناجمة عن العقوبات الأميركيّة والأوروبيّة عليها. فيتوقّع اقتصاديّو “بلومبرغ” أن تكسب روسيا نحو  321 مليار دولار من صادرات الطاقة هذا العام، بزيادة أكثر من الثلث عن العام الماضي.

في الفترة الأخيرة، اقترح الاتحاد الأوروبي بعض العقوبات الجديدة على روسيا من بينها حظر صادراتها من الفحم، على أن يوافق مبعوثو الاتحاد الأوروبي، في 14 نيسان/ أبريل على هذا الإجراء ويدخل حيّز التنفيذ اعتباراً من منتصف آب/ أغسطس، علماً أنّ ألمانيا هي التي ضغطت لتأخير التنفيذ حتى منتصف آب/ أغسطس.

بحسب “رويترز“، قد يسعى مستوردو النفط في آسيا مثل اليابان وكوريا الجنوبيّة (خصوصاً حلفاء الولايات المتّحدة الأميركيّة) إلى تقليل اعتمادهم على شراء الخام الروسي، واللجوء إلى بدائل مثلاً من الشرق الأوسط، وبالتالي من المرجّح أن يزيد الطلب على نفط المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت. وتستفيد السعوديّة مثلاً من هذا الوضع، إذ رفعت شركة “أرامكو” السعودية المنتجة للنفط سعر البيع الرسمي لنفطها الخام إلى دول آسيا  لشهر أيّار/ مايو.

دول الخليج التي تعتمد على النفط والغاز في الجزء الأكبر من دخلها تعوّدت على فترات الازدهار والانهيار النفطي، وهي على علم أنّ هذه الفترة من الازدهار هي مؤقتة نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا ولكنّها ستتراجع حتماً وبالتالي وبينما تحقّق دول الخليج اليوم أرباحاً هائلة، ستواصل سياسة مالية صارمة مع التركيز على التنويع الاقتصادي، وفقاً للـ CNN Business. واستشهد المقال ببحث أجرته مجموعة Mitsubishi UFJ Financial Group (MUFG) في شباط/ فبراير أن دول مجلس التعاون الخليجي (المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان والإمارات العربية المتحدة والكويت وقطر والبحرين)، من المرجح أن تشهد ارتفاعاً في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6.1 في المئة عام 2022 على خلفية ارتفاع أسعار النفط، إضافة إلى فائض مالي للمرّة الأولى منذ عام 2014.

العراق أحد المستفيدين!

أمّا في ما يخصّ العراق، فقد تكون هذه إحدى المرّات القليلة التي يستفيد فيها من أزمات الخارج  بدلاً من أن يدفع ثمن حروب وأزمات الآخرين. فبحسب وزارة النفط العراقية، صدّر العراق أكثر من 100 مليون برميل من النفط بعائدات بلغت 11.07 مليار دولار، وهي الأعلى منذ عام  1972 أي منذ 60 عاماً.

وبرغم اعتماد العراق الكبير على عائدات تصدير النفط، إلّا أنّ البلاد ما زالت تعاني من أزمة في قطاع الكهرباء بسبب عدد السكان الضخم البالغ حوالى 41 مليون نسمة، إضافة إلى الفساد في البلاد. فتوفر إيران حالياً ثلث احتياجات العراق من الغاز والكهرباء، إلّا أنّ الإمدادات الإيرانيّة ليست منتظمة.

عام 2021، بلغت قيمة عائدات العراق من تصدير النفط الخام أكثر من 75 مليار دولار أميركي. بحسب موقع البنك الدولي، فالعراق من أكثر دول العالم اعتماداً على النفط. على مدى العقد الماضي، شكلت عائدات النفط أكثر من 99 في المئة من الصادرات، و85 في المئة من ميزانية الحكومة، و42 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فيعرّض هذا الاعتماد المفرط على النفط البلاد لتقلّبات دورية.

لا يزال مشهد الحرب الأوكرانية والتغيرات السياسية التي ستفضي إليها غير واضحة بعد، وبالتالي فإن توقع مشهد سوق النفط لا يزال خاضعاً للتأويل، فهل تتّجه بعض الدول إلى الاعتماد أكثر على أسواق الشرق الأوسط؟ وهل تستفيد دول مجلس التعاون الخليجي والعراق من الأزمة الأوكرانيّة على المدى البعيد؟

درج

——————-

لا مجال للحياد في أوكرانيا/ هشام ملحم

تبرر الدول العربية وإسرائيل مواقفها “المحايدة” أو ردود فعلها “الفاترة” تجاه الغزو الروسي المدّمر لأوكرانيا بالقول إنها تريد “موازنة” علاقاتها مع واشنطن وموسكو، وتفادي الظهور وكأنها تقف تلقائيا في المعسكر الغربي.

كما تسعى بعض هذه الدول، وأبرزها السعودية، إلى استغلال الأزمة لبعث “رسائل استياء” لواشنطن التي تتهمها هذه الدول بأنها  لا تقف بقوة مع حلفائها، وتحديدا تفادي واشنطن الدفاع عن هذه الدول ضد هجمات إيران وعملائها، ولكي تعبر عن قلقها مما تراه رغبة الولايات المتحدة، في ظل الحكومات الديمقراطية والجمهورية التي تعاقبت على البيت الأبيض في السنوات الماضية بتخفيض حضورها العسكري وحتى الدبلوماسي في منطقة الشرق الأوسط، للتركيز على التحدي الصيني الصاعد في شرق آسيا.

بعض هذه الدول رأت في الانسحاب الأميركي الفوضوي والدموي من أفغانستان في الصيف الماضي دليلا إضافيا على عدم الثقة بواشنطن لتنفيذ التزاماتها أو تهديداتها، وكان أكثرها إحراجا إخفاق الرئيس الأسبق، باراك أوباما، في تنفيذ تهديده للرئيس السوري بشار الأسد بأنه سيتعرض لضربة عقابية اذا استخدم السلاح الكيماوي ضد شعبه، كما أخفق الرئيس السابق، دونالد ترامب، في الرد عسكريا على الهجوم الإيراني ضد منشآت النفط السعودية في 2019.

ذاكرة الدول العربية وإسرائيل حول ما يعتبرونه تسويات واشنطن مع خصومهم وإخفاقاتها في حماية حلفائها تعود إلى خطاب الرئيس أوباما في القاهرة في 2009 حول فتح صفحة جديدة مع العالم الإسلامي، بمثابة إضفاء الشرعية على الحركات الإسلامية بمن فيها حركة الإخوان المسلمين، وأن هذا الموقف يفسر إسراع أوباما بسحب غطاء الحماية الأميركية عن الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك عقب الانتفاضة الشعبية في 2011.

وكان الاتفاق النووي الموقع في 2015 بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد، والذي جاء عقب مفاوضات ثنائية سرية بين واشنطن وطهران في عمان، بمثابة نقطة تحول سلبية في تعامل معظم دول الخليج العربية وإسرائيل مع إدارة الرئيس أوباما، وإدارة الرئيس بايدن الذي تعهد بإحياء الاتفاق الذي كان سلفه ترامب قد انسحب منه في 2018.

في الأسابيع الماضية، ارتفعت وتيرة الانتقادات العربية والإسرائيلية –المحقة نظريا – لإدارة الرئيس بايدن في أعقاب التقارير الصحفية التي ذكرت أن إدارة بايدن تفكر جديا بالتراجع عن تصنيف الحرس الثوري الإيراني كتنظيم إرهابي دولي كجزء من التسوية المتوقعة لإحياء الاتفاق النووي، قبل أن تنفي واشنطن رسميا هذه التقارير.

وتتركز معظم انتقادات الدول العربية وإسرائيل للولايات المتحدة على موقفها غير الحازم تجاه إيران، كما يتبين من ردود الفعل الأميركية المحدودة أو الضعيفة على الاستفزازت العسكرية الإيرانية المباشرة، أو عبر عملائها في العراق ضد القوات الأميركية في العراق أو ضد حلفاء واشنطن في العراق وفي المنطقة ككل.

هذه الانتقادات سليمة ومبررة وعكستها سياسات الرؤساء أوباما وترامب وبايدن. الرئيس أوباما رفض التصدي للسياسات العدوانية السافرة لإيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن خلال مفاوضاته النووية مع إيران.

الرئيس ترامب، على الرغم من انسحابه من الاتفاق النووي وفرضه لسياسة “العقوبات القصوى” ضد طهران، إلا أنه بقي في حيز معاقبة إيران لمجرد معاقبتها وليس للتوصل إلى اتفاق مختلف، لا بل أخفق في طرح أي بدائل للاتفاق الذي وقعه أوباما في 2015 والذي يريد بايدن إحياءه وربما مع تعديلات بسيطة عليه.

الرئيس بايدن الذي يتفادى مواجهة إيران وعملائها في العراق بشكل حازم، يجازف بتشجيع العدوانية الإيرانية الإقليمية، كما أن إسراع إدارته في إلغاء قرار إدارة الرئيس ترامب في آخر ساعاتها: تصنيف حركة الحوثيين في اليمن كتنظيم إرهابي، دون الحصول على تنازل حوثي مسبق، ساهم ربما في زيادة تطرف هذا التنظيم وشجعه على مواصلة قصفه الصاروخي العشوائي للمواقع المدنية في السعودية ودولة الإمارات.

ولكن في المقابل، حين  ترفض الدول العربية الخليجية وإسرائيل إحياء الاتفاق النووي مع إيران، فإنها تتفادى طرح البدائل أو التسويات والحلول التي ترغب بها، حيث توحي، وخاصة إسرائيل، أنها تريد التخلص من البرنامج النووي الإيراني برمته، ربما عبر ضربة عسكرية أميركية، وهذا ما لم ترغب به الحكومات الأميركية الأخيرة. ومن الواضح أن الحكومات الأميركية ترفض معاقبة إيران وسياساتها العدوانية كما رفضت وهزمت عدوانية نظام صدام حسين كما تجلت في غزوه للكويت في 1990.

الدول المحورية لواشنطن في المنطقة وهي السعودية والإمارات وإسرائيل أصدرت مواقف غامضة، وأحيانا متناقضة، حول الحرب الروسية ضد أوكرانيا، التي لم تصفها أي من هذه الدول بالعدوان كما تفادت إدانتها وحاولت موازنة مواقفها بين واشنطن وموسكو من خلال الحديث عن القانون الدولي والحلول السلمية.

كما أن دولة الإمارات  تحدثت عن أن لموسكو الحق في ضمان أمنها القومي في أوكرانيا. هذه الدول وغيرها في المنطقة ترى أن الحرب الروسية ضد أوكرانيا أظهرت أن العالم أصبح متعدد الأقطاب، وأن الولايات المتحدة لم تعد الدولة العظمى الوحيدة في العالم، وأن هذه الدول يجب أن تسعى إلى “تنويع” مصادر حمايتها وألا تعتمد، كما كانت تفعل في السابق، فقط على الحماية الأميركية، وأن تعزز من علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية مع الأقطاب الأخرى: الصين وروسيا.

ولكن حتى ولو كانت بعض الانتقادات العربية والإسرائيلية للسياسة الأميركية في المنطقة، التردد في التصدي لإيران وعملائها، صحيحة ومبررة، فإن ذلك لا يبرر تقليل هذه الدول من فظاعة ووحشية العدوان الروسي ضد أوكرانيا وشعبها، أو يبرر استغلال هذه الكارثة الإنسانية لمساعدة روسيا اقتصاديا من خلال مواصلة تنسيق إنتاج النفط عبر آلية OPEC+ والتي تؤدي عمليا إلى دعم وتمويل الحرب الروسية ضد أوكرانيا.

عدم المساهمة في زيادة إنتاج النفط في هذه المرحلة الحساسة سوف يضر بسمعة ومكانة الدول النفطية لدى واشنطن على المدى البعيد. دول الخليج لا تستطيع أن تجد الحماية البديلة في موسكو أو بكين، إذا كان الهدف توفير الحماية ضد عدوان إيراني مباشر أو غير مباشر.

لا روسيا ولا الصين مستعدة لتفويض علاقاتها المتشعبة مع إيران لصالح دول الخليج. كما أن هذه الدول يجب ألا تبحث عن مثل هذه الحماية عبر تعزيز علاقاتها العسكرية مع إسرائيل، التي لن تدخل في أي نزاع عسكري مع إيران إلا للدفاع عن مصالحها فقط.

استمرار القتال في أوكرانيا سوف تصل تداعياته وتردداته السلبية إلى دول إقليمية تهم دول الخليج وإسرائيل، مثل مصر التي اضطرت مؤخرا إلى تخفيض قيمة عملتها والتي تخشى من عرقلة إمداداتها السنوية من القمح الأوكراني والروسي، ما يمكن أن يؤدي إلى تجدد “تظاهرات الخبز” فيها.

أيضا استمرار العدوان الروسي سوف يجعل من الصعب أكثر على الدول التي تريد التمسك بالحياد المتعاطف عمليا مع روسيا، أو التظاهر بأنها ستحافظ على علاقات متوازنة بين واشنطن وموسكو، لأن حجم الكارثة الإنسانية والضغوط التي ستفرضها واشنطن وحلف الناتو على دعاة الحياد سوف تزداد حدة.

وحتى الصين التي تنتقد واشنطن، لن تدعم موسكو في المدى البعيد، لأن ذلك سيضر بمصالحها الاقتصادية مع أوكرانيا والدول الغربية.

قبل غزو أوكرانيا، كان حجم الاقتصاد الروسي هو في المرتبة الثانية عشرة في العالم. بعد الغزو، سوف يتخلف الاقتصاد الروسي إلى مستويات أسوأ مما كان عليه في أحلك سنوات الاتحاد السوفيتي، مع ما يعنيه ذلك من احتمال بروز حركات احتجاجية واضطرابات سياسية وشعبية بعد أن يكتشف الروس مدى الكارثة الاقتصادية التي خلقها لهم غزو بوتين لأوكرانيا.

الغزو الروسي لأوكرانيا، أعاد الحياة والحيوية لحلف الناتو، وأكد من جديد مركزية القيادة الأميركية للعالم الغربي، وأعاد الثقة إلى مجموعة الأنظمة الديمقراطية في العالم والتي وجدت نفسها في موقع دفاعي في السنوات الماضية مع ازدياد زخم الحركات والطروحات والحكومات الأوتوقراطية في العالم.

ما يجري في أوكرانيا لا يهم أوكرانيا فقط، أو حتى القارة الأوروبية فقط. الحرب الأهلية الإسبانية في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي تحولت إلى حرب دولية بين اليمين واليسار، وعندما انتهت هذه الحرب في 1939، تبين أنها كانت مقدمة للحرب العالمية الثانية.

لا أحد يعلم كيف ستنتهي الحرب في أوكرانيا، ولكن مما لا شك فيه كما نرى اليوم من مشاركة عشرات الدول بشكل أو بآخر في هذه الحرب، أنها ستغير العلاقات الدولية بطريقة جذرية مماثلة للتغييرات التي جلبتها نهاية الحرب الباردة في أعقاب الإمبراطورية السوفيتية. في مثل هذا النزاع بين قومية شوفينية وظلامية، ودولة تريد صيانة وتطوير نظام ديمقراطي تعددي، لا مجال للحياد.

الحرة

———————————

النظام العربي أمام أسئلة الحرب الأوكرانية/ بسام يوسف

في الوقت الذي تنهمك فيه معظم دول العالم لمواجهة تداعيات الحدث الأوكراني، وما سوف تفضي إليه الحرب الأخطر في القرن الواحد والعشرين، يبدو النظام العربي بائساً بمجمله، وضعيفاً، ويتخبط أمام أسئلة اللحظة التي تتطلب خيارات استراتيجية سواء على الصعيد الاقتصادي أو العسكري، وبالتالي السياسي الذي هو انعكاس كل هذا.

الاستراتيجية العامة للنظام العربي حتى الآن تبدو بلا تغيير حقيقي، وتكاد تنحصر  في تعزيز التبعية لطرف ما، أو استبدالها، أو خلق تبعية جديدة، وما تتباين فيه الأنظمة العربية عن بعضها بعضا، ينحصر في مجال واحد هو مدى هذه التبعية وشروطها، بدءاً من النظام السوري الذي أعلن عن تبعية كاملة غير منقوصة، تلغي الحد الأدنى المتبقي من سيادة الدولة السورية، ومروراً بالبحث عن تبعية جديدة في محاور قد تتشكل في المنطقة، وتدخل فيها إسرائيل كطرف أساسي عند البعض، وانتهاءً بمحاولات البعض الآخر اللعب في الهامش الذي تتيحه اللحظة التاريخية، وقد تسمح له بنقل تبعيته من الغرب إلى الشرق.

من نافل القول إن النظام العربي بمجمله يحصد اليوم ما زرعه سابقاً، فهذا النظام الذي لم يفكّر يوماً بانتهاج سياسات استراتيجية، تمكّنه من بناء مقومات حقيقية تحمي مجتمعاته، وتمكّنه من الذهاب إلى خيارات تعزز من حضوره وفعاليته في لوحة الصراعات الدولية، ومن الدفاع عن مصالح شعوبه الاستراتيجية عند مواجهة حدث بمثل أهمية الحدث الأوكراني، كانت كل خططه الآنية والاستراتيجية تتمحور حول هدف وحيد هو السلطة، السلطة التي لم تر للحظة واحدة أن مسؤولياتها الأساسية إنما تكمن في بناء مجتمعاتها، وتنميتها، وحمايتها.

اليوم ينكشف النظام العربي عارياً، أمام التحديات التي تواجهه، وتنكشف نتائج خياراته العسكرية، والاقتصادية والسياسية، والتي أدت بمجملها إلى انهيار شامل طال كل بنيانه، فالدول العربية بمعظمها مهددة بانهيار اقتصادي يصل في العديد منها إلى حد المجاعة، وهي عاجزة عسكرياً رغم كل ما دفعته من مبالغ هائلة لزيادة تسلّحها، وتقوية ترسانتها عن حماية حدودها ومجتمعاتها، وفي معظم هذه الدول يقف المواطن العربي عاجزاً عن تأمين الحد الأدنى من مستلزمات حياته.

قد يبدو متطرفاً القول إن كل تفاصيل هذه اللوحة القاتمة، ما كانت لتكون لولا غياب الشرط الأساسي لاستقرار الدولة الحديثة، ونهوضها وتطورها، وهو شرط الديمقراطية، وشرط وجود المؤسسات الحقيقية للدولة، بمرجعيتها القانونية والدستورية، غياب هذا الشرط، قاد إلى كل هذه التعثرات القاتلة أمام امتلاك القوة اللازمة لمواجهة الظروف الاستثنائية.

الصادم في تعاطي النظام العربي مع متطلبات الاستحقاق الذي فرضته الحرب الأوكرانية على النظام العالمي، هو إصراره على انتهاج نفس المنهج السابق، وانتهاج السياسات ذاتها، وبذات الأدوات، رغم اتضاح أن هذه السياسات والأدوات أوصلته إلى لحظته الراهنة بكل عريها وعجزها وضعفها، وكأنّما ما من بديل آخر، أو كأنّما هناك رفض قاطع لاختيار هذا البديل في حال توفره، والأدهى من ذلك هو حنين بعض هذا النظام إلى مرحلة الحرب الباردة، حينما كان بإمكانه أن يغازل أحد القطبين، ويبتزّ القطب الآخر بالنوم في مخدع خصمه، باختصار يمكن القول إن النظام العربي لم تدفعه كل انتكاساته وهزائمه إلى أن يفكر يوماً بمشروعه الخاص، وما يزال يرى أن أعظم ما يمكن إنجازه هو استبدال تبعيته لهذا الطرف أو ذاك.

كيف يخطط النظام العربي لمواجهة المشروع الإيراني الطامح لابتلاع المشرق العربي بكامله؟ أو لمواجهة المشروع الإسرائيلي الذي يريد لعب دور المايسترو الاقتصادي في المنطقة كلها، أو لمواجهة المشروع التركي الذي يفرض نفسه لاعباً لا يمكن تجاوزه أبداً إقليمياً ودولياً، بعد النمو الكبير الذي شهدته تركيا اقتصادياً وعسكرياً؟

الجواب بمنتهى البساطة: لا شيء، فيما إذا اعتمدنا خروج هذا النظام من معادلة التبعية كمعيار للجواب، مع الأخذ بعين الاعتبار أن النظام العالمي القائم لا يتيح للدول الضعيفة فك تبعية ناجزا ومكتملا، لكن الحاضر يقدم لنا أمثلة متعددة عن دول كانت ضعيفة، واستطاعت أن تضع قدمها بقوة في ملعب صراعات النفوذ.

كيف يمكن للنظام العربي أن يتجاوز علله المزمنة عندما يفكر مثلاً بتعويم أحد أقبح وجوهه؟ وأقصد النظام السوري، مع ما يعنيه هذا من استكمال تدمير سوريا، ومن زج شعبها لزمن طويل في شلل تام، يمنع قيامها من محنتها، ويمنع من تأسيس مشروع وطني سوري يؤسّس لسوريا الدولة القادرة.

وبغض النظر عن حال الشعب السوري الراهن وكارثته، والتي لا تهم الساسة العرب، فإن ما يدعو للاستغراب هو أن محاولة بعضهم تعويم النظام السوري محكومة بشروط شديدة التناقض، ولا يمكن حلها وفق الآليات المطروحة، فالثمن الذي تطلبه الأطراف الساعية للتعويم من النظام السوري، والمتعلق بتحجيم الوجود الإيراني في سوريا، لا يمكن للنظام السوري دفعه، وهو عاجز عن فك ارتباطه مع إيران التي تغلغلت عميقاً في مفاصل الدولة السورية، وفي مؤسستها العسكرية والأمنية، وتغلغلت في بنية النسيج المجتمعي السوري.

إن أي مقاربة للحل السوري من بوابة بقاء عائلة الأسد في موقع السلطة، لن تكون إلا مقاربة عقيمة قد تبدو في لحظاتها الأولى قابلة للحياة، لكنها سرعان ما سوف تتكشف عن استحالة ذلك، فإيران التي عزّزت من وجودها في عدة بلدان رغم حصارها الاقتصادي تتهيأ لتوقيع اتفاقها النووي، وبالتالي سوف تكون أكثر قدرة على الإمساك بالمناطق التي تراها مهمة لمصالحها ونفوذها، أضف إلى ذلك أن الموقف الذي تبنته الحكومة السورية من الصراع الدائر في أوكرانيا، سيزيد من تعقيدات مقاربة الحل هذه.

إذا استمر النظام العربي باستراتيجيته السابقة، استراتيجيته القديمة المتمحورة حول التمسك بالسلطة، مهما تطلب ذلك من قمع للشعوب، فإن الخيارات التي تصبح متاحة أمامه لن تكون إلا بانتقاء تبعية هذا النظام لهذا الطرف أو ذاك، مع ما يترتب على ذلك من دخول في صراعات نفوذ الآخرين، وفي تسخير إمكانات هذه الشعوب في خدمة وصراعات الآخرين، وفي زجّ المنطقة بكاملها في لعبة اصطفافات ومحاور شديدة، سوف تؤدي إلى انهيار النظام العربي برمّته، لكن بعد أن تكون كل ممكنات نهوض هذه الشعوب قد استنزفت.

إن أهمَّ وأثمن ما يمكن أن تفعله الأنظمة العربية الآن، إنما يكمن في وعي ضرورة إعادة بناء العلاقة بين النظام العربي وبين شعوبه على أسس الديمقراطية الحقيقية.

تلفزيون سوريا

———————-

احتمالات تطور الوضع السوري على ضوء الغزو الروسي لأوكرانيا

قسم الدراسات

أولًا: مدخل

 في قراره إعلان الحرب على أوكرانيا في 24 شباط/ فبراير الماضي، أدخل بوتين أوروبا في أخطر صراع جيوسياسي تشهده منذ الحرب العالمية الثانية، وقد استنفر بخطوته هذه دول أوروبا التي كانت تعيش حالة استرخاء نسبي بعيدًا عن الحروب، وحالة متنامية من البرود التي كانت تكتنف العلاقات على ضفتي الأطلسي، بحيث أحسّ الحلفاء الذين جمعتهم مظلّة حلف الناتو بأنّ حالة هوَس بوتين بالتوسّع وأحلامه الإمبراطورية باتت تشكّل لهم خطرًا داهمًا يستلزم توحدهم واستعدادهم لمواجهته، وعلى الرغم من أن كثيرًا من المتابعين والمحللين يذهبون إلى أن بوتين قد يكون استُجرَّ إلى فخّ محكم، نصبته له الولايات المتحدة وبريطانيا، أو دفعته حماقته إليه، فقد غرق في المستنقع الأوكراني، ويجري استنزافه عبر دعم واسع ومتطور للأوكرانيين، وعقوبات اقتصادية خانقة ومتتابعة بدأت تترك نتائج كارثية على الاقتصاد الروسي ومعيشة الروس.

لم يكن الغزو الروسي وليد لحظته، فقد سبق لبوتين أن غزا شبه جزيرة القرم الأوكرانية واحتلها عام 2014، كما شجع ودعم تمرد الإقليمين في شرق أوكرانيا: دونيتسك ولوهانيسك، بدعوى تعرض الأقلية الروسية الموجودة فيهما للاضطهاد على يد القوميين الأوكران الذين نعتهم بالنازيين الجدد، ثم تبع ذلك في فترة استعداده لغزو أوكرانيا باعترافه باستقلال الإقليمين، في 21 شباط/ فبراير 2022، ولم تغب عن ذهن الأوروبيين تدخلاته في جورجيا وسورية وليبيا وكازاخستان.

لم تجرِ الحرب كما تصوّرها بوتين، أو كما صوّرها له مستشاروه؛ فالتكلفة البشرية والمادية والدبلوماسية جاءت كبيرة جدًا في شهرها الأول، ولا يُغيّر من هذه الحقيقة موقف السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتين رفضتا زيادة الإنتاج لتعويض النقص في إمدادات الطاقة في السوق الدولية، أو موقف تركيا وإسرائيل، اللتين اتخذتا دور الوسطاء الباحثين عن حلول لإنهاء الحرب، ولكلٍّ من هذه الدول دوافعها. لكن من المرجّح أن مواقف هذه الدول وغيرها من الدول المترددة لن يبقى على ما هو عليه طويلًا.

 لقد حظي الشعب الأوكراني بتعاطف أغلب دول وشعوب المعمورة، وتلقّى الجيش الأوكراني دعمًا نوعيًا وكبيرًا في مجالات التدريب والتسليح والتعاون الاستخباراتي وتبادل المعلومات، بالقدر الذي أظهر فيه الأوكرانيون صمودًا مقدرًا؛ فبعد شهر من الحرب، اضطر الجيش الروسي إلى مراجعة خططه وأهدافه، وتقليص أهدافه من الغزو، وكان من قبلُ يشترط نزع سلاح أوكرانيا وحياديتها والقضاء على من يسميهم “النازيين الجدد”، والاعتراف بالقرم والإقليمين الانفصاليين بالوضع الذي باتا عليه، واحتلال كييف وتنصيب نظام جديد موالٍ له فيها. ولكن اندفاعة الجيش الروسي تواضعت، ولم يتمكن من السيطرة إلا على بعض المدن الحدودية في شرق وجنوب شرق أوكرانيا، وبالرغم من الدمار الهائل الذي ألحقه القصف الروسي، لم تستطع القوات الروسية الغازية إحكام سيطرتها على مدينة (ماريوبل) الاستراتيجية حتى الآن، كونها تؤمن اتصالًا بريًّا للقوات الروسية إلى شبه جزيرة القرم، وذلك بفعل المقاومة الشرسة للجيش الأوكراني، وقد صرّح وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، أخيرًا، بأن القوات الروسية ستقصر عملياتها على إقليم الدونباس.

ثانيًا: في تداعيات الحرب الأوكرانية على الملفّ السوري

ما يجمع بين الملفين السوري والأوكراني أن الطرف الروسي هو من قتل ودمّر في كلا البلدين، وإن كانت دوافعه مختلفة في كل منهما، وبات كثير من المسؤولين الغربيين يشبّه ممارسات الروس في أوكرانيا بما فعله في سورية، الأمر الذي سكتوا عنه حينها، وأن ما تتعرض له ماريوبيل سبق أن عانته حلب الشرقية من حيث حجم الدمار والتهجير. وهذا الوضع الناشئ مع حالة الاستنكار العالمي لما أقدمت عليه روسيا في غزوها أوكرانيا (مع أن الحرب ما زالت في بدايتها) يمكن أن يستفيد منه السوريون في إعادة لفت نظر العالم إلى قضيتهم، وفضح الممارسات الروسية كدولة احتلال، وفي إعادة القضية السورية إلى دائرة الاهتمام، أقله أن تبادر الدول المؤثرة إلى تفعيل القرارات الأممية ذات الصلة، لفرض الحل السياسي بعيدًا عمّا تريد موسكو فرضه في سورية، وإذا كان هذا الأمر يقع على عاتق كل سوري، حسب الموقع الذي هو فيه، فإنّ على المعارضة التمثيلية بمؤسساتها المعترف بها أن تقوم بالجهد الأكبر على هذا الطريق، فما الخطوات التي يمكن للمعارضة والنخب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني أن تقوم بها؟

1- إذا كانت تركيا صديقة لطرفي الصراع في أوكرانيا، فليس من الضروري أن يكون ائتلاف قوى الثورة والمعارضة هو الآخر صديقًا لطرفي الصراع، ومن المفيد له، بل من الواجب عليه، أن يستغلّ هذه الفرصة، وأن يحاول التنصّل والانسحاب أو تعليق مشاركته في مسار أستانا الذي شقّه الروس مع شريكتيهم تركيا وإيران، ولم يحرز نتائج بعد سبعة عشرة جولة، سوى مزيد من التراجع في وضع المعارضة السياسية والعسكرية المشاركة فيه، كما يمكن للائتلاف أن ينسحب أو أن يعلّق مشاركته في اللجنة الدستورية، التي انبثقت عن مؤتمر سوتشي 30 كانون الثاني/ يناير  2018، ولم تفض إلى نتائج في جولتها السابعة حتى الآن، نظرًا لأن النظام وداعميه الروس يريدونها تقطيعًا للوقت ليس إلا، ومع الأخذ بعين الاعتبار وجود عاملَين قد يجعلان هذا المطلب من الائتلاف دون صدى: أولهما ثقل اليد التركية على رأس الائتلاف، حيث يُرجّح أن تقيد من حركته في هذا الاتجاه، أقلّه ما دامت مستمرة بدور الوسيط؛ وثانيهما استمرار المبعوث الأممي في مسار اللجنة الدستورية (جريًا على عادة المبعوثين الأمميين) وإنْ بقيت بدون نتائج. وكلا العاملين لا يبرران ألّا يحاول الائتلاف القيامَ بما ينبغي له القيام به.

2- لم يكتفِ النظام بأن أعلن انحيازه إلى جانب روسيا في عدوانها، وهو بكلّ الأحوال غيرُ قادر على اتخاذ موقف مغاير لكونه مدينًا باستمراريته لكل من روسيا وإيران، بل إنه أخذ يُشجّع ويسهّل عمليات تطوّع الشباب السوري للقتال كمرتزقة إلى جانب الروس، بالرغم من عدم تأكيد المعلومات عن وصول مرتزقة سوريين إلى الأراضي الأوكرانية من عناصر (الفيلق الخامس) الذي يرعاه الروس. وفي هذا المنحى، يجب على تشكيلات المعارضة التمثيلية، والمعارضة غير التمثيلية كتنظيمات المجتمع المدني، القيام بفضح هذا العمل وإدانته، وفضح أي طرف دولي يقوم به وفي مقدمتهم الروس، وتهديد كل من سيشارك من السوريين في قتال خارج الأراضي السورية كمرتزق، بالمحاسبة القانونية والمعنوية مستقبلًا.

3- إن انحياز النظام السوري إلى الجانب الروسي قد يُبدّل الموقف الغامض أو غير المكترث لبعض الدول الغربية الداعمة لأوكرانيا، من النظام السوري والقضية السورية، وعليه يمكن للمعارضة التمثيلية والنخب المستقلة ومنظمات المجتمع المدني المنتشرة في دول العالم، أن تستغل هذا الوضع الناشئ، وأن تشكل مجموعات توفدها إلى الدول المتدخلة في الملفّ السوري والمناوئة للحرب الروسية، وكل الدول الفاعلة في العالم، وأن تخاطب شعوب العالم بكل الوسائل المتاحة، وأهمّها الإعلام، وتشرح القضية السورية، من حيث هي قضية شعب خرج طلبًا للحرية والكرامة في مواجهة نظام استبدادي، وتطلب دعمها للتخلص من الوجود الروسي.

ثالثًا: خلاصات واستنتاجات

1-في غزوها لأوكرانيا، أدخلت روسيا نفسها في مأزق، سيكون تجاوزه مكلفًا لها بشكل يفوق طاقتها على تحمّله لمدّة طويلة، ولم يعد بإمكانها التراجع عمّا أقدمَت عليه، ولا يملك رئيسها الشجاعة على اتخاذ مثل هذا القرار، لما سيتركه من تداعيات على روسيا وعلى الظاهرة البوتينية بشكل عام. وفي الوقت ذاته، لن يمنح الغربُ الذي اصطف بهذه القوة والتصميم خلف أوكرانيا، الطرفَ الروسي فرصة اتخاذه قرارًا بالتراجع إذا ما أراد؛ فالموقف الغربي هنا اختلف جذريًا، عما كان عليه إبّان الحرب في جورجيا أو حتى عند احتلاله القرم.

2- يتضّح من مجريات الحرب في شهرها الأول أن هناك تباينًا في حدة المواقف، بين الولايات المتحدة وبريطانيا من جهة، وفرنسا وألمانيا من جهة أخرى، بحكم مصالحهما الواسعة مع روسيا وفي مقدمتها إمدادات الطاقة، ومع ذلك فقد اتخذ الغرب وحلف الناتو قرارًا نهائيًا بإغراق روسيا في المستنقع الأوكراني واستنزافها، وسوف يحاول إلحاق هزيمة بروسيا قد تكون أشد مرارة وأثرًا مما واجهته في أفغانستان، وذلك بحكم التطور التقني الهائل في المعدات العسكرية المستخدمة من جهة، ومن جهة أخرى بحكم أن الصراع يجري على الأراضي الأوروبية، ويهدد أمن أوروبا واستقرارها؛ والرئيس بايدن يؤكد في تصريحاته المتكررة، أن “أوكرانيا لن تكون نصرًا روسيا”.

3- من المبكر الحديث عن إمكانية التوصّل إلى وقف نهائي للحرب، ذلك أن شروط السلام غير متوفرة بعد، كما أن محاولات الوساطة التي تقوم بها تركيا، أو التي يمكن أن تقوم بها أطراف أخرى، من غير المتوقع أن تكون لها حظوظ من النجاح؛ فروسيا لا تستطيع التراجع دون أن تحقق بعض أهدافها، وأقلّها أن تحفظ ماء وجهها أمام أتباعها وشيئًا من مكانتها على الساحة الدولية كقوة كبرى. ومن الطرف الآخر، سوف تعمد الدول الداعمة لأوكرانيا إلى وضع العراقيل في وجه تلك المحاولات، ويُرجح أن هذه الدول التي ترعى محاولات التوصل إلى حلول لن تستطيع الثبات طويلًا على موقفها في الحياد، إذا ما تعمّق الاستقطاب الدولي، فهي في النهاية سوف تصطفّ خلف مصالحها، ومصالحها في هذه الحالة مع الغرب.

4- هناك احتمال كبير بأن تعمل الولايات المتحدة وحلفائها على إشغال روسيا في الدول المتدخلة بها، لتعميق المأزق الروسي، وهنا تحضر سورية ضمن أحد احتمالين: الأول، وهو المرجح، أن تحضر سورية بصفتها خيارًا مناسبًا جدًا، حيث إن فيها قواعد عسكرية روسية جوية وبرية وبحرية وشركات أمنية ومصالح اقتصادية، وفيها كذلك بنية عسكرية وسياسية للمعارضة، وهذه يمكن إعادة تنشيطها، بهدف إزعاج الوجود الروسي وتكبيده مزيدًا من الخسائر، وهذا الاحتمال -في حال تحوّله إلى سياسة وخطط أميركية- يُعَدّ فرصة أمام المعارضة السورية لاستعادة بعض دورها وقرارها، الذي خسرته لصالح بعض الدول الداعمة لها.

والاحتمال الثاني أن تعمد الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى تكثيف جهدهم العسكري المضاد في أوكرانيا، وأن يترك الوضع السوري لتتفرد فيه روسيا وتفرض حلولها، إذا ما قررت الولايات المتحدة التخلي عن سياستها الحالية القائمة على عرقلة الحلول الروسية، وهذا السيناريو يفرض على المعارضة السورية السياسية والعسكرية الاستعداد لمواجهته، وإن كان احتمال وقوعه قليلًا؛ لأن روسيا إذا سارت الأمور بهذا الاتجاه، فإنها ستعتمد جهدًا عسكريًا أشدّ عنفًا مما مارسته في السابق، لفرض حلولها، ومحاولة تحقيق نصر يعوّضها عما هو متوقّع لها من خسارة في أوكرانيا.

5- بما أن مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني ما زالت قائمة، على الرغم من التصريحات المتناقضة حول سيرها، وبما أن إيران موجودة إلى جانب روسيا في سورية كحلفاء للنظام، فإن توقع تبدل الموقف الأميركي حيال الملف السوري يبقى مستبعدًا حاليًا، لأن للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران أولوية قصوى لدى الإدارة الأميركية.

مركز حرمون

—————————–

عندما يكون المجتمع منقسماً (المثال الأوكراني)/  محمد سيد رصاص

تثبت تجربة ما يقرب من ثلث قرن من الزمن على قيام الدولة الأوكرانية بأن كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الواحد والعشرين من شباط 2022 عن أوكرانيا، “كدولة مصطنعة.. كان لينين في عام 1922هو صانعها ومهندسها المعماري”، لم يكن بعيداً عن الصواب، عندما رأينا مجتمعاً انفجرت بنيته بالتدريج إلى شظايا، ثم كانت أزمته البنيوية وقوداً أشعل أكبر أزمة عالمية بعد الحرب العالمية الثانية. دراسة التجربة الأوكرانية هنا هي محاولة مقاربة لمثال توجد أشباه له في عشرات المجتمعات بدول متفرقة، وهي عديدة في منطقة الشرق الأوسط.

هنا، إذا نظرنا من منظار قومي فإن كلام بوتين صحيح، حيث يوجد  الروس في إقليم دونباس في الشرق وأغلبية روسية من حيث القومية أو اللغة في مدن خاركيف ودنيبر وبتروفسك وأوديسا وحيث هناك الغرب عند إقليم غاليسيا وعاصمته مدينة لفيف الذي ضمه ستالين للاتحاد السوفياتي عام 1939 بعد معاهدته مع هتلر حيث الأغلبية كاثوليكية والتي تشعر بارتباط مع العاصمة البولندية وارسو أكثر من ارتباطها بكييف التي هي منقسمة لغوياً بين الروسية والأوكرانية.

ولكن لينين لم يكن يفكر كما يفكر بوتين، فالقائد البلشفي كان يريد عند إنشاء الاتحاد السوفياتي دولة عابرة للقوميات تقوم على اتحاد طوعي لا تسودها القومية الروسية كما كان الحال زمن القياصرة التي سميت امبراطوريتهم “سجن الشعوب”، بل هناك مساواة بين القوميات والإثنيات في مجتمع جديد يتجه نحو بناء تجربة اشتراكية وفق أيديولوجية ماركسية. في هذا الصدد تثبت تجربة الاتحاد السوفياتي ما بعد تفككه عام 1991 (وأيضاً عبر تفككه) بأن المسألة القومية لم تحل هناك،والتجربة الأوكرانية هي مثال متفجر على ذلك.

عند الاستفتاء على قيام أوكرانيا كدولة مستقلة، وفق حدودها يومذاك كجمهورية سوفياتية  في 1 كانون الأول من عام 1991، كان الجواب بنعم يصل إلى اثنين وتسعين بالمئة من الأصوات، ثم جرى اعتراف متبادل بالحدود القائمة بين جمهوريات الاتحاد السوفياتي الخمسة عشر عند تفكيكه في يوم 26 كانون الأول 1991.

كانت  أقل النسب في الاستفتاء بشبه جزيرة القرم وفي إقليم دونباس بالشرق ولكنها لم تنزل بقول النعم عن النصف، ووسطياً صوت روس أوكرانيا في الشرق (دونباس) والشمال الشرقي (خاركيف) والوسط (دنيبروبتروفسك) والجنوب (أوديسا) والقرم  بنسبة 55%بالمئة مع قيام الجمهورية الجديدة فيما كانت النسب الأعلى عند غيرهم في الوسط والغرب.

عند قيام الجمهورية الجديدة كان هناك اتحاد ثلاثي بين مسؤولي الإدارة السوفياتية السابقة في كييف وأغلبهم من مدينتي دونيتسك ودنيبر وبتروفسك (مكان مولد ليونيد بريجنيف) وبين النخبة الأكاديمية والثقافية والتقنية في الغرب وقادة الحركة النقابية العمالية  بإقليم دونباس في الشرق الأكثر تصنيعاً والغني بمناجمه من الفحم والحديد.

وقد كان هناك وعياً بالتفاوت القومي- اللغوي في أوكرانيا الجديدة وكذلك بالتفاوت بين المناطق في النمو حيث الشرق الأكثر تصنيعاً والغرب الأكثر تحضراً، وحتى عام 2004 كان التكلم بالروسية رمزاً للمكانة والتفوق في الدولة الجديدة التي ظلت مع بيلاروسيا الأكثر ارتباطاً مع الدولة الروسية الجديدة في موسكو.

ولكن ظهرت وولدت من رحم الثورة البرتقالية في تشرين الثاني 2004، والتي كانت أساساً ضد فساد وسوء إدارة النخبة الجديدة في الدولة الناشئة، نزعة قومية أوكرانية كانت بالتضاد مع تلك النخبة الحاكمة التي ظلت على ارتباط وثيق مع الكرملين ولها نوستالجيا عميقة نحو الماضي السوفياتي وعداء فكري- ثقافي- سياسي للغرب الأميركي- الأوروبي.

هنا، لم تطرح، في ثورة 2004 وبخلاف ثورة ميدان كييف عام 2014، مسألة انتماء أوكرانيا السياسي – الأمني إلى موسكو الكرملين أم إلى بروكسل حلف الأطلسي- الناتو، بل طرحت مسألة الهوية للدولة الجديدة، فيما كان الموضوع قد أهيل عليه تراب خفيف لتغطيته منذ عام 1991 عندما اعتبر كل المواطنين في الجمهورية الأوكرانية السوفياتية في يوم استفتاء 1كانون الأول 1991 مواطنون أوكرانيون في الجمهورية الجديدة بغض النظر عن القومية واللغة وبغض النظر عن الماضي عندما كانت غاليسيا جزءاً من الدولة البولندية حتى عام 1939 وعندما كانت شبه جزيرة القرم جزءاً من جمهورية روسيا السوفياتية حتى عام 1954.

وقد لوحظ إحياء القومية الأوكرانية وتفضيل اللغة الأوكرانية في زمن الرئيس فيكتور يوتشنكو 2004-2010 وقد وصلت الأمور به إلى منح وسام “بطل أوكرانيا” إلى ستيبان بانديرا 1909-1959 قائد “منظمة القوميين الأوكران OUN-B ” وجناحها العسكري: “جيش المقاتلين الأوكران UPA”، الذي تعاون مع الاحتلال النازي بفترة 1941-1944 وشارك في التصفية العرقية الممنهجة للبولنديين والروس واليهود في المناطق المحتلة، ثم تعاون بانديرا مع واشنطن ولندن بفترة الحرب الباردة حتى تم اغتياله بالسم في ميونيخ عام1959. بفترة يوتشنكو برز صعود المنظمات القومية الأوكرانية المتطرفة مثل “سفوبودا- الحرية” التي نالت في انتخابات برلمان 2012 نسبة 10،4% من الأصوات، وهي تعتبر نفسها استمراراً لبانديرا، ثم نزلت أصواتها لـ5،2% في انتخابات آذار 2014 ولـ 4،7% في انتخابات تشرين الأول 2014، والحزب الراديكالي الذي نال في انتخابات آذار 2012 نسبة 7،4% ثم نزل تحت حاجز الـ5% اللازم للتمثيل بالبرلمان، ثم منظمة “مواطنو أوكرانيا PU” التي منها انبثقت “كتيبة آزوف” العسكرية المتطرفة التي تحارب حتى الآن كرديف للقوات المسلحة الأوكرانية.

وهناك نزول في قوة اليمين القومي الأوكراني حيث لم ينل تكتله المتحد في انتخابات برلمان أيار 2019 سوى 2،1%من الأصوات، ويلاحظ تركز قوته في غاليسيا فيما نخبته الفكرية والسياسية كانت في مناطق الاختلاط بين الروس والأكران مثل مدينة خاركيف حيث الأوكران أقلية.

خلال سنوات ست، فشل حكم يوتشنكو في تقديم بديل للأوكران، لذلك اتجهوا ثانية في انتخابات 2010 الرئاسية لانتخاب فيكتور يانوكيفيتش الموالي لموسكو وهو زعيم “حزب المناطق”، وقد جلب معه لكييف نخبة إدارية جديدة من منطقة مولده في دونيتسك بإقليم دونباس. خلال أربع سنوات اتصف حكم يانوكيفيتش بالفساد والقمع وموالاة موسكو والعداء للغرب، لذلك كانت ثورة الميدان ضده في كييف من يوم 30 تشرين الثاني 2013 حتى هربه من القصر الرئاسي في 21 شباط 2014، تحوي برنامجاً رباعياً مضاداً، ضد الفساد والقمع وفك الارتباط بموسكو والاتجاه نحو عضوية الاتحاد الأوروبي والناتو.

في كييف 2014 كان المتواجدون بالميدان أغلبهم من الغرب الأوكراني ومن أوكرانيي كييف ومناطق الوسط. معظمهم شباب وغير حزبيين، مع ميول ليبرالية غربية، وقلة منهم كانوا من اليمين المتطرف القومي الأوكراني، مع غياب لروس دونباس وخاركيف ودنيبروبتروفسك وأوديسا،فيماكان الأخيرون متواجدين في الثورة البرتقالية عام 2004 ولوبنسبة أقل من الأوكران.

وعملياً، كان ميدان كييف 2014اعلاناً عن تشظي فكري- سياسي لجمهورية أوكرانيا من حيث الاتجاه شرقاً نحو موسكو أم غرباً نحو بروكسل الناتو والاتحاد الأوروبي، فيما كانت ثورة 2004 البرتقالية رحماً لولادة الهوية الأوكرانية القومية الجديدة ،وقد كان انتخاب يانوكيفيتش عام 2010 تعبيراً عن إمكانية متجددة نحو الزواج الأوكراني  بين أوكرانيي وروس أوكرانيا، ولكن طريقة حكمه وتبعيته لموسكو جعلت المعارضة ضده تكون أيضاً معارضة للكرملين واتجاهاً نحو الغرب، إلا أن هذا قد جعل سقوطه إعلاناً لطلاق من قبل أغلبية اجتماعية روسية في اقليم دونباس بفرعيه في منطقتي دونيتسك ولوهانسك وفي شبه جزيرة القرم مع أوكرانيا 1991، فيما كانت المفاجأة عند روس خاركيف ودنيبروبتروفسك وأوديسا الذين كانت ميولهم الاندماجية مع الأوكرانيين مخالفة للنزعة الانفصالية في دونباس والقرم، وهو ما نجده الآن يظهر بقوة في حرب 2022، التي اندلعت نيرانها من وقود أزمة 2014، ولو أن من أشعل عود الثقاب كان شخصاً من خارج الحدود.

نورث برس

———————

تشومسكي: النهج الأميركي بشأن أوكرانيا قد يؤدي إلى حرب نووية

قال المفكر الأميركي نقلاً عن دبلوماسي إن موقف واشنطن الحالي هو مواصلة النزاع “حتى يقتل آخر أوكراني”

إيليانا داغر

رفض المفكر الأميركي نعوم تشومسكي “الجرائم والفظائع” التي تقترفها روسيا في أوكرانيا، لكنه انتقد في الوقت نفسه النهج الذي سلكته واشنطن مع موسكو منذ نهاية الحرب الباردة وصولاً إلى الحرب في أوكرانيا، قائلاً إن الموقف الأميركي الحالي يتمثل بمواصلة النزاع “حتى يقتل آخر أوكراني” ونشوب حرب نووية محتملة.

تشومسكي وفي مقابلة مع صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية، قال إن هناك مسارين قد تسلكهما الحرب الأوكرانية، الأول “يتمثل في مواصلة تسهيل تدمير أوكرانيا، والانتقال بعدها إلى حرب نووية محتملة (…) قد تنهي الحياة البشرية على الأرض”، والثاني هو التوصل إلى تسوية دبلوماسية.

وفيما أقر تشومسكي بأن أي تسوية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ستكون “قبيحةً” إذ ينبغي أن تقدم له “خطة هروب”، حذر من أن خلاف ذلك سيترك سيد الكرملين “من دون أي خيار غير استخدام كامل قوته وجر العالم لحرب نووية شاملة”.

احتمال قوي لحرب نووية

واعتبر المفكر الأميركي أن مضمون التسوية أصبح واضحاً للجميع، فينبغي أن تضمن “بقاء أوكرانيا دولة محايدة، وإيجاد مخرج دبلوماسي لتجميد وضع منطقة دونباس وشبه جزيرة القرم من أجل مناقشتها في مرحلة لاحقة، ووقف إطلاق النار وانسحاب القوات الروسية” من أوكرانيا.

وعشية شنها الهجوم العسكري على جارتها في 24 فبراير (شباط)، اعترفت موسكو باستقلال منطقتي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليتين في شرق أوكرانيا، اللتين تشكلان ما يعرف بمنطقة دونباس، في خطوة جاءت بعد نحو ثماني سنوات من ضم روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014.

وعلى الرغم من التداعيات الهائلة والمآسي التي يتسبب بها الصراع الحالي، غير أن “موقف واشنطن هو مواصلة الحرب حتى يُقتل آخر أوكراني” من دون اللجوء إلى تسوية سياسية، بحسب ما قال تشومسكي، موضحاً أن هذه ليست كلماته، وإنما جملة استعارها من الدبلوماسي الأميركي تشارلز فريمان، سفير واشنطن السابق في الرياض.

واعتبر المفكر الأميركي والأستاذ الجامعي أن هذا الموقف يشير إلى “احتمال قوي للانتقال إلى صدام بين القوى النووية الكبرى، أي نهاية العالم في شكله الحالي”.

تخطي “الخطوط الحمراء”

وفي المقابلة، تطرّق تشومسكي إلى خلفيات النزاع الروسي الغربي، مستعرضاً تعاطي الإدارات الأميركية المتعاقبة مع روسيا منذ انتهاء الحرب الباردة، وموضحاً كيف أخلت واشنطن بوعودها لموسكو ودفعتها تباعاً إلى التصعيد وصولاً إلى الحرب.

وقال تشومسكي إنه عند نهاية الحرب الباردة، قدم الرئيس الروسي ميخائيل غورباتشوف خطته “دار أوروبا المشتركة”، مقترحاً أن تكون منطقة أوروبا وآسيا موحدة وممتدة من لشبونة عاصمة البرتغال في أقصى غرب أوروبا، إلى فلاديفوستوك في شرق روسيا، من دون أي تحالفات عسكرية. فقابله حينها الرئيس الأميركي جورج بوش الأب بوعد مفاده أن حلف شمال الأطلسي “الناتو” لن يتوسع شبراً واحداً في اتجاه شرق ألمانيا، عارضاً خطة “الشراكة من أجل السلام” التي لم تكن بعيدة عن المقترح الروسي، إلا أنها لا تستثني التحالفات العسكرية، بما في ذلك “الناتو” الذي حافظت على علاقاتها به.

ونقل المفكر الأميركي عن فريمان قوله إنه مع وصول بيل كلينتون إلى سدة الرئاسة الأميركية، راح منذ عام 1994 “يتحدث عن “الشراكة من أجل السلام” عندما كان يخاطب الروس، لكنه يقول إنه سيوسع “الناتو” ليصل إلى الحدود الروسية عندما يخاطب العالم. فتلقى حينها إدانة شديدة من الرئيس (الروسي) بوريس يلتسين في عام 1996، حين عرض خريطة موسعة لـ”الناتو”، وأيضاً في عام 1997 عندما دعا بولندا وسلوفينيا وهنغاريا للانضمام إلى الحلف، وجعله بذلك يلامس الحدود الروسية.

وقال تشومسكي إن ذلك شكل انتهاكاً للوعد الأميركي الذي قدمه بوش لغورباتشوف، لكن الروس “تعايشوا معه على مضض”، قبل أن يصل جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض في عام 2001، ليطيح بتعهد والده تماماً، داعياً عدداً من دول الاتحاد السوفياتي السابق للانضمام إلى “الناتو”، بما في ذلك دعوة لأوكرانيا عام 2008، في خطوة عارضتها كل من فرنسا وألمانيا بسبب إدراكها لخطورتها، إذ تشكل كل من جورجيا وأوكرانيا “خطوطاً حمراء” بالنسبة لروسيا التي تعتبرهما في قلب منطقة نفوذها الاستراتيجي، وترفض وجود حلف عسكري معاد لها فيهما، حسب المفكر الأميركي الذي قال إنه “ما كان أي قائد روسي ليقبل بذلك، لا بوريس يلتسين ولا غورباتشوف ولا غيرهما”.

تسوية “قبيحة” لبقاء أوكرانيا

وعلى الرغم من ذلك، واصل حلف شمال الأطلسي سياسته التوسعية. وقال تشومسكي إنه بعد الثورة الأوكرانية عام 2014، “اندفعت أميركا مباشرة وبدأت تُشرك أوكرانيا علناً في مهمات “الناتو” العسكرية وصفقات التسليح وغير ذلك”.

واستهشد المفكر الأميركي ببيان صحافي أصدره الرئيس الأميركي جو بايدن في الأول من سبتمبر (أيلول) 2021، يدعم أوكرانيا في سعيها إلى الانضمام لحلف شمال الأطلسي، ويتحدث عن التعاون العسكري بين البلدين بما في ذلك تقديم الأسلحة لكييف. وقال تشومسكي إن هذا البيان قد يكون دفع روسيا إلى اتخاذ “ذلك القرار الإجرامي الخطير بحرب أوكرانيا”.

 وفي ضوء الوضع الحالي، اعتبر تشومسكي أن العالم يواجه خيارين، وهما “مواصلة الولايات المتحدة سياستها التي بدأتها عام 2001 والاستمرار في إشراك أوكرانيا في أنشطة حلف “الناتو” على غرار المناورات العسكرية المشتركة، وهذا يعني تدمير أوكرانيا، ثم نشوب حرب نووية مدمرة بعدها. أما الخيار الثاني، وهو تخلي أميركا عن موقفها الحالي واتباع النهج الذي يسلكه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عبر تكثيف النقاش مع بوتين بغية التوصل إلى تسوية سياسية بمعناها الضيق من شأنها توفير خطة هروب أو مخرج” للرئيس الروسي.

وفيما أكد المفكر الأميركي أن تسوية كهذه ستكون “قبيحة”، إلا أنها “تبقى البديل الوحيد لبقاء أوكرانيا”.

وعند شن الهجوم العسكري على أوكرانيا، قال الرئيس الروسي إن هدف هذه “العملية العسكرية الخاصة” كما وصفها، هو “نزع سلاح أوكرانيا واجتثاث النازية منها”، متهماً إياها بالسعي لامتلاك سلاح نووي، وقائلاً إنها تشكل تهديداً لبلاده، لا سيما بسبب عزمها الانضمام لحلف شمال الأطلسي.

وبالتوازي مع المعارك العسكرية ميدانياً، باشر الروس والأوكرانيون محادثات سلام بغية وقف الحرب. وأكدت خلالها كييف استعدادها للالتزام بالحياد وعدم الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، شرط تلبية شروطها بالضمانات الأمنية. غير أن التقدم في المفاوضات ما زال بطيئاً مع تبادل الطرفين الاتهامات بشأن عرقلتها، وفي ظل التطورات الميدانية.

——————————-

يا شماتة بشار ببوتين!/ عمر قدور

لعل القذافي يكون مسروراً في قبره، فقد انضم إليه بوتين كثاني حاكم تُعلَّق عضويته في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. شاءت المصادفات أن تكون ليبيا عضواً في المجلس عندما اندلعت الثورة ضد القذافي، وأن تكون روسيا عضواً فيه بينما يشن بوتين حربه على أوكرانيا، والمصادفات ذاتها كادت يوماً ما أن تضع بشار الأسد في الموقع ذاته إذ كان قد تقدم بطلب للحصول على مقعد من بين أربعة ممثلين عن آسيا. حينئذ، في نيسان 2011، ضغطت أوروبا في المقام الأول لمنع وصوله إلى المجلس، بينما كانت الحكومات العربية بمجملها داعمة له.

العقوبات المتدحرجة على رأس بوتين تتخذ مع قرار الجمعية العامة الأخير تعليق عضويته في مجلس حقوق الإنسان بعداً أقسى معنوياً من العقوبات الغربية المتسارعة، فهو في الحالة الأخيرة لا يُعاقب كخصم للغرب؛ إنه يُعاقب في الأمم المتحدة على منوال ما يلاقيه حكام أتفه شأناً. على الصعيد الشخصي، لن يتأثر بوتين بالعديد من العقوبات الاقتصادية “المؤثرة حقاً على روسيا” بقدر ما تتأذى صورته بوضعه كمارق صغير لا يحق له ارتكاب الجرائم بلا مساءلة على النحو المُباح للكبار، وحتى إدانة الجمعية العامة الغزو الروسي لأوكرانيا قبل أربعين يوماً لا تُعدّ تحقيراً على منوال قرارها يوم الخميس المتعلق بمجلس حقوق الإنسان.

كان بوتين قد تربع سريعاً على عرش العقوبات الغربية، متقدماً على حكام إيران وكوريا الشمالية وعلى بشار الأسد. الحجم الضخم للعقوبات يرجع نسبياً إلى حجم روسيا، وإلى علاقاتها الاقتصادية كدولة بالمنظومة الدولية، فضلاً عن انتشار ثروات وأعمال الأوليغارشية الحاكمة في العديد من دول الغرب. إلا أن حدة العقوبات والديناميكية السريعة للاتفاق عليها تلغي ذلك الفارق النسبي، ليكون بوتين مستهدفاً بأقوى مما استُهدف به حكام أقل شأناً.

على نحو خاص، لم تتوقف المقارنة بين سوريا وأوكرانيا، وهي مقارنة تحيل في أحد جوانبها إلى المقارنة بين الجرائم المرتكبة في أوكرانيا ونظيراتها في سوريا، ولا يندر أن تأخذ طابعاً شخصياً فتستدعي المقارنة بين بوتين وبشار. ورغم ما هو معروف عن المظلة التي تولى بوتين تقديمها لجرائم بشار، يبدو الثاني محظوظاً أكثر من الأول الذي حظي بسماح غير معلن افتقده بوتين في مغامرته الأوكرانية.

قيل الكثير عن التمييز بين السوريين والأوكرانيين بناء على الموقف الغربي الحازم من غزو أوكرانيا، على عكس الموقف المتواطئ من التدخل العسكري الروسي في سوريا. المؤسف أن هذا الشعور بالظلم لدى السوريين مبرر تماماً، وخطأ بوتين أنه لم يدرك الفرق بين حريته في التصرف ضمن مناطق تُعدّ أرضاً للإفلات من العقاب ومناطق أخرى لا يتطبق عليها ذلك. هو أيضاً، على صعيد متصل، لم يتصرف بموجب موقعه المقبول غربياً، أي كشريك لا يليق به التصرف على شاكلة طاغية من مجرمي “البلدان المتخلفة”، خاصة وهو يطمح ليكون قطباً دولياً.

شئنا أم أبينا، ثمة تراتبية تحكم وتتحكم في العقل السائد، فما هو مقبول في بلدان مثل بلدان المنطقة العربية وأجزاء واسعة من أفريقيا وآسيا غير مقبول في أوروبا، ما يقتضي التمييز بين الضحايا والتمييز بين المرتكبين أيضاً. هذا التمييز يدحض فكرة توريط بوتين في أوكرانيا، من دون التوقف عند كونها تشيطن الغرب وتضع “المتورط” في موقع الغفلة، فألمانيا وفرنسا مثلاً نسجت صداقات حارة مع حكم بوتين، وواشنطن لم تكن تمانع أن يكون قطباً لا ينافسها بقدر ما يشوش على تقدم المنافس الصيني.

في الإطار ذاته تؤخذ الصحوة الغربية المستجدة حيال الجرائم المرتكبة في سوريا، فالغاية هي مزيد من تجريم بوتين، فلا المجرم الأول المحلي في الحسبان، ولا ضحايا جرائم الحرب والإبادة سيحصلون على شيء من الإنصاف المعنوي قبل العملي. لمناسبة مجازر بوتشا وما قبلها، سرعان ما علت أصوات غربية تطالب بمحاكمة بوتين، وقبل انكشافها عبّر الرئيس الأمريكي صراحة عن رأيه “الشخصي” بأنه لم يعد يصلح للاستمرار رئيساً لروسيا. في المقابل، أقصى ما ذهبت إليه التصريحات الأمريكية، التي يُفترض أنها صارت أكثر حزماً في الشأن السوري، هو القول أن على بشار الأسد التوقف عن ارتكاب الجرائم والالتزام بعدم تكرارها. بعبارة أوضح، لا كلام “مجرد كلام” عن المحاسبة، والرسالة موجهة أصلاً إلى بوتين، بينما يستطيع بشار النوم مطمئناً إلى عدم جدية التصريحات.

المواجهة غير المتوقعة بين الغرب وبوتين لم تأت بتغييرات في رؤى الغرب، ومنها أن واشنطن لن تتراجع عن انسحابها المعلن من فكرة التشجيع على انتشار الديموقراطية، ولا يزعجها وجود مستبدين صغار هنا وهناك “خارج المركز الغربي” فالتين من أي رادع أو عقاب. لذا ستكون الخشية مبررة من أن تعزز الضغوط على بوتين بسبب أوكرانيا فكرة تقسيم العالم واقتصار العقاب على جزء منه، بما يعطي الضوء الأخضر مجدداً لطغاة صغار.

ستصب في هذا المنحى التحليلات التي تقول إن صمت الغرب على تدخل بوتين في سوريا جعله يطمع في أوكرانيا، فهي أيضاً تحليلات تُسقط من الحساب فداحة الجرائم التي ارتُكبت في سوريا بمعزل عن بوتين. وهي في حدها الأقصى تحاول الاستثمار في المواجهة الراهنة، مع نقص الانتباه إلى ترابط الأمن والاستقرار الدوليين مروراً بمؤثرات عابرة للحدود مثل اللاجئين، ومثل التأثير المتبادل بين الإرهاب الجهادي وأحزاب اليمين المتطرف الأوروبية.

في المحصلة، لا يهم تحقير بوتين في الأمم المتحدة ومعاملته كالقذافي، فالمهم هي المحاسبة على ارتكاب الجرائم، بل منع حدوثها كلما كان ذلك متاحاً. تالياً، ينبغي ألا تكون الإهانة بديلاً عن العقاب، وهذا ما خبرته شعوب المنطقة بطغاة يُنظر إليهم دولياً بازدراء مع إطلاق يدهم داخلياً وكأن الشعوب تستحق هذا الصنف من الازدراء وما يبنى عليه من انعدام الحساسية إزاءها. لا عزاء بهزيمة بوتين، إذا كان بشار سيخرج منتصراً، بل ويشارك في سره الشماتة بالمهزوم الذي طالما تعمد إذلاله.

المدن

——————————-

بوتشا، حلب، صبرا وشاتيلا…/ بسام مقداد

إسم ضاحية كييف بوتشا يتردد هذه الأيام في إعلام العالم أجمع ما عدا إعلام الكرملين، بل ويعتبر أنباء المجزرة مفبركة تهدف للنيل من سمعة الجيش الروسي. فقد أصدرت هيئة التحقيقات الفيدرالية الروسية مذكرة للأجهزة المختصة للتحقيق، ليس في الجريمة ومن إرتكبها ومقاضاته، بل في مصدر النبأ المفبرك وتقديمه للمحاكمة. ويقول موقع وكالة أنباء روسية إقليمية vkpres بأن العسكريين الأوكران، وليس الروس، هم من قتلوا مواطني بوتشا لتعاونهم مع الجيش الروسي، ويتساءل كيف لم تتعفن الجثث طيلة هذه المدة ولا تظهر عليها آثار دماء متخثرة. ويشير إلى أن روسيا دعت مجلس الأمن الدولي للإجتماع، “وهي عازمة على فضح المحرضين الأوكران ومسانديهم الغربيبن”.

يترافق ذكر مجزرة بوتشا مع ذكر المجازر التي دخلت التاريخ  في حلب، وصبرا وشاتيلا، وسونغمي الفيتنامية وفوكوفر الكرواتية وسواها. تعدد رئيسة تحرير الأسبوعية الروسية المعارضة NEW TIMES هذه المجازر، وتقول بأن بوتشا تدخل التاريخ إلى جانبها بجدارة. وبعد وصف تفاصيل الصور التي انتشرت عن المجزرة، ترى بأن المحققين الأوكران والدوليين سوف يتوصلون “بالتأكيد” إلى الكشف عن إسم الوحدة العسكرية الروسية وأسماء مرتكبي هذه الجرائم. وروسيا يجب أن تكون الطرف الأول المعني بالكشف عن اسماء القتلة فرداً فرداً، وإلا فإن الحكم سيصدر “علينا جميعاً”.

قبل 24 شباط/فبراير بدا وكأنه لم يعد من قعر تهوي إليه الأمة التي كانت تعتز بكونها محررة أوروبا من الشر المطلق، ودفعت 27 مليون ضحية ثمن النصر على النازية. لكنها تحولت فجأة إلى أمة معتدية تقود حرب إحتلال في بلد شقيق. وتقول بان الكارثة قد وقعت، والهاوية فغرت فاها، “ونحن نواصل الهبوط، لكن ليس سيان، أبداً ليس سيان، أي عمق نبلغ”، لأن اللوم في ذلك  سوف يقع على عاتق “أبنائنا وأحفادنا”. وترى أن أسطورة المحررين التي كانت مكوناً أساسياً في الهوية الروسية والذاكرة الوطنية سوف تنهار نهائياً، “بغض النظر سواء كنت مع النظام أم ضده”. وصور المدنيين الذين كبلت أياديهم ثم أطلقت النار على مؤخرة رؤوسهم ورمي بهم، كالماشية، على قارعة الطريق “لن ننساها، ولن ينسوها لنا”.

وترى رئيسة التحرير أن التحقيق العلني الشامل والكشف عنه والإعلان عن التوبة والندم لم يعد كافياً، لكنه على الأقل سيكون ورقة بيد “أبنائنا”، حيث سيصبح بوسعهم القول “آباؤنا ارتكبوا أمراً شنيعاً، لكننا حققنا في الأمر، إعترفنا ونطلب المغفرة”. 

موقع Kasparov المعارض نشر لأحد الكتاب السياسيين الروس المعروفين نصاً بعنوان” لماذا يحتاج (بوتين) بوتشا؟”. يقول الكاتب بأنه يوجد على الأقل عامل واحد يسمح بالتأكيد بأن ما جرى في بوتشا هو لصالح بوتين. فرح النصر في المعركة بجوار كييف محته أهوال ما حدث في بوتشا. وهذا نجاح تكتيكي ليس قليل الأهمية بالنسبة للكرملين، إذ حين لا يفرح عدوك يبدو كأنك لم تخسر أنت. ولهذا أهمية مبدئية بالنسبة لبوتين الذي تقوم كل سلطته على فرضية أنه قوي وينتصر دائماً، وإذا بأمة “دون المستوى” تقاوم الجيش الإستراتيجي العظيم، بل وتجبره على التراجع. صورة بوتين تتطاير مزقاً الآن، لكن المجتمع الأوكراني والروسي المصدومين بمجزرة بوتشا لم يلحظا ذلك بعد.

حين يعتبروك سفاحاً دموياً فليس منطقياً أن يصفوك ضعيفاً. الضعف على مستوى الصور غير الرسمية لا يتناسب مع القسوة، على الرغم من أنه ، بالطبع ، على مستوى المنطق ، فإن الجميع يفهم أن قتل المدنيين العزل بالكاد يمكن وصفه بأنه مظهر من مظاهر القوة. وربما يكون من المنطقي أن يعلن زيلينسكي حدادًا لمدة ثلاثة أيام، ثم يطلق بعدها الأسهم النارية إحتفاءاً بالنصر الأول. في الإتحاد السوفياتي كانوا يحتفلون بالنصر في كل معركة، على الرغم من أن الألمان كانوا لايزالون يحتلون الأراضي السوفياتية، ولا يزال الروس يموتون في المعارك معهم.  ويقول الكاتب بأنه كان ليفعل ذلك من أجل ان يتخيل كيف يتلوى بوتين غضباً في هذه اللحظة، وهو الذي يحب أن يقدم نفسه الوريث الإستثنائي “للنصر العظيم”، ولذا يجب حرمانه من هذا الحق. ولدى الأوكران حق لا يقل عن حق الروس في وصف أنفسهم “منتصرين على النازية”.

وكان الموقع عينه قد نشر في 8 من الجاري نصاً للسكرتير السابق لإتحاد الصحافين في روسيا والنائب السبق في البرلمان الروسي(الدوما) إيغور ياكوفنكو. وضع الكاتب عنواناً لنصه “بوتين بدأ الطريق بإتجاه القذافي”، واتبعه بآخر ثانوي “تشريح العزلة ودعم روسيا بوتين”. يقول الكاتب بأن الجمعية العامة للأمم المتحدة أوقفت عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان، وآخر مرة حدث مثل هذا الأمر كانت في العام 2011 حين طردت ليبيا القذافي من هذا المجلس. وحذرت روسيا من أن التصويت “مع” أو الإمتناع عنه سوف تعتبره خطوة “غير ودية”. وفي عداد البلدان “غير الودية” أو إمتنعت عن التصويت كانت كل البلدان الغربية والهند، المكسيك، البرازيل وكل بلدان أميركا اللاتينية بإستناء كوبا ونيكاراغوا، ومعظم بلدان آسيا وإفريقيا.

 يقول الكاتب بإنه إذا أخذنا بالمعادلة التي إعتدمتها روسيا، يتبين أن لديها 24 دولة “عظمى صديقة” بينها زيمبابوي، سوريا، كوريا الشمالية، كوبا، أريتريا، أثيوبيا، بيلاروسيا وجميع بلدان آسيا الوسطى. الدولة الوحيدة التي يمكن الإعتداد بتأييدها الجدي هي الصين.

إلى جانب العزلة السياسية تتصاعد الإقتصادية أبضاً. فقد دعا البرلمان الأوروبي في 7 الشهر الجاري إلى فرض حظر فوري على إستيراد الغاز، البترول، الفحم والوقود النووية من روسيا. يقول الكاتب بأن القرار اتخذ باغلبية ساحقة (22 صوتاً ضد و513 صوتاً مع)، وما أنفقه بوتين من مليارات الدولارات لتصديع السياسة الغربية ضاعت سدى.

يقول الكاتب أنه مع كل يوم تتواصل فيه الحرب تتكشف جرائم جديدة للمحتلين البوتينيين. فما تم إكتشافه في بلدة باراديانكا بعد تحريرها تفوق أهواله عما كان في بوتشا ( أمس الجمعة 8 من الجاري قصف الروس محطة قطارات كراماتورسكا وأعلن عن 30 ضحية حتى لحظتها)، وتحولت أبنيتها متعددة الطبقات إلى ركام دفن تحته مئات الأوكران.

يرى الكاتب بأنه ثمة عوامل متعددة للإفتراض بأن الشهر الثاني من الحرب سيشهد نقطة تحول تحمل فرصة جدية لإنتصار أوكرانيا. وبوسع أوكرانيا ليس فقط أن تحول دون تدميرها، بل بوسعها ايضاً تدمير الجيش الروسي، وتبدأ بذلك عملية تدمير نظام بوتين، وهو ما فاجأ معظم المراقبين والمحللين.

 بين العوامل التي يفترض الكاتب بانها ستحدث نقطة تحول في الحرب يراها في عزلة روسيا السياسية والإقتصادية المتزايدة، وكذلك إقرار مجلس الشيوخ الأميركي في 6 من الجاري إحياء سياسة lend-lease التي إعتمدتها الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت تمد بموجبها الحلفاء والإتحاد السوفياتي بالذخيرة والالات العسكرية والمواد الغذائية وغيرها من مستلزمات الحرب.

إضافة للعوامل التي عددها الكاتب وأسهب في تفصيلها يمكن أن تضيف “المدن” عاملاً آخر أفصح عنه الأوكران أمس الجمعة. فقد تلقت أمس الجمعة من البرلمان الأوكراني (“المدن” مدرجة على قائمة الصحافة العالمية في البرلمان ووزارة الدفاع) نبأ توقيع رئيس البرلمان الأوكراني رسلان ستيفتاشوك مع رئيس لجنة U4U في البرلمان الأوروبي أندرياس كوبيلوس وثيقة تضمنت 6 مجالات للتعاون بين أوكرانيا والإتحاد الاوروبي. والمجالات التي تدرجها الوثيقة هي: إمدادات الأسلحة والدعم العسكري؛ المساعدات الإنسانية؛ العقوبات ضد روسيا؛ إعادة الإعمار بعد الحرب وخطة مارشال لأوكرانيا؛ إنضمام اوكرانيا إلى الإتحاد الأوروبي؛ المحكمة الدولية للتحقيق في جرائم الحرب والعدوان.

————————————-

حرب أوكرانيا تدخل مرحلة جديدة… ماذا عن عقبات تسليم الأسلحة لكييف؟/ شادي عاكوم

تطالب أوكرانيا دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومن بينها ألمانيا، بالمزيد من شحنات الأسلحة لدعمها في الحرب التي تشنّها القوات الروسية على أراضيها، وتحثّ على وجه الخصوص، على تسليمها الأسلحة الثقيلة، وخصوصاً المدرعات والمدافع؛ لكن يبدو حتى الآن أن هذه المطالبات ظلّت تحمل إجابات غير واضحة، وتأكيدات أن على أوكرانيا الانتظار، وفق ما صرح به الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أمام البرلمان الفنلندي.

وفي هذا الإطار، تفيد وزارة الدفاع الألمانية بأن خيارات جيشها لتزويد كييف بالأسلحة استنفدت. فعلى الرغم من كلام المستشار الألماني أولاف شولتز أخيراً في البرلمان الألماني حول أن أوكرانيا ستحصل على الأسلحة من ألمانيا، وأن ذلك ممكن وفق القرارات التي يتخذها الحلفاء، وفي ضوء قدرات الجيش الألماني، بينت وزيرة الدفاع كريستينا لامبريشت اليوم السبت، في حديث مع صحيفة “أوغسبورغ ألغماينه”، أنه لا تكاد توجد أي إمكانية لتزويد أوكرانيا مباشرة بالأسلحة والعتاد من مخزون الجيش، لأن الأخير يجب أن يضمن الدفاع الوطني.

وفي الإطار، أشار تقرير صادر عن بوابة “بيونير” أخيراً، إلى أنه وعلى عكس التأكيدات من الحكومة الاتحادية، فإن شحنات الأسلحة الألمانية إلى أوكرانيا تحرز تقدماً طفيفاً، ولا توجد أسلحة ثقيلة في قائمة التسليم، وذلك نقلاً عن وثيقة تمّت الإشارة إليها على أنها سرية. وبحسب “بيونير”، لا توجد توصيلات منتظمة للأسلحة، وأن قائمة التسليم تشمل 500 من صواريخ “ستينغر” المضادة للطائرات، و2053 صاروخ أرض جو قديمة العهد من نوع “ستريلا”، بالإضافة إلى ذخائر وألغام مضادة للدبابات، والملايين من الطلقات من عيارات مختلفة، فضلاً عن مستشفى ميداني ومستلزمات طبية وغيرها.

وفي سياق متصل، ذكرت صحيفة “دي فيلت”، أنه وعلى الرغم من استعداد “الناتو” لتسليم كييف أنواعاً من الأسلحة الثقيلة، لكن في نهاية المطاف، وعلى الرغم من أن الحلف هو منصة التنسيق غير الرسمية لتسليم الأسلحة، إلا أنه يجب أن يتم التنفيذ بشكل ثنائي من قبل الدول الأعضاء، ومن بينها ألمانيا، التي تناقش تسليم دبابات قديمة العهد، فائدتها في المعركة محل شك. وبحسب موقع “ماركور”، فإن مئة من ناقلات الجند التي طلبتها أوكرانيا هي من نوع “ماردير”، وهي عربة مشاة قتالية يبلغ طولها 7 أمتار تقريباً وتتسع لسبعة جنود، وتحمل مدفعاً رشاشاً من عيار 20 مليمتراً، وتتميز بمرونتها، ويمكن أن تعبر المسطحات المائية مثل الأنهار على عمق 1,5 أمتار، وتتسلق المنحدرات مع ميل يصل إلى 60 درجة.

وفي خضم ذلك، أبرزت الصحيفة عينها، أن حرب أوكرانيا دخلت مرحلة جديدة، وكل التوقعات تشير إلى نوع مختلف من الأداء الحربي، إذ لم تعد الصواريخ الخفيفة، والقذائف الصاروخية والمضادة للدبابات والطائرات، التي استطاعت من خلالها القوات الأوكرانية إلحاق خسائر مؤلمة بالروس في معركة كييف، كافية، وبات الوضع يحتاج لأنظمة وسلاح ثقيل، ويتعلق الأمر بالدبابات والعربات المدرعة والمدفعية المضادة للطائرات بعيدة المدى، بالإضافة إلى الأنظمة الجوية للترصد، وربما الطائرات المقاتلة وبدون طيار، والصواريخ المضادة للسفن. كل ذلك، وسط الحديث عن خطر الحصار المميت للوحدات القتالية الأوكرانية القوية في دونباس، بواسطة حركة كماشة روسية من الشمال الشرقي والجنوب، والذي بات يتخذ ملامح أكثر وضوحاً أكثر من أي وقت مضى، وفق ما أشارت إليه “نويه تسوريشر تسايتونغ”، رغم شعور الغرب بالارتياح لانسحاب الجيش الروسي الغازي من شمال أوكرانيا، وكون كييف لم تعد مهددة بشكل مباشر.

وفي هذا السياق، ومع ازدياد الدعوات لتسريع تسليم الأسلحة إلى أوكرانيا، قال زعيم الحزب “الاجتماعي المسيحي” في بافاريا ماركوس زودر خلال اجتماع لحزبه، إن البيروقراطية في وزارة الدفاع تمنع سرعة التسليم، وهذا أمر محرج لألمانيا ولا يمكن أن يستمر على هذا النحو. بدوره، أشار وزير الاقتصاد روبرت هابيك إلى أنه يرى المشكلات في وزارة الدفاع بقيادة “الاشتراكي الديمقراطي”، مبرزاً أن ألمانيا دخلت في التزام بتسليم الأسلحة، وهذا يجب ألا يتوقف.

في المقابل، تجد لامبرشيت أن عمليات التسليم المستقبلية يجب أن تتم مباشرة عبر مصانع الأسلحة، أي أن المسؤولية حينها ستقع على وزارة الاقتصاد لأن الأمر يتعلق بصادرات الأسلحة. ومن المعلوم، أن الرقابة الألمانية على تصدير الأسلحة تختلف بين أسلحة الحرب، مثل الدبابات والطائرات المقاتلة أو البنادق الهجومية الأوتوماتيكية بالكامل، والأسلحة الأخرى التي تشمل المسدسات، والرادارات، وأجهزة الاتصالات، أو بعض المتفجرات.

وفي خضم ذلك، بيّنت صحيفة “هاندلسبلات” أن المكتب الاتحادي للرقابة على الصادرات (بافا)، التابع لوزارة الاقتصاد الاتحادية، هو الذي يقرّر تصدير الأسلحة الأخرى، وله سلطة تقديرية. ومن ناحية ثانية، فإن أسلحة الحرب لا يجوز تصديرها إلا بعد آلية من مرحلتين: الأولى، يجب أن يتوفر ترخيص بموجب قانون مراقبة أسلحة الحرب الذي أصدرته الحكومة الفيدرالية، أما الثانية فكما هو الحال بالنسبة للأسلحة الأخرى، يجب التقدم بطلب للحصول على رخصة تصدير بموجب قانون التجارة الخارجية.

وكل ذلك، مؤشر لغياب الإلحاح والتصميم، رغم أن الخطر يهدد أوروبا بأكملها، والتسليح ينقذ المزيد من الأرواح في أوكرانيا التي ما زالت عرضة للهجمات الصاروخية، والتي كان آخرها أمس الجمعة، باستهداف محطة القطارات في كراماتورسك، والذي أدى إلى مقتل أكثر من 50 من المدنيين العزل وإصابة عشرات آخرين، وهذا ما يستدعي تنفيذ القرارات والوعود على وجه السرعة.

العربي الجديد

—————————

بلومبرغ” تكشف عن مناورة تسمح بتدفق النفط الروسي إلى أوروبا

“القدس العربي”: ذكر تقرير إعلامي نشرته وكالة “بلومبرغ” أن شركة “شل” النفطية الأكبر في أوروبا ستواصل شراء النفط الروسي ومد السوق الأوروبي به بطريقة جديدة.

وجاء في التقرير: “متى تكون شحنة ديزل روسي ليست ديزلا روسيا؟ ذلك يحدث حين تحولها “شل” (Shell) أكبر شركة نفط أوروبية إلى ما يسميه التجار “مزيج لاتفيا”.

وحسب تقرير “بلومبرغ” فإن شركة “شل” ستقوم بمناورة تدعم فيها الديزل الروسي المخلوط وغيره من المنتجات البترولية المكررة.

والفكرة هي تسويق برميل يحتوي على 49.99% فقط من الوقود الروسي، حيث تعتبر “شل” أنه طالما جاءت الكمية المتبقية من عبوة البرميل من مصدر آخر فإن الشحنة تقنيا لن تكون روسية المصدر.

وتدعم هذه الحيلة سوقا مزدهرة وغامضة للديزل الروسي المخلوط وغيره من المنتجات البترولية المكررة، وهي واحدة من حيل عديدة تستخدمها شركات النفط وتجار السلع الأساسية للحفاظ على تدفق الطاقة الروسية إلى أوروبا، وفي الوقت نفسه إرضاء الرأي العام الذي يطالب بإنهاء الدعم الذي تجنيه روسيا من النفط، بحسب ما نقل موقع أر تي.

وقال التقرير: “نظرا لأن أوروبا لم تمض إلى حد تطبيق قيود أو عقوبات على شراء النفط أو الغاز أو الفحم الروسي، فإن بيع المزيج الجديد قانوني تماما.. إذا اتبعت “شل” وآخرون القواعد الأوروبية حرفيا، فيمكنهم شراء شحنات من أصل روسي بنسبة 100%”.

ويمكِّن هذا المزج الشركات من أن تعلن التخلص من الجزيئات الروسية وتضمر الكثير من تلك الجزيئات.

وأوضحت “بلومبرغ” أن التجار في سوق النفط يتهامسون حول “مزيج لاتفيا”، وهو صنف جديد من الديزل يبدو كحل بديل لتسويق المنتج الروسي ممزوجا بخلائط أخرى.

وعادة ما يأتي المنتج من بريمورسك، وهي منطقة روسية لتصدير النفط قرب بطرسبرغ، إلى ميناء فنتسبيلز في لاتفيا الذي يضم مرفأ نفط كبيرا وسعة تخزينية، وهناك يمكن مزج المنتج، كما أن هناك العديد من المواقع الأخرى التي يحدث فيها المزج منها هولندا وأعالي البحار أيضا، عبر الضخ بين ناقلتين، بحسب أر تي.

ويعتبر كثيرون في السوق مزيج لاتفيا رمزا لأي مزيج يحوي جزيئات روسية، بغض النظر عن مكان مزجه.

ويُعد مزيج لاتفيا تذكيرا بأبواب خلفية مماثلة لتجارة بالنفط الخام الإيراني والفنزويلي الخاضعين للعقوبات، حيث عرضت لسنوات في الشرق الأقصى على أنها “مزيج ماليزي” أو “مزيج سنغافوري”.

وقالت “شل” إنها بدأت “انسحابا تدريجيا من المنتجات البترولية الروسية” وأعلنت أنها “توقفت على الفور عن شراء الخام الروسي في سوق الصفقات الفورية” مع صدور العقوبات ضد موسكو.

وبينما اتخذت “شل” مسار قبول الشحنات التي تحتوي على ما يصل إلى 49.99% من الديزل الروسي، لم يفعل آخرون ذلك حيث تشترط شركة “توتال” الفرنسية أنه لا يجوز لأي شحنة أن يكون مصدرها “كليا أو جزئيا” من روسيا، وفقا للأحكام والشروط العامة المحدّثة للشركة، كما تمتلك شركة “ريبسول” (Repsol) الإسبانية قواعد مماثلة من شأنها حظر أي جزيئات روسية، وفقا لأحكامها وشروطها العامة.

وبينت وكالة “بلومبرغ” أن هناك ثغرات أخرى وكلها قانونية، على سبيل المثال تسمح شركة “إنتركونتيننتال إكسشينج” للتجار بتسليم الديزل الروسي مقابل عقدها الأوروبي الشهير بنفط الغاز، حيث ذكّرت الشركة التجار في نشرة الأربعاء بأن “المنتج من أي مصدر سيكون قابلا للتسليم” في منطقة أنتويرب وروتردام وأمستردام، لذلك يمكن للمتعامل أن يشتري ويكون قادرا على تسليم الديزل الروسي وكل ذلك مع الالتزام بقواعد الاتحاد الأوروبي.

واختتمت الوكالة تقريرها بالقول “تُذكّرنا الثغرات والأبواب الخلفية بمدى صعوبة تنفيذ العقوبات.. حين لا تفرض عقوبات فيما تطبق بعض الأطراف عقوبات ذاتية، يفتح هذا الباب للشركات كي تقوم بما تراه مناسبا. ما النتيجة؟ تواصل روسيا بيع وقودها الأحفوري وكسب المال، وتستفيد أوروبا أيضا من ارتفاع إمدادات الديزل وأسعار الطاقة المنخفضة”، بحسب أر تي.

——————————

جرائم الحرب الروسية/ رضوان زيادة

صدم العالم من صور الضحايا الممددة وبعضها مقطوع الرأس في قرية بوتشا في أوكرانيا، ففي 3 من أبريل، نشر أوليكسي أريستوفيتش، مستشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، قائمة بالوحدات الروسية العسكرية والحرس الوطني على حد سواء، التي قال إنها تم نشرها في بوتشا وبلدتين أخريين في منطقة كييف، إيربين وهوستوميل ومن بين أولئك الذين سمّاهم أفواج الهجوم الجوي 104 و234 من فرقة الهجوم 76 من المحمولة جواً.

يقع مقر الفرقة في مدينة بسكوف شمال غربي روسيا، وهي مشهورة في التاريخ العسكري السوفييتي والروسي، من حيث البراعة والوحشية في ساحة المعركة. خلال الحرب الشيشانية الثانية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، اتُهم مظليون من الفرقة 76 المحمولة جواً بقتل المدنيين الشيشان دون تمييز. كان المنشور على مواقع التواصل الاجتماعي حول مقتل باير، قائد وحدة المدفعية، أحد الأدلة التي تشير إلى وجود المظليين في بوتشا.

في وقت ما من يوم 26 من مارس، ظهر مقطع فيديو على ما يبدو من قبل وكالة المخابرات العسكرية الأوكرانية على الإنترنت، يظهر جنديًا أسيرًا تم تحديد وحدته على أنها الفرقة 76 المحمولة جوا. تمت إزالة الفيديو لاحقًا بواسطة YouTube ولكن نُشرت نسخة منه على قناة Telegram  الخاصة بالصحفي الأوكراني.

في مقطع الفيديو، يصف الجندي، الذي يُدعى تيموفي بوبوف، كيف تلقت وحدته أوامر في 24 من فبراير/ شباط بالتوجه إلى أوكرانيا وتم نشرها “لتنظيف هوستوميل أو بوتشا”. وفقًا لبوبوف، فقد صدرت له تعليمات باقتحام الشقق في المباني السكنية ونقل الأشخاص الذين كانوا بالداخل إلى الطابق السفلي. ولم يشر إلى ما حدث لهم بعد ذلك.

كانت هناك تقارير صحفية من بوتشا من شهود قالوا إن أبواب شقتهم تم فتحها وأخذ الأقارب من قبل الجنود الروس. كما تم تصوير جثث في الأقبية.

بشكل متزايد، أصبح اسم القرية “بوتشا” أيضًا مرادفًا عالميًا للفظائع التي ارتكبتها القوات الروسية خلال الأسابيع الستة الأولى من هجومها على أوكرانيا.

بعد أيام من انسحاب القوات الروسية من بوتشا، يكافح العمال لإزالة جثث العشرات، وربما عشرات المدنيين من شوارع المدينة، ومن المقابر الجماعية المحفورة على عجل، ومن أقبية المباني، ودفنهم بشكل لائق. يظهر على عدد غير معروف من الجثث المدنية علامات الإعدام من الخلف، وأيديهم مقيدة خلف ظهورهم. أصيب بعضهم بطلقات نارية في رؤوسهم.

هذه بعض من صور الجرائم التي ارتكبتها روسيا خلال فترة الحرب القصيرة في أوكرانيا والتي ما زالت مستمرة إلى يومنا الحالي، وهي صور ومشاهد تذكرنا بالفظائع والمجازر التي ارتكبتها القوات الروسية مع قوات نظام الأسد في سوريا في حلب والغوطة الشرقية، إنها تحمل نفس العلامات والمشاهد

لقد كشف تقرير منظمة العفو الدولية حجم جرائم التعذيب المرتكبة في سوريا، وخاصة في سجن صيدنايا الذي كان يعتبر من “أفضل” السجون في سوريا مقارنة مع ما جرى ويجري يوميا في تدمر أو سجون المخابرات السورية المنتشرة في كل المدن السورية، الفظائع التي ذكرها التقرير بعنوان “المسلخ البشري” يصعب على أي إنسان اليوم تخيلها في العصر الحديث، إنها تنتمي إلى ما كنا نسمعه أو قرأناه في دول أخرى من مثل كمبوديا تحت الخمير الحمر أو روندا تحت حكم الهوتو المتطرف؛ لكن لابد من الإشارة هنا إلى أن هذا النوع من الممارسة المنهجية والواسعة النطاق في سوريا لم تتم اليوم فقط إنها ممارسة استمرت على مدى نصف قرن، لكن مع بداية الثورة السلمية أخذ العقاب الجماعي أوجهه في السجون والمعتقلات السورية، إنه نوع من معاقبة شعب بأكمله على ثورته ضد نظام الاستبداد والقهر والظلم.

واليوم تنشر منظمة العفو الدولية تقريرها عن جرائم الحرب الروسية في بوتشا الأوكرانية، حيث يضيف التقرير أن الجرائم في بوتشا تظهر نمطاً أوسع من جرائم الحرب بما في ذلك الإعدام خارج نطاق القضاء والتعذيب في مناطق محتلة أخرى من أوكرانيا.

“حتى الآن، جمعت منظمة العفو الدولية أدلة على مقتل مدنيين في أوكرانيا في هجمات عشوائية في خاركيف وسومي أوبلاست، ووثقت غارة جوية قتلت مدنيين كانوا يصطفون في طوابير للحصول على الطعام في تشيرنيهيف، وجمعت أدلة من المدنيين الذين يعيشون تحت الحصار في خاركيف وإيزيوم وماريوبول”. وتضيف “يعتبر عدوان روسيا على أوكرانيا جريمة بموجب القانون الإنساني”.

لكن، السؤال هو ذاته كيف يمكن محاسبة روسيا على جرائمها وكيف يمكن تجاوز هذا الاستعصاء القانوني في عدم محاكمة روسيا ونظام الأسد على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها بحق الشعب السوري والأوكراني يوميا؟ ولما كانت محكمة الجنايات الدولية تبدو بعيدة المنال بسبب عدم توقيع سوريا وروسيا على اتفاق روما الأساسي المنشأ للمحكمة ورفض روسيا واستخدامها حق النقض الفيتو في منع إحالة هذه الجرائم إلى محكمة الجنايات الدولية بقرار من مجلس الأمن، هنا يجب أن نبدأ التفكير في آليات دولية أخرى وجديدة لإنهاء دورة العنف وإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب التي كانت عقيدة نظام الأسد وبوتين.

——————————–

=======================

تحديث 22 نيسان 2022

———————-

حرب أوكرانيا: عشرة دروس من سوريا

كُتبَ هذا النص بشكل جماعي من قبل أعضاء المائدة السورية وفريق الشعوب تريد

المائدة السورية هي ثمرة لقاءات عديدة بين سوريين/ات في المنفى وبعض سكان مدينة منتروي في فرنسا، هدفها خلق مساحة للنقاش تسعى إلى فهم أوسع لما يحدث حول العالم وما يحدث في سوريا. لقد أظهرت الثورة ثم الحرب في سوريا أنه لا يمكن اختزال المشاكل المحلية في إطار وطني بحت، وبالنسبة للمائدة، فإن إنشاء فضاء عابر للقوميات والحدود في مدينة مونتروي، حيث تتعايش جنسيات وأصول مختلفة، هو وسيلة لبناء جسور بين الشعوب.

واللقاءات العابرة للحدود «الشعوب تريد» هي فعالية سنوية، يجتمع خلالها ناشطون وناشطات من جميع أنحاء العالم في مونتروي، وذلك للتحدث عن تجاربهم ومشاركة أفكارهم وتحليلاتهم وآمالهم.

******

المائدة السورية

قد لا يكون سهلاً اتخاذ موقف واضح من الحرب الروسية على أوكرانيا في الوضع الحالي، لا سيما في ظل الحضور الاجتماعي والإيديولوجي لوسائل الإعلام المهيمنة في الغرب من جهة، والأصوات التي تنقل دون تردّد بروباغندا الكرملين من جهة أخرى. بين خطاب حلف شمال الأطلسي وخطاب النظام الروسي المجرم، يشعر كثيرون في كل مكان بالحيرة والارتباك.

بوصفنا أشخاصاً شاركوا في الثورة السورية، نأمل من خلال هذا النص أن ندافع عن صوت ثالث، وأن نقترح وجهة نظر قائمة على عشر سنوات من النضال والحرب في سوريا.

لإيضاح الأمور، نحن ندافع اليوم كما دافعنا دائماً عن الثورة السوريّة في بُعدها الانتفاضي الشعبي والديمقراطي والتحرري، الذي يتجسد بشكل خاص في تجربة لجان التنسيق والمجالس المحلية للثورة. وفي حال تم نسيان هذا البُعد، فإننا نؤكد أنه لا يمكن لجرائم وادعاءات بشار الأسد والجهاديين إسكات هذا الصوت.

وفيما يلي، لا نعتزم مقارنة ما يحدث في البلدين. ورغم أن بدايتَي الحربَين متشابهان وأن المعتدي واحد، فإن الحالتين مختلفتان تماماً. لذلك، استناداً إلى تجربتنا في الثورة ومن ثم الحرب في سوريا، فإننا نقترح بعض السبل والأفكار التي تهدف إلى مساعدة أولئك الذين يدافعون بصدق عن مبادئ التحرّر على اتخاذ موقف:

1– الاستماع أولاً وبشكل أساسي إلى أصوات المعنيين بالقضية، بدلاً من أصوات خبراء الجيوسياسة:

لا بدَّ من الارتكاز على كلمات أولئك الذين عاشوا الحرب وعايشوا الثورة (ميدان 2014)، وأولئك الذين عانوا في ظل نظام بوتين، في روسيا وفي أماكن أخرى، طيلة 20 سنة. نعتقد أنه من الضروري إعطاء الأولوية لأصوات الشعوب والمنظمات التي تدافع، على الأرض، عن مبادئ الديمقراطية المباشرة والحركة النسوية والمساواتية، لأن ذلك سيساعد على بناء رأي خاص يستند إلى موقف الشعب في أوكرانيا والمساعدة التي يطلبها من الخارج.

وكان من شأن اتّباع هذا النهج فيما يخص سوريا أن يعطي الدعم والأولوية لتجارب التنظيم الذاتي، الواعدة والمثيرة للإعجاب، التي ازدهرت في مختلف أنحاء البلاد. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الاستماع إلى الأصوات القادمة من أوكرانيا يُذكِّرنا بأن كل هذه التوترات بدأت بانتفاضة ميدان. لهذا، نرى أنه لا ينبغي ارتكاب الخطأ الذي تم ارتكابه في سوريا باختصار الثورة الشعبية الأوكرانية (رغم ما يشوبها من جوانب إشكالية يطول نقاشها) إلى صراع مصالح بين القوى الكبرى كما حدث عمداً بالنسبة للثورة السورية.

2- الحذر من الجيوسياسية المضادة:

في حين أن فهم المصالح الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية للدول العظمى على نحو أفضل له أهميته، فإن القراءة الجيوسياسية تميل إلى الانفصال عن الواقع، وتدفع الناس العاديين مثلنا إلى نسيان الناشطين الفاعلين في الصراع، وأولئك الذين يشبهوننا، رغم أن هؤلاء الناس هم الذين سيعانون، قبل كل شيء، بسبب الخيارات التي يتخذها أولئك الذين يعتبرون العالم لوحة شطرنج ومستودعات للموارد التي ينبغي نهبها. الرؤية الجيوسياسية الصرفة هي رؤية الجهات المهيمنة، وليست رؤية الشعوب التي تحتاج إلى أن تركز على بناء الجسور بينها والسعي إلى تحقيق مصالح مشتركة. وهذا لا يعني إهمال الاستراتيجية، ولكنه يعني ضمناً استخدام السبل التي نملكها؛ التي لا تسعى، في الوقت الراهن، إلى دحر الدبابات أو قطع واردات الغاز. (انظر إلى مقترحاتنا في نهاية المادة).

3- عدم تقبل التفرقة بين مهاجر جيد ومهاجر سيء:

لا شك أن استقبال اللاجئين السوريين في أوروبا كان أفضل بكثير (رغم أنه بعيد كل البعد عن المثالية) من استقبال اللاجئين القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء مثلاً. صور اللاجئين ذوي البشرة السوداء المرفوضين على الحدود الأوكرانية البولندية، والتعليقات الإعلامية التي تفضل وصول اللاجئين الأوكرانيين ذوي «الجودة العالية» على اللاجئين السوريين، ليست سوى دليل على أن هناك تزايداً لعنصرية أوروبية دون رادع.

الدفاع الضروري عن استقبال غير مشروط للأوكرانيين، الهاربين من ويلات الحرب، يدفع إلى رفض كل أشكال التمييز بين اللاجئين عموماً.

4- الحذر من وسائل الإعلام المهيمنة:

رغم أنها تدّعي اتخاذ موقف إنساني وتقدّمي، كما هو الحال بالنسبة لسوريا، فالأرجح أن يتخّذ جزء كبير من وسائل الإعلام المهيمنة موقفاً يقتصر على تصوير الأوكرانيين كضحايا غير مسيسين، سواء في أوكرانيا أو في بلدان اللجوء، حيث لا يحق لهم التحدث إلا عن حالات فرديّة؛ عن الهروب والخوف من القنابل… إلخ.

لا ينظر هذا الموقف إلى الأوكرانيين والأوكرانيات كفاعلين سياسيين قادرين على التعبير عن آراء، أو على تقديم تحليلات سياسية عن الوضع في بلدهم. بالإضافة إلى ذلك، تقوم وسائل الإعلام غالباً بالدفاع عن الموقف الغربي بشكل عام، من دون تنوّع في وجهات النظر، ومن دون تَعمُّق تاريخي أو شرح لمصالح الدول الغربيّة، التي يتم تصويرها كمدافعة عن الحق والحريات، أو كديمقراطيات ليبرالية مثالية.

5- تجنّب اعتبار الدول الغربية محورَ الخير:

بالرغم أنهم ليسوا غزاة أوكرانيا، إلّا أن لحلف الناتو ودول الغرب دوراً في الصراع، لذلك يتوجب بشكل كامل رفض تقديمهم كحلف مدافع عن «العالم الحر». في الحقيقة، الغرب نفسه قد أسَّسَ قوته (وما زال) عن طريق الاستعمار والسلوك الامبراطوري، وقمع ونهب خيرات شعوب عديدة في العالم أجمع.

وفي حال كان القرن العشرين يبدو بعيداً بالنسبة للبعض، فإن هنالك كوارث حدثت مؤخراً بسبب غزو العراق وأفغانستان. في الآونة الأخيرة أيضاً، خلال الثورات العربية منذ العام 2011، وعوضاً عن مساندة المكونات الديمقراطية والتقدّمية، قرّرت الدول الغربية الاهتمام بشكل رئيسي بالحفاظ على سيطرتها ومصالحها الاقتصادية. في الوقت ذاته، استمرّت ببيع السلاح والحفاظ على علاقات خاصة مع دكتاتوريين عرب وملوك وأمراء الدول الخليجية. مثلاً، في تدخلها في ليبيا لم تدافع الحكومة الفرنسية سوى عن مصالحها الاقتصادية والأمنية، بينما كانت تردد الأكاذيب عن معركة تخوضها من أجل دعم الديمقراطية. وبالإضافة إلى تداعيات الأوضاع في الدول الغربية على الصعيد الدولي، يستمر الوضع في التدهور داخلها أيضاً: صعود الاستبداد والمراقبة وعدم المساواة، وقبل كل شيء العنصرية.

إن تَقدُّمَ نظام بوتين، والتهديد الذي يشكله اليوم على حق الشعوب في تقرير مصيرها، يعود إلى تراجع قدرة الدول الغربية على الحفاظ على سيطرتها وهيمنتها. لكن، لا يتوجب استبعاد فكرة أن الدول الغربية قد لا تترد في انتهاز الفرصة، في حال إلحاقها الهزيمة ببوتين، لإعادة فرض هيمنتها. لذلك، فإن الأفضل للأوكرانيين ألّا يعتمدوا على «المجتمع الدولي»، ولا على الأمم المتحدة التي يَظهر نفاقها كما هو الحال في سوريا.

6- محاربة كل الإمبرياليات!

«النزعة الاختزالية للعقائد» هي نفسها عقيدةٌ من حقبة أخرى، تمثّلت خلال الحرب الباردة في دعم الاتحاد السوفيتي بأي ثمن في مواجهة الدول الرأسمالية والإمبريالية، وهي لا تزال تدفع حتى اليوم جزءاً من اليسار الراديكالي لدعم روسيا وبوتين في أوكرانيا، أو لتبرير الحرب الحالية. كما حدث في سوريا تماماً، عندما استخدموا ذريعة أن النظامين الروسي أو السوري يخوضان مواجهة مع الإمبريالية الغربية والأطلسية. لسوء الحظ، ترفض هذه النظرية المانوية، المعادية للإمبريالية، أن ترى الإمبريالية في جهات أخرى غير الغرب.

من أجل ذلك، سيكون من الضروري تصنيف ما تفعله الأنظمة في روسيا والصين وإيران منذ سنوات: توسيع سيطرتها السياسية والاقتصادية في مناطق معينة من خلال تجريد السكان المحليين من حقهم في تقرير المصير؛ ما التسمية التي يمكننا أن نطلقها على هذا النوع من السلوك؟ حسناً، يمكنهم استبدال «الإمبريالية» بأي كلمة أخرى في حال بدت غير ملائمة بالنسبة لهم، لكن ما ينبغي هو رفض تلطيف العنف والهيمنة اللذين تتم ممارستهما على السكان باسم الأحكام النظرية الزائفة.

والأسوأ من ذلك، أن هذا الموقف يدفع هذا اليسار إلى نقل دعاية هذه الأنظمة، إلى درجة الحديث عن «انقلاب» عند تناولهم لأحداث الميدان 2014 في أوكرانيا، وإلى إنكار جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الروسي في سوريا وإنكار استخدام نظام الأسد لغاز السارين. ويعتمد هذا الإنكار ونشر الأكاذيب على التحفظ، الذي يكون مشروعاً في حالات كثيرة، تجاه وسائل الإعلام السائدة في الغرب.

إنه موقف غير مسؤول على الإطلاق، لا سيما عندما يكون صعود نظريات المؤامرة مُعزِّزاً لليمين المتطرف وللعنصرية. فيما يتعلق بالحرب على أوكرانيا، يشكل المعادون للإمبريالية، الذين يدّعي بعضهم مع ذلك أنهم مناهضون للفاشية، حلفاء المرحلة بالنسبة لجزء كبير من اليمين المتطرف في أوروبا. وفيما يخص الوضع في سوريا، فإن اليمين المتطرف، المليء بالأوهام المتعصبة وأحلام شن حملة صليبية ضد الإسلام، دافع بقوة عن بوتين والنظام السوري بسبب أفعالهما المزعومة ضد الجهاديين، وهذا دون فهم مسؤولية نظام الأسد عن صعود الجهاديين في سوريا.

7- الجانبان الأوكراني والروسي ليسا سواسية:

هوية المُعنِّف معروفة بالنسبة للجميع في أوكرانيا. إذا كان هجوم بوتين يستجيب بطريقة ما لضغط الناتو، فهو قبل كل شيء استمرارٌ للسياسة الإمبريالية والمضاد للثورة. بعد غزو شبه جزيرة القرم، وبعد أن ساعد في سحق الانتفاضات في سوريا (2015-2022)، وفي بيلاروسيا (2020)، وفي كازاخستان (2022)، لم يعد فلاديمير بوتين يتسامح مع رياح الاحتجاج داخل البلدان الواقعة تحت نفوذه، والتي نجحت في طرد الرئيس المؤيد لروسيا من أوكرانيا خلال ثورة الميدان. إنه يرغب في سحق أي رغبة تحررية تضعف قوته.

في سوريا أيضاً، لا مجال للشك في تحديد المسؤول المباشر عن الحرب. إن نظام بشار الأسد، من خلال إصدار أوامره للأجهزة الأمنية بإطلاق النار على المتظاهرين وسجنهم وتعذيبهم منذ أيام الاحتجاج الأولى، قرَّرَ بنفسه شن حرب على السكان.

لابد أن يكون الأشخاص المدافعون عن الحرية والمساواة مُجمِعين على موقفهم ضد هؤلاء الطغاة، الذين يشنون الحروب ضد الناس.

وبالتأكيد، فإن الدعوة إلى إنهاء الحرب ضرورية، لكن يجب أن تأتي دون أي غموض حول هوية المعتدي. لا في أوكرانيا ولا في سوريا، ولا في أي مكان آخر، يمكن لوم الناس العاديين على حمل السلاح لمحاولة الدفاع عن حياتهم وحياة أُسَرهم.

على الأشخاص الذين لم يتعرّضوا للقصف، ولم يعايشوا الديكتاتورية (حتى لو أن السلطوية تتصاعد في الدول الغربية)، الامتناعُ عن مطالبة الأوكرانيين -كما قال البعض بالفعل للسوريين أو لسكان هونغ كونغ- بعدم طلب المساعدة من الغرب، أو عدم السعي إلى الديمقراطية الليبرالية أو التمثيلية كنظام سياسي. العديد من هؤلاء الأشخاص، الذين قد يدركون بالفعل عيوب هذه الأنظمة السياسية، ليست الأولوية بالنسبة لهم هي الحفاظ على موقف سياسي لا تشوبه شائبة، بل النجاة من تفجيرات اليوم التالي مثلاً، أو عدم التعرض للاعتقال والتعذيب والسجن لعشرين عاماً مقابل كلمة قيلت أو رأي سياسي تم التعبير عنه.

يُظهِرُ هذا النوع من الخطاب رغبة أصحابه في فرض وجهة نظرهم على سياق لا يمسّهم، ما يشكل انفصالاً حقيقياً عن أرض الواقع، وامتيازاً غربياً للغاية. يجب بدلاً من ذلك الاستماع إلى كلمات الأصدقاء في أوكرانيا، الذين قالوا الأسبوع الماضي: «نعتقد اعتقاداً راسخاً أن أكثر الجمهوريات نقصاً هي أفضل ألف مرة من النظام الملكي الأكثر استنارة».

8- في داخل المجتمع الأوكراني كما في سوريا كما في فرنسا؛ تتقاطع تيارات مختلفة:

أصبحت الاستراتيجية التي تتمثل في خلق عدو، أو تهديد كبير، بهدف إخافة من يمكن أن يُقدِّموا أي دعم وتضامن، مكشوفةً. وكما في حالة خطاب «الإرهاب الإسلامي» في السياق السوري، الذي استخدمه بشار الأسد منذ الأيام الأولى للثورة، يُلوِّحُ بوتين وحلفاؤه اليوم بـ«النازية» و«القومية المتطرفة» في السياق الأوكراني.

نعتقد أن هذه الدعاية مبالغ فيها عن عمد، وأنه لا ينبغي بأي حال من الأحوال نقلها كما هي. لكن مع ذلك، فإن التجربة في سوريا تشجع على عدم الاستهانة بالمكونات الرجعية في الحركات الشعبية. في أوكرانيا، لعب القوميون الأوكران، وأحياناً الفاشيون، دوراً مهماً في احتجاجات ميدان والمواجهة مع روسيا. علاوة على ذلك، استفادت مجموعات يمينية مثل كتيبة آزوف من ذلك وانضمّت إلى الجيش النظامي. هذا لا يعني، مع ذلك، أن المجتمع الأوكراني بأكمله (ولا حتى الأغلبية) قومي متطرف أو لديه ميول فاشيّة. لقد فاز اليمين المتطرف بنسبة 4٪ فقط في الانتخابات الأخيرة، وانتُخب الرئيس الأوكراني، اليهودي والناطق بالروسية أيضاً، بنسبة 73٪.

في الثورة السورية ثمة حالة مشابهة. بدأ الجهاديون بشكل هامشي، ثم أخذوا أهمية متزايدة (جزئياً بفضل الدعم الخارجي)، مما سمح لهم بفرض أنفسهم عسكرياً على حساب الحركة المدنية والجهات الأكثر تقدمية.

يمثل اليمين المتطرف في كل مكان (كما هو الحال في فرنسا اليوم دون أدنى شك) تهديداً لتمدد الديمقراطيات والثورات الاجتماعية. في فرنسا، حاول هذا اليمين المتطرف فرض نفسه خلال انتفاضة السترات الصفراء، لكنه فشل في ذلك نتيجة وجود مواقف مساواتية ونشطاء تحرريين ومناهضين للفاشية على الأرض، وليس من قبل المنظرين.

إن الدفاع عن المقاومة الشعبية ضد الغزو الروسي لا يمنع من انتقاد النظام السياسي الذي نشأ بعد ثورة ميدان، إذ لا يمكن القول إن سقوط يانوكوفيتش أدى إلى امتداد حقيقي للديمقراطية المباشرة، ولا إلى مجتمع قائم على المساواة، نتمناه في سوريا وروسيا وفرنسا، وفي كل مكان في العالم.

كما هو الحال في سوريا، يطلق بعض النشطاء الأوكرانيين على ما بعد ميدان تسمية «ثورة مسروقة». النظام الأوكراني، بالإضافة إلى منح مكانة مهمة للقوميين المتطرفين، أُعيدَ بناؤه من قبل الجهات الفاعلة، ولا سيما الأوليغارشية، للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية والسياسية وتوسيع النموذج الرأسمالي والنيوليبرالي لعدم المساواة. نعتقد أنه ينبغي أخذ هذه النقاط بعين الاعتبار، وأنه من الصعب تصديق أن النظام الأوكراني لا يتحمل أي مسؤولية مطلقاً عن تفاقم التوترات مع المناطق الانفصالية.

في سوريا، لا يمتنع الثوار المنخرطون في الميدان بأي حال عن الانتقاد العنيف لخيارات المعارضة السياسية المجتمعة في اسطنبول، لا سيما بشأن تحفّظ هذه المعارضة المؤسف على بعض المطالب المشروعة للأقليات مثل الأكراد.

إن النيوليبرالية والمكونات الفاشية موجودة في أوكرانيا، وفي جميع الديمقراطيات الغربية، ولا ينبغي الاستهانة بها، لكن هذا لا يجب أن يدفعنا إلى عدم تأييد المقاومة الشعبية للغزو الروسي. على العكس من ذلك، يتوجب دعم المكونات التقدمية ذاتية التنظيم، كما كنا نتمنى أن يكون الحال خلال الثورة السورية.

9- دعم المقاومة الشعبية في أوكرانيا وروسيا:

كما أثبتت الثورات العربية أو السترات الصفراء أو الميدان، فإن انتفاضات القرن الحادي والعشرين ليست، ولن تكون، إيديولوجية «نقية». ورغم أنه من المريح والمحفّز أكثر الاتحاد مع الفاعلين الأقوياء (والمنتصرين)، فإنه لا يجب خيانة المبادئ الأساسية. على اليسار الراديكالي خلع نظارته المفاهيمية القديمة لمواجهة مواقفه النظرية بالواقع، المواقف التي يجب تعديلها دائماً بالاعتماد على الحقيقة وليس العكس.

إن تقديم الدعم للمبادرات التي تأتي من الأسفل كأولوية لمساعدة الأوكرانيين، مثل مبادرات الدفاع عن النفس والتنظيم الذاتي التي تزدهر حالياً، يُمكِّننا من اكتشاف أن الأشخاص الذين ينظمون أنفسهم في كثير من الأحيان يمكنهم في الواقع الدفاع عن المفاهيم الراديكالية للديمقراطية والعدالة الاجتماعية، حتى لو لم يدّعوا «اليسارية» أو «التقدمية».

أيضًا، كما دعا العديد من النشطاء الروس، يمكن أن تساعد الانتفاضة الشعبية في روسيا على إنهاء الحرب، كما حدث في عامي 1905 و1917. لا يمكن التغاضي عن القمع في روسيا منذ بداية الحرب؛ عشرات الآلاف من المتظاهرين المسجونين، والرقابة الإعلامية، وإغلاق الشبكات الاجتماعية وربما الإنترنت قريباً، وما إلى ذلك. نتمنى أن تحدث أن ثورة أو حراك يؤدي إلى سقوط النظام، لوقف جرائم بوتين بشكل نهائي في روسيا وأوكرانيا وسوريا وأماكن أخرى من العالم. دون إلقاء اللوم على الشعوب في إيران وروسيا ولبنان، يمكن لسقوط نظام بوتين أن يعيد الأمل بانتفاضات هذه الشعوب، وبسقوط بشار الأسد. أمنية التغيير هذه تنطبق على بلدان أخرى كالولايات المتحدة أو فرنسا، أو أي بلد آخر يبني سلطته على اضطهاد الشعوب الأخرى أو جزء من سكانها.

10- بناء أممية جديدة من الأسفل:

إن معارضة جميع الإمبرياليات وجميع الأشكال الحديثة للفاشية بشكل جذري، والاقتصار على ذلك، تُخاطر بحصر النضال الثوري في رؤية سلبية واختزاله في حالة من ردّة الفعل.

لذلك، إن تقديم اقتراح إيجابي وبنّاء متمثل بالأممية لا يزال أمراً لا غنى عنه، وهذا يعني ربط الثورات والمقاومين من أجل المساواة في جميع أنحاء العالم.

هناك طريق ثالث بين حلف شمال الأطلسي أو بوتين، وهو طريق الأممية من الأسفل. على الأممية الثورية أن تدعو اليوم للدفاع عن المقاومة الشعبية في أوكرانيا، كما كانت تدعو إلى دعم المجالس المحلية السورية، ولجان المقاومة في السودان، والجمعيات الإقليمية في تشيلي، ومظاهرات السترات الصفراء أو الانتفاضات الفلسطينية.

بالتأكيد، نحن نعيش في حقبة ما بعد الأممية العمالية، التي كانت مدعومة من دول وأحزاب ونقابات ومنظمات الكبيرة، التي كان لها ثقلها في الصراعات الدولية حقاً، كما كان الحال في إسبانيا في العام 1936، أو فيتنام أو فلسطين في الستينيات والسبعينيات.

اليوم وفي جميع أنحاء العالم، سواء في سوريا أو فرنسا أو أوكرانيا، هنالك حالة من الافتقار لقوى تحررية واسعة النطاق، تتمتع بقواعد مادية كبيرة. بانتظار نشوئها، نستطيع أن نتعلّم مثلاً ممّا يحدث اليوم في تشيلي من منظمات ثورية ترتكز على مبادرات التنظيم الذاتي المحلي. لا بدّ من الدفاع عن أممية تدعم الانتفاضات الشعبية، وتستقبل جميع المنفيين. أممية تتمكن أن تطرح من جديد، بطريقة مسموعة وجيدة الصياغة، صوتاً بديلاً لأشكال الديمقراطيات الرأسمالية الغربية والسلطوية الرأسمالية الروسية والصينية.

من المؤكد أن مثل هذا المفهوم كان من شأنه أن يساعد الثورة في سوريا على الحفاظ على لون ديمقراطي قائم على المساواة، وحتى أن يساهم في النصر.

الدفاع عن الأممية لا يأتي فقط من منطلق المبدأ الأخلاقي، ولكن أيضاً من منطلق الاستراتيجية الثورية، من منطلق الدفاع عن الحاجة إلى إقامة روابط وتحالفات بين القوى المنظمة ذاتياً، التي تعمل من أجل تحرير الجميع دون تمييز، وهذا ما يسمى الأممية من الأسفل: أممية الشعوب.

————————————–

هل تمتد الحرب إلى فنلندا؟/ مدى الفاتح

دخلت المساعي من أجل انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) حيز الجدّية، ولكن مع حالة التصعيد الدولية والانقسام بين المعسكرين الأوكراني الغربي والروسي، فذلك يبدو أشبه بمخاطرة كبيرة.

ليست فنلندا مجرد دولة مجاورة لروسيا، وإنما هي الدولة التي تمتلك معها الحدود الأطول (حوالي 1300 كم). وبالنظر إلى أن الحرب مع أوكرانيا انطلقت بالأساس لضمان منع الأخيرة من الانضمام للحلف، فإن تصريحاً مثل تصريح رئيسة الوزراء، سانا مارين، الذي لمّحت فيه إلى إمكانية إكمال تنفيذ خطوات الانضمام هذا الربيع يبدو مقلقاً.

يقول الساسة الفنلنديون، والذين كانوا، حتى أشهر قليلة ماضية، رافضين مبدأ الانضمام للحلف العسكري، ومفضلين البقاء على الحياد، إنهم ما عادوا يثقون بالروس، وإنهم يفضلون أن يكونوا ضمن الغطاء الأطلسي. وليس هذا الموقف قاصراً على السياسيين، حيث تفيد استطلاعات الرأي بأن الانضمام إلى “الناتو” يحظى بدعم شعبي كبير، وبلا مثيل في الممارسة السياسية الفنلندية منذ إنشاء الحلف، وذلك بسبب قناعة كثيرين بوجود تهديد روسي.

بمتابعة التطورات على الساحة الأوكرانية، يمكن أن نفهم هذا التغير في نظرة الرأي العام المبني على خشية الفنلنديين أنهم إذا ما كانوا مجرّد أصدقاء غير منضمين للحلف، فإنهم قد يتركون لمواجهة مصيرهم، كما ترك الأوكرانيون، وعندها ستكون مأساتهم أكبر، للفارق في الاستعداد العسكري.

من الناحية المنطقية، لن تكون روسيا المتورّطة في أوكرانيا، والتي لم تعد تستطيع التقليل من خسائرها العسكرية (غرق الطراد موسكوفا نموذجًا)، متحمّسة لفتح جبهة جديدة، خصوصا مع التأثيرات الموجعة للحصار السياسي والمقاطعة الاقتصادية التي فرضت عليها ضمن العقوبات الأميركية والدولية، لكن المشكلة أننا نعلم اليوم أن الأمور لا تسير وفق المنطق، حيث كانت الحسابات العقلية تقول إن روسيا لن تُقدم على اجتياح أوكرانيا بسبب ما تعانيه من أزمات اقتصادية وتذمر سياسي داخلي، لكن ما حدث غير ذلك. ومهما كانت نتيجة الحرب، فالأكيد أن خسارة الأوكرانيين كبيرة، إلى درجة يصعب تعويضها، كما أن من المتفق عليه أن الفنلنديين لا يرغبون في التعرّض للمصير ذاته وتدمير بلادهم، حتى وإن تعرّضت روسيا بعد ذلك لعقوبات أو ملاحقة قانونية.

ما يظهر أن حلف الناتو، وبعكس موقفه السابق من أوكرانيا، والذي اتسم بالتردّد، متحمّس لضم فنلندا لعدة أسباب، منها الاختلافات والتباين بين كل من أوكرانيا وفنلندا في طبيعة الدولة، ففنلندا أقرب إلى دول أوروبا الغربية جغرافياً، ومن ناحية النظام السياسي المتأسس على ديمقراطية راسخة. السبب الآخر لحماس الأطلسيين هو ما تعلق بالصراع الدائر الآن، فانضمام دولة جديدة ومجاورة للحلف في هذا التوقيت يعني أن الحرب على أوكرانيا لم تنجح في هدفها الأساسي، وهو وقف تمدّد الحلف ومنعه من أن يكون أكثر اقتراباً من الحدود الروسية، ما يعني، من الناحية الاستراتيجية، أن روسيا خسرت الحرب، وإن تسببت بدمار كبير أو كثير من الضحايا.

على صعيد العلاقات الدولية، سوف يكون انضمام فنلندا إلى حلف الناتو أحد الانعكاسات الكبيرة للحرب على أوكرانيا، ففنلندا التي خاضت حرباً شرسة مع الاتحاد السوفييتي في ثلاثينيات القرن الماضين ما لبثت في العام 1948 أن وقّعت مع موسكو اتفاق سلام وصداقة، قضى بأن تكون بلداً محايداً عسكرياً وغير منتمٍ لأي تحالف عسكري معادٍ للروس. تعني المستجدّات أخيرا أن ذلك التاريخ الطويل من السلام، والذي التزم به الطرفان عقودا، جرى تجاوزه، وهو ما يفسّر تهديد الرئيس السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديميتري ميدفيديف، حينما قال، في تعليقه على هذه التطورات، إن منطقة البلطيق لن تكون مكانًا خالياً من السلاح النووي، وأنه سيتوجب استعادة التوازن.

بلغت “الحالة الفنلندية” من أهميتها أن صارت مصطلحاً ضمن مصطلحات السياسة الدولية، يشار فيه إلى الدول الصغيرة التي تأخذ في اعتبار سياساتها مصالح جارتها الكبيرة مع الاحتفاظ باستقلالها وطريقة الحكم فيها. فنلندا التي نجحت في لعب دور المحايد والمنطقة العازلة إبّان الحرب الباردة كانت مثالاً مهماً على الصعيد الدولي.

بدبلوماسيةٍ هادئة، استطاعت فنلندا أن تكون جزءاً من الغرب، بقيمه الليبرالية واقتصاده المفتوح وديمقراطيته، لكن من دون أن تنضم إلى “الناتو”، أو أن تتعدّى الخطوط الحمر التي كانت مرسومة لها من موسكو. هذا التوازن جعل لروسيا بعض التدخلات في الشؤون الداخلية، والتي كانت الحكومات الفنلندية المختلفة تتعامل معها بقبول، متبعة ما كان يعرف بـ”مبدأ باسيكيفي”، في إشارة إلى الرئيس الفنلندي جوهو كوستي باسيكيفي الذي تولى الرئاسة بين عامي 1946-1956. وضع باسيكيفي أسس العلاقات الخارجية لمرحلة ما بعد الحرب العالمية، وأعطى فيها الأولوية لعلاقة جيدة مع روسيا، وهو ما كان يظهر في أكثر من سياسة، من قبيل الرقابة الفنلندية الصارمة ضد أي عمل يندّد بالاتحاد السوفييتي أو ينتقد النظام الشيوعي.

في الحرب الروسية الأولى على أوكرانيا في العام 2014، كان محللون يقرأون المعركة أنها من أجل تحييد أوكرانيا، أو بعبارة أخرى وضعها تحت “الحالة الفنلندية”، وهو ما كانت ترفضه أوكرانيا، وما جددت رفضه أواخر العام الماضي، حين اعتبرت أن من حقها أن تقرّر بشأن سياستها الخارجية وتحالفاتها، وهو الأمر الذي تسبّب في اندلاع الحرب.

يبرز هذا الاستعراض حجم التحول الذي أفرزته الأحداث في الشرق الأوروبي، وكيف أن دولة مسالمة مثل فنلندا بدأت في إعادة حساباتها، آخذة في الاعتبار أن تخلّي أوكرانيا عن سلاحها النووي لم يجعلها محلّ حماية الجميع، بقدر ما جعلها لقمة سائغة للطامعين. سوف نجد التحوّل نفسه عند دول أطلسية أخرى، مثل ألمانيا التي قرّرت زيادة الإنفاق العسكري، كما سنجده عند الجارة الاسكندنافية السويد التي يطرح فيها موضوع الانضمام لحلف الناتو على بساط البحث.

من الناحية العملية، يحتاج إكمال الانضمام بعض الوقت، فبالنسبة لفنلندا ولأنها دولة ديمقراطية، يجب الصبر حتى اكتمال الحلقة التشريعية والمرور عبر دعم الأحزاب والبرلمان. وعلى الجانب الآخر، حلف الأطلسي أيضاً، ومهما كان متعاطفاً أو راغباً، فإنه يأخذ بعض الوقت قبل الإعلان عن قبول عضو جديد.

المخاطرة هنا أن مجرّد بدء الإجراءات يمكن أن يعدّ سببًا كافياً بالنسبة للروس لإعلان الحرب التي لوّحوا بأنها قد تشمل رؤوساً نووية، وهذا خطر، لأن فنلندا لن تكون قد أصبحت بعد عضواً أطلسياً، أي أنها لن تكون مؤهلةً للاستفادة من المادة الخامسة التي تعد الاعتداء عليها اعتداءً على جميع دول الحلف. لحل هذه الإشكالية، يقترح أمين عام حلف الناتو، ستولتنبيرغ، تقديم ضمانات لفنلندا بمجرّد شروعها في إجراءات الانضمام، بما يكفل حمايتها أسوة بدول الحلف الأخرى، وإن لم تكن أصبحت عضواً رسمياً بعد. هنا يبرز سؤال مهم، نضعه في الاعتبار على خلفية القصة الأوكرانية: كيف يمكن الوثوق في وجود هذه الضمانات، وماذا إذا ما كانت دول الحلف، التي تشجع فنلندا حالياً على اتخاذ هذه الخطوة، تريد فقط مزيدًا من الاستنزاف للقوات الروسية، ثم تقف مكتوفة الأيدي، من دون أن تحرّك ساكنًا؟

العربي الجديد

————————–

ثقافة الحرب العالمية… أو عندما يغدو الناتو معسكراً تقدمياً/ محمد سامي الكيال

تثير رغبة كل من السويد وفنلندا بالانضمام لحلف الناتو عدداً من الأسئلة، التي تتجاوز التداعيات السياسية والاستراتيجية المباشرة لهذه الخطوة، لتصل إلى طبيعة التفكير «التقدمي» في عصرنا، إذ لا يوجد مثال لليسار الليبرالي أفضل من حكومتي هذين البلدين الإسكندنافيين: أحزاب ديمقراطية اجتماعية في السلطة، أوصلت امرأتين، لهما سمت تقدمي واضح، إلى سدة الحكم، وسط منظومة تشريعية وإعلامية وثقافية معنية بكل أشكال «التمكين». عندما يتكلم اليسار المعاصر، وخاصة الأمريكي، عن «نموذج إسكندنافي» فهو يعني أساساً السويد وفنلندا، وليس النرويج والدنمارك بميلهما القومي واليميني.

واليوم يبدو أن هذه التقدمية الفائقة لن تكتمل وتحمي نفسها إلا بالانضمام لحلف الناتو، فهل بات الانضواء ضمن أحلاف عسكرية مدججة بالسلاح النووي الخيار الأمثل لليسار الليبرالي، وثقافته المشغولة دوماً بتفكيك التهميش الناتج عن المركزية الغربية والذكورية؟

يزداد الأمر خطورة لدى رصد التطورات الأخيرة للحرب الأوكرانية، فالإعلام الروسي يتحدث عن «بداية حرب عالمية ثالثة» ويحذّر من «نتائج وخيمة» لتوسيع الناتو ليصل إلى الجارين الإسكندنافيين. هل سيصبح التقدميون إذن شرارة حرب عالمية مدمرة؟ والأهم هل في التفكير الليبرالي اليساري المعاصر ما يؤهله ليصبح ثقافة وأيديولوجيا للحرب الكونية؟

قد لا يبدو موقف هذا النوع من اليسار مفاجئاً أو غير مسبوق تاريخياً، في الحرب العالمية الأولى اتخذت أحزاب الديمقراطية الاجتماعية، المنضوية آنذاك في الأممية الثانية، موقفاً مؤيداً للحرب، وبحجج مشابهة للحجج الحالية. في ألمانيا تحدث قادة اشتراكيون عن خوفهم من تسلطية القيصر الروسي، وقدرته على تدمير حريات الطبقة العاملة ونقاباتها في حال تقدمه في أوروبا، بل إن ممثلين عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني صوتوا لتخصيص خمسة مليارات مارك لدعم المجهود الحربي. اليوم يرصد المستشار الألماني الديمقراطي الاجتماعي أولاف شولتس مئة مليار يورو لبناء جيش ألماني، في إطار المواجهة المفتوحة مع روسيا. في فرنسا كان الحال مشابهاً، فقد رأى الديمقراطيون الاجتماعيون هناك تهديداً كبيراً لحرياتهم في أطماع القيصر الألماني، فانضم كثير منهم إلى معسكر الحرب ضد الألمان، التي أزهقت مئات آلاف الأرواح. من الجدير بالملاحظة أن اليسار حينها تورّط في تلك المواقف، رغم أنه كان ذا نزعة اجتماعية وطبقية بمعنى الكلمة، فكيف سيكون حاله اليوم بعد أن غدا «ليبرالياً» تماماً.

كُتب كثير من الدراسات التاريخية في ما بعد، في محاولة لفهم وتفسير موقف اليساريين آنذاك. ومع أنه لم يئن بعد أوان التحليل التاريخي لنزعة «التقدميين» اليوم نحو الناتو، من الممكن طرح بعض الأسئلة: كيف ولماذا يصبح موقف أيديولوجي قائم على التسامح، كما هو مفترض، استقطابياً لهذه الدرجة؟ وهل لم يعد هنالك موضع لنزعة سلمية في الثقافة «التقدمية» المعاصرة؟

الطليعة المحافظة

ما يميز كثير من أنصار النزعة «التقدمية» اليوم عن الديمقراطيين الاجتماعيين في الحرب العالمية الأولى، أن موقفهم لا يبدو مجرد اتباع لقرار جهات سياسية محافظة بدعم الحرب، بل هم غالباً في طليعة المطالبين بموقف متشدد تجاه روسيا، بما يشمل الدعم العسكري لأوكرانيا أياً كان الثمن، الحصار الاقتصادي الشامل لموسكو، وتصليب حلف الناتو لمواجهة الخطر الروسي. في الولايات المتحدة يتسم موقف الرئيس بايدن، المجامل لـ»التقدميين» بشدة، سواء في مشروع «الصفقة الخضراء الجديدة» أو في تمكين فئات «مهمشة» في مختلف مؤسسات السلطة، بالعداء الواضح للقيادة الروسية، على خلاف سلفه الشعبوي ترامب، المتهم بمحاباة الروس. قد يكون السبب مفهوماً: تدعم روسيا مجموعة من الحركات الشعبوية في الدول الغربية، تهدد مكاسب مهمة، انتزعها التقدميون في السنوات الأخيرة. بالأصح تمثّل التسلطية الروسية الكابوس الذي يخشاه الآلاف ممن حصلوا أخيراً على نوع من الاعتراف ضمن المؤسسات القائمة: نساء وملونين ومثليين وأبناء أقليات، وشبابا بيضا يختلفون عن «الرجال البيض العجائز» يعيشون في المدن الكبرى على الأغلب، يشعرون بقلق دائم على نمط حياتهم المتسامح. ويتمنون في الوقت نفسه أن يسود وينتشر.

وعلى الرغم من التضخم والأزمة الغذائية، التي بدأت الفئات الأفقر تدفع ثمنها حول العالم، بما فيه الدول الغربية، لا يبدو نمط الحياة «التقدمي» قابلا للاهتزاز، ليس لأن التقدميين من سكان المدن الكبرى لا يتأثرون بانخفاض قدرتهم الشرائية وفقدان عدد من المواد الأساسية، بل لأن نمط حياتهم لا يتحدد فقط بالأوضاع المالية وأنماط الاستهلاك المادي، بل أيضاً بما يمكن تسميته مجازاً الاستهلاك اللامادي.

يمكن تعريف «التقدمية» اليوم بأنها أيديولوجيا عن الذاتية، تقوم على اعتبار الذات الفردية نمطاً من الملكية الخاصة، التي يجب أن تكون قابلة للتسويق والتداول والاستهلاك بحرية، ودون أي تشويش أو عوائق من بنى اجتماعية أو ثقافية مستقرة، وربما قد يكون هذا سبب استرسالها في الحديث عن الأذى والعدوان المصغّر اللذين تتعرض لهما الذوات الفردية في كل مكان. من الصعب وجود هذا النمط من الذاتية خارج المدن الكبرى، التي كانت دوماً الموطن المفضّل لاستثمار الفوائض الرأسمالية: عمليات التطوير الحضري، وخصخصة المساحات العامة، والانفتاح أمام رؤوس الأموال والعمالة الأجنبية، سواء الرخيصة، المهاجرة غالباً بشكل غير شرعي، أو المتخصصة، جعلت المدن بالفعل أكثر «تنوعاً». بهذا المعنى فقد لا يكون من الظالم القول إن «التقدمية» هي أيديولوجيا الرأسمالية المعاصرة. أو بعبارة أخرى، أكثر تعقيداً، نمط الذات في الشرط الرأسمالي المتأخر.

يجعل هذا من الفئات «التقدمية» سواء كانت من «البيض» أو أبناء الأقليات، محافظة بالضرورة، فوجودها الذاتي الهش، المعاد توطينه على عجل في مدن لا ترحم، مهدد دوماً من خطر خارجي: ما تبقى من المجتمعات الأهلية المحافظة، الطبقة العاملة البيضاء الرجعية، الأنظمة التسلطية الخارجية، المتهمة بدعم أعدائها الأيديولوجيين الكثر، ولذلك فإن معاركها غالباً ما تكون للحفاظ على الوضع القائم، وليس تغييره.

الإخلاص اليساري

قد لا يكون اليسار الليبرالي يخون طبقته اليوم بتأييده للحرب، كما اتُهم الديمقراطيون الاجتماعيون في ما مضى، بل الأكثر إخلاصاً لفئات اجتماعية مشتتة، تشكل قاعدته الانتخابية الأساسية.

إلا أن هذه الفئات ليست طبقة، بالمعنى السياسي للمفهوم، لأن نمط الذاتية المفردن أساسي في تكوينها، ما يجعلها تعجز عن الفعل الاجتماعي المستقل، وتعتمد دوماً على مؤسسات منظمة بشكل هرمي وغير ديمقراطي: المؤسسات الثقافية والإعلامية للتيار الرئيسي، المنظمات غير الحكومية، الأجهزة البيروقراطية والتكنوقراطية للدولة. وعندما تريد أن تخوض حرباً، تراها عادلة، فليس من الغريب أن تلجأ إلى تأييد تجمع عسكري قائم، يصعب الحديث عن تاريخ مشرّف له، مثل الناتو.

أدرك الديمقراطيون الاجتماعيون والشيوعيون، في حقبة الحرب العالمية الأولى، أن عماد الجيوش المتحاربة سيكون الطبقة العاملة، ولذلك بنوا مواقفهم، سواء كانت مؤيدة للحرب أو مناهضة لها، على أساس الموقف المستقل الذي يمكن أن تتخذه تلك الطبقة. اليوم لا إمكانية للاستقلال عما تقرره القوى الفائقة، التي قد ترى في هذه الحرب مصلحة لها، سواء كانت حكومات أو شركات. فالسؤال الذي ربما يكون مطروحاً على الذات الفردية الهشة، العاجزة عن الفعل الاجتماعي: ما البديل عن هذه القوى، القادرة وحدها على حماية حرياتك المهددة؟ قد يكون الناتو، رغم كل مركزيته الغربية وعدوانيته، هو الحل.

السلام المستحيل

لم تقم النزعة السلمية في ما مضى على إنكار دوافع العنف في المجتمعات الإنسانية، بل على محاولة التمييز الجدلي بين الحروب العادلة وغير العادلة، عن طريق طرح سؤال إشكالي: ما الحرب التي يمكن عبر خوضها الوصول إلى السلام للجميع؟

جواب البلاشفة وأنصارهم من الشيوعيين الأوربيين في الحرب العالمية الأولى كان الحرب الأهلية، أي أن توجه الطبقة العاملة سلاحها ضد حكوماتها لإيقاف الحرب العبثية، وإقامة أنظمة أكثر عدلاً. أما في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية فقد كان الجواب هو دعم حركات التحرر الوطني، لتفكيك بقايا الإمبراطوريات الاستعمارية، ومواجهة الإمبريالية، التي اعتبرت مولّدة للحروب، مع الحذر من الانزلاق لحرب نووية مدمرة للحضارة الإنسانية.

يبدو التوصّل لنزعة سلمية من هذا الطراز شديد الصعوبة في أيامنا، إذ لا يوجد هدف أبعد من الحفاظ على وضع قائم، تساهم تناقضاته بتصعيد النزاعات العسكرية، والأزمات الاقتصادية والغذائية، والتهديد النووي؛ كما لا توجد قوى اجتماعية مستقلة قادرة على خوض حروب السلام الخاصة بها.

قد لا تكون الدعوة للسلام تخلياً عن الشعب الأوكراني، كما أن الإصرار على تصعيد المواجهة ليس أفصل نصير لقيم التنوّع والتسامح، فهذا العالم يصبح أكثر فقراً وانغلاقاً وتعصباً، ولذلك فإن رهان «التقدميين» على مؤسسات مثل الاستخبارات الأمريكية والبريطانية؛ جيش شولتس المزمع بناؤه؛ توسيع الناتو وصولاً إلى جيران روسيا الليبراليين، قد يخيّب آمالهم مستقبلاً.

كاتب سوري

القدس العربي

——————————–

بوتين يشيد بالسيطرة على ماريوبول:ممنوع خروج ذبابة

أشاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخميس، بسيطرة قواته على ماريوبول، المدينة المرفئية الاستراتيجية في جنوب شرق أوكرانيا، واصفا إيّاها ب”الخطوة الناجحة” لكن مع تفضيله راهناً محاصرة آخر المقاومين في المدينة بدلاً من استهدافهم بهجوم نهائي.

ويتحصّن الجنود الأوكرانيون المقاومون في مصنع “آزوفستال” الكبير لصناعة الصلب في هذه المدينة الساحلية الواقعة في أقصى جنوب إقليم الدونباس والتي استحالت كومة ركام بعدما قصفتها القوات الروسية وحاصرتها قرابة شهرين. ويرفض هؤلاء الاستسلام وقد طالب معاون قائد كتيبة “آزوف” سفياتوسلاف بالامار عبر تلغرام ب”ضمانات” أمنية من “العالم المتحضّر” قبل الخروج.

ويؤكّد الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي أنّ “نحو ألف مدني وامرأة وطفل” و”مئات الجرحى” يتحصّنون معهم في المجمّع.

وفي هذا السياق، اعتبر الرئيس الروسي “الهجوم المقترح على المنطقة الصناعية غير مناسب”، آمراً ب”إلغائه”، بحسب ما قال خلال اجتماع مع وزير الدفاع سيرغي شويغو بثّ التلفزيون الروسي مقتطفات منه. وقال: “لا بدّ من مراعاة… حياة جنودنا وضبّاطنا وصحّتهم وينبغي عدم خوض هذه الدياميس والزحف تحت الأرض”.

وأردف “حاصروا كلّ هذه المنطقة بحيث لا تمرّ منها ذبابة واحدة”. وبعد إنذارات وجّهها الجيش الروسي إلى المقاتلين الأوكرانيين، دعا بوتين هؤلاء إلى الاستسلام، متعهّدا بالحفاظ على سلامتهم و”معاملتهم معاملة لائقة”.

استئناف عمليات الإجلاء

وأبلغ شويغو بوتين بأنه “ما زال حوالى ألفي مقاتل في مصنع الصلب” فيما لم يأتِ وزير الدفاع الروسي على ذكر أيّ مدنيين بينهم.

وتخشى السلطات الأوكرانية أن يكون أكثر من 20 ألف شخص قد لقي حتفه في ماريوبول بسبب المعارك من جهة ونقص القوت والمياه والكهرباء من جهة أخرى. ويسيطر الجيش الروسي على جزء كبير من المدينة منذ أيّام وهو واكب صحافيين أجانب في جولة على المواقع التي استولى عليها.

وخلال الحصار المفروض على المدينة، كانت عمليات إجلاء المدنيين نادرة ومحفوفة بالمخاطر، غير أن نائبة رئيس الوزراء إيرينا فيريشتشوك كشفت الخميس أن أربع حافلات لإجلاء المدنيين غادرت المدينة. وهي في طريقها إلى زابوروجيا على بعد مئتي كيلومتر في رحلة قد تستغرق أيّاماً بسبب نقاط التفتيش المتعدّدة في المنطقة الواقعة في جنوب شرق أوكرانيا حيث تتواصل المعارك.

قصف متواصل

وفي المنطقة المتبقية من دونباس وفي جنوب البلد، تواصل القوّات الروسية “قصفها المدفعي على امتداد جبهة القتال”. وتحتدم المعارك في منطقة إيزيوم خصوصا مع “قصف متواصل” في بوباسنا وروبيجني في منطقة لوغانسك وضربات جديدة على ميكولاييف في الجنوب على الطريق المؤدّي إلى أوديسا، ما تسبب بمقتل شخص وإصابة اثنين، بحسب حاكم المنطقة فيتالي كيم.

وكتب حاكم لوغانسك سيرغي غوداي على “تلغرام”: “الوضع يزداد تعقيداُ ساعة بعد ساعة”. وكرّر مجدداً دعوته إلى المدنيين: “احتموا (…) ارحلوا!”.

وفي بوروديانكا الواقعة في منطقة كييف والتي احتلّتها القوّات الروسية في آذار/مارس، أكّدت السلطات المحلية الخميس، أنها عثرت على تسع جثث جديدة لمدنيين قتلوا على أيدي الروس. وقال قائد الشرطة المحلية أندري نيبيتوف عبر “فيسبوك” إن “هؤلاء الأشخاص قُتلوا على أيدي المحتلين (الروس) وبعض الضحايا عليهم آثار تعذيب”.

وفي تصريحات لوكالة فرانس برس من مدينة بوروديانكا، قالت نائبة رئيس الوزراء الأوكراني أولغا ستيفانيشينا إن “1020 جثّة ليست سوى لمدنيين هي في مشارح منطقة كييف”.

حرب طويلة الأمد

وفي حين يبدو أن معاناة ماريوبول قد شارفت نهايتها، يُرجّح أن تكون المعارك للسيطرة على منطقة دونباس بكاملها وعلى جزء من الجنوب الأوكراني طويلة الأمد.

وقد تشكّل ماريوبول نقطة وصل بين القوّات الروسية في شمال دونباس وتلك في القرم وتتيح إيفاد مزيد من الجنود لتعزيز المواقع الروسية على جبهة القتال إلى الشمال، ما قد يطيل أمد الحرب، خصوصا مع تسلمّ الأوكرانيين في الأيّام الأخيرة مساعدات عسكرية أكبر، أكان من الأميركيين أو من الشركاء الآخرين.

وبعد تردد طويل، أشارت إسرائيل إلى أنها وافقت للمرة الأولى على إرسال معدات واقية (خوذ وسترات واقية من الرصاص) إلى الجيش الأوكراني بينما أعلنت النروج أنها زوّدت كييف بمئة صاروخ مضادّ للطائرات من تصميم فرنسي.

وفي زيارة إلى كييف حيث التقى زيلينسكي، أكد رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل الأربعاء، أن الاتحاد الأوروبي سيفعل “ما بوسعه لدعم أوكرانيا وضمان كسبها الحرب”. ووعد خصوصاً بأن تستهدف عقوبات قريبا صادرات النفط والغاز الروسية، كما يطالب الرئيس زيلينسكي.

ووصل الخميس إلى كييف رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز برفقة نظيرته الدنماركية ميتي فريديريكسن للقاء الرئيس زيلينسكي.

من جهته، اتّهم وزير الخارجية التركية مولود تشاوش أوغلو الذي تحاول بلاده التوسّط لحلّ النزاع “دولا من حلف شمال الأطلسي” بسعيها إلى “استمرار الحرب” بحيث “تضعف روسيا”.

ويخشى بعض الدبلوماسيين الغربيين من جانبهم أن تزعزع حرب طويلة الأمد أسس التحالف العسكري الذي فرضت دوله عقوبات غير مسبوقة بشدّتها على روسيا. وإذا تركّزت المعارك في منطقة دونباس، بعيداً عن كييف وعن حدود الحلف الأطلسي، قد يتضاءل الحسّ بالوحدة وبضرورة التحرّك مع الوقت و”هذا هو الرهان”، على ما قال دبلوماسي لوكالة “فرانس برس”.

—————————-

روسيا التي أرهقت العالم… بـ”التفاهة”/ شفان ابراهيم

لعل المظاهر جزءً من نظام “التفاهة” القائم على الخطاب الخداع، خاصة وأن الكسالى المدافعين عن الحرب الروسية ضد أوكرانيا، لا يزعجون ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث واستعراض خفايا الأمور.

 صدق من قال: المظاهر خدّاعة، ويبدو أن التحكم بالمرادفات والألفاظ أمر سهل جداً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونخبه الإعلامية والسياسية على شاشات التلفزة وما يقدمونه من ألفاظ حول جمالية التدخل الروسي في سوريا وأوكرانيا. ولعل المظاهر جزءً من نظام “التفاهة” القائم على الخطاب الخداع، خاصة وأن الكسالى المدافعين عن الحرب الروسية ضد أوكرانيا، لا يزعجون ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث واستعراض خفايا الأمور، فتغيب عنهم البصيرة في رؤية روسيا تسحق حريات الشعوب، حيث يقول ألان دون في كتابه “نظام التفاهة”: “المهارة الأولية التي ينبغي تعليمها للناس ليست مهارة اعتناق الرأي، بل مهارة “لا-اعتناقه”: أي القدرة على ترك مسافةٍ بين النفس والرأي، مع مقاومة أراء الانتماء إلى معسكرٍ فكري رغم عدم القدرة على اتخاذ القرار”. وإن للتفاهة أداةٌ لغوية هامة هي “اللغة الخشبية” أي اللغة الجوفاء، والنطق بتحصيل حاصل القائم على الحشو أو مجرد التكرار بألفاظ مختلفة… وكأن في أمر الهجوم والحرب قضيةً جديدةً تدفع بمعرفتنا إلى الأمام!

هكذا هو حال التبريرات الروسية في اجتياح أوكرانيا، وحربها ضد رغبة وحرية اختيار الشعب الأوكراني مصيره وحيواته.

لم يأت المشهد الروسي العسكري ضد أوكرانيا بالجديد أو المخالف عن أسباب تواجده في سوريا، فهي كما يزعم الرئيس بوتين تأتي رفضاً لسياسة القطب الواحد، وإن العالم أصبح متعدد الأقطاب. لكن ماذا فعلت هذه التعددية بالعالم الذي قالت روسيا إنها جاءت لحمايته؟

في الأمس كانت ألسنة النظام الروسي تلوك علانية قصة مساهمتها الفعالة في انتصار السوريين على السوريين، وهي التي لم تكلّف نفسها عناء إيجاد مخرجً للحفاظ على سوريا وإيجاد مشتركات وتقاطعات بما يحفظ لسوريا مكانتها وجغرافيتها، عوضاً عن المساهمة في تدمير مساحات شاسعة، وتشريد وقتل الملايين. دولة عظمى لا تجد حلولاً لطموحات شعبٍ يرغب بحريته! لكنها تجد آلاف الحلول العسكرية عوضاً عن ذلك. فتدخلت في سوريا منذ العام 2015 بحجة ملاحقة فلول داعش الذي انتهى وجوده ككتّلة تنظيمية صُلبة منذ نهاية ذلك العام في الباغوز. بل إن تواجده(التنظيم الإرهابي) الضعيف بين الحين والأخر وإن أخذ طابع التنظيم وإعادة الترتيب كما حصل في أحداث سجن الحسكة، يبدو في مضمونه رسائل أثبات وجود فاشل لا أكثر، وتواجده بطبيعة الحال ينحصر في الشمال الشرقي، فلماذا لم تنسحب بعد إعلان انتهاء أسباب تواجدها؟ أم إن مهمة القوات الروسية لجم كُل صوتٍ مخالف لسياساتها، خاصة وأن التدخل العسكري الروسي شكّل العلامة الفارقة في تاريخ الحدث السوري، فتغيرت موازين القوى على الأرض، وتمكنت روسيا من حصار قوات المعارضة السورية وخسارتهم لمناطق إستراتيجية.

يبدو أن روسيا ترسم معالم حياة شديدة القسوة، بدءاً من تدخلها في سوريا، وليس من المعلوم هل ستنتهي في أوكرانيا.

 اليوم، تستدرج روسيا لحربها ضد أوكرانيا، عناوين تاريخية وجغرافية انتهى مفعولها بفعل الرغبة الشعبية والقرار الجماهيري. ولم تتحامل على نفسها وتدخل في حواراتٍ، أو تتفهم طبيعة النظام السياسي في أوكرانيا بعد الثورة التي أطاحت برئيسها السابق فيكتور يانوكوفيتش، بل تذهب بعيداً في  وحشيتها حينما تلجأ إلى التهديد باستخدام السلاح النووي.

لم يخطئ من قال “الأزمات مختبر العقول” وهي المشكلة –التحدّي الذي يُجلي الغمامة عن حجم التحكم الشخصي بالانفعالات والكاشف عن مستوى الوعي الفردي والجماعي، حتّى الأنظمة ذاتها في حلّ مشاكلها الداخلية أو مع دول الجيران. عدد لا يستهان به من دول العالم إمّا لا تتمكن من حماية نفسها، أو لا تخلو من المشاكل الداخلية، ومن صراع القوميات بين الأكثرية والأقلية، أو الصراع بين الهويّات الفرعية مع الهويّة السائدة. ووفقاً لما تسوقه روسيا وتمنح نفسها من شرعنة التدخل في أوكرانيا، وهي بطبيعة الحال تبريرات مخيفة ومُضطربة، فإنه يجوز أن تأكل الدول القوية نظيرتها الأقل قوة منها، وتنحصر لغة العنف والسلاح كأداة وحيدة للتواصل والحوار لحل الخلافات. 

تستمر روسيا في خرق القانون الدولي، وهذا الأخير بطبيعة الحال جعلت موسكو منه سيفاً على رقاب الدول الفقيرة والضعيفة فقط، وها هي تجتاح دولة أخرى ذات سيادة كاملة، ولم يطلب النظام الأوكراني منها ذلك، فعمّقت موسكو تفعيل لغة السلاح والقوة العسكرية، كلغة وحيدة في وجه رغبة شعبٍ يتطلع للرفاهية والعدالة الاجتماعية.

ويبدو أن روسيا ترسم معالم حياة شديدة القسوة، بدءاً من تدخلها في سوريا، وليس من المعلوم هل ستنتهي في أوكرانيا؟

التدخل يمهّد لمستقبل أسود للحريات والديمقراطية في العالم، وموسكو تتماهى مع الحكومات القمعية التي تمارس العنف ضد شعوبها، وتغذي النزعات المركزية في الحكم، لتكون المستفيدة بطبيعة الحال، كونها تسعى لإعادة أمجاد إمبراطوريتها، وخلق كتّلة سياسية-بشرية في مواجهة التواجد الأمريكي-الأوربي في العالم. 

تبدو روسيا مُلزمة بحماية وتغذية تلك الكتّلة من الدول الساعية للحفاظ على هيمنة العسكرة على الحياة العامة، وتغاضيها عن تفضيل الدول الصديقة لها في سحق الحرية أمنياً وعسكرياً على الاستماع لمطالب المجتمعات المحلية، وتالياً رجحاناً لثقافة إركاع الشعوب والحريات وتمهيداً لتاريخً مدوٍ من الإلغاء والظلم الاجتماعي بانعكاساته على التوازن والتركيبة السياسية والبشرية حول العالم، خصوصاً أن الشرق الأوسط يعجّ بالنموذجين الروسي والأوكراني، فثمة من لا يزال يحلم بالمزيد من ممارسة العنف وصلافة التعامل مع الشعوب، وتغذية شبكات الفساد والإفساد والنهب، وإهمال دور المراكز العلمية، وإهمال الضرر الجذري العميق ببنية تلك الدولة وبشعوبها واقتصاداتها ودورها في المحيط الإقليمي. هؤلاء يجدون لدى روسيا القوة الهائلة التي تحميهم دوماً وأبداً. في المقابل، نجد دولاً وأنظمة أخرى تحلم بالنموذج الأوكراني والحصول على بطاقة العبور نحو الرفاهية الاقتصادية والتداول السلمي للسلطة والاحتكاك والاستفادة من التطور العلمي، وهذه الدول والأنظمة بحاجة إلى مد يد العون لها.  هي ذات الدينامية التي  تسعى روسيا من ورائها للسيطرة على أطراف محددة من العالم، وتدخل في شراكات مع أقطاب ودول أخرى ولا مشكلة أبداً للمزيد من المواجهات، والمزيد من القتل والاستهتار بالبطون الجائعة في ظل التداعيات الاقتصادية المريعة من وراء هجومها على أوكرانيا أو تدخلاتها في سوريا أو أي مكان أخر.

ولعل أبرز منجز حضاري للعالم الغربي، كان ولا يزال نجاحهم في لجم تضخم التوحش العسكري في قسم كبير من العالم، والزج به في حضن القانون، وتالياً تمكنت لعقود عديدة من إنهاء شريعة الغاب، ما أفسح المجال أمام الشعوب والدول التي لا تملك القوة والسطوة العسكرية أن تعيش بما لديها من إمكانيات دون خوف من هجوم أو غزوة بمجرد إنها تتطور وتسعى نحو الأفضل. وأوكرانيا التي تخلت عن سلاحها النووي في تسعينيات القرن الماضي، طمعاً باستقلالها وأمنها وسيادتها، تخلّت عن أخطر الأسلحة فتكاً، وتنازلت عن ترتيبها العالمي في سلاحه النووي، طمعاً بالانضمام إلى مجموع الأنظمة والدول التي تفضل رفاهية شعبها على ترسانتها العسكرية، إلا أن الرد والمكافأة جاءت في عقلية الجار التي نظرت إلى فعل التخلي على أنه ضعف وهوان، وها هي أوكرانيا تعيش حرباً تشكل أزمة أخلاقية لدول “الناتو” جميعاً، فإما التدخل وإنهاء الحرب، أو أن انتصار روسيا سيشكّل عودة إلى مرحلة قد تقلب حياتنا رأساً على عقب.

درج

—————————

روسيا وأوكرانيا والملاكم الأميركي/ غسان شربل

كان ذلك في نوفمبر (تشرين الثاني) 1989. تداعى جدار برلين، وتطايرت هيبته، وبعض حجارته. أوفدتني «الشرق الأوسط» لتغطية الحدث. رأيت الصحافيين الغربيين يتعاطون مع المشهد كمن يتعاطى مع عرس لم يكن متوقعاً. وكان الحدث كبيراً ومهماً وغير مسبوق. وحين عدت إلى الفندق القريب من الجدار، شعرت -أنا الصحافي الوافد أصلاً من الشرق الأوسط وأهواله- بشيء من القلق. كان جدار برلين حدود دولة وحدود إمبراطورية. ويزعم التاريخ أن تغيير حدود الإمبراطوريات يطلق وجبات دموية باهظة. وحين هاجر الاتحاد السوفياتي لاحقاً إلى المتاحف، شممت في شوارع موسكو رائحة هزيمة حادة لا يمكن أن تُسلِّم بها إلى الأبد روسيا التي تجيد الانتظار تحت الثلج، مصابة بهاجس الحصار.

هل كان الكرملين ليسمح بانهيار حدود الإمبراطورية، لو كان اسم سيده آنذاك فلاديمير بوتين وليس ميخائيل غورباتشوف؟ وهل الوجبة الدموية الحالية هي البديل لتلك التي لم تحصل يوم تطاير لحم الاتحاد السوفياتي، وقفزت جمهوريات بأكملها من قطار بلاد لينين؟ وهل تتحمل الإمبراطورية التي انتصرت يوم انهيار الجدار جزءاً من المسؤولية عما يحدث اليوم، بسبب الأسلوب الذي أدارت به عالم ما بعد سقوط الجدار؟

تملك الولايات المتحدة قدرات هائلة. أرقى الجامعات، وأبرز مراكز الأبحاث. الاقتصاد الأول في العالم، ومفاتيح الثورات التكنولوجية المتلاحقة. تملك أيضاً آلة عسكرية هي الأكثر تطوراً في التاريخ. تستطيع القوة الأميركية الوصول إلى أي نقطة في العالم؛ لكن السياسة الأميركية لم تظهر قدرتها على فهم كل أجزاء العالم، وأن تكون مقنعة فيه.

راودني هذا الشعور بوجود سوء تفاهم عميق بين أميركا وأجزاء واسعة من العالم، خلال متابعتي للشأن العراقي. لنترك جانباً مسألة المبررات غير المقنعة لتغطية الغزو، وبينها علاقة نظام صدام حسين بالإرهاب و«القاعدة»، والمعامل البيولوجية الجوالة. حاولت على مدى سنوات العثور على إجابة عن أسباب إقدام الاحتلال الأميركي على حل الجيش العراقي. سألت خصوصاً من أيدوا الغزو الأميركي للتخلص من صدام، ولم يستطع أحد منهم تقديم جواب مقنع. هل يعقل مثلاً ألا تدرك دولة مثل الولايات المتحدة خطورة شطب الجيش العراقي في المثلث العراقي- الإيراني- التركي الذي ينام على توازنات تاريخية وجروح كامنة؟

لنترك الشرق الأوسط باعتباره ينتمي إلى ثقافة أخرى، وتلتقي على أرضه أحقاد التاريخ بكمائن الجغرافيا. هل يحق للولايات المتحدة ألا تقدر حجم القلق الذي ينتاب روسيا حين ترى حلف «الناتو» يحرك بيادقه باتجاه حدودها؟ وإذا كنا نحن الصحافيين ندرك أن بوتين يحمل في روحه جرحاً نازفاً اسمه الاتحاد السوفياتي، فكيف يغيب ذلك عن مهندسي السياسة في البيت الأبيض والخارجية الأميركية؟ لا أريد الذهاب إلى حد القول إن بوتين الذي دخل الكرملين عشية القرن الحالي اصطحب معه جثة الإمبراطورية التي توارت؛ لكن الأكيد أنه يتهم الغرب باغتيال الاتحاد السوفياتي.

كان بوتين مقيماً قرب الجدار حين تداعى، وكان مجرد ضابط يحلم بالصعود في عائلة الـ«كي جي بي». يعرف تماماً أن اغتيال الجدار والإمبراطورية تم من دون إطلاق رصاصة واحدة. لم يقصف حلف «الناتو» الإمبراطورية السوفياتية بصواريخه. قصفها بما يعتبره جاذبية نموذجه. جاذبية التقدم التكنولوجي والاقتصادي والبرلمانات والحريات. وربما بسبب ذلك تصاعدت حساسية بوتين حيال الثورات الملونة، ورأى فيها الشق الخطر المكمل لبرنامج تحريك البيادق لتطويق بلاده.

معركة بوتين ليست مع جو بايدن. ولا مع بوريس جونسون. إنها قبل ذلك معركة مع النموذج الذي خرج منتصراً في العقد الأخير من القرن الماضي، ويعتبر نفسه الدواء الوحيد والممر الإلزامي إلى التقدم والمستقبل.

غداة اغتيال الاتحاد السوفياتي، أو انتحاره، خرجت أميركا في صورة الملاكم الأكبر. راجت تعابير القوة العظمى الوحيدة، والقطب الواحد، ونهاية التاريخ، وغيرها. ويروي التاريخ أن الانتصارات المدوية تدس قدراً من الغرور في عروق المنتصر. الانتصار الهائل قد يدفع في اتجاه الغطرسة. وأحياناً يصاب الملاكم الكبير بالعجز عن الاستماع إلى مطالب الملاكمين الآخرين، مكتفياً بمطالبتهم بالاقتداء به وتقليده. تغيب عن باله ضرورة الإنصات العميق إلى هواجس الطرف الآخر، وتطلعه المُحِق إلى بناء العلاقة على قاعدة توازن المصالح والتفاهم العميق، وإدراك الخصوصيات واحترامها.

يقع الملاكم الكبير في إغراء فرض قواعده المستوحاة من مصالحه على القواعد التقليدية للعبة. ينتابه ميل إلى اعتبار الانتصار ثابتاً ودائماً، وليس وليد زمان ومكان تهب عليهما رياح التغيير. يصل به الأمر إلى حد عدم الاعتراف بصعود ملاكمين جدد، وحقهم في احتلال مواقع تتناسب وقدراتهم الحالية. تراوده أحياناً فكرة تطويق الملاكمين الجدد، واستنزافهم وإلزامهم بالتقيد بالقواعد التي فرضها خلال مراحل ضعفهم.

هل غاب عن بال صناع القرار في واشنطن أن الملاكم الأميركي استنزف جزءاً غير يسير من قدراته في العقدين الماضيين، وتحديداً في حربي أفغانستان والعراق، فضلاً عن الحرب على الإرهاب؟ وهل غاب عن بالهم أن روسيا بوتين هي غير روسيا يلتسين؟ وأن صين شي جينبينغ لا تشبه صين ماو التي زارها هنري كيسنجر في بداية السبعينات، ليلعب «الورقة الصينية» ضد الاتحاد السوفياتي؟ وهل فاته أن خوف الهند التقليدي من الصين لا يعني أن العملاق الهندي سيأتي بلا شروط إلى بيت الطاعة؟

تغيرات كثيرة أصابت الاقتصادات والترسانات. وخبرات تراكمت بفعل تجربة التعامل مع الولايات المتحدة. الدول ليست جمعيات خيرية. لديها مصالحها ومخاوفها، ويمكنها أيضاً التذكير بأوراقها. هكذا تبدو الحرب الروسية في أوكرانيا وكأنها الزلزال الذي يفتح ملف قيادة العالم.

تاريخ 24 فبراير (شباط) الماضي، أهم وأخطر من كل التواريخ التي حفظناها في العقود الماضية. ففي ذلك اليوم انطلقت الدبابات الروسية لتجتاح أوكرانيا، وكأنها تعلن أن عالم ما بعد سقوط الجدار انتهت مدة صلاحيته، وأن قيادة العالم الجديد لا بد من أن تكون متعددة الأطراف. ما يجري على أرض أوكرانيا أكبر بالتأكيد من أوكرانيا.

يجدر بالملاكم الأميركي أن يعيد النظر في رؤيته وأسلوبه، وأن يتقبل دخول الملاكمين الجدد إلى الحلبة. لقد تغير العالم. تغير الأعداء وتغير الحلفاء، وقد نكون في الطريق إلى نظام دولي جديد، شاء حظ أوكرانيا العاثر أن يبدأ من ركامها.

الشرق الأوسط

———————-

الحرب الأوكرانية: انكشاف الأمن الغذائي العربي/ صباح نعوش

روسيا وأوكرانيا من أكبر الدول المصدِّرة للمواد الغذائية، وقد أوقفت الحرب بينهما تصدير كميات كبيرة منها، وكانت عدة دول عربية من المتضررين الرئيسيين لأن أمنها الغذائي كان مكشوفًا أمام الصدمات من قبل، وأخفقت في توفير بدائل للوقاية منها.

 تحتل روسيا وأوكرانيا مكانة عالمية مرموقة في تصدير المواد الغذائية لاسيما الحبوب(1). أدت الحرب القائمة بينهما إلى توقف التصدير خاصة من الجانب الأوكراني فانخفض العرض. انعكس هذا الوضع على الدول العربية التي تعتمد على أوكرانيا في إشباع حاجاتها فارتفعت أسعار المواد الغذائية الرئيسة. ترتب على ذلك تداعيات اجتماعية وأحيانًا سياسية اختلفت حدَّتها من دولة إلى أخرى. وهكذا تراجع الأمن الغذائي في عدة بلدان كاليمن ولبنان وتونس وموريتانيا ومصر والعراق. بيد أن الحرب الروسية-الأوكرانية ليست السبب الرئيس لهذا التقهقر. لكنها بلا شك أثقل من القشة التي قصمت ظهر البعير.

اختلاف مستويات الأمن الغذائي

الأمن الغذائي مصطلح يطلق على حالة تستجيب لأربعة شروط: الشرط الأول: كفاية المواد الغذائية للاستهلاك المحلي. سواء تأتَّت هذه المواد من الإنتاج المحلي أم من الخارج بشكل واردات وبشكل مساعدات. والشرط الثاني: الإمكانية المالية للأفراد للحصول على هذه المواد. والشرط الثالث: الاستقرار في تلبية الطلب المحلي من حيث الفترة الزمنية. والشرط الرابع: صلاحية المواد للاستهلاك البشري دون تعرض الصحة للخطر.

ينبغي إذن عدم الخلط بين الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي رغم العلاقة الوطيدة بين الحالتين. الاكتفاء الذاتي يعني الاستقلال الغذائي في حين تسهم الواردات والمساعدات الخارجية في الأمن الغذائي. كما يتراجع الأمن الغذائي إذا ارتفعت أسعار المواد في حين قد لا يتحقق الاكتفاء الذاتي عن طريق تشجيع المنتجات المحلية إلا برفع أسعارها.

أثَّرت الحرب الروسية-الأوكرانية على الأمن الغذائي العربي من جانبين:

الجانب الأول يرتبط بالشرط الأول المشار إليه أعلاه؛ حيث تعتمد غالبية البلدان العربية على أوكرانيا وروسيا في استيراد المواد الغذائية لاسيما الرئيسة كالقمح لرخص سعرها مقارنة بالمواد المماثلة المصدَّرة من قبل دول أخرى. وترتفع المعاناة بارتفاع نسبة الاعتماد؛ فالأزمة في تونس مثلًا تتأتى من أن الحبوب الأوكرانية والروسية كانت تسهم في تلبية 60% من الطلب.

الجانب الثاني يتعلق بالشرط الثاني؛ فبسبب هذه الحرب هبط عرض المواد الغذائية على الصعيد العالمي نظرًا لتوقف أوكرانيا عن التصدير. لذلك، ارتفعت أسعار المواد الغذائية خاصة الحبوب في جميع أنحاء العالم: انتقل سعر طن القمح من 285 دولارًا، في 18 فبراير/شباط 2022 (قبيل الحرب)، إلى 426 دولارًا، في 13 أبريل/نيسان 2022، أي بزيادة قدرها 49%. كما ارتفع سعر طن الذرة خلال هذه الفترة من 271 دولارًا إلى 378 دولارًا أي بنسبة 39%.

وهكذا ارتفعت أسعار المواد الغذائية في البلدان العربية فهبط مستوى المعيشة خاصة في الدول الفقيرة كاليمن المصنف دوليًّا ضمن البلدان الأقل نموًّا في العالم.

يستورد اليمن سنويًّا مليوني طن من الحبوب من روسيا وأوكرانيا أي ما يعادل نصف الكمية الضرورية للاستهلاك. لم تقد الحرب الروسية-الأوكرانية إلى انقطاع هذه الكمية فحسب بل كذلك إلى صعوبة إيجاد دول أخرى بديلة تبيع المواد الغذائية بسعر منخفض. جاءت هذه الحرب لتزيد من معاناة اليمنيين الذين يخوضون حربًا مدمرة منذ سبع سنوات.

قاد ارتفاع أسعار المواد الغذائية الرئيسة إلى تزايد عدد الفقراء وتفاقمت أزمة المجاعة. حسب آخر التقارير الدولية، 17.4 مليون يمني يحتاجون إلى مساعدات غذائية أي أكثر من نصف عدد السكان، ويزداد العدد بمعدل يفوق المليون شخص سنويًّا(2).

وبالمقابل، لم ينجم عن الحرب الروسية-الأوكرانية نقص في غذاء دول أخرى كالإمارات وقطر بل أفضت إلى تحسين حالتها المالية.

لذلك، يمكن تقسيم البلدان العربية من حيث درجة تأثرها بهذه الحرب إلى مجموعتين:

المجموعة الأولى: دول مجلس التعاون الخليجي؛ حيث أدت الحرب الروسية-الأوكرانية إلى ارتفاع أسعار النفط فازدادت إيرادات هذه الدول بصورة كبيرة. ارتفاع هذه الإيرادات امتص بسهولة ارتفاع وارداتها من المواد الغذائية.

كما تختلف هذه المجموعة عن البلدان النفطية الأخرى (ليبيا والعراق) لعدم وجود صراعات داخلية عنيفة فيها. أضف إلى ذلك المقدرة الشرائية العالية للخليجيين الناجمة عن دخولهم الفردية. بلغ الدخل الفردي في السعودية 20 ألف دولار وفي الإمارات 36 ألف دولار وفي قطر 50 ألف دولار، مقابل 4 آلاف دولار في العراق و3 آلاف دولار في كل من الجزائر وليبيا(3). وكلما ارتفع الدخل هبط التأثير السلبي للتضخم.

المجموعة الثانية: الدول العربية غير الخليجية؛ إذ تأثر أمنها الغذائي بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية بدرجات متفاوتة نظرًا لعدة عوامل: العامل الزراعي الذي يُظهر الفرق في المعاناة بين ليبيا والمغرب، والعامل السكاني الذي يفرق بين مصر والأردن، والعامل النفطي الذي يبيِّن الاختلاف بين العراق ولبنان.

وعلى هذا الأساس ستنصرف هذه الدراسة إلى ثلاث دول من المجموعة الثانية مختلفة تمامًا من عدة جوانب، وهي: العراق ولبنان ومصر. ولكن يجمعها قاسم مشترك وهو الارتفاع الهائل لأسعار المواد الغذائية في الفترة الأخيرة الذي أثَّر بشدة على مستوى معيشة المواطنين.

الأزمة في العراق

ارتفعت أسعار المواد الغذائية ارتفاعًا كبيرًا خلال فترة قصيرة من الزمن؛ فعلى سبيل المثال تضاعف سعر زيت الطعام خلال شهرين فقط.

ترتَّب هذا الوضع عن تضافر أربعة عوامل:

العامل الأول: تراجع الإنتاج المحلي في عام 2021. ويتعلق الأمر بمختلف أنواع الحبوب والزيوت واللحوم والخضروات والفواكه.

وفي الواقع، نجم تحسن الإنتاج في عام 2020 عن وباء كورونا الذي أثَّر بصورة سلبية على حركة النقل الدولي، وقاد إلى تراجع الإمكانية المالية للدولة في الاستيراد بفعل تدهور العوائد النفطية. هبطت إذن الواردات مما شجع المزارعين العراقيين على زيادة إنتاجهم، كما لعب الحراك الشعبي دورًا بارزًا في تنمية الشعور الوطني بضرورة تفضيل الإنتاج المحلي الزراعي.

وفي الآونة الأخيرة عاد الإنتاج إلى الهبوط بسبب تعافي النقل الدولي وتحسن القدرة المالية؛ فازداد استيراد عدد كبير من السلع التي لا تقوى المنتجات العراقية على منافستها. كما انخفض منسوب دجلة والفرات تحت تأثير السياسة المائية لإيران وتركيا. أضف إلى ذلك تعذر استيراد السماد الكيماوي الأوكراني الذي يعتمد عليه العراق اعتمادًا كبيرًا.

يُنتج العراق أربعة ملايين طن من القمح في السنة في حين يصل استهلاكه إلى ستة ملايين طن(4)، علمًا بأن الإنتاج المحلي للمواد الغذائية الأخرى لا يغطي سوى ربع الاستهلاك المحلي.

العامل الثاني: الحرب الروسية-الأوكرانية؛ إذ أسهمت في ارتفاع أسعار المواد الغذائية بسبب اعتماد العراق على استيراد السلع الزراعية الأوكرانية المتوقفة.

ولكن يصعب تحديد درجة هذا الاعتماد لتناقض المعطيات الإحصائية؛ فوفق الإحصاءات العراقية(5) بلغت الواردات الكلية من أوكرانيا 1542 مليون دولار أي 11% من الواردات الكلية العراقية. وبذلك تستحوذ أوكرانيا على المرتبة الثالثة في الواردات العراقية بعد الصين وكوريا الجنوبية في حين تقدر المصادر الأوكرانية صادراتها السلعية للعراق بمبلغ 597 مليون دولار فقط(6).

يمكن تفسير هذا الفرق الهائل في التقدير بوجود بضائع تدخل إلى العراق باعتبارها أوكرانية المنشأ بيد أنها في الحقيقة منتجة في بلد آخر. وبالمقابل، هناك تهريب للبضائع الأوكرانية إلى العراق أي لا تدخل في حسابات الجمارك الأوكرانية، والفساد الإداري في البلدين يسمح بهذا وذاك.

على أقل تقدير في عام 2021 استورد العراق من أوكرانيا زيوت طعام ولحومًا بمبلغ 315 مليون دولار؛ وهو بذلك يحتل المرتبة العربية الأولى، كما استورد من أوكرانيا أيضًا مختلف أنواع الحبوب لاسيما القمح بمبلغ 118 مليون دولار(7).

العامل الثالث: ارتفاع الطلب المحلي؛ فقد أسهمت الحرب الروسي- الأوكرانية مساهمة فاعلة في زيادة تخزين السلع الغذائية من قبل المستهلكين تحسبًا لنقص العرض ومن قبل التجار لزيادة أرباحهم، كما ارتفع الطلب نتيجة زيادة الاستهلاك الفردي في شهر رمضان.

العامل الرابع: في 19 ديسمبر/كانون الأول 2020، قررت وزارة المالية تغيير القيمة التعادلية من 1180 دينارًا للدولار إلى 1480 دينارًا للدولار أي بنسبة 22.6%.

أدى تفاعل هذه العوامل إلى تصاعد هائل في أسعار السلع المستوردة والمنتجة محليًّا بما فيها المواد الغذائية. أفضى هذا التصاعد إلى تأزم الوضع الاجتماعي المتأزم أساسًا؛ إذ يعاني العراقيون من تدني مستوى المعيشة نتيجة تزايد معدلات البطالة الذي أدى إلى ارتفاع عدد الفقراء؛ فهناك عشرة ملايين عراقي، أي ربع عدد السكان، تحت خط الفقر.

لمواجهة تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية، قررت الحكومة تخصيص 100 مليون دولار لاستيراد القمح بصورة عاجلة من عدة دول كأستراليا، وتنوي أن يصل الاستيراد لاحقًا إلى ثلاثة ملايين طن لإعادة تكوين المخزون(8).

كما اتخذ مجلس الوزراء ثلاثة إجراءات(9):

الإجراء الأول: إلغاء قرارات منع استيراد بعض المواد الغذائية، ومدة الإجراء ثلاثة أشهر قابلة للتمديد حسب الأحوال.

الإجراء الثاني: تصفير الرسوم الجمركية المفروضة على استيراد المواد الغذائية الضرورية؛ الأمر الذي يسهم في هبوط أسعارها فينخفض معدل التضخم. يسري هذا الإعفاء لمدة ثلاثة أشهر أيضًا قابلة للتجديد.

الإجراء الثالث الذي يهم مباشرة الطبقة الفقيرة يتعلق بتقرير مساعدة نقدية قدرها 100 ألف دينار تسمى منحة غلاء المعيشة.

تُمنح المساعدة مرة واحدة فقط، أما مبلغها الذي يعادل 66 دولارًا فهو يغطي النفقات الغذائية لفرد واحد ولمدة لا تزيد على عشرة أيام.

وتُقرَّر للفئات المكونة من الموظفين الحاصلين على مرتب شهري يقل عن 500 ألف دينار. وللمتقاعدين الحاصلين على مرتب شهري يقل عن مليون دينار. وعدد هؤلاء الموظفين والمتقاعدين يقل عن مليون شخص. أما الفئة الثالثة المستحقة لهذه المساعدة فهي الأسر المشمولة بالرعاية الاجتماعية، لكل أسرة (وليس لكل فرد) منحة واحدة فقط، عددها 1.4 مليون أسرة(10).

وعلى هذا الأساس، تنفق الدولة -على أكثر تقدير- 160 مليون دولار لتوزيع هذه المنحة على جميع المستحقين في حين ارتفعت إيرادات الدولة ارتفاعًا كبيرًا بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية؛ ففي فبراير/شباط 2022، كان معدل سعر برميل النفط العراقي 92 دولارًا. ثم ارتفع في مارس/آذار من هذه السنة بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية إلى 110 دولارات. هكذا انتقلت الإيرادات النفطية الشهرية من 8540 مليون دولار إلى 11070 مليون دولار(11). بمعنى أن هذه الحرب أدَّت بصورة مباشرة إلى زيادة الإيرادات النفطية العراقية على نحو غير مسبوق بمبلغ 2530 مليون دولار خلال شهر واحد. يتعين طرح مستحقات الشركات الأجنبية العاملة في العراق التي تشكِّل حوالي ربع هذا المبلغ؛ عندئذ نصل إلى أرباح شهرية صافية قدرها 1897 مليون دولار. وهكذا ارتفعت إيرادات الدولة بسبب الحرب في حين تراجع مستوى معيشة المواطنين.

يعاني العراقيون منذ عقود من تردي أمنهم الغذائي بسبب تدهور القطاع الزراعي وارتفاع أسعار المواد الغذائية. إنها أزمة بنيوية تتدخل فيها عوامل سياسية أسهمت في تفاقمها الحرب الروسية-الأوكرانية.

الكارثة في لبنان

مقارنةً بدول عربية أخرى، يتمتع لبنان بتربة صالحة للزراعة نظرًا لطقسه المعتدل ووفرة مياهه. فهو ينتج الفاكهة والخضروات ويصدِّر نصفها إلى دول المنطقة. لكن السياسة الاقتصادية الفاشلة التي خلقت أزمة مالية خطيرة أدت إلى تدهور جميع الأنشطة بما فيها الزراعية.

في أغسطس/آب 2020، وقع انفجار في مرفأ بيروت دمَّر أهم صوامع الحبوب التي تبلغ طاقتها الاستيعابية 120 ألف طن. علمًا بأن البلد يستهلك 50 ألف طن من القمح شهريًّا(12) ولم يستورد كميات من الحبوب لتعويض هذه الخسارة ولم يقم ببناء صوامع جديدة فأصبحت المطاحن تخزن كميات محدودة من القمح في مستودعاتها لا تكفي لأكثر من بضعة أسابيع. هذه صورة من صور الأزمة الغذائية التي ظهرت قبل الحرب الروسية-الأوكرانية.

كما أدى سوء إدارة الشأن الاقتصادي إلى عدم استغلال الأراضي الصالحة للزراعة. فالأراضي المزروعة فعلًا لا تمثِّل سوى 22% من مساحة البلد في حين 63% من هذه المساحة قابلة للزراعة(13).

يتسم القطاع الزراعي بضعف التمويل المصرفي بسبب الأزمة المالية وبدائية عمليات الإنتاج. أضف إلى ذلك ارتفاع كلفة الإنتاج الذي يقود إلى إضعاف القدرة التنافسية للمنتجات اللبنانية. لذلك، يسجل الميزان التجاري الزراعي عجزًا هائلًا؛ فقد بلغت الصادرات الزراعية 0.7 مليار دولار مقابل واردات زراعية قيمتها 3.5 مليارات دولار(14). أسهم هذا الوضع بفاعلية في ارتفاع أسعار المواد الغذائية خاصة بعد الحرب الروسية-الأوكرانية.

خلال الفترة بين أكتوبر/تشرين الأول 2019 ويونيو/حزيران 2021، ارتفعت أسعار هذه المواد بنسبة 404%(15). ووفق الإحصاءات الرسمية، بلغ معدل التضخم 154% في 2021(16). أدى هذا الوضع إلى تداعيات اجتماعية خطيرة؛ فحسب اليونيسيف، ثلث أطفال لبنان لا يتناولون طعام العشاء، وثلاثة أرباع السكان لا يملكون قوت يومهم فيضطرون إلى الاستدانة. لذلك يعتبر الشعب اللبناني -حسب الأمم المتحدة(17)- من أتعس شعوب العالم؛ فهو يقع في المرتبة ما قبل الأخيرة في التصنيف الدولي لسعادة الشعوب.

ظهرت الأزمة الغذائية نتيجة الوضع المالي المتردي الذي تعاني منه الدولة منذ عقود، ثم تفاقمت لسببين: السبب الأول: القضية السورية التي أدت إلى لجوء 1.5 مليون سوري إلى لبنان غالبيتهم يحصلون على مساعدات من برنامج الأغذية العالمي. والسبب الثاني: الحرب الروسية-الأوكرانية التي أدت إلى ارتفاع أسعار جميع المواد الغذائية لاسيما الحبوب.

بلغت واردات الحبوب 354 مليون دولار أي ما يعادل 28% من الواردات الكلية. وهذه نسبة عالية تشير إلى أهمية هذه المشتريات في التجارة الخارجية وفي الأمن الغذائي.

وبلغت واردات الحبوب من أوكرانيا 227 مليون دولار(18)، في عام 2021. وبذلك، تحتل أوكرانيا المرتبة الأولى في واردات الحبوب حيث تسهم بنسبة 64% منها. أضف إلى ذلك الاعتماد على أوكرانيا في شراء زيت الطعام واللحوم بمبلغ 71 مليون دولار.

وبذلك يصبح مجموع الواردات الغذائية من أوكرانيا 298 مليون دولار. ولما كان عدد نفوس لبنان 6.8 ملايين نسمة يصبح معدل حصة الفرد اللبناني من هذه الواردات 43.8 دولارًا. بهذا المعنى، يحتل لبنان المرتبة العربية الأولى؛ إذ إن حصة اللبناني تعادل ثلاثة أضعاف حصة المصري. علمًا بأن مصر أكبر بلد عربي مستورد للحبوب من أوكرانيا. وبالتالي، فإن الحرب الروسية-الأوكرانية التي أدت إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية تسهم مساهمة كبيرة في تردي الأمن الغذائي اللبناني.

كما تطرح هذه الحرب على جميع الدول العربية معضلة الحلول البديلة والمستعجلة. يتعين إيجاد دول أخرى مصدِّرة للحبوب قريبة جغرافيًّا من لبنان كرومانيا وبلغاريا، لكن النقل عبر البحر الأسود محفوف بالمخاطر خاصة إذا اتسع نطاق هذه الحرب. لذلك، تتجه أنظار اللبنانيين إلى فرنسا بالدرجة الأولى؛ فقد أعلنت باريس(19) عن ارتفاع صادراتها من القمح للدول العربية من 7.4 ملايين طن في الموسم السابق إلى 9.7 ملايين طن في الموسم الحالي، ولبنان من الدول المستفيدة من هذه الزيادة.

ولكن لا تقتصر المشكلة على إيجاد مورِّدين جدد للمواد الغذائية بل تشمل أيضًا ضعف ثقة هؤلاء بمالية الدولة وتدني قدرة المستوردين على الوفاء بالتزاماتهم.

يعاني لبنان من أزمة اقتصادية حادة: عجز مزمن في الميزانية العامة والميزان التجاري، وتدهور خطير لسعر صرف الليرة، وارتفاع هائل للمديونية الخارجية البالغة 38 مليار دولار أي 115% من الناتج المحلي الإجمالي، وتراجع الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي، وسيطرة الميليشيات، والفساد المالي المستشري. تحتل الدولة المرتبة العالمية رقم 154 في تقرير منظمة الشفافية الدولية(20). والأخطر من هذا وذاك عدم وجود إمكانية لمعالجة هذه المشاكل. لذلك، يرى البنك العالمي(21) أن الأزمة الاقتصادية اللبنانية تعد من الأزمات الأكثر خطورة في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.

أدى هذا الوضع إلى حصول البلد على أدنى درجات التصنيف الائتماني من قبل جميع الوكالات الدولية المتخصصة. هكذا، يصعب الحصول على قروض خارجية لتمويل المشتريات خاصة الاستهلاكية كالمواد الغذائية. ويقود تدهور ثقة الموردين إلى ارتفاع مبالغ التأمين فتزداد أسعار المواد المستوردة. وأفضى هذا الأمر إلى امتناع الموردين عن تسليم البضائع ما لم تدفع لهم المبالغ مقدمًا. وبهذا الصدد، ذكرت وزارة الاقتصاد والتجارة، في بداية مارس/آذار 2022، أن هناك عشر بواخر محملة بالقمح في المياه الإقليمية اللبنانية اشتراها تجار لبنانيون تنتظر أن يتم الدفع من قبل المصارف كي تدخل إلى الميناء.

وهذا ما حدث أيضًا في تونس، في ديسمبر/كانون الأول 2021، عندما رفضت أربع بواخر تفريغ حمولتها من الحبوب الأوكرانية.

بطبيعة الحال، يتعين على المستورد دفع غرامة بسبب التأخير عن كل يوم وعن كل باخرة. ويتحمل المستهلك عبء هذه الغرامة التي تضاف إلى السعر النهائي.

لا يمكن معالجة تدهور الأمن الغذائي في لبنان بمجرد منع تصدير بعض المواد الغذائية المنتجة محليًّا، بل لابد من التصدي لسوء إدارة الشأن الاقتصادي وسيطرة الفصائل المرتبطة بمصالح دول أجنبية.

التدهور في مصر

تحتل مصر المرتبة العربية الأولى في استهلاك القمح بسبب عدد سكانها البالغ 103 ملايين نسمة، أي ربع سكان العالم العربي. كما يتسم الاستهلاك الفردي للخبز بالارتفاع الهائل الذي يفوق بكثير المعدل العالمي.

يستهلك المصريون 21 مليون طن من القمح سنويًّا؛ ينتجون 9 ملايين طن ويستوردون 12 مليون طن. وبذلك تعد مصر أكبر مستورد للقمح في العالم.

في 2020، بلغت واردات الحبوب من أوكرانيا 1180 مليون دولار ومن روسيا 1630 مليون دولار(22). يمثل هذان البلدان 80% من واردات القمح المصرية. وبسبب توقف الواردات من أوكرانيا وتعثر الواردات من روسيا ارتفعت بشدة أسعار جميع المواد الغذائية.

كما تعاني الدولة من عجز مالي مزمن ارتفع من 424 مليار جنيه في العام السابق إلى 472 مليار جنيه في السنة المالية الحالية 2021-2022(23).

لمعالجة هذا الوضع، لجأت السلطات إلى زيادة الضرائب من جهة وتقليص الدعم السلعي والمنح الاجتماعية من جهة أخرى؛ الأمر الذي أسهم في تزايد تدهور مستوى المعيشة.

كما أثَّرت الحرب الروسية-الأوكرانية على الميزان التجاري الذي يسجِّل أيضًا عجزًا مزمنًا، وسيرتفع هذه السنة ارتفاعًا كبيرًا.

أما تداعيات هذه الحرب على الميزان التجاري في مجال الطاقة فهي ليست إيجابية كالعراق وليست سلبية كلبنان. التأثير إيجابي من جهة صادرات النفط والغاز وسلبي من جهة واردات المنتجات النفطية. وبسبب تعادل الصادرات مع الواردات البترولية يصبح التأثير الإيجابي للحرب معادلًا تقريبًا لتأثيرها السلبي.

وتعاني مصر من الارتفاع المستمر للديون الخارجية التي بلغت 123.5 مليار دولار في يونيو/حزيران 2020(24). أي بزيادة قدرها 14.8 مليار دولار قياسًا بالفترة نفسها من العام السابق. وسجَّل ميزان المدفوعات عجزًا هائلًا قدره 8.5 مليارات دولار في 2020(25).

أدَّت الحرب الروسية-الأوكرانية إلى تفاقم هذه الأزمة. بات من اللازم اللجوء مرة أخرى إلى دول مجلس التعاون الخليجي لطلب المساعدة. وهكذا، قدمت السعودية وديعة مصرفية بقيمة خمسة مليارات دولار بتاريخ 30 مارس/آذار 2022(26). كما تتوقع القاهرة الحصول على ودائع أخرى من الدوحة وأبوظبي والكويت.

ستقود هذه الأموال إلى إعطاء نَفَس جديد للمالية المختنقة وإلى تشجيع المستثمرين الأجانب. وستؤدي بصورة خاصة إلى دعم الموقف التفاوضي المصري مع المؤسسات الدولية بما فيها صندوق النقدي الدولي لتمويل برنامج استثماري جديد.

أما على الصعيد المحلي، فقد اتخذت الحكومة بعض الإجراءات لتحقيق الأمن الغذائي يمكن تقسيمها إلى نوعين: مستعجلة ومتوسطة المدى.

الحلول المستعجلة ثلاثة:

أولًا: قرار حظر تصدير عدة مواد غذائية كالفول والعدس والقمح والمكرونة. دخل القرار حيز التنفيذ اعتبارًا من 11 مارس/آذار 2022 ولمدة ثلاثة أشهر(27).

لهذا القرار الذي يرمي إلى سدِّ النقص في المواد الغذائية تداعيات سلبية تتجلَّى في انخفاض الصادرات السلعية وبالتالي يرتفع عجز الميزان التجاري الغذائي، كما أثَّر بشدة على الأسعار في الدول التي تعتمد على استيراد هذه المواد من مصر كمناطق شرق ليبيا.

ثانيًا: تسعير رغيف الخبز غير المدعوم بهدف إيقاف ارتفاع أسعاره.

ثالثًا: تعهد الحكومة بعدم رفع سعر الخبز المدعوم من قبلها (العيش البلدي).

يُباع هذا الخبز بموجب نظام خاص؛ فلكل مصري مقيد في البطاقة التموينية خمسة أرغفة يوميًّا، سعر الرغيف خمسة قروش. تنتج مصر يوميًا 270 مليون رغيف في مخابز تخضع لرقابة وزارة التموين، ويوزع الإنتاج على 72 مليون مواطن(28) أي ثلث عدد السكان.

حسب الوزارة، يكلف الرغيف الواحد 65 قرشًا. إن الفرق بين الكلفة وسعر البيع يمثل مبلغ الدعم المقدم من قبل ميزانية الدولة الذي يصل إلى ستين مليار جنيه.

صرَّح عدد من المسؤولين بأن سعر هذا الخبز لم يطرأ عليه أي تغيير منذ عقود، ولكن ظهرت تصريحات أخرى عالية المستوى تشير إلى ضرورة رفع سعره أي تقليص الدعم. علمًا بأن الحكومة قررت، في أغسطس/آب 2020، تخفيض وزن الرغيف من 110 غرامات إلى 90 غرامًا في حين كان من الأفضل أن يحدث العكس تمامًا بسبب التداعيات السلبية لوباء كورونا.

أما الحلول متوسطة المدى فيمكن تقسيمها إلى زراعية ونقدية.

تتمثل الحلول الزراعية في إضافة مساحات جديدة لزراعة القمح في بعض المناطق خاصة توشكى، كما تهدف الدولة إلى توفير كمية من القمح تكفي لغاية نهاية هذه السنة الجارية. يتأتى ذلك من الإنتاج المحلي للموسم الحالي (2022) ومن الخزين.

أما الحلول النقدية فهي تخفيض القيمة التعادلية للجنيه ورفع سعر الفائدة.

في مارس/آذار 2022، تم تخفيض سعر الصرف الذي انتقل من 15.6 جنيهًا للدولار إلى 18.2 جنيهًا للدولار، أي هبطت القيمة التعادلية للعملة المصرية بنسبة مرتفعة قدرها 16.6%.

تهدف هذه العملية إلى تشجيع السياحة التي تشهد إيراداتها انخفاضًا نتيجة ما ترتب على الحرب الروسية-الأوكرانية من عزوف السياح الروس والأوكرانيين الذين يمثلون ثلث عدد السياح الأجانب في مصر. في 2021، استقبلت مصر 1.4 مليون سائح أوكراني(29).

كما يهدف إلى تحسين تحويلات العمال المصريين المقيمين بالخارج. يُفتَرَض إذن أن يقود التخفيض إلى تقوية حساب الخدمات وحساب التحويلات الجارية في ميزان المدفوعات فيزداد الاحتياطي النقدي.

أما قرار البنك المركزي برفع سعر الفائدة نقطة مئوية واحدة فيسعى إلى تقليص السيولة النقدية لخفض عرض النقود؛ عندئذ يهبط معدل التضخم. كما يسعى إلى تشجيع المستثمرين الأجانب فيزداد النقد الأجنبي.

لكن لهذه الحلول متوسطة المدى حدود وتداعيات سلبية جانبية؛ فقد لا يؤدي تخفيض القيمة التعادلية للجنيه إلى تحسين السياحة بفعل تصاعد معدل التضخم. كما يقود التخفيض إلى ارتفاع أسعار جميع السلع المستوردة الزراعية والصناعية فيتضرر أصحاب الدخول المحدودة والمنخفضة. بهذا المعنى التخفيض ليس حلًّا للأزمة بل أحد أسباب تفاقمها.

ومن زاوية أخرى، لن تتأثر القرارات السياحية للروس والأوكرانيين بتخفيض قيمة الجنيه بل بهبوط مقدرتهم المالية إن طال أمد حربهم.

كما يقود رفع سعر الفائدة بالضرورة إلى تصاعد خدمة الدَّيْن العام؛ عندئذ ترتفع النفقات العامة فيزداد العجز المالي.

ستسهم الحرب الروسية-الأوكرانية في زيادة العجز التجاري السلعي وفي ارتفاع أسعار المواد الغذائية. وتحت تأثير البرامج الإصلاحية التي يشرف عليها صندوق النقد الدولي وبسبب العجز المزمن للميزانية العامة والتصاعد المستمر للمديونية ستضطر الدولة الى تقليص الدعم السلعي والمنح الموجهة لبعض الفئات الاجتماعية. عندئذ سيهبط مستوى المعيشة خاصة إذا طالت فترة الحرب.

خاتمة

أدى وباء كورونا إلى تحسن الإنتاج الزراعي في عدة بلدان عربية؛ فقد أعلن العراق، في عام 2020، عن تحقيق الاكتفاء الذاتي. هناك إذن إمكانية لبلوغ هذه الحالة لكنها تظهر في الحالات الاضطرارية.

قد تسهم الحرب الروسية-الأوكرانية كالوباء في تنمية الإنتاج المحلي لكن الأمن الغذائي بالمفهوم الوارد أعلاه يصطدم بعدة عقبات خاصة في اليمن والعراق ولبنان ومصر التي تعاني من عدة مشاكل مالية ومن سوء إدارة الشأن العام.

لابد من القيام بإصلاحات جوهرية تتناول مالية الدولة الداخلية والخارجية لأن الأزمة الغذائية التي خلقتها الحرب الروسية-الأوكرانية لم تظهر في المنطقة العربية إلا في الدول التي تعاني من مشاكل مالية حادة. لكن هذه البرامج الإصلاحية بعيدة المدى لا تعالج تداعيات الجانب المستعجل للحرب المتعلقة بارتفاع أسعار المواد الغذائية.

دلَّت الحرب على فشل التعامل المالي والنقدي والمصرفي مع الأزمات في الظروف الاستثنائية. وهذا أمر حرج لأنه يتعلق بمواد ضرورية لحياة الإنسان وصحته. لا تجد مصر ولبنان واليمن وتونس بدًّا من اللجوء إلى الاقتراض الخارجي لتمويل مشترياتها الغذائية. عندئذ تتراجع المقدرة المالية فتزداد بالضرورة خطورة الأزمة الغذائية.

نبذة عن الكاتب

d9f4567f84cc488baee1b2542fbc779d_6.jpg

صباح نعوش

صباح نعوش- باحث اقتصادي

مراجع

 1- حسب منظمة التجارة العالمية، روسيا وأوكرانيا يمثلان 15% من صادرات الشعير في العالم و25% من صادرات القمح و45% من صادرات زيوت الطعام، 11 أبريل/نيسان 2022، (تاريخ الدخول: 6 أبريل/نيسان 2022):https://www.wto.org/french/news_f/news22_f/devel_08apr22_f.htm

 2 – برنامج الغذاء العالمي، بيان صحفي: أوكرانيا تزيد من مآسي اليمن، 15 مارس/ آذار 2022، (تاريخ الدخول: 6 أبريل/نيسان 2022). https://fr.wfp.org/communiques-de-presse/lukraine-augmente-les-malheurs…

 3- بيانات البنك الدولي. https://data.worldbank.org/indicator/NY.GDP.PCAP.CD

 4- وزارة التخطيط، المجموعة الإحصائية، الباب الثالث-الإحصاءات الزراعية.

 5- الجهاز المركزي للإحصاء، مديرية إحصاءات التجارة، “الاستيرادات لسنة 2020″، يوليو/تموز 2021، الجدول رقم 5.

 6- https://tradingeconomics.com/ukraine/exports/iraq

 7- المرجع السابق رقم 6، (تاريخ الدخول: 6 أبريل/نيسان 2022).

8- فسر البعض بيان الوزارة بصورة خاطئة، فقالوا: إن العراق صرف 100 مليون دولار لشراء ثلاثة ملايين طن من القمح. والواقع أن سعر الطن الواحد وصل إلى 426 دولارًا. أي إن 100 مليون دولار مخصصة لاستيراد 230 ألف طن لسد الحاجة المستعجلة. أما ثلاثة ملايين طن فهي الكمية التي تنوي الحكومة توفيرها كمخزون على المدى البعيد.

9- القرار رقم 72 لسنة 2022 الصادر عن مجلس الوزراء بتاريخ 15 مارس/آذار 2022.

10- تنص المادة الأولى من القانون رقم 11 لسنة 2014 على أن العائلة المشمولة بالرعاية الاجتماعية هي العائلة التي تعيش تحت خط الفقر.

11- المعلومات المتعلقة بالأسعار والإيرادات والإنتاج تُنشر شهريًّا على الحساب الرسمي لوزارة النفط العراقية في الفيس بوك.

12- موقع الجزيرة نت، “حرب أوكرانيا.. احتياطي القمح في لبنان يكفي شهرًا…..”، 25 فبراير/شباط 2022، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2022): shorturl.at/ipBG8

13-   فيفيان عقيقي، الانتفاع من الأرض في لبنان مُحتكر أيضًا، الأخبار، 28 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2022): https://al-akhbar.com/Issues/265329                         

 14- موقع العهد الإخباري، محمد جباعي، “القطاع الزراعي في لبنان: المشاكل والحلول”، 10 فبراير/شباط 2021.  (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2022): https://www.alahednews.com.lb/article.php?id=37734&cid=124

15- المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان، “الأمم المتحدة: اللاجئون السوريون في لبنان يكافحون من أجل البقاء….”، 29 سبتمبر/أيلول 2021، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2022): shorturl.at/bzY18

 16- http://www.cas.gov.lb/index.php/latest-news-en/161-2011-2-2013-2 (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2022)

17-https://worldhappiness.report/ed/2022/happiness-benevolence-and-trust-d…(تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2022):

18- الموقع المشار إليه في الهامش رقم 6، (تاريخ الدخول: 6 أبريل/نيسان 2022).

 19- Terre-net : La France va exporter plus de blé tendre que prévu. 10 mars 2022.

https://www.terre-net.fr/marche-agricole/actualite-marche-agricole/arti…

 20- منظمة الشفافية الدولية، “مؤشر مدركات الفساد 2021″، الصفحة 3.

 21- https://www.banquemondiale.org/fr/news/press-release/2021/05/01/lebanon…

 22- الموقع المشار إليه في الهامش رقم 6، (تاريخ الدخول: 6 أبريل/نيسان 2022).

 23- وزارة المالية، البيان المالي عن مشروع الموازنة العامة للدولة للسنة 2021/2022، الجدول رقم 21 في الصفحة 150.

السنة المالية في مصر تبدأ في بداية يوليو/تموز وتنتهي في نهاية يونيو/حزيران.

24- البنك المركزي المصري. التقرير السنوي 2019/2020. الصفحة 43.

25- البنك المركزي المصري، المرجع السابق، الصفحة 28 من الملاحق.

26- وكالة الأنباء السعودية، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2022): https://www.spa.gov.sa/viewfullstory.php?lang=ar&newsid=2342087

 27- قرار وزارة التجارة والصناعة رقم 141 لسنة 2022 الصادر بالجريدة الرسمية بتاريخ 10 مارس/آذار 2022.

28- وفاء الصعيدي، “سعر رغيف العيش البلدي المدعم ثابت عند 5 قروش على بطاقة التموين”، 5 مارس/آذار 2022، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2022): https://www.elwatannews.com/news/details/5980384

29- علاء عبد الرزاق، “بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا.. أزمة القطاع السياحي في مصر تتفاقم”، الجزيرة نت، 15 مارس/آذار 2022، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2022): shorturl.at/clJNZ

—————-

أميركا مجدداً.. رسم النظام العالمي من أوروبا/ منير الربيع

ما أصبح واضحاً، أن سياق الحرب الروسية على أوكرانيا لن يقف عند حدود البلدين. يمكن وصف ما يجري بأنه إعادة لرسم معالم النظام العالمي الذي تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى إرسائه. هذا النظام الذي تحكمت به واشنطن على مدار أكثر من عقد من الزمن. منذ الحرب العالمية الأولى إلى اليوم، مروراً بالحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة، وحقبة نهاية التاريخ وصولاً إلى حرب مكافحة الإرهاب وانتقالاً إلى مرحلة الانسحاب والانكفاء على قاعدة أميركا أولاً، وعدم الانهماك الأميركي في هذه المرحلة في حماية الأمن العالمي. 

من الواضح أن النظام الدولي القائم على حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي سيؤول إلى التغيير، ولكن حتى الآن لا يمكن تلمّس ملامحه ولا صورته. والمؤكد أكثر أن الولايات المتحدة الأميركية هي التي تعمل على نسج صورة النظام العالمي الجديد ولا أحد غيرها، بخلاف كل النظريات التي تتحدث عن سقوط الأحادية القطبية والذهاب إلى نظام عالمي برؤوس متعددة منها روسيا ومنها الصين أو دول البريكس أو غيرها من المنظمات الدولية.

بناء عليه لا بد من العودة إلى قراءة تاريخية في مسار الانكفاء الأميركي أو التدخل لدى مرور العالم في مراحل وحقب جديدة شكلت مفترقات رئيسية وتحولات على صعيد التحالفات في العالم لإرساء النظام العالمي وقواعده. ففي الحرب العالمية الأولى لم تكن أميركا مشاركة فيها بشكل مباشر، وهي حتماً كانت مشاركة في الخلفية ولم تتدخل إلا لحسم الحرب في العام 1917، فسقطت بذلك الإمبراطوريات الكبرى مقابل فوز الحلفاء بدعم أميركي واضح. حتى إن بعض المراجعات التاريخية تشير إلى أن أطرافا دولية متعددة ولوبيات مختلفة ساهمت في توفير الدعم للثورة البلشفية بقيادة لينين الذي كان مقيماً في باريس بتلك الفترة وحصل على دعم مالي وسياسي وإعلامي غربي ويهودي. وهذه المراجعات تقود أيضاً إلى توقيت اختيار الولايات المتحدة الدخول في الحرب أي سنة 1917 وهي سنة انتصار الثورة البلشفية. وكان الهدف الأميركي في تلك الفترة إضعاف بريطانيا كإمبراطورية عظمى، مقابل تعزيز النزعات القومية التي تجلت في الفاشية أو النازية وانعكست في الشرق الأوسط أيضاً بين القومية العربية، أو القومية اليهودية والقومية التركية والكردية وغيرها.

حقبة الحرب العالمية الثانية أيضاً كانت مساراً لترسيخ النظام العالمي الجديد، وخلالها استثمرت أميركا في إضعاف أوروبا، كما استثمرت بالاتحاد السوفييتي لضرب هتلر والانتهاء من حقبته، وإرساء مشروع مارشال الذي دفع إلى توقيع الأوروبيين وتحديداً البريطانيين على الانخراط في العالم الأميركي الجديد ذي الشروط المالية والاقتصادية التي أصبحت راسخة لعقود ولا تزال قائمة إلى يومنا هذا.

ما بعدها عملت الولايات المتحدة الأميركية على إضعاف أوروبا أكثر بالواقع الجيوستراتيجي، من الانقلابات التي حصلت على العروض الموالية لبريطانيا في أفريقيا والشرق الأوسط، إلى مشروع روجرز وبناء علاقات استراتيجية مع دول الخليج التي كانت كلها موالية للبريطانيين.

خدم النظام العالمي مدّته طوال قرن من الزمن، في حين أصبحت دورة التاريخ أو الحتمية التاريخية تحتم على المجتمعات والدول  البحث عن صيغ جديدة، وبلا شك أن الولايات المتحدة الأميركية أكثر المنخرطين في هذا النوع من التأثير بالتحولات، في عصر تتجه فيه الشعوب إلى الانكفاء على ذاتها، وكل ما هو مشهود على الساحة العالمية يشير إلى تحول في بنية الأنظمة السياسية وفي البنى الاجتماعية، هنا تفضل الولايات المتحدة الأميركية التراجع إلى الخلف، أو الخروج من مبنى آيل للسقوط وتفضل البحث عن رسم خريطة جديدة إما لترميمه أو لهدمه وإعادة بنائه من جديد.

والمدخل لمثل هذا النظام العالمي الجديد سيكون من خلال الطريق الواسع الذي فتحته الحرب الروسية على أوكرانيا، هي حرب ذات أبعاد جيوستراتيجية تطول أوروبا وروسيا، أولاً أسقطت الحرب الهالة الروسية في أن الجيش الروسي ثاني أقوى جيش في العالم، فيما عملت العقوبات على ترسيخ مبدأ انعدام قدرة أي طرف على معارضة الترسيخات الأميركية.

لكن الأبعاد الأخرى هي ضرب أوروبا وإضعافها واستهدافها من الداخل ما يحتم على الدول الأوروبية العودة إلى زمن العسكرة، وهذا ستنتج عنه نزعات عنصرية أو قومية أو انطوائية من شأنها أن تأتي بقوى اليمين المتطرف في شتى الدول الأوروبية، فيما أوروبا تجد نفسها أيضاً مهددة في أمنها الغذائي والطاقوي وهو هدف استراتيجي حققته الولايات المتحدة الأميركية من خلال قطع الطريق على أي محاولة أوروبية للذهاب إلى تحالف مع روسيا بخلاف التوجه الأميركي، خاصة أن أكبر المستهدفين ألمانيا وخط نورد ستريم 2.

 لكن أبعاد الحرب وآفاقها لن تقتصر على أوروبا، روسيا بحد ذاتها ستكون هدفاً على المدى الطويل، وبالعودة إلى الاستناد التاريخي، فإن الاجتياح الروسي لأفغانستان هو الذي مهد الطريق أمام سقوط الاتحاد السوفييتي، معطوفاً على حرب سياسية وإعلامية وثقافية مركزة تعرض لها السوفييت، تلك الحملة مشابهة إلى حدّ بعيد لحالة النبذ التي تُسخر لروسيا ولفلاديمير بوتين على صعيد العالم. سيكون لهذه الحرب آثار بعيدة المدى وستظهر في السنوات المقبلة، فكما ستنعكس في أوروبا من خلال بروز قوى اليمين المتطرف، أو بروز أصحاب الدعوات إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي ما يعني تصغير الكيانات فإن ذلك سيكون له انعكاسه في روسيا، سواء من خلال بروز أنشطة سياسية وربما عسكرية أو احتجاجية لقوميات أو لمجتمعات ذات توجهات دينية مختلفة إذ قد تخرج جمهوريات متعددة في الاتحاد الروسي للمطالبة بالانفصال والاستقلال.

تلفزيون سوريا

—————————

بوتين، مجرم حرب وغيره كذلك!/ حسان الأسود

أقرّ مجلس الشيوخ الأميركي بعد أيام قليلة على شنّ بوتين حربه ضدّ أوكرانيا مشروع قانون يقضي بتصنيفه – أي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذاته – مجرم حرب، ويحثّ القانون في نفس الوقت على ملاحقة الجرائم المرتكبة من قبل القوات الروسية في أوكرانيا. تبع ذلك وصف الرئيس الأميركي جو بايدن لبوتين بالصفة ذاتها، وذلك خلال إجابته عن أسئلة الصحفيين في مقابلة أجراها معهم في البيت الأبيض، ثم تتابعت تصريحاته حتى فُهم من بعضها أنّ بايدن ذاهبٌ بلا رجعة أشواطاً بعيدة في العداء لروسيا.

استدعى ذلك كلّه توضيحات متعاقبة من البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية وأرفع المسؤولين الأميركيين تؤكّد عدم نيّة إدارتهم تغيير النظام في موسكو. بالمقابل كان الردّ الرسمي الروسي واضحاً بأنّ الشعب الروسي هو صاحب القرار في هذا الشأن، وأنّ على الإدارة الأميركية التنبّه لسلوكها العدائي تجاه روسيا.

ليس غريباً بالطبع أن يأتي هذا التصعيد من الرئيس الأميركي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، خاصّة مع معرفتنا بالعلاقة السيئة أساساً بين الرجلين منذ زمن بعيد. لكن على مستوى إدارات الدول يجب أن تكون المقاربة مختلفة نوعاً ما، فلا ينبغي أن تكون متعلقة بحالة عاطفية كتلك التي عبَّر عنها الرئيس بايدن عندما رفض الاعتذار عمّا قال إنها مشاعره الشخصية تجاه الحدث، فالمراقب يرى بوضوح أنّ سلوك الرئيس بوتين لم يتغيّر منذ حربه الأولى في الشيشان عام 1994، مروراً بحربه الثانية فيها عام 1999، وبحربه في جورجيا عام 2008، وصولاً إلى حرب القرم عام 2014، ومن ثم التدخل في سوريا عام 2015. فلماذا اختلف الموقف الأميركي الآن؟ وهل يستند التشدد في التوصيف إلى اعتبارات أخلاقية بحتة، أم إنّ السبب يكمن في تغيّر نتائج أفعال بوتين في أوكرانيا واختلافها عن تلك التي مورست سابقاً في باقي البلدان؟!

في الواقع لا تصلح المعايير الأخلاقية لمحاكمة سلوكيات وتصرفات الدول، فهذه الأخيرة تتصرّف بمكيافيلية واضحة صريحة، وفق معايير المصالح المجرّدة وموازين القوى. مع ذلك، يبقى الرؤساء – في أي حديث يُدلون به أو في أي سلوك يسلكونه أو قرار يتخذونه – ممثلين عن دولهم سواءٌ أرادوا ذلك أم لم يريدوه، فالتاريخ لن يذكر جورج بوش مجرّداً من أية صفة عند إطلاق حكمه عليه بشأن غزو العراق وأفغانستان، بل سيقرن إليه صفته رئيساً للولايات المتحدة الأميركية. ونحن إذ نتكلّم عن رئيس دولة ما مثل بوتين، فإننا نضع في الخلفية مباشرة روسيا، كما نضع الولايات المتحدة الأميركية أو بريطانيا أو فرنسا في خلفية أي حديثٍ عن بايدن أو جونسون أو ماكرون، وبلا شك تتحمّل الدول والشعوب أخلاقياً ومنطقياً وحتى قانونياً تبعات أعمال وقرارات ممثليها، خاصّة إذا كانت محكومة بأنظمة ديمقراطية؛ لأنّ الشعوب في هذه الحالة تكون قد ساهمت في اختيار حكامها عبر صناديق الاقتراع.

قد يختلف الأمرُ قليلاً عندما يتعلّق الحديث بقرار شنّ الحرب على العراق من قبل الإدارة السابقة للولايات المتحدة الأميركية، وبين قرار إدارة بوتين شنّ الحرب على أوكرانيا. لكن على الرغم من كون مؤسسات الدولة في الولايات المتحدة مستقلّة ومنفصلة ولا يمكن التحكم بها من قبل الرئيس، وعلى الرغم من حقيقة توزع السلطات هناك، فإنّ الحالة العارمة من نشوة الانتصار التي أصابت النخبة الأميركية المسيطرة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، جعلت من الطبيعي اتخاذ مثل هذا القرار، باعتبار هذه الطبقة من السياسيين وأصحاب النفوذ ورأس المال الحكّامَ الفعليين لتلك البلاد. هكذا كان الأمر تقريباً في روسيا الاتحادية، مع فارقٍ ملحوظٍ طبعاً في قدرة الرئيس هنا على تجاوز مؤسسات الدولة والتصرّف بشكل منفرد، رغم تعارض قراره مع مصلحة الأوليغاشية الروسية التي نشأت معه وثبّتت حكمه عندما ثبّتت مصالحها واستئثارها بثروات البلاد.

ما الذي استجدَّ إذن في سلوك بوتين حتى يتمّ تصنيفه أميركياً مجرم حرب؟ أو لم يكن سلوكه وسلوك جيشه هو ذاته في الحروب السابقة؟ ألم نشهد تدمير غروزني ومحوها عن بكرة أبيها سابقاً؟ ألم تدمّر الطائرات الروسية حلب كذلك، أم هي تفعل ذلك أوّل مرّة في ماريوبول وخاركيف وكييف؟! في الواقع لا شيء من ذلك كلّه، فقط اختلفت الآن الوجهة واختلف شكل الضحية. سابقاً كانت الهمجية الروسية الحاكمة منصبّة شرقاً على الشيشانيين والجورجيين والتتار والسوريين، أما اليوم فوجهتها نحو الغرب حيث الأوكرانيون، وربما بعدهم الأستونيون أو الليتوانيون أو البولنديون أو غيرهم من شعوب أوروبا.

الموقف الأميركي والأوروبي عموماً مما يجري في أوكرانيا ليس أخلاقياً، وإن لم يخلُ من بُعدٍ إنساني أخلاقي، الموقف في جوهره وجودي؛ لأنّ حرب بوتين على أوكرانيا جزء أصيل من فلسفته القائمة على احتقار الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي هي جوهر القيم الغربية. وهذا الموقف لم يأت من فراغ، بل يجد صدى معقولاً عند فئات وازنة من الشعب الروسي الممسوحة أدمغة أفرادها بأوهام العظمة القومية الروسية، وليس صعباً على المتتبع قراءة التشابه في سلوك بوتين مع أفكار الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين عن الفضاء الجيوسياسي الثقافي الروسي والتي بالمناسبة تستمد نسغها من نفس المَعين الشعبي لتعودَ وتصبّ فيه.

مستنداً إلى الوقفة القوية لدول العالم وخاصّة الدول الغربية إلى جانب أوكرانيا، ما فتئ الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي يطالب المجتمع الدولي بإجبار الروس على تعويض بلاده عن الدمار الذي تسببوا به في حربهم عليها، وهذا بكل تأكيدٍ مطلب حق، وقد تُستعمل الأموال الروسية المحجوزة لدى هذه الدول لهذه الغاية في المستقبل. وبالمثل يمكن لنا نحن السوريين كما يمكن للعراقيين والأفغان المطالبة مستقبلاً بالتعويض من جميع الدول التي ساهمت في احتلال بلادنا، وتستند حقوقنا هنا إلى مبدأ عدم سقوط جرائم العدوان وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والجرائم الدولية الخطيرة وجرائم الإبادة بالتقادم. وإذا ما عرفنا أنّ التعويض عن الأضرار جزءٌ لا يتجزأ من فلسفة العقاب في القوانين الجنائية عامة، فإنّ النتيجة الطبيعية المترتبة على ذلك أنّ الحق بالتعويض لا يسقط بالتقادم أيضاً، وإذا ما كان من المستحيل الآن – في ظروف توازن القوى الراهن – ملاحقة هؤلاء القادة ومطالبة دولهم بالتعويض، فإنّ المستقبل متغيّر، وقد يكون هناك أملٌ في ذلك ولو بعد حين. ليس بوتين وحده مجرم الحرب، وليس الأوكرانيون وحدهم ضحايا الإجرام في العالم، فالمجرمون كثُر، وما أفصحهم حين يحاضرون بالعدالة وحقوق الإنسان!

تلفزيون سوريا

————————

هل تنتهي المرحلة البوتينية بعد الحرب الأوكرانية؟/ بسام يوسف

لا يهتم التاريخ بأسباب الحروب كما يهتم بنتائجها، فما قبل الحرب يبقى عرضة لاختلاف الأفكار والتحليلات والتفاسير، لكن وقائع الحرب وما تسفر عنه على الأرض، يُصبح واقعاً ملموساً، يصعب الاختلاف حوله.

في مقابلة مع الفيلسوف الأميركي “نعوم تشومسكي”، جرت مؤخراً، قال: (إن هناك احتمالين فقط للحرب الدائرة في أوكرانيا، أولهما تدمير أوكرانيا بالكامل، ثم الانتقال إلى حرب نووية مدمرة للعالم كله، أو ترتيب خطة لخروج بوتين من الفخ الذي أوقع نفسه وروسيا فيه بغزوه لأوكرانيا، خطة قد تتضمن تسوية ما لشبه جزيرة القرم والتزام أوكرانيا، بعدم الانضمام لحلف الناتو).

في العناوين العريضة للحرب الدائرة في أوكرانيا، يُمكن القول إن بوتين خسر هذه الحرب، فقد كشفت هذه الحرب ضعف الجيش الروسي على مستويات عدة، سواء بالتخطيط، أو بضعف المعلومات الاستخبارية، أو بمستوى تدريب الجيش وامتلاكه للمهارات القتالية، ومدى انضباطه، أو على المستوى الاستراتيجي من حيث التحالفات الدولية، ومدى استعداد أطراف دولية كثيرة للمضي قدماً في دعم حلم بوتين، بكسر القطبية الأحادية، وإعادة العالم إلى حالة تعدد الأقطاب.

اعتمد بوتين في حربه ضد أوكرانيا على ثلاثة ركائز أساسية، أولها قوة روسيا العسكرية الساحقة، فيما لو تمت مقارنتها بالقوة العسكرية الأوكرانية، وثانيها حاجة العالم لمصادر الطاقة سواء النفط أو الغاز أو الفحم، وهي مصادر ثلاثة تشكل روسيا طرفا بالغ الأهمية في إمداد السوق العالمية بها، وثالثها رهانه على علاقة الشعب الأوكراني التاريخية بالشعب الروسي، وتوقعاته وتقارير جهاته المختصة، حول رفض نسبة كبيرة من الأوكرانيين لحكومة زيلنسكي وطريقة إدارته للدولة.

بالإضافة إلى الركائز المذكورة، وضع بوتين خطته العسكرية مستنداً على تجارب تدخلاته العسكرية السابقة في عدة مناطق من العالم، متوقعاً أنه سيضع العالم أمام أمر واقع خلال فترة قصيرة، وأن المجتمع الدولي سيقف عاجزاً عن محاصرة روسيا اقتصادياً، بسبب حاجته الماسة للطاقة القادمة منها، وسيكون عاجزاً عن إشعال حرب مع روسيا النووية، وأن الشعب الأوكراني سيمنح الشرعية للحكومة التي سيضعها الروس، بدلاً من حكومة “زيلنسكي”.

اليوم وبعد خمسين يوماً من بداية هذه المعركة، يتضح تماماً أن كل ما ارتكز عليه “بوتين” لخوض معركته في أوكرانيا كان خاطئاً، فلم يستطع أن يحقق مفاجأته العسكرية، والحصار الاقتصادي بدأ منذ اللحظة الأولى ويشتد كل يوم، ومن كان يأمل أن يساندوه بدؤوا يعيدون حساباتهم، والشعب الأوكراني وقف بقوة خلف قيادة “زيلنسكي”.

خسر “بوتين” معركته الاقتصادية، ودفع الأوروبيين للبحث استراتيجياً عن بدائل للطاقة الروسية، الأمر الذي يعني أن ما يشكل مصدر قوة لروسيا في اللحظة الراهنة، لن يبقى كذلك خلال سنوات قليلة، وخسر معركته الأخلاقية بعد مشاهد القتل الجماعي وتدمير المدن، وخسر معركته الإعلامية، وخسر علاقة الشعب الأوكراني بروسيا، إذ أصبحت روسيا بنظر النسبة الساحقة من الأوكرانيين عدوهم الأول، وحلمه بإبعاد حلف “الناتو” عن الحدود الروسية تبخر أيضاً، لا بل إن الحلف سوف يزداد اقتراباً، فما الذي تبقى له ليعلق راية انتصاره عليه؟

وحيدٌ مع قوته النووية يقف اليوم بوتين عارياً، ولم يبق أمامه إلا أن يختار بين هزيمة مدوية، أو حماقة مدوية، وكلتاهما تعني نهاية المرحلة البوتينية من تاريخ روسيا، ومن يمكنه إخراج “بوتين” من مأزقه ليس الصين، ولا الهند، وحدها أوروبا قادرة على كسر هذه المواجهة المدمّرة التي تصر عليها أميركا في مواجهة “بوتين”، ورغم أن الأمر يبدو نوعاً من الخيال أو الفانتازيا السياسية، خصوصاً بعدما فعله بوتين من إغلاق الباب في وجه الأوروبيين، الذين حاولوا استباق الحرب، ثم حاولوا وقفها، وتهديداته المستفزة لدول أوروبية عديدة، إلا أن المصالح بالغة الأهمية لأوروبا في إنهاء هذه الحرب بأسرع وقت ممكن، تظل حاضرة، ويمكن لبوتين الاستفادة منها.

كيفما انتهت الحرب، أو كيفما تم إخراج نهايتها، فإن روسيا ستكون أضعف بكثير عما كانت عليه قبلها، والسؤال الذي ستواجهه روسيا فيما بعد، هو كيفية حل التبعات الكارثية لهذه الحرب، وكيف سيواجه بلد خارج من حرب خاسرة، ومحكوم بالطغيان، تبعاتها أخلاقياً، واقتصادياً وسياسياً.

    في انكفاء البوتينية السياسية، سيصبح النظام السوري أكثر ارتهاناً للنظام الإيراني، وستصبح محاولات تعويمه عربياً أكثر صعوبة

في جانب آخر، يبدو السؤال أيضاً، واجباً، عند تناول الدول التي كانت تسند ظهرها إلى الحائط الروسي، وفي مقدمتها النظام السوري، سيما وأن أخباراً عديدة تتوارد من سوريا، وتقول بتسليم الروس مواقع عسكرية لهم في سوريا لميليشيات إيرانية، الأمر الذي يعني انكفاء الدور العسكري الروسي داخل سوريا، وانحصاره في قواعدها العسكرية على ساحل المتوسط، الأمر الذي يعني أيضاً، استعادة الحرس الثوري الإيراني لكامل سيطرته على القرار السوري، بعد أن تقلص بسبب محاولة الروس الاستحواذ عليه.

إذاً في انكفاء البوتينية السياسية، سيصبح النظام السوري أكثر ارتهاناً للنظام الإيراني، وستصبح محاولات تعويمه عربياً أكثر صعوبة، وسيكون أمامه احتمال وحيد، هو أن تتبنى إسرائيل تعويمه عبر اتفاقات بينهما تتعلق بعلاقته بحزب الله وإيران، وتتعلق بالجولان وتطبيع العلاقات، ورغم أن النظام السوري لا يشترط أي شيء مقابل بقائه في السلطة، فإن الأمر لن يكون متاحاً له كما يشتهي، فهو قد أصبح اليوم أضعف بكثير من أن يختار أي خيار لا توافق عليه إيران.

صحيح أن هذه الحرب أعادت ترميم الصدوع التي حدثت سواء في حلف الناتو، أو في علاقة أميركا بأوروبا، لكن نهاية هذه الحرب لا تعني أبداً أن ما ترمم قد انتهى أمره، وأن ما تم تجاهله تحت دوي مدافع الحرب سيطوى بعدها، على العكس فإن هذه الصدوع ستعود مرة أخرى، لكن بقوة أكبر، وأن تصدّع البيت الأوروبي قد يكون احتمالاً حاضراً أكثر من أي وقت مضى، فالحروب التي تشعلها أميركا في العالم، وترغم حلفاءها على المشاركة فيها، وتكون الرابح الأهم منها، لن تظل المعادلة الوحيدة في إدارة أميركا لمصالحها في العالم، ثمة مصالح أخرى ترى في اعتماد صيغ أخرى ضرورة لا بدّ منها بعد الحدث الأوكراني.

تلفزيون سوريا

———————–

نتيجة حصول خطأ فني في القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة” نستمر في تغطية هذا الملف الحيوي هنا

================================

تحديث 27 نيسان 2022

———————–

الاستخبارات الخارجية البريطانية تغرّد “أسرارها

ديمة ونوس

قبل اثني عشر عاماً، شهدت بريطانيا الظهور العلني الأول لرئيس جهاز الاستخبارات الخارجية “أم آي 6” (MI6) المعادل البريطاني لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.

كتبت صحيفة “ذا غارديان” وقتها، أن عالم الاستخبارات الغامض على وشك أن يشهد انفتاحاً وصفته بـ”التاريخي”. ولإبراز أهمية الحدث، تابعت الصحيفة مجريات الخطاب الذي أدلى به رئيس جهاز الاستخبارات حينها جون سويرز مباشرة دقيقة بدقيقة.

وعلى ما يبدو، لم يكن فحوى الخطاب الذي ألقاه رئيس جهاز الاستخبارات أو “C” كما يشار إليه باختصار، هو الحدث الأبرز، بل خروج الجهاز من الظلّ للمرة الأولى في تاريخ المؤسسة، وهو ما أضاءت عليه لاحقاً كل الصحف البريطانية. تحدث “C” عن دور جهاز الاستخبارات في حماية البريطانيين وعن أهمية الشفافية خلال القيام بتلك المهمة.

تحدث أيضاً عن دور الاستخبارات في مواجهة إيران لوقف الانتشار النووي، إذ إن الدبلوماسية وحدها لا تكفي بحسب رأيه. وختم بالقول إن “على المؤسسات التي تعمل بالسر، أن تحافظ على سريتها حتى وإن تحدثت علناً من حين إلى آخر كما فعلتُ أنا اليوم”، مضيفاً أن “السرية ليست مفردة قذرة. إنها تلعب دوراً حاسماً في الحفاظ على أمن وسلامة بريطانيا”.

الغزو الروسي لأوكرانيا يغيّر المعادلة

إلا أن الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي بدأ في 24 فبراير/شباط الماضي، غيّر المعادلة تماماً، وأخرج تلك “السرية” إلى العلن. وباتت المعلومات التي تنقلها وزارة الدفاع عن جهاز الاستخبارات بشكل يومي، تلعب دوراً “حاسماً”، ليس فقط في الحفاظ على أمن وسلامة بريطانيا، بل أيضاً في تغذية قدرات الجيش الأوكراني على المواجهة والمقاومة.

يقول خبير عسكري بريطاني متابع لعمل أجهزة الاستخبارات، لـ”العربي الجديد”، إن “المعلومات التي كان يتعمّد جهاز الاستخبارات البريطاني تسريبها، ساعدت في تفوق الأداء العسكري الأوكراني، إلى جانب دحض التحليلات القائلة إن الجيش الروسي سينتصر في غضون أسابيع قليلة إن لم نقل خلال أيام”. وشكّلت تلك الإفادات العلنية “انتصاراً” كما يصفه بعض المختصين بـ”حرب المعلومات” التي عُرف فيها الكرملين تقليدياً بخبرته وتفوقه.

بعد منتصف فبراير هذا العام، بدأت وزارة الدفاع البريطانية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمشاركة معلومات عسكرية عن صراع خارجي، في سابقة هي الأولى من نوعها. بدأ ضخّ المعلومات في 17 فبراير تحديداً، متيحاً تفاصيل عن العمليات التي يقوم بها الجانب الروسي أكثر بكثير مما يسرّبه عن تحرّكات الجانب الأوكراني.

ويقول الخبير العسكري البريطاني لـ”العربي الجديد”، إن “المعلومات التي كانت تشاركها وزارة الدفاع البريطانية كبيانات صحافية، أعطت حيثيات سير العمليات. عادةً، وزارة الدفاع تنشر بيانات تخصّ نشاطاتها اليومية، إلا أن البيانات التي نشرتها وزارة الدفاع مع بداية الغزو كانت حول نشاطات روسيا اليومية “To Name and Shame”. هذا المصطلح الإنكليزي يقال عندما تتم الإشارة علناً للأخطاء التي ترتكبها جهة ما، والهدف من تلك الإشارة حشد الرأي العام ضد سلوك معيّن بهدف إحباطه.

تحوّل في عمل الاستخبارات البريطانية

وكان رئيس وكالة الأمن السيبراني البريطانية جيريمي فليمينغ قد قال في خطاب له نُشر على موقع الوكالة أواخر مارس/آذار الماضي، “إن الاستخبارات أفرجت عن معلوماتها بسرعة بعد منتصف فبراير لتسبق ما يمكن لـ(الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين أن يقوم به. انطلاقاً من تحذيرات الحرب إلى المعلومات الاستخباراتية عن العلم الكاذب المصمّم لتقديم فرضية زائفة للغزو، وصولاً إلى الادعاء الروسي الكاذب باستخدام أوكرانيا أسلحة كيميائية محظورة”.

فليمينغ: الاستخبارات أفرجت عن معلوماتها بسرعة لتسبق ما يمكن لبوتين أن يقوم به (نيكلاس هالين/فرانس برس)

وإن تعدّدت أسباب اتخاذ هذه الخطوة، إلا أنها تمثّل بكل تأكيد تحوّلاً جذرياً في طريقة عمل الاستخبارات البريطانية. بعض المحلّلين الغربيين يرى أن بريطانيا أملت من هذا النهج الجديد إيقاف الحرب التي سبق أن حذّرت منها قبل أشهر طويلة عبر إحراج الجانب الروسي بكمية المعلومات الدقيقة المتوفّرة لديها، وأيضاً عبر حشد الدول الغربية وتمهيد الطريق أمام اتخاذها إجراءات وعقوبات أشدّ إيلاماً مما لو كانت الصورة مشوشة حول حقيقة ما يجري.

إلا أن هذه الآلية لم توقف الغزو الروسي، مع أن بوادره بدأت قبل نحو عام مع حشد موسكو قواتها بالقرب من أوكرانيا، بحسب ما أظهرته صور الأقمار الصناعية لأجهزة الاستخبارات. فالدول الغربية كألمانيا وفرنسا وغيرها قلّلت من أهمية وجدية تلك المعلومات “السرّية”، كل دولة حسب مصالحها السياسية والاقتصادية، وبالتالي لم تكوّن صورة واضحة ودقيقة حول نوايا بوتين.

ولا يمكن إغفال الخطوة “الشجاعة” التي اتّخذتها ألمانيا بداية الغزو عبر إرسالها 5000 خوذة إلى أوكرانيا، دعماً منها لكييف وأيضاً حرصاً على تدفق الغاز الروسي. أما فرنسا فأقدمت لاحقاً على إقالة رئيس المخابرات العسكرية الجنرال إريك فيدو بعد 7 أشهر فقط من تعيينه، لفشله في تقدير ما كان مخططاً له.

وكان رئيس أركان الجيش الفرنسي الجنرال تييري بوركار قد أقرّ لصحيفة “لوموند” بوجود اختلافات جوهرية في التحليل بين الفرنسيين والأميركيين حول الهجوم الروسي على أوكرانيا. فبالنسبة للفرنسيين والألمان، كان الهجوم محتملاً. أما بالنسبة للبريطانيين والأميركيين، فكان مرتقباً.

انفتاح الاستخبارات البريطانية على الجمهور

لطالما كان جمع المعلومات الاستخباراتية وتحليلها، شأناً مشتركاً بين الولايات المتحدة وبريطانيا. إلا أن البريطانيين يتّسمون تاريخياً بالسرّية في ما يتعلق بالنشاط الاستخباراتي أكثر بكثير من نظرائهم الأميركيين، ما جعل مشاركتهم المعلومات تجربة جديدة وتحدياً صعباً وصفه كثيرون بالتحول الثقافي الكبير.

ولم تعترف الحكومة رسمياً بوجود جهاز “أم آي 6” إلا بعد أكثر من ثمانين عاماً على تأسيسه في العام 1909. وحتى هذه اللحظة، لا تُعرف هوية أي عنصر عامل في المؤسسة باستثناء رئيسها وهو حالياً ريتشارد مور الذي تخلّى عن شغفه الأول في أن يكون صحافياً بعدما رفضت “بي بي سي وورلد” توظيفه من دون حتى أن تجري مقابلة معه، على حدّ تعبيره.

تنتقل الاستخبارات إذاً بشكل تدريجي نحو دور أكثر انفتاحاً على الجمهور الأوسع، وتطوّر طرق تفكيرها حول كيفية إدارة هذا التفاعل، مستخدمة أكثر الوسائل عصرية في الوقت الراهن (وسائل التواصل الاجتماعي).

هذا “العالم الافتراضي” المليء بالمحللين غير المتردّدين في التعليق كل لحظة على صور الأقمار الصناعية أو على مقاطع الفيديو المتاحة على جميع المنصّات الرقمية، يمثّل تحدياً أمام أجهزة الاستخبارات من جهة، والمؤسسات الرسمية من جهة أخرى. تلك التي لم تعد تمتلك خيار “السريّة” أو الصمت النسبي؛ إذ إن مساحة المعلومات الشاسعة اليوم باتت من المجالات التي تتطلّب ممن يريد أن يحدث تغييراً أن يتنافس عليها ويؤثّر على الرأي العام عبرها.

وفي حين كان أول خطاب علني لرئيس جهاز الاستخبارات البريطانية عام 2020، بات الرجل المكلّف بهذا المنصب اليوم نشيطاً على وسائل التواصل. لا بل إن انشغاله بالتقارير والمعلومات المتعلقة بالغزو الروسي المرتقب، لم يمنعه في الخامس من فبراير من التغريد مازحاً على صفحة وكالة الأمن السيبراني البريطانية التي شاركت على حسابها الكلمة اليومية في لعبة “ووردل” الشهيرة. كتب مور مازحاً: “أفكّر جدياً بإلغاء متابعتي للحسابات التي تنشر حلول “ووردل” اليومية”.

عملية رفع السرّية تلك والإفراج عن المعلومات الاستخباراتية ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، لا يمكن أن تتم قبل تدريب طويل وتدريجي وصارم، إضافة إلى مرورها بعملية تقييم رسمية.

وكان لا بدّ لهذه الخطوة أن تستفيد من تجارب الغزو الأميركي على العراق بعدما تسبّبت المعلومات الخاطئة أو غير الدقيقة حول امتلاك نظام صدام حسين لأسلحة دمار شامل، في “تشويه” سمعة الاستخبارات الأميركية والبريطانية معاً. بعد ما يقارب العقدين من الزمن، لن تتورّط هذه الأجهزة في نشر معلومات مرتجلة وعشوائية قد تؤدي إلى مزيد من الفوضى.

كما أن بريطانيا استفادت من أزمة أوكرانيا 2014 واستيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم، في حين كان حلف شمال الأطلسي “نائماً”. إضافة إلى الانسحاب “الفوضوي” من أفغانستان وغياب أي تقرير عن احتمال استلام حركة “طالبان” للسلطة. هذا عدا عن هجوم سالزبري الذي اتُهمت الاستخبارات الروسية بتنفيذه في مارس/آذار 2018، مستخدمة غاز الأعصاب لتسميم عميل “أم آي 6” المزعوم سيرغي سكريبال، وابنته.

غزو أوكرانيا فرصة لتبييض صورة الاستخبارات

كل تلك الأحداث دفعت بريطانيا لاستثمار المعلومات المسرّبة من جهاز استخباراتها لحياكة سردية تواجه عبرها بوتين. بمعنى آخر، كانت أوكرانيا فرصة ذهبية لتغيير سمعة “غير طيبة” لاحقت أجهزة الاستخبارات لزمن طويل، ما استثمره رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون لـ”إنقاذ” نفسه من الأزمات المتتالية.

خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان إحدى تلك الأزمات، والمعلومات المسرّبة بشكل علني ساعدت جونسون على لملمة صورته على الساحة الأوروبية على الرغم من “بريكست”.

هذا النهج الجديد اعتبره البعض “انتصاراً” لبريطانيا والولايات المتحدة في حرب المعلومات التي برعت فيها روسيا تقليدياً، ليبدو أيضاً أن الجانب الاستخباراتي الروسي أقل دراية بما يجري وأقل معرفة وتقديراً بحجم المعلومات المتوفرة لدى الجانبين البريطاني والأميركي. ولا يعود ذلك لتفوق تلك الاستخبارات فقط، بل أيضاً لأن جهاز الاستخبارات الروسي لا يخبر بوتين بحسب خبراء إلا بما يريد ويحب سماعه. وبالتالي هو لم يكن يحصل على الصورة كاملة من مسؤوليه.

مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز زار موسكو بداية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وحذّر المسؤولين الروس من أن واشنطن تعرف ما هو مخطط له. بعض المسؤولين الروس قالوا إنهم علموا بنيّة بلادهم غزو أوكرانيا من بيرنز.

بدت خطة بوتين العسكرية الأولية بحسب بعض مسؤولي الاستخبارات الغربيين وكأنها من صنع ضابط في المخابرات السوفييتية، إلا أن بوتين هو صانع القرار الوحيد وكل الدراسات تشير إلى أن حلقة الثقة حوله تضيق يوماً بعد يوم. وحين لم يكن دور الاستخبارات مقتصراً على جمع المعلومات ونشرها فحسب، بل تحليلها أيضاً وفكفكة رموزها لاستقراء مستقبل الأحداث، تعيّن على أجهزة الاستخبارات التسلل إلى رأس بوتين والتقاط أفكاره لفهم نواياه وما هي خططه المقبلة، ما شكّل تحدّياً استخباراتياً صعباً.

وحتى إن لم تساهم تلك التسريبات العلنية في وقف العدوان الروسي على أوكرانيا، إلا أنها ساهمت بحسب الاستخبارات البريطانية والأميركية في حرمان موسكو من قدرتها على تبرير الغزو أمام شعبها (قبل أن يفرض الكرملين قيوداً على محتوى وسائل التواصل داخل البلاد)، وأمام الرأي العام الغربي.

تحالف العيون الخمس الاستخباراتي، والذي يضمّ الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، حشد جهوده لدحض مبرّرات بوتين للغزو عبر المعلومات التي وفّرها. ونقلت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية عن كير جايلز، كبير الزملاء الاستشاريين في مركز الأبحاث “تشاتام هاوس”، قوله إن الدول الناطقة بالإنكليزية تجمّعت ضد الأوروبيين، في إشارة إلى ألمانيا وفرنسا.

وبحسب جايلز، فإن المقارنة بين نهج قادة المملكة المتحدة والولايات المتحدة، الذين لم يتوقفوا منذ عام عن التحذير من استعدادات الجيش الروسي، وبين نهج نظرائهم الفرنسيين الذين لم يتنبؤوا بدقة، تفسّر الكثير.

ومع أهمية هذا النهج الجديد في التعامل مع سرية المعلومات وفي خلق طرق تفاعلية مع الجمهور الأوسع، إلا أن الأمر لا يخلو بحسب خبراء من مخاطر قد تكون جسيمة. الكشف عن معلومات استخباراتية قد يؤدي إلى الكشف عن مصادرها وعن الأساليب المستخدمة للحصول عليها. وأيضاً قد يساهم في تضرّر سمعة تلك الأجهزة من جديد، كما حدث بعد غزو العراق عام 2003.

وإذا كانت نوايا أجهزة الاستخبارات تصبّ في المصلحة العامة عبر “فضح النوايا الروسية”، فإنها قد تكون محرجة إن أخطأت، خصوصاً أن الجانب الروسي يتحيّن الفرصة لاستغلال سوء تقدير تلك الأجهزة والاستثمار في أي زلّة قد تصدر عنها.

وسبق لمسؤولين في الكرملين أن عبّروا في وقت مضى عن ابتهاجهم بعدما أخطأت تسريبات الاستخبارات الأميركية حول غزو أوكرانيا في 16 فبراير. فدعت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا وسائل الإعلام الغربية إلى “نشر الجدول الزمني لغزواتنا القادمة لهذا العام”، حتى تتمكن من التخطيط لعطلاتها.

العربي الجديد

——————————-

لماذا تواصل الدبلوماسية الغربية مع روسيا فشلها؟/  آن أبلباوم

ترجمة حفصة جودة

كم أحسد ليز تراس على فرصتها! وكم أندم على فشلها التام في استغلال تلك الفرصة! لمن لم يسمع بها من قبل، فليز تراس هي وزيرة الخارجية البريطانية التي ذهبت إلى موسكو هذا الأسبوع كي تخبر نظيرها الروسي سيرجي لافروف أن على بلاده ألا تغزو أوكرانيا.

لم تنجح هذه الرحلة، ففي مؤتمرهما الصحفي البارد شبّه لافروف حوارهما بالأبكم الذي يتحدث مع أصم، ولاحقًا سرّب حقائق تفيد بأنها خلطت مناطق روسية بمناطق أوكرانية، ليضيف بعض الإهانة للخسارة العامة.

فعل لافروف ذلك من قبل، فقد كان وضيعًا مع الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل العام الماضي، كان مزعجًا في المؤتمرات الدولية ووقحًا مع الصحفيين، سلوكه هذا ليس عارضًا، فلافروف مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يستخدم العدوانية والتهكم كأدوات لإظهار احتقاره لمن يحاوره، ولوضع المفاوضات في إطار عديم الجدوى حتى قبل أن تبدأ لخلق حالة من الرهبة واللامبالاة، الهدف من ذلك وضع الدبلوماسيين الآخرين في خانة الدفاع أو جعلهم يستسلمون وهم في حالة من الاشمئزاز.

لكن حقيقة لافروف كشخص مزعج لا يحترم الآخرين معلومة قديمة، وكذلك حقيقة أن بوتين حاضر القادة الأجانب لساعات وساعات عن مظالمه الشخصية والسياسية، لقد فعل ذلك في أول مرة التقى بها الرئيس باراك أوباما قبل أكثر من عقد، وفعل الأمر نفسه الأسبوع الماضي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

من المفترض أن تراس على دراية بذلك كله، لذا بدلًا من تقديم حديث لا طائل منه عن القواعد والقيم، كان من المفترص أن تبدأ مؤتمرها الصحفي بتلك الطريقة:

“مساء الخير سيداتي وسادتي الصحفيين، سعيدة بالانضمام إليكم بعد لقائي بنظيري الروسي سيرجي لافروف، هذه المرة لم نزعج أنفسنا بمناقشة معاهدات لا يحترمها ووعود لا يحفظها، لذا أخبرناه بدلًا من ذلك أن غزو أوكرانيا سيحمّله تكلفةً كبيرةً جدًا، أكبر بكثير مما يتخيل، إننا نخطط الآن أن نقطع صادرات الغاز الروسي تمامًا وسوف تجد أوروبا إمداداتها من الطاقة في مكان آخر، نحن نجهز الآن لمساعدة المقاومة الأوكرانية ولعقد من الزمان إذا تطلب الأمر، إننا نقدم دعمنا 4 أضعاف للمعارضة والإعلام الروسي، نريد أن نتأكد من سماع الروسيين لحقيقة هذا الغزو بأعلى صوت ممكن، وإذا كنت ترغب في تغيير النظام بأوكرانيا فسوف نعمل على تغيير النظام في روسيا”.

كان باستطاعة تراس وقبلها بوريل إضافة لمسة من الإهانة الشخصية على غرار لافروف، والتساؤل بصوت عالٍ عن قدرة الراتب الرسمي للافروف على شراء ممتلكات فارهة تستخدمها عائلته في لندن.

كان بإمكانها سرد قائمة من أسماء العديد من العاملين في القطاع العام الروسي الذين يرسلون أبناءهم لمدارس في باريس أو لوجانو، كان بإمكانها أن تعلن أن هؤلاء الأطفال في طريقهم للوطن الآن مع آبائهم: لا مزيد من المدارس الأمريكية في سويسرا، ولا مزيد من الشقق الصغيرة في حي نايتسبريدج (أحد أحياء لندن الغنية)، ولا مزيد من اليخوت في البحر المتوسط.

بالطبع لم تكن تراس لتقول أي من ذلك وكذلك بوريل وماكرون والمستشار الألماني الذي توجه إلى موسكو هذا الأسبوع، ولو حتى سرًا، للأسف ما زال قادة الغرب والدبلوماسيون الذين يحاولون الآن وقف الغزو الروسي على أوكرانيا، يعتقدون أنهم يعيشون في عالم يهتم بالقواعد، حيث تصبح البروتوكولات الدبلوماسية مفيدةً ويُقدّر فيه الحديث المهذب.

كلهم يعتقدون أنه بذهابهم إلى روسيا، فإنهم سيتحدثون مع أشخاص تتغير عقولهم بالنقاش والحجة، يعتقدون أن النخبة الروسية تهتم بأشياء مثل “سمعتها”، إنها ليست كذلك.

في الحقيقة، عندما نتحدث مع الجيل الجديد من المستبدين سواء في روسيا أم الصين أم فنزويلا، فإننا نتعامل مع شيء مختلف تمامًا: أشخاص لا يهتمون بالمعاهدات والوثائق، أشخاص يحترمون فقط القوة الصارمة.

فروسيا تنتهك الآن مذكرة بودابست الدبلوماسية التي وقعتها عام 1994 وتحمي أمن أوكرانيا، هل سمعت بوتين يتحدث عن ذلك من قبل؟ بالطبع لا، إنه لا يشعر بالقلق بشأن سمعته غير الجديرة بالثقة: فالكذب يجعل خصومك يقظين، وكذلك لا يأبه لافروف إذا كان مكروهًا، فالكراهية تمنحه هالة من القوة.

نواياهم مختلفة عن نوايانا أيضًا، فهدف بوتين ليس روسيا آمنة وناجحة ومزدهرة، بل روسيا التي يمكنه أن يبقى على رأسها، أما هدف لافروف فهو الحفاظ على منصبه في عالم النخبة الروسية الموحل، وبالطبع الحفاظ على ماله.

ما نعنيه بكلمه “مصالح” يختلف تمامًا عن معناها لديهم، عندما يستمعون إلى دبلوماسيينا فإنهم لا يسمعون ما يهدد حقًا مناصبهم وسلطتهم وثرواتهم الشخصية.

رغم كل محادثاتنا، لم يحاول أحد بشكل جدي إنهاء – أو وضع حد – لغسيل الأموال الروسي في الغرب، أو النفوذ السياسي والمالي الروسي في الغرب، لم يفكر أحد بجدية في ضرورة استقلال ألمانيا عن الغاز الروسي، أو حظر فرنسا للأحزاب السياسية التي تقبل المال الروسي، أو ضرورة منع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة الأقلية الحاكمة الروسية من شراء عقارات في لندن أو ميامي، لم يفكر أحد أن الرد المناسب على حرب المعلومات التي شنها بوتين على نظامنا السياسي يجب أن يكون حرب معلومات مماثلة.

نحن الآن على شفا أزمة كارثية، فالسفارات الأمريكية والبريطانية والأوروبية أخلت مبانيها في أوكرانيا، كما حُذرّ المواطنون للمغادرة، لكن هذه اللحظة المروعة لا تمثل فقط فشلًا للدبلوماسية، بل تعكس كذلك فشلًا للتصور الغربي، وإنكارًا لجيل طويل من الدبلوماسيين والسياسيين والصحفيين والمفكرين لفهم نوع الدولة التي أصبحت عليها روسيا والاستعداد وفقًا لذلك.

لقد رفضنا أن نرى ممثلي تلك الدولة على حقيقتهم، لقد رفضنا أن نتحدث إليهم بطريقة ربما كانت ضرورية، والآن يبدو أن الوقت تأخر كثيرًا.

المصدر: ذي أتلانتيك

صحفية ومؤرخة أمريكية، حازت على جائزة بوليتزر عن فئة الأعمال غير الخيالية

——————————

تحرير بدون انتصار: مقابلة آن أبلباوم التي لا تفوت مع فولوديمير زيلينسكي

أجرى مؤلف كتاب «شفق الديمقراطية» مقابلة مع رئيس أوكرانيا مع رئيس تحرير The Atlantic. خيارات الدولة الأوروبية في مواجهة الهجوم الوحشي لفلاديمير بوتين

أجرت الكاتبة المرموقة والحائزة على جائزة بوليتزر آن أبلباوم جنبا إلى جنب مع الصحفي جيفري غولدبرغ – رئيس تحرير The Atlantic – مقابلة مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي تحدث عن المرحلة الثانية من الغزو الروسي لبلاده. وتحدثت عن فرص الانتصار الذي لا يزال في الهزيمة العسكرية. في مكان عمله في كييف، العاصمة، أوضح الزعيم الأوروبي لوسائل الإعلام الشهيرة ما تحتاجه أوكرانيا للبقاء على قيد الحياة. لكنه أشار أيضًا إلى الثمن الذي دفعه شعبه بالفعل من 24 فبراير إلى يومنا هذا، عندما يتم الاحتفال بـ 51 يومًا من الاقتحام.

فيما يلي الفقرات الأكثر أهمية في The Atlantic:

«كييف الآن نصف طبيعية. تمت إزالة الدبابات الروسية المحترقة من طرق الوصول إلى المدينة، وتعمل إشارات المرور، وأعمال المترو، ويمكن شراء البرتقال. كان أداء أوركسترا balalaika البهجة للاجئين العائدين إلى محطة القطار الرئيسية في وقت سابق من هذا الأسبوع, اليوم الذي وصلنا فيه للقاء فولوديمير زيلينسكي, رئيس أوكرانيا, “لاحظ المؤلفون.

«الحياة الطبيعية مضللة. على الرغم من فشل الروس في حملتهم الافتتاحية، إلا أنهم يواصلون قصف العاصمة ويتجمعون الآن في الشرق لهجوم جديد على أوكرانيا. يجب على زيلينسكي إعداد بلاده، والعالم، للمعارك التي يمكن أن تكون أكثر فتكا من أي شيء ينظر إليه حتى الآن. قال لنا الجنرال المسؤول عن دفاع كييف، ألكسندر غروزيفيتش، خلال جولة في الضواحي الشمالية الغربية المدمرة أنه يتوقع من الروس محاولة العودة إلى العاصمة باستخدام تكتيك مكثف من «الأرض المحروقة» على طول الطريق: التدمير الكامل بالمدفعية البرية والغارات الجوية، تليها وصول القوات»، استمروا.

ويتابع أبلباوم وغولدبرغ: عندما التقينا مع زيلنسكي في كييف ليلة الثلاثاء، قال لنا نفس الشيء: التفاؤل الذي أعرب عنه حاليا العديد من الأمريكيين والأوروبيين – وحتى بعض الأوكرانيين – غير مبرر. وقال زيلينسكي إنه إذا لم يتم طرد الروس من المقاطعات الشرقية لأوكرانيا، «يمكنهم العودة إلى وسط أوكرانيا وحتى كييف. إنه ممكن. الآن ليس وقت النصر». ولا يمكن لأوكرانيا أن تفوز – و «الفوز» يعني الاستمرار في الوجود كدولة ذات سيادة، وإن كانت محاصرة بشكل دائم – إلا إذا تحرك حلفاؤها في واشنطن وفي جميع أنحاء أوروبا بسرعة لتسليح البلد بما فيه الكفاية. وقال «لدينا فرصة صغيرة جدا».

«كان الوقت متأخرا عندما التقينا زيلينسكي في مجمعه. كانت الشوارع المحيطة متحصنة وفارغة، وكان المبنى نفسه مظلمًا تمامًا تقريبًا. قادنا الجنود المصابون بمشاعل من خلال متاهة من الممرات مع أكياس الرمل إلى غرفة خالية من النوافذ ومضاءة بألوان زاهية، مزينة بالأعلام الأوكرانية فقط. لم يكن هناك بروتوكول رسمي، ولا انتظار طويل، ولم يُطلب منا الجلوس في نهاية طاولة طويلة. Zelensky، الممثل الكوميدي الذي أصبح رمزًا عالميًا للحرية والشجاعة، دخل الغرفة بهدوء»، قال المؤلفون.

سلط مؤلف كتاب The Iron Curtain ومحرر The Atlantic الضوء على دخول زيلينسكي الخاص إلى المكان الذي قابلوه فيه: «مرحبًا!» , قال, بمرح, ثم شرع في الشكوى من ظهره. («لدي ظهر، وهذا هو السبب في أن لدي بعض المشاكل، ولكن لا بأس بذلك!»). وشكرنا على عدم تصوير المقابلة: على الرغم من أنه كان ممثلًا تلفزيونيًا محترفًا طوال حياته البالغة، إلا أنه من المريح عدم تصويره من وقت لآخر.

«داخل وخارج الكاميرا، يتصرف Zelensky عمدا بشكل متواضع. في جزء من العالم حيث القيادة غالبا ما تنطوي على موقف جامد والأخلاق أبهى – وحيث تتطلب لافتات السلطة العسكرية، على أقل تقدير، كتاف واضحة جدا – انه، من ناحية أخرى، يثير التعاطف ومشاعر الثقة على وجه التحديد لأنه يبدو، على حد تعبير معروف الأوكرانية، «مثل واحد منا». إنه نوع من المناهض لبوتين: فبدلاً من تلغراف تفوق قاتل بارد العينين، يريد من الناس أن يفهموه كرجل عادي، أب في منتصف العمر يعاني من مشاكل في الظهر».

«بدأنا المقابلة بتذكير زيلنسكي، الرئيس اليهودي لبلد أرثوذكسي كاثوليكي مسيحي إلى حد كبير، بأن كلماته ستظهر في يوم الجمعة العظيمة في التقويم الغربي وقبل أول سيدر لعيد الفصح مباشرة، وهو عطلة تمثل تحرير أمة مستعبدة من ديكتاتور شرير».

«لدينا فراعنة في البلدان المجاورة»، قال زيلينسكي، مبتسما. (الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو هو، في أذهان العديد من الأوكرانيين، نوع من الفرعون المرتبط ببوتين.) ولكن على الرغم من أن الأوكرانيين يواجهون عدوًا هائلاً، إلا أنهم لا يتوقون إلى نزوح: «لن نذهب إلى أي مكان». كما أن Zelensky لا تخطط لقضاء 40 عامًا في التجول في الصحراء. «لدينا بالفعل 30 عامًا من استقلالنا. لا أريد منا أن نكافح من أجل استقلالنا لمدة 10 سنوات أخرى»، كتب أبلباوم وجولدبرغ.

«الغزو الروسي جعله يشك فيما إذا كان لا يزال من الممكن ربط الدين بالأخلاق. «لا أفهم متى الممثلون الدينيون لروسيا» – هنا كان يشير إلى بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الموالي لبوتين – «يقولون إنهم يمكّنون الجنود من قتل الأوكرانيين». والأسوأ من ذلك، «لا أستطيع أن أفهم كيف أن دولة مسيحية، الاتحاد الروسي، مع أكبر مجتمع أرثوذكسي في العالم، تقتل الناس هذه الأيام بالذات». خلال موسم عيد الفصح، يخطط الروس لـ «معركة كبيرة في دونباس»، المنطقة التي تحتلها روسيا في الجزء الشرقي الأقصى من أوكرانيا. «هذا ليس سلوكًا مسيحيًا على الإطلاق، كما أفهمه. في عيد الفصح سوف يقتلون، وسوف يقتلونهم. ‘»

تابع Applebaum و Godberg: كنتيجة ل, سيقضي العديد من الأوكرانيين الموسم المقدس تحت الحصار, يختبئون في الأقبية. لن يعيش الآخرون لرؤية الحفلة على الإطلاق. قبل ساعات قليلة فقط، أول شيء صباح يوم الجمعة، ضربت القنابل الروسية كييف مرة أخرى. وقال زيلينسكي: «أوكرانيا بالتأكيد ليست في مزاج للاحتفال». «غالبًا ما يصلي الناس من أجل مستقبل أسرهم وأطفالهم. أعتقد أنهم اليوم سوف يصلون من أجل الحاضر، لإنقاذ الجميع».

«يقضي Zelensky الكثير من وقته على الهاتف، على Zoom، على سكايب، والإجابة على أسئلة الرؤساء ورؤساء الوزراء، وغالبًا ما تكون نفس الأسئلة، تتكرر إلى الشبع. «أحب الأسئلة الجديدة»، كما يقول. «ليس من المثير للاهتمام الإجابة على الأسئلة التي سمعتموها بالفعل.» إنه يشعر بالإحباط، على سبيل المثال، بسبب الطلبات المتكررة من قائمة أمنياته لأنظمة الأسلحة. «عندما يسألني بعض القادة عن الأسلحة التي أحتاجها، أحتاج إلى لحظة لأهدأ، لأنني أخبرتهم بذلك الأسبوع الماضي. إنه يوم جرذ الأرض. أشعر مثل بيل موراي. ‘»

واضاف «يقول انه ليس لديه خيار سوى الاستمرار في المحاولة. أنا آتي وأقول أنني بحاجة إلى هذا السلاح بالذات. لديك وهنا هو؛ نحن نعرف أين يتم تخزينها. هل يمكنك إعطائها لنا؟ يمكننا حتى الطيران بطائرات الشحن الخاصة بنا واستلامها؛ يمكننا حتى إرسال ثلاث طائرات في اليوم. نحن بحاجة إلى مركبات مدرعة، على سبيل المثال. وليس واحدة في اليوم. نحن بحاجة إلى 200 إلى 300 في اليوم. إنها ليست سيارات الأجرة الشخصية، فقط بالنسبة لي؛ جنودنا بحاجة إلى وسائل النقل. هناك رحلات طيران متاحة، يمكن ترتيب كل شيء، يمكننا القيام بجميع الخدمات اللوجستية. ‘»

تشمل هذه القائمة، وفقًا لمؤلفي المذكرة: أنظمة الصواريخ متعددة الإطلاق؛ مركبات مدرعة (حاملة أفراد، مشاة، من بين أمور أخرى)؛ دبابات T-72 أو دبابات مماثلة من الولايات المتحدة أو ألمانيا؛ أنظمة الدفاع الجوي S-300 أو «BUK» أو ما يعادلها الغربي؛ الطائرات العسكرية، التي اعتبرتها أوكرانيا أساسي. قطع المدفعية.

«ليس الأمر أن مختلف الرؤساء ورؤساء الوزراء الذين يعلنون تعاطفهم مع القضية الأوكرانية لا يريدون المساعدة»، وقال زيلينسكي: «إنهم ليسوا ضدنا. إنهم يعيشون فقط في وضع مختلف. وطالما أنهم لم يفقدوا والديهم وأطفالهم، فإنهم لا يشعرون بنفس الطريقة التي نشعر بها.» ويقارن ذلك بالمحادثات التي يجراها مع المدافعين الاستثنائيين عن ماريوبول، المدينة الساحلية المحاصرة على البحر الأسود حيث ربما يكون 21ألف مدني قد قتلوا حتى الآن. «على سبيل المثال، يقولون: «نحن بحاجة للمساعدة؛ لدينا أربع ساعات.» وحتى في كييف لا نفهم ما هي أربع ساعات. في واشنطن، أنا متأكد من أنهم لا يفهمون. ومع ذلك، نحن ممتنون للولايات المتحدة، لأن الطائرات التي تحمل أسلحة تستمر في الوصول. ‘»

«تحدث إلينا رئيس أركان زيلنسكي، أندريه يرماك، في وقت لاحق من ذلك المساء، كما أعرب عن ارتباكه بشأن الوتيرة التي تتحرك بها إدارة بايدن. تقدم واشنطن أسلحة جديدة كل يوم، وقد خصص الرئيس جو بايدن للتو 800 مليون دولار إضافية للدفاع عن أوكرانيا. أخبرنا يرماك أنه وزيلنسكي تربطهما علاقات قوية مع العديد من الممثلين الأمريكيين الرئيسيين، وهو انقطاع عن الإدارة السابقة، التي سحبت سفيرها قبل «مكالمة هاتفية مثالية» لدونالد ترامب مباشرة مع زيلينسكي (المكالمة التي أثارت أول اتهام) ولم تحل محلها أبدًا. بايدن، قال يرماك، هو «رجل يمكن الوثوق به، وليس مجرد سياسي». وكان له الثناء لوزراء الدولة والدفاع، ولقادة الكونغرس. وأشاد بمستشار بايدن للأمن القومي، جيك سوليفان: «ليس هناك دقيقة واحدة عندما لم نتحدث على وجه التحديد أو في الجوهر،» قال.

«إذن الجميع رائعون، لكن البنادق لا تصل بسرعة كافية؟ قال يرماك: «من فضلك قل لي من يجب أن أتحدث إليه».

تابع أبلباوم وجولدبرغ: يدرك زيلنسكي أن مهمته ليست مجرد تقديم مطالب بالأسلحة والتعبير عن الإلحاح, ولكن أيضًا للتغلب على الصور النمطية القديمة لأوكرانيا كدولة فاسدة وغير كفؤة, وكذلك الدعاية الروسية التي تحرم أوكرانيا من الحق في أن تكون دولة. إنها تريد تقديم صورة لأوكرانيا كدولة حديثة وليبرالية، موحّدة بالقومية المدنية وليست عرقية بحتة.

وقال زيلينسكي ان «الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الاوروبي والدول الاوروبية كانت دائما متشككة في تنميتنا» الاوروبية». ولكن الآن «العديد منهم غيروا وجهة نظرهم لأوكرانيا ويروننا على قدم المساواة». ليس لديه وقت للمؤسسات الدولية. وعندما سُئلت عن دور الأمم المتحدة في الدفاع عن أوكرانيا، فإن إحدى الدول الأعضاء فيها، تجاه روسيا، وهي عضو في مجلس الأمن الدولي، تدحرج أعينها وتصنع وجهًا مأساويًا. «شيء جيد ليس لدينا فيديو»، كما يقول. «عليك فقط أن تصف بالكلمات ما تراه على وجهي.» كان كل من Zelensky و Yermak يفكران ويتحدثان عن الشكل الذي قد تبدو عليه المؤسسات الدولية البديلة. ربما يجب أن تكون هناك قائمة بانتهاكات حقوق الإنسان أو جرائم الحرب التي تؤدي إلى ردود تلقائية, اقترح Yermak لنا. في الوقت الحالي، عملية إصدار البيانات، والإعلان عن العقوبات، وإعطاء إجابات من أي نوع معقدة للغاية، بيروقراطية للغاية، وقبل كل شيء، بطيئة للغاية.

واضاف «لكن اذا تمكن القادة الغربيون من احباط زيلينسكي فان الروس يرسلونه الى اليأس. من وقت لآخر، منذ أن بدأت الحرب، تحدث باللغة الروسية وخاطب الجمهور الروسي، وهو أمر اعتاد القيام به: هذا ما اعتاد القيام به من أجل لقمة العيش. كانت شركته للإنتاج السينمائي والتلفزيوني واحدة من أكبر الشركات في المنطقة، ولديها مكتب في موسكو والمتفرجين في جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي السابق».

«انتهت علاقته المثمرة مع روسيا والروس في عام 2014، عندما توقف الناس الذين عرفهم لسنوات عن التحدث معه: «لم أكن أتوقع من الناس، العديد من الزملاء، المعارف – اعتقدت أنهم أصدقاء، لكنهم لم يكونوا – التوقف عن التقاط الهاتف.» منذ ذلك الحين، كثير من الناس كنت تعرف قد تغيرت، «لقد أصبح أكثر وحشية». وبينما تغلق روسيا بدائل لوسائل الإعلام المملوكة للدولة – إغلاق الصحف المستقلة ومحطات التلفزيون ومحطات الإذاعة – أدرك زيلينسكي أن معارفه السابقين قد انسحبوا أكثر من ذلك. «حتى ذلك الجزء الصغير من الأشخاص الأذكياء، الذين كانوا هناك، بدأوا يعيشون في فقاعة المعلومات هذه»، ومن الصعب جدًا عليهم اختراقها. «إنه فيروس كوريا الشمالية. يتلقى الأشخاص رسائل متكاملة رأسية تمامًا. ليس لدى الناس طريقة أخرى؛ إنهم يعيشون فيها.» مؤلف الرسائل واضح: «لقد دعا بوتين الناس إلى مخبأ المعلومات هذا، إذا جاز التعبير، دون علمهم، وهم يعيشون فيه. إنها، كما اعتادت فرقة البيتلز الغناء، غواصة صفراء. ‘»

يستمر النص: الآن، عندما تصبح الدعاية الروسية أكثر باروكية، يصعب عليه أحيانًا معرفة كيفية معالجتها. ربما هذا هو السبب في أنه غالبا ما يلجأ إلى المقارنات الثقافية: «الطريقة التي يقولون أننا نأكل الناس هنا، أن لدينا الحمام القاتل، والأسلحة البيولوجية الخاصة… إنهم يصنعون مقاطع فيديو وينشئون محتوى ويظهرون الطيور الأوكرانية التي يفترض أنها تهاجم طائراتها. بوتين ولوكاشينكو يجعلان الأمر يبدو وكأنه نوع من مونتي بايثون السياسي».

ويقول: «لكي يكون لأوكرانيا مستقبل آمن، يجب كسر حاجز المعلومات الروسي. لا يحتاج الروس فقط إلى الوصول إلى الحقائق؛ فهم بحاجة إلى المساعدة في فهم تاريخهم، وما فعلوه لجيرانهم. في الوقت الحالي، يقول زيلنسكي: «إنهم يخشون الاعتراف بذنبهم»، ويقارنهم بـ «مدمني الكحول [الذين] لا يعترفون بأنهم مدمنون على الكحول». إذا أرادوا التعافي، «عليهم أن يتعلموا قبول الحقيقة». الروس بحاجة إلى قادة يختارونها، القادة الذين يثقون بهم، «القادة الذين يمكنهم التواصل والقول، «نعم، فعلنا» هكذا عملت في ألمانيا. ‘»

«طوال المحادثة، عرض زيلنسكي مواهبه من العفوية والسخرية والسخرية. لم يروي النكات، بالضبط، لكنه قال أنه لا يستطيع أن يفترق تمامًا مع الفكاهة. «أعتقد أن أي شخص عادي لا يستطيع البقاء بدونه. بدون روح الدعابة، كما يقول الجراحون، لن يكونوا قادرين على إجراء العمليات الجراحية، لإنقاذ الأرواح وأيضًا فقدان الناس. سيفقدون عقولهم ببساطة دون روح الدعابة. ‘»

يواصل Applebaum و Goldberg المقابلة: نفس الشيء يحدث الآن مع الأوكرانيين: «يمكننا أن نرى المأساة التي لدينا، ومن الصعب التعايش معها. ولكن عليك أن تعيش معها… لا يمكنك أن تأخذ على محمل الجد ما يقوله السياسيون الروس ولوكاشينكو كل يوم. إذا كنت تأخذ الأمر على محمل الجد، فمن الأفضل أن تعلق نفسك».

هل بوتين خائف من الفكاهة؟ ، سأله مؤلفو المقال في The Atlantic.

«الكثير»، قال زيلينسكي. وأوضح أن الفكاهة تكشف عن حقائق أعمق. المسلسل التلفزيوني الشهير من بطولة زيلينسكي، خادم الشعب، سخر من غرور السياسيين الأوكرانيين، وهاجم الفساد وصورت الطفل الصغير كبطل؛ وكانت العديد من رسوماته هجائية بارعة من القادة السياسيين ومواقفهم. «سمح للمهرجين بقول الحقيقة في الممالك القديمة،» قال، ولكن روسيا «تخشى الحقيقة». تظل الكوميديا «سلاحًا قويًا» لأنه يمكن الوصول إليها. «من الصعب على البشر فهم الآليات المعقدة والتركيبات السياسية. ولكن من خلال الفكاهة، الأمر سهل؛ إنه اختصار».

في قسم آخر من المقابلة مع الرئيس الأوكراني، يرفع المؤلفون التكاليف التي يجب أن يعاني منها الأشخاص الذين يقودونهم في مواجهة غزاة بوتين. «الفكاهة في أوكرانيا هي الآن بشكل أساسي من أحلك الأنواع. في بعض الأحيان، بدا Zelensky مذهولًا من قسوة كل شيء. حاول أن يشرح لماذا لا يستطيع أن يشعر – لأن معظم الأوكرانيين لا يستطيعون الشعور – بالرضا الشديد عن انتصاراته في ساحة المعركة. نعم، طردوا الجيش الروسي القوي من الجزء الشمالي من البلاد. نعم، قتلوا، وفقا لحساباتهم، أكثر من 19،000 جندي روسي. نعم، يزعمون أنهم استولوا على أكثر من 600 دبابة أو تدميرها أو إتلافها. نعم، يزعمون أنهم أغرقوا الرائد في أسطول البحر الأسود الروسي. نعم، لقد غيروا صورة بلدهم، وفهمهم لأنفسهم. لكن السعر كان باهظًا».

قال لنا زيلنسكي إن الكثير من الأوكرانيين لم يموتوا في المعركة، بل «في فعل التعذيب». تجمد الأطفال للاختباء في الطوابق السفلية؛ وتعرضت النساء للاغتصاب؛ وتوفي كبار السن بسبب الجوع؛ وقتل المشاة في الشارع. «كيف يمكن لهؤلاء الناس الاستمتاع بالنصر؟ ‘، سأل. «لن يتمكنوا من أن يفعلوا للجنود الروس ما فعله [الروس] بأبنائهم أو بناتهم… حتى لا يشعروا بهذا النصر.» وقال إن النصر الحقيقي لن يأتي إلا عندما يحاكم الجناة وإدانتهم ويحكم عليهم».

«كم من الوقت يجب أن ننتظر؟» ، استجوابات.

«فجأة، جعلها شخصية. لديه طفلان، ذكرنا. «ابنتي تبلغ من العمر 18 عامًا تقريبًا. وقال «لا أريد أن أتخيل، ولكن لو حدث شيء لابنتي، لما استقر لو تم صد الهجوم وهرب الجنود». «كنت سأبحث عن هؤلاء الناس وكنت قد وجدت لهم. وبعد ذلك سأشعر بالنصر»، كما يقول الصحفيون.

-ماذا كنت ستفعل عندما وجدتها؟

-أنا لا أعرف. كل شيء.

«ثم، كما لو كان يتذكر الدور الذي أعطاه له التاريخ، كصورة رمزية للحضارة الديمقراطية التي تواجه قسوة نظام غير قانوني، أصبح انعكاسا. «أنت تدرك أنه إذا كنت تريد أن تكون عضوًا في مجتمع متحضر، فعليك أن تهدأ، لأن القانون يقرر كل شيء. ‘»

«لن يكون هناك انتصار كامل للأشخاص الذين فقدوا أطفالهم وأقاربهم وأزواجهم وزوجاتهم وآبائهم. هذا ما اعنيه». «لن يشعروا بالنصر، حتى عندما يتم تحرير أراضينا».

*

—————————

حرب بوتين على أوكرانيا: لماذا تستمر الدبلوماسية الغربية مع روسيا بالفشل؟/ محمد خلف

الرأي العام العالمي يقف دائما إلى جانب الضحية و الضعيف الذي يتعرض للضرب. ولكن هذا لا يمنع أن يشذّ الكثير من الناس الغارقين في متاهات نظرية المؤامرة والدعاية والأخبار الكاذبة التي غزت وسائل التواصل الاجتماعي مع تزايد أعداد “البوتات” على الانترنت في الانجذاب إلى خطاب بوتين والاعجاب بدوافعه.

 تقع بلدة إيربن بالقرب من كييف.  العالم يسأل :هل  هذه المباني المدمرة التي نشاهدها على شاشات القنوات الإخبارية، وفي وسائل التواصل الاجتماعي كانت قبل الغزو الروسي خالية من السكان؟

هل الضحايا (نازيون فعلا؟) أم هم مدنيون لا حول لهم ولا قوة، أصبحوا هدفاً عسكريا (مشروعاً؟) لجيش بوتين ( المحرر؟!).

في الاخبار ان الاحزاب والجماعات اليمينية المتطرفة في أوكرانيا  حصلت خلال الانتخابات النيابية الاخيرة على نسبة تزيد قليلا على 2% فقط من أصوات الناخبين!

ونحن نتجاوز فترة الشهرين على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، اخذت الحرب تكتسب طابع مباراة كرة قدم. المشجعون من كلا الفريقين يصرخون ألما عند اقتحام الخصم شبكة دفاع فريقهم، والآخرون من مشجعي الفريق الخصم  يفرحون لكل هدف يحرزه فريقهم المفضل. شاهدنا ذلك عندما أغرقت صواريخ نبتون الاوكرانية  أم السفن الحربية الروسية “موسكفا”  فتعكرت أمزجة داعمي بوتين وروسيا، فيما ابتهج أنصار زيلينسكي وأوكرانيا وانعكس ابتهاجهم لمعاناً في عيونهم فرحاً بقرب الانتصار.

حرب بوتين الفاجرة هذه اعادت الى ذاكرتنا  حروب كثيرة في العالم من بينها ،الحرب على جزر فوكلاند عام 1982. في ذلك الوقت  احتلت هذه الحرب مساحات واسعة في الميديا  التي تتحكم الأحزاب الشيوعية الحاكمة بنهجها التحريري . في الدول السائرة في المدار السوفياتي آنذاك،  كانت الرقابة السياسية تختار الخبر الذي تعتبره الأهم عالميا على حساب الأخبار الدولية  الاخرى التي في الواقع لم يكن يصل منها الى آذان الناس سوى تلك المملة المنتقاة بعناية من الرقابة الأمنية. أخبار حرب الارجنتين وانجلترا كانت “هيت”(بمثابة سبق صحافي)  من بين الأخبار المسموح بها وكلها تصب في صنف  “المعلومات والاخبار الترفيهية”. في الحقيقة اعتاد الناس على “حنفية” الأخبار الرسمية ، لدرجة نمو جموح في نفوسهم لمزيد من الترفيه . هذه الأخبار حولت الحروب في واقع الحال الى لعبة أكثر إثارة من كرة القدم التي كانت الأنظمة الشيوعية الاستبدادية تحرص على دفع الأموال الطائلة لتمكين قنواتها التلفزيونية من  الحصول على شراء امتياز عرضها بغية إشغال الجمهور عن همومه الاساسية.

السيدة الحديدية و والجنرال جاليتري وجزر الفوكلاند

 استولى النظام العسكري في الأرجنتين على جزر الفوكلاند، بغية تسخير هذا الانتصار لزيارة رصيده الشعبي المتردي .كانت بريطانيا  العظمى  احتلت هذه الجزر قبل قرن من الزمان. الفوكلاند هي  جزر غير مأهولة تقريبًا يبلغ عدد سكانها 3000 نسمة وعدة ملايين من الطيور، وأهمها طيور البطريق البحرية. تقع هذه الجزر في أقصى الجنوب في المياه الباردة. الا ان السيدة الحديدية مارغريت تاتشر لم تتلكأ أو تتردد وتفكر طويلاً قبل اتخاذ قرارها التاريخي في إرسال  سفن البحرية البريطانية للدفاع عن أراضي الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس، واسترجاعها من “المحتل”. ومع أن هذه الجزر تقع على بعد 15000 كيلومتر من لندن، إلا أن هذا لم يكن يعني شيئا للسيدة الحديدية، فالمهمّ هو حماية أملاك الامبراطورية واسترجاع المسلوب منها . ما أتذكّره من هذه الحقبة هو أن أيا من الجانبين المتقاتلين لم يعلن بدء حرب ضد الدولة الأخرى. كما وكأن الأمر ليس أكثر من شجار بين اثنين يصل الى حد التقاتل على مكان في موقف عام للسيارات!

الرأي العام العالمي يقف دائما إلى جانب الضحية و الضعيف الذي يتعرض للضرب. ولكن هذا لا يمنع أن يشذّ الكثير من الناس الغارقين في متاهات نظرية المؤامرة والدعاية والأخبار الكاذبة التي غزت وسائل التواصل الاجتماعي مع تزايد  أعداد “البوتات”(الحسابات الوهمية التابعة للجيش الالكتروني الروسي) على الانترنت في الانجذاب إلى خطاب بوتين والاعجاب بدوافعه. هذه المواقع الالكترونية التي تصدر ولها حسابات في وسائل التواصل نجحت في استغفال عقول الملايين من الناس، لانهم تخلوا عنها ببساطة. ما نراه  ونراقب مساره كل يوم هو أن العالم والدول والمجتمعات على اختلافها القريبة والبعيدة ،الغربية والشرقية، والجنوبية والشمالية ،انقسمت الى فريقين بالضبط مثل مشجعي فرق كرة القدم. تزدحم ملاعب كرة القدم ويحتشد فيها من يعرفون بإسم الهوليغانز ( الزعران). يتكرر المشهد اليوم مع الحرب الطاحنة في أوكرانيا. التفاهة اصبحت عنوان الحقبة التي نعيشها لاننا نشهد السقوط الأخلاقي نفسه الذي عشناه ورأيناه في حروب العراق وسوريا واليمن ولبنان والقائمة تطول.

يستمتع المشجعون  بكل هدف يسجله فريق الأرجنتين ويحرزه النظام العسكري للجنرال  يوبولدو جالتييرى. الفرحة والهياج والحماسة ترتقي إلى غيبوبة  مع كل انتصار، وتحتدم مع إغراق الارجنتين  6 سفن حربية بريطانية . الا ان السيدة الحديدية  لم تدع هذه الإهانة تمرّ، اذ سرعان ما انتقمت لها واستعادت كرامة المملكة الجريحة بتدمير ثلث ترسانة طائرات الأرجنتين الحربية، ولم تدّخر وقتا في سرعة  هذا التدمير حيث ضربت بقسوة “قرة عين” الأرجنتين السفينة الحربية الرئيسية التي كانت اشترتها من الولايات المتحدة  التي استخدمتها في الحرب العالمية الثانية.

مشجعو بوتين اليوم لا يختلفون عن مشجعي ذلك الزمان، ها هم  يهلّلون ويرقصون على انغام اغاني الديسكو مع كل مذبحة واغتصاب وتدمير للمدارس والمستشفيات ومراكز الفنون والثقافة التي يرتكبها جنود بوتين، ويطالبونه بمزيد من التدمير والقتل على الرغم من أنهم، وعلى مر العقود، ضحايا دائمين للقتل والتهجير القسري والتدمير.

 هؤلاء المشجعون يقضون جزءا كبيرا من أوقاتهم في مطالعة الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي ومشاهدة قناتيّ “روسيا اليوم” و”سبوتنيك” لسماع مزيد من الأخبار التي تفرحهم، ولكي يحصوا كل طائرة تسقط وكل سفينة تغرقها القوات الغازية. هذا ما يفعله أيضا داعمو ضحايا العدوان الروسي، ولو بدرجة اقل، لانهم ليسوا اغلبية على الاقل عندنا في الشرق الاوسط ومجتمعاتنا في الشتات التي هاجرت الى الغرب هربا من حكام يشبهون بوتين.

 نتذكر من الأرشيف وما علق في رؤوسنا من تلك الأيام ( الغابرة) كيف ان تاتشر غضبت من فرنسا التي كانت باعت الأرجنتين طائرات مقاتلة من طراز ميراج  (قبل الحرب). هذه الطائرات لسوء حظ باريس كانت مزودة بصواريخ Exose  المصنعة خصيصاً لتحطيم السفن البحرية، ولولاها لما كان جالتيري تمكّن من إغراق سفن الحليف البريطاني. التاريخ يعيد نفسه ،اذ ان لافروف الان يعاتب نظيره التركي مولود جاويش اوغلو لتزويد انقرة اوكرانيا قبل الحرب بطائرات الدرون ( بيرقدار) التي دمرت نصف الدبابات الروسية التي كانت تطوق وتستعد لاحتلال كييف. انقرة حليفة موسكو في سوريا وعدوتها في اذربيجان وليبيا تزود أوكرانيا بهذه الطائرات ولكن بشكل غير مباشر عبر بولندا. ليس بمقدور لافروف العدواني والشرس ان يطلق حمم غضبه مع رئيسه على أردوغان لأن المصلحة تقتضي ضبط النفس .

لم يكن هناك أي شكّ في فوز بريطانيا بهذه الحرب واعادتها للجزر إلى أحضانها وإلحاقها الهزيمة بالديكتاتور الأرجنتيني . بالطبع نحن لا نستطيع تأكيد ان بوتين قادر على إعادة أوكرانيا إلى الحظيرة السوفياتية، فالحرب تستعر والحلف الأطلسي كما يبدو لا يفكر بترك بوتين ينتصر، فهذه الحرب ليست كحروب العراق و سوريا و ليبيا ولا حتى لا افغنستان، لان مصير الغرب والأطلسي وأمريكا موضوعة على المحكّ. الجميع يتذكر كيف أنّ الرئيس الروسي اعتبر في أحد خطبه أنّ تفكّك الاتحاد السوفياتي وموته كالمريض بالسرطان الذي لا أمل في إنقاذ حياته بأنه “اكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”.  لا شئ تغير في الفوكلاند بعد أن استعادتها بريطانيا، فهي لا تزال موطنًا لثلاثة آلاف شخص فقط.

حرب الفوكلاند استمرت بشراسة  74 يومًا، قتل خلالها  255 بريطانيًا، و 964 أرجنتينيًا معظمهم بحارة من الطراد الغارق. لا شيء بالمقارنة بما يفعله بوتين وجيشه وجهاديو قادروف( قاديروفيتسي) من قتل و اغتصاب وتدمير وقصف لايقل ضراوة عن ما ارتكبته من جرائم حرب في غروزني وسوريا تحت أنظار العالم الذي راقب بصمت ما كان يفعله القيصر طيلة السنوات العشر الأخيرة في لوغانسك ودونيتسك والقرم وسوريا وليبيا وجمهورية افريقيا الوسطى ومالي والسودان من جرائم وتهجير وتحويل بلدان المنطقة الى دول فاشلة. هل بمستطاع أحد التكهن متى ستنتهي حرب بوتين وكم ستطول؟ اذا صدقنا تصريحات الاستخبارات الاميركية فهي ستستمر شهورا اخرى، وربما سنوات ما يعني مزيدا من الضحايا والدمار والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية والغذائية في كل دول العالم، وربما تخرج الأوضاع عن السيطرة .

كانت المحلّلة الأميركية الشهيرة آن آبلباوم قد تساءلت في مقالة لها في  في مجلة “ذي اتلانتك” بعنوان  “لماذا تستمر الدبلوماسية الغربية بالفشل ؟”،  قبل أسابيع معدودة من غزو روسيا لاوكرانيا قائلة: “يا إلهي ، كم أحسد ليز تروس على الفرصة التي أتيحت لها بلقاء لافروف! يا إلهي ، كم أنا آسفة لفشلها التام في اغتنامها هذه الفرص. بالنسبة لأولئك الذين لا يعرفونها او لم يسمعوا بإسمها من قبل، تروس هي وزيرة الخارجية البريطانية التي سافرت إلى موسكو لتبلغ نظيرها الروسي ، سيرغي لافروف التالي”أن روسيا ينبغي ألا تغزو أوكرانيا!”.

الواقع ان هذه الرحلة كانت فاشلة. تبين هذا في المؤتمر الصحفي الجليدي او الخشبي، لان لافروف كان لا يسمع فيما ضيفته لا تتكلم. الفضيحة الكبرى هي أن لافروف استغل جهل الوزيرة البريطانية التي خلطت أسماء مدن روسية بأخرى أوكرانية ، واستغل ذلك لاهانتها وإذلالها أمام المراسلين من الميديا الدولية. لقد فعل لافروف هذا مرات عديدة من قبل. في العام الماضي، كان لئيمًا مع الممثل الأوروبي الأعلى للشؤون الخارجية جوزيب بوريل. إنه معاد للمؤتمرات الدولية ووقح مع الصحفيين. لم يكن سلوكه في كل هذه الحالات مصطنعا، بل مقصودا وربما كان هذا جزءاً من شخصيته العنجهية. لافروف ، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين  يستخدم العدوان والسخرية كأدوات لإظهار الازدراء لمحاوره،  والإيحاء بأن المفاوضات عديمة الجدوى حتى قبل أن تبدأ، لإثارة الخوف واللامبالاة. الأمر المهم بالنسبة إليه هو إجبار الطرف الآخر على الدفاع عن نفسه أو إرغامه على التخلي طوعاً عن المفاوضات معه باشمئزاز. لكن برأي  أبلباوم  “أن تروس كان بإمكانها  أن تبدأ المؤتمر الصحفي على النحو التالي:

مساء الخير سيداتي وسادتي الصحافة. يسعدني أن أنضم إليكم بعد الاجتماع مع زميلي الروسي سيرغي لافروف. هذه المرة لم نهتم بمناقشة الاتفاقيات التي لا ينوي الوفاء بها ولا الوعود التي لاتساوي حتى بنس واحد”. بدلاً من ذلك أبلغته “أن غزو أوكرانيا سيؤدي إلى تكاليف باهظة للغاية – أعلى مما كان يتخيله بوتين ولافروف في أي وقت مضى. الآن نخطط لوقف استيراد الغاز الروسي تمامًا – ستتلقى أوروبا إمداداتها من الطاقة من أماكن أخرى. نحن نستعد الآن لمساعدة المقاومة الأوكرانية لمدة عشر سنوات، إذا لزم الأمر. نضاعف دعمنا للمعارضة الروسية والإعلام الروسي المستقل أضعافاً مضاعفة. نحن نريد التأكد من أن موسكو ستفهم تكلفة وقوع الغزو، وتعي جيدا أنها إذا كانت تريد تغيير النظام في أوكرانيا ، فسنعمل نحن ايضا على تغيير النظام في روسيا”. وأضافت أبلباوم: “كان بمقدور تروس أو بوريل قبلها إضافة لمسة من الإهانة الشخصية  للافروف على طريقته تماما،  كأن تقول له أمام الصحافيين:”لنتساءل بصوت عالٍ كيف يدفع لافروف براتبه الرسمي تكاليف شراء هذه الممتلكات الفخمة التي تسكنها عائلته في لندن؟”. كان يمكنها فوراً ان تعدد أسماء الكثير من موظفي الخدمة المدنية الروس الآخرين الذين يرسلون أطفالهم للدراسة في باريس أو لوغانو. كانت تستطيع أيضاً أن تعلن أن جميع هؤلاء اولاد المسؤولين الروس يستقلون الآن طائرات العودة الى بلادهم روسيا ليكونوا في المنزل مع أهاليهم من دون رجعة: لن يكون هناك المزيد من المدارس الأمريكية في سويسرا! لن يكون هناك المزيد من المشي في نايتسبريدج! لن يكون هناك المزيد من اليخوت في البحر الأبيض المتوسط والبحار الأخرى!”.

بوتين لا يحتقر البروتوكول الدبلوماسي ويبغض الاتفاقيات الدولية

بالطبع ، لن تقول تروس – كما  بوريل  وماكرون والمستشار الألماني شولتس الذين ذهبوا الى موسكو ونال كل واحد منهم نصيبه من السخرية والإذلال  أي شيء من هذا القبيل، حتى ولو في السر. إنه لأمر مأساوي أن القادة والدبلوماسيين الغربيين، الذين يحاولون حاليًا منع الغزو الروسي لأوكرانيا، ما زالوا يعتقدون أنهم يعيشون في عالم تسود فيه القواعد والقانون، حيث يكون البروتوكول الدبلوماسي مفيدًا ويجري تقييم الكلام المهذّب. يعتقدون جميعًا أنهم عندما يذهبون إلى روسيا ، فإنهم يتحدثون إلى أشخاص يمكن تغيير آرائهم من خلال النقاش أو الحوار المنفتح و الحضاري. إنهم يعتقدون أن النخبة الروسية مهتمة بأشياء مثل “سمعتها”. الأمر ليس كذلك ابداً، تؤكد ابلباوم: “عندما نتحدث عن الجيل الجديد من المستبدين، سواء في روسيا أو الصين أو فنزويلا أو إيران، فإننا نتعامل الآن مع شيء مختلف تمامًا: نحن نتعامل مع أشخاص غير مهتمين بالاتفاقيات والمواثيق والمعاهدات ، أشخاص لا يعيرون أي اهتمام سوى للقوة الغاشمة”. وتتساءل مرة اخرى: “هل سمعت من قبل بوتين يتحدث عن هذا؟ بالطبع لا. كما أنه لا يبدي أي قلق بشأن سمعته المتهاوية والمحتضرة، فهو يحاول دفع خصومه  للوقوف على أصابع أقدامهم بفعل ما يردّده من أكاذيب في قوالب خشبية جاهزة”. كما و ان لافروف لا يهتم  إذا كان مكروهاً، لأن الكراهية كما يعتقد تمنحه هالة من القوة”.

حرب الفوكلاند وغيرها من الحروب الكبيرة والنزاعات العسكرية الصغيرة ، ستستمر هي الأخرى بعناد، ومعها تستمر حياة البشر كما هي من دون تغييرات دراماتيكية مصيرية، ولكن الغارقين في بحر القصف والدمار والموت، هم اكثر من يعرف ما الذي يتغير في حياتهم اليومية وحياة الاخرين الذين معهم في هذه المطحنة الدموية .

 عندما  اندلعت حرب القوكلاند واستعرت، خرجت  فرقة الروك الإنجليزية “بينك فلويد” بألبومها الشهير   “Final Cut“، الذي يتضمن  أغنية “ارفعوا  أيديكم القذرة عن صحرائي”.

 وعلى هذا المنوال ،في العام 1979 احتل بريجنيف  أفغانستان ، وفي 1982  فرضت اسرائيل حصارها على بيروت ووضعت يدها على جزء منها ليس قليلاً، وقام الجنرال غاليتري الجريء بإحراق الأسطول البحري البريطاني وسارعت ماغي للانتقام من أسطوله الجوي والبحري، وإهانة رتبته العسكرية بالحاق الهزيمة به وبجيشه،  واستعادت الفوكلاند. أوكرانيا الصامدة هي الاخرى انتقمت لمذبحة بوجا بتدميرها لؤلؤة البحرية السوفياتية “موسكوفا”، وبهذا تكون قد وجّهت إهانة جديدة لبوتين عندما قصمت ظهر هيبة جنرالاته بأوسمتهم اللامعة و جيشه الذي انسحب من أطراف كييف يجرّ معه أذيال الخيبة والهزيمة .

في السنوات التالية  لحرب الفوكلاند أي بعد استعادة بريطانيا سيطرتها على الجزر، ورد في نشرات الاخبار البريطانية أن 300 جندي بريطاني من الذين شاركوا في العملية العسكرية أقدموا على محاولات انتحار، وفسر أطباء النفس ذلك بما يعرف بإسم  – متلازمة ما بعد الحرب – واتضح أن ضحاياها كانوا أكثر من الذين سقطوا قتلى في الحرب. 300 أو 500 شخص انتحروا دخلوا كرقم  في الإحصاءات. المشكلة ان مئات القتلى والضحايا يصبحون مجرد أرقام، وجداول احصائية لا اكثر. هذا حدث في حروب العراق وسوريا والكويت وايران… الخ.

نصير وحامي الاقليات حفّار القبور الجماعية

لكن في الواقع ان هذه ليست مباراة لكرة القدم ، بل أفعال جنونية وحفلات دم. بوتين يدمر المدن الاوكرانية، كما كان يفعل مع المدن السورية. واغراق موسكفا، ـو تحطيم دباباته وإسقاط طائراته لن  يوقف اغراق اوكرانيا في الدم، بل سيجعل الأوضاع  أسوأ وأسوأ بكثير، لان حشر بوتين في الزاوية وهو ما يفعله الغرب الان، يحوّله إلى شخص فاقد السيطرة على قراراته وأفعاله. يواصل الأوكرانيون الفرار من مدنهم المدمرة، وهو ما فعله السوريون الذين أصبحت أشلاء شعبهم في كل العالم. ولكن الهجرة الكبرى وربما الدائمة لم تبدأ بعد. إنها الحرب العبثية التي لا غالب فيها ولا مغلوب في نهاية الأمر!

بوتين الذي يدّعي ويفخر بأنه حامي الأقليات الدينية في الشرق الاوسط، ونصير الكنيسة الارثذوكسية التي رفع مقامها الى أعلى المستويات في بلاده، وجعل بطريركها كيرل وسيطه الى الرب، شنّ حرباً مدمرة ضد دولة ارثذوكسية مواطنوها مسيحيون ارثوذوكس مثله ومثل شعبه، وتصوروا حصل ذلك  بمباركة من الكنيسة الروسية التي كانت باركت من قبل حرب بوتين الشريرة ضد سوريا وشعبها، وجعلتها في مصاف الحروب المقدسة. ولسخرية القدر نرى أن القيصر الروسي الذي فشل جيشه في احتلال ولو مدينة اوكرانية واحدة، بسبب صمود أهلها وجيشها، يلوذ بجهاديي قادروف المشهورين بوحشيتهم وقذارة افعالهم، والمرتزقة من ميليشيات الأسد ولواء القدس الفلسطيني في سوريا ومرتزقة ليبيون ،ساعدوا ميليشيا فاغنر ضد شعبهم، ويستدعيهم لنصرته ولخوض معاركه ضد اخوته  المسيحيين الارثذوكس الذين تشدق بحمايتهم من حكامهم( النازيين)!

لا يمكن لبوتين أن يفوز بغير أوكرانيا خارج الناتو، وربما هذا لن يحدث لأنه يعتمد على المواجهة الاكبر بين روسيا والولايات المتحدة، ولكن بالتأكيد سيكون بإمكانه أن يتابع عبر التلفزيون احتفالات  انضمام السويد وفنلندا الى الحلف الاطلسي. مشاعر الخوف والكراهية المستعرة والمتبادلة الآن بين الروس والاوكرانيين لن تؤدي سوى إلى ذلك، ولن تندمل بين الشعبين جروح هذا العدوان الذي يحظى بتأييد ودعم 80% من  الشعب الروسي، وفقاً لاستطلاع الرأي الذي أجراه  مركز( ليفادا) الروسي المستقل.

حتى لو تمكن بوتين من احتلال كييف، فليس لديه ما يفعله بعد ذلك. ما الذي حققه في عدوانه على سوريا غير الدمار و التهجير وحماية الاسد وعصابته؟ لا يمكنه قتل أو اعتقال زيلينسكي – عليه أن يوقع معاهدة سلام مع شخص ما ذات يوم. إذا وضع رئيسًا مواليًا لروسيا (أصبح الأمر مستحيلًا بالفعل فمن يتجرأ من الأوكرانيين؟)، فلن يكون شرعيًا ولن يتعامل معه أحد. كما أنه من المستحيل إبقاء مثل هذا البلد الضخم محتلاً. وستدفع روسيا حتماً تعويضات جسيمة ذات يوم كما فعل العراق الذي دفع قبل أشهر القسط الأخير للكويت من تعويضات فرضتها الأمم المتحدة قيمتها 55 مليار دولار. سوف يفهم بوتين أنه كلما انتهت هذه الحرب بشكل مبكر وبسرعة ، كلما كان ذلك أفضل له ولروسيا. التاريخ القريب و البعيد يحفل بالامثلة.

الذين يريدون كسب الحرب ينبغي ان يدركوا ان الحرب لن تنتهي، لأن لا أحداً من الفريقين لن يسمح بانتصار الفريق الخصم. العالم كله  يسير اليوم على حافة الهاوية. نحن نتعامل مع زعيم فقد إحساسه بالواقع ولديه صواريخ نووية. عندما تنطلق هذه الصواريخ، هل يهم إن كانت شبه جزيرة القرم روسية أم أن دونيتسك ولوهانسك لم تحظيا بوضع خاص ، على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات مينسك؟ وهل سيكون بمقدور بوتين واوليغارشييه وجنرالاته والمدافعين عن طروحاته من المثقفين والسياسيين ان لا تكون اوكرانيا جزءاً من الاطلسي او ان تكون غير مسلحة، وان تكون بلا نازيين؟ هل روسيا فعلا خالية من النازيين؟ وهل ان بوتين خلال العقد والنصف الاخير لم يمول ويساهم في تشكيل الحركات الشعبوية و النازية في أوروبا؟ اليس بوتين  هو من منح مرشحة الرئاسة الفرنسية مارين لوبين 9 ملايين يورو للوصول إلى السلطة؟ أليس بوتين هو من اخترق المنظومات السياسية والمالية والإعلامية في اوروبا ودول الأطلسي بأمواله القذرة التي يغسلها الأوليغارشيون المقربون منه، أصحاب القلاع واليخوت والصحف وقنوات التلفزة ومئات مليارات الدولارات المسروقة من الشعب الروسي و التي تحولت الى استثمارات ضخمة وعقارات فخمة في عواصم الغرب ومصارفه ومنتجعاته السياحية؟

  الحكومة البريطانية نفسها كانت قد قدّرت حجم الأموال الروسية القذرة التي تدفقت على المملكة بحوالي 100 مليار جنيه إسترليني في العام2016. وفي عام 2020، قالت لجنة البرلمان للأمن والاستخبارات إن الأوليغارش الروس انجذبوا إلى لندن بسبب “القوانين  المرنة و الضوابط القليلة على الاستثمارات الروسية او تلك الاموال عديمة المصادر المشروعة، بالإضافة إلى ما يوفره رأس المال في لندن وسوق العقارات لهم من فرص للاستثمار”. وبحسب منظمة الشفافية العالمية” هناك عقارات بيعت في لندن بمال روسي مشبوه قيمته مليار جنيه إسترليني”. واتهم النائب المحافظ جون بينروز، مسؤول مكافحة الفساد حكومة بوريس جونسون بتأخير قانون الجريمة الاقتصادية، الذي من شأنه أن يكشف عن تلاعب أصحاب المصالح والشركات الوهمية  بالقوانين والأنظمة لشراء عقارات في بريطانيا. واقترح مركز التقدم الأمريكي القريب من إدارة بايدن جهدا مشتركا على جانبي الأطلنطي “لتحفيز تحرك قوي من حكومة بريطانيا” في مجال مكافحة الأموال غير المشروعة وغسيل الاموال القذرة.

في هذا التقرير الذي أعده مسؤول رفيع عمل في ادارة باراك أوباما، وتناول فيه   كيف تحولت “لندن سيتي” الى بؤرة للاموال الروسية القذرة، يحدد مجموعة من الإجراءات الكفيلة بالتخلص من الأليغارش المرتبطين بالكرملين، معتبرا هذه المهمة” تحدياً كبيراً نظراً إلى العلاقة القوية بين المال الروسي والحزب المحافظ الحاكم و مؤسسات الإعلام و مكاتب سماسرة العقارات وأرباب الصناعة والمؤسسات المالية”. ويسود اعتقاد أن حزب المحافظين تلقى عدة ملايين من الجنيهات الاسترلينية من متبرعين على علاقات مع روسيا منذ تولي جونسون رئاسة الحزب العام 2019. وكان تقرير لصحيفة “صنداي تايمز” (The Sunday Times) ) أماط اللثام عن تفاصيل مثيرة، تكشف تعيين رجل أعمال روسي في مجلس اللوردات، برعاية ودعم من جونسون الذي تربطه علاقة صداقة قوية مع يفغيني ليبيديف، متجاهلا تقارير صادرة في سنة 2020 من المخابرات الداخلية البريطانية “إم آي 5” (MI5) وكذلك مكتب المخابرات العسكرية “إم آي 6″ (MI6).. ووصفت تقارير المخابرات رجل الأعمال الروسي بأنه” قد يشكل خطرا محتملا على الأمن القومي للبلاد”. كما وتحدثت الصحافة البريطانية عن “تدخل مباشر من جونسون لتغيير تقييم المخابرات”، ورأت الصحافة ” حصول اتفاق سري بين جونسون والمخابرات لسحب هذا التحذير”.

كان يفغيني لبيديف في نسج علاقات قوية مع النخبة السياسية البريطانية، بفضل امتلاكه لتكتل إعلامي مؤثر في الساحة البريطانية، فهو مالك لأغلبية الأسهم في جريدة “إيفنينغ ستاندارد” (Evening Standard) وصحيفة “إندبندنت” (Independent) وقناة “لندن إيفنينغ” (London Evening).

وظل الشاب الروسي الأصل دائماً علامة استفهام للصحافة البريطانية والأميركية، خصوصا علاقته القوية جداً مع رئيس الوزراء بوريس جونسون والتي ظهر أنها تعود لحوالي عقد من الزمان، وهو ما دفع صحيفة “نيويورك تايمز” (New York Times) للقول إنه “لا أدل على العلاقة الحميمية بين الروس والمؤسسات البريطانية من يفغيني ليبيديف”.

وكانت لجنة الأمن والاستخبارات في البرلمان قد حثت الحكومة على إغلاق ما أسمتها “مغسلة لندن”. وقال رئيسها النائب المحافظ توم توغينات : “حماية بريطانيا تعني حمايتنا من الفساد الخارجي، ونحن لسنا بحاجة للولايات المتحدة كي تطلب منا ذلك”.

ويعزو البعض تأخير قانون الجريمة الاقتصادية  لزعيم المجلس لجاكوب ريز- موغ، ويشيرون إلى أنه يرفض تخصيص وقت برلماني لمناقشة القانون.

ولفتت “التايمز” إلى أنّ ممثلي الحكومة البريطانية رفعوا علامة النصر فوق نيويورك عندما قرر رجال الأعمال الروس اختيار السوق المالي في لندن لاستثمار أموالها.

وقال توم كيتنغ من مركز دراسات الجريمة المالية والأمن في المعهد الملكي للخدمات المتحدة في مناقشة أمام البرلمان  في العام 2017: “فرشنا السجادة للمال” و”لم نشعر بالقلق من هذه الأموال، ولم نر فيها خطرا أمنيا”.

أصدرت لجنة الأمن والاستخبارات تقريرا في العام 2020 أكدت  فيه ما حذر منه الناشطون لسنوات عدة، إذ أكدت “أن الاوليغارش الروس يدينون بثرواتهم الطائلة إلى العلاقة مع الكرملين وبوتين بالتحديد، ونجحوا مع ذلك بشراء العقارات والممتلكات و الشركات البريطانية وبطريقة لا رجعة فيها، وفي هذا كله استخدموا المال المسروق من الدولة الروسية”.

لماذا تستمر الدبلوماسية الغربية مع روسيا بالفشل؟

المحلل الاميركي ديفيد إغناطيوس  يشير في مقال نشرته صحيفة “واشنطن بوست” “إن الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين يخوضون سباقا مع الزمن لتزويد أوكرانيا بالأسلحة والذخيرة الكافية لوقف هجوم الموجة الثانية الضاري الذي شنته روسيا ضد الجزء الشرقي من البلاد”. وأضاف: “القادة العسكريون الأمريكيون يعتقدون أن الأسبوعين أو الأربعة أسابيع القادمة ستكون حاسمة. إذا لم يتمكن الروس من التغلب على القوات الاوكرانية  في الشرق، فسوف يتبع ذلك مأزق دموي طويل، وتؤدي العقوبات إلى إعاقة الاقتصاد الروسي والخسائر المتزايدة إلى إضعاف معنويات الجيش وتؤجج الانقسامات في المجتمع الروسي وفي أوساط النخبة الحاكمة”. وقال إغناطيوس إن ما ينتظرنا في أوكرانيا هي معركة وحشية للأسلحة التقليدية، تذكرنا بمعركة الدبابات والمدفعية التي تم خوضها عبر السهوب الأوكرانية خلال الحرب العالمية الثانية. لكن من المستحيل التنبؤ بالنتيجة والمخاطر هائلة. هذه المعركة ستحدد

ليس فقط مستقبل أوكرانيا، بل ميزان أوروبا لعقود قادمة. ولعل أكثر ما يثير الاهتمام ويلفت الانتباه الى ما ينتظر العالم خلال الأسابيع القليلة المقبلة، هو التحذير الذي أطلقه مدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز الأسبوع الماضي قائلاً: “بالنظر إلى اليأس المحتمل للرئيس بوتين والقيادة الروسية… لا يمكن لأي منا أن يتعامل باستخفاف مع التهديد الذي يمثله اللجوء المحتمل إلى الأسلحة النووية التكتيكية أو الأسلحة النووية منخفضة القوة”.

درج

—————————–

توازنات ومكاسب تركيا من أوكرانيا/ روبرت فورد

لدى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان كثير من النقاد في الولايات المتحدة، لكن توازنه الحذر بشأن أوكرانيا يعطي دروساً حول كيف يمكن للدبلوماسية أن تغير عدم الارتياح إلى ميزة سياسية.

استعاد إردوغان نفوذه في حلف «الناتو» رغم استمرار علاقاته الاقتصادية الوثيقة مع روسيا. إردوغان شخصيته صعبة، لكنه تجنب تهديد أي من الجانبين في الصراع الأوكراني. والرئيس جو بايدن شخصياً شدد على أن الرئيس بوتين يجب ألا يبقى في السلطة، ما أثار دهشة العالم. وأعلنت واشنطن في وقت لاحق أن بايدن كان يعبر عن رأيه الشخصي فقط، لكن السياسيين الأميركيين ومحللي السياسات الخارجية يأملون علناً في هزيمة كبيرة لروسيا. في مقابل ذلك، تجنب الرئيس إردوغان انتقاد الرئيس بوتين شخصياً. وتؤكد أنقرة على إيجاد مخرج مشرف لبوتين من الحرب. وفي الوقت نفسه، لم تعترف أنقرة قط بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وكان واضحاً جداً علانية دعمها لاستقلال أوكرانيا وسيادتها الإقليمية.

يكمن العنصر الثاني المهم في سياسة تركيا المتوازنة تجاه الحرب الأوكرانية في مساعدتها كلا الجانبين، كما أنها تسبب الألم لكل منهما أثناء سعيها لتأمين مصلحتها الخاصة. فقد دمرت الطائرات المسيّرة التركية التي بحوزة الجيش الأوكراني كثيراً من القوافل والدبابات الروسية (من اللافت للنظر أن الضباط الروس شاهدوا الطائرات المسيّرة التركية تحطم هجوم الجيش السوري على إدلب سنة 2020، لكنهم لم يعدلوا التكتيكات العسكرية الروسية في أوكرانيا). بالإضافة إلى ذلك، منعت الحكومة التركية عبور السفن الحربية الروسية عبر مضيق البوسفور. وبعد غرق الطراد «موسكفا»، تحتاج روسيا إلى تعزيزات بحرية لتهدد باجتياح ميناء أوديسا الأوكراني الحيوي. غير أن التصرف التركي يوصد هذا الباب تماماً. وعززت الخطوات التركية الملموسة من وضع تركيا مع حلف «الناتو». وكانت فرنسا وإيطاليا قد اتفقتا في قمة الحلف التي عقدت الشهر الماضي، على إعادة إبرام اتفاق مع تركيا بشأن تصنيع نظام للدفاع الجوي.

وكانت وزارة الخارجية الأميركية بعثت برسالة الشهر الماضي، إلى الكونغرس تبرر فيها بيع الولايات المتحدة طائرات «إف – 16» إلى تركيا. وشددت الرسالة على الاهتمام الأميركي بالعلاقات الدفاعية الأميركية – التركية الجيدة. كما أشادت وزارة الدفاع الأميركية بإغلاق تركيا لمضيق البوسفور. وكانت التصريحات الصادرة عن باريس وواشنطن بشأن الدفاع عن تركيا غائبة لعدة أشهر، لكن الإجراءات التركية الملموسة التي تدعم حقاً الموقف الغربي بشأن أوكرانيا تمنحها أداة ضد منتقدي تركيا.

في الأثناء ذاتها، تجنبت أنقرة فرض العقوبات على روسيا، وتساعد وارداتها من الغاز والنفط الروسيين الرئيس بوتين في تمويل الحملة العسكرية الروسية. وتفعل ألمانيا الشيء نفسه، لكنها تتلقى انتقادات أكثر من تركيا. وفي الوقت نفسه، ترحب الموانئ التركية بيخوت أصدقاء بوتين من أصحاب المليارات، كما ترحب المدن التركية مثل أنطاليا وإسطنبول بالاستثمارات الروسية. بل إن تركيا تعكف الآن على تأسيس نظام جديد للمدفوعات يستخدم الروبل الروسي لتسوية الصفقات التجارية. بالطبع، لدى تركيا مصلحة اقتصادية كبيرة، وتبرر أنقرة موقفها بغياب متطلب من الأمم المتحدة لفرض العقوبات.

وهي تعرف أن حق النقض الروسي في مجلس الأمن يجعل عمل الأمم المتحدة مستحيلاً. ومن ناحية أخرى، فإن القانون الدولي واحترام الالتزامات المنصوص عليها في اتفاقية مونترو لسنة 1936 يمكنان أنقرة من منع السفن الحربية الروسية في مضيق البوسفور. ومن ثم، فإن إردوغان يساعد كلا الجانبين ويُلحق بهما الأضرار.

العنصر الأخير في استراتيجية التوازن التركية هو إبقاء قنوات الاتصالات مفتوحة مع جميع الأطراف.

ويزور الزعماء الغربيون كييف ويتحدثون مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي كل يوم، لكن زعماء الغرب لن يلتقوا ببوتين في الأسابيع المقبلة، خصوصاً بعد جرائم الحرب الروسية ضد المدنيين الأوكرانيين. وسوف يستغل إردوغان ووزير خارجيته هذا الغياب الغربي للحفاظ على الحوار مع موسكو. وأجرى إردوغان محادثة هاتفية أخرى مع بوتين في 21 أبريل (نيسان)، في الوقت الذي تتواصل فيه أنقرة باستمرار مع كييف.

وعلى الرغم من غضب إردوغان من واشنطن وباريس في السنوات الأخيرة، فإنه لم يوصد الباب أبداً أمام القادة الغربيين. فقد حضر قمة «الناتو»، والتقى بخصمه الرئيس ماكرون، ولا يزال إردوغان يأمل في التوصل إلى مصالحة سياسية مع الرئيس بايدن حتى مع علم الرئيس التركي أنهما لن يكونا أصدقاء أبداً.

وسوف تصبح سياسة التوازن التركية أكثر صعوبة خلال الأسابيع المقبلة. وكانت وزيرة الخزانة الأميركية حذرت في 13 أبريل، الدول التي تتجاهل العقوبات الغربية على روسيا من عواقب محتملة. ويعتقد المحللون أنها تشير إلى الصين، ولكن تحذيرها موجه أيضاً إلى تركيا. وإذا أصبح القتال في شرق أوكرانيا أكثر حدة، فسوف تزداد الضغوط الغربية على تركيا لفرض العقوبات.

وفي الوقت نفسه، يمكن لروسيا استغلال تجديد الأمم المتحدة المقبل للمساعدات الإنسانية للمدنيين السوريين في إدلب أوائل يوليو (تموز) كأداة ضد تركيا. ويشير الإعلان التركي في 23 أبريل بمنع الرحلات الجوية العسكرية الروسية فوق تركيا إلى سوريا، إلى أن إردوغان يستعد لمزيد من المصارعة مع بوتين في سوريا، ولكن يمكن للرئيسين التحدث عن ذلك بشكل مباشر.

* دبلوماسي أميركي سابق

الشرق الأوسط

———————-

إغلاق السماء التركية أمام العسكر الروسي..ليس حدثاً عابراً/ العقيد عبد الجبار العكيدي

على الرغم من محاولة البعض التقليل من أهمية القرار الذي اتخذته تركيا بإغلاق مجالها الجوي بوجه الامدادات العسكرية الروسية الى سوريا، والقول إنه مجرد إجراء روتيني كان مقرراً ان يُتخذ أصلاً مع انتهاء الاذن الممنوح للجيش الروسي باستخدام المجال الجوي التركي في التنقل الى سوريا، إلا ان الإعلان عنه في هذا التوقيت يجعل من القرار مهماً وخطيراً جداً.

كان بإمكان تركيا اتخاذ هذا القرار وتبليغ الروس به دون ضجيج إعلامي، الا ان التصريح عن هذا الإجراء رسمياً من خلال إعلان وزير خارجيتها مولود تشاووش أوغلو عنه مستخدماً الدبلوماسية الناعمة للتخفيف من وقع القرار، فضلاً عن تبليغ الوزير التركي نظيره الروسي لافروف الذي بدوره أخبر بوتين، ما جعل الأخير يقرر بالقول: “لن نطير بعد الان”، يوضح بأنه لدى تركيا هدفاً مهماً من الإعلان رسمياً عن هذا الاجراء بإيصال رسائل لروسيا والغرب.

القرار الذي يعتبر الأقوى والأجرأ الذي تتخذه انقرة تجاه موسكو منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، لا يمكن اعتباره حدثاً عادياً، فلو نظرنا اليه في العمق سنجد انه ربما هناك تطورات ومستجدات جديدة ومختلفة قد حصلت تجعل العلاقات والتقارب الروسي-التركي الذي ساد طيلة ست سنوات مضت، أمام منعطف تاريخي جديد لدرجة انه يمكن القول ان ما بعد هذا الإجراء ليس كما قبله.

لعل أي حديث عن تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا يبقى محدود التصور وغير قابل لان يكون مطلقاً، ولئن كان يمكن التحدث بدقة عن الآثار الميدانية لهذه الحرب، لكن يبقى الحديث عن تصورات دقيقة للتداعيات السياسية غير قابل للدقة ذاتها، ذلك ان التداعيات السياسية والاقتصادية أكثر امتداداً واتساعاً من الوقائع الميدانية للمعارك العسكرية.

لعل ما هو مهم ان هذه الحرب لم تؤثر على تحالفات روسيا السابقة فحسب، بل ربما بدا تأثيرها الأكثر خطورة يكمن بالتحالفات الجديدة التي بدأ بها خصومها، ونعني بذلك عودة الإدارة الأميركية لرسم تفاهمات جديدة مع دول المنطقة، وذلك وفقا لما تراه يخدم إضعاف الموقف الروسي، ولعل ابرز هذه التفاهمات، محاولة ترميم علاقتها مع تركيا الحليف القديم الجديد، هذه العلاقة التي تعرضت لتصدعات عديدة كان ابرزها اقدام واشنطن على التنسيق مع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في 2015، ومما عزز هذه التصدعات عدم التزام واشنطن باتفاق 2018، الذي كان يقضي بإخراج قسد من مدينة منبج، بالإضافة لخلافات كبيرة بين الجانبين في ملفات متعددة ابرزها صفقة صواريخ إس-400، وطائرات اف-35، وقضية فتح الله غولن.

لكن مهما اتسعت الهوة بين الطرفين فان ذلك لا يمنع من عودة العلاقات اذا اقتضت الضرورة، وبالفعل ربما ترى واشنطن أن الضرورة قد أوجبت العودة للحليف التقليدي، وذلك ضمن سياق رؤيتها ومصلحتها بإبعاد تركيا عن روسيا، ولو كان هذا الابتعاد تدريجياً اكثر من كونه قطيعة مباشرة، اذ لا يمكن للمتابع ان يتجاهل الزيارة التي قام بها قبل أيام وفد من الكونغرس الأميركي برئاسة السيناتور ريتشارد شيلبي الى تركيا، والتقى مع نائب وزير الخارجية سادات أونال، ومتحدث الرئاسة التركية ابراهيم قالن، لتحسين العلاقة بين البلدين، والتي تحدث عنها القائد السابق للقوات الأميركية بن هودجز، إذ أدلى بكلام ربما يكون مفاجئا بصراحته وجرأته واعترافه بخطأ السياسة الأميركية حين دعمت الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، على حساب تركيا الشريك في حلف الناتو.

لا شك ان هذه التصريحات تعبر بشكل لافت عن اعتراف أميركي صريح بقصر نظر سياسي من جهة، كما تعبر عن رغبة أميركية بعودة العلاقات الحميمية بين واشنطن وانقرة من جهة أخرى، رغبة تمليها ضرورات راهنة لعل في طليعتها إضعاف الموقف الروسي، بل وتقويض مجمل التحالفات التي بناها بوتين مع شركاء اقليميين في المنطقة.

سياق الاحداث الراهنة يعد مناسباً بل مساعداً حسب الرؤية الأميركية لتوسيع الشرخ القائم بين روسيا وتركيا، ذلك انه يمكن التأكيد على ان مظاهر التوتر بين موسكو وانقرة تتخذ طابعا تصعيديا واضحا على الساحة السورية، ربما كانت البداية من غض الطرف الروسي عن استهداف ميليشيا قسد المتكرر لمناطق النفوذ التركي، والتي كان آخرها استهداف عربة نقل جنود للجيش التركي بصاروخ موجه روسي الصنع في مدينة مارع أدى لمقتل جنود أتراك، فضلاً عن التصعيد الروسي الجوي في الأيام القليلة الماضية والذي استهدف بلدة الكبينة في ريف إدلب وكذلك استهدف قرى وبلدات في ريفي حلب الغربي والشمالي.

روسيا تحاول استيعاب القرار التركي وألا تنقل الخلاف على العلن، ذلك ان بوتين يدرك جيدا ان فتح أي صراعات جديدة ليس في صالحه، وربما كان تجاهل روسيا للموقف التركي يخفي أملاً روسياً ببقاء تركيا حليفة، خاصة ان تركيا حتى الان هي من الدول القليلة التي لم تتخذ عقوبات بحق روسيا، بل ربما ما زال الاتراك يفضلون دور الوساطة، لأنه رغم وجود بعض القضايا الخلافية بين موسكو وانقرة الا انها تبقى قابلة للاحتواء طالما ان ثمة مصالح ذات أولوية بين الطرفين تتقدّم على تلك الخلافات.

ربما كان من الصعوبة بمكان تلمُس ملامح محددة في السياسة التركية المستقبلية، الا انه يمكن التأكيد ان انقرة تخوض هذه التجاذبات بين موسكو وواشنطن بحذر شديد، فكلا الدولتين خذل انقرة بمواقف عديدة سابقة، وان كانت تركيا لا تريد ان تبقى محكومة بأحداث الماضي ولكنها بالتأكيد تريد ان تخطو خطوات سياسية مضمونة النتائج. هذا النهج الحذر في السياسة التركية تجلى واضحا حيال موقفها من الحرب الروسية الأوكرانية إبان انطلاقتها، اذ كان الموقف التركي يتخذ جانب الحياد بعض الشيء، الا ان تعثر بوتين في الوحل الأوكراني قد أتاح لتركيا الابتعاد عن الحياد ولو تدريجيا وربما سيكون هذا الابتعاد بوتيرة اسرع كلما اوغل بوتين اكثر في هذا المستنقع، وهنا تأتي الفرصة مواتية اكثر للجانب التركي لاختبار الخطوات الامريكية الجديدة.

ولعل السؤال المهم: هل كانت العمليات العسكرية التركية شمال العراق (قفل المخلب) التي تستهدف حزب العمال الكردستاني، واستهداف مواقع قسد وقياداتها في سوريا، تندرج في سياق اختبار النوايا الأميركية، وهل كان السكوت الأميركي عن هذه العمليات بمثابة رسالة لتركيا تنبئ بتغيير الموقف من حزب العمال الكردستاني ومشتقاته، وبناء تفاهمات جديدة بين واشنطن وانقرة؟

ربما تكون هذه الخطوة مرحلة استباقية لاتفاق تركي-أميركي للتضييق على الوجود الروسي في سوريا، وإعادة خلق معادلة جديدة في مناطق شمال وشمال غرب سوريا وشرق الفرات على حساب تفاهمات خفض التصعيد بين تركيا وروسيا، بحيث يتم عزل روسيا عن التأثير في الملف السوري وتوجيه رسالة لها انها لن تكون مطلقة اليد في رسم مستقبل هذه المناطق، ما يعني اننا سنشهد تصعيدا روسياً-تركياً ينتقل من مرحلة التصعيد الكلامي الى التصعيد الميداني.

تورط روسيا في أوكرانيا وشعور بوتين بالهزيمة يمكن ان ينعكس على سلوكها وردود افعالها في سوريا التي يمكن ان لا تكون منضبطة، بل وربما قاسية أحيانا، وهذا ما تدركه تركيا تماما، لذا لا يمكن لتركيا ان تتخذ هذا القرار دون الحصول على تطمينات أميركية وغربية تحول دون ارتكاب روسيا لحماقات تؤدي الى ارتكاب مجازر في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، تتسبب بموجة جديدة من اللاجئين، او ربما حصلت على ضمانات بإنشاء منطقة آمنة، او تسليح الفصائل العسكرية بأسلحة نوعية ومتطورة تقوم بهذا الدور، وحينذاك تكون الفرصة مناسبةً أمام حزب العدالة والتنمية، لإعادة قسم من اللاجئين وسحب هذه الورقة من يد المعارضة في سباق الانتخابات الرئاسية القادمة 2023.

المدن

—————————

عن قوّة الحرب الروسيّة وضعفها…/ حازم صاغية

هناك تفاوت ملحوظ بين الحرب الروسيّة على أوكرانيا، بوصفها حدثاً عسكريّاً، والتطوّرات السياسيّة التي تخدم تلك الحرب. فقد صار من المتّفق عليه أنّ الهجوم، الذي انكفأ نحو الشرق وانحصر فيه، متعثّر ومتضارب، يندمج فيها التقدّم البطيء والتراجع السريع، وتكثر عنه التقارير التي لا تسرّ متحمّساً للروس أو معجباً بجيشهم وسلاحهم. لكنْ، وعلى رغم التعاطف الواسع، السياسيّ والإنسانيّ، مع أوكرانيا، وعلى رغم تصويتين متتاليين في الأمم المتّحدة حيث صوّتت الأكثريّة لمعاقبة روسيا، ينبغي عدم التهوين من مكاسب، كبيرة وصغيرة، تصبّ في رصيد الحرب الروسيّة وسياستها.

فالصين، التي كثر اللغط بشأن تردّدها وحيرتها، أشهرت تأييدها لموسكو من خلال حزبها الشيوعيّ الحاكم. ذاك أنّ الأخير أعدّ فيلماً وثائقيّاً، ناقشه كبار المسؤولين، صُوّر فيه فلاديمير بوتين بالبطل، وشُبّه بستالين (الذي تُجلّه الماويّة الصينيّة) إبّان الحرب العالميّة الثانية. ويبدو، وفق تقارير صحافيّة غربيّة، أنّ الحزب الحاكم والجامعات، الرسميّة طبعاً، يرعون حملة منهجيّة لنشر «الفهم الصائب» للحرب واتّهام الولايات المتّحدة حصراً بالتسبّب فيها.

وغير بعيد عن الصين، اتّهم رئيس الوزراء الباكستانيّ عمران خان الولايات المتّحدة إيّاها بأنّها تقف وراء محاولة لعزله من ضمن رغبتها في تغيير النظام الباكستانيّ. أمّا دليله على الرغبة الأميركيّة تلك فلقاؤه بالرئيس الروسيّ مع بداية الحرب الأوكرانيّة، وبالتالي انتهاجه «سياسة خارجيّة مستقلّة». ومعروف أنّ البرلمان الباكستانيّ قد صوّت لحجب الثقة عن عمران، تماماً قبيل حملته على واشنطن.

وهناك طبعاً التعثّر على جبهة النفط والغاز، حيث لا يبدو من السهل ربط التعاون بالتعاون على جبهات أخرى إقليميّة تعني بلداناً صديقة تقليديّاً للولايات المتّحدة. ويمتدّ هذا التعثّر إلى أوروبا ذاتها. فرغم الضغوط المتزايدة عليها، تكاد ألمانيا تجزم بأنّها لن تستغني بالكامل عن النفط والغاز الروسيّين، وإن كانت ستقلّل، بعد مجرة بوتشا، الاعتماد عليهما. وكان الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي قد اتّهم المستشارة الألمانيّة السابقة أنغيلا ميركل، ومعها رئيس الجمهوريّة الفرنسيّة السابق نيكولا ساركوزي، بتقديم تنازلات كثيرة لبوتين شجّعته على اتّباع سياساته الحربيّة.

كذلك حقّق رئيس الحكومة الهنغاريّة فيكتور أوربان انتصاراً انتخابيّاً كبيراً (135 من 199 مقعداً لحزبه «التحالف الهنغاريّ المدنيّ») سوف يمنحه ولاية رابعة. لكنّ أوربان ما إن ابتعد قليلاً عن «صديقه» بوتين، بُعيد الهجوم على أوكرانيا، حتّى عاد «طبعه»، بمجرّد إحرازه نصره الانتخابيّ، يغلب «تطبّعه». ففي خطابه الأوّل بعد الانتخابات، هاجم «بيروقراطيّي بروكسل» وزيلينسكي وسمّاهم «خصوماً». وقد سبق للأخير أن انتقد سياسة أوربان في منع نقل السلاح إلى أوكرانيا المجاورة لبلده. كذلك سارع الزعيم الهنغاريّ إلى إعلان موقف آخر في المنحى ذاته، مُبدياً استعداده لأن يدفع لروسيا بالروبل مقابل الغاز الذي يشتريه منها، غير عابئ بموقف الاتّحاد الأوروبيّ الرافض.

وكما في هنغاريا كذلك في صربيا، حيث فاز برئاسة ثانية للجمهوريّة القوميّ المتطرّف، المناهض للغرب والمُحبّ لروسيا، ألكسندر فوشيش. والأخير، مثل أوربان، من أكثر الذين طالتهم انتقادات المعارضين وبلدان الاتّحاد الأوروبيّ بسبب حقوق الإنسان في بلديهما ورصيدهما السالب في معاملة أصحاب الرأي الآخر.

بوتين، من ناحيته، كان من أوائل المهنّئين لرئيس الحكومة الهنغاريّ ورئيس الجمهوريّة الصربيّ بفوزهما.

وقد يضاف هامش ليس عديم الصلة بهذه الوجهة: إنّه المهاترة الفرنسيّة – البولنديّة. فقد اتّهم رئيس حكومة بولندا ماتيوش مورافيسكي الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون بأنّه كان في تفاوضه مع بوتين كمن يفاوض هتلر وستالين وبول بوت. جاء هذا الاتّهام القاسي بُعيد مجزرة بوتشا وقُبيل الدورة الأولى للانتخابات الفرنسيّة، فاستحقّ ردّاً لا يقلّ ناريّةً من الرئيس الفرنسيّ الذي اتّهم نظام وارسو بمناهضة القيم الديمقراطيّة والإصلاحات الاقتصاديّة، وأنّ شعب بولندا «يستحقّ ما هو أفضل».

لكنّ الدعم السياسيّ لروسيا أو الامتناع عن دعم أوكرانيا يرتبط تأثيرهما، أو ضعف تأثيرهما، بأداء الجيش الروسيّ على الأرض، وبالتالي بقدرة موسكو على الاستفادة من هذا الدعم، أو الاستفادة من عدم دعم الأوكرانيّين. ما يبدو، حتّى إشعار آخر، أنّ الأداء العسكريّ الروسيّ ليس مدعاة لتفاؤل من يؤيّدونه.

يُلاحَظ، إلى ذلك، أنّ معظم الدعم السياسيّ المُهدى إلى موسكو ناتج عن تأزّمٍ ما في العلاقة بواشنطن، أو بالاتّحاد الأوروبيّ. المتعاطفون مع بوتين لا يكنّون بالضرورة محبّة خاصّة له، وباستثناء «التسريب السرّيّ» للحزب الشيوعيّ الصينيّ، ليست هناك مرافعات تدافع عن مزايا بعينها في النظام الروسيّ. وأخيراً، هناك المقاومة الأوكرانيّة التي توحي المعطيات حتّى الآن أنّ قدرتها على خلط الأوراق لن تكون بسيطة في حرب يتزايد عدد الذين يتوقّعون أنّها ستكون طويلة. أمّا تلك القدرة فيُرجّح أن تغدو أكبر فأكبر مع تعاظم المآسي الأوكرانيّة وتوسّع حجمها نتيجةً لتعاظم الإخفاق العسكريّ الروسيّ والإمعان في استراتيجيّة «الأرض المحروقة».

———————————-

أوجه الشبه بين بوتين والأسد، ومقامرة حرب أوكرانيا/ علاء الدين الخطيب

مدخل

نقلت وكالة (سانا)، الوكالة الإعلامية الرسمية للنظام الأسدي، في 25 شباط/ فبراير، خبر اتصال رئيس النظام بشار الأسد بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وبالرغم من عدم أهمية تصريحات بشار الأسد على مستوى الاشتباكات الدولية السياسية، فإنه تحول إلى عنوان رئيسي في الإعلام الغربي، وهو ما أعاد التدليل مرة أخرى على صحة ما سمعه العالم عن الدكتاتور الذي يقتل شعبه.

من المفهوم أن كثيرًا من الحكومات والزعماء سيحسبون حسابات المصالح والخسائر، وعديد منهم يساند روسيا بشكل مباشر أو غير مباشر، لكن إعلان التأييد المطلق بهذا الشكل لم يكن موقفًا سياسيًا عاديًا، حتى بين أقرب حلفاء بوتين، باستثناء دكتاتور بيلاروسيا لوكاشينكو.

سيقول كثيرون إن السبب هو أن بشار الأسد بالمحصلة حليفٌ تابع لبوتين، ولولا اقتحام روسيا العسكري لسورية لسقط النظام الأسدي، ولذلك هو يتبع الأوامر أو يردّ “الجميل”. طبعًا، هذا الرأي أو التحليل له وجهاته وأحقيته، لكن هل هذا هو السبب فقط؟ بالواقع، المشتركات ما بين بشار الأسد وفلاديمير بوتين، كدكتاتوريين متشبثين بسلطانهما، تضيف كثيرًا من الأسباب التي تشرح موقف الأسد من الغزو الروسي لأوكرانيا.

خبر (ناسا)

ما يلفت النظر في خبر ناسا، وفي تغطية الإعلام الأسدي للحرب العدوانية على أوكرانيا، هو التزامهم بالمعايير التي فرضها الكرملين على الإعلام الروسي، وأشهرها عدم استخدام كلمة “حرب” في التغطية الإعلامية للحرب في أوكرانيا، بل استخدام عبارة “العملية العسكرية” أو “العملية الخاصة”. فضلًا عن الانحياز الواضح في نقل الأخبار من مصدر واحد هو المصدر الروسي.

قد يجادل البعض بأن هذه المصطلحات لن تغطي حقيقة أنها حرب. لكن التاريخ والواقع يقول إن التأثير الإعلامي لاستخدام كلمات مختلفة، وإن كانت تشير ضمنيًا إلى معنى واحد، وخاصة مع التكرار، يُوصل صورًا وأفكارًا مختلفة للمتلقين بعامتهم وخاصتهم. الحروب الحديثة بدأت بالإعلام وحرب المصطلحات، وقد رأيناها في سورية والشرق الأوسط، والآن نرى شراستها في الصراع الإعلامي المُشتّد حول أوكرانيا.

أوجه الشبه بين بوتين والأسد

التشابه بين الدكتاتوريين متعدد الأوجه، على الرغم من الاختلافات الكبيرة بين روسيا وسورية، ومن الظروف المحيطة بالبلدين. ويتجلى التشابه في بنية النظام الحاكم الذي يترأسانه، وفي السياسة الداخلية والخارجية، وأيضًا على المستوى الشخصي كحاكمين مطلقين يظنان أن بلديهما أصغر مما يستحقانه.

3.1 نظام حكم دكتاتوري بوليسي مغلق

بوتين والأسد أسسا، أو بالأصحّ، رسّخا نظامًا دكتاتوريًا شموليًا، كان موجودًا منذ عقود قبلهما. نظام قائم على حكم الفرد المطلق الذي لا يمكن لأحد أن يجادله أو يعترض عليه، ويستند إلى أدوات قمع ومراقبة بوليسية شديدة الصرامة والقوة والفتك، وإلى تحالف متين متداخل ما بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية والمالية وما بين السلطة البيروقراطية للدولة، وكل هذه السلطات تستمد حمايتها من تحالف وطيد مع السلطة العسكرية.

والناحية الأهم أن كلا النظامين قاما على تقليد مستمر منذ عقود لمنظومة الحكم الشيوعي السوفييتي البائد. الفرق أن نظام الأسد تعلّم من خارج المنظومة خلال فترة حكم البعث وحافظ الأسد لسورية، لكنّه كان تلميذًا مجتهدًا في النسخ من المنظومة الشيوعية السوفيتية، والتطبيق في سورية، مثل كثيرين من الجمهوريات العربية. في حين أن بوتين أتى من عمق رحم النظام الشيوعي السوفييتي، من المخابرات السوفيتية ذات الاسم المخيف والمرعب، داخليًا ودوليًا.

قد يُقال إن التشبيه هنا جائر، من حيث كون نظام البعث والأسد وسورية أتى من خلفية عسكرية بحتة، على حين أن بوتين، الشيوعي السابق، أتى من خلفية حزبية سياسية، وإن كان ضابطًا في المخابرات السوفيتية. هنا يمكن القول إن ذلك صحيح لحد ما، فالسلطة الأعلى في روسيا متمثلة ببوتين، ودائرته الضيقة لا تعتمد بنيويًا بسلطتها على الجيش أو ضباطه، فعلاقة المؤسسة العسكرية الروسية بالسلطة التنفيذية هي لحدّ بعيد أكثر استقلالية عن العلاقة المعقدة والمتداخلة بين المؤسسة العسكرية في نظام الأسد ومؤسسات الدولة الأخرى. لكن مع ذلك، يبقى للمؤسسة العسكرية دور أساسي في أيّ تغيير سياسي مستقبلي في روسيا، وأي رئيس غير بوتين يجب أن يحسب حساب رأي المؤسسة العسكرية وكبار ضباطها بالذات، لأن ولاء هذه المؤسسة للكرملين ورئيسه يلعب دورًا حاسمًا في السلطة الحقيقية التي سيستطيع الرئيس ممارستها. ولعل هذا ما يفسّر إلى حدّ بعيد سلسلة التغيرات البنيوية على الجيش الروسي، التي ارتبطت بأسماء وزراء الدفاع أو رؤوساء الأركان الذين توالوا على هذه المناصب في عهد بوتين، مثل “إصلاحات إيفانوف-كشفاشنين” و”إصلاحات سيرديكوف-ماكروف” و”إصلاحات شويغو-غيراسيموف” [1]، حيث كانت التغييرات مرتبطة بالشخص نفسه، مثلما أن الدولة الروسية مرتبطة بشخص بوتين نفسه.

مع ذلك، يبقى عمق العقلية الحاكمة في (روسيا – بوتين) و(سوريا – الأسد) عقلية تستمد كثيرًا من الرؤية العسكرية الاستبدادية، وتعتمد على العسكر والأمن بالمحصلة لصيانة هذه السلطة، وعلى صنع الأمجاد في مجالات لا تضمن قوة الدولة كدولة حديثة قابلة للتطور والاستمرار والاستقرار، وإهمال مجالات التطور الحقيقي الذي يلزم الدولة الحديثة مثل التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتقني والخدمي والعلمي. فليس المُحرَّم أن يكون الرئيس أو الزعيم السياسي قد خدم من قبلُ كعسكري، بل المُحرَّم أن يأتي بعقلية العسكرية الآمرة التي تقوم على مبدأ “نفذّ ولا تعترض”. فضلًا عن أن العمل في المخابرات السوفيتية أو الجيش السوري لن يزرع سوى عقلية القيصر الطاغية.

ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنه لا يمكننا اعتبار مرحلة التسعينيات، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي والكتلة الشيوعية في روسيا، مرحلة من الديمقراطية. فعقد التسعينيات في روسيا الاتحادية وغالبية دول حلف وارسو السابق كان مرحلة فوضى عارمة لم يُعرف لها طعم ولا رائحة، فلا هي ديمقراطية ولا دكتاتورية، لا رأسمالية ولا شيوعية، بل حالة تخبط وسباق محموم لكسب أكبر قدر من المرابح المالية والسلطوية والسياسية. وهنا، يأتي دور بوتين كزعيم لروسيا وضع حدًّا للسباق الفوضوي الشره داخل روسيا، ليصبح سباقًا محكومًا من قبله ووفق المسارات التي يتركها لرجال نظامه من رجال مال أو سياسة أو أمن أو عسكر.

3.2 نظام اقتصادي هش وفاسد

لا ينتهي التشابه عند بنية النظام الحاكم، بل يزداد عند مقارنة سيطرة الفساد على أجهزة الدولة. فروسيا وسورية تزايدت معدلات الفساد فيهما وفق منظمة الشفافية العالمية [2]، حيث انتقل ترتيب سورية بين دول العالم من 76 إلى 131، كذلك انتقل ترتيب روسيا بين دول العالم من 128 إلى 154، ما بين 2005 و2010.

وفي روسيا وسورية، يُنسب إلى الأسد وبوتين النمو الاقتصادي الذي شهده البلدان منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي وصولًا إلى منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة، فهل هذا صحيح؟

بمقارنة النمو الاقتصادي الذي حققته سورية وروسيا مع بقية دول العالم، تظهر حقيقة أن الاقتصاد العالمي شهد نموًّا كبيرًا نسبيًا منذ نهاية التسعينيات وبداية الألفية الثالثة. وخلال تلك المرحلة، دخلت دول عدة خانة ما يُصنّف “الدول الصاعدة الاقتصادية”. ذلك الصعود يعود إلى عوامل اقتصادية وسياسية كثيرة، يمكن اختصارها باختلاف طبيعة العلاقات الدولية بعد سقوط السوفييت في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وانطلاق ما سُمّيَ “النظام العالمي الجديد” المعتمد على اتفاقيات تحرير التجارة وحرية حركة الأموال؛ فتدفقت الأموال والاستثمارات على عدد من دول العالم، وحققت الشركات والدول مرابح كبيرة نسبيًّا، وبسرعات قياسية بالنسبة إلى تاريخ الشعوب.

ضمن هذا الحراك، كانت روسيا، بعد أن أصبح بوتين الرجل القوي حاكمًا لروسيا، مؤهلةً للاستفادة من تلك التغيرات، وكذلك سورية كانت أيضًا تملك بعض المؤهلات التي تدفعها إلى الاستفادة من حركة الصعود الاقتصادي. فما حصل كان بحاجة إلى حكم قوي مركزي في دول العالم الثالث ودول مثل روسيا.

وللتدليل على هذا الكلام، نستعرض بعض أهم مؤشرات النمو الاقتصادي لبعض الدول حول العالم، خلال الفترة ما بين 2000 و2010، باعتبار أننا لا نستطيع مقارنة سورية بعد العام 2011 بالدول الأخرى [3].

نما الناتج المحلي الإجمالي [4] GDP ما بين العامين 2000 و2010 بمعدل سنوي يقارب 5 بالمئة في سورية، وكذلك 5 بالمئة في روسيا؛ أي إنه كان أعلى من المعدل العالمي الذي كان 3 بالمئة. وفي الوقت نفسه، نجد أن معدل النمو في تلك المرحلة كان 4 بالمئة في تركيا وتونس وفي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عمومًا وفي البرازيل، و5 بالمئة في مصر وسلوفاكيا وأندونيسية وتايلاند. وبلغ 7 بالمئة في فيتنام والهند وبيلاروسيا وسنغافورة، ووصل إلى 11 بالمئة في الصين (الشكل 1).

الشكل 1

بقي مستوى حصّة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في روسيا أقلَّ قليلًا من المعدّل العالمي الوسطي، في العامين 2000 و2010. أما في سورية، فقد بقي أقلَّ بكثير من معدل حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة الشرق الأوسط، وأقلّ من مصر. إذًا، فالبلدان أيضًا حققا نموًّا متناسبًا مع حركة النمو العالمي (الشكل 2).

الشكل 2

لعل مستوى استهلاك الفرد من الكهرباء يقدّم نظرة أخرى لمستوى الخدمات والحياة التي يعيش وفقها السكان. بالمقارنة، بقيت روسيا في مجال الدول متوسطة الاستهلاك للكهرباء (مع أنها بلد بارد جدًّا) مع بقية دول أوروبا الشرقية. وبقي استهلاك الفرد من الكهرباء في سورية أقل من معدله في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (الشكل 3).

الشكل 3

استفاد البلدان مثل غيرهما من تدفق الاستثمارات الأجنبية وحركة رؤوس الأموال عبر العالم في بداية الألفية. تدفقت الاستثمارات الأجنبية على روسيا، وتزايدت ما بين العامين 2000 و2010، لكنها بقيت أقل بكثير من الدول الغنية (أقل من سنغافورة)، ومعدل تزايد الاستثمارات بقي أقل من معدّل تزايدها في البرازيل مثلًا. أما في سورية فقد ارتفعت أيضًا هذه الاستثمارات، لكنها بقيت أقل من مصر مثلًا، وأقل من حيث الزيادة النسبية ما بين العامين 2000 و2010 من فيتنام (الشكل 4).

الشكل 4

وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن روسيا من أكبر المنتجين والمصدّرين للنفط والغاز الطبيعي في العالم، وأن ثروات سورية الطبيعية تُعدّ كبيرة مقارنة بحجم سورية، مساحة وسكانًا، مع النظر إلى حركة النمو الاقتصادي العالمي لما قبل الأزمة المالية العالمية 2008 – 2009، بالمقارنة مع تزايد معدل الفساد في البلدين؛ فإننا نستنتج أن حركة النمو الاقتصادي في البلدين لم تكن بفضل سياسات عبقرية لنظامي البلدين، أو تفوق في الإدارة والقيادة، بقدر ما كانت تماشيًا مع واقع فرض نفسه، تلاقى مع إدارةٍ يمكن تقييمها عند المقارنة بالدول الأخرى على أنها متوسطة الأداء، من حيث التحكم وضمان الاستقرار، وليس من حيث التنظيم والتطوير.

لكنّ النظامين الروسي والسوري استخدما الإعلام والبروباغندا الإعلامية لنشر أفكار مغلوطة، حول أن زعيمي البلدين حققا ما لم يتحقق في دول أخرى مشابهة من حيث الظروف الداخلية والخارجية، وبالغا في عبقرية وحكمة “القائدين”.

3.3 حلفاء وأصدقاء الأسد من اليمين الغربي المتطرف

هنا سنتكلم عن التحالفات السياسية والمصلحية التي تربط بوتين والأسد بشخصيات وجماعات متطرفة يمينية غربية.

السيناتور ريتشارد هايدن بلاك Richard H. Black من ولاية فرجينيا الأميركية، كان يوصف في الولايات المتحدة الأميركية بأنه أعلى مؤيدي روسيا وبوتين في أميركا صوتًا [5]. زار هايدن دمشق، في 17 نيسان/ أبريل 2016، والتقى بشار الأسد وسط ترحيب إعلامي كبير من قبل إعلام الأسد، وكان قد أرسل رسالة تأييد وتضامن للأسد في 2014. بلاك معروف عنه أن يميني متطرف مناهض لحقوق المرأة، ولحقوق العمال، ومعارض شديد لنظام الدعم الصحي، ومعارض لقوانين حماية البيئة التي حدت من استخراج النفط والغاز عبر تقنيات ملوثة للبيئة، وهو أيضًا من أشد أنصار الرئيس الأميركي دونالد ترامب المعروف بعنصريته.

في 21 تموز/ يوليو 2013، نشرت جريدة Dimokratia اليومية اليونانية [6] مقابلة مع ستارفوس ليبوفيسيس Stavros Libovisis، وهو أحد أعضاء مجموعة مارفوس كلينوس Mavros Krinos اليونانية الفاشية المتشددة؛ قال فيها: “نحن نحارب مع إخوتنا بالسلاح (السوريين) … ضدّ العدو القديم”، وقد ادعى ليبوفيسيس أن مقاتلين يونانيين متطوعين شاركوا في معركة القصير، لم تؤكد مصادر مستقلة صحة هذا الادعاء، لكن يكفي بالنسبة إلينا معرفة إلى جانب من تقف الفاشية الأوروبية المعاصرة.

في نهاية 2014، وفي الشهر الرابع من عام 2016، زار سورية دعمًا لنظام الأسد وفود نيابية أوروبية تضم أساطين اليمين الأوروبي المتطرف، تحت اسم التحالف من أجل السلام والحرية، والتقوا برئيس مجلس شعب النظام محمد جهاد اللحام، ومفتي سورية أحمد بدر الدين حسون [7]. من بين الزائرين كان أحد زعماء الفاشية الجدد السياسي الإيطالي روبيرتو فيور Roberto Fiore، وهو رئيس الحزب اليميني المتطرف الإيطالي “القوة الجديدة Forza Nuova”، المتبني لفكرة الميليشيا، وكان فيور قد لجأ إلى بريطانيا سنوات عدة، على إثر تداعيات تفجير إرهابي في إيطاليا؛ ورافقه بالوفد أيضًا صديقه الشخصي السياسي البريطاني نيكولاس جون غريفين Nicholas John Griffin، المعروف بمواقفه العنصرية وقد تمّت محاكمته عليها مرتين، وهو الزعيم السابق للحزب الفاشي البريطاني “الحزب الوطني البريطاني BNP”؛ وضمّ الوفد رئيس حركة النازيين الجدد الألماني أودو فويت Udo Voigt، الذي وصف هتلر بأنه “رجل عظيم”، واتهم المستشارة ميركل بالخيانة، لأنها استقبلت اللاجئين، وهو الذي ترشح لرئاسة الحزب الديمقراطي الوطني الألماني اليميني المتطرف.

وفي 2016، احتفل مؤيدو الأسد بفيديو لنائب نمساوي اسمه روبرت لوغار Robert Lugar، يدافع به عن النظام الأسدي [8]؛ كان لوغار قد تعرض لهجوم إعلامي شديد في النمسا، نتيجة وصفه اللاجئين القادمين إلى أوروبا بأنهم مخلوقات بدائية “إنسان النيدرتال”، وهو عضو في مجموعة يمينية متطرفة اسمها شتروناخ Team Stronach for Austria. وقد ضجّ الإعلام الألماني في 2019 احتجاجًا على زيارة حزب البديل الألماني AFD، الحزب اليميني المتطرف الأقرب للنازية، لنظام بشار الأسد وإعلان دعمه له [9].

3.4 حلفاء وأصدقاء بوتين من اليمين الغربي المتطرف

على الرغم من أن بوتين يدعي أنه شنّ حربه العدوانية على أوكرانيا بغرض إزاحة الحكومة الأوكرانية، لأنها كما يدعي من “النازية الجديدة”، وبغض النظر عن مدى صحة ادعائه، يظهر أن علاقات بوتين باليمين الغربي المتطرف قائمة ومتشابكة، وهو يقدم دعمًا كبيرًا لهذا التيار.

في 27 شباط/ فبراير عام 2020، نشر مركز غارينجي ورقة مطولة عن دعم بوتين للشعبويين أو اليمين المتطرف في إيطاليا والنمسا [10]. حيث قدم التقرير تحليلًا لأخطاء السياسة الغربية التي فتحت الأبواب لبوتين لدخول ساحة اللعبة السياسية الأوروبية الغربية من خلال اليمين المتطرف. ومما يزيد في مصداقية هذه الدراسة وغيرها، الفضيحة [11] التي أجبرت نائب المستشار النمساوي كريستيان شتراخة رئيس حزب الحرية النمساوي في وقتها، وهو حزب يميني متطرف، على الاستقالة من منصبه، بسبب علاقاته المشبوهة مع جهات روسية كبيرة، بعد فيديو كشف اتفاقية كان يعقدها مع ملياردير روسي مقرب من بوتين، يطالب بها شتراخة الطرف الروسي بدعمه إعلاميًا داخل النمسا، مقابل منح الشركة الروسية امتيازات استثمارية ضمن النمسا.

وفي 2016، نشرت مجلة (بيزنسإنسايدر) تقريرًا عن علاقة بوتين بالتيارات البيضاء القومية المتطرفة، وعن تسميته بقائد العالم الحرّ، كما عبّر عن ذلك ماثيو هايمباخ Matthew Heimbach، وهو من مشاهير ناشطي تيار الأميركيين البيض المعروف بعنصريته [12].

ولعلّ الدليل الأقوى على علاقة بوتين بالتيار الشعبوي الغربي أو التيار العنصري الأبيض، هو علاقته القوية والمتينة المعروفة بدونالد ترامب، الذي كان صعوده لرئاسة البيت الأبيض أقوى جرس إنذار على مدى قوة التيار اليميني المتطرف الشعبوي في الغرب. وفضلًا عن هذه العلاقات، ما يزال بوتين مستمرًا في تقديم دعم مفتوح للعديد من الأنظمة الحاكمة الدكتاتورية الفاسدة والعنيفة. ومن المعروف دعمه لنظام الأسد في سورية، الذي كان السبب الأهم في استمرار بقاء هذا النظام.

وإضافة إلى ذلك، تبنى بوتين كل سياسات دكتاتور بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، حاكم بيلاروسيا المطلق منذ العام 1994، والذي أقدم في ربيع العام 2021 على اختطاف طائرة نقل ركاب مدنية تابعة لشركة (ريان إير) الإيرلندية ومتوجهة إلى ليتوانيا، بهدف اعتقال صحفي معارض للوكاشينكو. ومع اتساع الإدانات لتلك القرصنة الجوية، استقبل بوتين لوكاشينكو استقبالًا حافلًا على يخته الخاص، وتبنّى موقفه والدفاع عنه.

كذلك، دعم بوتين بقوة رئيس أوكرانيا المخلوع فيكتور يانكوفيتش، وهو المعروف بفساده الكبير وسجله الجنائي قبل أن يدخل عالم السياسة. وبعد هروبه من أوكرانيا حيث اتُّهم بالخيانة، منحه بوتين اللجوء السياسي في روسيا، فضلًا عن دعم بوتين للنظام الإيراني المعروف بدكتاتوريته وفساده والحكم البوليسي الذي يستخدمه ضدّ الشعب الإيراني، وعن ترويج الفكر الديني الطائفي والمتطرف، ودعم الميليشيات التي ترفع تلك الشعارات.

3.5 ادعاء الحرب على الإرهاب

بوتين والأسد ادعيا أنهما يحاربان الإرهاب الإسلامي، وبخاصة (داعش) في سورية. ودلائل الأحداث والقتال في سورية، منذ اندلاع الثورة عام 2011، تُثبت أن نظام الأسد نادرًا ما قاتل (داعش)، بل إنه استخدمها مرات عدة. وكذلك كان دور الجيش الروسي الذي أرسله بوتين إلى سورية عام 2015.

في 2016، أصدرت مجموعة الأزمات الدولية، ومقرها في بروكسل في بلجيكا، دراسة مفصلة بعنوان “تصدير الجهاديين القوقاز إلى سورية”، حيث رصدت حركة مقاتلين جهاديين إسلاميين خرجوا من روسيا الاتحادية والتحقوا بتنظيم (داعش) في سورية، تحت أعين المخابرات الروسية.

أما نظام الأسد، فمعروفة علاقاته بالميليشيات التي تتخذ من النداء الطائفي الشيعي الإمامي، مثل حزب الله وغيره من ميليشيات ممولة من قبل إيران؛ ولعبت هذه الميليشيات أيضًا دورًا محوريًا في تثبيت ركائز نظام الأسد في سورية. فضلًا عن علاقاته التي باتت معروفة مع الميليشيات التي تحمل شعار الجهاد الإسلامي السني في سورية، مثل داعش والنصرة.

وهنا، لا بدّ من التذكير بدور نظام الأسد ومخابراته في دعم الجهاديين الإسلاميين الذين توجهوا للعراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، بحجة “الجهاد ضدّ الأميركيين”. وقد اعتمدت تلك السياسة على فتوى أصدرها الشيخ أحمد كفتارو، مفتي سورية وقتها والمقرب من بشار الأسد، تحث على الجهاد في العراق [13]؛ حيث قامت المخابرات السورية باستقبال كثير من المجاهدين السوريين وغير السوريين، ومنحتهم التسهيلات اللازمة لدخول العراق وقتال الأميركيين، وهؤلاء المجاهدون كانوا مساهمين أساسيين في إنشاء الدولة الإسلامية في العراق [14] التي أصبحت لاحقًا “داعش”.

3.6 حجم بوتين والأسد

كما هي حال أيّ دكتاتور بسلطات مطلقة، ينتاب الشخصان جنون السلطة وشعور عميق بأن ما يحكمانه من أرض وشعب هو أقلّ مما يستحقانه. ومشهورة عبارة أحد أعضاء ما يسمى “مجلس الشعب السوري” خالد العلي عام 2011، حيث خاطب بشار الأسد قائلًا: إن “سورية صغيرة عليك يا سيادة الرئيس”.  ونرى الآن كيف يرى بوتين أن روسيا الاتحادية أقلّ مما يستحق، وهو يشن حربًا عدوانية على أوكرانيا، بعد تأكيده رسميًّا أن أوكرانيا جزء من روسيا وليست دولة مستقلة [15].

4 أوجه الاختلاف بين بوتين والأسد

يكمن الاختلاف الأساسي بين الشخصيتين في حجم الدولة التي يسيطران عليها سيطرة مطلقة، فروسيا أكبر بكثير من سورية، وأقوى عسكريًّا واقتصاديًّا، وأطماع بوتين أوسع مما لدى الأسد بسبب حجم ما يملكه بين يديه. ومن الناحية الشخصية، لا بدّ من الإقرار أن بوتين أظهر ذكاء ومكرًا أشد وأوسع بكثير من الأسد. فضلًا عن تمتعه بشخصية ذات كاريزما عالية، وإتقان لدور الزعيم السياسي الشعبوي القادر على خداع الجماهير وتحريك عواطفها. فهو زعيم صنع سلطانه بيده فعلًا، ولم يصعد بناءً على دعم خارجي أو عائلي.

لكن بشار الأسد وجد نفسه فجأة وريثًا لأبيه الطاغية حافظ الأسد، فكان صعوده وراثة وليس صعودًا بذل من أجله الجهد والوقت، وقد خدمته الصدفة التي هيأت الظروف الإقليمية والدولية والمحلية السورية لاستمراره في حكم سورية. وعلى المستوى الشخصي كزعيم، لا يمكن الادعاء بأنه سياسي بارع أو مجيد للخطاب السياسي، سواء الدبلوماسي أو الشعبي، ولا يتمتع حتى بكاريزما أبيه ومكره، لكن الظروف والصدف خدمته، وجعلت بقاءه بالسلطة مصلحة إستراتيجية لنظام إيران وروسيا والصين أيضًا.

5 خاتمة

تلاقي مصالح الزعماء السياسيين، بغض النظر عن سياساتهم وقربها أو بعدها عن الديمقراطية والقيم الأخلاقية والقانونية، يُجبرهم على العمل معًا، مهما كان الاختلاف قائمًا فيما بينهم. لكن بحالة بوتين والأسد، وفوق كل المصالح الكبرى المشتركة بين النظامين، فإن أوجه التشابه بينهما تزيد من متانة العلاقة وقوتها، وتعزز أيضًا من ترابط المصالح بينهما. ولعل تأييد الأسد المطلق لحرب بوتين على روسيا هي آخر الأدلة على أن الأسد قرّر ربط مصيره بمصير بوتين. ففي حال خسارة بوتين لتلك الحرب خسارة كاملة، بمعنى انسحابه من كامل أوكرانيا وجزيرة القرم، ومع كل هذه الضجة الإعلامية والسياسية وتغيرات مواقف وسياسات دول العالم، فإن الخسارة الكاملة ستؤدي إلى أن يخسر بوتين سلطته في روسيا نفسها. وروسيا كما هي حال سورية تخضع لنظامٍ لم يسمح لمؤسسات الدولة أن تكون جاهزة لملء فراغ غياب الزعيم، وبذلك فإن خسارة بوتين ستشكل الضربة القاضية على الأسد ونظامه، ودخول روسيا بأزمة لا يمكن التنبؤ بمخرجاتها.

ومع ذلك فإن احتمال خسارة بوتين في أوكرانيا خسارة كاملة ما زال بعيدًا عن التداول؛ لسببين أساسيين: أولهما أن السياسة الأميركية والغربية لا تسعى لحصر بوتين في الزاوية بخسارة شاملة، مع أنها لن تتسامح مع نتائج هذه الحرب، وذلك مرتبط بالسبب الثاني، وهو أن بوتين يسيطر على الصواريخ النووية الروسية، فلا الغرب ولا العالم يريد التصعيد نحو مواجهة نووية قد تقضي على الحياة على الكرة الأرضية كلّها. كما أن العالم كله ليس من مصلحته دخول روسيا بأزمة كبرى، إن خسر بوتين خسارة كاملة، فلا يمكن لأحد التحكم في ما قد يؤدي له ذلك في روسيا وعلى مستوى العالم.

خسارة بوتين للحرب أصبحت محسومة، وسيرضى بما يقدّمه الغرب له في شرق أوكرانيا، لكن الحصار الاقتصادي وانقطاع الثقة بين روسيا وبين أوروبا سيُفقِد روسيا أهم وأكبر شركائها التجاريين، والذين لا يمكن حتى للصين تعويضهم؛ وبذلك فلن تعود روسيا إلى المستوى الذي كانت عليه قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا، لا على المستوى الاقتصادي ولا السياسي ولا العسكري. لذلك فإن قرار بشار الأسد القفز بكل بيضه في سفينة بوتين سيُؤدي أيضًا إلى دخوله في نفقٍ أشدّ ظلمة من الانعزالية والضعف، لكن ذلك سيؤدي إلى مزيد من التعنّت والتسلط والعنف من قبله، لأن الغرب بعد هدوء الأزمة في أوكرانيا سيزداد تردده في مواجهة أخرى مع بوتين في سورية، وإنْ كان بوتين الخاسر في أوكرانيا.

قد يتمنّى البعض القول إن خسارة بوتين للحرب مع تراجع قوته الدولية سيؤدي إلى انهيار نظام الأسد تلقائيًا، لكن هذا الأمر مستبعد، مع الأسف. فما يبدو الآن أنّ العالم يدخل في عملية استقطاب على المستوى الدولي بين معسكرات النظم الدكتاتورية واليمينية المتطرفة وبين الغرب، حتى الغربُ نفسه لم يتخلّص من احتمال صعود اليمين المتطرف إلى السلطة، وستكون التوازنات الدولية حساسة جدًّا، وخارجة عن التحكّم.

[1] “فهم ديناميكيات القيادة العليا في الجيش الروسي” – مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، Center for Strategic and International Studies (CSIS) ، 20/07/2021، شوهد في 20/12/2022

https://bit.ly/3L6gZfl

[2] قاعدة بيانات منظمة الشفافية الدولية Transparency International، شوهد في 02/02/2022

https://bit.ly/398c7bC

[3] قاعدة بيانات البنك الدولي، شوهد في 02/02/2022

[4] مقاسًا بالأسعار الثابتة للدولار 2015

[5] „One of the loudest Republican supporters of Russia and Assad announces his retirement“, CASEY MICHE, ThinkProgress ,02/01/2019، شوهد في 04/02/2022

https://bit.ly/3OpaJ4t

[6] „ Syria: Greek Nationalist Socialists fighting with Assad’s regime far more dangerous than Golden Dawn“, anagiotis Liakos, 27/11/2013, شوهد في 23/01/2022

https://bit.ly/3xZ2k27

[7] „Mufti Hassoun meets European and Greek delegations“, SANA, 24/04/2016, شوهد في 25/02/2022

https://bit.ly/3xQ9Sno

[8] “فيديو: تصريح ناري لعضو مجلس النواب النمساوي روبرت لوغار Robert Lugar حول حقيقة ما يجري في سورية”، شوهد في 12/01/2022

https://bit.ly/3v0iB4D

[9] „AfD- Delegation trifft erneut Assad-Regime-harsche Kritik“, Morgenpost, 19/11/2019, شوهد في 03/02/2022

https://bit.ly/3vyXHsz

[10] “With Friends Like These: The Kremlin’s Far-Right and Populist Connections in Italy and Austria“, CARNEGIE, ANDREW S. WEISS, 27/02/2020, ، شوهد في 12/12/2021

https://bit.ly/3Os4Bs3

[11] Austrian ex-far-right leader Strache guilty of corruption – 22/08/2021

https://bbc.in/37x0sCA

[12] ‘A model for civilization’: Putin’s Russia has emerged as ‘a beacon for nationalists’ and the American alt-right – 10/12/2016

https://bit.ly/3OrjevV

[13] “مفتي سوريا يدعو لتنفيذ عمليات استشهادية ضد الغزاة”، الجزيرة، 27/03/2003، شوهد في 15/12/2021

https://bit.ly/3vw7qzT

[14] „Syrians told to prepare for fight with U.S. / Iraq war is just the beginning, leaders say“, Juliette Terzieff, 31/03/2003,  شوهد في 15/08/2020

https://bit.ly/390rHG5

[15] “القيصرية الروسية هل تعود للتمدد؟ طبول الحرب على حدود أوكرانيا”، علاء الخطيب، موقع بيت السلام، 16/01/2022، شوهد في 02/01/2022

https://bit.ly/3OrS6wL

————————–

مأزق حرب روسيا – أوكرانيا: لا بدّ من العودة إلى الدّبلوماسيّة في أسرع وقت/ علي حمادة

لا يمكن تجاهل الدور المركزي الذي تلعبه الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن في مقاومة الغزو الروسي لأوكرانيا. فنجاح المقاومة الأوكرانية في منع روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين من تحقيق أهدافها الأساسية من الغزو، ما كان ليحصل لولا مسارعة واشنطن إلى قيادة جبهة تضم دول حلف شمال الأطلسي “الناتو” والاتحاد الأوروبي، وتصدّر المجهود المالي والعسكري الداعم لأوكرانيا. وللتذكير، كانت واشنطن وحليفتها الأوروبية الأقرب بريطانيا قد خاضتا قبل أشهر من بدء الغزو المعركة الإعلامية والاستخبارية، ما حرم الرئيس بوتين من امتلاك عنصر المفاجأة.

ورغم تصريحات علنية لكل من بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف بأن لا نية لروسيا في شن هجوم على أوكرانيا، كانت الإدارة الأميركية ورئاسة الحكومة البريطانية التي يتولاها بوريس جونسون تكشفان بطريقة غير كلاسيكية الخطط الروسية، وتحضّران الأرض لحتمية الغزو.

في هذا الاختبار نجحت إدارة الرئيس بايدن في انتزاع المبادرة من يد الرئيس الروسي. وفي الأيام التي تلت بدء الغزو، عكست الاستعدادات التي ساعدات عليها الولايات المتحدة وبريطانيا، ومعهما بعض الدول الأوروبية، حجم التعثر الروسي على الأرض، بما أجهض المرحلة الأولى التي كان بوتين يعوّل عليها لكي يحسم المعركة بسرعة، ويباشر بجني مكاسبها سياسياً. هذا الأمر لم يحصل. وقد مكّن الدعم الغربي الكبير أوكرانيا من أن تُستدرج روسيا، القوة العسكرية الثانية في العالم، إلى حرب أطول مما كانت تحسبها، فضلاً عن الخسائر التي أنزلتها القوات الأوكرانية بالجيش الروسي، الأمر الذي أدى إلى انكشاف الفعالية العسكرية الروسية بنقاط ضعفها البنيوية الكبيرة.

اليوم بعد انقضاء شهرين على الغزو، لا تزال موسكو بعيدة من تحقيق إنجازات عسكرية يمكن ترجمتها إلى مكاسب، لا سيما مع فعالية المقاومة التي تبديها القوات الأوكرانية، وحجم الخسائر على الأرض، وقسوة العقوبات على الاقتصاد الروسي، معطوفة عليها كلفة الحرب نفسها أكان من الناحية البشرية، أو على مستوى العتاد.

في الآونة الأخيرة، بدأنا نسمع تصريحات من الإدارة الأميركية، تتحدث عن أن الحرب ستطول في أوكرانيا إلى نهاية العام المقبل. هذه التصريحات قد تكون الغاية منها تحضير الرأي العام الغربي لتقبل فكرة الحرب الطويلة، وإشعار موسكو أن الغرب مستعد لمواصلة دعم أوكرانيا، بما ينفي عنه صفة الجبهة القصيرة النفَس. هذه الفكرة قد تخيف موسكو، لأن الأخيرة محدودة الموارد، وخسائرها كبيرة جداً، وقد وصلت إلى ملامسة سقف قدراتها على تحقيق إنجازات عسكرية ذات معنى طويل الأمد. فحتى المناطق التي سيطرت عليها في شرق البلاد وجنوبها، قد لا تحافظ عليها بسهولة، ويمكن أن تعود فتخسر جزءاً منها.

من هنا مسارعة وزير الخارجية الروسي لافروف إلى التحذير من احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة، مع إمكان الانزلاق إلى استخدام سلاح نووي. هذا النوع من التصريحات الروسية التهويلية الذي تكرر منذ الأيام الأولى لبدء الغزو، ينسبه الخبراء المتخصصون بالشأن الروسي إلى إدراك القيادة الروسية أن المعركة سارت بغير ما توقعت، وأن انخراط الغرب في مساعدة أوكرانيا انخراطاً لم يسبق له مثيل، شكّل مفاجأة كبيرة، ورغم كل الفظاعات والخسائر الفادحة، تقاوم أوكرانيا وتمنع روسيا من الانتصار على النحو الذي كان مخططاً له.

أما الآن فالحرب تدخل شهرها الثالث، الخسائر كبيرة من الجانبين. روسيا لم تحقق أهدافاً من الحرب سوى احتلال مناطق محاذية للحدود بين البلدين، ومدينة واحدة تماماً (خيرسون)، وأخرى بشكل شبه تام (ماريوبول). في الشرق التقدم بطيء ومكلف للغاية. ومع ازدياد قدرات القوات الأوكرانية العسكرية، بفعل التجهيز المتقدم الذي تحصل عليه من الولايات المتحدة والحلفاء الأوروبيين سيزداد التقدم الروسي صعوبة وكلفة إلى أن يتحوّل الأمر إلى حرب خنادق لا طائل منها.

أوكرانيا من ناحيتها تتكلف كثيراً في  الحرب، وهي تعاني على كل الصعد، فيما البلاد تدمر تدميراً منهجياً على يد الجيش الروسي الذي يمارس سياسة الأرض المحروقة.

أما الغرب بقيادة الولايات المتحدة فوحدته لغاية الآن مضمونة، وحلف “الناتو” آيل إلى التوسع قريباً باحتمال انضمام كل من فنلندا والسويد. لكن كلما زادت الكلفة على الدول الأقل انخراطاً في المواجهة مع روسيا قد تتصدع تلك الوحدة. وفي كل الأحوال تخسر روسيا حتماً، وأوكرانيا بالتأكيد، والغرب إلى حد كبير، فيما يربح “التنين” الصيني وهو يتفرج. من هنا حاجة روسيا وأوكرانيا والغرب إلى استراتيجية خروج من مأزق الحرب التي قد تطول بلا طائل.

لا بد من العودة إلى الدبلوماسية في أسرع وقت.

———————–

شهران من الحرب التي غيّرت العالم/ سميح صعب

بعد شهرين على الحرب الروسية – الأوكرانية، لا تظهر مؤشرات الى إمكان تحقيق خرق دبلوماسي يسكت المدافع وينقل المواجهة إلى قاعات التفاوض بدلاً من ميادين القتال. وليست روسيا وأوكرانيا وحدهما من يدفع الثمن، وإنما العالم كله الذي بدأ يتشكل من جديد تبعاً لحرب هي الأكثر كارثية منذ الحرب العالمية الثانية.

روسيا، أعلنت المرحلة الثانية من الهجوم في منطقة الدونباس، بينما الغرب يعزز مساعداته العسكرية لأوكرانيا، من ناحية الكم والنوع، ويفرض المزيد من العقوبات، في مسعى لمنع موسكو من تحقيق أهدافها من وراء الحرب.

وزيادة المساعدات العسكرية لأوكرانيا تحمل في طياتها مخاطر التحول إلى صدام مباشر بين روسيا وحلف شمال الأطلسي. وزادت موسكو من تحذيراتها لدول الحلف من مغبة المضي في تقديم المساعدات وإرسال المتطوعين للقتال إلى جانب القوات الأوكرانية. ويعزز ذلك من فرضيات حصول مثل هذا الصدام، بالصدفة أو من طريق الخطأ.

والوحدة التي أبداها الغرب في الأسابيع الأولى للحرب، بدأت تعاني من تشققات في ضوء رفض ألمانيا التوقف الفوري عن استيراد النفط والغاز الروسيين، بينما تلح الولايات المتحدة وبولندا ودول البلطيق على ضرورة فرض الحظر على استيراد الطاقة الروسية في أسرع وقت ممكن، بهدف حرمان الكرملين من مصادر تمويل الحرب. ويدرس الاتحاد الأوروبي الحزمة السادسة من العقوبات وسط هذا التباين المعلن في الآراء. وتعلن برلين صراحة أن استغناءها الفوري عن الطاقة الروسية، سينزل ضربة كبيرة بالاقتصاد الألماني ويدخله في مرحلة الركود، خصوصاً أن البدائل ليست متوافرة بسهولة وتحتاج أقله إلى سنوات.

وتواجه الدول الأوروبية موجة تضخم بسبب العقوبات التي فرضتها، فضلاً عن التكاليف الناجمة عن زيادة الموازنات العسكرية، تضاف إليها أعباء أكثر من خمسة ملايين لاجئ أوكراني فروا من بلادهم.

وبعيداً من أوروبا، أثارت الحرب انقساماً دولياً، بات واضحاً مع عدم تأييد الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا والمكسيك ودول أخرى في أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط، العقوبات الغربية المفروضة على روسيا. وتطلق واشنطن تحذيرات متكررة للصين والهند من احتمال تقديم مساعدات لروسيا تمكنها من الالتفاف على العقوبات.

ومن ناحية أخرى، ألقت الحرب بظلالها على دول كثيرة في العالم، لا سيما في ما يتعلق بسلاسل الغذاء. وبرز التأثير في الحاجة إلى القمح الروسي والأوكراني، الذي تراجعت صادراته بسبب الحرب، ما يهدد الأمن الغذائي لدول كثيرة في العالم. ولا يستبعد أن يقود ذلك إلى اضطرابات اجتماعية.

وهكذا غيرت الحرب الأوكرانية من أنماط العلاقات الدولية ومن الهيكليات الاقتصادية، التي كانت قائمة لعقود خلت. وحتى لو توقفت الحرب من الغد، فإن دولاً كثيرة ستحاول التقليل من اندماجها في الاقتصاد العالمي، كي لا تتعرض لما تعرضت له روسيا من تجميد لأرصدتها في المصارف الغربية. وهذه ظاهرة ستؤثر بلا شك في الاندفاع الذي شهدته العولمة في العقود الثلاثين الأخيرة. وقد يدفع هذا ببعض الدول إلى عدم الاعتماد الكلي في تجارتها أو في احتياطاتها من العملات الأجنبية على الدولار فقط. ومثل هذا التطور سيقوي أكثر موقع اليوان الصيني على سبيل المثال.

وبصرف النظر عن النتيجة التي ستسفر عنها الحرب الروسية – الأوكرانية، فإن تأثيراتها ستكون جلية في العالم. وتالياً ستترتب عليها أنماط جديدة من التعامل ستفرض نفسها شيئاً فشيئاً، ومن بينها تعزيز النظرة الوطنية، ونشوء تكتلات اقتصادية إقليمية قوية، قادرة على مقاومة أي نوع من الضغوط التي تعرضت لها روسيا على نحو غير مسبوق.

——————–

=======================

تحديث 29 نيسان 2022

——————–

بوتين في مرآة بوتين/ وضاح شرارة

يروي الصحافي الألماني في تلفزيون ARD، هوبرت سايبيل، أنه التقى الرئيس الروسي فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين في 2010، أي بين ولايتيه الرئاسيتين الثانية والثالثة.

وأثمر اللقاء الأول عملين صحافيين وإعلاميين طويلين، أولهما هو شريط وثائقي تلفزيوني وسمه الصحافي الألماني بـ”أنا بوتين- صورة” (أو بورتريه)، عرضته المحطة في 2012، بعد سنتين على المحاورة الظرفية الأولى. وبلغت ثقة السياسي الروسي بمحاوره أو محادثه مبلغاً دعاه إلى القبول ببث الشريط من غير أن يشاهده صاحب العلاقة وموضوع “الصورة”.

وجرّت الثقة هذه، وقد اختبرها الرجلان في عشرات المحاورات واللقاءات المتصلة، والمتنقلة بين موسكو وسوتشي (على البحر الأسود) وسان بترسبيرغ (إلى الغرب) وفلاديفوستوك (إلى الشرق)، وعلى متن طائرات الرئيس، جرّت أو وَلّدت عملاً ثانياً هو كتاب نُشر صيف 2015، بعنوان “بوتين- رؤيا للسلطة” (نقله إلى الفرنسية، في السنة نفسها، كلود هانغلي وطبعته دار “دي سيرت” الباريسية).

واستمرت المقابلات والمحاورات إلى عشية صدور الكتاب. وصادفت العشية الطباعية عشية انخراط روسيا في الحروب السورية، أواخر أيلول/ سبتمبر 2015.

ولا شك في تعمُّد الصحافي التلفزيوني والكاتب الموازنة بين العملين والعنوانين. فينسب الوثائقي المرئي روايته المصوّرة إلى ضمير المتكلم الفرد، وإلى خاصِّه أو خصوصيته، بينما يُبرز الكتاب عمومية موضوعه السياسية، ويجرّد الفاعل ورجل الدولة و”يرفعه” إلى مرتبة “الرؤيا” أو الفكرة الجامعة والمتماسكة.

ويعارض بوتين بين الخصوصية وبين العمومية. فيسأل: “لماذا أسأل عن بنتيّ؟ بنتاي لا تشغلان عملاً سياسياً، وعلاقاتي الشخصية لا صلة لها بالسياسة، وهي شأني وحدي”. ولم يكن الإعلام تناول يومها تستّر بوتين ببنتيه على ثروتهما الشخصية، والصحافي لم يسأله عن الأمر كله، ولا سأله عن صداقاته “الشخصية” بغيرهارد شرودر، المستشار الألماني السابق، أو فرنسوا فيون، رئيس وزراء فرنسا في رئاسة نيكولا ساركوزي (2007-2012)، أو بالثري الأوكراني الأول.

الموضوعي الأوحد

المقابلة أو المناقضة بين العام السياسي والتاريخي وبين الخاص الشخصي والذاتي معيار رأي يربط أجزاء الكتاب من غلافه الأول إلى دفّته الأخيرة. فهوبرت سايبيل ينعي على بعض الإعلام الألماني، وتلفزيون ARD منه، انحيازه وتحامله على السياسة الروسية، البوتينية في العشرين عاماً الأخيرة، من غير تبصُّر “حقيقي واستراتيجي” في هذه السياسة، على قوله.

ويشبّه أحكام هذا الشطر من الإعلام (ويعدد الصحافي، برهاناً على صدقه، كبريات الصحف اليومية، فرانكفورتر ألغماينه زايتونغ، وداي زايت وسودويتشه زايتونغ…) بالأسئلة التي يطرحها “المتنعّمون” بحياة رخيّة: أين في وسعي أكل أفضل صحن نباتي هذا المساء؟ أو أي ملابس عليَّ أن أرتديها؟ ولماذا لا يبيح بوتين زواج المثليين والمثليات في روسيا؟ (ص15-16 من الطبعة الفرنسية).

والتمثيل بهذا الصنف من الأسئلة على خفة الصحافة والرأي العام الألمانيّين، والغربيّين عموماً من بعد، قد يكون صدى لملاحظات الرئيس الروسي، وقد يعبِّر عن ظن محاور الرئيس الشخصي. وفي كلتا الحالين تفضي المقارنة بين الموقفين- الغربي، الألماني والأميركي والأوروبي والأوكراني والجورجي…، والروسي، البوتيني على الدوام أو المتفرّع عنه وعلى لسان أحد مساعديه- إلى مواجهة أو مجابهة بين الذاتي المغرق في ذاتيته واعتباطه، و”غير المشترك”، وبين “موازنة مصالح سياسية متباينة”.

وهذه الموازنة يتولاها طرف واحد، هو فلاديمير بوتين، في المسائل كلها: في الشيشان، وكوسوفو، وغرق الغواصة كورسك، وغزو العراق، و”الثورات الملونة” الجورجية والأوكرانية، وفي ليبيا وسوريا “العربيتين”، وإسقاط الطائرة الماليزية MH17، وألعاب الشتاء الأولمبية بسوتشي، ومعالجة (أي قمع) الجمعيات والمنظمات غير الحكومية والمدنية، وإلغاء معظم الصحافة المستقلة. ولا عجب في تولي الرجل الموازنة على هذا النحو. فبينما يحسب الآخرون، وفي المرتبة الأولى أنغيلا ميركل وباراك أوباما ويليهما في المرتبة بعض وزراء الخارجية الأطلسيين، أن المسائل الاستراتيجية والتاريخية الكبيرة تعالَج من طريق تشبيه بوتين بالتلميذ المشاغب والجالس في المقعد الخلفي من الصف (أوباما) أو بلومه على عبوسه وحرده (ميركل)- ينصرف هو إلى التدقيق في “محل (المسألة) من سلّم المراتب والأولويات”.

“عقل العالم”

فـ”أنا، بوتين”، أي رواية الحوادث من “وجهة نظر بوتين الموضوعية” (ص20)- على ما يكتب هوبرت سايبيل غافلاً عن الفرق المحتمل بين وجهة نظر شخص فرد، وبين استخلاص الموضوعية وإيجابها من المقارنة الواسعة بين جملة الفاعلين- تصبح في الكتاب على قدر صحتها في “الصورة” التلفزيونية والوثائقية الذاتية. وإذا جاز لبوتين الكلام على سيرته الخاصة والفردية بلسان المتكلم وضميره، لا ينبغي أن يحول حائل أو مانع بينه وبين الكلام المستفيض والجازم والصادق في قضايا “عصرنا” و”سماته”، على ما كانت تفعل توصيات المؤتمرات السوفياتية وندواتها العالمية و”كونفرانساتها”.

فالرئيس الروسي الاتحادي، في مرآة نفسه ومرآة محادثه، هو على شاكلة الإمبراطور الفرنسي، نابليون الأول، في اليوم التالي لمعركة يينا (1806)، ماراً تحت نافذة الفيلسوف الألماني ج.ف.ف. هيغيل، بوصفه “عقل العالم على حصان” أو هو، على أضعف تقدير، عقل روسيا، “عموم الروسيا”. و”ما كان للرئيس الروسي أن يضطلع طوال 15 عاماً بأعلى المناصب السياسية لو ماشت قراراته أهواءه وميوله الشخصية، بمنأى من التاريخ الروسي، ومن المنازعات الداخلية والمواجهات الشاملة” (ص19).

ومن بديع الاتفاقات أن مراحل حياة بوتين، من طفولته في سان بترسبيرغ، وخدمته في شرق ألمانيا، وعودته إلى مدينته، توازي موازاةً تامة انقطاعات تاريخ وطنه وأمّته (المصدر نفسه). ويُختصر الرجل في إرادته بعث “أمته”، وتجديد ثقتها في مكانتها وقيمتها، ودورها الفريد في عالم يدير ظهره لعظمتها، ويتلهّى بقشور تافهة مثل الحقوق الإنسانية عموماً وحقوق المثليين والمثليات.

ويصوغ الرئيس في صيغ كثيرة، ويكرر صداه الإعلامي صياغاته، مقالته الذائعة في أن انهيار الاتحاد السوفياتي هو “أعظم مأساة جيوسياسية أو استراتيجية في القرن العشرين”. وينفي، في الآن نفسه، إرادته إحياء الاتحاد السوفياتي. ويذهب، ساخراً، إلى أن مَن يراوده مثل هذا العلم “مجنون” أو لا عقل له، ولكن مَن لا يأسى للكارثة “لا قلب له”. والاستدراك المزدوج، وجنون الحالم و”لا قلب” المتشفّي، أو غير المبالي، يضمر طعناً قاسياً وثأرياً على مَن حملوا انهيار الاتحاد السوفياتي على فرصة أممهم ودولهم التاريخية في التحرر من “سجن الشعوب” الذي كانه اتحاد الجمهوريات الاشتراكية والسوفياتية (“أربع كذبات في أربع كلمات”، على قول أحدهم). وهي حال دول المعسكر الاشتراكي السابق ومعظم شعوبها.

إرث الانهيار

ويدعو الإقلاع، طوعاً أو كرهاً، عن إحياء الاتحاد السوفياتي إلى تدبّر تعليل مقبول لانهياره، وللنهج السياسي الذي ينتهجه اليوم الرئيس الروسي “الأبدي”. ويمر المتحاوران على “نهاية الشيوعية” من غير إلحاح. فهي ثمرة “إفلاس” أو قصور ضخم. وتتحمّل النخبة السوفياتية الحاكمة التبعة عن الإفلاس أولاً، وعن غفلتها عنه، وعدم توقّعها إياه، ثانياً. وعلى رأس هذه النخبة آخر أمين عام للحزب الشيوعي وآخر رئيس الاتحاد، ميخائيل غورباتشيف.

والأمر الذي يستحوذ على اهتمام فلاديمير بوتين ليس تعليل الانهيار، على رغم شغفه بالتاريخ، و”تاريخيته” الشخصية الروسية والعميقة، بل ما خلّفه الانهيار. وهو لا يشك في أن ثورة الشيشان على موسكو في أوائل عهد بوتين رئيساً للوزراء وخلافته بوريس يلتسين، وغرق الغواصة “كورسك” في مياه بحر بارينتس القطبية وفيها 171 بحاراً، وتقاسم الأوليغارشية الرأسمالية المحدثة مرافق الدولة والاقتتال عليها، وتهريب عوائدها إلى الأسواق والمنتجعات الأوروبية- هي أعراض الضعف المميت الذي دبّ في أوصال الإمبراطورية العظيمة.

وهو لا يعزو هذه الأعراض إلى “الغرب”، مباشرة وعمداً. ويلاحظ، قلِقاً و”موضوعياً”، أن منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية، والسياسيين الغربيين من ورائها، تتناسى “جنون” الإسلاميين الشيشان و”إرهابهم” (قبل 11 أيلول/ سبتمبر 2001، يقول منبّهاً ومدلاً بسبقه) وطردهم 200 ألف روسي مقيمين بينهم، وتتحفظ عن أساليب حرب القوات الروسية، وانتهاكات الكي جي بي “الذي لم يفهم معنى قيم الحضارة والسيادة خارج النظام السوفياتي السابق” (ص159)، أي في دول الغرب ومجتمعاته الهاجسة، على ما يرى الرئيس والإعلامي، بالمثلية والطعام الصحي والمحافظة على البيئة.

“الغرب لا يفهم”

وليس مصدر حملة الرئيس المزمن على الغرب، وعلى “أدواته” الصريحة والمواربة، كراهية أصيلة أو ضغينة قاصرة. فثمرة اختباراته ومشاهداته، المطابقة انعطافات التاريخ الروسي على ما تقدّم القول، هي أن روسيا، الشعب والأمة والحضارة، ودولتها، أمر أو شيء واحد. ولا تعقل روسيا من غير نهضة دولتها القوية. وتقييد إنهاض الدولة المتصدّعة والمتداعية بشروط قانونية أو إنسانية أو سياسية أو أخلاقية، على ما يفعل الغرب، عدوان صريح على روسيا و”روحها” وقيمها وطريقها الخاص أو عبقريتها.

وتتكرر جملة “هذا ما لا يفهمه الغرب” في الأمور والحوادث التي تتعلق، من قريب أو بعيد، بإعمال القوة في المجالات كلها، ويعود معظمها إلى تاريخ سابق، قريب أو بعيد. فلما أمر بوتين، غداة انفجارات دمّرت مباني سكنية بموسكو، في أيلول/ سبتمبر 1999- ونسبها رئيس الوزراء الجديد إلى الشيشان، وشن الحرب الروسية الثانية رداً عليها- لاحظ مراقبون روس وأجانب أن دستور 1992 الروسي لا يخوّل رئيس الوزراء تحريك الجيش، وينيط ذلك برئيس الجمهورية، وهذا ما لم يكنه الرجل بعد. فعلّق مثلث الرئاسات، “هو يحتسي فنجان قهوة” (ص158)، أن الغرب لم يفهم مبادرته إلى الحرب، على رغم القيد الدستوري، إلا بعد تعرُّض نيويورك وواشنطن لإرهاب الإسلاميين الجهاديين.

وفي شأن الشيشان، كما في شؤون جورجيا وأوكرانيا وسوريا، لا يفهم “داعية” الديموقراطية والحقوق الإنسانية والمحكمة الجنائية الدولية، الغربي، أن سجل القوم منذ القدم (“التاريخ”) يدعو إلى الشك: فسبق لستالين أن “اضطر” إلى ترحيل نصف مليون شيشاني عقاباً (اضطرارياً)، على تعاونهم والجيش الألماني الغازي. والخلاف بين جورجيا وبين أوسيتيا الجنوبية، وهو “السبب” المعلن في “تدخّل روسيا وحربها على الدولة القوقازية القريبة وعلى رئيسها ‘الأميركي’، قديم” (ص211). وعلى مثال الشيشان، وميلهم إلى العمالة والخيانة، ينوء الأوكرانيون بأوزار عمالة وخيانة و”نازية” ثابتة في أثناء “الحرب الوطنية الكبرى”. ولا يفهم الغرب أن على أوكرانيا تسديد حسابها عن انحرافها ووصمتها الأبديّين.

تقويض الدولة

واستنهاض روسيا، أو عموم “العالم الروسي”، على قول بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الموسكوبية ورأسها، كيرللس- وهي غير كنيسة إسطنبول، وغير الكنيسة اليونانية- لا يستقيم من غير جمع “أراضيها” أو “أوطانها”، على معنى صوفيّ وإمبراطوري بيزنطي، تحت راية موسكو، أو “روما الثالثة”، بحسب مزاعم رأسي الدولة والكنيسة، الخلاصية والأخروية. والأراضي المجموعة، والمقدّسة، لا تشترط رضا الأهالي أو السكان، ولا تشترط بالأحرى رأي المواطنين، واستفتاءهم على هويتهم ووطنهم وأمتهم، على خلاف المذهب الغربي.

والدعوات إلى استفتاء من هذا الصنف، وفي مثل هذه المسائل “الجبرية”، على وصف الكلام الإسلامي، بذريعة الديموقراطية والمجتمع المدني والحقوق الإنسانية والسياسية والمدنية، لا غرض لها إلا تقويض الدولة، وإضعافها، وتركها فريسة سائغةً للسياسة الأطلسية. والغرب عامل انحطاط وأفول، على ما ترى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، على لسان الكاهن تيخون- معرِّف فلاديمير بوتين ومناوله (الاعتراف والمناولة هما، إلى القداس، الشعيرتان المسيحيتان المقدمتان) في مصلّاه أو كنيسته المنزلية)-، مندوب الكنيسة إلى محاورات الكتاب (ص 85- 93).

ولا يفهم الرئيس بوتين، ومعه الصحافي الذي يحاوره ويذيع أقواله، تحفّظ الغرب عن حكم القانون الروسي، منذ 2012، بالعمالة في جمعيات تقرّ هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية، بتمويلها، ولا يتستّر جورج سوروس على رصد مؤسسته عشرات ملايين الدولارات لمساعدتها. فجمعية غولوس الروسية، وهي من هذا الصنف، تزعم لنفسها الحق في مراقبة نزاهة الانتخابات الروسية، وتحاسب الحكومة والرئاسة على إنفاقهما الانتخابي. وأدت المراقبة والمحاسبة إلى خروج عشرات آلاف المتظاهرين، في عشرات المدن الروسية، إلى الطرقات العامة، احتجاجاً على نتائج انتخابات 2012 الرئاسية. ولولا نشاط غولوس، و”مئات الجمعيات مثلها”، في رعاية الولايات المتحدة الأميركية (ص99)، لما تظاهر المتظاهرون.

وهذا المنطق في التعليل لا يرى موجباً لواقعةٍ اجتماعية وسياسية تاريخية، تتناول مصائر بلدان وشعوب، إلا من طريق عوامل أجنبية أمنية، أو دعوات إعلامية و”تدريبية” إلى تبنّي أنموذج ثقافي وسياسي يفترض دخيلاً على المجتمعات، ويقتصر أنصاره على بعض مَن درسوا في جامعات “أطلسية”، وأقاموا أعواماً طويلة في المهاجر. فالمجتمعات، وجماعاتها الجزئية وظروفها، ليست سبباً. ولا يجوز التعليل بها، في حسبان “السياديين” الروس وغيرهم، بالغاً ما بلغ عرض الحركة واتساعها وشمولها فئات مختلفة، وما بلغت معقولية المطاليب المرفوعة ومشروعيتها و”عفويتها”.

والحوادث التي يستعرضها الرئيس وصحافيُّه (وسبق الإلماح إليها) كلها قضايا دولة. ويُرجع في بتّها إلى علل الدولة، وتحاذي الحرب على الدوام لأنها تدور على الأمن الوطني أو “القومي”، وتلابس وجود الدولة- الشعب وبقاءها (بوتين في 23/2/2022، عشية العدوان على أوكرانيا: “أي طعم يبقى للعالم إذا خلا من روسيا”، وليس في صيغة سؤال). والشاهد الكبير على الأمر هو الحرب العالمية “الثالثة”. ويحرص المتحاوران على ألاّ يُتناول الموضوع إلا بواسطة شاهد غربي، ألماني هو هيلموت شميدت المستشار الأسبق، أو جون كينيدي، الرئيس الأميركي.

فيحتج الرئيس الروسي لرفضه توسُّع “الأطلسي”، وضمّه أوكرانيا، بشاهد من رسالة كينيدي إلى نيكيتا خروتشيف في تشرين الثاني/ نوفمبر 1962. فيومها كتب الرئيس الأميركي: “الأسلحة النووية بالغة التدمير، والصواريخ الباليستية بالغة السرعة، وأي تنقيلٍ في مواضع نصبها قد يُحمل على تهديد متعمّدٍ ودقيقٍ للسلم”، ويعلّق الصحافي قائلاً بلسان محادثه: الحال انقلبت، وروسيا اليوم هي هدف الصواريخ الأميركية (ص 290).

والمقارنة تهويل خالص. فالإحدى عشرة دولة التي انضمّت إلى الأطلسي، في 1999- 2008، وهي سعت في الانضمام خوفاً من إمبريالية روسيا البوتينية، لم ينشر الحلف فيها سلاحاً نووياً. واقتصر نشره على ألمانيا، على ما هي الحال منذ العقد السادس. وفي الأثناء تقلّص عدد الجنود الأميركيين المرابطين في إطار الحلف من 305 آلاف، إلى 64 ألفاً في 2020. وثمة اتفاق مكتوب على نظام المناورات وعدد مَن يشارك فيها، والمسافة التي تفصل مسرحها عن الحدود، وأنظمة السلاح…

رصيف 22

———————

إيران وروسيا والغاز: سوريا مسرحاً للمواجهة والتعطيل/ هشام حاج محمد

تترقب أسواق النفط والغاز العالمية نتائج المفاوضات حول الملف النووي الإيراني في فيينا، في الوقت الذي تتواصل فيه تأثيرات الغزو الروسي لأوكرانيا على هذه الأسواق، وتأثيرات ما تبعه من عقوبات على روسيا، وهي صاحبة ثاني أكبر إنتاج نفطي وأكبر احتياطيات مؤكدة من الغاز في العالم، ومصدر أكثر من 50% من الغاز الذي تستهلكه أوروبا. من شأن انفراجة في المفاوضات النووية أن تعيد إيران إلى موقعها في سوق تصدير النفط والغاز، وتساهمَ بالتالي في خفض أسعار الطاقة بعد الارتفاع الذي سببته انعكاسات الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية.

المفاوضات النووية وغزو أوكرانيا

استُؤنفت الجولة الثامنة من مفاوضات فيينا النووية في 8 شباط (فبراير) 2022، ثم عادت لتتوقف في 11 آذار (مارس) بعد نحو أسبوعين من بدء الغزو الروسي لأوكرانيا. وقد واجهت إيران معضلة في تلك الجولة من المفاوضات النووية لأن روسيا، حليفتها المقربة، في حالة حرب مع أوكرانيا، وتتعرض لعقوبات دولية، ما يؤثر على دورها الذي تلعبه في المفاوضات من دعم لإيران وتقريب لوجهات النظر بينها وبين الدول الغربية. توقفت الجولة الأخيرة دون سبب واضح، لكن كبار المفاوضين، من فرنسا وألمانيا وبريطانيا، أشاروا إلى أن العقبة الأساسية هي مطالبة روسيا بألّا تَخضع تجارتُها مع إيران للعقوبات الجديدة المفروضة عليها بسبب غزوها لأوكرانيا. تصريحات المفاوضين الدوليين لها ما يدعمها إيرانياً، إذ قال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بعد اتصال هاتفي مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في اجتماع مع برلمانيين إيرانيين: «نريد إبرام اتفاق جيد، ولن نسمح لأي عامل خارجي بالتأثير على المصالح الوطنية الإيرانية في محادثات فيينا»، مضيفاً أن إيران تسعى للحصول على توضيحات من الجانب الروسي بشأن مطالبها.

في غضون ذلك، حذرت القوى الغربية موسكو من إفساد الاتفاق شبه المكتمل لإعادة الولايات المتحدة وإيران إلى الامتثال للاتفاق النووي. من جهتها، سارعت روسيا على لسان ميخائيل أوليانوف، رئيس الوفد الروسي في المحادثات النووية الإيرانية، للتأكيد على أن العملية العسكرية التي تشنها بلاده على أوكرانيا لن تؤثر على الحوار حول الاتفاق النووي، كما قال إن مشاكل محادثات فيينا لا تتقاطع بأي شكل من الأشكال مع قضية دونباس. 

من المحتمل أن تكون روسيا هي السبب الرئيسي للتأخير، وأن يكون المسؤولون الإيرانيون غير مستعدين لإلقاء اللوم عليها علناً. وفي الحقيقة، كانت روسيا من الدول التي استفادت خلال سنوات المفاوضات النووية من العقوبات على إيران، لأنها فتحت أسواقاً إضافية للنفط والغاز الروسي. لكن على أي حال، فإنه ليس من المرجح أن تمنع المطالب الروسية التوصل إلى اتفاق، رغم أنها قد تناور فقط على خطة العمل الشاملة المشتركة لبعض الوقت، وتؤخر التوصل إلى اتفاق نهائي. كما أن إيران لم تُخفِ عبر إعلامها الرسمي استعدادها لسد الفراغ الروسي، حيث توقعت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (إرنا) أن تكون حرب العقوبات المكثفة بين روسيا والدول الأوروبية فرصة لإيران لتصبح مصدر طاقة جديداً لأوروبا، وأن يكون لها الآن اليد العليا في المفاوضات الدولية حول برنامجها النووي.

إمكانيات ومكاسب إيران

لا يعيق قيام إيران بسدّ الفراغ الروسي في سوق الطاقة بعد رفع العقوبات عنها سوى وجود علاقات سياسية وثيقة مع موسكو، ويبقى احتمالاً وارداً أن تنحاز إيران لمصالحها بعيداً عن روسيا، إذ لطالما كانت علاقتهما عبارة عن تحالف مصالح ظرفية. لقد تعاون الجانبان في سوريا، لكن خلال عقد من المفاوضات النووية دعمت روسيا العقوبات الغربية على إيران، ودعمت قرارات مجلس الأمن المختلفة التي تسعى إلى منع إيران من تطوير أسلحة نووية. أخبر المسؤولون الروس نظراءهم الإيرانيين بشكل روتيني أنه لا ينبغي لهم الاعتماد على حق النقض الروسي في مجلس الأمن، وأن عليهم أن يتصالحوا مع الدول التي تقود المفاوضات.

لا شك أن إيران تفهم عواقب التقلبات الاقتصادية في سوق الطاقة العالمي على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا. لقد صرَّحت طهران علانية بدعمها لروسيا، مُحمِّلة مسؤولية الحرب لأعمال الناتو الاستفزازية، إذ قال المرشد الأعلى علي خامنئي: «من خلال التدخل في شؤون أوكرانيا، وإحداث ثورات ملونة، وإسقاط حكومة ووضع أخرى في السلطة، جلبت الولايات المتحدة الحرب إلى أوكرانيا»، لكن القيادة الإيرانية لا يمكن رغم ذلك إلّا أن تنظر في احتمالات الاستفادة من سدّ الفراغ الذي سوف يُحدِثه تقليص صادرات روسيا من النفط والغاز، وذلك لتعزيز اقتصادها الذي تعرَّضَ للسحق على مر سنين العقوبات الدولية وحظر تصدير النفط، ما أدى إلى انخفاض صادراتها من حوالي 2.8 مليون برميل يومياً في 2018 إلى 700000 برميل يومياً.

تلفت أزمة الطاقة الانتباه إلى حقيقة أن إيران لديها ما يصل إلى 80 مليون برميل من النفط المُنتَج، وجزءٌ منه مُخزَّن في ناقلات بحرية وجاهز للبيع في أقرب وقت ممكن، كما يمكن لإيران زيادة إنتاجها المحلي بمقدار 1.2 مليون برميل نفط يومياً، ما يسد حاجة السوق. كذلك، تحتل إيران المرتبة الثانية بعد روسيا في قائمة حجم الاحتياطيات المؤكدة من الغاز الطبيعي. لا يفيد هذا اقتصادَ إيران الذي يعاني من العقوبات فحسب، بل يفيد أيضاً إدارة بايدن، التي تكافح من أجل خفض أسعار النفط وجعل وقود السيارات أرخص.

العامل الرئيسي المتحكم في عودة إيران إلى سوق الطاقة مرهون برفع العقوبات عنها، ولو بشكل جزئي. لكن ثمة عوامل أخرى، منها ما هو تسويقي، فهي لن تستطيع استعادة مكانتها في السوق على الفور في حال رُفعت العقوبات عنها، لأن عملائها الرئيسيين في آسيا (كوريا الجنوبية واليابان والهند على سبيل المثال) تحولوا إلى الاستيراد من بلدان أخرى. قبل ستة أعوام، عندما تم التوصل إلى الاتفاق النووي، استغرقت إيران بضعة أشهر لزيادة حجم صادراتها إلى المستوى القديم. ولا يبقى أمامها لتسريع عودتها إلّا البيع في أسواق تريد التخلي عن النفط والغاز الروسي، بكل ما يحمله هذا البيع من مخاطر سياسية في العلاقة مع الحليفة روسيا.

يرتبط رفع العقوبات نفسه بالمفاوضات حول الملف النووي، التي استؤنفت في فيينا قبل الغزو الروسي لأوكرانيا بأيام، وأخذت دفعة قوية من الأمل بجدية التوصل إلى نتيجة مُرضية، بعد إبداء رغبة من الولايات المتحدة وباقي الدول التي تدير المفاوضات في التوصل إلى اتفاق يوقف استمرار إيران في زيادة معدل تخصيب اليورانيوم. لن تقبل الولايات المتحدة برفع عقوباتها عن إيران، والسماح لها بتحصيل مكاسب من صادراتها النفطية في ظل الأزمة العالمية الراهنة، بدون مقابل تنتزعه من برنامج إيران النووي تحديداً.

الوقت مسألة مهمة وعامل ضغط على إيران، إذ أن سوق الطاقة، المتضرر بالعقوبات على روسيا، لن ينتظر إيران أكثر من الوقت اللازم للمنتجين للتكيّف مع الوضع الجديد وسدّ الفراغ الروسي دون الحاجة لإيران.

روسيا وإيران في سوريا: شرخ ممكن في المصالح

تتضارب المصالح الروسية الإيرانية في سوق الطاقة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، بين مستفيد مُحتمَل إيراني ومتضرر روسي، ويُحتمل أن يرمي هذا التضارب في المصالح بتأثيره على سوريا، بحكم أن كلا البلدين يشكلان تحالف قوى احتلال للبلد، والأهم أن الأراضي السورية تمتلك إمكانية أن تكون ممراً لمشاريع تُغني أوروبا عن الغاز الروسي وتُغني تركيا عن الغاز الإيراني.

يمكن أن تقع روسيا وإيران في خلاف عميق في سوريا إذا اشتُرط على إيران، من أجل عودتها إلى سوق الطاقة، أن تستخدم نفوذها في سوريا ولبنان من أجل دفع كل من حزب الله والنظام السوري للموافقة على مرور خط الغاز بين إسرائيل وتركيا، وهو الأمر الذي تستطيع روسيا تعطيله بحكم تموضعها عسكرياً في سوريا، بالإضافة الى نفوذها الكبير على النظام السوري بعد أن دعمته عسكرياً بشكل حاسم وسلبته قدراً مهما من قراره السياسي بالمقابل، الأمر الذي مكّنها مثلاً من السيطرة على حقوق التنقيب عن الغاز في المياه الإقليمية السورية.

حاجات أوروبا من مستنقع جيوسياسي

يدفع الغزو الروسي لأوكرانيا أوروبا لأن تكون أكثر تصميماً على إيجاد بدائل لإمداداتها من الطاقة، وهذا الأمر ليس جديداً، حيث أن الدول الأوروبية تسعى منذ سنوات إلى تنويع مصادر الطاقة التي تستهلكها، ولكن دون جدوى حقيقية. فمشاريع الطاقة النظيفة لا تكفي بحكم المناخ الأوروبي، واستمرارُ العمل بالمفاعلات النووية يواجه احتجاجات من المنظمات البيئية الفاعلة، ما حقَّقَ استجابة كبيرة في بلدان مثل ألمانيا التي أوقفت العمل بشكل كامل في أغلب مفاعلاتها النووية، فيما تتعثّر مشاريع نقل الطاقة من الجوار الأوروبي (حقول البحر المتوسط) بسبب ارتفاع كلفة الخطوط الممكنة مثل خط إيست ميد، بالإضافة إلى الوضع الجيوسياسي المعقد في دول شرق المتوسط صاحبة المصدر الأكبر للغاز في المتوسط.

كنتُ قد تناولتُ في مقال سابق الاحتمالات الممكنة لمشاريع نقل الطاقة التي تمر عبر الأراضي السورية. وتسعى كل من تركيا وإسرائيل لتفعيل واحد من هذه المشاريع، إذ يعمل الطرفان على وضع نهاية لعقد من المآزق الدبلوماسية، عادةً بشأن القضايا الإسرائيلية الفلسطينية. ويقوم المشروع على نقل الغاز عبر خط بحري من حقول الغاز الإسرائيلية والمصرية إلى تركيا لتقوم بتغطية احتياجاتها المحلية، وكذلك التصدير للأسواق الأوروبية القريبة التي تتطلع إلى التنويع بعيداً عن روسيا. وسيمتد خط الأنابيب من 500 إلى 550 كيلومتراً، وبتكلفة تصل إلى 2 مليار دولار، ما يجعله أكثر قابلية للتنفيذ من الفكرة المقترحة لخط الأنابيب إيست ميد، الذي تبلغ تكلفته 6 مليارات دولار، والذي يربط إسرائيل بقبرص واليونان وإيطاليا.

سيكون خط الأنابيب هذا ذو فائدة كبيرة لإسرائيل وتركيا (تستهلك تركيا حوالي 50 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً، ومعظم هذه الكمية مستوردٌ عبر أنابيب من روسيا وإيران وأذربيجان). وسيكون ذا فائدة لأوروبا بشكل خاص، لأنه يعني إمدادات غاز بديلة لموازنة الهيمنة الروسية على السوق. بالنسبة للشركاء في حقل ليفاثان الإسرائيلي، سيكون نقل الغاز عبر الأنابيب إلى تركيا مربحاً أكثر بكثير من الخيارات الأخرى، لا سيما خيار التصدير إلى الصين والإسالة في المنشآت المصرية.

تجري مناقشة خط أنابيب غاز بين تركيا وإسرائيل خلف الكواليس كواحد من بدائل أوروبا لإمدادات الطاقة الروسية، لكن الأمر يحتاج مناورة جيوسياسية معقدة للتوصل إلى أي اتفاق قابل للتطبيق.

يمتلك مسار خط الغاز هذا احتمالين اثنين؛ إما أن يمر في المياه القبرصية أو السورية، ولدى تركيا معوقات تحول دون قدرتها على المضي قُدُماً مع كلا الاحتمالين، فهي ترفض استيراد النفط من قبرص بسبب الخلافات على حصص الغاز في المناطق الاقتصادية الخالصة بينهما نتيجة أزمة قبرص التركية، والمشكلة الأخرى هي أن تركيا لا تمتلك علاقات سياسية مع سوريا تؤهلها للتفاهم على السماح بمرور خط الغاز من المنطقة الاقتصادية الخالصة لسوريا في المتوسط . وحتى لو أرادت تركيا إصلاح علاقتها السياسية مع النظام، كما يُشاع مؤخراً، تبقى العقبة نفسها موجودة نتيجة عدم قدرة النظام على الاتفاق مع تركيا بمعزل عن روسيا.

تمرير الغاز إلى تركيا يمتلك فرصة أخرى، براً، داخل الأراضي السورية، وهي استكمال خط الغاز العربي إلى تركيا ليُنقل عبره الغاز المصري والإسرائيلي الذي يرفد خط الغاز العربي عند محطة الخناصري في الأردن. قد تكون روسيا أقل قدرة على التأثير على مشروع استكمال خط الغاز العربي إلى تركيا نظراً إلى أن معظم الأراضي التي يمر عبرها الخط في سوريا تخضع لنفوذ ميليشيات إيران.

الجدير بالذكر أن كل احتمالات نقل الغاز الى تركيا محفوفة بالمخاطر ومحملة بأسباب الفشل، يدلّ على ذلك ما حدث مؤخراً، حين نقلت رويترز عن مسؤولين عراقيين وأتراك أن خطة مشروع لجلب الغاز، بمساعدة إسرائيل، من إقليم كردستان العراق إلى تركيا وأوروبا، هي ما تسبب في هجوم صاروخي إيراني على أربيل. ويُرجَّح أيضاً أن تكون هذه الخطة سبباً للعملية العسكرية الضخمة التي أطلقتها تركيا مؤخراً شمال العراق، إذ ربما يكون أحد أهدافها ضمان مسار آمن للمشروع المُفترض.

يمكن أن تسمح روسيا وإيران بمرور مشاريع الطاقة من سوريا في حال كانتا بشكل ما شريكتين فيها، لا أن يكون الهدف من هذه المشاريع الاستغناء عن إحداهما. وهذا يعني أن تنفيذ أي مشروع إقليمي لنقل الغاز عبر سوريا محكومٌ عليه بالفشل إذا لم يمرّ عبر التفاهم مع إيران وروسيا، وهو الفشل الذي يزيد من شلل النظام السوري سياسياً واقتصادياً، ويحدّ بالتالي من قدرته على لعب أدوار مهمة تساعده على إعادة تأهيل نفسه للعودة إلى المجتمع الدولي نظاماً شرعياً معترفاً به.

موقع الجمهورية

—————————–

====================

تحديث 03 أيار 2022

——————–

هل ينهي الغزو الروسي لأوكرانيا الجمود في الملف السوري؟/ د. باسل معراوي

لا ينكر أحد أن روسيا لاعب دولي مهم، خاصة انها أرادت تأكيد هذا الدور بتدخلها العسكري في سورية، الذي كان فاتحة تدخلاتها بالجوار الجغرافي البعيد عنها، بشكل يدعنا أن نطلق عليها المجال الحيوي أو الجيوسياسي.

بعد تموضعها في سورية وإشرافها على سواحل شرق المتوسط، كانت تملك كقوة عظمى متدخلة بصراع إقليمي تملك فائض قوة عسكري وسياسي ودبلوماسي لتمارس دوراً أساسياً بصياغة وضبط المشهد السوري.

– تملك روسيا محور أستانة مع تركيا وإيران.

– تملك تحالفاً صلباً مع إيران والنظام السوري.

– تملك محوراً دولياً مع إيران والصين يلقي بظلاله على الملف السوري.

– تملك تفاهمات عميقة مع إسرائيل بحيث كانت ضابط الإيقاع في الحرب الرمادية بين البلدين في سورية.

– تملك علاقات جيدة مع محور الاعتدال العربي (إن جازت التسمية) مصر، الخليج، الأردن

وقد حظي التدخل العسكري الروسي في سورية بمباركة ورضى دوليين (ضمناً أو علناً)، بحيث كل طرف رضي او دعم او غض الطرف عن الجرائم الروسية التي ارتكبت بحق الشعب السوري.

أطراف رأت فيه منع انهيار قريب ودراماتيكي للنظام السوري وحلفائه، وتحول دمشق إلى كابول سورية جديدة (ودمشق على مرمى النظر من الحدود مع إسرائيل).

ومنهم من رأى أن التدخل الروسي سيكون بمثابة طي صفحة الربيع العربي بعد تأديب الشعوب الطامحة لتغيير الحالة الكارثية التي ألمت بالشعب السوري.

ومنهم من رأى أن الوجود العسكري الروسي المباشر في سورية سيحول دون وقوع البلاد تحت سطوة النفوذ الإيراني وحيداً.

بعضهم رآه الحيلولة دون طموح تركي عثماني جنوباً يقوي الموقف التركي المتماهي مع ثورات الربيع العربي التي وصل بعض من تدعمهم أنقرة إلى السلطة.

انطلق التمدد الروسي إلى أفريقيا الشمالية عبر البوابة الليبية ووصل إلى عدة دول أفريقية كانت تاريخياً خاضعة للنفوذ الفرنسي وأسهم بنجاح انقلابات عسكرية، وبدا منافساً دولياً مهماً وطامحاً في القارة الأفريقية إلى جانب الصين والولايات المتحدة.

كانت روسيا متدخلاً فاعلاً من بدايات الثورة السورية، فقد كانت أحد صناع بيان جنيف 1 والقرار2118، بعد تسليم السلاح الكيماوي للنظام السوري وكانت أحد صانعي القرار الدولي الشهير 2254 الذي يعتبر المرجعية الدولية للحل في سورية.

وكانت المنتجات الروسية (اللجنة الدستورية) تم قبولها دولياً، إلى جانب صناعتها بمسار أستانة وتعطيلها الدائم لمسار جنيف، بل وصل بها الأمر لزرع منصة موالية لها في مؤسسات المعارضة الرسمية السورية أسمتها باسم عاصمتها، إلى جانب كونها الراعي الأول للنظام.

كان الأخطبوط الروسي ناشراً أذرعه بكل مفاصل المسألة السورية ويعتبر لاعباً رئيسياً في تعطيل أي جهد لا يصب في مقاربته للحالة السورية وبالمناسبة هذه المقاربة معلنة ووقحة بكل تفاصيلها.

ماذا يعني تآكل أو غياب الدور الروسي في سورية؟

نظراً لقوة وتشعب هذا الدور فلابد لتراجعه أو غيابه أن يترك آثار واضحة في المشهد السوري كله.

من المسلم به كما أعتقد أنه لم تعد هناك أية فرصة لتفاهم أو تنسيق بين الولايات المتحدة خصوصاً والغرب السياسي عموماً بعد أن آلت العلاقة بينهما إلى ما آلت إليه بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.

ولا أظن أنه حتى على المستوى الإنساني أن يتم أي تنسيق، وهو ما سنراه قريباً عند انتهاء مدة سريان القرار الأممي 2285 القاضي بمرور المساعدات الأممية عبر معبر باب الهوى في تموز القادم.

ويحق لنا التنبؤ بضعف تدريجي سيتسارع حتماً للموقف الروسي في سورية (عسكرياً وسياسياً) وخسارة النظام وحليفه الإيراني لأساس محور الشر الغارق حتى أذنيه بالوحول الأوكرانية والتي بدت سريعة باستجدائه للمرتزقة السوريين وتقليص تواجده وسحب كثير من القوات، بل وسحب جزار سورية من حميميم مع نخبة معاونيه وتسليمهم لملف الغزو لأوكرانيا.

أيضا طرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة مؤخراً وتنامي المطالبات بإعادة وراثة روسيا للاتحاد السوفييتي البائد بمقعده الدائم في مجلس الأمن مع مناقشة تقييد أو تبرير استعمال حق الفيتو، كل ذلك سيؤدي بالنهاية إلى طرد أو تجميد عضوية روسيا بالأمم المتحدة وسائر المنظمات والمعاهدات المرتبطة بالنظام الدولي القائم، (ولا تخفي تصريحات عدة من مسؤولين غربيبن ذلك، بل وصل الأمر إلى طلب محاكمات أمام محاكم تنظر بقضايا جرائم حرب وإبادة جماعية للرئيس الروسي ومعاونيه).

ما أود قوله، انتهاء أي دور سياسي دولي لروسيا، في المدى المنظور، وإزاء الاستنزاف الكامل للموارد العسكرية والاقتصادية الروسية في الجبهة الأوكرانية، لن يكون مفاجئاً لأحد بعد تخفيف الانخراط الروسي بالملف السوري اتخاذ بوتين لأحد قراراته الحمقاء بالانسحاب المفاجئ من سورية.

المشهد السوري في غياب (كامل أو جزئي) للحضور الروسي

1- لا شك أن دول الإقليم الفاعلة والمتدخلة بالملف السوري كانت على علاقة (مصلحة حميمية) مع روسيا في سورية (كل لأهدافه)، وقد ظهر ذلك للعلن وقد يكون فاجأ أيضاً الولايات المتحدة أيضاً، إذ كان موقفها من العدوان الروسي أقل كثيراً مما تتوقعه الإدارة الأمريكية من حلفاء تقليديين ولكن مع استمرار أمد الحرب ووضوح الوهن الروسي، ستبتعد كل تلك الدول عن روسيا بالتدريج (وقد بدا ذلك بالفعل بعد دخول الحرب شهرها الثالث)، ويجمعها أيضاً (وقد يكون عنواناً لتقاربها) الخشية من أخطار التمدد الإيراني في المنطقة عموماً وفي سورية خصوصاً.

لذلك ليس مستبعداً حدوث تقاطعات مهمة في سياساتها تجاه الملف السوري، بحيث لا نرى تصارعاً بينها يستفيد منه النظام السوري و(أو) إيران، وأظن أن محاولة انتزاع النظام السوري من الحضن الإيراني أصبحت من الماضي.

2- نظراً لحجم المفاجأة بالتورط الروسي في أوكرانيا، لم تكن لدى الولايات المتحدة أي خطط أو سياسية مبنية على مثل هذا الاحتمال، وجل سياساتها مبنية على التعاون مع الروس بكل جزئية من جزئيات الملف، لذلك لم نر من واشنطن المرتبكة إلا تظاهرات إعلامية وشهر محاسبة وتسليط الأضواء على الإجرام الروسي، ومعه إجرام النظام في سورية أيضاً لاستثمارها دعائياً في حملتها الدولية ضد روسيا وحشد الرأي العام الشعبي في الدول الغربية الذي بدأ يتذمر من آثار الحرب كالتضخم وارتفاعات الأسعار، ولم يكن من رغبات أو خطوات أمريكية جاهزة سوى الجهر بمشروع توحيد قوى المعارضة في الشمالين الشرقي والغربي في جبهة واحدة للبناء على خطة لإضعاف الروس والإيرانيين عبر إضعاف النظام.

3- لا شك أن التقارب التركي – الأمريكي المستجد سيلقي بظلاله على المشهد السوري، ويمكن لواشنطن الاعتماد على أنقرة كشريك رئيسي في الملف السوري ويعوض غياب الشريك الروسي.

ممكن أن نلمس هذا الأمر بتبديد المخاوف التركية من تغلغل حزب العمال الكردستاني في مفاصل ما يسمى قسد والإدارة الذاتية، ومحاولة فك الارتباط الحقيقية بين الـ (PKK) التركي مع حزب الاتحاد الديمقراطي، وهذا الأمر يتطلب ضغوطاً أمريكية قصوى على مسد وقسد ورضى الحكومة التركية عن ذلك.

4- ليس مستبعداً أيضاً القيام بعملية أو عمليات تركية عسكرية شرق الفرات، لتنفيذ تفاهمات أنقرة المبرمة بالأعوام السابقة مع كل من واشنطن وموسكو، حيث ترى أنقرة أن هذا الوقت هو الأنسب لذلك.

5- بسبب قرب موعد الانتخابات التركية ولكون أن ورقة اللاجئين من أهم أوراق المعارضة التركية في انتخابات العام القادم، قد يكون من الممكن قيام أنقرة بفرض تفاهماتها السابقة مع موسكو حول منطقة التصعيد الرابعة، التي كانت حدودها مرسومة بنقاط المراقبة التركية الـ 12 أي عملية عسكرية تركية ستؤدي لعودة مليوني نازح من الشمال السوري ومن داخل الأراضي التركية إلى ديارهم، وممكن تقديم دعم مالي لإعادة استقرارهم ولكن ليس عبر باب إعادة الإعمار بل عبر مساهمات خليجية وأوربية، ودعم أممي عبر برنامج الإنعاش المبكر وغيره من برامج الدعم الإنساني.

6- بانتظار حدوث الهزيمة الروسية الكاملة في الحرب وانكفاء موسكو لداخلها لمحاولة تضميد جراحها، لن يكون هناك أي حل دولي.

لن يكون هناك أي حل دولي كامل للملف السوري لأن ذلك يتطلب إعادة إعمار، ومعالجة قضايا حساسة للاجئين، وهو المشترك مع القضية الأوكرانية، والمانحين الدوليين هم أنفسهم.

لذلك أظن أن الجهد الغربي والدولي سيتوجه إلى إعادة الإعمار في أوكرانيا ومعالجة تبعات اللجوء الأوكراني واستهلاك الجهود فيها، ولن يتم الشروع بمعاجلة نفس الملفات بكلا البلدان اللذان وقعا ضحية للعدوان الروسي، وستكون الأفضلية حتما للملف الأوكراني.

———————–

لوفيغارو: أيّ تداعيات للفشل الروسي في أوكرانيا على الشرق الأوسط؟

تحت عنوان: الفشل الروسي في أوكرانيا.. ما هي التداعيات في الشرق الأوسط؟، حاولت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، في مقال لجورج ماليزيون، الرّد على التساؤلات التالية:

هل يمكن لتقارب وجهات النظر بين إسرائيل والدول العربية تسريع التقارب بينهما؟

رداً على السؤال، تقول الصحيفة إنه لأسباب مختلفة، تجتمع إسرائيل وجيرانها العرب لإظهار الحياد في الحرب الروسية في أوكرانيا، حتى لو كان ذلك يعني استياء حلفائهم الأوروبيين أو الأمريكيين. هذا التقارب في وجهات النظر الاقتصادية لا ينبغي، مع ذلك، أن يسرع التطبيع بين الدولة اليهودية والعالم العربي، الذي بدأ قبل عامين مع اتفاقات أبراهام. قبل كل شيء، تسعى إسرائيل إلى عدم عزل روسيا حتى يترك فلاديمير بوتين لها الحرية في قصف أهداف إيرانية أو موالية لإيران، عدوها اللدود، من سماء سوريا.

أما الدول الخليجية- تضيف الصحيفة- اعتقادًا منهما أن “هذه الحرب لا تخصها”، فإنها تحرص- ولا سيما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة- على إبقاء روسيا كشريك، لا سيما في أسواق الطاقة، وجعل الولايات المتحدة تدفع ثمن فك ارتباطها بالشرق الأوسط.

“في عالم متعدد الأقطاب حيث ارتقت هذه الدول إلى مرتبة القوة المتوسطة، أقامت روابط متنوعة مع العديد من الشركاء، وبالتالي ساهمت في تمكينها”، كما تحلل إيما سوبير، الباحثة في جامعة جورج واشنطن.  وتتابع قائلة: “إنهم لا يقدرون الأوامر الزجرية باختيار الجانب الصحيح وفقًا لوجهات النظر الأمريكية لحرب باردة جديدة والتي لا تتماشى مع واقع العلاقات الدولية المعاصرة”.

وحرصاً منها على استعادة السيطرة، جمعت الولايات المتحدة في صحراء النقب رؤساء دبلوماسية المحور العربي الموالي لإسرائيل، لكن فكرة إنشاء “الناتو العربي” ما تزال بعيدة المنال. ووفقًا لعدة مصادر، كانت إسرائيل هي التي زودت أبو ظبي بالمعلومات الاستخباراتية لضرب أهداف في اليمن، ردًا على هجمات الطائرات بدون طيار على أبو ظبي في وقت سابق من هذا العام من قبل المتمردين الحوثيين الموالين لإيران.

هل الخلاف بين الخليج والولايات المتحدة لا يمكن علاجه؟

رداً على السؤال، قالت “لوفيغارو” إنه بفضل الصراع الأوكراني، قامت الإمارات، ولكن خاصة السعودية، بتحرير نفسها من الحامي الأمريكية. فقد رفض ولي العهد السعودي محمد بن سلمان (الملقب بـMBS) إجراء مكالمة هاتفية مع جو بايدن، الذي أصر على جعل بن سلمان منبوذًا بعد اغتيال المعارض جمال خاشقجي. وفي يونيو/ حزيران 2021، أثار سحب صواريخ باتريوت الأمريكية المنتشرة للدفاع عن المملكة حيث تعرضت لهجوم من أعدائها الحوثيين اليمنيين غضب محمد بن سلمان بشدة.

في المقابل، يحافظ ولي العهد السعودي على علاقات جيدة مع بوتين، المستبد الذي لا يخذل حلفاءه، مثل بشار الأسد. وقد رفضت الرياض لتوها الاستسلام للمطلب الأمريكي لزيادة إنتاج النفط لخفض سعر البرميل. لذلك تنتظر المملكة العربية السعودية بصبر انتهاء ولاية جو بايدن.

من ناحية أخرى، هدأت أبو ظبي وواشنطن من القطيعة بينهما. فبعد الامتناع في تصويت أولي في مجلس الأمن الدولي لإدانة روسيا، حذت الإمارات حذو الولايات المتحدة في تصويت آخر في الجمعية العامة للأمم المتحدة. ثم حصل ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد، خلال لقاء في المغرب، من رئيس الدبلوماسية الأمريكية أنطوني بلينكين على اعتذار أمريكي عن عدم الرد السريع على هجمات طائرات الحوثي المسيرة ضد أبوظبي مطلع العام.

هل تستطيع فرنسا الاستفادة من خيبة الأمل بين الخليج وواشنطن؟

ردا على السؤال، أوضحت “لوفيغارو” أنه على مدى الخمسين عامًا الماضية، تمكنت فرنسا عمومًا من رفع نفسها إلى مرتبة “شريك التعويض” للسعودية، على خلفية غضب الأخيرة من الولايات المتحدة، وهو الموقف الذي مكّن باريس من جني نجاحات تجارية. لكن ليس من المؤكد على الإطلاق أن باريس ستنجح في الاستفادة من خيبة الأمل السعودية تجاه الأمريكيين. بالتأكيد، تقدر الرياض الموقف الفرنسي المتشدد تقليديًا في المفاوضات لمنع إيران من الحصول على القنبلة النووية، لكن بين محمد بن سلمان وإيمانويل ماكرون، ليست هناك كيمياء في الوقت الحالي.

ويشير مارك مارتينيز، المتخصص في شؤون السعودية، إلى أنه “بعد الأزمة المرتبطة باغتيال خاشقجي، حاول إيمانويل ماكرون التدخل في اللعبة من خلال عرضه على محمد بن سلمان إعادة الاستثمار في لبنان للمساعدة في الإصلاحات في بيروت، لكن محاولته باءت بالفشل”. كما أن سوريا، التي أعادت بعض الأنظمة في الخليج الاتصال معها، هي سبب آخر للخلاف بين باريس ومحور الرياض – أبو ظبي.

هل الحياد الإسرائيلي مصدر توتر مع حليفتها الأمريكية؟

ردا على السؤال، ذكرت “لوفيغارو” أنه بينما انتقد أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي الدولة اليهودية بسبب “عدم تضامنها” في إدانتها للغزو الروسي لأوكرانيا، لم ينتقد أي مسؤول في إدارة جو بايدن علانية الحليف الرئيسي لواشنطن في الشرق الأوسط. لقد ردت إسرائيل مرة أخرى، وفقا لمصالحها الخاصة، تقول الصحيفة.

فهي “إسرائيل” تهدف إلى انسحاب إيراني من سوريا، وبالتالي استمرار الضوء الأخضر الروسي لغاراتها الجوية ضد أهداف إيرانية في سوريا.  ومن الواضح أن الولايات المتحدة قد فهمت هذا الأمر، خاصة وأن الدولة اليهودية قد شددت موقفها فيما يتعلق بموسكو، حيث صوتت لصالح استبعاد روسيا من مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. “فهمت الولايات المتحدة أيضًا سبب عدم تعليق إسرائيل لرحلاتها الجوية مع موسكو، لأنه منذ بداية الحرب كانت هناك زيادة في هجرة اليهود من روسيا، أكثر من أي مكان آخر من أوكرانيا”.

هل ستدفع موسكو الثمن في سوريا؟

رداً على السؤال، قالت “لوفيغارو” إن للفشل العسكري الروسي في أوكرانيا آثارا جانبية ليس من المفترض أن تقوض التفويض الذي تمارسه موسكو على سوريا. ونقلت الصحيفة عن دبلوماسي مطلع على الصراع السوري قوله: “لقد لاحظنا انخفاضًا في تورط القوات الجوية الروسية في الهجمات ضد المعارضة المسلحة السورية”.

وأضاف الدبلوماسي القول إنه في ظل التطورات في أوكرانيا والأولويات الحالية لموسكو، بات الهجوم الروسي على إدلب، آخر معقل لمعارضي بشار الأسد، مستبعدا في الوقت الحالي، الأمر ويصب في مصلحة تركيا، لاسيما فيما يتعلق بالتدفق الهائل للاجئين السوريين من إدلب في حال تم هذا الهجوم.

فتركيا- بحسب الدبلوماسي دائما- التي تستضيف المفاوضات الروسية الأوكرانية، هي محل اهتمام أمريكي كامل. إذ تضغط عليها واشنطن لتبني المواقف الغربية في أوكرانيا. في المقابل، يمنحها الأمريكيون مساحة أكبر لضرب أعدائها الأكراد في شمال شرق سوريا. وكان أول مؤشر على إعادة تموضع تركيا هو تصويتها لصالح استبعاد روسيا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. والثاني إغلاق المجال الجوي التركي أمام الرحلات الجوية الروسية إلى سوريا.

أخيرًا، التأثير الجانبي النهائي للصراع الأوكراني: تم تعزيز الصلة بين سوريا وروسيا، توضح “لوفيغارو”، ناقلة عن الأكاديمي فابريس بالانش قوله: “إن آمال إعادة تموضع سوريا نحو الغرب، بينما كانت بعض الدول الأوروبية تتلاعب بفكرة العودة إلى سوريا، تبدو الآن وكأنها منسية نهائيًا”.

—————————

حرب القيم بين موسكو وهلسنكي/ د. مدى الفاتح

أعادت المشاورات حول انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، ذلك البلد إلى واجهة الأخبار بعد عقود طويلة اتبعت فيها هلسنكي سياسة مبنية على النأي بالنفس والحياد أمام التجاذبات الدولية.

هذه المساعي التي تأتي في ظل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية تدفع إلى التفكير بمآلات خروج فنلندا عن نطاق الحياد، وتأثيرات ذلك في الأمن الأوروبي، فالأكيد أن روسيا التي كان أحد أسباب أزمتها مع أوكرانيا، نية الأخيرة الانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، لن تتقبل ببساطة انضمام فنلندا التي تتشارك معها حدوداً طويلة.

تقرُّب فنلندا من الحلف الأطلسي لم يكن المؤشر الأول على انضمامها للمعسكر المناوئ لموسكو، فقد سبقت ذلك تصريحات وإدانات ومشاركة لدول أوروبية أخرى في سياستها المعاقبة لروسيا. هذه السياسة المعادية للجارة الكبيرة لم تكن بلا خسائر، من ذلك تأثر المدن والمناطق الحدودية الفنلندية التي كانت تعتمد على السياح والمتسوقين الروس، الذين يأتون بأعداد كبيرة عبر القطار أو الطرق البرية. اليوم وبعد وقف ذلك القطار والتضييق على دخول المواطنين الروس تعطلت تجارة كانت تدر دخلاً يومياً كبيراً. لك أن تتخيل أن بعض مراكز ومجمعات التسوق الحدودية التي كانت معتمدة على الروس آثرت إغلاق أبوابها اليوم. مع ذلك فإن الخسارة الأكبر لم تكن خسارة اقتصادية بقدر ما كانت خسارة أمنية، فمنذ أواسط القرن الماضي اتبع البلدان سياسة متوازنة تجاه بعضهما بعضا، فاحتفظت هلسنكي بعلاقة طيبة مع موسكو، ملتزمة بعدم الانضمام لحلف الناتو، مقابل ذلك لم ير الروس أنهم بحاجة لتهديد فنلندا طالما أنها كانت تحترم الخطوط الحمر. اليوم، وإذ قامت فنلندا بضرب كل تلك التفاهمات بعرض الحائط، فإن النتيجة قد تكون تمدد الحرب إلى حدودها، وفي حالة بلد صغير وغير معتاد على حروب جدية داخل حدوده مثل فنلندا، فإن النتيجة ستكون أكثر كارثية مما هو حادث في أوكرانيا، التي يتمتع جيشها وقوات دفاعها الشعبية بقدرة وتجربة قتالية بسبب النزاع مع الانفصاليين. لا شك في أن فنلندا تقوم بمخاطرة كبيرة حين تدخل في تحدٍ مفتوح مع روسيا وهي التي كانت في غنى عن ذلك، وهنا يجب أن نتساءل: لماذا اختارت هذا، ولماذا أصبح الانضمام للمعسكر الأمريكي رغبة معظم الفنلنديين؟ إجابة هذا السؤال تقتضي دراسة أكثر عمقًا للواقع السياسي والاجتماعي الفنلندي، الذي سوف نكتشف أن معلوماتنا حوله قليلة للغاية، ولا تتجاوز قولنا إنها البلد الذي يعيش فيه المواطنون الأكثر سعادة والذي تعمل فيه الحكومة بشفافية غير مسبوقة، يحاسب فيها المسؤول على جميع منصرفاته، بما يتضمن ما يستهلكه من أكواب قهوة. هذه الإكليشيهات المبنية على دراسات تقوم بها الأمم المتحدة، أو منظمات أخرى لا تصمد كثيراً أمام بيانات الواقع، فالدولة الأسعد هذه هي أيضاً الأعلى في نسبة الانتحار، وهي التي ترتفع فيها معدلات الإدمان على الكحول بنسب أكبر بكثير من نظيراتها الأوروبيو الأخرى. نجد أثر الإدمان واضحاً في العنف الزوجي، وهنا مفارقة أخرى تكون فيها الدولة التي تتفاخر بكونها الدولة الأكثر تمكيناً للنساء، هي التي يكون فيها النساء ضحايا للعنف الأسري لدرجة تصل إلى وفاة العشرات منهن بهذا السبب.

النقطة الأهم والتي تتشارك فيها فنلندا مع دول اسكندنافية أخرى كالسويد أو آيسلندا، هي في كون هذه الدول تمثل مثالا للمجتمع ما بعد الليبرالي، الذي تتحقق فيه القيم الغربية بشكلها الراديكالي، خاصة في ما يتعلق بموضوع العائلة. إذ كنت تلاحظ أن هناك كثيرات من المسؤولين نساء في هذه الدول، وكثيرات من النساء يعملن في مهن شاقة أو مجالات كانت حكراً على الرجال، فيجب أن تعلم أن هذا ليس صدفة وليس مجرد مساعدة أو تمكين للمرأة، ولكنه أمر يتعدى ذلك ليكون فلسفة للحكم. فنلندا تحصلت على مرتبة متقدمة في هذا الشأن مقارنة بدول غربية أخرى أيضاً تبنت مشاريع المساواة التامة بين الجنسين وإلغاء التمييز. في هذا البلد، وكما تتعلم الفتيات اليافعات أن يكن قويات الشخصية والجسد، يتعلم الفتيان أيضاً أن عليهم اكتشاف الجوانب الأنثوية فيهم، فلا يتحرج الأهل من حمل الذكور على تجريب ألعاب الفتيات أو أدوات الماكياج، أو فعل كل ما يمكنه إلغاء تقسيم العالم إلى رجالي ونسائي في أذهانهم. ما الذي يحدث إذا أحب الفتيان الهيئة النسائية، أو أحبت فتاة ما أن تتقمص دور الشبان؟ يمكنهم أن يستمروا في ذلك، فهناك تسامح حول هذا الموضوع، وبحسب النظرية الاجتماعية السائدة، فالاختلاف بين الجنسين هو مجرد إيحاء وإسقاط مجتمعي، فالمجتمع هو من يقنع شخصاً ما بأنه أنثى أو ذكر وهذا يعني أنه بتغيير هذه النظرة المجتمعية فإن الفروق أيضاً تلغى بشكل تلقائي، من خلال القوانين والتشريعات، ولكن أيضاً من خلال التعليم المبني على مناهج عابرة لـ”الجندر” لا وجود فيها للتقسيمات المؤيدة للرجولة أو المكرسة للأنوثة، استطاعت فنلندا وغيرها من دول العائلة الاسكندنافية أن تخلق واقعاً جديدا وأن تفرضه كمنهج للمجتمع. خير دليل على هذا هو ما فجرته أزمة “السوسيال” السويدية، حين تم سحب أطفال مهاجرين من ذويهم بسبب ما وصف بأنه تربية “جندرية” تحتقر المثلية، أو تتدخل في خيارات الأبناء الجنسية. يرى البعض أن التحكم الذي تشتهر به النساء والذي يحاول خلق بديل معاكس للمجتمع الذكوري هو تطور طبيعي، بالنظر إلى أن نساء المنطقة هن سليلات حضارة “الفايكنغ” التي كان فيها الرجال يغيبون لفترات طويلة في رحلاتهم البحرية تاركين النساء لتحمل المسؤولية، وهي ملاحظة جيدة لكنها ليست كافية للتبرير، من دون اصطحاب فلسفة إعادة تعريف الأدوار المجتمعية. إعادة التعريف هذه لا تقتصر فقط على قيام النساء بتحمل أعباء كان ينظر إليها كونها قاصرة على الرجال، وإنما يتعدى ذلك لكل تفاصيل الحياة، بما يشمل تبادل الأدوار على مستوى العلاقات العاطفية، ابتداء من التصريح بالحب وانتهاء بالعلاقة الزوجية التي كثيراً ما تتحول لحقل تنافس وتنتهي بالفشل. الزواج الفاشل وحالة الأم العزباء ليس المشكلة الوحيدة التي تواجه هذه المجتمعات، فهناك أيضاً أزمة الحصول على الشريك، على ما يظهر فإن القوة التي منحت للنساء ساهمت في توجس الرجال أو عزوفهن عن التقرب إليهن.

بالعودة إلى الأزمة المتوقعة مع روسيا نقول، إن فنلندا وجيرانها تمثل كل ما هو مناقض لأيديولوجيا الحكم والمجتمع الروسي المبني على التقاليد الأرثوذوكسية والذي يرفض الليبرالية الأخلاقية على الطريقة الأوروبية. هذا التناقض يجعل الصدام بين الجهتين قدراً محتوما، خاصة أن المعسكر الغربي الذي يمزج الديمقراطية بالليبرالية الاجتماعية، لا يكتفي بتطبيق معاييره القيمية داخل حدوده وإنما يسعى لتصديرها وفرضها عبر التأثير الناعم، أو التدخل المباشر على المستوى العالمي، متجاهلاً كل اختلاف للثقافة أو الحضارة. في حالة الجوار الروسي لم يكن النموذجان ليعيشا في تجاور سلمي لوقت طويل. هذه النظرة تجعلنا نفهم كيف كانت أوكرانيا مجرد ذريعة تخفي خلفها حرباً شرسة حول القيم الاجتماعية، وهو ما يجعلنا نتذكر قول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: “إنهم كانوا يريدون سبباً لمعاقبة روسيا”. أما فنلندا والسويد فهما تشعران بأن هذه الحرب هي، بشكل ما، حربهم.

كاتب سوداني

———————

إحتمالات “إنقلاب القصر” في الكرملين/ بسام مقداد

يترافق حكم الطغاة دائماً بإحتمالات إنقلاب القصر بأشكال وأدوات مختلفة، دموية في الغالب، وهو ما لا مكان له في أنظمة التداول الديموقرطي للسلطة. وتستر الطغاة بديموقراطية مزيفة لتداول السلطة بواسطة إنتخابات مرسومة النتائج لايغير في جوهر التسلط، بل يشهد على الإيغال في الطغيان وتشديد آلة القمع. الحديث عن إنقلاب القصر في ظل سلطة بوتين تكثف بعد إحتجاجات 2011 ـــــ 2012 الواسعة، والتي اندلعت إحتجاجاً على تزوير الإنتخابات الرئاسية، وتبعها تشديد غير مسبوق لأدوات القمع. وبلغ هذا الحديث أوجه بعد شن بوتين حربه العدوانية على أوكرانيا، وأصبح إنقلاب القصر واحداً من إحتمالات تطور الحرب وسيناريوهات نهايتها.

إنقلاب القصر تتولاه إما النخبة المحيطة بالطاغية، وإما النخبة العسكرية، وكثيراً ما يأتي وفق سيناريو مشترك بين الإثنتين. أما في روسيا، فتتحدث مواقع إعلامية عن سيناريو مختلف تستبعد النخبة العسكرية نفسها عنه، ويقول برغبة الأوليغارشيين تسليم بوتين للغرب مقابل رفع العقوبات، حسب قناة تلفزيونية أوكرانية إقليمية أواسط آذار/مارس المنصرم في نص بعنوان “الأوليغارشيون يريدون تسليم بوتين للغرب مقابل رفع العقوبات، وهو خائف للغاية”. ينقل موقع القناة في مقابلة مع مدير معهد التحول الإجتماعي الإقتصادي الذي “يملك معلومات مطلعين من الداخل الروسي”، قوله بأنهم في الفترة الأولى لم يتوقعوا في الكرملين ردة فعل الغرب هذه، بل كانوا يتوقعون عقوبات شبيهة بتلك التي فرضت العام 2014 تؤدي إلى تدهور الوضع في روسيا، لكن ليس بشكل مأساوي. كما يتحدث عن صدمة الكرملين بمقاومة الأوكران التي لم يكن يتوقعها، وإعفاء العسكريين من مسؤولية المعلومات المغلوطة عن الوضع الحقيقي في أوكرانيا وتحميلها لأجهزة المخابراـت. لكن، مع ذلك، يرى الموقع أن الوضع في روسيا متدهور ويؤدي إلى سلوك غير سوي من القيادة، ومن ضمنها بوتين نفسه.

وفي رده على ما تقوله “معلومات المطلعين” عن إحتمال وقوع إنقلاب قصر، يقول بأنها تتحدث عن مبادرة للأوليغارشيين  الذين حُظر عليهم مغادرة روسيا وتكبدوا خسائر هائلة. وللقيام بإنقلاب قصر لا تكفي جهود الأوليغارشيين، بل تحتاح لمساندة الأجهزة التي، إن لم تتحرك، لن يتغير الوضع في روسيا. ووفقاً للشائعات فإن الأوليغارشيين يريدون تحميل بوتين المسؤولية عن كل ما يجري ، والقول للغرب: هاكم الفوهرر مقابل رفع العقوبات. لكن هذا المخطط لا يجد حتى الآن دعماً من جانب الأجهزة التي، على الرغم من عمليات التطهير والإقالات في أحدها، لا تزال مؤيدة لبوتين الذي “أطعمها” جيداً. لكن الوضع، مع ذلك، يضغط بشكل كارثي على الاقتصاد، ولذلك يمكن توقع تغيير ما، لكن السلطة  في روسيا لم تتغير في يوم من الأيام من الأسفل، بل من الأعلى.

موقع republic الإلكتروني المعارض نقل عن البوليتولوغ عباس غالياموف في 24 آذار/مارس المنصرم حديثه في مقابلة عن آفاق إنقلاب قصر في روسيا، وقال بأنه قد توفرت  كل الشروط المؤسساتية لدخول العسكريين معترك السياسة. ويرى أن النخبة العسكرية والمخابراتية في حال صدمة مما يحدث. وحين  يتم إستيعاب هذه الصدمة سوف تتساءل هذه النخبة كيف حصل أن الجيش الروسي الذي لا يقهر لا يستطيع التعامل مع الأوكران الذين لم “يأخذهم أحد على محمل الجد”.

في رده على سؤال عن أحد السيناريوهات المتداولة منذ سنوات عن تغيير النظام في روسيا  بإنقلاب قصر، قال غالياموف بأن النخب مستاءة وحظوظ هذا السيناريو تضاعفت مرات عدة. ويرى أن بوتين تحول فجأة، بالنسبة للقسم المدني من النخب، من ضمانة للإستقرار والمكانة الإجتماعية والمداخيل العالية إلى عامل لعدم الإستقرار. وبدلاً من الشيخوخة الهادئة في مكان ما في نيس، لاح فجأة في الأفق أمام ممثلي الإستبلشمنت الروسي أفق الإنتهاء في زنزانة في لاهاي. وحين يكون العالم كله ضدك يكف هذا السيناريو عن أن يكون متخيلاً، ويصبح فجأة شديد الواقعية. لن يسجن الجميع، لكن من يتبقى منهم طليقاً سيتحول إلى هامشي معوز لا يمد أحد يده له. ويضرب مثالاً بأحد الأوليغارشيين الذين طالتهم العقوبات، فتحول فجأة إلى رجل بلا منزل بعد تجريده من ملكية بيته في لندن، و ليس لديه ما يدفع بدل تنظيف بيته. سابقاً كان ممثلون فرادى للإستبلشمنت مستائين من بوتين، لكن ليس جميعهم كطبقة كما الآن.

أما النخب العسكرية والمخابراتية المصدومة بما يحدث، فلن تلجأ، كما المثقفين،  إلى إنتقاد الذات وجلدها.  فهم لن يقولوا يوماً “نحن المذنبين في ذلك، نحن نهبنا كل شيء”. والعسكريون في أنحاء العالم ليسوا ميالين إلى ذلك، خاصة في روسيا، البلد الذي لا يحب نقد ذاته. فالعسكريون عادة يحبون تحميل المسؤولية للسياسيين، وفي روسيا السياسي هو واحد ــــ بوتين.

ويقول غالياموف بأنه لا بد من أخذ عاملي الإستياء هذين بالإعتبار، ولا يؤكد أن النظام سوف ينهار غداً، لكنه يرى بأنه لن يصمد حتى العام 2024 موعد إنتهاء ولاية بوتين. ولا يصدق كثيراً في إمكانية إنقلاب القصر، وذلك لأن النخب الروسية المستاءة من بوتين تخافه.

موقع المدون الأوكراني الشهير دمتري غوردون المتخصص بالمقابلات مع مشاهير الشخصيات الأوكرانية والروسية، نشر آخر آذار/مارس المنصرم مقابلة مع العامل السابق في KGB والزميل السابق ايضاً لبوتين يوري شفيتس. يقول الزميل المخابراتي السابق بأنه ليس في الكرملين شخصية قادرة على تنظيم إنقلاب قصر، وكل المحيطين ببوتين باهتون أكثر منه. ويرى أن تنظيم مؤامرة، كما ضد هتلر في حينه، مستحيل في الوضع الراهن لانعدام شخصية قادرة على ذلك.

موقع قناة التلفزة الأوكرانية 24 تشر مطلع الشهر المنصرم نصاً بعنوان “إنقلاب القصر لن يساعد، وقد يأتي صقور أسوأ من بوتين”. هذا ما يراه خبير عسكري في مقابلة مع القناة، ويعتبر أن الحرب ضد أوكرانيا رفعت من دعم الروس لبوتين، والإحتمال ضئيل حتى الآن بوقوع إنقلاب في روسيا. ويقول بأنه لا يجدر بنا أن نوهم أنفسنا بأنهم سيقتلون بوتين غداً او سيفقد منصبه، فمن سيتسلم السلطة هم صقور أيضاً يعتبرون المجرم بوتين زعيماً ليس على قسوة كافية.

الشهرية البيلوروسية nashaniva نشرت في 21 آذار/مارس المنصرم لإقتصادي وصحافي بيلوروسي رأياً يقول بأن إنقلاب القصر في الكرملين لن يوقف الحرب. ويرى أن وقف العمليات الحربية يرفع من إحتمال إنقلاب القصر في الكرملين ولا يخفضه، والإنقلاب ليس عامل وقف للحرب، بل على العكس. وسوف يظهر في روسيا عدد كبير من الناس المستائين من الوضع الذي جرهم إليه بوتين، لكن، مع ذلك، سوف يكونوا راديكاليين أكثر منه.

موقع   Detaly الإسرائيلي الناطق بالروسية نقل في 17 الشهر المنصرم عن كتاب “هل يصمد بوتين في هذه الحرب” لمتخصصة أميركية في الشؤون الروسية من جامعة جورج واشنطن بعنوان “هل يستحق الأمل في إنقلاب قصر في روسيا”. تستبعد المتخصصة وقوع إنقلاب قصر في روسيا، وذلك لأن بوتين “أكثر أمناً مما تظنه غالبية الناس”. وترى أن الوضع الراهن بالنسبة لروسيا متناقض، حيث أن غزو أوكرانيا هو مغامرة خطرة بالنسبة لبوتين ونخبته وللشعب الروسي كافة. وحتى في ظل السيطرة الكاملة على الإعلام، لن تتيح العقوبات القاسية للكرملين الإستمرار في نزاع طال أمده بالفعل. الإنتقاد الإجتماعي للحرب ومعارضتها سوف يتعزز، وقد ينتهي الأمر بالنخب حول الكرملين أن تنقسم، مما يفسح المجال لإسقاط النظام.

المدن

———————-

بعد تصريحات لافروف عن أصول “هتلر” اليهودية.. روسيا تتهم إسرائيل بدعم النازيين الجدد في أوكرانيا

موسكو: اتهم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إسرائيل اليوم الثلاثاء، بدعم النازيين الجدد في أوكرانيا، مصعّدا بدرجة أكبر، خلافاً بدأ عندما زعم لافروف أن أدولف هتلر من أصول يهودية.

وانتقدت إسرائيل لافروف أمس الاثنين قائلة إن زعمه الذي أدلى به أثناء حديثه عن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وهو يهودي، افتراء “لا يغتفر” يقلل من شأن مآسي محارق النازية.

وندد زعماء عدة دول غربية بتصريحات لافروف، واتهم زيلينسكي روسيا بنسيان دروس الحرب العالمية الثانية.

وقالت الخارجية الروسية في بيان، إن تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد “متعارضة مع التاريخ” و”تفسر بدرجة كبيرة سبب دعم الحكومة الإسرائيلية الحالية لنظام النازيين الجدد في كييف”.

وأكدت موسكو مجددا وجهة نظر لافروف بأن كون زيلينسكي من أصل يهودي، لا يمنع أن يكون النازيون الجدد يحكمون أوكرانيا.

وقالت في بيان: “مناهضة السامية في الحياة اليومية وفي السياسة لم تتوقف، بل على العكس يجري تغذيتها (في أوكرانيا)”.

تأكيد لافروف أن هتلر من أصول يهودية جاء في مقابلة مع قناة تلفزيونية إيطالية يوم الأحد، ردا على سؤال عن سبب قوله إن روسيا تحتاج لتخليص أوكرانيا من النازيين إذا كان رئيسها نفسه يهوديا.

وأبدت إسرائيل دعمها لأوكرانيا بعد الغزو الروسي في فبراير/ شباط. لكنها تجنبت في البدء انتقاد موسكو مباشرة، ولم تطبق العقوبات الرسمية المفروضة على الأثرياء المحيطين بالرئيس الروسي، إذ كانت تخشى تصدع العلاقات مع موسكو التي تتمتع بنفوذ في سوريا المجاورة.

لكن العلاقات توترت، وزاد ذلك في الشهر الماضي بعدما اتهم لابيد روسيا بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا.

(رويترز)

——————–

الاتحاد الأوروبي يرفض الدفع بالروبل وسؤال إمدادات الطاقة يدخل تعقيدات جديدة

اختتم وزراء الطاقة في الاتحاد الأوروبي  اجتماعهم الطارئ الذي عقد الاثنين في بروكسل لمناقشة تداعيات الحرب الأوكرانية على إمدادات الطاقة. وأعلنت المفوضية الأوروبية لشؤون الطاقة رفض وإدانة الاتحاد الأوروبي خطوة شركة غازبروم الروسية وقف إمداد الغاز لدول أوروبية، واعتبرته إخلالًا بأمن الطاقة الأوروبي، مؤكدة أن دول الاتحاد لن تدفع بالروبل لأنه انتهاك للعقود المبرمة.

وقالت المفوضة الأوروبية للطاقة كادري سيمسون خلال لقائها مع الصحفيين على هامش الاجتماع إن “طلب موسكو دفع ثمن المشتريات النفطية بالروبل هو تعديل أحادي الجانب وغير مبرر للعقود ورفضه أمر مشروع”، وأوضحت إن “97% من العقود التي أبرمتها شركات أوروبية تحدد عملة الدفع وهي إما اليورو أو الدولار”. وأشارت إلى أنه ليس لديها علم بفتح حسابات بالروبل قائلة “الدفعات مجدولة في منتصف أيار/مايو وستلتزم غالبية الشركات بقواعد العقود”.

وأكدت المفوضة الأوروبية أنه “لا توجد تهديدات فورية للإمدادات”، لكنها أشارت إلى صعوبة “التعويض عن 150 مليار متر مكعب من الغاز المشترات من روسيا من مصادر أخرى”، وأضافت “يمكننا التعامل مع استبدال ثلثي إمدادات الغاز الروسي”.

يأتي هذا القرار بعد أيام من تعليق روسيا إمدادات الغاز لبولندا وبلغاريا إثر رفضهما خطة جديدة طلبتها موسكو وهى الدفع بالروبل، وقالت شركة غازبروم إن “شركة “بي.جي.إن.آي.جي” البولندية وشركة “بلجارجاز” البلغارية لم تسددا ثمن الغاز لا في الوقت المحدد ولا بعملة الروبل كما طلبت روسيا”. ومنذ أن أوقفت روسيا الإمدادات، تتلقى بولندا وبلغاريا الغاز من جيرانهما، وفقًا  للمفوضية الأوروبية، التي أشارت إلى أنها لا تملك معلومات بشأن استعداد أي دولة أو شركة أوروبية لسداد مدفوعات الغاز الروسي بالروبل.

يذكر أن  رئيسة المفوضية الأوروبية أورزولا فون دير لاين قد تعهدت بضمان ألا يكون لقرار روسيا بحجب الإمدادات سوى تأثير ضئيل قدر الإمكان على المستهلكين في أوروبا. هذا وأبدت ألمانيا استعدادها لدعم فرض الاتحاد الأوروبي حظرًا فوريًا على النفط الروسي، وهو تحول كبير في موقف ألمانيا التي تعد أكبر عملاء قطاع الطاقة الروسي، ومن شأن هذا القرار أن يسمح لأوروبا بفرض مثل هذا الحظر في غضون أيام.

وتحدث وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك للصحفيين قبل اجتماع  بروكسل أن “ألمانيا ليست ضد حظر نفطي على روسيا، بالطبع هذا عبء ثقيل، لكننا سنكون مستعدين للقيام بذلك”. وأضاف الوزير الألماني أن “النفط الروسي يمثل الآن 12% من إجمالي واردات النفط، وسجل انخفاضًا من 35% قبل الحرب الروسية على أوكرانيا”، مشيرًا إلى أن “معظمه يذهب إلى مصفاة شويدت بالقرب من برلين”.

بدوره قال وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر لصحيفة دي فيلت إنه “باستخدام الفحم والنفط، من الممكن التخلي عن الواردات الروسية الآن، لكن لا يمكن استبعاد ارتفاع أسعار الوقود”. كما أعربت وزيرة الطاقة النمساوية ليونور جيفسلر عن استعداد بلادها لقرار الاتحاد الأوروبي بفرض حظر على واردات النفط الروسية بموجب حزمة من العقوبات هي قيد الدراسة، وقالت جيفسلر في اجتماع وزراء الطاقة بالاتحاد الأوروبي إن “النمسا مستعدة لتحمل عواقب حظر الاتحاد الأوروبي للنفط الروسي في حال قررت المفوضية الأوروبية والدول الأعضاء ذلك”. وأضافت أنه من المهم أن “يتخذ الاتحاد الأوروبي القرارات المتعلقة بالعقوبات بصورة جماعية”.

من جانبها قالت فرنسا إنها تضع إجراءات بهدف إنهاء اعتمادها على الغاز الروسي بشكل نهائي بما فيها المتعلقة بالطاقة التخزينية. جاء ذلك خلال تصريحات وزيرة الطاقة والبيئة الفرنسية باربرا بومبيلي للصحفيين خلال اجتماع بروكسل والذي أكدت فيه أن “دول الاتحاد الأوروبي ستواصل الدفع باليورو أو الدولار مقابل عقود الغاز الروسي الموقعة بتلك العملات”. وأضافت الوزيرة  “كلنا متفقون على أننا سنواصل الدفع باليورو ولن نسمح بتغيير العقود من طرف واحد”.

بالمقابل ترفض المجر حظر استيراد النفط والغاز الروسي. وفي تصريحات لوكالة رويترز للأنباء، أكد المتحدث باسم الحكومة المجرية زولتان كوفاكس إن “المجر تعارض أي حظر من جانب الاتحاد الأوروبي على واردات النفط والغاز الروسية”، مشيرًا إلى أن “الموقف المجري بشأن أي حظر للنفط والغاز لم يتغير”. بدوره قال مدير مكتب رئيس الوزراء المجري جيرجيلي جولياس لتلفزيون “هير” الحكومي، إنه “لكي أكون واضحًا، لن ندعم أبدًا فرض عقوبات فيما يتعلق بواردات النفط والغاز”. وأضاف المسؤول المجري أنه “يجب الاتفاق على مثل هذه القرارات بالإجماع، فلا يوجد داع في المفوضية الأوروبية لاقتراح عقوبات من شأنها الحد من الواردات المجرية الحالية”. وتابع “لا يوجد من يمكنه أن يحل محل واردات النفط والغاز الروسية في الوقت الحالي، وأن التحول عن الواردات الروسية سوف يستغرق خمسة أعوام ويتطلب أموالًا كثيرة”.

وفي هذا الإطار، قال مسؤولون في المفوضية الأوروبية إن المجر وسلوفاكيا قد تُمنحان استثناء من حظر النفط الروسي كونهما تعتمدان عليه بشكل رئيسي. حيث توفر روسيا 96% من إجمالي واردات المجر من النفط ومشتقاته، بينما تصل نسبة اعتماد سلوفاكيا على النفط الروسي  إلى ما يقارب من 60%. ومن المتوقع أن تنهي المفوضية الأوروبية العمل على حزمة جديدة من العقوبات على روسيا ستشمل حظر شراء النفط الروسي الذي تمثل صادراته مصدرًا رئيسيًا لعائدات موسكو والذي تستخدمه في تمويل حربها على أوكرانيا.

—————————

=================

تحديث 05 أيار 2022

———————

هل ينهزم بوتين؟/ بشير البكر

عاكست الرياح سفن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ولم تأتِ حسابات الميدان على هواه. وها هي الحرب على أوكرانيا توغل في شهرها الثالث، من دون تحقيق إنجازات عسكرية روسية فعلية، باستثناء أنّ القوات الروسية باتت تسيطر على مراكز بعض المدن، مثل خاركيف وخيرسون وماريوبول، بينما خسرت معركة دخول كييف التي كانت الهدف الأول للاجتياح الروسي، وسحبت جنودها من محيطها، كما أنّها لم تتمكّن من إحكام القبضة على كامل مساحة أراضي الجمهوريتين الانفصاليتين، دونتيسك ولوغانسك. وكل ما استطاعت أن تضع يدها عليه من أراضي أوكرانيا، دفعت ثمنه غالياً من جيشها واقتصادها وسمعتها، بالإضافة إلى الدمار الكبير الذي ألحقته بالعمران في أوكرانيا، وهذه مسألة لا يمكن أن تمر من دون تبعاتٍ في المستقبل، تتحملها روسيا، سواء ربحت الحرب أم خسرتها، وهي التي ستنتهي ذات يوم.

عدم القدرة على السيطرة على كييف وإطاحة الرئيس فلوديمير زيلينسكي، وتعيين سلطة عميلة لموسكو محلّ الحكومة الشرعية المنتخبة، هو هزيمة مباشرة لبوتين. وفشل بسط النفوذ على كامل إقليم الدونباس هزيمة ثانية، وهناك هزائم أخرى أكبر تلوح في الأفق، في ظل تدفق الأسلحة الغربية النوعية على أوكرانيا، وخصوصاً في الأسبوعين الأخيرين، وفي الأسابيع المقبلة، والدليل على ذلك الاستنفار الأميركي في البيت الأبيض والكونغرس، وتكثيف الزيارات الميدانية من المسؤولين الأميركيين، وآخرهم رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي التي زارت كييف، بعد أقل من أسبوع على زيارة وزيري الخارجية أنتوني بلينكن والدفاع لويد أوستين، تحت ضغط الكونغرس الذي أجاز 33 مليار دولار لتمويل مساعدة الأوكرانيين، ومدّهم بأسلحة متطوّرة من أجل جولة جديدة من الحرب باتت قريبة جداً.

ذهب بوتين إلى الحرب وفي حسابه إطاحة النظام الدولي، وفرض شروطه على أوكرانيا والولايات المتحدة وأوروبا، وبسبب سوء حساباته بات مهدّداً أن تخسر بلاده موقعها الدولي السابق، وبدلاً من تفاهمات واتفاقات عدم اعتداء، كان في وسعه التوصل إليها مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، قبل أن يلجأ للحرب، ها هو يواجه حرباً بالوكالة يضع فيها الحلف كلّ ثقله من أجل هزيمة روسيا التي تهدّد بالسلاح النووي كردّ على المخاطر التي باتت تستشعرها مع استمرار الحرب واتساع رقعتها وارتفاع خسائرها الاقتصادية والبشرية، ورغم أنّ مسألة النووي ليست بهذه البساطة، وهو سلاحٌ ذو حدّين لن يلحق ضرره بطرف واحد، وسوف يجر إلى مواجهة كارثية، فإنّ الأطراف الغربية تأخذ تهديدات بوتين على محمل الجدّ، بعدما اجتاح دولة ذات سيادة ولم يحسب حساباً لردود الفعل، بل غامر وأرسل جزءاً كبيراً من قواته، وخسر قسماً منها في حربٍ لم يدرسها جيداً. وفي الرابع والعشرين من فبراير/ شباط، اليوم الذي غزت فيه روسيا أوكرانيا، وجّه بوتين تحذيراً قال فيه: “بغض النظر عمن يحاول الوقوف في طريقنا، أو أنّه يشكّل تهديدات لبلدنا وشعبنا، يجب أن يعلموا أنّ روسيا ستردّ على الفور، وستكون العواقب كما لم ترها في تاريخك بأكمله”. وبعد ثلاثة أيام، وضع قواته النووية على “استعداد قتالي خاص”. ومن يومها جرى تفسير هذا على نطاق واسع على أنّه تهديد باستخدام الأسلحة النووية. وهناك من الخبراء الغربيين من يرى أنّ استخدام السلاح النووي بات الآن أكثر احتمالاً، من أي وقتٍ مضى منذ الحرب الباردة، وأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. وبالتالي، من المستحيل للردع النووي أن يعمل بشكل صحيح لأنّه يتطلّب صنّاع قرار عقلانيين، كما حصل خلال أزمة الصواريخ الكوبية. وإذا تعرّضت روسيا للهزيمة، حتى من دون استخدام الأسلحة النووية، من غير المستبعد أن تلقي موسكو قنبلة نووية تكتيكية على إحدى دول “الناتو” أو ضد أوكرانيا.

العربي الجديد

————————

الحرب الباردة: من برقية X إلى طائرة «يوم القيامة»/ صبحي حديدي

علائم أواخر الثمانينيات ومطالع التسعينيات من القرن المنصرم كانت تؤكد طيّ صفحة الحرب الباردة بين المعسكرين «الرأسمالي» و»الاشتراكي»، ولا تُستخدم أهلّة الاقتباس لحضر المفردتين السالفتين إلا لأنّ معدّلات النسبية، أو حتى انعدام التناسب المنطقي، كانت وتظلّ قرينة التوصيفات المختلفة لكلّ ما هو رأسمالي أو اشتراكي. غير أنّ حقبة «النظام الدولي الجديد» التي أعلنها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، تصادت سريعاً مع نظرية مواطنه الأمريكي فرنسيس فوكوياما حول «نهاية التاريخ».

على الخرائط وفي الوقائع الفعلية يشير ميل غرتوف، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بورتلاند ورئيس تحرير فصلية «المنظور الآسيوي»، إلى هذه السلسلة، على سبيل الأمثلة الأبرز ليس أكثر: توحيد ألمانيا، انهيار الاتحاد السوفييتي، التنسيبات الجديدة إلى الحلف الأطلسي، ربيع الديمقراطية في بولندا وهنغاريا، استقلال أوكرانيا، إزالة الأسلحة النووية من أوروبا الشرقية (بما في ذلك أوكرانيا، للتذكير المفيد!)، اعتناق البيريسترويكا والغلاسنسوت في روسيا، إدخال العولمة إلى أجزاء واسعة من «المعسكر الاشتراكي» المتفكك مع ضمّ بعضها إلى الاتحاد الأوروبي… ألم تكن هذه، وسواها الكثير، لائحة كافية لتشييع مواضعات الحرب الباردة إلى سلال مهملات التاريخ؟

ليس تماماً، أو ليس بعد، أو الأحرى القول أيضاً: حتى إشعار آخر يطول أو يقصر؛ إذْ أنّ واقعة واحدة، فاصلة وفارقة مع ذلك، مثل الاجتياح الروسي في أوكرانيا، بدت كافية لتذكير الغافلين بأنّ تلك الحرب الباردة (التي لم تقع أصلاً، للتذكير الأكثر فائدة!) لا تعود من جديد بين موسكو وكلّ من واشنطن والحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي على الأرض الأوكرانية، فحسب؛ بل الأرجح، والجليّ يوماً بعد يوم، أنها لم تنتهِ أصلاً كي يُقال إنها تُستأنف من جديد. وبعض ما يسعى إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من بناء قطب «شرقي» خاضع لهيمنة موسكو، مقابل قطب «غربي» تقوده واشنطن وأوروبا الأطلسية؛ لا تتردد أصداؤه في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وجورجيا وروسيا البيضاء وبلاد الشيشان (أو حتى لدى تابع قزم مثل نظام بشار الأسد، أو عمليات ميليشيات «فاغنر» هنا وهناك في أفريقيا والشرق الأوسط)، فقط؛ بل يتوجب أيضاً تعقُّب طراز آخر من أصدائه في ابتداء تفكيك «الحياد» التاريخي الذي اتسمت به فنلندا والدانمرك والسويد، مثلاً.

وكلّ هذا إذا أجاز المراقب لنفسه أن يضرب صفحاً عن صعود الصين كعملاق منشطر الجسد بين أقصى الرأسمالية من حيث المحتوى وأدنى الاشتراكية من حيث الشكل، مقابل انحطاط النظام السياسي في روسيا إلى مستويات أوتوقراطية وأوليغارشية قصوى، وصعود الإسلام السياسي وتفرّعه إلى طوائف ومذاهب وتيارات حاكمة متسلطة تارة أو جهادية متشددة وإرهابية تارة أخرى. أو، أيضاً، إذا شاء المراقب إياه، أو حتى إذا استسهل، وضع انتفاضات العالم العربي جانباً، وإهمال تبعاتها المختلفة التي لا تبدأ من السياسة والاقتصاد ولا تنتهي عند الاجتماع والثقافة وتكريس تعاقدات القوى العظمى السابقة مع أنظمة الاستبداد وقد ارتدت لبوس الثورات المضادة. ولا يصحّ، هنا، أن تُنسى الأدوار التي يمكن أن تلعبها قوى آسيوية وازنة مثل الهند والباكستان وماليزيا وسنغافورة وأندونيسيا في إعادة ترتيب الانحيازات القديمة والاصطفافات الجيو -سياسية والجيو – اقتصادية المتجددة أو المستحدثة؛ على خلفية كبرى بالغة الحساسية هي إطلالة الصين على عواقب، لكن أيضاً: على مغانم ومكاسب ومزايا؛ استئناف حرب باردة لم تضع أوزارها، لأنها لم تنشب أصلاً.

ذلك لأنّ الحرب الباردة هي في المقام الأوّل «حرب المخيّلة» حسب تعبير ماري كالدور، الباحثة البريطانية المرموقة المختصة بالعلاقات الدولية وسياسات التسلّح؛ لأنّ فريقَي تلك الحرب، التي ظلّت افتراضية كما هو معروف، لم يكونا بصدد التحضير لمواجهة عسكرية فعلية تردع الطرف الخصم؛ واكتفيا بالترويج لها على نطاق المخيّلة، وعن طريق تضخيم الإحساس بأنها استمرار للحرب العالمية الثانية التي لم تنتهِ بعد، حتى إذا كانت قد وضعت أوزارها. ولهذا فإنّ عشرات المفردات، المستلّة من قاموس تلك الحرب الباردة المتخيَّلة، ما فتئت تجري على ألسنة وأقلام ساسة وكتّاب كثر، في الغرب عموماً وأمريكا خصوصاً؛ وليس بالضرورة لأنهم من رعيل المحافظين الجدد. الاجتياح الروسي الراهن في أوكرانيا يحدّث معجمها في مستوى الخطاب، لكنه أيضاً يحرّك سعارها القديم إلى السلاح والتسلّح، فيستخدم الجيش الروسي الأسلحة الـ231 الجديدة التي جرّبها ضدّ الشعب السوري منذ خريف 2015؛ ولا يتردد بوتين في إصدار الامر بتحليق «الكرملين الطائر»، أو طائرة «يوم القيامة»، أو الـ»إليوشن إيل -96-400 إم» في سماء موسكو.

واستطراداً، حول تلك الحرب ومواضعاتها، تُستعاد تلك «البرقية الطويلة» التي أرسلها إلى واشنطن، شباط (فبراير) 1946، جورج كينان القائم بالأعمال في السفارة الأمريكية في موسكو؛ والتي ستدخل التاريخ بوصفها التبشير الإيديولوجي الأوّل بحرب باردة سوف «تنشب»، في ميادين المخيّلة دائماً، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. بعد البرقية، سوف يكتب كينان المقال الشهير في مجلة «فوريين أفيرز»، بتوقيع X، فيستحق عليه لقب «نبيّ الحرب الباردة» بلا منازع. وفي البرقية، كما في المقال، ساجل كينان بأنّ الولايات المتحدة لا تستطيع الوقوف مكتوفة الأيدي إزاء ما سيجرّه خراب أوروبا الاقتصادي من خراب إيديولوجي؛ وهذا سوف يكون في صالح الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي، وسيقلب الانتصارات العسكرية الأمريكية إلى هزائم عقائدية للقِيَم الرأسمالية.

لكن المحتوى البراغماتي لم يكن يدور حول ملء البطون الجائعة، بقدر ما كان يستعجل تطويق الانهيار الوشيك في أوروبا، والسيطرة على تعطش الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين إلى ملء فراغ القوّة هنا وهناك، واستخدام سلاح المعدة الخاوية لضبط الأرواح الهائمة والعقول التي تفسّر الخراب. وكان كينان يريد للولايات المتحدة أن تتولى زمام «العالم الحر»، وتقبض بالتالي على أعنّة العالم بأسره خارج الملكوت الشيوعي؛ عن طريق استخدام كيس الطحين، الذي سوف يكمل العمل الذي قامت به الدبابة والقاذفة أثناء سنوات الحرب وتحرير أوروبا. ذلك التنظير تلاقى مع انعطافة نوعية في السياسة الخارجية الأمريكية، مثّلتها «عقيدة ترومان»؛ مثلما تقاطع، إيجابياً، مع التطبيق العسكري الأوّل لتلك الانعطافة (التدخل في اليونان وتركيا).

وحين انهار جدار برلين، وبدأت «جحافل» الحرب الباردة المتخيَّلة تجرجر أذيالها صوب مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية عويصة، وليدة الواقع الفعلي هذه المرّة، وليس الخيال؛ تقاطر، وتكاثر، المبشرون بأنّ انتصار القِيَم الغربية ساعة سقوط الجدار، هو في الآن ذاته انتصار لليوتوبيا الوحيدة المتبقية في حوزة الإنسانية، اليوتوبيا العليا والقصوى والأخيرة على هيئة «خاتم البشر» الذي بشّر به فوكوياما؛ واليوتوبيا التي يُراد لنا أن نسلّم بخلوّها، تماماً وأبداً، من الأزمات والهزّات والتشوّهات. كأنّ التاريخ لم يعرف فترات الركود الرأسمالية الطاحنة، وكأنّ اقتصاديات السوق الحرّ لم تشهد آلام العيش اليوميّ في كنف سياسات مفقِرة وظالمة، وكأنّ دروس أرباب رأس المال الجدد، على غرار إيلون ماسك أو جيف بيزوس أو سوندار بيشاي، ليسوا السلف الأشدّ توحشاً في عكس الشعار الرأسمالي المقدس «دعه يمر»، دعه يعمل» إلى «لا يمرّ إلا إذا عمل هنا».

ومن برقية السيد X إلى «الكرملين الطائر»، إذا اكتفى المرء بهذَين النظيرَين، لا نتذكّر ما تردد من خرافات حول طيّ الحرب الباردة، بقدر ما نستفيق مجدداً على أمثولة فاضحة لاستقطابات متخمة بمزاعم التكنولوجيا والعلم والليبرالية والاقتصاد الحرّ، لكنها أيضاً مختنقة بمشاهد الحروب والمجازر والأهوال والفظائع؛ «شرقاً» و»غرباً» على حدّ سواء.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

————————-

اللاعبون الرئيسيون في الميدان يعترفون ثمة شيء مخيف يجري في أوكرانيا

مروان شلالا

تتطور الحرب بين روسيا وأوكرانيا بسرعة إلى حرب بين روسيا وحلف شمال الأطلسي. من ناحية، هذا جيد: إنه يمنح أوكرانيا فرصة أكبر لصد غزو موسكو، وحتى الفوز بالحرب. من ناحية أخرى، الأمر محفوف بالمخاطر: فكلما اتسع انتشار الحرب، وبدا أن روسيا تخسر، شعر فلاديمير بوتين بالهجوم بقوة شديدة.

تمت الإشارة إلى هذا التحول في نهج الغرب تجاه الحرب لأول مرة الإثنين، عندما قال وزير الدفاع لويد أوستن إن أهداف الولايات المتحدة في الحرب لم تكن فقط حماية أوكرانيا كدولة ديمقراطية ذات سيادة، لكن أيضًا “إضعاف” روسيا كقوة عسكرية. كان هذا واضحًا لبعض الوقت، لكن حتى بعض المسؤولين الأميركيين فوجئوا بسماع أوستن يعبر عن الحقيقة بشكل صريح.

بعد أيام قليلة، استضاف أوستن اجتماعًا لمسؤولي الدفاع في 40 دولة، والأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، في قاعدة رامشتاين الجوية، مقر القيادة الجوية لحلف الناتو، في ألمانيا، لتنسيق المساعدة العسكرية لأوكرانيا. دفع الاجتماع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للشكوى، “الناتو، في جوهره، منخرط في حرب مع روسيا من خلال وكيل وهو يسلح ذلك الوكيل. فالحرب تعني الحرب”.

بالعودة إلى فبراير، في اليوم الذي غزا فيه بوتين أوكرانيا، حذر من أن “كل من يحاول إعاقة عملنا” سيواجه “عواقب لم تواجهها في تاريخك”، تهدديات اعتبرها كثيرون تهديدًا باستخدام الأسلحة النووية. وقال بوتين في وقت لاحق إنه سيعتبر تدخل الناتو المباشر تهديدًا لروسيا، مما يؤدي إلى نفس العواقب.

تراجعت القيود

لهذا السبب، امتنع الرئيس الأميركي جو بايدن والقادة الغربيون الآخرون عن إرسال قواتهم الخاصة أو إقامة منطقة حظر طيران بطائراتهم الخاصة، مشيرين إلى أن القيام بذلك سيعني إعلان الحرب على روسيا، ما قد يؤدي إلى اندلاع الحرب العالمية الثالثة. في الأسابيع العديدة الأولى من الحرب، رفض هؤلاء القادة أيضًا إرسال “أسلحة ثقيلة” إلى أوكرانيا، بما في ذلك مدافع الهاوتزر وقذائف المدفعية التي يمكن أن تضرب الأراضي الروسية إذا أطلقت من شرق أوكرانيا.

في الأيام الأخيرة، خففت الدول الغربية من القيود المفروضة على الأسلحة الثقيلة. حتى البرلمان الألماني – الذي، لأسباب تاريخية، ابتعد عن أي نوع من التدخل في الحروب الخارجية، حتى قبل شهرين – صوت بأغلبية ساحقة لإرسال أسلحة ثقيلة إلى أوكرانيا. في وقت سابق، عزز المستشار الألماني ميزانية الدفاع في بلاده بمبالغ باهظة.

يوم الخميس، طلب بايدن من الكونغرس 33 مليار دولار أخرى كمساعدات لأوكرانيا – ثلثاها للمساعدة العسكرية، وهو ما يكفي لمواصلة القتال خمسة أشهر أخرى. هذا إضافة إلى 13.6 مليار دولار طلبها بايدن قبل شهرين فقط. المبلغ الإجمالي يتجاوز قليلاً 40 مليار دولار التي أنفقتها الولايات المتحدة في المتوسط كل عام لدعم حربها التي استمرت 20 عامًا في أفغانستان.

استند بايدن أيضًا إلى قانون الإعارة والتأجير الذي يعود إلى حقبة الحرب العالمية الثانية للإسراع بنقل الأسلحة من مخزون الجيش الأميركي. سمح هذا التشريع بإقراض المعدات العسكرية للدول الأجنبية “التي يعتبر الرئيس دفاعها أمرًا حيويًا للدفاع عن الولايات المتحدة”.

دفاع حيوي

هناك إذًا في إعلان بايدن: الدفاع عن أوكرانيا “حيوي للدفاع عن الولايات المتحدة”.

ربما ردًا على هذه الزيادة في المساعدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي – على الرغم من أنه لا شك أيضًا في تصعيد الأداء المروع لجيشه – يقترب بوتين من رؤية الصراع ليس مجرد “عملية عسكرية خاصة” ضد أوكرانيا، والتي وصفها بأنها دولة أسطورية، لكنها حرب شاملة ضد قوة عظمى عالمية. يوم الأربعاء، عين فاليري جيراسيموف، رئيس الأركان العامة الروسية، لتولي قيادة الهجوم في شرق أوكرانيا.

هذا لا يعني بالضرورة أن الجيش الروسي سوف ينقلب فجأة إلى رؤساء الأركان، حتى لو كان أحدهم مشهورًا مثل جيراسيموف، ليس لديهم بالضرورة خبرة عملياتية، لكنه يشير إلى أن بوتين أعاد تقييم طبيعة الحرب ورفع مخاطرها. كما لم يتنازل بوتين عن أي أرض لأوكرانيا، على الرغم من الانسحاب الأخير للقوات الروسية من المنطقة المحيطة بكييف. على الرغم من أن القتال يتركز الآن في منطقة دونباس بشرق البلاد، حيث يتبادل الجانبان نيران المدفعية الشرسة، أطلقت روسيا صاروخين كروز على كييف بعد ساعات فقط من زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش للعاصمة والتقى بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

ليس صدفة

يشير توقيت الهجوم الصاروخي – الذي يرى القليلون أنه مجرد مصادفة – إلى أن بوتين يعتبر الأمم المتحدة مؤسسة خارجية أخرى مصطفة ضد وطنه الأم. وسواء كان يؤمن بذلك حقًا أم لا، فإنه يلعب دورًا في حملته السياسية المحلية لتطهير روسيا من جميع التأثيرات الغربية – ولتقديم الحرب في أوكرانيا، التي يصورها على أنها حفرة جحيم يقودها النازيون، كواجهة واحدة في هذه الحملة.

وابل من الهجمات المكثفة والخطاب الشيطاني المتزايد يجعل من الصعب تخيل وقف لإطلاق النار أو محادثات سلام هادفة في أي وقت قريب.

حدث واحد غير متوقع هذا الأسبوع قدم بعض الأسباب للشعور بقليل من التشاؤم. أجرت الولايات المتحدة وروسيا، الأربعاء، عملية تبادل أسرى مخطط لها بشكل متقن. تم إطلاق سراح تريفور ريد، وهو من قدامى المحاربين في مشاة البحرية الأميركية، من سجن في موسكو حيث كان يقضي ثلاث سنوات من عقوبة طويلة لاعتدائه على ضابط. تم إطلاق سراح قسطنطين ياروشينكو، وهو طيار روسي، من سجن فيدرالي حيث كان يقضي عقوبة بالسجن لمدة 20 عامًا بتهمة تهريب المخدرات. تمامًا كما في مشهد من فيلم، طائرتان – واحدة أميركية والأخرى روسية – توقفت جنبًا إلى جنب على مدرج في تركيا ؛ نزل كل سجين من طائرته، وسار بضع ياردات، وصعد إلى الطائرة الأخرى.

كما أشارت وكالة أسوشيتيد برس، فإن تبادل الأسرى “كان يمكن أن يكون مناورة دبلوماسية ملحوظة حتى في أوقات السلم”، ناهيك عن وقت كانت الحرب في أوكرانيا “قد دفعت العلاقات مع الولايات المتحدة إلى أدنى مستوياتها منذ عقود”. لا توجد مؤشرات على أن الدبلوماسية المثمرة في هذه المسألة الصغيرة نسبيًا قد تُترجم إلى نجاحات مماثلة على مستوى الحرب والسلام. في الواقع، بينما كان بايدن يصرح بمبادلة الأسرى، فإنه يثبط عزيمة أي شخص يفكر في مثل هذه التداعيات. ومع ذلك، تشير تجارة ريد – ياروشينكو إلى أن العلاقات الدبلوماسية – الاتصال المدني بين المسؤولين الأميركيين والروس – لا تزال قائمة على مستوى ما.

ليس من غير المعقول أن يشعر بوتين، الذي يرى الحرب على أنها صراع جبار مع الولايات المتحدة، بالجرأة لإلقاء إحساس بالسلام على واشنطن، إذا شعر يومًا بأنه يرغب في إيقاف الحرب على الإطلاق. قد يشعر بمزيد من الكرامة عند التفاوض مع رئيس الولايات المتحدة أكثر مما يشعر به مع رئيس أوكرانيا. ما إذا كان من مصلحة أي شخص السماح له بالشعور بمزيد من الكرامة، فهذه مسألة أخرى.

أعدت “إيلاف” هذا التقرير عن موقع “سلايت”

ايلاف

—————————–

واشنطن بوست: فشل روسيا في الحرب الإلكترونية سبّب لها خسائر فادحة في الميدان

إبراهيم درويش

أوضحَ المعلق في صحيفة “واشنطن بوست” ديفيد إغناطيوس الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في دعم أوكرانيا في مجال الحرب الإلكترونية.

وقال إنه عندما ستتم كتابة تاريخ الغزو الروسي لأوكرانيا فربما سيكون الفصل الخاص بالحرب الإلكترونية من أكثر الفصول دلالة، وهو الفصل الذي كانت فيه المساعدة الأمريكية الأقل وضوحاً والأكثر فائدة. وأضاف أن من بين أفدح الأخطاء التي ارتكبتها روسيا عندما غزت أوكرانيا توقّعها أنها ستهيمن على جانب الحرب الإلكترونية في المعركة.

وبدلاً من ذلك، تعثّرت وضلّت طريقها في المجال غير المعروف المتمثّل في اعتراض الاتصالات وتشويشها، وهو عنصر أساسي بشكل متزايد للنجاح العسكري. وقال إن الفشل غير المتوقع لروسيا في ميدان الحرب الإلكترونية يقدّم موضوعاً للدراسة حول الخطأ الذي حدث لموسكو منذ بدء الغزو في 24 شباط/ فبراير.

 فقد بالغ الروس في تقدير قدراتهم الخاصة، واستخفّوا بقدرات أوكرانيا – ولم يحسبوا قوة الدعم العسكري من حلف الناتو لكييف. تركت هذه الإخفاقات القوات الروسية – وحتى بعض كبار جنرالاتها – عرضة للهجوم. ويقول اللفتنانت جنرال المتقاعد بن هودجز، موضحاً تراجع موسكو على هذه الجبهة: “لقد كان مزيجاً من الغطرسة الروسية والبراعة الأوكرانية”. وقاد هودجز قوات الجيش الأمريكي في أوروبا من 2014 إلى 2018، وبرز كواحد من أكثر المعلقين معرفة بالحرب.

 وقال إغناطيوس إن الحرب الإلكترونية، هي إحدى الفنون العسكرية الغريبة التي يمكن أن تكون حاسمة في ساحة المعركة الحديثة، ولكنها تكاد تكون غير معروفة لعامة الناس. والهدف هو مهاجمة الخصم من خلال التلاعب بالطيف الكهرومغناطيسي – من خلال التشويش أو اعتراض أو تغيير الاتصالات أو الرادار أو إشارات نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي أس)  أو إشارات أخرى. فهذه  هي نسخة القرن الحادي والعشرين لما وصفه أحد كبار العلماء البريطانيين خلال الحرب العالمية الثانية بـ “حرب البارعين”.

وبرز ضعف روسيا بوضوح في نهاية الأسبوع الماضي، عندما أفيد أن الميجور جنرال أندريه سيمونوف، من بين كبار المتخصصين في الحرب الإلكترونية في بلاده، قُتل في غارة بالمدفعية الأوكرانية على موقع قيادة بالقرب من إيزيوم. حقيقةُ أن أوكرانيا يمكن أن تضرب مثل هذا الموقع الحساس تُوضّحُ إتقانها المثير للدهشة في الاستهداف الدقيق والهجوم.

ويقول الخبراء إن أوكرانيا استطاعت التنصّت على الاتصالات الروسية، وشوّشت على إشاراتها، وأعمت مراقبتها، واستولت على بعض أنظمة الحرب الإلكترونية الأكثر تقدماً.  مشيراً إلى أن أمريكا وشركاءها في حلف شمال الأطلسي قدموا معدات وتدريباً بالغ الأهمية للحرب الإلكترونية. لكن الخبراء الأمريكيين يقولون إن الأوكرانيين أنفسهم هم من استخدموا هذه الأسلحة عالية التقنية لحماية وطنهم.

وكان نجاح أوكرانيا ملحوظاً جزئياً بسبب التوقعات الأولية الواسعة الانتشار بين قادة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بأن روسيا ستهيمن على ساحة المعركة الكهرومغناطيسية في هذه الحرب. لقد بنت روسيا أنظمة يمكنها، من الناحية النظرية، أن تخلق فقاعة إلكترونية حول قواتها، مما يؤدي إلى عمى الخصوم بشكل فعال. خشي القادة الأمريكيون من أن تكون الوحدات الأوكرانية معزولة وغير قادرة على التواصل في هذا الضباب الإلكتروني للحرب.

لكن كييف أعادت بناء قدراتها بعد تعرّضها لانتكاسات مريرة خلال هجمات 2014 و2015 على شرق أوكرانيا. كان نجاح الحرب الإلكترونية الروسية في ذلك الوقت مذهلاً، وكان بعض كبار المسؤولين في البنتاغون يخشون أن يتكرر هذا العام. لكن مع استعداد القادة الروس لغزو عام 2022، ارتكبوا خطأين فادحين: لقد افترضوا أن الجيش الأوكراني لم يتقدّم بشكل كبير منذ عام 2015، وتجاهلوا تأثير المعدات والتدريب التي قدمها حلف شمال الأطلسي.

 فقد بدأت الولايات المتحدة بعد عام 2015 بتزويد أوكرانيا بأجهزة راديو ألـ3 هاريس آمنة لا يمكن تشويشها بسهولة، على عكس المعدات القديمة التي تعود إلى الحقبة السوفيتية التي كانت أوكرانيا تستخدمها.

وهناك ملاحظة مثيرة للاهتمام هنا: كانت أجهزة راديو أل3 هاريس من بين المعدات العسكرية التي حجبها الرئيس دونالد ترامب عن أوكرانيا أثناء محاولته الحصول على مكاسب سياسية من الرئيس فولوديمير زيلينسكي في عام 2019، كما ذكرت في ذلك الوقت.

وتعلم الأوكرانيون استخدام هذه الأدوات الحديثة للحرب في قاعدة تدريب – تُعرف باسم مجموعة التدريب المشتركة متعددة الجنسيات – أوكرانيا – التي تأسست في عام 2015 من قبل الولايات المتحدة وبعض الشركاء من حلف الناتو في مركز يافوريف للتدريب القتالي في غرب أوكرانيا، بالقرب من لفيف.

وقال هودجز إن القادة الأمريكيين تعلموا الكثير من مشاهدة الأوكرانيين وهم يستعدون للقتال في ساحة معركة متنازع عليها في الحرب الإلكترونية، لدرجة أنهم راجعوا ممارسات التدريب الخاصة بالجيش الأمريكي في التدريبات في هوهينفيلس بألمانيا.

ويقول خبراء عسكريون أمريكيون إن الطريقة الروسية في الحرب في ساحة المعركة الإلكترونية تعاني من بعض القيود نفسها التي أعاقت القوات الروسية بشكل عام. الأنظمة الروسية كبيرة ومناسبة تماماً للمواقع الثابتة، بدلاً من الهجوم المتنقّل المتشعّب الذي أطلقته روسيا في شباط/ فبراير. عملت الأنظمة الروسية بشكل جيد في منطقة المعركة الضيقة في دونباس في عام 2014، وقد تكرر هذا النجاح في حملة دونباس الجديدة التي بدأت الشهر الماضي.

كما أعاقت بنية القيادة المركزية من أعلى إلى أسفل في روسيا قوات الحرب الإلكترونية في التكيّف بسرعة ولم يكن هناك أي ضباط صف روسيين يمكنهم إجراء إصلاحات سريعة. ولأن الروس كانوا يفتقرون إلى التفوق الجوي الكامل على أوكرانيا، فقد ظلت طائراتهم في الحرب الإلكترونية غالبا في منطقة آمنة في روسيا وبيلاروسيا – مما حدّ من قدرات جمع الإشارات والتشويش.

عندما تعطّلت معدات الاتصالات المتقدمة الخاصة بهم، لجأ الروس إلى الهواتف المحمولة على الشبكات الأوكرانية، والتي كشفت ليس فقط عن خططهم ولكن مواقعهم – مما سمح بهجمات دقيقة. كانت الانتكاسة الأخرى هي استيلاء أوكرانيا على بعض معدات الحرب الإلكترونية الأكثر حساسية في روسيا، بما في ذلك جزء من مجموعة كراسوكا-4  المتقدمة، والتي سرعان ما حاول الأوكرانيون إعادة هندستها واستخدامها ضد الروس.

———————–

حرب أوكرانيا..هل من مكاسب اقتصادية لسوريا؟/ إياد الجعفري

خلال الأيام السبعين الفائتة منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، كُتب الكثير عن الآثار الاقتصادية لهذه الحرب، على الوضع بسوريا. وبهذا الصدد، قد يكون من المفيد مناقشة بعض الاحتمالات التي طرحتها دراسة تحليلية صدرت عن مركز جسور للدراسات، خلال شهر نيسان/أبريل الفائت.

الدراسة التي حملت عنوان “أثر الغزو الروسي لأوكرانيا على النظام السوري”، والتي أعدها فريق من الباحثين، تناولت مختلف الجوانب، العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية. لكن أكثر ما أثار اهتمامنا في الدراسة، تلك الآثار الاقتصادية “الإيجابية” التي طرحها الباحثون، بوصفها محتملة على المدى المتوسط والبعيد.

 إلا أننا سنبدأ باستعراض أبرز الآثار السلبية، بدايةً. فارتفاع فاتورة الغذاء على حساب السوريين، نتيجةٌ مفروغ منها للغزو. وهي نتيجة عمّت مختلف أصقاع الأرض، لكنها في الحالة السورية، لها خصوصيتها، في “دولة” تعاني من حالة أشبه بالإفلاس، وتراهن على القروض والخطوط الائتمانية من “الأصدقاء”، للاستمرار في تأمين الحد الأدنى من حاجة السوريين من رغيف الخبز.

وفي حين يتوقع معدّو الدراسة، أن تستثني روسيا نظام الأسد، من حظر تصدير الحبوب، الذي قررته قبل أسابيع، إلا أنهم يستبعدون تماماً حصول أي مراعاة من جانب موسكو في تحصيل ثمن الحبوب المصدّرة للنظام، والذي سيكون وفق الأسعار العالمية المُستجدة. ونتفق دون شك، مع هذا التحليل، إذ من غير الوارد أن تقدم موسكو امتيازات مضاعفة حتى لأقرب حلفائها، في هذا التوقيت بالذات، حيث يشكل تحصين اقتصادها ومعيشة شعبها من آثار العقوبات الغربية، الهمّ الرئيس لها.

أما ثاني أبرز أثر اقتصادي سلبي، فهو أن حبل القروض الائتمانية الروسية المقدّمة للنظام، سينقطع تماماً، على الأرجح. فروسيا التي جُمدت أصولها من القطع الأجنبي في الدول الغربية، ستكون حريصة للغاية على ما تبقى لديها من هذا القطع. وقد يكون آخر قرض روسي، قُدّم للأسد نهاية العام الفائت، بغرض شراء مواد غذائية، هو آخر خطوط الائتمان الروسية المقدّمة للنظام، لفترة طويلة قادمة.

لكن، هل من مكاسب “إيجابية” على الاقتصاد السوري؟ وفق الدراسة، فإن بعض الاستثمارات الروسية قد تنتقل إلى سوريا، بعد أن فقدت مواطن الجذب في الغرب. فمع تقلص إمكانية استثمار المال الروسي في عدد كبير من دول العالم، جراء العقوبات الغربية، فإن ذاك المال سيتجه للداخل الروسي، وللدول الحليفة. ومنها سوريا.

تبدو الاحتمالية المفصّلة أعلاه، واردة نظرياً. لكن من الناحية العملية، لم تنعدم خيارات تغيير اتجاه الاستثمارات الروسية. ووفق تقارير وسائل إعلام عالمية، فإن أموالاً روسية “ساخنة” تتحرك سريعاً إلى وجهات بديلة، أبرزها، الإمارات وتركيا وإسرائيل. ولم يُسجَّل حتى ساعة كتابة هذه السطور، أي تحرك استثماري روسي باتجاه سوريا. وحتى على المدى المتوسط والبعيد، فإن الاستثمار في بلدٍ مُعاقب، تنخفض القدرة الشرائية لمواطنيه بصورة كبيرة جداً، يبدو أشبه بمغامرة يائسة. وقد يكون في تسرب رأس المال الإيراني بكثافة إلى دبي، خلال سنوات ما قبل الاتفاق النووي عام 2015 -حينما كانت إيران ترزح تحت ضغط عقوبات دولية-، أبرز مثال يدفعنا للتريث في توقع “يأس” رأس المال الروسي من كل الوجهات البديلة، إلى درجة الرهان على بلدٍ يفرّ منه رأس المال المحلي.

وانطلاقاً من النقطة الأخيرة، نشير إلى توقع الدراسة أن يجد رأس المال السوري، موطئ قدمٍ أكثر جاذبية في الداخل الروسي. فموسكو ستكون حريصة في الفترة القادمة، على جذب الاستثمارات إلى أراضيها، للتعويض عن الاستثمارات الغربية المنسحبة. وتتوقع الدراسة أن تمنح موسكو مزايا إضافية لرأس المال المُستثمر لديها، ومع توقع حصول انخفاض مستقبلي لسعر صرف الروبل، فسيتمتع الاستثمار “الصغير” بجدوى أكبر في روسيا، مما سيجذب مستثمرين سوريين. وهو توقع محتمل بالفعل، نظراً لأن رأس المال السوريّ أظهر خلال نهاية صيف العام 2021، حراكاً ملحوظاً للخروج من البلاد، بأي طريقة. فالظروف الاستثمارية هناك، باتت منفّرة إلى أقصى الحدود. لكن لا نعرف كيف يمكن توصيف ذلك بأنه “أثر اقتصادي إيجابي”! فانسحاب المزيد من رأس المال المحلي من الداخل السوري، ينعكس سلباً على معيشة السوريين، وعلى اقتصاد البلاد.

الدراسة توقعت أيضاً، زيادة التبادل التجاري بين نظام الأسد وبين الدول “المجهرية” التي تحميها روسيا، كـ شبه جزيرة القرم، ودونتيسك ولوغانسك، وكذلك، أبخازيا وأوسيتيا. وهو توقع وارد فعلاً، لكنه ليس بالشيء الجديد، فهذا المسعى بدأ قبل الغزو. ولا يمكن اعتباره، أثراً “إيجابياً”، بل على العكس. فأن تضيق خيارات التبادل التجاري لـ “سوريا الأسد”، كي تصبح لصالح تلك الدول “المجهرية”، يعني تراجعاً اقتصادياً، وليس تحسناً. ناهيك، عن أن ذلك لن ينعكس إيجاباً على فاتورة الغذاء مثلاً، إذ ستبقى “دول” كـ “جزيرة القرم”، تطالب الأسد بدفع أثمان الحبوب، بالسعر العالمي الجديد، بحيث يصبح خيار الحبوب “الهندي”، أكثر جدوى للنظام، وفق إقرار مسؤوليه.

وفي الختام، قد تكون أبرز خلاصة قدمتها الدراسة، والتي نتفق معها بشكل كبير، أن هناك معادلة ستحكم العلاقة الروسية – السورية، في الفترة القادمة. أنه كلما زاد التورط الروسي في أوكرانيا، كلما تراجعت سوريا في قائمة الاهتمامات الروسية، مما سيتيح الفرصة لإيران، لتوسيع نفوذها، وملء أي فراغ قد تتركه روسيا مضطرةً.

من جانبنا، قد نقدم ترجمة اقتصادية لهذه المعادلة. إن لم يحصل اتفاق نووي إيراني – غربي، واستمرت حالة التوتر في الإقليم جراء ذلك، ومع التوسع المحتمل للنفوذ الإيراني بسوريا، فإن خيار دول عربية بالانفتاح الاقتصادي على نظام الأسد، سيصبح أكثر صعوبة، وأقل جدوى. ناهيك عن أن خيارات الغرب قد تتجه نحو تشديد العقوبات على نظام الأسد، للجم النفوذ الإيراني، ولممارسة مزيد من الضغط ضد روسيا، في معرض الصراع الدائر بين هذه الأطراف.

المدن

—————————–

فورين بوليسي: القومية قوة حية وتجاهلها يقود لأخطاء كارثية… فقط انظر إلى معضلة بوتين اليوم

إبراهيم درويش

تحت عنوان “النخب لم تفهم بعد معنى القومية” قدم البروفيسور ستيف وولت، أستاذ العلاقات الدولية تحليلا في ضوء الحرب الجارية في أوكرانيا، مؤكدا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس الزعيم الوحيد الذي لم يستطع فهم كيف ستقوم القومية الأوكرانية بإحباط محاولاته لإحياء النفوذ الروسي. وقال “لو طلب رئيس دولة أو وزير خارجية نصيحتي، فلا تقلق، لأن هذا لن يحدث أبدا. وربما بدأت بالقول “احترم قوة القومية”، لماذا؟ لأنني كلما نظرت إلى معظم القرن الماضي وفكرت بما يحدث اليوم، اكتشفت أن الفشل في فهم هذه الظاهرة القوية قد قاد عددا من القادة (وبلدانهم) إلى الكوارث المكلفة”.

وقال إنه ذكر بضرورة فهم القومية في 2019 و 2011 و 2021. إلا أن الأحداث الأخيرة تستدعي التذكير به من جديد. ما هي القومية؟ الجواب يتكون من شقين. الأول، يبدا بالاعتراف أن العالم يتكون من جماعات اجتماعية تشترك بملامح ثقافية مهمة- لغة مشتركة، تاريخ، نسب، وأصول جغرافية وغير ذلك. ومع مرور الوقت بدأت بعض هذه الجماعات بالنظر إلى نفسها على أنها تمثل كيانا خاصا- أمة. ولا تحتاج الأمم لأن تكون دقيقة في سيرتها وتاريخها، وبالتأكيد فالسرد القومي عادة ما يكون نسخة مشوهة من الماضي. وما يهم هو أن أفراد الأمة يعتقدون بأنهم كل واحد. أما الشق الثاني، فهي عقيدة القومية التي تؤكد على حق كل دولة حكم نفسها وألا يحكمها ناس من الخارج. وفيما يتعلق بهذا فإن الأمم الموجودة عادة ما تشعر بالقلق من الذين لا ينتمون إليها، أي اللاجئين والمهاجرين من ثقافات أخرى ممن يحاولون الدخول والإقامة في المنطقة. ومعظم الدول لديها مهاجرون وهي ظاهرة قديمة، وعادة ما تحدث عمليات اندماج، لكن وجود أشخاص لا يعتبرون جزءا من الأمة يظلون مصدرا للنزاع.

وما دمنا نعرف الأن معنا القومية، فما علينا الآن إلا النظر في القادة الذي فشلوا في فهم معناها وقوتها. ولنبدأ ببوتين الذي لم يفهم كيف ستحبط القومية الأوكرانية خططه لإحياء التأثير الروسي في أوكرانيا عبر عملية عسكرية سريعة. وكانت الجهود الروسية تعاني من الأخطاء من بدايتها، إلا أن المقاومة الأوكرانية الشرسة كانت العقبة التي وقفت في طريق الروس. ونسي بوتين ومن معه أن الأمم مستعدة في العادة لتكبد خسائر وقتال الغزاة الأجانب مثل النمور، وهذا ما فعله الأوكرانيون. إلا أن بوتين ليس الزعيم الدولي الوحيد الذي قام بعملية فاشلة كهذه، ففي معظم القرن العشرين خاضت الإمبراطوريات الاستعمارية حربا مكلفة وغير ناجحة في النهاية لكي تحكم الغطاء على الأمم الثائرة وإبقائها في مجالها الاستعماري. وفشلت هذه الجهود في كل مكان تقريبا من الهند إلى الهند الصينية وأيرلندا والشرق الأوسط ومعظم إفريقيا، وبثمن إنساني باهظ. كما لم تكن جهود اليابان في غزو وتوسيع مجال تأثيرها في الصين بعد عام 1931 ناجحة.

وعندما يتعلق الأمر بفهم معنى القومية، لم تكن الولايات المتحدة جيدة في هذا أيضا. ورغم فهم الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان وبقية المسؤولين الأمريكيين عن القومية وأنها أقوى من الشيوعية وأن المخاوف من الكتلة الشيوعية مبالغ فيها، إلا أن معظم المسؤولين الأمريكيين ظلوا خائفين من أن الحركات اليسارية ستضحي بمصالحها القومية وتقوم بمتابعة موسكو لأسباب أيديولوجية.

وفي حرب فيتنام، قاد عمى مشابه القادة الأمريكيين لإساءة تقدير الثمن الذي كانت شمال فيتنام مستعدة لدفعه من أجل توحيد البلد. وندم الاتحاد السوفيتي على غزوه أفغانستان عام 1979 لأنه فشل بمعرفة الشراسة التي سيقاتل الأفغان فيها القوات الأجنبية. ولم يفهم قادة الولايات المتحدة بعد 9/11 أيا من الدروس، وظن جورج دبليو بوش أن من السهل الإطاحة بالأنظمة واستبدالها بأنظمة ديمقراطية براقة، لأن إدارته افترضت أن الأفغان والعراقيين يحنون للديمقراطية والحرية وأنهم سيرحبون بالقوات الأمريكية كمحررين. وما حصلت عليه الإدارة بدلا من ذلك مقاومة عنيدة وناجحة في النهاية، لأن السكان المحليين لم يريدو تلقي أوامر من الأمريكيين ولا تبني القيم الغربية ومؤسساته.

ولا ينحصر الفشل في فهم القومية على الحرب والاحتلال، فالاتحاد الأوروبي أنشئ كمؤسسة تتعالى على الروابط القومية ومن أجل تعزيز الهوية القومية المشتركة وتخفيف ضغوط التنافس التي قادت إلى حروب مدمرة في الماضي. ويمكن للواحد أن الاتحاد الأوروبي كان له تأثير المهدئ، مع أن الكاتب يرى أن هناك عوامل أخرى أهم. ذلك أن الهويات القومية لا تزال موجودة في الفضاء السياسي الأوروبي وتعمل على إرباك توقعات النخبة. فمن ناحية تقوم بنية الاتحاد الأوروبي على منح الأولوية للحكومة الوطنية التي تكره التنازل لبروكسل. وهو ما يفسر فشل الاتحاد الأوروبي في تشكيل “سياسة خارجية وأمنية مشتركة”. وفي كل مرة يواجه فيها الاتحاد الأوروبي أزمة لا يلتفت المسؤولون فيه إلى بروكسل ولكن لحكوماتهم المنتخبة. ولم تكن الوحدة موجودة أثناء أزمة اليورو عام 2008 ولا كوفيد-19، بل كانت كل دولة لنفسها. كما أن فشل المراقبين في فهم قوة القومية جعلهم يقللون من مخاطر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو صعود الأحزاب اليمينية القومية مثل حزب القانون والعدالة في بولندا والرئيس الهنغاري فيكتور أوربان وحزبه. وفاز الحزبان في الانتخابات مرة وثانية بطريقة تناقض القيم الليبرالية للاتحاد الأوروبي. كما أن صعود دونالد ترامب نابع من تسويقه لنفسه على أنه وطني أمريكي على تناقض مع نخب العولمة الفاسدة التي اتهمها ببيع أمريكا.

ووضع منبره السياسي وشخصيته القومية الأمريكية في الصدارة، سواء من شعاره “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” أو “أمريكا أولا”. وأي شخص اندهش من صعود ترامب فما عليه إلا أن يدرس الكيفية التي استند فيها على مفهوم القومية وفهمه لها أكثر من أي سياسي أمريكي معاصر.

ولأن القومية حية وقوية، فالسؤال هو عن السبب الذي يجعل قادة أذكياء التقليل من أهميتها؟ وربما كان هذا راجعا إلى المفهوم نفسه. فالأمم لا تنظر إلى نفسها على أنها مهمة واستثنائية بل ومتفوقة ولهذا فقدرها الانتصار في النزاعات عندما تحصل. ومن الصعب اكتشاف هذه النقطة العمياء في أمم أخرى. ولم يستطع الأمريكيون التعرف عليها وأن الفيتكونغ أو طالبان سيكبدونهم الهزيمة. وربما كان من الصعب على بوتين أن يكتشفها في الأوكرانيين وأنهم سيقفون ضد الغزو الروسي. وعادة ما تتجاهل النخب قوة القومية لو عاشت في فقاعات كوزموبوليتية. ولو شاركت في المنبر الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا كل عام وعقدت صفقات حول العالم والتقيت مع أشخاص من دول مختلفة ويشتركون معك في الرأي ويرتاحون في العيش خارج بلادهم مثل عيشك في بلدك الأصلي، فمن السهل أن يفوتك أن أشخاصا خارج دائرتك الاجتماعية يتمسكون بأماكنهم ومؤسساتهم المحلية وحس الانتماء للأمة. وتؤكد الليبرالية على الفردية، وحريتك الفردية أو حريتها هي نقطة عمياء أخرى لأنها تحرف نظرنا عن الروابط الاجتماعية والالتزامات بالجماعة ونجاتها والتي يراها الكثيرون أهم من الحرية. وفي النهاية لو طلب قائد سياسي من الكاتب النصح حول مناورة في السياسة الخارجية، فأول سؤال هو عن القومية وإن أخذوها بعين الاعتبار. ويذكرهم بمخاطر تجاهلها. وربما لا تكون مهتما بالقومية لكنها مهتمة بك.

القدس العربي

———————–

=====================

نتيجة حصول خطأ فني في القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة” نستمر في تغطية هذا الملف الحيوي هنا

===================

تحديث 11 أيار 2022

————————–

ماذا يعني الانضمام الموعود لفنلندا والسويد إلى الناتو؟/ أنطوان الحاج

تكثر تداعيات الحرب في أوكرانيا في المحيط المباشر وأبعد منه، وتشمل السياسة والاقتصاد والجغرافيا. ومن الآثار المباشرة لهذه «العملية العسكرية الخاصة»، كما سمّاها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اهتزاز الاتحاد الأوروبي و«استفاقة» حلف شمال الأطلسي (ناتو). وإذا كان اهتزاز الأول لا يزال في بداياته وليست واضحة حالياً صورة مراحله الآتية، فإن تعزيز الثاني وجوده العسكري في عدد من الدول الأوروبية معلَن وملموس، والأهم في حراك الأطلسي الخروج المرجّح لفنلندا والسويد من قوقعة الحياد ودخولهما القريب منظومة الناتو بعد عقود من «التحفظ النوردي».

ماذا يعني ارتداء فنلندا والسويد البزة العسكرية الأطلسية؟

إذا أفترضنا أن من أسباب الحرب الروسية في أوكرانيا نية فلاديمير بوتين تغيير البنية الأمنية لأوروبا ووقف توسع الناتو شرقاً، فإن هذا الهدف يبدو بعيداً عن التحقق، ذلك أن مقابل منع أوكرانيا (وجورجيا) من دخول الأطلسي، نرى الحلف يرسّخ وجوده شرقاً ويتوسع شمالاً ويوسّع حضوره القطبي وعلى ضفاف بحر البلطيق.

يقارن رئيس الوزراء ووزير الخارجية السويدي السابق كارل بيلدت الهجوم الروسي على أوكرانيا بالهجوم الألماني على بولندا في سبتمبر (أيلول) 1939. ويقول إن الحالتين تتشابهان من حيث أن دولة قوية هاجمت دولة مجاورة لأن الأولى لا تعترف حقيقةً باستقلال الثانية…

ويرى بيلدت أن الهجوم الروسي غيّر نظام الأمن الأوروبي بطريقة عميقة، خصوصاً لجهة رص الصفوف الأطلسية بعد سنوات من الجمود والبرود، وتعالي أصوات أوروبية تسأل عن جدوى وجود الناتو وتدعو إلى قيام «جيش أوروبي». والكل يتذكّر انتقادات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب للدول الأوروبية الأعضاء في الحلف التي تتلكأ في الإنفاق العسكري وفق ما هو متفق عليه في المعاهدة الأطلسية. فالآن سيزداد الإنفاق العسكري في أنحاء أوروبا. واتفق أعضاء الناتو الأوروبيون فجأة على إنفاق ما لا يقل عن 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع. وستضيف ألمانيا ما يعادل 0.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي إلى الإنفاق الدفاعي في عام واحد.

والأهم من هذا، أن التحالف يستعد لضمّ فنلندا والسويد إلى صفوفه، علماً أن البلدين طوّرا علاقاتهما مع الناتو منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014.

*فنلندا

تقع فنلندا في أقصى شمال أوروبا. لديها حدود برية مع السويد من الشمال الغربي والنرويج من الشمال وروسيا من الشرق. تبلغ مساحتها أكثر بقليل من 338 ألف كيلومتر ويبلغ عدد سكانها 5 ملايين و500 ألف نسمة. والأهم هنا أن الحدود البرية بين فنلندا وروسيا تبلغ 1340 كيلومتراً، وأن فنلندا بقيت جزءاً من الأمبراطورية الروسية بين 1809 وإعلان الاستقلال في 6 ديسمبر (كانون الأول) 1917.

وفي فترة الحرب الباردة حافظت فنلندا على سلامتها فلم تدخل المحاور، وحذت السويد جارتها حذوها. أما الآن فسيتحول التعاون العسكري القائم منذ سنوات بين فنلندا والناتو إلى اندماج. وتجدر الإشارة هنا إلى أن عديد الجيش الفنلندي لا يتجاوز 23 ألف عسكري، يضاف إليهم نحو 900 ألف من المدنيين المدرّبين عسكرياً. ويضم سلاح الجو الفنلندي 192 طائرة، منها 55 مقاتلة. وسلاح البر 200 دبابة و850 قطعة مدفعية. أما سلاح البحرية فيضم 246 قطعة مختلفة.

في أي حال، ما حصل في أوكرانيا أقنع القيادة الفنلندية في هلسينكي بأن الحياد لم يعد ممكناً واحتمال حصول هجوم روسي على أراضيها قائم… قالت رئيسة الوزراء الفنلندية سانا مارين في منتصف أبريل (نيسان): «كل شيء تغير عندما غزت روسيا أوكرانيا».

*السويد

تقع السويد بدورها في الشمال الأوروبي. تحدها النرويج من الغرب والشمال، وفنلندا من الشرق، وتتصل بالدنمارك في الجنوب الغربي بواسطة نفق. تفوق مساحتها 450 ألف كيلومتر مربع، وهي بالتالي أكبر دولة في شمال أوروبا، وخامس أكبر دولة في أوروبا، وثالث أكبر دولة في الاتحاد الأوروبي. ويبلغ عدد سكان السويد 10 ملايين و400 ألف نسمة.

مرت السويد تاريخياً بمراحل عديدة، لكن أول مملكة سويدية موحّدة نشأت أوائل القرن الثاني عشر. وانتهجت البلاد نهج الحياد في حقب مختلفة، ومنها الحربان العالميتان الأولى والثانية. وبقيت السويد رسميًا دولة محايدة وظلت خارج عضوية الناتو وخصمه حلف وارسو خلال الحرب الباردة، إلا أنها نسجت علاقات متينة مع الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى.

يبلغ عديد الجيش السويدي حوالى 25 ألف فرد، ويتميز بقوة جوية ضاربة يبقى حجمها سرياً وتراوح التقديرات في شأنها بين 300 وألف طائرة. أما البحرية فتضم أكثر من 180 قطعة من بينها خمس غواصات.

صحيح أن السويد لا تملك حدوداً برية مع روسيا، لكن «الهمّ الروسي» يجمعها مع برّ فنلندا ومياه بحر البلطيق وجليد القطب الشمالي.

وجاء غزو أوكرانيا ليقنع الحكومة السويدية التي ترأسها ماغدالينا أندرسون بأن تطلق نقاشاً داخلياً للبحث في الأمر، والتشاور في المسألة مع الحلفاء وآخرهم رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون…

*التداعيات

يُتوقّع صدور القرارين الفنلندي والسويدي بشأن الانضمام إلى الناتو خلال أيام، على أن يبتّ الحلف الأمر في قمته المقبلة التي تستضيفها مدريد في 29 يونيو (حزيران) و30 منه.

وسيؤدي انضمام فنلندا والسويد المرجَّح إلى الناتو إلى تغيير الهيكلية الأمنية الأوروبية تغييراً جذرياً، فـ«جبهة» أوروبا الشمالية ستكون موحّدة وصلبة في مواجهة روسيا وتتيح سيطرة أكبر للأطلسي على بحر البلطيق حيث سترتاح جمهوريات إستونيا ولاتفيا وليتوانيا الخائفة على الدوام من جارها الروسي. يضاف إلى ذلك أن الدولتين الشماليتين ستحسّنان العلاقات بين الأطلسي والاتحاد الأوروبي، كونهما عضوين في الأخير منذ العام 1995، فتكملان بذلك التقارب الذي فرضته الحرب الأوكرانية بعدما كانت العلاقات تتوتر من حين إلى آخر بين «القارة العجوز» و«العالم الجديد»، لأسباب تجارية خصوصاً.

ماذا ستفعل روسيا أمام هذا الواقع؟ فالتطورات تحصل على عتبة الدار، والمدينة الثانية – العاصمة الأمبراطورية السابقة – سان بطرسبرغ تقع على بحر البلطيق، والحدود مع فنلندا طويلة، والطموحات الروسية في القطب الشمالي لا تخفى على أحد خصوصاً أن ذوبان الجليد بفعل الاحترار المناخي فتح طرقاً بحرية تجارية تهمّ روسيا كثيراً.

أخصام روسيا نوعان، المتعقّلون وغير المتعقّلين. النوع الأول يهلل لتوسيع الناتو وتكديس القدرات العسكرية في وجه موسكو. والنوع الثاني يؤيد تعزيز «الأمن الأوروبي» إنما من دون دفع الأمور إلى حافة الهاوية… الواضح أن روسيا تعبّر وتعتبر أن كل ما يجري هو مسألة حياة أو موت، وفي جوّ كهذا تسقط القيود وتصير الأولوية حفظ الوجود.

الشرق الأوسط

————————–

أوكرانيا حرب بالوكالة… لكن ما النصر؟/ روبرت فورد

الواضح أن الحرب في أوكرانيا ستستمر لفترة طويلة، ربما لسنوات. وأكد تحليل صدر عن المعهد الملكي البريطاني للخدمات المتحدة، الشهر الماضي، أن موسكو تستعد لحرب طويلة وشاقة. في المقابل نجد أنه على هذا الجانب من المحيط الأطلسي، ثمة إجماع حول ضرورة تقديم واشنطن وحلف الناتو الدعم لأوكرانيا على كسب الحرب. ومع ذلك، لا أحد يشرح معنى «الانتصار في الحرب».

من جهتهم، أعرب العديد من الخبراء هنا عن اعتقادهم بأنه يجب على واشنطن السعي نحو تمكين أوكرانيا من الدفاع عن سيادتها على أراضيها ـ لكن في أي مناطق؟ هل يعني النصر أن على أوكرانيا أن تستعيد شبه جزيرة القرم ودونيتسك التي استولى عليها بوتين عام 2014؟

جدير بالذكر هنا أن وزراء خارجية مجموعة الدول السبع في 7 أبريل (نيسان)، طالبوا موسكو بسحب جميع قواتها العسكرية من «كامل الأراضي داخل حدودها المعترف بها دولياً» لأوكرانيا. وعلى ما يبدو، فإن هذا يشمل شبه جزيرة القرم ودونيتسك.

وفي سياق متصل، حثت مؤسسة «المجلس الأطلسي» المرموقة إدارة بايدن، الشهر الماضي، على عدم الاعتراف بالسيادة الروسية على أي جزء من أوكرانيا. ونشرت دورية «فورين أفيرز» ذات النفوذ مقالاً هذا الشهر ينصح بأن واشنطن يجب ألا تضغط على أوكرانيا للتفاوض على تسوية. كما حثت صحيفة «واشنطن بوست» إدارة بايدن على إبداء «أقصى درجات الحزم». حتى هذه اللحظة، يبدو أن إدارة بايدن تتبع هذه النصيحة، بل وأكثر. من جهته، صرح وزير الدفاع أوستن بعد زيارته إلى كييف في 24 أبريل، أن الولايات المتحدة تهدف إلى إضعاف روسيا ومنعها من إعادة بناء قدراتها العسكرية. يجب أن نكون صادقين مع أنفسنا: الجيش الروسي أضعف بكثير مما كنا نعتقد، وليس بمقدوره الاستيلاء على كييف، وبالتأكيد لا يمكنه الوصول إلى وارسو أو برلين.

ومع ذلك، قال أوستن إن الأميركيين يهدفون إلى منع روسيا من إعادة بناء قوتها، وإن أوكرانيا تشكل جزءاً من هذه الاستراتيجية. في هذا الصدد، طلبت إدارة بايدن من الكونغرس الموافقة على مساعدات إضافية لأوكرانيا بقيمة 33 مليار دولار، بما في ذلك 20 ملياراً من المساعدات العسكرية. (يذكر أن الميزانية العسكرية الروسية عام 2021 كانت حوالي 62 مليار دولار).

من جانبه، سيوافق الكونغرس على المساعدة. علاوة على ذلك، صرحت إدارة بايدن لوسائل إعلام أميركية بأن الاستخبارات الأميركية ساعدت أوكرانيا على إغراق الطراد «موسكفا»، وقدمت معلومات استخباراتية مفيدة داخل ساحات القتال.

على الجهة المقابلة، حذر وزير الخارجية الروسي لافروف في 26 أبريل من أن الناتو يخوض حرباً بالوكالة ضد موسكو.

وصرح عضو الكونغرس عن الحزب الديمقراطي سيث مولتون الذي ترشح للرئاسة في عام 2020 وينوي الترشح مرة أخرى، لشبكة «فوكس نيوز في 7 مايو (أيار)، أن واشنطن «في حالة حرب بشكل أساسي» مع روسيا، واتفق مع الرأي القائل بأن حرب أوكرانيا حرب بالوكالة.

خلال العقود الأربعة منذ الحرب الباردة، لم تخض الولايات المتحدة مطلقاً حرباً بالوكالة بالقرب من موسكو. وليس من المستغرب أن يستعد بوتين لصراع طويل، خاصة أن بعض الخبراء يحذرون من مخاطر اتساع الحرب. واللافت أن روسيا بدأت بالفعل في مهاجمة البنية التحتية للنقل داخل أوكرانيا والتي تجلب المعدات العسكرية الغربية إلى الخطوط الأمامية في أوكرانيا.

ويتوقع الكثيرون أن روسيا ستشن المزيد من الضربات ضد المدن الأوكرانية والبنية التحتية للاتصالات. أما بوتين، فسيرحب بتدفق مزيد من اللاجئين إلى أوروبا والمشكلات السياسية التي ستنجم عن ذلك، خاصة إذا تسبب ارتفاع أسعار الطاقة العالمية في ركود اقتصادي في أوروبا. بالإضافة إلى ذلك، يصر بعض المحللين، مثل ستيفن والت من جامعة هارفارد، على ضرورة أن نولي اهتماماً للتهديدات الروسية باستخدام الأسلحة النووية.

ومن أجل تجنب مخاطر اشتعال حرب طويلة، يجب أن يكون هناك حل تفاوضي، مع تقديم تنازلات من جميع الأطراف. وحتى اليوم، ليس من الواضح ما إذا كان بوتين على استعداد لتقديم تنازلات. كما أنه لا يمكن تصور أنه سينسحب من شبه جزيرة القرم. وبالتأكيد سيرفض الرئيس زيلينسكي طلب بوتين بأن تقلص أوكرانيا جيشها.

على الجانب الأميركي، فإن إضعاف روسيا على المدى الطويل، سيؤدي إلى تأخير تخفيف العقوبات والقيود التجارية التكنولوجية على الاقتصاد الروسي. وسترغب الولايات المتحدة في مواصلة تقديم المساعدات العسكرية للجيش الأوكراني، حتى لو لم تكن أوكرانيا عضواً في الناتو.

إلا أنه إذا ما وجد بوتين نفسه في مواجهة عداء أبدي من جانب أوكرانيا والغرب، فلن يكون لديه أي حافز للسعي لتحقيق الاستقرار العالمي. وحتى الآن، لا نجد نقاشات تذكر حول هذه القضايا طويلة المدى داخل واشنطن، ذلك أن المسؤولين والمراكز البحثية يتحدثون فقط عن النصر في الحرب مهما كان معنى ذلك.

أما الرئيس الصيني الذي يتابع الوضع من بعيد، فلا يمكن أن يكون سعيداً بالفشل العسكري الروسي. جدير بالذكر أن الرئيس بايدن حذر نظيره الصيني من تقديم مساعدات عسكرية أو اقتصادية لروسيا، وإلا ستواجه الصين هي الأخرى عقوبات وقيودا داخل أسواق التصدير في الاقتصادات الكبرى الأخرى.

في فبراير (شباط)، أعلنت موسكو وبكين أن صداقتهما لا حدود لها، لكن بعد ثلاثة أشهر أدركت بكين أنها بحاجة إلى أسواق التصدير تلك. لذلك، في الوقت الحالي على الأقل، رأت أنه يجب أن تكون هناك حدود لعلاقتها مع روسيا.

ويجب أن تفهم بكين كذلك أن المساعدة العسكرية الأميركية لأوكرانيا لا تذهب إلى القوات الأميركية والقوات المتحالفة معها في آسيا. ولا شك أن القادة الصينيين يفكرون في الكيفية التي يمكن أن تصبح بها دول أصغر مثل إيران يوماً ما وكلاء الصين في مواجهة الولايات المتحدة.

* نقلا عن ” الشرق الأوسط”

د

—————————

حرب أبدية جديدة/ عبد المنعم سعيد

كان الرئيس الأمريكى بايدن هو الذى أعطى تعبير «الحروب الأبدية» شهرته عندما أطلقه على حرب أفغانستان والعراق ومثيلاتها من حروب لا تنتهى أبدا. الآن يبدو أن الحرب الروسية الأوكرانية تدخل إلى ذات النفق الذى يكون- كما هى العادة- مظلما تجسده خسائر بشرية ومادية، وفوق ذلك كثيرا من دهاليز الضياع وفقدان البصيرة.

ما كان فى المقدمة منتظرا أن تكون حربا قصيرة يفوز فيها الأعلى قدرة؛ أى روسيا فى هذ الحالة، وينهزم فيها الأقل حظا وهو أوكرانيا؛ وذلك يمكنه التحول إلى صياغة محيرة أن روسيا لم تنتصر، ولكن أوكرانيا لم تخسر. لكن داخل النفق ومع غلبة الظلام وكثرة الاحتمالات فإن مثل تلك الألغاز تكون معتادة، ويكون الأكثر اعتيادا نسيان ما كان سبب دخول النفق من الأصل.

الرئيس الروسى فلاديمير بوتين قال أمام زوار إن خصومه يحاولون «الفوز فى ساحة المعركة» و«تدمير روسيا من الداخل». لم يعد هناك حديث عن توسيع حلف الأطلنطى أو النخبة النازية فى «كييف» كمصدر لتهديد يستحق غزوا من الجيوش الروسية.

على الجانب الآخر فإن الهدف الأمريكى لم يعد انسحاب روسيا من أوكرانيا، ولا صار توسيع حلف الأطلنطى ولو عن طريق فنلندا والسويد، وإنما مساعدة أوكرانيا على هزيمة روسيا وتعطيل آلة بوتين الحربية حتى لا تهدد جيرانها فى المستقبل.

وزير الدفاع لويد أوستن، ذكر بعد رحلة إلى كييف لتعزيز المقاومة الأوكرانية: «نريد أن نرى روسيا ضعيفة إلى درجة أنها لا تستطيع القيام بالأشياء التى فعلتها فى غزو أوكرانيا».

وكرر أوستن تلك الرسالة بعد محادثات مع حلفاء الناتو فى ألمانيا. وأضاف متحدث باسم مجلس الأمن القومى الأمريكى: «نريد أن تفوز أوكرانيا. نحن عازمون على جعل هذا الغزو فشلًا استراتيجيًا لروسيا».

.. كان أحد أهدافنا هو الحد من قدرة روسيا على فعل شىء كهذا مرة أخرى». باتت الحرب حربا أخرى، والتواجد داخل النفق لفترة طويلة يسبب تغيرات كثيرة وأحلاما أكثر وكوابيس من أنواع مفزعة؛ لكن الحرب لا تكون كما كانت وتفقد بساطتها الأولى وتنحرف إلى دروب متفرعة.

هذا ما حدث فى «الحروب الأبدية» القديمة، فى الحروب العالمية الكبرى الأولى والثانية بدت الحرب أبدية بعد فترة، وكثير من المؤرخين يعتبرون الثانية امتدادا للأولى، ولم يكن وقف القتال إلا هدنة امتدت إلى عشرين عاما.

الحرب الكورية والأخرى الفيتنامية والثالثة الأفغانية والعراقية كانت أمثلة أخرى، الحروب العربية الإسرائيلية فى أشكالها القديمة مع الدول العربية، والحديثة مع تنظيمات أصولية، ظلت حربا واحدة حتى مع اتفاقيات السلام. الحرب الأبدية الجديدة فى أوكرانيا لا تتمشى مع فكرة إخراج دولة عظمى نووية من مكانتها إلا عبر مسيرة دامية وطويلة فى أنفاق ليس لها نهاية، وبالتالى لا ضوء فى نهاية النفق الكبير للمواجهة.

هنا تظهر احتمالات استخدامات السلاح النووى ليس بالصورة التى نراها فى أفلام إبادة الكوكب، إنما كأداة لتلافى الهزيمة والضغط من أجل الحصول على أهداف تكفى لإشهار نصر. فبعد الفشل الروسى فى السيطرة على العاصمة الأوكرانية «كييف»؛ والتركيز على إقليم «الدونباس» مع ممر يربطه مع البحر الأسود ومنطقة القرم، بات ممكنا أن تصير صفقة كافية لإعلان هدنة تخرج منها روسيا بانتصار إضافة أراض للدولة الروسية مترامية الأطراف.

ولكن الإعلانات الأمريكية والأوكرانية الأخيرة والتى ترفض تماما استيلاء روسيا على أراض إضافية، فضلا عن أن أوكرانيا بدأت بالفعل القيام بعمليات عسكرية بلغت ١١ عملية داخل الأراضى الروسية، جعلت الحرب ليست مرشحة لأزمنة طويلة، ولكنها ربما تفرض على روسيا- خوفا من الهزيمة وانتقال الحرب إلى أراضيها- استخدام أسلحة نووية تكتيكية.

هذه النوعية من الأسلحة تأخذ المعركة إلى سقوف أخرى من أدوات التدمير قد لا تكون فى مستوى الأسلحة النووية الاستراتيجية، ولكنها كافية لبقاء مناطق كبيرة خارج الحياة البشرية المدنية والعسكرية لفترة طويلة.

وقد حذر وزير الخارجية سيرجى لافروف من أن «الناتو، فى جوهره، يخوض حربًا مع روسيا من خلال وكيل»، وتذرع بخطر نشوب صراع نووى حين قال: «الخطر جسيم» و«لا ينبغى الاستهانة به».

وضع روسيا وظهرها فى الحائط بهذه الطريقة يبدو بالنسبة للعالم الغربى دافعا إلى خروج بوتين من المستنقع الأوكرانى. أرقام الخسائر الروسية العسكرية كبيرة، ويقدر حاليا وقت كتابة المقال وفقا لتقديرات «بن والاس» وزير الدفاع البريطانى أن روسيا قد خسرت ١٥ ألف روسى، ودمرت ٢٠٠٠ عربة مصفحة و٦٠ طائرة هليكوبتر ومقاتلة ونفاثة وفقدت ٢٠٠ كتيبة، شكلت قوة الغزو الروسية لأوكرانيا حوالى ٢٥٪ من قوتها القتالية، وكثير منهم من قوات النخبة للمظلات ومشاة البحرية والقوات الخاصة. والخسارة الروسية التى لا تقل خطورة تأتى فى المجال الاقتصادى نتيجة العقوبات الاقتصادية التى أوقفت مصانع، ونضب واردات وإمدادات خاصة بمصانع حربية لم تصلها رقائق أشباه الموصلات.

فضلا عن ذلك أخذت هجرة الأدمغة الروسية فى التسارع؛ هرب ٥٠٠٠٠ إلى ٧٠٠٠٠ متخصص فى الكمبيوتر من البلاد، حسبما أفادت مجموعة تكنولوجية روسية، ومن المتوقع أن يغادر ١٠٠٠٠٠ آخرون بعد ذلك. التوقعات هى أن ينكمش الاقتصاد الروسى هذا العام بنسبة ٨.٥٪ إلى ١٥٪. ولكن ألا تكون هذه الضغوط ذاتها هى الأكثر دفعا لروسيا لتصعيد عسكرى نووى لا يعرف أحد ماذا سوف يأتى بعده؟.

المعضلة الكبرى للحرب الأبدية الجديدة أنها سوف تبقى حروبا أبدية أخرى مستعرة فى مكانها. وببساطة فإن انشغال الولايات المتحدة وحلفائها ومعهما روسيا، ومع الجميع بقية دول العالم، سوف يضع قضايا حيوية مثل الحرب ضد الإرهاب، وضد كوفيد ١٩ والاحتباس الحرارى للكرة الأرضية، رهن الانتظار، بينما هى فى حقيقتها قابلة للتمدد والتوسع.

ففى قارات العالم جميعها بدأت التنظيمات الإرهابية فى إعادة تنظيم نفسها، والتعلم العسكرى من دروس الحرب الأوكرانية، واستخدام الموقف كله فى عمليات الدس السياسى والإرهاب، والتجنيد للمحاربين والحصول على السلاح.

الدرس الذى تعلمه الإرهابيون من الحرب أن العالم لم يعد مترابطا كما كان من خلال العولمة، والحقيقة هى أنه أكثر انقساما من أى وقت مضى، وفى الوقت التى تتزايد فيه الضغوط على الدول والشعوب من جراء الغلاء والعواقب الاقتصادية للحرب، فإن هناك فرصا كثيرة للاختراق والهجوم. من ناحية أخرى فإنه رغم تراجع المصابين والوفيات من جائحة كوفيد ١٩، فإن الإجماع العلمى هو أن الوباء لم ينته بعد، وأن الفيروس لديه قدرة فائقة على التحور إلى أشكال وموجات جديدة تعيد ذكريات الإغلاق وآثاره ونفقاته إلى ذاكرة الدول.

وفيما يخص الاحتباس الحرارى فإن آثاره السلبية لم تتوقف، وفى الوقت الراهن بدأ موسم الحرائق فى غرب الولايات المتحدة، واستمرت التقلبات المناخية فى مسارها المؤدى إلى ارتفاعات غير مسبوقة فى درجة الحرارة، والمؤدية إلى فيضانات وموجات من الحرارة غير العادية فى الهند.

* نقلا عن ” المصري اليوم”

——————————

تأثير موسكو الجنوبي/ مارك بييريني

لا يزال من المبكر لأوانه التنبؤ عند أي حدٍّ سيتوقف الغزو الروسي لأوكرانيا، لكن من المهم النظر في الدور الذي ستؤدّيه روسيا في الدول الواقعة إلى جنوبها.

تواجه روسيا راهنًا ردود فعل غير مسبوقة من الدول الغربية على خلفية غزوها لأوكرانيا والخسائر البشرية والمادية الهائلة الناجمة عنه. وتشمل ردود الفعل هذه إرسال مساعدات مالية وعسكرية وإنسانية إلى أوكرانيا، واتخاذ إجراءات رامية إلى تنويع مصادر الطاقة بعيدًا عن الغاز الروسي، واستبعاد عدد من المصارف الروسية من النظام المالي العالمي، وتعطيل معظم حركة النقل الجوي والبحري من روسيا وإليها، وقرار الشركات الكبرى وقف أنشطتها في روسيا أو معها، وتعزيز آليات وسياسات حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي. لكن هذه التدابير لن تؤدي إلى حلٍّ سريع للقضايا الشائكة المرتبطة بأوكرانيا.

لنفكر في سيناريو تبقى فيه وضعية روسيا الحالية كما هي على المدى الطويل – أي تبقى فيه هيكلية حكمها السلطوي في حالة من نزاع دائم مع الدول الغربية والناتو، ومن دون أن تشكّل جزءًا من اتفاقات بين الشرق والغرب. وقد تكون نتائج هذا السيناريو مهمة، إذ سيتعين على العالم الغربي إعادة النظر في الكثير من سياساته، وسينبغي على الدول الواقعة جنوب روسيا أن تأخذ في الاعتبار التغييرات وعمليات إعادة الاصطفاف الناجمة عن غزو أوكرانيا. قد يؤدي ذلك إلى خمس نتائج، نوردها في ما يلي.

أولًا، سيبقى “النموذج” الروسي على الأرجح جذّابًا لعددٍ من القادة في دول الشرق الأوسط، ولا سيما في سورية ودول أفريقية واقعة جنوب الصحراء الكبرى، بما فيها جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي، وأيضًا تركيا إلى حدٍّ ما. تُضاف إلى ذلك طبعًا المصالح الجيو-استراتيجية للاعبين بارزين مثل الصين ودول الخليج الكبرى والهند، التي تقتضي استيعاب المواقف الروسية، كي لا نقل تأييدها. وقد تظلّ روسيا التي تجسّد مواقف مناهضة للغرب ركيزة سياسية أو شريكًا صعبًا لكن قيّمًا. فالكثير من الأنظمة تلجأ، للحفاظ على بقائها في السلطة، إلى تكميم أصوات خصومها السياسيين، والتضييق على وسائل الإعلام وناشطي المجتمع المدني، والسيطرة على الجهاز القضائي، وشنّ حروب معلومات استنادًا إلى سرديات خاطئة. وهذا هو النموذج الروسي.

ثانيًا، أدّى الغزو الروسي المتهوّر لأكرانيا إلى تعزيز وحدة الاتحاد الأوروبي بشكل كبير. ففي غضون أسبوعين، قرّر الاتحاد الأوروبي اعتماد سياسة لتنويع مصادر الطاقة بعيدًا عن روسيا، وأخرى بشأن مبيعات الأسلحة. والأهم أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ومن ضمنها الحكومات الأقرب إلى موسكو، بقيت موحّدة في استجابتها للغزو الروسي. وحسمت ألمانيا، في خلال أيام ليس إلا، جدلًا داخليًا مستمرًا لعقود بشأن زيادة التمويل العسكري. كذلك، تراجع النفوذ السياسي الذي تمارسه روسيا على أحزاب سياسية أوروبية بشكل هائل.

ستُعيد هذه التطورات رسم معالم العلاقات القائمة في مناطق الشرق الأوسط والمتوسط وغرب البلقان وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وستؤثّر على العمليات التي تنفذّها أوروبا لمكافحة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وعلى شبكة اتفاقياتها المستندة على القيم، وربما حتى على توسيع الاتحاد الأوروبي في المستقبل. وقد يعمد الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة إلى تعزيز تعاونهما العسكري، من خلال التدريبات المشتركة أو حقوق إنشاء القواعد العسكرية أو التعاون في مجال مكافحة الإرهاب أو إنتاج المعدات العسكرية بشكل مشترك.

ثالثًا، من المتوقّع أن تزداد حدّة المشاحنات بين روسيا والغرب في الأمم المتحدة، وأن تضطر الدول غير الغربية على الانحياز لأحد الطرفين. وستزداد خطورة بعض المسائل وستتفاقم حروب المعلومات. يُشار إلى أن الحوار بين الناتو وروسيا قد توقف، وانسحبت موسكو من اجتماعات مجلس أوروبا. فهل ستبقى روسيا متمسّكة بسرديتها عن تقهقر أوروبا وإفلاسها الأخلاقي بعد أن تصبح ويلات الغزو الروسي لأوكرانيا موثّقة بالكامل؟

رابعًا، ستعاني دول الشرق الأوسط والمتوسط وأفريقيا تداعيات كبرى، إذ إن تكاليف وارداتها من الحبوب سترتفع. وستشمل المفاوضات في الأمم المتحدة حول إرساء السلام في سورية أو ليبيا مثلًا منافسةً أكثر ضراوةً للحصول على دعم دول ثالثة. ومن المرجح أن تعمد موسكو إلى تعزيز مصالحها من خلال نشر الشركات العسكرية الخاصة والمبيعات العسكرية وحقوق إنشاء قواعد جوية وبحرية لها.

خامسًا، ستواجه تركيا مشاكلها الخاصة فيما تبذل جهودًا حثيثة لإصلاح علاقاتها الدبلوماسية، وتُجري لهذه الغاية محادثات رفيعة المستوى مع الإمارات والسعودية وأرمينيا وإسرائيل واليونان. وستحاول أنقرة في المدى القصير المحافظة قدر المستطاع على نوع من التوازن في علاقتها مع كلٍّ من روسيا وأوكرانيا، وتعزيز دورها كـ”وسيط” محتمل (ويقتصر الأمر على دور تيسيري حتى الآن).

لكن لا شكّ أن الحفاظ على علاقات ودية مع موسكو سيطرح إشكالية، نظرًا إلى العنف المتعمَّد الممارَس بحق المدنيين والبنى التحتية المدنية في أوكرانيا. وفي سيناريو مُفترَض تُمحى فيه أوكرانيا من الخريطة، ستجد تركيا نفسها أمام روسيا جديدة تفرض هيمنتها الكاملة على الشاطئ الشمالي للبحر الأسود، وتعزّز قاعدتها البحرية في مدينة سيفاستوبول، وتسيطر على ثلث صادرات الحبوب العالمية، وتمارس سطوتها أكثر من أي وقت مضى من خلال مواردها من النفط والغاز.

أما على الصعيد الدفاعي، فستبقى منظومة الدفاع الصاروخية من طراز إس-400 التي تسلّمتها تركيا في العام 2019 معتمدةً بشكل كامل على روسيا لتوفير التدريبات الضرورية لاستخدامها وصيانتها وإعادة تزويدها بالصواريخ، إذا لم يحدث تغيير جذري في مسار الأحداث. وستشكّل هذه المسألة عائقًا أساسيًا في إطار المواجهة الدائمة بين روسيا والناتو خلال السنوات المقبلة. وسيطرح تحديث القوات الجوية التركية أيضًا تحديًا، إذ سيتعيّن على أنقرة إيجاد بديل إثر استبعادها من برنامج المقاتلات الخفية الأميركية من طراز إف-35.

وعلى نحو مماثل، قد تلجأ موسكو إلى تعديل اتفاقية مونترو للعام 1936 التي تنظّم حركة الملاحة البحرية عبر مضيقَي الدردنيل والبوسفور. وقد تواجه تركيا صعوبات متزايدة في التعاطي مع روسيا حول الملف السوري، ما لم توافق صراحةً على التعامل مع نظام الأسد.

عمومًا، وفي مواجهة سيناريو تواصل فيه موسكو مواقفها العدائية، سيقف عدد من الدول الواقعة إلى جنوب روسيا أمام خيارات صعبة في مجالات كثيرة تتراوح بين الأمن الغذائي، والتجارة، وإمدادات الطاقة، ومشتريات الأسلحة، والتحالفات العسكرية. وقد تُرغم هذه الدول في نهاية المطاف على الاختيار بين إما الاصطفاف السياسي مع روسيا (أي في صف السلطوية) أو الحفاظ على علاقات جيدة مع الغرب (أي في صف الديمقراطية).

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.

——————————

الحرب على أوكرانيا وآثارها على الحلّ في سورية/ جاد الله محمد

العالم اليوم كلّه تقريبًا مشغول بالعدوان الروسي الذي شنّه هتلر الكريملين على أوكرانيا، والذي أدخل العالم ككل في مواجهة ذات طابع عالمي، حتى إن القول بأن حربًا عالمية ثالثة قد بدأت لا يبدو مبالغًا فيه، ولكن أطرافها اليوم، وبالأخص الطرف الأطلسي، تعلّمُوا من الحربين السابقتين دروسًا تمنع تكرار أغلاط تلك الحربين، ولذا صارت الحرب الراهنة تُدار بشكل يتفادى المواجهة المباشرة بين الأطراف الرئيسة فيها، كي لا تؤدي هذه إلى المواجهة إلى حرب نووية تدمّر للجميع.

للوهلة الأولى، قد يبدو أن العدوان الروسي على أوكرانيا قد أصبح الملفَّ الرئيس الشاغل اليوم للعالم، وأنه أحال إلى الظل بقية الملفات، ومنها ملف الحل السوري الذي لم يعد أحدٌ يوليه في اللحظة الراهنة أي اهتمام فعلي، ويبدو أنه قد أصبح في وضعية التعليق والتأجيل إلى إشعار آخر، ولا يبدو أن نهاية ذلك ستكون قريبة، وهذا يعطي نظام الأسد فرصة كبيرة لإعادة إنتاج نفسه وتعزيز سلطته وتسلطه على المناطق التي لم يخسرها، أو استعادها من القوى المعارضة، ولا يبدو حتى الآن، بعد أن أصبح عمر العدوان الروسي على أوكرانيا يحسب بالشهور، أيّ مؤشر يدلّ على تغيّر في الإستراتيجية الأميركية في سورية، أو على أيّ نية أميركية لإعادة تسخين الجبهة السورية لكي تكون عامل ضغط إضافي على روسيا.

والواضح أن أميركا تريد أن تركّز كل جهودها الراهنة حصرًا على مواجهة روسيا في أوكرانيا، وبحسابات متقنة تعتمد على تحالف بين أميركا وحلفائها الغربيين والدوليين لمواجهة روسيا على جبهتين، هما الجبهة العسكرية والجبهة الاقتصادية، بحيث تنحصر الجبهة العسكرية في أوكرانيا حصرًا، ويتم التركيز فيها على دعم أوكرانيا بالسلاح، لتمكينها من إحباط العدوان الروسي وإلحاق أكبر قدر من الخسائر الحربية بروسيا، ما يعني أن أميركا في الوقت الراهن لا تنوي فتح جبهات أخرى مع روسيا، وهي تكتفي بخوض هذه المواجهة بشكل مركز في أوكرانيا، بحيث تستطيع إدارة معركتها بقدر عال من التنظيم، فلا تبعثر جهودها في جبهات أخرى، وبالأخص الجبهة السورية البعيدة جدًا عن هذا المستوى من الوحدة والتنظيم، والتي تتشرذم فيها القوى المعارضة، ويغلب على أكثرها الطابع الإسلامي المتشدد أو المتطرف الذي لا تفضل أميركا التعامل معه، فضلًا عن أن هذه القوى المعارضة قد ضعفت كثيرًا، بعد أن تركتها أميركا وحيدة في مواجهة روسيا، منذ أواخر عام 2015 إذ كانت هذه القوى تسيطر على القسم الأكبر من المساحة السورية، وكانت على وشك إسقاط النظام نفسه، كما اعترفت روسيا نفسها بذلك. وقد أدى استفراد روسيا بالساحة السورية، وهي أحد أكبر قوتين عسكريتين في العالم المعاصر في المحصلة، إلى تدمير معظم قوة هذه الفصائل المعارضة، وقتل أو تشتيت أو أسر أكثرية مقاتليها، وانتزاع معظم المساحات التي كانت بحوزتها، وفي مثل هذا الوضع، لا يمكن الرهان على هذه القوى الضعيفة لإعادة فتح جبهة ساخنة سريعة، يفترض فيها أن تكون فاعلة بما يكفي لتشكل عبئًا عسكريًا فاعلًا على روسيا؛ حيث إن إعادة تأهيل قوى المعارضة السورية العسكرية، لإيصالها إلى مثل هذا المستوى، يحتاج إلى كثير من الحسابات والوقت والجهد والنفقات، وهذا لا يتوفر لدى أميركا في اللحظة الراهنة، التي تجد أن من الأجدى لها تمامًا الرهان عسكريًا على الجبهة الأوكرانية بشكل حصري!

وبالمقابل، الوضع الروسي نفسه في سورية لا يختلف كثيرًا عن الوضع الأميركي من هذه الناحية، فروسيا هي الأخرى ليست في وضع يسمح لها اليوم ببدء مغامرات في سورية، وليس من مصلحتها قطعًا إعادة فتح هذه الجبهة الآن، ولا سيما أنها تعاني بشدة في حربها على أوكرانيا التي لم تجرِ قطعًا كما كانت روسيا تتوقع، وفعليًّا فشلت فيها روسيا في تحقيق أهدافها التي تتجاوز أوكرانيا نفسها، لتكون معركة رابحة مع أميركا نفسها، بهدف إرغام أميركا على الاعتراف بندية روسيا على الساحة الدولية، والتعامل معها كقوة مساوية!

وفي وضع كهذا، يمكن القول أيضًا إنه ليس من مصلحة روسيا قطعًا تشتيت جهودها عبر تجديد المواجهة المسلحة في سورية، وبالأخص أن تركيا هي طرف رئيس في هذه المواجهة، وهي لم تشارك في العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، وليس من مصلحة روسيا إفساد العلاقة مع تركيا في الوقت الراهن، ودفعها إلى اتخاذ موقف معاد لروسيا، التي تعاني بشدة آثار العقوبات التي تفرضها أميركا والغرب وحلفاؤهما في العالم عليها.

أما إيران، فهي لا تستطيع وحدَها إحداث أي تغيير في الوضع العسكري السوري، وليس من مصلحتها القيام بأي تحرك من هذا القبيل، لأنها ستكون خاسرة فيه كثيرًا، فعسكريًّا هي لا تستطيع إحراز أي نجاح عسكري لا في إدلب (التي فيها تركيا المدعومة من الأطلسي)، ولا في شرق الفرات (التي فيها أميركا نفسها)، وإن أي مسعًى إيراني لتغيير الوضع العسكري في سورية يمكن أن يُفسد ما تحقق من تقدّم مع أميركا والغرب على صعيد الملف النووي الإيراني ورفع العقوبات عن إيران!

ومن ثم، يمكن القول إنه لن يحدث أي تغير عسكري في الوضع السوري على المدى المنظور، وكذلك الأمر سياسيًّا، فالحل السياسي السوري اليوم مؤجل إلى ما بعد الحل الأوكراني، أو بالأصح ما بعد نهاية المعركة في أوكرانيا، التي يمكن ألا تُنتج حلًا، وتُنتج وضعًا مشابهًا للوضع السوري، يتم فيه تقسيم أوكرانيا فعليًّا، بشكل غير رسمي. وفي مطلق الأحوال، الحلّ السوري بات مرتبطًا بشكل جد وثيق بالوضع الأوكراني، ولن يتم قطعًا بمعزل عنه، أيًّا كانت نتائج الحرب الدائرة فيه.

هذا يعني أن وقتًا طويلًا قد يمرّ، قبل أن يُعاد جديًّا تحريك الملف السوري بأي شكل من الأشكال، والمستفيد الوحيد من هذا الوقت الآن هو نظام الأسد، الذي سيجد أن الظروف قد وهبته كثيرًا من الوقت المستقطع المجاني لإعادة إحكام سيطرته على المناطق التي بقيت بحوزته، أو أعيدت إليه بعد التدخل الروسي العسكري المباشر، ولذا سيحاول هذا النظام إعادة الوضع في منطقة سيطرته إلى ما كان عليه قبل انطلاقة الثورة عام 2011. ومع ذلك، حتى هذه الفائدة لن تكون ذات قيمة مؤثرة، ولن تكون أكثر من فائدة آنية، يحصل عليها النظام في وضع تنشغل عنه فيه القوى الكبرى، فلا أميركا تهدده ولا روسيا تضغط عليه، وكلتاهما مشغولتان بمواجهة بعضهما البعض في أوكرانيا، ولكن إلى حين، وأيًّا كان ما يستطيع نظام الأسد فعله -سياسيًّا وأمنيًّا- في هذا الوقت، فلن يُحدث أي تغيير إستراتيجي في الوضع السوري، ولا سيما أن الوضع المعيشي ما يزال يتدهور بشدة في مناطق سيطرته، واحتمال حدوث انتفاضة أو حتى ثورة شعبية بسبب هذا التدهور يتزايد!

ولذلك، يمكن القول إن الوضع السوري، باستثناء احتمال ردة الفعل الجماهيرية العامة على الأوضاع المعيشية البائسة، سيبقى معلقًا بانتظار ما ستسفر عنه حرب روسيا على أوكرانيا! وأيًّا كان ما ستُسفر عنه هذه الحرب، والاتفاقية التي ستنتج عنها، إن نتجت، فالمؤكد أن هذه الحرب غيّرت بشكل جذري الوضع العام على المستوى الدولي، وأدخلت العالم في مرحلة جديدة من صراع القوى العظمى، وهذا ما سينعكس بشكل جوهري على عملية الحل السوري التي ستتأثر بشدة بهذا الوضع العالمي الجديد، ودرجة التوتر العالية فيه، فإذا كان مقبولًا القول قبل الغزو الروسي لأوكرانيا إنّ ثمة احتمالًا لأن تغض أميركا النظر عن دور روسيا في سورية، أو تتخلى لها عن سورية، مقابل بعض الشروط كضمان أمن إسرائيل وتقليص الدور الإيراني، ولا سيما الجانب العسكري منه، في سورية، إضافة إلى بعض الإصلاحات السياسية التجميلية، أو كان آنذاك أيضًا من الممكن توقع حدوث تفاهم أميركي-روسي يُفضي إلى حل أقرب إلى الاعتدال في سورية، فمثل هذه الأمور أصبحت الآن بعيدة، والصراع قد أصبح سيّد الموقف!

وهكذا يمكن القول إن الحل السوري المؤجل إلى ما بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا على الأقل، من المحتمل أن يشهد تصعيدًا من الطرف الذي سيجد أن نتيجة المعركة في أوكرانيا غير مرضية له، والأرجح أن هذا الطرف سيكون هو روسيا، ولكن هذا ليس الاحتمال الروسي الوحيد، فقد تجد روسيا نفسها ضعيفة بعد هذه الحرب، بحيث لا يعود بمقدورها لا التصعيد ولا حتى الحفاظ على موقفها الداعم لنظام الأسد في مواجهة أميركا، إن قررت أميركا التخلّص من هذا النظام، وهذا احتمال درجته كبيرة!

لكن مع ذلك، فمن المحتمل أن يأتي التصعيد من الجهة الأميركية، إما كتعويض عن نتيجة غير مرضية في أوكرانيا، وهذا احتمال غير كبير، ولكنه مع ذلك يبقى محتملًا، أو، وهذا أرجح، بهدف تحقيق مزيد من الضغط على روسيا وكبح مساعيها للظهور بمظهر القوة الدولية المنافسة لأميركا، إن لم يكن الدرس الأوكراني كافيًا لذلك!

وعلى أي حال، الشيء الأكيد الذي سيحدث في الوضع السوري بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا هو أن حالة التراخي الأميركية ستنتهي، وسيكون على أميركا أن تتخذ موقفًا على درجة عالية من الحزم ضد روسيا التي دفعت المجابهة مع أميركا وصعّدتها إلى درجات جد عالية وأبعاد خطيرة.

فهل سيكون هذا في مصلحة السوريين؟

هنا تتعدد الاحتمالات، وترتبط هي الأخرى بدرجة كبيرة بنتائج وتطورات المعركة في أوكرانيا، وأسوأ هذه الاحتمالات هو تجدد المواجهة العسكرية، لكنه الاحتمال الأقل، حيث إن مؤشرات المعركة في أوكرانيا تشير أكثر إلى فشل روسيا في تحقيق أهدافها الحقيقة من غزوها لأوكرانيا، والتكلفة العسكرية والسياسية والاقتصادية الضخمة لهذه المغامرة، ستجعل قيامها بمغامرات عسكرية أخرى في أماكن أخرى مسألة قليلة الاحتمال، ولا يبقى في مثل هذا الحال أمام روسيا إلا أن تلجأ إلى التشدد أو التعنت السياسي، وهذا نفسه لن يكون بمقدورها المضي به بعيدًا تحت وطأة العقوبات الاقتصادية الخانقة عليها والعزلة الدولية الكبيرة التي وقعت فيها، وفي حال فشل روسيا في أوكرانيا، كما سبق التنبيه، فسيكون لديها دافع كبير للتعويض في سورية، ولكن الفعل لن يكون محكومًا بهذا الدافع بل بالقدرة على القيام به، التي ستكون مستبعدة في حال الفشل الروسي في أوكرانيا المترافق بالعقوبات الاقتصادية الدولية الخانقة عليها.

ومع ذلك، فبين تشدد روسي أو تشدد أميركي محتملين، يبقى ثمة احتمال في أن تربط أميركا وحلفاؤها أيضًا الملف السوري بالعقوبات الاقتصادية المتخذة ضد روسيا، وتفرض عليها تنازلات في سورية مقابل رفع بعض هذه العقوبات. وفي الوقت الراهن، من الصعب التكهن بمسارات الأمور، إلا أن الأكيد هو أن الحل السوري المؤجل لم يصبح مؤجلًا وحسب، بل صار على الأرجح أكثر تعقيدًا على صعيد إنجازه، ولكنّ هذا الحل، وإنْ تأخر، لن يكون شبه حلٍّ تنال فيه روسيا المكاسب الأكبر، وينال فيه تابعها الأسدي حصته من ذلك، كما كان مرجحًا قبل أن تصل درجة التأزم في العلاقات الأميركية الروسية إلى هذا الحد الخطير! إنما سيكون حلًّا أكثر واقعية واعتدالًا، ويتضمن تغييرًا حقيقيًا في الوضع السياسي، وليس مجرد تسوية تتم فيها إعادة تعويم دكتاتورية الأسد مقابل بعض الإصلاحات الثانوية، فبعدما وصلت إليه الحال من تأزّم وتوتر مع روسيا، لن ترضى أميركا بأنصاف حلول تستفيد منها روسيا أكثر، بل على العكس، ستكون أميركا صارمة في مواجهة روسيا، ولن تقبل بتقديم تنازلات لها، وبدلًا من التنازلات ستلجأ إلى الضغوطات، بهدف الحد أكثر من نفوذ روسيا في سورية، وتقليص دورها على الصعيد الدولي.

وخلاصة الكلام هي أن روسيا قامت بمغامرة متهورة في أوكرانيا، لن تكون قطعًا هي الرابحة فيها، وهناك احتمالان، إما أن تخسر فيها خسارة رادعة، وهذا الأرجح، أو ألا تكون فيها خسارتها كافية، وهي هنا ستحاول التعويض في سورية وأماكن أخرى، ولكنها بالمقابل ستواجه مزيدًا من الصرامة الغربية والضغط الغربي، وهنا ستكون احتمالات فوزها أقلّ وأقلّ من مغامرتها الأولى، وهذا في المحصلة سينعكس بشكل سلبي على أوضاع كلّ أتباعها، ولا سيما نظام الأسد!

هنا قد يعترض معترض، وهذا ليس جديدًا قطعًا، بأن ما قيل يعني أن الرهان في الحل السوري المُرضي قد أصبح على أميركا، وهي دولة استعمارية لا يمكن الوثوق بها. ويُردّ على هذا ببساطة بأن الرهان لن يكون على أميركا في صنع الحل، بل في ردع روسيا التي تريد أن تفرض بالقوة أمرًا واقعًا لصالح نظام الأسد، أما المعارضة الديمقراطية، فمصلحتها النفعية تقتضي الدعم الأميركي الذي لا بديل عنه لمواجهة دعم روسيا لنظام الأسد، وبالمقابل أميركا لن يكون لديها أي مانع من حدوث تغيير ديمقراطي في سورية، ليس لأنها نصيرة للديمقراطية فحسب، بل من منطلق نفعي، لأنها تحتاج إلى بديل لنظام الأسد التابع والخادم لروسيا، وأميركا بالطبع لن تختار المتشددين والمتطرفين الإسلاميين كبديل لهذا التابع الروسي، فهذا ليس من مصلحتها قطعًا، وبالتالي فلا خيار لديها إلا دعم القوى الديمقراطية السورية!

فهل في هذا ما يعيب؟

إن كانت القوى الديمقراطية السورية في لحظةٍ ما ليس لديها بديل عن الدعم الأميركي؛ فمن الحماقة البالغة الرفض، بأي ذريعة، ولا سيما أن عدوها تدعمه قوة عسكرية كبرى كروسيا.

وختامًا نقول: إن الوضع على الأرض في أوكرانيا يُشير إلى أنّ وضع روسيا فيه ينطبق عليه المثل العربي القائل “على نفسِها جنَت براقش”، فهي فعليًّا قد فشلت في أوكرانيا، وتحاول حفظ ماء الوجه هناك، لكن هذا الأمر بدوره معرّضٌ جدًا للفشل. والنتيجة: بقدر ما تجعل حرب أوكرانيا روسيا أضعف، سينعكس ضعفها على وضعها في سورية. وبسبب حربها على أوكرانيا، ستواجه في سورية تغيرًا في الموقف الغربي، ليصبح أكثر صرامة وحزمًا من ناحية، وستكون من ناحية أخرى أقلّ قدرة على مواجهة هذا الموقف الغربي، بسبب استنزافها العسكري والاقتصادي والسياسي في هذه الحرب، وهذا ما سيؤدي في المحصلة إلى تغيير فعلي لصالح حلٍّ فعليّ في سورية!

مركز حرمون

——————————–

=================

تحديث 12 ايار 2022

———————-

الاستثمار الروسي في سوريا.. في الاتجاه المعاكس/ إياد الجعفري

في عام 2019، قدّم سامويل راماني، المتخصص في العلاقات الروسية مع الشرق الأوسط، نبوءةً عبر تحليل نشره مركز كارنيغي، توقع فيها أن تخسر روسيا نفوذها في سوريا، على المدى الطويل. بنى راماني نبوءته تلك على مقومات الرهان الروسي في الإفادة اقتصادياً من النجاح العسكري في سوريا. إذ كانت أبرز مقومات ذاك الرهان، هو تدفق الأموال إلى سوريا، من دول الخليج والغرب والصين، في سياق عملية إعادة إعمار مأمولة. على أن تتمتع موسكو بالأفضلية للإفادة من تلك الأموال، بدفعٍ من وجودها العسكري النشط في البلاد. لكن راماني، توقع بأن عجز روسيا عن تخصيص قدر كبير من مواردها المادية لإعمار سوريا، سيؤدي في نهاية المطاف إلى الحد من تأثيرها هناك.

في هذه الأيام تبصر نبوءة راماني النور، بالفعل. فروسيا تفقد اهتمامها بسوريا، ليس فقط بسبب يأسها من عدم قدوم أموال الصينيين والخليجيين والغرب لإعمار سوريا، والتي انتظرتها طويلاً دون فائدة، بل بدفعٍ أيضاً من اضطرارها للحد من وجودها العسكري النشط في سوريا.

في عام 2017، أطلق تصريح شهير لنائب رئيس الوزراء الروسي حينها، ديمتيري روغوزين، إشارة البدء لاندفاع شركات روسية لحجز موطئ قدمٍ لها على الأراضي السورية. قال روغوزين وقتها: “سوريا بلد غني بلا حدود، يحصدون المحصول ذاته ثلاث مرات، وأحياناً أربع مرات، في العام، ولديهم ثروات باطنية وموقع جغرافي فريد، وفي سوريا أكبر حقل فوسفات يمكن استثماره، وستعمل موسكو مع دمشق لاستغلاله وتصدير إنتاجه”، مضيفاً: “علينا أن نفكر كيف نجني الأموال لميزانيتنا، والشركات الروسية تملك الحق في تطوير مشاريع اقتصادية ضخمة، لا سيما في ظل وجود العسكريين الروس الذين سيبقون هناك للحفاظ على السلام والاستقرار”.

ومنذ ذلك التاريخ، بدأ سباق روسي – إيراني، للاستحواذ على مصادر الثروة والموارد في سوريا، لتحصيل الديون على نظام الأسد. وكان ذاك السباق، لصالح الروس، حتى وقتٍ قريب. إذ استحوذت شركات روسية، على مرافق حيوية، أبرزها مرفأ طرطوس لـ 49 عاماً، وعلى موارد باطنية هامة، أبرزها الفوسفات، الذي احتُكرت بعض أهم مناجمه للروس، لنصف قرن. كما استحوذت شركات روسية أخرى على أبرز مواطن التنقيب واستخراج النفط والغاز، قبالة الساحل السوري، وفي وسط البلاد، وعلى تخوم باديتها. فيما دخلت شركات روسية، صغيرة ومتوسطة الحجم، على خط السياحة والإسكان، ومشاريع مياه وسدود وكهرباء وسكك حديدية.

لكن، ورغم الاندفاعة الاستثمارية الروسية تلك، كانت هناك عقبات جعلت كثيراً من المشاريع المشار إليها أعلاه، تبقى على الورق، أو في مراحل التخطيط والتنفيذ المبدئية فقط، وذلك بانتظار انفراج تلك العقبات. فالعقوبات الغربية بقيت سيفاً مسلطاً على مصالح تلك الشركات، خاصة تلك التي تملك استثمارات في دولٍ غربية. إلى جانب العجز المالي لدى حكومة النظام، الذي جعلها غير قادرة على تسديد قيمة الديون والعقود المنصوص عليها مع الشركات الروسية. من دون أن ننسى، الضعف الشديد للقدرة الشرائية للسوريين، الذي خفّض بصورة كبيرة من الجدوى الاقتصادية للاستثمار الروسي في سوريا.

لكن، رغم ذلك، بقي رهان الروس على انفراج تلك العقبات عبر قبول الغرب ودول خليجية، بالوضع القائم في سوريا، والمشاركة في إعمار البلاد. وحينها، كان الرهان مفاده أن تدفق السيولة النقدية من الخارج، سينعكس إيجاباً على عمل الشركات الروسية، التي حجزت مواطئ قدمٍ لها، عبر عقودٍ مُلّزمة مع النظام.

وهو ما لم يحدث. فلا الغرب، ولا الدول الخليجية التي راهنت –سياسياً- على التطبيع مع الأسد، دفعت بأموالها إلى سوريا. وحتى الصين، بقيت هواجسها الأمنية من هشاشة الاستقرار في سوريا على المدى المتوسط، سبباً في انكفائها عن الاستثمار هناك. واكتفت باتفاقات على الورق، ومحاولات استكشاف خجولة لمواطن الاستثمار المحتملة.

وبالتزامن مع خيبة أمل موسكو من رهانها على تدفق الأموال لإعمار سوريا، انخرطت عبر أوكرانيا، في صراعٍ، تؤكد كل المؤشرات أنه سيكون طويل الأمد مع الغرب. فتَراجَع اهتمامها بسوريا، إلى المربع الأول الذي كان عنده، عشية تدخلها المباشر فيها، في أيلول/سبتمبر 2015. فهي ساحة جيوستراتيجية، تتيح لموسكو موقعاً أفضل في سياق صراعها مع الغرب، لا أكثر. وهو ما يشي به نقل روسيا لجنودها الذين خبروا القتال بسوريا، إلى ساحات المعركة بأوكرانيا، وانسحابها من قواعد عسكرية كثيرة، على الأراضي السورية، لصالح الإيرانيين. باختصار، موسكو نفضت يدها من أفقٍ استثماري مأمول في سوريا. واستردت نظرتها إليها، بوصفها مجرد ساحة للمكاسرة مع الغرب.

وهو ما يعني أن الاستثمار الروسي في سوريا، سيعكس اتجاهه. وسيخرج جانب مهم من رأس المال الروسي من البلاد المؤهلة بقوة لأن تعود إلى جبهة للصراع الإقليمي والدولي. فتراجع النفوذ العسكري الروسي في سوريا، مقابل تمدد نظيره الإيراني، بالتزامن مع حالة المواجهة السياسية – الاقتصادية الشاملة، بين موسكو والغرب، سيؤدي إلى انهيار التعاون الروسي – الأمريكي، الذي استمر لسنة، في الملف السوري، والذي استند إلى مبادرة “خطوة مقابل خطوة”، عبر تخفيف عقوبات وعدم فرض أخرى بموجب قانون “قيصر”، من جانب الأمريكيين، مقابل تهدئة الروس للجبهات، والموافقة على تمرير المساعدات الدولية عبر الحدود. أي أننا سنكون مقبلين على جولة جديدة من تشديد العقوبات الغربية، وخاصة الأمريكية، على النظام. مما سيجعل سوريا منفّرة أكثر للاستثمار الروسي الراهن فيها.

ونتيجة لذلك، ستخرج الشركات التي لم تنفّذ المشاريع المتعاقد عليها بعد، والتي كانت تنتظر ظروفاً أفضل للعمل في سوريا. تحديداً منها التي تعمل في مجالات السياحة والإسكان، والتي تتطلب تحسناً للقدرة الشرائية للسوريين، وتلك التي تعمل في قطاع الخدمات كالسدود والمياه والكهرباء والمطاحن، والتي تتطلب سيولة نقدية من جانب حكومة النظام للوفاء بالالتزامات حيالها. في المقابل، ستبقى الاستثمارات في قطاعات المرافق، كمرفأ طرطوس، والموارد الباطنية، كالفوسفات تحديداً، إلى جانب المشاريع المنفّذة في قطاعات النفط والغاز. نظراً لأنها تحصل على مكاسبها من مصادر لا تتعلق بجيوب السوريين أو خزانة حكومتهم، إلى جانب أنها تكلفت رأس مال تأسيسي. أما المشاريع غير المنفّذة في هذا المجال، فستنسحب على الأرجح، خشية تبعات تشديد العقوبات، إلى جانب ضبابية المستقبل في البلاد.

المدن

————————-

في غموض حسابات الحرب الأوكرانية/ كمال عبد اللطيف

ملأت الحرب الروسية الأوكرانية العالم صخباً، أحيت شعاراتٍ سادت أزمنة القطبية الثنائية، واعتقد الجميع بناء على معطيات ووقائع سياسية مُحدّدة باندثارها.. ولا أحد اليوم يعرف ما يجري في الحرب القائمة، منذ بدايتها في فبراير/ شباط الماضي، رغم أن موسكو أعلنت أن أهدافها من العملية العسكرية في أوكرانيا تتجه إلى نزع سلاح أوكرانيا. وقد دفعت العملية العسكرية الروسية العالم أجمع إلى نسيان الحروب المشتعلة في مناطق أخرى منه، ويجري التركيز في الإعلام الغربي ووسائط التواصل الاجتماعي على آثار الحرب في المدن الأوكرانية، وأيضا إبراز النتائج والتداعيات التي ترتَّبت عنها في الغرب الأوروبي وفي أميركا، وفي اقتصاديات العالم أجمع. وقد أصبحت صوَر المُهَجَّرين الأوكرانيين الهاربين من نيران الحرب وشظايا الأسلحة تملأ حيز الأخبار في القنوات التلفزية والإعلامية في كل مكان.

لكن كيف أصبحت حرب روسيا على أوكرانيا عنواناً بديلاً لكل الحروب الجارية في العالم، وأصبحت مقاومات الشعب الأوكراني ومآسيه عنواناً لكل المقاومات الحاصلة في عالمنا. يتضامن الغرب مع أوكرانيا، ويبني مواقف تستهدف المشروع الروسي، فنجد أنفسنا أمام حربٍ بالوكالة، حربٍ تُقَدَّم فيها المساعدات العسكرية والمخابراتية لمواجهة الجيش الروسي. ولكن لماذا يحدث نسيان المُهَجَّرين في بقاع الأرض كلها، ويمتلئ الإعلام بصور المُهَجَّرين الأوكرانيين وحدهم؟ ومقابل ذلك، لماذا تحتفي قنوات إعلام أخرى بهجوم بوتين على أوكرانيا، وتعدّه عملاً إنسانياً مشروعاً، وترى في عملياته العسكرية موقفاً من حلف الناتو الساعي إلى وضع يده على أوكرانيا؟

تجري العمليات العسكرية الروسية في مدن أوكرانية، وتنشأ مقاوماتٌ أوكرانيةٌ بآليات غربية ومساعدات أميركية بتوسط دول أوروبية عديدة. وبموازاة ذلك، يجري تعميم حرب أخرى في فضاءات التواصل الرقمي، توضع فيها روسيا الأوروبية الآسيوية مقابل الغرب الأطلسي، حيث يُعَمِّمُ بوتين، ومن معه في وسائط التواصل الاجتماعي، رسائل إلى العالم أجمع. ويجري، في الآن نفسه، تعميم مواقف نافية للرسائل ومحتواها، فيجد المتابع للحرب الجارية وأخبارها أمام معطياتٍ كثيرة لا صلة لها بالحرب الجارية. والإشارة هنا إلى التقارير الأميركية التي لا تتوقف، وإلى رسائل الرئيس بوتين وخطاباته وأنماط حنينه لروسيا الإمبريالية، روسيا التي تُشخّص عدوها اللدود في الولايات المتحدة، حيث يتصاعد الحنين في الحرب القائمة إلى القطبية الثنائية. ولا يستطيع مُتابِع ما جرى ويجري، منذ أزيد من شهرين، من الاقتتال بين روسيا وأوكرانيا، فهم كل ما جرى ويجري، وهناك غموض وضبابية تملأ المواجهة المفتوحة بين روسيا والغرب، وذلك بعد أن استقرّت القطبية العالمية على قواعد في الممارسة، منحتها مواصفات وحدودا معينة.

عندما نقرأ الحرب بمنطق الثنائية القطبية، يكون القارئ مشدوداً إلى تداعيات ما بعدها، أي مختلف التوافقات التي حصلت بين الولايات المتحدة والغرب وروسيا بوتين في سورية وليبيا وفي مناطق أخرى، على الرغم من الاختلافات والتناقضات القائمة بينهما. أما عندما تُقْرَأ كفعل يتوخّى نوعاً من العودة إلى بناء الثنائية القطبية مجدّداً، فإن شروطاً عديدة تظل غائبة عن كل الخراب الذي تُعَمِّمُه روسيا في أوكرانيا. لقد مارست روسيا، خلال العقدين الأخيرين، وفي سياقات سياسية مختلفة، أشكالاً من التواطؤ المعلن مع الغرب ومع الولايات المتحدة في مختلف البُؤَر المشتعلة في العالم، فكيف تتجه اليوم إلى إخراج أوكرانيا من مشروع التحاقها بالاتحاد الأوروبي، وبحلف الناتو؟ ما هي الدوافع التي تدفع روسيا المنخرطة في عمليات التحوّل إلى الاقتصاد الرأسمالي، زمن التعولم الجارف وهيمنة النيوليبرالية، إلى رفع شعار الخلاص من الغرب وسطوته؟ هل ندرج المسألة في إطار نوع من الحنين لروسيا الإمبريالية أو لاتحاد سوﭬييتي مُمَزّق ومن دون اشتراكية؟ هل تتّجه روسيا إلى بناء مشروع الاتحاد الأورو آسيوي مقابلا للاتحاد الأوروبي؟

يحرص بوتين في الحرب المشتعلة على تذكيرنا بأمرين: الكارثة المرعبة في تاريخ روسيا المعاصرة، والمتمثلة في انهيار الاتحاد السوﭬﻴيتي سنة 1991، إنها تقف في نظره وراء ضرورة تجديد المواجهة. واعتباره أن الغرب اليوم يتهاوى، وهو في طريقه إلى السقوط، ولهذا يكرّر، في مناسبات عديدة، أن روسيا عائدة، وأنها ستعود لمواجهة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. أما تفاصيل جغرافية الحرب الدائرة في أوكرانيا، بشعاراتها ووقائعها، فإنها لا تشكل أكثر من فضاء وسيط لبناء آليات الخراب القادم أو التوافقات المحتملة.

يستعيد بوتين، في خطاباته الموازية للعملية العسكرية الجارية، بعض أطروحات المثقف الروسي، ألكسندر دوغين، الرامية إلى اعتماد القومية الروسية من أجل بناء عالمٍ جديد، تجري فيه مواجهة حضارة الأرض مع حضارة أوروبا المائية، معتبراً أن روسيا الجديدة تقوم على مبدأ التكامل الإقليمي، وتنخرط في العقيدة الأوروآسيوية التي تشمل أربع حضارات، الروسية والصينية والهندية والإيرانية، وذلك للتمكّن من تكسير هيمنة القطب الواحد والخلاص من الغرب.

في مثل هذه الحروب، لا تحصل انتصارات ولا هزائم، إننا أمام حروب ترتّب أهدافاً ترتبط بسياقات ومواقف محدّدة، وتستوعب خياراتٍ متناقضة. وبناء عليه، تخفي العملية العسكرية الروسية ما يسمح بإمكانية تجريب شكلٍ من أشكال الجنون، كما تستوعب مواقف الولايات المتحدة والغرب الأوروبي فيها صورا كثيرة للحذر السياسي والتاريخي، ولا يمكن التأكد من إمكانية الاستمرار في هذا الوضع، أمام حرائق المدن الأوكرانية وتهديدات موسكو.. ويبدو أنه لا أحد يستطيع أن يتنبأ اليوم بالمواجهة المفتوحة بين الطرفين في الميدان الأوكراني. وإذا كانت الولايات المتحدة والغرب الأوروبي يريان أن روسيا خسرت أهدافها في أوكرانيا، فإن روسيا ترى، بأعين أخرى، أن نهاية الغرب، بقيادة أميركا أزفت. وما هو مؤكّد اليوم أن الحرب متواصلة، تقوم بها روسيا داخل أوكرانيا، ويقوم بها الغرب بِمَدِّ أوكرانيا بالمساعدات العسكرية والاستخباراتية اللازمة لمواصلة المقاومة.. ومن حقّ المتابعين للعملية العسكرية الروسية أن يتساءلوا عن سقفها وحدودها.

العربي الجديد

———————

ديبلوماسية تركيا وأزمة أوكرانيا.. الحياد والمصلحة الوطنية/ خيري عمر

مع اندلاع الهجوم الروسي على الأراضي الأوكرانية في 24 فبراير/ شباط 2022، انخرطت السياسة التركية في محاولات لوقف الحرب بالوساطة بين الطرفين، غير أن انتشار الصراع على نطاق دولي كشف عن تزايد قيود وقف الحرب. وتبدو أهمية الاقتراب من دوافع الدور التركي في الكشف عن العوامل المُساندة للوساطة وتلك الكابحة لها، ومدى تأثير النطاق الإقليمي والدولي في القدرة على الحياد والفاعلية الديبلوماسية.

نظرة تركيا إلى الحرب

وفق البيانات الرسمية، وصفت تركيا الحرب بالعملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، ما يمكن اعتباره موقفاً محايداً لوصف الهجوم الروسي. ويعده الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خطاب أنطاليا، في 11 مارس/ آذار 2022، نتيجة فجوات النظام الدولي وعلاقتها المباشرة باندلاع الحرب. وتُمثل هذه النظرة أساس التناول التركي للأزمة الأوكرانية، حيث تمزج ما بين العوامل المباشرة لاندلاع الحرب وتدهور كفاءة النظام الدولي في احتواء المشكلات الدولية، فقد ركز على هشاشة النظام الأوروبي تجاه أزمة ضم شبه جزيرة القِرم في 2014، عندما اعتبرها نقطة البداية في الحرب الدائرة، وأدّت إلى الإخلال بالتوازن في البحر الأسود.

وثَمّة تركيز واضح على أن المشكلة ترتبط بتحيز النظام الدولي وعجز الهيكل الأمني عن تلبية احتياجات الدول، وخصوصاً مع تراكم أخطاء ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يؤدّي اختلال التوازن إلى حالة إفلاس تراكمت بسبب احتكار خمس دول القرار السياسي وإهمال مصالح 193 دولة. وفقاً لتركيا، يرتبط نظام الأمن الدولي بتعديل هيكل الفاعلين في الأمم المتحدة وإجراء التغييرات اللازمة لإدماج أكبر عدد من الدول في الرقابة على السياسات الأمنية على قاعدة المصالح المشتركة، حيث لا تقوى العضوية المؤقتة في مجلس الأمن، 10 أعضاء، على معالجة العيوب الهيكلية في النظام الدولي. وهذا ما يُفسر اقتراح تركيا شعار “العالم أكبر من 5” للدلالة على الرغبة في توسيع مجلس الأمن، وتطوير آلية التعبير عن المصالح الدولية.

وبشكل عام، راعت المواقف التركية القانون الدولي والحقوق الخاصة للمواطنين، فمن جهةٍ رأت أنه لا يمكن تبرير العدوان الروسي، ورأت دعم حق الأوكرانيين في الدفاع عن أنفسهم. ومن جهة أخرى، ذهبت إلى دعم حماية المواطنين الروس وملكياتهم في البلدان الغربية. وفي هذا السياق، رأت تركيا أنه لا يمكن تبرير العدوان على دولةٍ ذات سيادة، دولة مجاورة، واعتبرته خطوة غير شرعية  تتجاهل وحدة أراضي أوكرانيا. وثمة إشارة خاصة إلى ضم غير قانوني لشبه جزيرة القرم، واعتبر سكوت الأوروبيين عليها جريمة، في وقت رأت فيه تركيا المسألة على جدول الأعمال في كل مشاركاتها الدولية، سواء مع الاتحاد الروسي أو مع أوكرانيا. 

بناء التفاوض

ومنذ بداية الأزمة، بدت تركيا على وعيٍ بأهمية احتواء الصراع ومنع اندلاع الحرب. ولذلك، كان خيار الوساطة المُفضل لها وانفتاح الاتصالات مع أطراف الصراع المباشرة والثانوية. وفي هذا السياق، تبنّت ديبلوماسية حذرة لتجنّب الانحياز المُبكر، وبحيث لا تكون طرفاً في أزمةٍ ما زالت تداعياتها تتشكّل، ودخلت في موازنات دقيقة تراعي كثافة المصالح مع الطرفين وعضويتها في حلف شمال الأطلسي والتزامات الأمن الجماعي. وقد انصبّ اهتمام تركيا على ترقية الوساطة بعقد لقاء بين رئيسي الدولتين؛ فلاديمير بوتين وفولوديمير زيلينسكي، باعتبارها الطريق القريب لوقف الحرب وإحلال السلام.

وقد اتجهت السياسة التركية إلى عقد لقاء قمة بين الرئيسين، 3 فبراير/ شباط. وحسب تصريحات المُتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، أسّست تركيا موقفها على أن للرئيس بوتين الكلمة الأخيرة لوضع حد للقتال الجاري في أوكرانيا. ويمكن قراءة الموقف التركي من جانبين؛ يرتبط الأول بتعريف العدوان في القانون الدولي وبالتالي تقع مسؤولية وقف الحرب على روسيا، والثاني، أنها تسعى إلى بناء الثقة مع الرئيس بوتين واعتباره مركز الحل السلمي، حيث تعمل وفق أولوية ترسية توازن علاقات تركيا في البحر الأسود.

وبشكل عام، يقوم تصوّر تركيا للوساطة على مدى قدرة الطرفين على وقف إطلاق النار ومعالجة آثار الحرب، وخصوصاً ما يرتبط بدعم اللاجئين. وبدأت هذه المرحلة بالاتصال مع الطرفين خطوة أولية للوساطة. في المرحلة الأولى، انعقد لقاء وزيري الخارجية، الروسي سيرغي لافروف والأوكراني دميترو كوليبا، في 10 مارس/ آذار، وقد اقتصرت نتائج الاجتماع على استمرار المحادثات وفتح الطريق لاجتماعات لاحقة.

وبعد اتصالات تركية مع الطرفين، انعقد لقاء وفدي روسيا وأوكرانيا في إسطنبول، 27 مارس/ آذار، بناءً على مبادرة من الرئيس أردوغان بعد اتصال مع الرئيس بوتين، بهدف التوصل لوقف إطلاق النار، وقد اعتبرت تركيا أن موافقة الطرفين على الوساطة نقطة يمكن البناء عليها، حيث عكس الاجتماع في إسطنبول على مستوى وفدي روسيا وأوكرانيا تغيرا جزئياً في موقف الطرفين من إدارة الحرب، فمن جهة يُعبر انتقال المحادثات من نطاق بيلاروسيا إلى تركيا عن إمكانية التواصل مع طرف ثالث يتصف بالحياد والرغبة في وقف الحرب، كما أن الاجتماع، من جهة أخرى، يظل في إطار المحادثات التمهيدية للتعرف على نيات الطرفين.

وقد دارت المفاوضات حول شروط متبادلة من الدولتين، روسيا وأوكرانيا. فقبل لقاء وزيري الخارجية في تركيا، أعلنت الرئاسة الروسية شروطها لوقف الحرب، في مقدمتها تغيير الحدود الأوكرانية، حيث الاعتراف بتبعية القِرم جزءاً من روسيا، وأيضاً القبول باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك. ولم تضع نزع السلاح شرطاً مسبقاً، وتُرك للجيش الروسي ليدمّر كل السلاح الأوكراني. وأضافت الشروط الروسية إجراء تعديل دستوري، يضمن عدم الانضمام إلى أي تكتل سياسي أو عسكري. وقد ربطت روسيا انعقاد اجتماع قمة يكون تالياً، (متحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف  في 12 مارس/ آذار)، لتقدّم المحادثات بين الوزراء والوفود ووضوح اتجاه إلى المساومة على الشروط الروسية. ومن جانب أوكرانيا، تركّزت المطالب في ثلاثة: وقف إطلاق النار، انسحاب القوات الروسية، ضمانات أمنية ملزمة لسلامة إقليم أوكرانيا.

وحسب التقييم التركي، كما عبر المتحدّث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، تُصنف المطالب الروسية إلى مجموعتين: الأولى، ويمكن تحقيقها، وتتعلق بحياد أوكرانيا وعدم انضمامها لحلف شمال الأطلسي، قبول نزع سلاحها، حماية اللغة الروسية واجتثاث النازية. أما ما يرتبط بالسيادة وتغيير الحدود ونزع الأقاليم فتبدو صعبة، لارتباطها بالسلامة الإقليمية لأوكرانيا. وعلى الرغم من محدودية النتائج الحالية، تتّجه الديبلوماسية التركية إلى بقاء قنوات الاتصال مفتوحة عبر زيارات لأوكرانيا، 1 مايو/ أيار 2022، واتصالات مع روسيا لتخفيف حدّة الأزمة.

محاولات لتوسيع نطاق الديبلوماسية

زادت وتيرة لقاءات تركيا ومسؤولي الدول الأوروبية. وفي الأسبوع الثاني للحرب، زار تركيا 15 مسؤولاً أوروبياً وأميركياً والمنظمات الدولية. وفي لقاء بين الرئيسين، التركي والبولندي، بدا الحديث عن الشؤون الأمنية والدفاعية واضحاً، وخصوصاً في الصفقات بجانب الصفقات العسكرية من المُسيّرات التركية. وإلى جانب مناقشة الحرب بين روسيا وأوكرانيا، شملت المحادثات الوضع في منطقة البلقان مع الرئيس الألباني، إيدي راما، وعضوي المجلس الرئاسي في البوسنة والهرسك شفيق جافيروفيتش وميلوراد دوديك. كما تناولت الزيارات بحث العلاقات الثنائية في لقاء رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، فيما يتعلّق بترسيم الحدود وخفض التصعيد في بحر إيجه وتعزيز العلاقات التجارية واستمرار المحادثات العسكرية.

وبمراجعة اللقاءات، يمكن ملاحظة كثافة زيارات الأوروبيين أنقرة، واستعدادهم للتجاوب في التعاون في نطاق الصناعات العسكرية، وفتح ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي وترقية العلاقات إلى مستوى التحالف الواقعي، انطلاقاً من ميثاق حلف الأطلسي في الدفاع المُشترك، بالإضافة إلى تشجيع التواصل التركي مع اليونان وإسرائيل والتسهيلات الجمركية والتعاون في مكافحة الهجرة غير المشروعة، زيارة مستشار ألمانيا. وعلى مستوى السياسات الدفاعية، التقى وزير الدفاع التركي مع وزيري بريطانيا وإيطاليا في إسطنبول، 9 أبريل/ نيسان، لمناقشة التعاون في مجالَي الصناعات الدفاعية والتدريب العسكري والتطورات في أزمة أوكرانيا وسلامتها الإقليمية ووقف إطلاق النار.

وفي قمة الأطلسي في 25 مارس/ آذار الماضي، دعا الرئيس أردوغان إلى رفع حظر توريد السلاح والمنتجات الدفاعية، باعتبارها مصلحة جماعية تتطلب إزالة العقوبات “غير المبرّرة” عن الصناعات الدفاعية التركية. وقال إن الحظر السري أو العلني غير لائق بين الحلفاء، وينبغي أن يكون التعاون بينهم تلقائياً. وتعكس مُجريات قمة الأطلسي وجود إدراك بأن الأزمة الأوكرانية تتطلب إظهار الوحدة والحفاظ على الهدوء في شرق البحر المتوسط، ودعم دور أنقرة في الحفاظ على توازن القوى في البحر الأسود.

التحوّط ضد تداعيات الحرب

وتُمثل رغبة تركيا البقاء على الحياد جاذبية لأوروبا والولايات المتحدة، حيث ظلت نقطة اتصال مفتوحة لاكتشاف الحل المُمكن، وهذا ما يُفسّر بقاءها ملتقى الاتصالات الديبلوماسية من أطراف مختلفة. وبدت ميزة الموقع الجغرافي في سعي أوروبا إلى الانفتاح على تركيا وظهور اتجاهات لمناقشة المسائل العالقة في العلاقات المشتركة، بالإضافة إلى ترقية التعاون في سياسات الهجرة، الأمن والطاقة وإمداداتها من بحر قزوين. وفي سياق النشاط الديبلوماسي، استأنفت اللجنة البرلمانية الأوروبية التركية اجتماعها، بعد انقطاع ثلاث سنوات. وقد ساعد هذا التوجه على تعدّدية التواصل مع روسيا ومنع احتكار فرنسا له. وباعتبارها ضمن دول حوض البحر الأسود وقربها من روسيا، فإن انفتاح تركيا على طرفي الصراع ساعد على تأمينها ضد انزلاق الأزمة وانفلاتها بصورة يصعب السيطرة على تداعياتها.

في هذا السياق، بدت سياسة تركيا أكثر تشابكاً مع دول الشمال، حيث تُمثل مركز الأزمة، كما يساهم تطوير العلاقات التركية مع البلدان العربية في تقوية مظلة أمان للسياسة الخارجية، وتقليل أثر تداعيات الحرب، سيما في نطاق الطاقة. ويمكن النظر إلى تحسين العلاقات مع الإمارات العربية المتحدة والسعودية، واستمرار البحث عن فتح آفاق للعلاقة مع مصر، توجّهاً إلى رسم خريطة متوازنة للمصالح التركية على المستويين، الإقليمي والدولي.

القيود على الوساطة

وبغض النظر عن تباين مواقف الطرفين، روسيا وأوكرانيا، تجاه مسألة السلامة الإقليمية، تفرض البيئة الخارجية قيوداً على سير التفاوض وتوقفه. ويرجع التعثّر في وقف إطلاق النار لارتباطه بنطاق أوسع من الصراع لا يقتصر على أوكرانيا، بل يتضمّن الحاجات الأمنية لدى الغرب وروسيا، وهي حِزَم مترابطة يصعب تناولها منفردة، مثل الاعتراف بالقرم وحسم الجدل حول توسيع الأطلسي. وثمّة عامل آخر يرتبط بالقلق الروسي من التدخل الغربي بإثارة الصراع فيما بين القومية السلافية وانهيار خط الدفاع الأمامي ضد تدخل القوميات الأوروبية. وكثيراً ما أشار الخطاب الرسمي الروسي إلى أحداث يوغسلافيا في تسعينيات القرن الماضي، باعتبارها ضمن التفكيك الغربي للسلاف مركزا ديمغرافيا للاتحاد الروسي.

واجهت تركيا حالة من عدم التماثل في أثناء الوساطة، فبينما يرحّب الغرب بالوساطة، متزامناً مع تواتر الحديث عن إمداد أوكرانيا بالأسلحة وتطوير العقوبات بصورة أسرع من الحديث عن السلام ووقف الحرب. وفي موازاة الوساطة التركية، انعقدت جلسات في إطار مجلس الناتو وروسيا في مقر الحلف في بروكسل، وليس داخل المجلس الأوروبي، 16 فبراير/ شباط 2022، وهو ما يعني انضواء أوروبا تحت مظلة الحلف وعدم توافقها على تكوين مظلة خاصة بها؛ سياسية أو عسكرية، غير أنه لم تتوفر كوابح ضد اندلاع الحرب، ما يمكن فهم الوساطة التركية محاولةً لتخفيف آثار الأزمة، وليس الوقف الفوري لإطلاق النار.

وبينما تجري المفاوضات بوساطة تركيا، تعمل أطراف أخرى على تكوين مساراتٍ لاستمرار الحرب، فمن خلال مجموعة العشرين، ثار جدل بشأن استبعاد روسيا لأجل تعزيز العقوبات والحصارين، السياسي والاقتصادي، بجانب دعم أوكرانيا بالسلاح تخطيطاً لحرب طويلة لإزاحة روسيا نحو الشرق. وعلى الوجه المقابل، تتجه روسيا إلى قطع الغاز عن أوروبا مع استمرار إطلاق النار وإعادة انتشار قواتها في أوكرانيا، مع غموض أهدافها من الحرب أو تشتتها.

ومع اقتراب العقوبات ضد روسيا من سياسة العقاب الجماعي، واجهت الوساطة التركية زيادة التحوّطات للدفاع الذاتي على حساب الرغبة في استمرار التفاوض، وكان تعليق وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إن الوضع ليس مهيئاً للوساطة، مؤشّراً إلى التأثير المتبادل لعوامل تعزيز استمرار الحرب. وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى السلوك الجماعي لمجموعة السبع الصناعية عبئاً على الحل السلمي، فالتضامن في اجتماعات الأمم المتحدة والدعوة المشتركة إلى فرض عقوبات على روسيا، ساهم في تزايد الاستقطاب الدولي بعيداً عن المفاوضات محدودة المستوى بين روسيا وأوكرانيا.

مونترو والأمن الذاتي

وفي سياق تراجع فرصة التسوية، صارت تركيا أكثر انزعاجاً من اندلاع الحرب بسبب مرور السفن الحربية، اتفاقية مونترو 1936، ما يُلقي عليها أعباء أمنية وعسكرية. وفي بداية الحرب، ثار جدل بشأن تفعيل سلطة تركيا في الرقابة على تسيير السفن أو منعها. وقد ارتبط النقاش بمدى تحقق حالة الحرب نتيجة الهجوم الروسي. وفي 27 فبراير/ شباط، صرح وزير الخارجية، جاويش أوغلو، بتحول الاشتباكات إلى حرب بين روسيا وأوكرانيا، وأن الوضع يتطلب تفعيل الاتفاقية ومنع عبور السفن الحربية سوى تلك العائدة للموانئ الدائمة، وتفعيل المادة 19 من الاتفاقية. وفي 27 أبريل/ نيسان، أعلن وزير الدفاع، خلوصي أكار، عن تطبيق الاتفاقية بكل شفافية على كل الدول، وتقوية الرقابة الأمنية والعسكرية على السفن العابرة. ويشكّل استخدام تركيا السلطات الممنوحة لها خطوة لاحتواء انتقال التطورات المحتملة للحرب إلى توتر في البحر الأسود.

وقد لقي القرار التركي تأييد البلدان الغربية باعتباره تقييداً للعسكرية الروسية وتقارباً مع الحكومة التركية، وهي ظروفٌ تتماثل مع تعديل اتفاقية لوزان، 1923، لزيادة صلاحيات تركيا في الرقابة على الملاحة العسكرية في المضايق، بحيث جرى وضع قواعد لمرور السفن الحربية وتقييد حمولتها. ومع صعوبة توقع نهاية للحرب، تبدو أهمية النقاش في فرصة مُراجعة الاتفاقية وتطويرها، وخصوصاً في ظل تطور مدى السلاح والقوة الانفجارية للمفرقعات، يمكن أن تسعى تركيا إلى مراجعة الاتفاقية فيما يتعلق بعدد السفن المارّة في وقت واحد ونوعية الذخائر المحمولة ومدى الالتزام بالمرور البريء.

على أية حال، وضعت هذه السياقات قيوداً على الدور التركي، بزيادة تعقيد الأزمة وغياب مظلة دولية لتوفير ضماناتٍ لمخرجات التفاوض، فهناك تسابق بين عوامل التسوية السلمية ومحفّزات الصراع، ما يشكّل معضلة أمام تطوير المفاوضات، وخصوصاً مع تعدّد أطراف الصراع الفعليين أو الثانويين في مقابل نقص الوسطاء، ومن ثم، يرتبط التقدّم في وقف الحرب بوجود مظلة سياسية لرعاية التفاوض وتوفير الضمانات اللازمة لوقف إطلاق النار.

وعلى وجه أخير، على الرغم من الترحيب بالوساطة التركية، تقف قراءة الغرب عند الطبيعة التنافسية للدور التركي، فالحديث عن تغيير الصيغة القائمة للنظام الدولي يتضمن مساراً للتموضع في العلاقات الدولية وإعادة هيكلة النظام الأمني، وهي قراءة لا تقتصر على معالجة الأزمة ما بين روسيا وأوكرانيا، بقدر عدم رغبة الدول الكبرى في تقاسم سلطة القرار، أو توسيع المشاركة فيه. وهنا، يمكن تقييم السياسة التركية من جانبين؛ الحفاظ على الحد الملائم من الحياد والمصالح مع الطرفين، وتوسيع شبكة علاقاتها مع البلدان المختلفة.

العربي الجديد

————————–

بوتين والحقيقة والواقع!/ خيرالله خيرالله

يكون احتفال روسيا بذكرى انتصارها على ألمانيا النازية في الحرب العالميّة الثانية بممارسة الانتصار على الذات أوّلا وليس بتدمير بلد جار مثل أوكرانيا وتشريد شعبها. يعني ذلك التصالح مع الحقيقة والواقع بكلّ وضوح. تقول الحقيقة إنّ روسيا كانت طرفا في الحرب العالميّة الثانية ولعبت دورا أساسيا في هزيمة أدولف هتلر وجيوشه وألمانيا النازيّة، فيما يقول الواقع إنّها خسرت الحرب الباردة التي بدأت مع نهاية الحرب العالميّة الثانية في العام 1945… وانتهت بسقوط جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989 ثمّ الإعلان رسميّا عن انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع العام 1992.

تكمن مشكلة الرئيس فلاديمير بوتين في أنّه يقرأ التاريخ بطريقته الخاصة. الأخطر من ذلك كلّه، أنّه يرفض الاعتراف بارتكابه حسابات خاطئة في أوكرانيا التي غرق الجيش الروسي في وحولها بعدما كان يعتقد جنرالاته أنّ مسألة القضاء عليها وتغيير النظام فيها لن يستغرقا سوى بضعة أيّام.

لم يجد فلاديمير بوتين ما يقوله للروس في ذكرى الانتصار في الحرب العالمية الثانية (يوم التاسع من أيار – مايو) غير السعي إلى تبرير الحرب التي شنهّا في الرابع والعشرين من شباط – فبراير الماضي. هذه حرب دخلت شهرها الثالث قبل أسبوعين. لم يعد لدى الرئيس الروسي ما يقوله سوى كلام من نوع أنّه “فعل كلّ ما يستطيع” من أجل تفادي مواجهة مع الغرب، خصوصا عبر القنوات الدبلوماسيّة، لكن “بلدان حلف شمال الأطلسي (ناتو) رفضت الاستماع لنا. كانت لديها خطط مختلفة”. أكّد أن بلدان حلف شمال الأطلسي “كانت تنوي غزو أراضينا التاريخيّة بما في ذلك (شبه جزيرة) القرم”. اتهم صراحة بلدان الحلف بـ”الإعداد لمثل هذا الغزو” وصولا إلى تفسير ما حدث بأنّ “مواجهة النازيين الجدد كانت أمرا محسوما”، معتبرا أنّ “روسيا ردّت على العدوان بشكل مسبق”. خلص إلى القول: “كان القرار الذي اتخذناه واجبا، وهو قرار اتخذ في الوقت المناسب، وهو القرار الوحيد المتاح أمام بلد سيّد وقوي ومستقل. كانت روسيا تواجه تهديدا غير مقبول”.

إنّ كلّ كلمة صدرت عن الرئيس الروسي، الذي شهد عرضا عسكريّا ضخما في موسكو، قابلة للنقاش. لكن ما العمل مع رئيس دولة يرفض الاعتراف بأنّه أخطأ في حساباته، بما في ذلك اكتشافه متأخّرا أنّ ما أقنعه به المحيطون به عن أن الأوكرانيين يعشقون روسيا، ليس صحيحا وأنّ هدفهم التخلّص من النظام القائم. لم يستوعب أنّ أوكرانيا التي انفصلت عن الاتحاد السوفياتي، بعد انهياره، صارت أوكرانيا أخرى بعدما تعرّف شعبه إلى معنى الحرّية وذاق طعمها… مثله مثل شعوب دول أوروبا الشرقيّة التي كانت تعاني من نير الاستعمار السوفياتي حتّى العام 1991.

ما العمل مع رئيس دولة يرفض الاعتراف أنّه أخطأ في حساباته بما في ذلك اكتشافه متأخّرا أنّ ما أقنعه به المحيطون به عن أن الأوكرانيين يعشقون روسيا ليس صحيحا

وصل الأمر بالأوكرانيين، وهم في أكثريتهم من الأرثوذكس، إلى تحولّهم إلى شعب حضاري، أي أنّهم مسيحيون، انتخبوا فولوديمير زيلنسكي رئيسا للبلاد، على الرغم من أنّه يهودي.

 فاجأ الأوكرانيون فلاديمير بوتين. كانت حساباته في غير محلّها، بما في ذلك الاستخفاف بقدرة الجيش الأوكراني على المقاومة والصمود في وجه آلة حرب روسيّة، أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها آلة متخلّفة. لا يمكن تبرير الأخطاء المرتكبة سياسيا بأخطاء أخرى من نوع تزوير التاريخ والحديث عن عدوان يجري إعداده يستهدف القضاء على روسيا و”عظمتها”.

لا شكّ أنّ الغرب ارتكب أخطاء كثيرة، خصوصا بعد تغاضيه عن التدخل الروسي في جورجيا ثم استعادة روسيا شبه جزيرة القرم بالطريقة التي استعادتها بها في العام 2014. الأخطر من ذلك كلّه كان السكوت الغربي، خصوصا الأميركي، عن تحوّل روسيا إلى طرف في الحرب التي يشنّها النظام الأقلّوي السوري على شعبه. اعتقد فلاديمير بوتين أنّ أوكرانيا مجرّد سوريا أخرى وستكون حقل تجارب للسلاح الروسي الذي استهدف المواطنين السوريين العزل.

يظلّ الخطأ الأكبر الذي ارتكبه فلاديمير بوتين هو ذلك الخطأ المرتبط بردّ الفعل الأوروبي على غزو أوكرانيا. حسنا، سيراهن الرئيس الروسي الآن على انقسامات أوروبيّة، لكنّه لا يريد إدراك أنّ مثل هذه الانقسامات، التي تشمل بلدا مثل هنغاريا يمتلك حسابات خاصة به، تظلّ لا قيمة لها بعدما اتخذت ألمانيا قرارا بالتخلي تدريجيا عن الاعتماد على الغاز الروسي.

لم يقدّر فلاديمير بوتين في أي وقت ما الذي تعنيه العزلة الدوليّة لروسيا وماذا يعني قرار الدول الصناعيّة السبع (G7) القاضي بالعمل من أجل الاستغناء مستقبلا عن الطاقة (النفط والغاز) التي مصدرها روسيا.

أكثر من أي وقت، عزلت روسيا نفسها عن العالم وعن كلّ ما هو حضاري فيه. ما الفائدة من التشدق بالشعارات وعظمة التاريخ الروسي، فيما تبيّن أنّ فلاديمير بوتين لا يمتلك شجاعة الاعتراف بأنّه أخطأ. لم يخطئ في حق الشعب الروسي فحسب، بل أخطأ في حقّ الأوكرانيين والسوريين أيضا. تبيّن، أقلّه في سوريا، أنّه لا يستطيع أن يكون أكثر من أداة إيرانيّة في بلد وضعته “الجمهوريّة الإسلاميّة” تحت وصايتها ووصايات الميليشيات المذهبيّة المختلفة التابعة لـ”الحرس الثوري”. باتت إيران، في ضوء ما حصل في أوكرانيا، تستقوي على روسيا في سوريا!

في ذكرى الانتصار الروسي في الحرب العالميّة، وهو انتصار ما كان ليتحقّق لولا انضمام أميركا إلى الحلفاء الأوروبيين لمواجهة هتلر واليابان، ثمّة دروس لا يمكن تجاهلها. من بين هذه الدروس أنّ العالم الغربي لا يمكن أن يتحمّل دولة مثل روسيا تهدّد بالسلاح النووي وسلاح قطع الغاز والنفط عن دول أخرى تعتمد عليها في الحصول على الطاقة.

تستطيع روسيا، التي حجم اقتصادها أصغر من حجم الاقتصاد الإيطالي ممارسة كلّ أنواع القتل في سوريا، لكنّ أوروبا تبقى شيئا آخر. هذه هي الحقيقة وهذا هو الواقع. هل يستطيع فلاديمير بوتين التصالح معهما… أم يعتقد أن الصين، التي تمتلك حسابات خاصة بها، ستهب لنجدته؟

إعلامي لبناني

العرب

————–

رئيس فنلندا ورئيسة وزرائها يؤيّدان الانضمام للناتو «دون تأخير»

أعلن رئيس فنلندا ورئيسة وزرائها، اليوم الخميس أنهما يؤيّدان الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) وأن قراراً رسمياً سيتّخذ نهاية الأسبوع، بعدما أحدثت حرب روسيا على أوكرانيا تحوّلاً سريعاً في الرأي العام في البلد.

وقال الرئيس ساولي نينيستو ورئيسة الوزراء سانا مارين في بيان مشترك إن «على فنلندا التقدّم بطلب للانضمام إلى الناتو من دون تأخير».

ولطالما لعب نينيستو دور الوسيط بين روسيا والغرب.

وجاء في البيان أن «عضوية الناتو ستعزز أمن فنلندا. وبانضمامها إلى الناتو، ستزيد فنلندا من قوة التحالف الدفاعي برمته».

وأضاف البيان أن لجنة خاصة ستعلن قرار فنلندا الرسمي بشأن مسألة تقديم ترشيحها لعضوية الناتو الأحد.

وكان من المتوقع أن يعلن الرئيس ورئيسة الوزراء عن موقف إيجابي من الانضمام للناتو.

قال نينيستو للصحافيين الأربعاء إن «الانضمام إلى الناتو لن يكون ضد أحد»، وسط تحذيرات روسية من عواقب سعي هلسنكي للانضمام إلى التحالف العسكري الغربي. واضاف أن ردّه على روسيا سيكون «أنتم تسببتم بذلك».

وفي ظل التوتر بين الغرب وروسيا في يناير (كانون الثاني)، قالت مارين إنها «تستبعد إلى حد بعيد» أن تقدّم هلسنكي طلب ترشحها لعضوية الناتو خلال ولايتها الحالية التي تنتهي في أبريل (نيسان) 2023.

لكن بعدما غزت جارتها الشرقية أوكرانيا في 24 فبراير (شباط)، تحوّل الرأيان العام والسياسي في فنلندا بشكل كبير ليصبحا مؤيّدين للعضوية لردع أي عدوان روسي.

وأظهر استطلاع للرأي نشرته شبكة «يلي» Yle الفنلندية للبث الاثنين أن نسبة قياسية من الفنلنديين (76 في المائة) باتت تؤيد الانضمام إلى الحلف، مقارنة بما بين 20 و30 في المائة في السنوات الأخيرة.

وتتشارك فنلندا حدوداً يبلغ طولها 1300 كلم مع روسيا والتزمت عدم الانحياز العسكري على مدى عقود.

وعام 1939. غزاها الاتحاد السوفياتي. قاوم الفنلنديون بشراسة خلال حرب الشتاء الدامية، لكنهم أجبروا نهاية المطاف على التخلي عن جزء كبير من منطقة كاريليا (شرق) في إطار معاهدة سلام مع موسكو.

وقالت الخبيرة في الناتو لدى جامعة هلسنكي إيرو ساركا لوكالة الصحافة الفرنسية قبل صدور الإعلان إن نينيستو، الذي تجنّب الكشف عن موقفه من العضوية لمح مراراً إلى أنه يميل باتّجاه دعم تقديم طلب الترشح.

واضافت: «لم يعد الرئيس يتحدّث عن خيار دفاع الاتحاد الأوروبي أو دور فنلندا كوسيط بين الشرق والغرب».

والأربعاء، خلصت لجنة الدفاع البرلمانية إلى أن عضوية الناتو ستكون «الخيار الأفضل» لأمن فنلندا، بينما انعكس الغزو الروسي على الوضع الأمني في أوروبا.

ويدعم غالبية أعضاء البرلمان الفنلندي العضوية.

من جهته، قال الباحث لدى «المعهد الفنلندي للشؤون الدولية» تشارلي سالونيوس – باستيرناك لوكالة الصحافة الفرنسية: «من المؤكد مائة في المائة أن فنلندا ستتقدم بالطلب، ويرجّح إلى حد كبير أن تصبح عضواً بحلول نهاية العام».

وتدرس السويد المجاورة أيضاً عضوية الناتو، ويتوقع إلى حدٍ كبير بأن يقدّم البلدان معاً طلباً للانضمام.

بالنسبة لفنلندا، فإن الخطوة التالية ستتمثّل بعقد اجتماع الأحد بين الرئيس ولجنة وزارية معنية بالسياسة الخارجية والأمنية، وهي هيئة مكوّنة من الرئيس ورئيسة الوزراء ونحو ستة وزراء في الحكومة.

وستتخذ اللجنة القرار الرسمي بشأن تقديم فنلندا طلب الترشح للعضوية، في مقترح يتم عرضه بعد ذلك على البرلمان.

وبعد تقديم الطلب الرسمي إلى الحلف، سيتعيّن على نواب جميع الدول الثلاثين الأعضاء في الناتو المصادقة عليه، في عملية قد تستغرق شهوراً.

وكان وزير الخارجية الفنلندي بيكا هافيستو قد قال أول من أمس (الثلاثاء) إنه يعتقد أن بلاده ستصبح عضواً كاملاً في الحلف الأطلسي في موعد «أقربه» الأول من أكتوبر (تشرين الأول). وأفاد «قال الأمين العام للناتو إن هذه العملية ستستغرق ما بين أربعة و12 شهراً. انطباعي هو بأن المدة قد تكون أقرب لأربعة أشهر منها لسنة».

الشرق الأوسط

—————————————-

ماذا تعني حرب طويلة في أوكرانيا للعالم؟/ عثمان ميرغني

التقييم الذي قدمته الاستخبارات الأميركية للجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الأميركي أول من أمس عن الحرب في أوكرانيا، يوضّح أن العالم يواجه سيناريو حرب مرشحة لأن تطول وتتحوّل إلى حرب استنزاف تمتد لأشهر وربما سنوات، بكل ما يعنيه ذلك من أزمات أمنية واقتصادية على صعيد الغذاء والطاقة، أو من مخاطر الانزلاق نحو حرب عالمية جديدة ستكون نووية لا محالة بعد التهديدات الروسية المتكررة. فقادة أجهزة الاستخبارات الذين أدلوا بشهاداتهم اتفقوا على أنه في ظل عدم تمكن أي من الجانبين الروسي والأوكراني من تحقيق اختراق حاسم، وعدم وجود مؤشرات على إمكانية نجاح أي مفاوضات بين الطرفين في الوقت الراهن بالنظر إلى قناعة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه يمكن أن ينتصر في النهاية، وحقيقة أن أوكرانيا لم تظهر أي بوادر على الاستسلام، فإن الحرب ستطول بلا شك؛ ما يعني تصاعد تكلفتها وتزايد مخاطرها.

رئيس وكالة استخبارات الدفاع الأميركية، اللفتنانت جنرال سكوت بيرير، كان واضحاً في هذا الصدد عندما قال، إنه مع التوجه نحو حرب استنزاف، يصبح من المرجح أن يتخذ الصراع «مساراً يصعب التنبؤ به»، وهو ما تطرقت إليه زميلته أفريل هينز، مديرة الاستخبارات الوطنية، عندما قالت، إن بوتين يمكن أن يلجأ للسلاح النووي، إذا شعر بأنه يخسر الحرب.

هذا التقييم يعكس الحسابات بالغة التعقيد لهذه الحرب التي كلما طالت، زادت المخاطر المترتبة عنها. فالغرب الذي يضخ كميات هائلة من الأسلحة المتطورة إلى أوكرانيا لمساعدتها في مواجهة الاجتياح الروسي، يتخوف في الوقت ذاته من أن بوتين إذا شعر بأنه يواجه احتمال الهزيمة قد يلجأ إلى خيارات تصعيد واسع، بما في ذلك استدعاء الاحتياط وإعلان حالة الحرب، بدلاً من تسميتها الراهنة بـ«العملية الخاصة»، وصولاً إلى استخدام أسلحة نووية تكتيكية أو استراتيجية في مواجهة ما يراه حرباً غربية بالوكالة و«تهديداً وجودياً» لبلاده ونظامه. والسؤال الصعب أمام الاستراتيجيين هو، ما هي النقطة التي يمكن أن يصلها الغرب في دعمه لأوكرانيا، من دون أن يدفع بوتين للإحساس بأنه يواجه خطر الهزيمة؟

فالواضح أن هناك أطرافاً في حلف شمال الأطلسي (ناتو) تريد استنزاف روسيا وإضعافها، من خلال هذه الحرب التي تورط فيها بوتين، وهو هدف أفصح عنه وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن بعد زيارة لكييف الشهر الماضي عندما قال، إن الولايات المتحدة تريد إضعاف روسيا لمنعها من تكرار ما فعلته في أوكرانيا. لكن هذا الهدف ليس بلا مخاطر؛ لأنه لا يمكن تصور أن بوتين سيقبل هزيمة قواته أو تهديد نظامه من دون رد يدفع العالم نحو مواجهة كبرى بالغة الخطورة.

القلق من هذا الخطر هو الذي جعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحذر في خطاب أمام البرلمان الأوروبي مطلع الأسبوع الحالي من «إذلال روسيا». فهو يرى أنه مع التأكيد على ضرورة دعم أوكرانيا لضمان بقائها، فإن الغرب يجب ألا ينسى أنه ستأتي نقطة تسعى فيها موسكو وكييف إلى السلام من خلال طاولة المفاوضات.

ونبّه إلى أنه عندما يعود السلام إلى التراب الأوروبي «سيتعين بناء توازنات أمنية جديدة، ويجب ألا نستسلم أبداً للإغراء، أو الرغبة في الانتقام، أو الإذلال؛ لأننا نعرف كم أدى ذلك إلى إفساد الطريق إلى السلام في الماضي». وكان ماكرون يشير بذلك إلى معاهدة فرساي التي أبرمت بعد الحرب العالمية الأولى، واعتبر كثيرون أنها شكلت «إذلالاً» لألمانيا وهيأت لصعود هتلر والنازية، ومن ثم قادت إلى الحرب العالمية الثانية.

ما قاله ماكرون يعدّ عين العقل، ويمثل صوت الاعتدال في أوروبا الذي يرى أن الحرب الأوكرانية مصيرها العودة إلى طاولة المفاوضات، وأن الغرب مع دعمه لأوكرانيا يجب أن يضع في اعتباره معادلة لا تدفن فيها لغة التصعيد فرص السلام، ولا تشعر فيها روسيا بالإذلال؛ خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى خلق ظروف يبرز ويصعد فيها تيار قومي أكثر تشدداً، أو تصبح موسكو مستعدة لاستخدام السلاح النووي ضد ما تراه تهديداً وجودياً.

ماكرون مثل كثيرين يرى أن خريطة التوازنات الجيوسياسية ستشهد تغييرات كبيرة بعد انتهاء الحرب الأوكرانية، وربما من هذا المنطلق دعا إلى تفكير عميق بشأن مستقبل أوروبا، قائلاً، إن هذه الحرب أظهرت الحاجة إلى «عملية تفكير تاريخية»، واقترح إنشاء «منظمة سياسية أوروبية» موسعة تضم الديمقراطيات الأوروبية، وتتيح مساحة جديدة للتعاون السياسي مع إدراج الأمن، والطاقة، والنقل، والحركة عبر الحدود، ضمن القضايا التي يمكن أن تعالجها هذه المنظمة. والواقع أن الرئيس الفرنسي باقتراحه هذا يحاول معالجة مشكلة أن الاتحاد الأوروبي توسع إلى حد أصبح ضم المزيد من الأعضاء يطرح المزيد من التحديات، وأن المنظمة الجديدة المقترحة يمكن أن تستوعب الدول التي تنتظر منذ سنوات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مثل تركيا وصربيا، وتحل مشكلة أوكرانيا التي تطالب بانضمام سريع للاتحاد، لكنها قد تضطر إلى الانتظار سنوات طويلة بسبب تعقيد آليات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. كما أن المنظمة الجديدة المقترحة تفتح باب المشاركة أمام بريطانيا التي غادرت الاتحاد الأوروبي من خلال عملية «بريكست».

ماكرون ربما يفكر من منظور الأمن الأوروبي، لكن التغييرات الجيوسياسية المتوقعة نتيجة الحرب الأوكرانية تعني العالم كله؛ لأننا قد نشهد مرحلة تعاد فيها صياغة التكتلات الدولية. فالحرب قد تكون أحيت حلف شمال الأطلسي (ناتو) وعززته بعد فترة ضعف وخلافات، لا سيما إبان رئاسة دونالد ترمب، لكنها أيضاً زادت من فرص ظهور تحالف صيني – روسي أقوى. ذلك أن بكين تراقب تطورات الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية على موسكو، وتشعر بأنها قد تكون الهدف التالي، في ظل التنافس القوي بينها وبين الولايات المتحدة، لا على صعيد الصدارة الاقتصادية فحسب، بل على صعيد النفوذ السياسي والقدرات العسكرية أيضاً.

وكان لافتاً أن ماكرون بعد خطابه في البرلمان الأوروبي الذي طرح فيه رؤيته بالنسبة لمستقبل أوروبا، والتعامل مع روسيا، تحدث مع الرئيس الصيني شي جينبينغ وبحث معه الوضع في أوكرانيا، والأوضاع العالمية وأزمة الغذاء والطاقة الناتجة من الحرب. فالصين لديها مصالح وعلاقات واسعة في أوروبا، ومع أطراف كثيرة حول العالم، وأي حرب باردة معها، ناهيك عن مواجهة عسكرية، ستكون نتائجها كارثية.

وإذا كانت أميركا قد نجحت قبل 50 عاماً من خلال الدبلوماسية التي قادها آنذاك هنري كيسنجر في التقارب مع الصين وإبعادها عن روسيا، فإن سياساتها اليوم وتداعيات الحرب الأوكرانية، قد تؤدي إلى تحالف جديد بين بكين وموسكو، وتنافس عالمي أشد شراسة مما شهده العالم إبان الحرب الباردة.

الشرق الأوسط

————————-

===================

تحديث 13 أيار 2022

———————–

سلافوي جيجك: القوة وليس النزعة السلمية هي الحل الوحيد ضد بوتين في أوكرانيا

لا يخفي سلافوي جيجك في هذا اللقاء الجديد رأيه الصريح حول الحرب في أوكرانيا وراء أي اعتبارات فلسفية عميقة متطلبة لفهم أوسع ومتخذة مسافة منها. يقول جيجك علناً إن من الواجب، عند هذا الحد من الصراع، هزيمة بوتين، وبالقوة وحدها.

في نص سابق في الصالون الفلسفي، دار جيجك دورة كبيرة عابراً بين الاستشهادات الروائية والتحليلات الفلسفية حول الحرية المجردة والحرية الملموسة، وتحدث كما هي العادة عن هيغل وسارتر وغيرهما. الآن، في هذا اللقاء التلفوني القصير مع صحيفة La Repubblica الإيطالية في 22 نيسان/أبريل 2022، يبدو الفيلسوف أكثر ارتياحاً في تقديم إجابات قاطعة: لا للنزعة السلمية، مرحباً بالقوة!

لا تعجب آراء جيجك اليساريين على العموم، وحتى حين يؤيد بعضهم موقفاً له هنا أو هناك، يعود في قضية أخرى مشابهة ليناقضه ويسخر منه. هكذا مثلاً، وحول تحفظه تجاه الانتفاضة السورية، خيّب جيجك آمال يساريين ليبراليين في الغرب بينما حظي بسمعة حسنة لدى يساريين تقليديين في الشرق. واليوم برأيه الواضح حول ضرورة انتصار أوكرانيا، يعكس الآية فيطوبه اليسار الغربي بطلاً مدافعاً عن الحرية بينما يرى إليه شيوعيون عرب مجرد “ماركسي أوروبي يناقش مشاكل العالم الثالث ويجب نقده”.

ومن الوارد أن يساهم انتشار هذا اللقاء بزيادة الحنق على جيجك بعد أن كان نجماً في الأوساط اليسارية العربية، التي ربما لا تعرف إنه كان داعماً وبـ”قوة” للعملية العسكرية الفرنسية البريطانية التي أطاحت بالقذافي وسخر بعبارات مقذعة من اليساريين الرافضين لها. كما أن هذه الأوساط ربما لا تعرف أن رأي جيجك لم يكن واضحاً كذلك في رفض الغزو الأمريكي للعراق، بل كان أقرب إلى مزاج صديقه الصحفي البريطاني كريستوفر هيتشنز الداعم المطلق للحرب والذي أخبر جيجك بأن الحزب الشيوعي العراقي دخل ولأول مرة منذ عقود في الحكومة تحت وصاية بول بريمر.

بقوله إن “السلام ليس خياراً في الحرب الأوكرانية” وبأن إيقاف بوتين يحتاج “إلى شيء واحد فقط هو القوة”، يبتعد جيجك نهائياً عن جماعة “لا هذا ولا ذاك” وجماعة “الموضوع أعقد من ذلك بكثير” والجماعة العاشقة للتعمق التاريخي والباحثة ضمنياً عن مبررات لحرب بوتين في أوكرانيا، هذا عدا طبعاً عن الجماعة المعادية للإمبريالية بشكل أعمى والتي لا يكن لها جيجك احتراماً كبيراً.

بروفيسور جيجك، بادئ ذي بدء ما رأيك بالحرب في أوكرانيا؟

هل سمعت بتلك الفضيحة التي اندلعت في إيطاليا عندما ألغت جامعة ميلانو بيكوكا حصة قدمها كاتب عن دوستويفسكي؟ حسناً، كان هناك الكثير من الاحتجاجات المحقة، كان من السخف فرض رقابة على مؤلف “الجريمة والعقاب” لأن بوتين قام بغزو أوكرانيا. لكن دوستويفسكي جسّد لفترة طويلة رؤية حول روسيا روحية ومتفوقة، معارضة للغرب المادي: أسطورة روسيا آسيوية عليها أن تتدخل دائماً لإنقاذ أوروبا، مرة من نابليون وأخرى من هتلر، دون الحصول من أوروبا على الامتنان الذي تستحقه.

وما علاقة بوتين بذلك؟

علاقته أن بوتين يحمل نفس الرؤية الغاضبة والمحبطة من الغرب.

لكن، هل يروق لك الرئيس الأوكراني زيلينسكي؟

نعم، لكني كنت سأستخدم شعاراً آخر لو كنت في مكانه. يقول زيلينسكي: “نحن من يدافع عن أوروبا”. أما أنا فكنت لأقول: “نحن الأوكرانيين نقاتل من أجل حرية روسيا”. لأنه إذا انتصرت أوكرانيا، فربما يمكننا التخلص من بوتين، وإلا فإن ديكتاتوريته ستتعزز.

في إيطاليا، وباسم النزعة السلمية، هناك من يقول: “لا مع بوتين ولا مع زيلينسكي”.

السلام ليس خياراً في هذا الصراع. الطريقة الوحيدة لمقاومة بوتين هي القوة. يقول الغزاة دائماً إنهم يريدون السلام، لأنه السبيل للتغلب على الضحايا. هتلر أيضاً أعلن إنه يريد السلام في فرنسا التي يحتلها النازيون.

قبل بضع سنوات قال بوتين إن نموذج الديمقراطية الليبرالية آخذ في الانحدار. هل توافق على ذلك؟

بطريقة ما، كان على حق. بطبيعة الحال يقول بوتين هذا ليطالب بالاعتراف باستبداده كنموذج منتصر. ومع ذلك، فإن السخط الذي يشعر به كثيرون في العالم الصناعي حقيقي وهو يشير إلى أن شيئاً ما يجب تغييره في الديمقراطيات الليبرالية.

تغيير ماذا بالضبط؟

باستخدام بعض المبالغة، يمكن أن أقول إن من الواجب القيام بخطوات كما في “شيوعية الحرب“، أي الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي اتخذها لينين بعد الثورة البلشفية. ليس لإقامة الشيوعية بالطبع، ولكن لإعادة هيكلة الديمقراطية، التي تحتاج إلى المزيد من الجانب الاجتماعي، والمزيد من التخطيط، والمزيد من التعاون الدولي، والمزيد من الجهود العالمية لمعالجة مشاكل مثل الصحة وتغير المناخ والهجرة.

برنامج واسع…

ولهذا السبب توجد السياسة. لنأخذ إيطاليا. أنا لست ضد ماريو دراغي. لكنه يمثل نوعاً من الشعبوية التقنية التي يجب أن تجعل الجميع يتفقون: في الواقع، هو على رأس تحالف يضم جميع الأحزاب تقريباً. كما لو أن الجواب الوحيد الممكن اليوم هو أن يضع المرء نفسه فوق السياسة. بينما أعتقد أن السياسة يجب أن تقدم إجابات لمشاكل المجتمع”.

يجادل بعض علماء السياسة بأن الصراع الأيديولوجي القديم بين اليمين واليسار قد انتهى وحل محله التحدي بين القومية والعولمة.

أنا غير موافق. بالطبع، أنا لست ضد العولمة في حد ذاتها، لكن المليارديرات الكبار مثل جيف بيزوس محتكرون يتحكمون في كل شيء أيضاً. هناك شيء غير ديمقراطي في ذلك. ولهذا السبب يتمرد الناس. إلا أن الشعبوية على غرار دونالد ترامب هي تمرد كاذب.

هل تخشى عودة ترامب إلى البيت الأبيض؟

ترامب هو ثمرة ناخبين محبطين. عليك التحدث إلى هذا النوع من الناس. ويحصل أولئك الذين يفعلون ذلك أحياناً على نتائج غير متوقعة، مثل المرشح اليساري الفرنسي ميلانشون، الذي حصل على 20 في المائة في الانتخابات الرئاسية. أرى مثل السناتور الأمريكي بيرني ساندرز إنه يجب ألا نخاف من الذهاب بعيداً إلى اليسار خشية من خسارة ناخبي الوسط، يجب أن نفوز بالناخبين اليمينيين، ناخبي ترامب، الشعبويين المحبطين.

ما هي الدروس التي قدمها لنا الوباء؟

في مواجهة مشكلة تهدد الكوكب بأسره، أعاد الناس اكتشاف أهمية الدولة والهياكل العالمية. المبادرة الخاصة شيء جميل، لكن بدون الدولة فإنها لا تعود بالنفع على الجميع. لقد ذكرنا الوباء بذلك. يجب أن ينطبق الشيء نفسه على مكافحة تغير المناخ.

هل تعتبر تغير المناخ أكبر مشكلة عالمية؟

على المدى الطويل، نعم.

وعلى المدى القصير؟

لدينا أزمة واحدة كل سنة. الأزمة الاقتصادية العالمية. الوباء. الحرب في أوكرانيا. ربما غداً الحرب بين الصين وتايوان. يبدو العالم وقد انتابه فرسان أربعة ليوم القيامة: الطاعون، الحرب، الجوع، الموت.

وحول هؤلاء الفرسان القاتمين هل أنت متفائل أم متشائم؟

التشاؤم هو أفضل طريقة للحفاظ على قليل من التفاؤل. إذا كنت متفائلاً والأمور سيئة، تفقد كل إيمان بالمستقبل. أما إذا كنت متشائماً وسارت الأمور على ما يرام، فسيكون لديك بصيص من الأمل.

مونت كارلو الدولية

—————————-

سلافوي جيجك: “بوتين مجرم حرب… لكن هل اكتشفنا ذلك الآن فقط؟

علاء خزام

يمكن فرز التعليقات على الغزو الروسي لأوكرانيا في ثلاث مجموعات كبرى قابلة للزيادة تتراوح طبعاً بين الإدانة القصوى والترحيب الأقصى وما بينهما.

ترى المجموعة الأولى، الليبرالية الأخلاقوية، الصراع باعتباره نزاعاً بين الديكتاتورية والديمقراطية. من وجهة نظرها، يهاجم بوتين أوكرانيا لسحق تجربتها السياسية في مسعى من نظام شمولي إلى تحطيم جيرانه الذين اختاروا الطريق الديمقراطي الغربي.

تكمن المشكلة الكبرى لهذا الطرح في أن الغرب الحالي، في متنه السياسي أساساً وبالنظر إلى تكوين نخبه، لم يعد حاملاً للقيم التي يدعي الدفاع عنها: حيث تحل الديمقراطية التمثيلية وتناوب حزبين كبيرين على السلطة والرأسمالية المعولمة محل سيادة الجمهور العام وحكم الشعب والرفاه الاجتماعي. يبدو إذاً من الجسارة بمكان أن نناصب باسم القيم الغربية روسيا بوتين العداء وهي وليدة طبيعية للتدخل الغربي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

المجموعة القصوى الثانية المؤيدة للغزو، والتي يتشاركها يساريون وإسلاميون وقوميون، تبني خطابها على نقد الديمقراطية الغربية الزائفة وضرورة دعم أي سيرورة تحول دون تمدد الإمبريالية الأمريكية حتى لو عنى ذلك تأييد أعتى الأنظمة القمعية.

مشاكل كثيرة تنتاب هذه الأطروحة البائدة. ورغم أن الرغبة العمياء في دحض أمريكا يمكن أن تجد تفسيرات كثيرة في ميادين شتى، إلا أن المرء قد يميل، على طريقة السوري جورج طرابيشي، إلى وضعها في إطار علم النفس باعتبارها تصلباً ذهانياً أو عصاباً مرضياً لا تنجح معه الحجج ولا يقبل مبدئياً تبادل الآراء.

أما المجموعة الثالثة فهي تتفهم القلق الروسي وترغب في وضع حد للحرب بالتنازل من طرف أوكرانيا، دون أن ينشغل أنصارها بالإدانة ولا بتعيين المعتدي بوضوح باعتبارها بداهات لا تحتاج توكيداً.

أكثر ما يهم هذه المجموعة هو القول دوماً إن “الموضوع أعمق من ذلك بكثير” واستعراض معرفة بتاريخ الجارين الأوروبيين لا يفهم الغرض الفعلي من ورائها، إن لم يكن تبريراً في مكان ما لحاجة روسية حيوية لغزو أوكرانيا أو تلميحاً بأن أوكرانيا ورطت نفسها بنفسها وتلقى بالنتيجة مصيرها الذي تحتمه ضرورات الجغرافيا.

المجموعة “العميقة” تسخر من المواقف الواضحة باعتبارها سطحية ولا تذهب إلى العمق ولا تعرف التاريخ، ويستهزئ أصحابها بقلة معرفة المعلقين حول الشأن الأوكراني، أي قلة معرفتهم بما يبدو أن المجموعة العميقة تعرفه وحدها.

وعدا عن الموقف المتعالي الراغب في تعميق معارف السطحيين الجُهّال، تنشغل هذه المجموعة بتحليل الراهن وتقديم خبرتها الاستراتيجية في توقع سير العمليات القتالية وردود الأفعال الدولية وغير ذلك، دون أن تعنى كثيراً باليوم التالي وبموقفها من سيناريوهاته المتعددة. قلنا إن المجموعة العميقة تبدو دون رأي فعلي إلا فيما يتعلق بالبحث الدائم والعميق عن الفيل في المتجر الصيني.

في النص الجديد الذي نشره

الصالون الفلسفي،

يوجه سلافوي جيجك نقداً طويلاً إلى المجموعة الثالثة التي تضفي طابعاً نسبياً على الحقائق و”تقلل من قوة ما هو واضح”، قبل أن يقفز فجأة ليعقد مقارنة مع وباء كورونا ويناقش الفرق بين الحرية المجردة والحرية الملموسة مستدعياً هيغل وسارتر وتشيسترتون، ومعرجاً كذلك على ألكسندر دوغين الذي يسميه “فيلسوف البلاط” البوتيني.

ثم يعود الفيلسوف باتجاه المجموعة الأولى، حاملة القيم المتحضرة، محذراً من أن انتصار أوكرانيا على الغازي الروسي، وهو ما يأمله جيجك شخصياً، سيكون بمثابة “لحظة الحقيقة” بالنسبة للأوكرانيين الذين سيتعلمون أنه لا يكفيهم اللحاق بالغرب وأن الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية العالمية تعيشان أزمة متعددة المستويات.

هل ستفضي حرية الأوكرانيين المجردة عبر حربهم ضد روسيا إلى وضع أسس لحريتهم الملموسة؟ ما سيكون خيارهم حين تحين لحظة الحقيقة ويظهر التناقض الأساسي بوضوح؟ وما هو التناقض الأساسي على أي حال؟

نشر مايكل ماردر Michael Marder في “الصالون الفلسفي” نصاً رائعاً عن امرأة أوكرانية وهي تقدّم بذور عباد الشمس لجندي روسي.

أسمي هذا النص رائعاً لأنه يقوم بما هو مطلوب بشدة اليوم، أي أنه يضيف بُعداً فلسفياً أعمق على ردود أفعالنا تجاه الكارثة الأوكرانية. أعاد هذا الحادث إلى ذهني رواية أغاثا كريستي “جيب مملوء بالحبوب” والتي يموت فيها رجل الأعمال الثري من لندن ريكس فورتسيكو بعد تناوله فنجان شاي في الصباح، ويكشف البحث في ملابسه عن كمية من حبوب الجاودار في جيب سترته. في الرواية، يعود سبب العثور على الحبوب هناك إلى أن الرواية جزء من أسجوعة للأطفال أشار إليها القاتل… يعيدنا هذا إلى أوكرانيا حيث حدث شيء مشابه بشكل غريب، وصفه ماردر، ولكن ليس مع حبوب الجاودار بل مع بذور عباد الشمس. في هينيتشيسك، وهي مدينة ساحلية على بحر آزوف، واجهت عجوز أوكرانية جندياً روسياً مدججاً بالسلاح وقدمت له بذور عباد الشمس ليضعها في جيبه – حتى تتفتح عندما يموت ويكون جسده المتعفن في الأرض مفيداً نوعاً ما، لتغذية النبات المتنامي

الأمر الوحيد الذي يزعجني في هذه اللفتة هو نقص التعاطف مع الجنود الروس العاديين الذين تم إرسالهم في مهمة إلى أوكرانيا، كثير منهم بدون إمدادات غذائية مناسبة وغير ذلك من المؤن، وبعضهم لا يعرف حتى مكان وجوده وسببه، لذلك فقد نقلت تقارير عن حالات لأوكرانيين جلبوا لهم الطعام. أعاد ذلك إلى ذهني ذكريات من براغ عام 1968. وصلت إلى هناك قبل الغزو السوفيتي بيوم واحد، وتسكعت في المدينة لبضعة أيام حتى تم تنظيم نقل الأجانب. ما صدمني على الفور كان ارتباك وفقر الجنود العاديين في تناقض واضح مع الضباط الكبار، الذين كان الجنود يخشونهم أكثر منا نحن المتظاهرين المحتجين.

حتى في هذه الأوقات المجنونة، لا ينبغي أن نخجل من التمسك بآخر بقايا العادية ومن استدعاء الثقافة الشعبية. لذا، اسمحوا لي أن أذكر عملاً كلاسيكياً آخر لكريستي، “الأجوف” من عام 1946، والذي دعت فيه لوسي أنغاتيل الغريبة الأطوار عائلة كريستو (جون، أحد كبار أطباء شارع هارلي، وزوجته غيردا، إلى جانب أفراد آخرين من عائلتها الممتدة) إلى منزلها في عطلة نهاية الأسبوع. هيركول بوارو، الذي يقيم في مكان قريب في منزله الريفي، دعي كذلك لتناول العشاء. وفي صباح اليوم التالي، كان شاهداً على مشهد يبدو غريباً: تقف غيردا كريستو وبيدها مسدس بجوار جثة جون الذي كان ينزف في حمام السباحة. كان كل من لوسي وهنريتا (عشيقة جون) وإدوارد (ابن عم لوسي وابن ابن عم هنريتا) حاضرين أيضاً في مكان الحادث. يوجه جون نداء عاجلاً أخيراً -“هنريتا!”- ثم يموت. يبدو واضحاً أن غيردا هي القاتلة. تخطو هنريتا نحو الأمام لتأخذ المسدس من يدها، لكنها على ما يبدو تعثرت فأسقطته في حمام السباحة مدمرة بذلك الدليل. يدرك بوارو أن صرخة “هنريتا” التي أطلقها الرجل المحتضر كانت دعوة إلى عشيقته لحماية زوجته من السجن بسبب موته؛ وبدون خطة واعية، انضمت العائلة بأكملها إلى المؤامرة وعمدت إلى تضليل بوارو، لأن كل فرد فيها يعرف أن غيردا هي القاتلة ويحاول إنقاذها…

إن الصيغة المعيارية (أي: جريمة قتل ارتُكبت، وهناك مجموعة من المشتبه فيهم لديهم دافع وفرص لارتكابها، لكن وعلى الرغم من التلبس الواضح للقاتل، فإن المحقق يكتشف أدلة تناقض هذا الوضوح، وهي أدلة تم تحضيرها وفبركتها من قبل القاتل نفسه ليغطي آثاره) قد عُكست هنا حيث يقدم المشتبه فيهم أنفسهم أدلة تدينهم للتستر على حقيقة أن القاتل الحقيقي “هو” الشخص الواضح الذي قبض عليه متلبساً في مسرح الجريمة وهو يحمل مسدساً في يده. لذا، فإن مسرح الجريمة قم تم إعداده، ولكن بطريقة مقلوبة: يكمن الخداع في حقيقة أن مسرح الجريمة نفسه يبدو مصطنعاً، وتظهر الحقيقة كشيء مصطنع، بحيث يكون التزييف الأصلي هو “القرائن” نفسها – أو كما تقول جين ماربل في عملي كلاسيكي آخر لكريستي هو “خداع المرايا”: “لا يجب التقليل أبداً من قوة ما هو واضح”.

ألا تشتغل الأيديولوجيا في كثير من الأحيان على هذا النحو، وخاصة اليوم؟ إنها تقدم نفسها كشيء غامض، يشير إلى جانب سُفلي مخفي، للتستر على الجريمة التي يتم ارتكابها أو يتم إضفاء الشرعية عليها علانية. أفضل تعبير يعلن عن مثل هذا الغموض المزدوج هو عبارة “إن الوضع أكثر تعقيداً مما يبدو”. يتم إضفاء الطابع النسبي على حقيقة واضحة -لنقل عدواناً عسكرياً وحشياً- من خلال استحضار “وضع أكثر تعقيداً في الخلفية” والذي، كما هو متوقع، يحوّل العدوان إلى فعل دفاعي. ولهذا السبب، على مستوى ما، يجب على المرء أن يتجاهل “التعقيد” الخفي للوضع ويثق بالأرقام البسيطة.

ألا يحدث بالضبط الشيء نفسه في أوكرانيا؟ هاجمتها روسيا، لكن الكثيرين يبحثون عن “التعقيد” وراء ذلك. نعم، بالتأكيد، هناك تعقيد، لكن الحقيقة الأساسية تبقى أن: روسيا فعلت ذلك. لم يكن خطأنا أننا لم نتعامل مع تهديدات بوتين حرفياً بما فيه الكفاية. كنا نظن أنه لم يكن يقصد ذلك حقاً وأنه كان يمارس فقط لعبة ألاعيب احتيال استراتيجي. المفارقة الكبرى هي أنه لا يسع المرء إلا أن يتذكر هنا النكتة اليهودية الشهيرة التي اقتبسها فرويد: “لماذا تخبرني أنك ذاهب إلى مدينة لفيف في الوقت الذي ستذهب فيه فعلاً إلى مدينة لفيف؟”، حيث تتخذ الكذبة شكل الحقيقة الفعلية: كان الصديقان قد اتفقا على ترميز ضمني يقول إنك عندما تذهب إلى لفيف تقول إنك ستذهب إلى كراكوف والعكس صحيح، بحيث يصبح قول الحقيقة الحرفية وفق الاتفاق يعني الكذب. عندما أعلن بوتين عن التدخل العسكري، لم نأخذ إعلانه بأنه يريد إحلال السلام في كل أوكرانيا وينزع النازية عنها بالمعنى الحرفي كفاية، لذا فإن التوبيخ الذي يسوقه الاستراتيجيون “العميقون” الآن هو التالي: “لماذا تخبرني بأنك ستحتل لفيف في الوقت الذي أردت فيه فعلاً احتلال لفيف؟”.

إذاً، ما الذي يحدث؟ لنتذكر قبل شهر أو شهرين عندما كانت الأخبار الهامة في وسائل الإعلام الجماهيرية لدينا لا تزال تتحدث عن الوباء؟ الآن اختفى الوباء تقريباً، وتصدرت أوكرانيا عناوين الأخبار. وإذا كان من أمر فإن الخوف الآن أكبر بكثير؛ يكاد يكون هناك حنين إلى السنتين الجيدتين الماضيتين في مكافحة الوباء. يوضح هذا التحول المفاجئ حدود حريتنا: لم يختر أحد هذا التغيير، لقد حدث وحسب (باستثناء منظري المؤامرة الذين يزعمون بالفعل أن الأزمة الأوكرانية هي مؤامرة أخرى من قبل “المؤسسة” لمواصلة حالة الطوارئ وإبقائنا تحت السيطرة).

لفهم الفرق بين الوباء والأزمة الأوكرانية، نحتاج إلى التمييز بين نوعين من الحرية: freedom وliberty. اسمحوا لي أن أخاطر وأصلح هذا التعارض بما هو التعارض بين ما أسماه هيغل الحرية المجردة والحرية الملموسة. الحرية المجردة هي القدرة على فعل ما يريده المرء بشكل مستقل عن القواعد والعادات الاجتماعية، بغية انتهاك هذه القواعد والعادات، كما هو الحال في انفجار “النفي الراديكالي” مثلاً في حالة التمرد أو الوضع الثوري. الحرية الملموسة هي الحرية التي تدعمها مجموعة من القواعد والأعراف. فيما يتعلق بمناهضي التلقيح، فإن حرية اختيار التلقيح من عدمه هي بالطبع نوع شكلي من الحرية؛ ومع ذلك، فإن رفض التلقيح بشكل فعال يتطلب تقييد حريتي الفعلية، وكذلك حرية الآخرين. حريتي هي فعلية فقط كحرية داخل مساحة اجتماعية معينة تنظمها القواعد والمحظورات. يمكنني السير بحرية على طول شارع مزدحم لأنني متأكد بشكل معقول من أن الآخرين في الشارع سيتصرفون تجاهي بطريقة متحضرة، وسيعاقبون إذا هاجموني، أو إذا أهانوني، وما إلى ذلك. لا يمكنني ممارسة حريتي في التحدث والتواصل مع الآخرين إلا إذا أطعت قواعد اللغة المعمول بها بكل غموضها، بما في ذلك القواعد غير المكتوبة للرسائل بين السطور. إن اللغة التي نتحدثها، بالطبع، ليست محايدة أيديولوجياً: فهي تجسد العديد من التحيزات وتجعل من المستحيل علينا صياغة أفكار معينة غير شائعة بشكل واضح. يحدث التفكير دائماً في اللغة وهو يجلب مع نفسه ميتافيزيقيا حس سليم (وجهة نظر للواقع)، ولكن لكي نفكر حقاً، يجب أن نقوم بذلك بلغة مناهضة لهذه اللغة. يمكن تغيير قواعد اللغة من أجل فتح حريات جديدة، لكن الاضطراب الذي يسببه الكلام الجديد اللائق سياسياً يظهر بوضوح أن الفرض المباشر لقواعد جديدة يمكن أن يؤدي إلى نتائج ملتبسة ويولد أشكالاً جديدة أكثر خبثاً من العنصرية والتمييز على أساس الجنس.

كان هيغل يعلم جيداً، مع ذلك، أن هناك لحظات أزمة يجب فيها على الحرية المجردة أن تتدخل. في كانون الأول/ديسمبر 1944، كتب جان بول سارتر: “لم نكن أبداً أكثر حرية مما كنا عليه في ظل الاحتلال الألماني. لقد فقدنا جميع حقوقنا، وفي مقدمتها حقنا في الكلام. لقد أهانونا في وجوهنا… ولهذا كانت المقاومة ديمقراطية حقيقية؛ بالنسبة للجندي، وكذلك بالنسبة لرئيسه، نفس الخطر، نفس الشعور بالوحدة، نفس المسؤولية، نفس الحرية المطلقة داخل قواعد الانضباط”. كان هذا الوضع المليء بالقلق والخطر هو الحرية freedom، وليس الحرية liberty، والتي بدورها نشأت عندما عادت الحياة الطبيعية بعد الحرب. وفي أوكرانيا اليوم، أولئك الذين يقاتلون ضد الغزو الروسي أحرار free لكن ليس لديهم حرية liberty. إنهم يقاتلون من أجل هذه الأخيرة، والسؤال الرئيسي هو ما نوع الحرية التي ستسود بعد القتال أضاف ألكسندر دوغين، فيلسوف بلاط بوتين، لمحة ما بعد حداثية من النسبوية التاريخيانية:تظهر ما بعد الحداثة أن كل ما يقال عنه حقيقة هو مسألة إيمان. ولذا فنحن نؤمن بما نقوم به، ونؤمن بما نقوله. وهذه هي الطريقة الوحيدة لتعريف الحقيقة. لذلك لدينا حقيقتنا الروسية الخاصة وعليكم أن تقبلوها. إذا كانت الولايات المتحدة لا تريد بدء حرب، فعليكم أن تدركوا أن الولايات المتحدة لم تعد السيد الوحيد. ومع الوضع في سوريا وأوكرانيا، تقول روسيا: “لا، لم تعد أنت القائد”. تلك هي مسألة من يحكم العالم. فقط الحرب يمكن أن تقرر ذلك فعلاً”.

لكن مشكلتنا المباشرة هي: ماذا عن شعبي سوريا وأوكرانيا؟ هل يمكنهما أيضاً اختيار حقيقتهما/معتقدهما أم أنهما فقط ملعب لـ”سادة العالم” الكبار ومعركتهم؟ حتى أن بعض اليساريين ينظرون إلى دوغين باعتباره مناهضاً للنظام الرأسمالي العالمي، ومدافعاً عن التنوع غير القابل للاختزال للهويات العرقية-الثقافية. لكن التنوع الذي دعا إليه دوغين هو تنوع قائم على الهويات العرقية، وليس تنوعاً ضمن المجموعات العرقية، ولهذا السبب “فقط الحرب يمكن أن تقرر ذلك فعلاً”. إن صعود الهويات العرقية الأصولية هو في النهاية الوجه الآخر للسوق العالمية، وليس نقيضاً لها. لسنا بحاجة قليل من العولمة بل إلى مزيد منها: نحتاج إلى تضامن وتعاون عالميين أكثر من أي وقت مضى إذا كنا نريد بجدية التعامل مع ظاهرة الاحتباس الحراري.

كتب جيلبرت كيث تشيسترتون Chesterton: “انزع كل ما هو خارق للطبيعة فلا يبقى لديك إلا ما هو غير طبيعي”. علينا أن نؤيد هذا الإعلان، ولكن بمعنى معاكس وليس بالمعنى الذي قصده تشيسترتون: يجب أن نقبل أن الطبيعة “غير طبيعية”، أنها عرض مسوخ لاضطرابات طارئة بدون قافية داخلية. في نهاية حزيران/يونيو 2021، ظهرت “قبة حرارية” -وهي ظاهرة جوية يحبس فيها مرتفع جوي ذو ضغط عالي ويضغط الهواء الساخن مما يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة وزيادة سخونة المنطقة- فوق شمال غرب الولايات المتحدة وجنوب غرب كندا، مما أدى إلى ارتفاع درجات الحرارة لتقترب من 50 درجة مئوية، بحيث كانت فانكوفر أكثر سخونة من الشرق الأوسط. صحيح أن “القبة الحرارية” ظاهرة محلية، لكنها ناتجة عن اضطراب عالمي في الأنماط يعود بشكل واضح إلى التدخلات البشرية في الدورات الطبيعية، ولذلك فقد عملنا في مواجهتها بشكل عالمي.

لنتذكر كيف دعا بوتين، بعد يوم أو يومين من اندلاع الحرب، الجيش الأوكراني للإطاحة بحكومة زيلينسكي وتولي زمام الأمور، مدعياً ​​أنه سيكون من الأسهل بكثير التفاوض معهم على السلام. ربما، سيكون من الجيد أن يحدث شيء كهذا في روسيا نفسها، حيث ساعد المارشال جوكوف خروتشيف في عام 1953 في الإطاحة ببيريا. إذن، هل هذا يعني أنه يجب علينا ببساطة شيطنة بوتين؟ لا. لمواجهة بوتين بالفعل، علينا أن نتحلى بالشجاعة لإلقاء نظرة نقدية على أنفسنا.

ما هي الألعاب التي كان الغرب الليبرالي يلعبها مع روسيا في العقود الماضية؟ كيف أدى ذلك إلى دفع روسيا بشكل فعال نحو الفاشية؟ لنستدعي هنا فقط “النصائح” الاقتصادية الكارثية التي أُعطيت لروسيا في سنوات يلتسين… نعم، من الواضح أن بوتين كان يستعد لهذه الحرب لسنوات، لكن الغرب كان على علم بذلك، وبالتالي فإن الحرب ليست صدمة غير متوقعة على الإطلاق. هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن الغرب كان يدفع روسيا بوعي إلى الزاوية. الخوف الروسي من أن يُحاصرها الناتو بعيد كل البعد عن الخيال المُصاب بجنون الارتياب. هناك لحظة حقيقة في ما لم يقله أحد آخر غير فيكتور أوربان: “كيف نشأت الحرب؟ نحن عالقون على خط النار بين لاعبين جيوسياسيين كبار: كان الناتو يتوسع شرقاً، وأصبحت روسيا أقل ارتياحاً بذلك. قدم الروس مطلبين: أن تعلن أوكرانيا حيادها وألا يقبل الناتو بعضويتها فيها. هذه الضمانات الأمنية لم تُمنح للروس، فقرروا أخذها بقوة السلاح. تلك هي الأهمية الجيوسياسية لهذه الحرب”. هذه الحقيقة الصغيرة تخفي بالطبع كذبة كبيرة: اللعبة الجيوسياسية المجنونة التي تتبعها روسيا.

أما بالنسبة للوضع الآن فلا ينبغي أن يكون هناك محرمات حوله. من الواضح أن الجانب الأوكراني أيضاً لا يمكن الوثوق به تماماً، والوضع في منطقة دونباس بعيد كل البعد عن الوضوح. علاوة على ذلك، فإن موجة إقصاء الفنانين الروس تقترب من الجنون. علقت جامعة بيكوكا في ميلانو بإيطاليا سلسلة من المحاضرات حول روايات دوستويفسكي لباولو نوري بحجة بوتينيّة للغاية: إنها مجرد بادرة وقائية للحفاظ على الهدوء… (تم إلغاء التعليق بعد يومين). غير أن التواصل الثقافي مع روسيا بات الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى. وماذا عن الفضيحة الهائلة المتمثلة في السماح للأوكرانيين فقط بالدخول إلى أوروبا من أوكرانيا، وليس طلاب وعمال العالم الثالث الموجودين حالياً في أوكرانيا والذين يحاولون أيضاً الهروب من الحرب؟ وماذا عن العنصرية المتفجرة في الغرب؟ قال مراسل شبكة سي بي إس نيوز تشارلي داجاتا الأسبوع الماضي إن أوكرانيا “ليست، مع كل الاحترام الواجب، بلداً مثل العراق أو أفغانستان الذين شهدا صراعاً مستعراً لعقود. هذه مدينة متحضرة نسبياً وأوروبية نسبياً -وعلي أن أختار هذه الكلمات بعناية أيضاً- لا تتوقع فيها وقوع ذلك أو تأمل في وقوعه”. وقال نائب المدعي العام الأوكراني السابق لبي بي سي: “إنه لأمر مؤثر للغاية بالنسبة لي حين أرى أوروبيين بعيون زرقاء وشعر أشقر… يُقتلون كل يوم”. الصحفي الفرنسي فيليب كوربيه قال: “نحن لا نتحدث هنا عن سوريين يفرون من قصف النظام السوري المدعوم من بوتين. نحن نتحدث عن أوروبيين يغادرون في سيارات تشبه سياراتنا لإنقاذ حياتهم”. صحيح أن العراق وأفغانستان قد شهدا صراعات مستعرة منذ عقود، ولكن ماذا عن تواطؤنا في هذه الصراعات؟ اليوم، عندما تصبح أفغانستان بلداً إسلامياً أصولياً، من لا يزال بيننا يتذكر أنه قبل ثلاثين عاماً، كانت أفغانستان دولة ذات تقاليد علمانية قوية، فيها حزب شيوعي قوي استولى على السلطة بشكل مستقل عن الاتحاد السوفيتي؟ لكن، بعد ذلك، تدخل الاتحاد السوفيتي أولاً ثم الولايات المتحدة، ونحن في ما نحن فيه الآن…

إن الرعب الذي يشعر به مراسلونا ومعلقونا مما يجري في أوكرانيا أمر مفهوم ولكنه ملتبس للغاية. يمكن أن يعني: الآن نحن نرى أن الرعب لا يقتصر على العالم الثالث، وأنه ليس مجرد أمر نشاهده بشكل مريح على شاشاتنا، بل يمكنه أن يحدث هنا أيضاً، ولذلك فإن أردنا أن نعيش بأمان يجب أن نحاربه في كل مكان… ولكن يمكن أن يعني أيضاً: دع الرعب يبقى هناك، بعيداً، ودعنا فقط نحمي أنفسنا منه. بوتين مجرم حرب – لكن هل اكتشفنا ذلك الآن فقط؟ ألم يكن مجرم حرب بالفعل قبل عامين عندما كانت الطائرات الروسية تقصف حلب، أكبر مدينة في سوريا، بطريقة أكثر وحشية مما تفعله الآن في كييف؟ عرفنا ذلك حينه، لكن سخطنا كان أخلاقياً ولفظياً بحتاً. إن الشعور بتعاطف أكبر بكثير مع الأوكرانيين الذين هم “مثلنا” (ينتمون إلى ما ننتمي إليه) يظهر محدودية محاولة فريدريك لوردون Frederic Lordon لبناء سياسة تحررية وفق معنى “الانتماء” بحسب ما يسميه سبينوزا “التمثل بالمشاعر-تقليد العواطف” العابر للفردية. علينا أن ننمي التضامن مع أولئك الذين لا نشاركهم الانتماء العاطفي.

عندما وصف الرئيس زيلينسكي المقاومة الأوكرانية بأنها دفاع عن العالم المتحضر، هل هذا يعني أنه كان يستبعد غير المتحضر؟ وماذا عن آلاف المعتقلين في روسيا بسبب احتجاجهم على التدخل العسكري؟ ماذا عن حقيقة أن النازية وصلت إلى السلطة في بلد يجسد أعلى ثقافة أوروبية؟ هناك كان “أوروبيون ذوو عيون زرقاء وشعر أشقر” يمارسون القتل. إذا كنا “ندافع عن أوروبا” فقط، فإننا نتحدث بالفعل بلغة دوغين وبوتين: إنها الحقيقة الأوروبية مقابل الحقيقة الروسية. الحد الفاصل بين الحضارة والهمجية هو حد داخل الحضارات نفسها، وهذا هو سبب كون نضالنا كونياً. الكونيّة الحقيقية الوحيدة اليوم هي كونيّة النضال.

كانت أوكرانيا أفقر دولة بين جميع دول ما بعد الاتحاد السوفيتي. حتى لو انتصروا -كما آمل- فإن دفاعهم الظافر سيكون لحظة الحقيقة بالنسبة لهم. سيتعين عليهم أن يتعلموا الدرس القائل بأنه لا يكفيهم اللحاق بالغرب، لأن الديمقراطية الليبرالية الغربية هي نفسها في أزمة عميقة. إن أتعس شيء في الحرب الجارية في أوكرانيا هو أنه بينما يقترب النظام الرأسمالي الليبرالي العالمي بوضوح من أزمة متعددة المستويات، يتم تبسيط الوضع الآن مرة أخرى بشكل مزيف ليصبح صراعاً بين بلدان همجية شمولية والغرب المتحضر… بينما الاحتباس الحراري بعيد عن النظر. إذا اتبعنا هذا الطريق، فقد خسرنا. اللحظة الحالية ليست لحظة الحقيقة حين تكون الأمور واضحة، حين يكون التناقض الأساسي ظاهراً بوضوح. بل هي لحظة أعمق كذبة. إذا انتصرت أوروبا تلك التي تستبعد “غير المتحضرين”، فإننا لا نحتاج إلى روسيا لتقوم بتدميرنا. نحن وحدنا سننجز هذه المهمة بنجاح.

مونت كارلو الدولية

——————————

هلسنكي تتجاهل التحذيرات الروسية وتعلن رغبتها في التقدم رسمياً لعضوية الناتو

الحلف الأطلسي يرحب ويعد بإجراءات «سلسة وسريعة» و«تعزيز وجوده» في بحر البلطيق قبل استكمال الشروط

بروكسل: شوقي الريّس

ارتفع منسوب الترقب المحيط بالقرار الذي من المفترض أن تتخذه فنلندا والسويد قريباً حول طلب الانضمام إلى الحلف الأطلسي، بعد أن تجاهلت هلسنكي أمس الخميس التحذيرات الروسية، فيما رحب أمين عام الحلف ينس ستولتنبرغ بالخطوة، مشيرا إلى أن العملية ستكون «سلسة وسريعة». وفي بيان مشترك صدر عن رئيسة الوزراء سانا مارين ورئيس الجمهورية سولي نينستو يؤكد «أنه ينبغي على فنلندا تقديم طلب الانضمام إلى الحلف في أسرع وقت ممكن»، ومن المنتظر أن تبدأ مناقشة هذا الموضوع اعتباراً من الاثنين المقبل في البرلمان الفنلندي، حيث أعلنت غالبية الكتل السياسية تأييدها لهذه الخطوة. وعلق ستولتنبرغ على موقفها بالقول: «هذا قرار سيادي من قبل فنلندا، يحترمه الناتو بشكل كامل. إذا قررت فنلندا تقديم طلب الانضمام فسيتم الترحيب بها بحرارة في الناتو». وقال وزير الخارجية الفنلندي بيكا هافيستو للبرلمان الأوروبي إن «الغزو الروسي لأوكرانيا بدل البيئة الأمنية الأوروبية والفنلندية»، مشيرا إلى أن انضمام بلاده «سيعزز الناتو بشكل إضافي كحليف مستقبلي». من جهته، رحب رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال بـ«تمهيد» قادة فنلندا (العضو في الاتحاد الأوروبي) الطريق لبلدهم للانضمام إلى الحلف. وقال إن الاتحاد الأوروبي والناتو «لم يكونا يوما بهذه الدرجة من التقارب» وأكد أن انضمام فنلندا إلى الحلف سيشكل «خطوة تاريخية فور اتخاذها ستساهم بشكل كبير في أمن أوروبا». وأفاد في تغريدة «بأنه مؤشر ردع قوي في وقت تخوض روسيا حربا في أوكرانيا». ومن جهتها قالت رئيسة الوزراء الدنماركية ميتي فريدريكسين أمس إن بلادها ستبذل ما بوسعها لتتم عملية انضمام فنلندا إلى الحلف الأطلسي بأسرع ما يمكن.

وبعد أقل من ساعة على صدور البيان الفنلندي صرح الناطق بلسان الكرملين ديمتري بيسكوف قائلاً إن «انضمام فنلندا إلى الحلف الأطلسي سيكون بالتأكيد تهديداً لروسيا»، وإن توسعة عضوية الحلف لن تجعل أوروبا وبقية العالم أكثر استقراراً وأمناً. لكن بيسكوف سارع إلى التهدئة وتبديد المخاوف من فتح جبهة جديدة بقوله: «على أي حال، الكل يريد تحاشي الصدام المباشر بين روسيا والحلف الأطلسي. هذا ما كرره الحلف مراراً، وربما الأهم، أن واشنطن كررت ذلك على أعلى المستويات بلسان الرئيس بايدن».

ومن جهتها رحبت أوساط الحلف الأطلسي بالموقف الفنلندي الذي كان أيضا موضع ترحيب من طرف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي اتصل بنظيره الفنلندي ليمتدح استعداد بلاده لطلب الانضمام إلى الحلف. وقال زيلينسكي إنه أجرى محادثات هاتفية مع الرئيس الفنلندي تناولت أيضا انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي والتعاون في مجال الدفاع بين البلدين. وكان قد صرح زيلينسكي قبل أيام أن الحرب مع روسيا كان من الممكن منعها إذا سبق ذلك انضمام بلاده للحلف. وقال الرئيس الأوكراني: «لو كانت أوكرانيا جزءا من حلف الأطلسي قبل الحرب، لما اندلعت الحرب». لكن كرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرارا قوله إن خطر حصول أوكرانيا على عضوية الحلف كان سببا للغزو الروسي الذي بدأ قبل أكثر من شهرين.

مناورات عسكرية للقوات المسلحة السويدية في بحر البلطيق تعود لعام 2020 (أ.ب)

وتجدر الإشارة إلى أن لجنة الدفاع في البرلمان الفنلندي كانت أوصت مطلع هذا الأسبوع بالانضمام إلى المنظمة العسكرية الأطلسية لاعتباره «الخيار الأفضل لضمان الأمن القومي» كما جاء في التوصية التي على أساسها تبدأ المناقشات في الجلسات العامة للبرلمان يوم الاثنين المقبل. ويشكل موقف رئيس الجمهورية، الذي ينتمي إلى الحزب الليبرالي، عاملاً حاسماً حيث إن رئيس الدولة في فنلندا هو الذي يشرف على إدارة السياسة الخارجية بالتعاون مع الحكومة. ومن المنتظر أن يحسم الحزب الاجتماعي الديمقراطي الذي تنتمي إليه رئيسة الوزراء موقفه غداً السبت من طلب الانضمام، علما بأن الموقف التقليدي لهذا الحزب كان حتى الآن معارضاً لمثل هذه الخطوة. وجاء في البيان الفنلندي المشترك «نعقد الأمل في اتخاذ الخطوات اللازمة خلال الأيام المقبلة لتقديم الطلب الرسمي، لأن الانضمام إلى عضوية الحلف الأطلسي يعزز أمن فنلندا، كما يعزز أمن الحلف في مجمله».

وتنص المادة العاشرة من معاهدة الحلف الأطلسي أنه بعد أن تتقدم دولة بطلب الانضمام إلى الحلف، توجه إليها دعوة لفتح حوار مع المنظمة، يرجح في حالة فنلندا أن يتم ذلك أواخر الشهر المقبل خلال القمة الأطلسية التي تستضيفها العاصمة الإسبانية. وتتوقع مصادر الحلف أن تدوم عملية الانضمام سنة كاملة، ويمكن للحلف خلالها أن يعزز وجوده العسكري في بحر البلطيق والشمال الأوروبي. وتجري استوكهولم وهلسنكي محادثات مع الكثير من أعضاء الحلف الرئيسيين للتأكد من الحصول على «الضمانات» اللازمة، في وقت تتوعدهما روسيا بـ«عواقب» في حال ترشحهما للانضمام. وأشارت رئيسة الوزراء الفنلندية سانا مارين الخميس إلى محادثات في هذا المعنى مع الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، مؤكدة أن انضماما في أسرع وقت هو «أفضل ضمان ممكن». وكان قد أعلن ستولتنبرغ أن الحلف مستعد «لتعزيز وجوده» في بحر البلطيق ومحيط السويد لحماية هذا البلد في حال ترشحه لعضوية الأطلسي. وقال ستولتنبرغ في مقابلة مع التلفزيون السويدي إس في تي: «علينا أن نتذكر أنه خلال عملية الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، ثمة التزام سياسي قوي من جانب المنظمة لدعم أمن السويد». وأضاف «لدينا وسائل عدة للقيام بذلك، وخصوصا عبر تعزيز وجود الأطلسي وقواته في المناطق المحيطة بالسويد وفي البلطيق».

ويذكر أن روسيا سبق وحذرت فنلندا من مغبة طلب الانضمام إلى الحلف الأطلسي، حيث كانت الناطقة بلسان الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا نبهت غداة بداية العمليات العسكرية في أوكرانيا من أن انضمام السويد وفنلندا إلى «الناتو» ستكون له عواقب سياسية وعسكرية وخيمة. واستمرت موسكو في تكرار هذه التحذيرات، في الوقت الذي كانت استطلاعات الرأي في فنلندا تشير إلى أن 76 في المائة يؤيدون الانضمام إلى الحلف بعد أن كانت هذه النسبة لا تتجاوز 20 في المائة أواخر العام الماضي.

ويجدر التذكير أيضا أن هذا التحول الجذري والسريع في موقف الرأي العام رافقه أيضا تحول في مواقف الأحزاب السياسية، حيث إن رئيسة الوزراء الحالية، التي تقود حكومة ائتلافية من خمسة أحزاب، كانت صرحت مطلع هذا العام في حديث صحافي أن الانضمام إلى الحلف الأطلسي ليس مطروحاً على بساط البحث في القريب المنظور. ومن شأن انضمام فنلندا إلى الحلف الأطلسي أن ينهي سياسة الحياد المديدة التي اعتمدتها هلسنكي منذ بداية الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، وبعد أن خاضت حربين ضد الاتحاد السوفياتي تخلت بنتيجتها عن قسم من أراضيها. وكانت موسكو أجبرت هلسنكي على توقيع اتفاق تعاون بعد الحرب العالمية الثانية، يخضع السياسيون الفنلنديون بموجبه لمراقبة الاتحاد السوفياتي طيلة عقود. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي انتهت فترة الاتفاق في العام 1992 لتنضم فنلندا والسويد والنمسا بعد ثلاث سنوات إلى الاتحاد الأوروبي، منهية بذلك الحياد السياسي، خاصة بعد العام 2009 عندما تم إقرار معاهدة لشبونة التي تلحظ في أحكامها واجب الدفاع المشترك بين الدول الأعضاء. وكانت فنلندا تردد طوال هذه السنوات أنها دولة «غير منحازة عسكرياً». وفي حال انضمام فنلندا إلى الحلف الأطلسي يتضاعف طول الحدود الروسية الحالية مع بلدان الحلف، حيث إن الحدود بين روسيا وفنلندا تمتد على مسافة 1360 كلم، تضاف إليها 1200 كلم مع بولندا والنرويج وإستونيا وليتوانيا. وتجدر الإشارة إلى أن الخشية من اجتياح روسي آخر لم تفارق أبدا الفنلنديين الذين استقلوا عن الاتحاد السوفياتي في العام 1917، حيث إن أكثر من مليون فنلندي (20 في المائة من السكان) هم جنود احتياط، فضلاً عن أكبر شبكة في العالم للملاجئ، وسلاح طيران متطور يفوق بقدراته السلاح الجوي في جارتها السويد التي كانت بدأت نزعاً تدريجياً لسلاحها بعد نهاية الحرب الباردة، أوقفته بعد أن وضعت موسكو يدها على شبه جزيرة القرم في العام 2014، وكان سلاح الجو الفنلندي اشترى في العام الماضي 64 مقاتلة أميركية من طراز إف – 35 التي تعتبر الأحدث في العالم. ويعتبر المراقبون في بروكسل أن هذه الخطوة الفنلندية المتقدمة نحو طلب الانضمام إلى الحلف الأطلسي، تزيد منسوب الضغط على السويد التي تتسارع فيها وتيرة النقاش حول هذا الموضوع، والتي كانت تردد دائما أنها تنضم إلى الناتو عندما تنضم إليه فنلندا، واثقة من أن هلسنكي لن تقدم أبدا على مثل هذه الخطوة.

الشرق الأوسط

———————

قصة بوتين كما رواها من في الغرفة معه/ صامويل لوفيت

يتحدث صمويل لوفيت إلى دبلوماسيين ومساعدين سياسيين وصحافيين وأكاديميين التقوا جميعاً ببوتين على مدى الـ22 عاماً الماضية وشهدوا تطوره

أقلية صغيرة من الغربيين فحسب يمكنهم الادعاء بأنهم راقبوا الرئيس الروسي وتعاملوا معه من كثب (غيتي/اندبندنت)

بصفته مستبداً أبقى نفسه على مسافة من الغرب خلال معظم فترة إدارته، يعتبر فلاديمير بوتين رجلاً يصعب الاقتراب منه. في الواقع، شاركه الغرفة نفسها عدد قليل من الأفراد من خارج الدائرة المقربة من مسؤولي الكرملين والأوليغارشيين والزعماء الروس الأقوياء. في المقابل، هناك أقلية صغيرة من الغربيين الذين يمكنهم الادعاء بأنهم رأوا الرئيس الروسي وتعاملوا معه من كثب، فكونوا انطباعاً مباشراً نادراً عن بوتين.

في الحقيقة، التقى أولئك الدبلوماسيون والمساعدون السياسيون والصحافيون والأكاديميون جميعاً ببوتين في مناسبات متعددة على مدى الـ22 عاماً الماضية، وشهدوا تطور رجل وعقل أعاد تشكيل العالم الحديث من خلال غزو أوكرانيا.

هنا، تروي “اندبندنت” قصصهم:

“البيروقراطي الصغير المتواضع”

بصفته سفيراً لبريطانيا لدى روسيا بين عامي 2000 و2004، كان السير رودريك لين في الصف الأمامي الذي شهد صعود بوتين وتوطيد سلطته في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي. لقد رأى الرجل يتحول من شخص مجهول نسبياً إلى شخص يبني اسماً لنفسه ويدخل في فترة جديدة من التعاون مع النظام الروسي، فترة أشارت للوهلة الأولى إلى أن البلاد بدأت في مواءمة نفسها مع الغرب بعد سنوات من الانقسام.

كان بوتين عميلاً سابقاً في الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي KGB) ارتقى في المناصب السياسية في سانت بطرسبورغ قبل أن يسعى لاحقاً لاسترضاء بوريس يلتسين، أول رئيس للاتحاد الروسي، ووصل إلى المسرح العالمي كجهة غير معروفة، أولاً رئيساً للوزراء، ثم خلفاً لرئيسه، الذي استقال بشكل غير متوقع في ديسمبر (كانون الأول) 1999.

لقد جاء ارتقاؤه في وقت حدوث تحول واضطراب كبير في روسيا. تحت حكم يلتسين، تفككت الهياكل القديمة في الاتحاد السوفياتي، لكن المستقبل الاقتصادي والسياسي والدولي للبلاد ظل غير واضح وغير مستقر. كذلك، اندلعت الحرب مع الانفصاليين الشيشان في منطقة شمال القوقاز مرة أخرى، ما أثار إدانة واسعة النطاق بسبب تعامل روسيا الوحشي مع الصراع وقتل المدنيين.

وحصل أحد أول لقاءات لين مع بوتين في ظل هذه الخلفية، في مارس (آذار) 2000، عندما تمت دعوة توني بلير إلى سانت بطرسبورغ في “زيارة غير رسمية للدولة” من أجل مقابلة بوتين الذي، على الرغم من عدم انتخابه رسمياً رئيساً، كان قد بدأ في إضفاء الطابع الشخصي على العلاقات مع الغرب.

تم اصطحاب عائلات بلير ولين ومسؤولين بريطانيين آخرين حول أراضي ومباني قصر بيترهوف، إلى غرب المدينة، وشاهدوا متحف “إرميتاج” الشهير وتلقوا دعوة إلى العرض الأول لإنتاج جديد من “الحرب والسلام” في مسرح ماريانسكي. بكل المقاييس، كان بوتين يستخدم استراتيجية الجاذبية والإطراء.

ويقول لين “لقد اختار عن عمد الإعدادات المبالغ بها لكي يثير الإعجاب”. “لكنه كان شخصياً متوتراً للغاية في ذلك الوقت، لدرجة جعلت الآخرين يشعرون حقاً بأنه الفتى الجديد. لم يكن متأكداً على الإطلاق كيف يلعب دور القائد، كما أن الشخص الذي أمامه كان بحلول ذلك الوقت قد شغل منصب رئيس الوزراء لمدة أربع سنوات وحقق نجاحاً كبيراً”.

 “كان هناك شعور بأنه يراقب طريقة تصرف القادة السياسيين الكبار وبطريقة موازية كان يدرس بلير تقريباً. كذلك، تحدث من خلال مترجم، بالتالي، فالمهم حقاً كان لغة جسده، والطريقة المختلفة التي تحدث بها مع بلير، وأنواع المواضيع التي أثارها”.

“أحد الأشياء التي أدهشتني خلال تلك المحادثات هو عدم امتلاكه أي فهم للاقتصاد على الإطلاق. لقد تحدث بمصطلحات قديمة جداً، فكان الأمر أشبه بالاستماع إلى القادة السوفيات القدامى الذين كنت أستمع إليهم من قبل”.

“تناولنا موضوع الشيشان أيضاً، التي شكلت موضع قلق كبير في الغرب. ووجهت انتقادات كثيرة للطريقة التي اعتمدها الروس في إدارة ذلك الموضوع، ما جعل بوتين عدوانياً ودفاعياً للغاية. فكان يستخدم مونولوغاً طويلاً وعاطفياً للغاية وغاضباً بعض الشيء من أجل مقاطعة الأمور التي لا يريد الإجابة عنها”.

في الواقع، كانت فرضيته الأساسية هي أن الغرب فشل في فهم أن ما تفعله روسيا في الشيشان كان القتال على خط المواجهة الأمامي ضد الإرهاب الإسلامي الذي يحاول الوصول إلى أوروبا. لقد جادل بأنه يجب أن نكون أكثر دعماً وألا ننتقد الطريقة التي يديرون بها تلك الحرب.

بعد شهر، في رحلة العودة إلى لندن، انزلق بوتين إلى “ثرثرة غاضبة” أخرى حول الشيشان بعد أن طرح صحافي بريطاني سؤالاً حول الصراع خلال مؤتمر صحافي مشترك مع بلير في وزارة الخارجية.

يقول لين: “أثار ذلك انزعاج بوتين فغضب غضباً شديداً”. “لقد أعطى إجابة طويلة جداً ومبالغاً فيها للغاية. وبدا بلير محرجاً جداً، إذ كان يتكلم عن مدى روعة الأمور، ثم بدأ ذلك الرجل يتحدث بصخب وغضب عن الشيشان. كان ذلك الجانب الآخر من بوتين يظهر.

لقد استنتجت من تلك اللقاءات المبكرة مع بوتين، وأعتقد أن هذا ما كنت أبلغه إلى لندن، أن هناك بوتينين اثنين: بوتين، البراغماتي العقلاني الذي كان يحاول تحسين روسيا، ثم بوتين الآخر: متزعزع الثقة بالنفس، مصاب بجنون العظمة بعض الشيء، صبي خشن من الشوارع الخلفية في سانت بطرسبورغ، ضابط سابق في الاستخبارات الروسية نشأ في الاتحاد السوفياتي وآمن به”.

بدت ومضات العاطفة والشغف تلك متناقضة مع الصورة المتواضعة التي زرعها بوتين، حتى لو عن قصد، خلال الأيام الأولى من إدارته. بطريقة موازية، فوجئ الآخرون الذين التقوا به بافتقاره إلى الكاريزما وطريقته المملة في ارتداء الملابس وسلوكه ولغة جسده.

يقول اللورد جورج روبرتسون، الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي من 1999 إلى 2004 “لم يكن هناك شيء مميز فيه. في بعض الأحيان عندما تقابل أشخاصاً، يجذبونك بحضورهم. لم يكن لدى بوتين أي شيء مميز. كانت بدلته زرقاء اللون، وربطة عنقه زرقاء منقطة، وكانت ساعة يده بسيطة للغاية. لم يكن يضع أزرار أكمام معدنية. ولا مجوهرات، بل كان ضابط استخبارات كلاسيكياً”.

بيد أنه يتذكر أيضاً نوبات الغضب غير المتوقعة، التي كان سببها في أغلب الأحيان الحديث عن العالم السوفياتي القديم الذي أجبر بوتين على إدارة ظهره له. يقول روبرتسون “كانت هناك لحظات، إذا فكرنا فيها الآن، نجدها أكثر أهمية مما كنا نعتقد في ذلك الوقت”.

“تشاركت معه المخاوف بشأن ما يجري في الشيشان. وشكلت جورجيا موضوعاً آخر عبر عن آراء قوية جداً بشأنه، وكذلك لاتفيا، التي تضم عدداً كبيراً من السكان الناطقين باللغة الروسية. في تلك الحالات، كان أكثر حيوية وعاطفية. وتغير سلوكه المدروس، لكنه كان لطيفاً جداً وهادئاً 90 في المئة من الوقت”.

 كان جوناثان باول، الرئيس السابق لفريق موظفي بلير، شخصية أخرى حاضرة خلال الزيارة إلى سانت بطرسبورغ في مارس 2020. وعلى نحو مماثل، هو يتذكر “بيروقراطياً صغيراً متواضعاً” بدا غير واثق من نفسه و”متزعزعاً”.

ويقول “لقد كان بالتأكيد خجولاً تماماً. ولم يتحدث كثيراً. في تلك المرحلة، لم يكن يملك سلطة كاملة، إذ إنه شغل منصب رئيس الوزراء وليس رئيس الدولة. بالتالي، كان تحت مظلة عائلة يلتسين التي اختارت أن تضعه في ذاك المنصب. لذلك، أعتقد أنه كان يشق طريقه بحذر.

لكنه كان موظفاً أكثر منه قائداً، لا سيما بالمقارنة مع يلتسين. في الحقيقة، كان النقيض منه تماماً”.

حتى إن بوتين سوق لنفسه من هذا المنطلق، كما تقول ماري ديجفسكي، مراسلة أجنبية سابقة التقت بالرئيس عبر نادي فالداي للنقاش (Valdai Discussion Club)، وهو عبارة عن مؤسسة فكرية مقرها موسكو، جمعت، على مدى الـ18 عاماً الماضية، خبراء من خلفيات مختلفة لمناقشة كل ما يتعلق بروسيا والتكلم مع بوتين في شكل أسئلة وأجوبة.

هناك طابع غير رسمي بعض الشيء في مؤتمرات فالداي السنوية، التي تعقد في جميع أنحاء روسيا، لكن ديجفسكي تتذكر لحظة نادرة من “الثرثرة الوقحة” عندما سأل صحافي أميركي بوتين “كيف ترى نفسك كسياسي؟”، “فأجاب على الفور، أنا لست سياسياً”. وفق ما قالته ديجفسكي. “وهكذا عاد الأميركي وقال، “حسناً، ماذا أنت؟”، ورد بوتين، “أنا تكنوقراطي، أنا مدير، هذا عملي”.

ويقول المراقبون إنه على الرغم من جديته، كان هناك بعض (محاولات) الفكاهة في تلك المناقشات المبكرة للغاية بين بوتين والمسؤولين الغربيين.

في الاجتماع الأول لمجلس الناتو وروسيا، مع روبرتسون بصفته الرئيس الوحيد للمجلس، أتيحت فرصة التكلم لكل رئيس دولة وحكومة، ثم يتذكر روبرتسون “رفع بوتين يده وطلب الكلام. فكرت في أنه إذا أراد إلقاء خطاب آخر، فسيفعل الجميع مثله”.

“قلت إن الرئيس بوتين له الكلمة”، فقال “سيدي الأمين العام، لقد أخبرتنا أنك رئيس المجلس، وأنت رئيس مجلس الشراكة الأوروبية الأطلسية، كما أنك تشغل الآن منصب رئيس مجلس روسيا-الناتو. هل يمكنني اقتراح إعادة تسمية مقر الناتو إلى مجلس المجالس؟”.

لكن الكلمة الروسية التي تعني مجالس هي “سوفيات” (Soviet). لذلك، قال المترجم الذي أدرك الأمر، “أقترح أن تسمي المقر مجلس السوفيات”. وتسبب ذلك في بعض الذعر، لكنني أعلنت أن الرئيس بوتين كان يمزح. وكانت مزحة بالفعل، لقد كان واضحاً بشأن ذلك في الغداء الذي أقيم لاحقاً. إذاً، كانت تلك هي روح الدعابة لديه”.

نظرت في عيني الرجل. ووجدته واضحاً جداً وجديراً بالثقة – لقد تمكنت من الشعور بروحه.

وفي لحظة مرحة أخرى بحسب ما يتذكر باول، قام لين بكسر “كرسي فاخر” في بيترهوف خلال زيارته إلى سانت بطرسبورغ في أبريل (نيسان) عام 2000. ويتابع باول “لقد هدد بوتين بجعله يدفع ثمن ذلك، ليس على سبيل المزاح تماماً، إذ كان هناك تهديد خفيف في ما قاله”.

في الرحلة نفسها، قام بوتين، الذي لم ينسَ جذوره، بأخذ الوفد البريطاني إلى الشوارع الخلفية في سانت بطرسبورغ حيث نشأ كصبي صغير. وفي ذلك الإطار يقول باول “زرنا مربعاً سكنياً رديئاً إلى حد ما في ضواحي المدينة حيث كان يعيش”.

“ويروي بوتين تلك القصة، عن الفترة التي قضاها هناك، والتي تفسر بشكل كبير المكان الذي يجد نفسه فيه اليوم. تسكع في طفولته على درج تلك الشقق الجماعية التي تتشارك جميعها حماماً واحداً. وقد كانت السلالم مليئة بجرذان يضربها حتى الموت بالعصا لتسلية نفسه”.

“في إحدى المرات، كما يرويها، حاصره جرذ أسود كبير في الزاوية، وكان يحمل عصا جاهزة لقتله، بيد أن الجرذ الأسود، الذي لم يجد أي خيار آخر، قفز على رأسه وخدشه وهرب. وهو يستخدم تلك الحادثة ليشير إلى أنه لا ينبغي حشر الناس في الزاوية. والمشكلة الآن أنه هو الجرذ المحاصر”.

“نافذة استثنائية” للاستكشاف والتعاون

بين عامي 2000 و2003، كان هناك اعتقاد متزايد بأن بوتين سعى إلى إصلاح روسيا وجعل الآخرين يتقبلونها بعد سنوات من العزلة وانعدام الثقة وعدم الاستقرار الجيوسياسي.

وبدا أن العلاقات مع المملكة المتحدة، على وجه الخصوص، في تحسن، كما اتضح من العلاقة التي كانت تتعمق بين بوتين وبلير، اللذين حافظا على حوار مباشر ومنتظم مع بعضهما بعضاً.

وفي ذلك السياق يصرح باول “نظراً إلى أن توني كان أول من ذهب لرؤية بوتين، فقد كانت تربطه علاقة جيدة جداً به. وكان بوتين يتصل في بعض الأحيان ويطلب النصيحة وأشياء من هذا القبيل، ليس في الشؤون المحلية، بل في المسائل الدولية”.

وفي واحدة من المحادثات المبكرة بين الاثنين، أخبر بوتين بلير أنه جلب فريقاً من التحديثيين إلى الإدارة بهدف إدخال روسيا في القرن الحادي والعشرين، وفق ما يتذكره لين.

“لقد كانوا أشخاصاً لامعين للغاية في مختلف الإدارات الحكومية، وتولوا مهمة تحديث الاقتصاد الروسي. كانت نظريته الكاملة أمام شعبه هي أن روسيا لم يعد بإمكانها أن تكون قوة عسكرية وأنها ليست الطريقة المناسبة التي تعمل بها القوة في العالم اليوم”.

وبسبب إعجابه بحديث بوتين، وافق بلير على إرسال “فريق الإصلاحيين” الخاص به إلى موسكو من أجل المساعدة في تنفيذ تلك الخطط. يقول لين “لقد استضفت زيارة صغيرة من ديفيد ميليباند، الذي كان رئيس وحدة السياسة التابعة لبلير، وبعض الأشخاص الآخرين بهدف التحدث مع نظرائهم في الكرملين لبضعة أيام حول طريقة تعزيز الإصلاح داخل الحكومة”.

“لقد أجرينا كثيراً من تلك المناقشات البناءة حول ما يمكن تسميته جدول أعمال التحديث الخاص به”.

وقد جرى تجنيد باول حتى من أجل تنمية تلك العلاقات المزدهرة والحفاظ على دماثة الكرملين. تم الاتفاق على أنه سيتناول الغداء على أساس منتظم مع رئيس أركان بوتين في ذلك الوقت، ديمتري ميدفيديف، وفي وقت لاحق، رئيس بلدية موسكو الحالي، سيرغي سوبيانين.

“كنت أذهب إلى الكرملين، وأتناول الغداء معه وألتقي بمسؤولين آخرين في الكرملين وأتحدث عن أمور تتعلق بالسياسة الخارجية وهم يأتون إلى (10 داونينغ ستريت) [المقر الرسمي والمكتب التنفيذي لرئيس الوزراء]. وكنا نفعل ذلك بشكل معكوس. إذاً كانت العلاقات مع الكرملين جيدة جداً، وفي مكان مختلف تماماً عما كانت عليه من قبل. وفي الواقع، نشأت تلك الفرصة التي كان من الممكن أن تقود إلى مكان ما”.

“بدا وكأنه يريد أن يتواصل مع الغرب. بدا الأمر وكأنه يريد أن يكون مصلحاً”.

كان سير ديفيد مانينغ، مستشار السياسة الخارجية لبلير بين عامي 2001 و2003، حاضراً بصفته مدوناً للملاحظات خلال عدد من تلك الاجتماعات والمحادثات مع بوتين. وهو يصف الفترة التي سبقت غزو العراق، في عام 2003، بأنها “نافذة استثنائية إلى حد ما” تضمنت “أملاً حقيقياً في كل من لندن وواشنطن” بإمكانية إقامة “علاقة تعاونية” جديدة.

وإحدى اللحظات البارزة بالنسبة إليه هي اجتماع القمة بين الولايات المتحدة وروسيا في سلوفينيا، في يونيو (حزيران) 2001، قبل أشهر لا غير من 11 سبتمبر (أيلول). وفي المؤتمر الصحافي الختامي، قال بوش رداً على سؤال حول ما إذا كان يمكنه الوثوق ببوتين “نظرت في عيني الرجل. ووجدته واضحاً جداً وجديراً بالثقة، لقد تمكنت من الشعور بروحه”.

ولاحقاً، كتبت كوندوليزا رايس أنه نتيجة لتعليقات بوش، “لم نتمكن قط من الهروب من فكرة أن الرئيس قد وثق بسذاجة في بوتين ثم تعرض للخيانة”- بيد أن تلك التصريحات عبرت عن سهولة الانقياد في ذلك الوقت.

بين عامي 2001 و2003 أصبح أكثر غطرسة. في إحدى الزيارات، كان هناك خيول أكثر، ورفاهية أكثر، ومزيد من تجهيزات الحمامات الذهبية، وما إلى ذلك، في منزله الريفي.

ويشير مانينغ إلى أن فترة الاستكشاف تلك مع بوتين “لم تكن مجرد شيء أوروبي أو له علاقة ببلير، بل كانت رايس وبوش وزملاؤهما مهتمين جداً برؤية ما إذا كان يمكن بناء نوع جديد من العلاقات”.

بعد شهرين من القمة في سلوفينيا، اهتز العالم الغربي حتى صميمه: لقد كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لحظة غيرت مجرى التاريخ وشكلت نقطة تحول في العلاقات العالمية. كما أنها كانت سبباً في تقريب روسيا والغرب من بعضهما بعضاً لفترة وجيزة.

يقول باول “تلقينا مكالمة من بوتين في يوم 11 سبتمبر. لقد اتصل هاتفياً وسأل ما الذي يجب أن تفعله روسيا. كذلك، عرض تبادل المعلومات الاستخباراتية والمساعدة. وبعد ذلك بوقت قصير، ذهب توني في رحلة عالمية إلى فرنسا وألمانيا، ثم إلى نيويورك، وواشنطن، وعاد إلى المملكة المتحدة ثم إلى موسكو”.

“كان بوتين هناك مرن الطبع ومتعاوناً وودوداً للغاية، إضافة إلى ذلك، عرض قاعدة [لغزو أفغانستان]. وحاول تشجيع توني على الطيران إلى طاجكستان، حيث أراد الروس أن تتمركز القوات الأميركية والقوات البريطانية في مهاجمة أفغانستان.

خلال الرحلة، دعا بوتين توني للعودة إلى منزله الريفي، كان ودوداً للغاية، فلعبا البلياردو، وأجريا مكالمة مشتركة مع بوش. كان كل شيء غير رسمي وطبيعياً للغاية”.

وعلى نحو مشابه، كان الناتو، الذي أصبح الآن موضع غضب بوتين، يقترب أيضاً من النظام الروسي. في أكتوبر (تشرين الأول) 2001، بعد أسابيع قليلة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، عندما كان بوتين يجتمع مع مسؤولي الاتحاد الأوروبي في بروكسل، يتذكر روبرتسون أن الرئيس سأله “متى ستدعو روسيا للانضمام إلى الناتو؟”، فأجبته “نحن لا نطلب من الدول الانضمام إلى الناتو، بل عليها هي أن تقدم طلباً”.

“فكان رده، نحن لن نقف في الصف مثل جميع البلدان الأخرى غير المهمة”. فقلت له: “هل يمكننا إيقاف رقصة السيف الدبلوماسية، ونبني علاقة ونرى إلى أين ستؤدي؟”.

 “لقد توقف عند تلك النقطة. لا أعتقد أنه كان جدياً تماماً في طرحه. وكان يعرف الجواب، ولكن إذا كنت سياسياً جيداً، فأنت لا تطرح سؤالاً على الإطلاق إلا إذا كنت تعرف الإجابة بالفعل”.

وعلى الرغم من مكائد بوتين، ظلت روسيا والناتو يتقاربان ببطء، كما تبين من إنشاء مجلس الناتو وروسيا في عام 2001. وجاءت “ذروة” تلك العلاقة، على حد تعبير مانينغ، مع الاجتماع الأول الذي عقده المجلس في روما، في مايو (أيار) 2002.

ويصرح مانينغ “في تلك المرحلة تقريباً، بدا أن نوعاً من التعاون الهيكلي سيكون ممكناً بين رؤساء حكومات الناتو وروسيا بطريقة جديدة تماماً”.

ولكن كما يقول باول، في حين أن “بوتين العقلاني كان بالتأكيد في القمة” في السنوات الأولى من الحرية، ظلت هناك إشارات تحذيرية بسيطة تظهر رويداً رويداً، تشير إلى ما سيأتي.

“بين عامي 2001 و2003، ما أدهشني هو أنه أصبح أكثر غطرسة. في إحدى الزيارات، كان هناك خيول أكثر، ورفاهية أكثر، ومزيد من تجهيزات الحمامات الذهبية، وما إلى ذلك، في منزله الريفي. كان يعيش أسلوب الحياة الإمبراطوري هذا، بدلاً من أسلوب حياة القائد العادي. وازداد ذلك سوءاً”.

في الواقع، كان مانينغ أيضاً يخبئ شكوكه تجاه بوتين وتجاه النيات الحقيقية لذاك الرجل. “كانت فكرتي عن ذلك الرجل آنذاك أنه شخص مرهق، يشق طريقه بحذر، مرتاب بشكل غريزي، قد يشك في المقترحات والناس. وحتى في البداية، كان هناك شعور على ما أعتقد، بأن العلاقات في نظره كانت على الأغلب علاقات فوز طرف واحد على حساب الجميع”.

“الخيانة العظمى”

التقى جون كامبفنر ببوتين في ثلاث مناسبات خلال مسيرته المهنية كصحافي وكاتب وأكاديمي، لكن لقاء عام 2004 هو المميز في ذهنه. كان كامبفنر يحضر المؤتمر السنوي الأول لنادي فالداي، الذي عقد في مقر بوتين الرئاسي في ضواحي موسكو.

وتزامن الاجتماع مع حصار مدرسة بيسلان الذي قتل خلاله 333 شخصاً من بينهم 186 طفلاً بعد أن اقتحم إرهابيون شيشانيون مدرسة ثانوية واحتجزوا الطلاب والموظفين كرهائن. وقد تمت إدانة روسيا على نطاق واسع بسبب طريقة تعاملها مع الهجوم والقوة المفرطة التي استخدمتها، بما في ذلك الدبابات والأسلحة الحرارية، من أجل إنهاء الحصار.

يمكن أن يكون عدوانياً للغاية عندما يطرح عليه الناس أسئلة ويوجهون له عمداً أسئلة استفزازية. وهكذا يرد عليهم بالمثل.

والجدير بالذكر أن كامبفنر، المكلف طرح السؤال الأول، استخدم الحادثة والحرب الشيشانية الأوسع “للحديث عن حدود روسيا وعدم الاستقرار في دول الاتحاد السوفياتي السابق”. ولا يزال الرد الذي حصل عليه محفوراً في ذاكرته حتى يومنا هذا.

يقول كامبفنر “أجابني لمدة 30 دقيقة، مناجاة لمدة 30 دقيقة كنت فيها جالساً في الجهة المقابلة تماماً ولم يرفع عينيه عني مرة واحدة. كنت أنظر إليه ثم إلى دفتر ملاحظاتي وأكتب تعليقاتي، ثم أرفع نظري إليه مرة أخرى، ولم تتحرك عيناه، وكأنهما رادار مثبت عليك. لقد كانت تجربة مخيفة للغاية”.

“بدا متحمساً وفي الوقت نفسه فيه نوع من البرودة. وكان رده في الأساس عبارة عن صرخة طويلة من القلب تعبر عن ضيم إزاء الطريقة التي حاول بها أن يكون صديقاً للغرب، وأنه أول من اتصل بعد 11 سبتمبر لتقديم الدعم للأميركيين، وهو أمر صحيح”.

“قال إنه منح الأميركيين قواعدهم لمهاجمة أفغانستان بعد شهرين من ذلك، على الرغم من المخاوف التي ساورته. وعلى نحو مماثل، كانت لديه أكثر من شكوك حول العراق، لكنه لم يقف في طريق الأميركيين في ذلك. وما الذي حصلت عليه في المقابل؟ كل ما نلته هو أنت والغرب، تثيران المشكلات في محيطي”.

بحسب كامبفنر، اعتقد بوتين أنه كان “مؤيداً للغرب وجريئاً إلى أبعد حد بين عامي 2000 و2004″، وعلى الرغم من ذلك، في الوقت نفسه، أغلق محطة التلفزيون المستقلة الوحيدة في البلاد، وطرد العديد من الأوليغارشيين وسجن ميخائيل خودوركوفسكي. “إذاً كان يشدد الإجراءات في الداخل، لكنه اعتقد أنه كان يتصرف بانفتاح مع الغرب، وشعر أنه لم يكن يحصل على شيء في المقابل”.

كانت ديجفسكي حاضرة أيضاً خلال مؤتمر فالداي الأول، ومنذ ذلك الحين حضرت غالبية الاجتماعات السنوية التي عقدتها المجموعة. وهي تتذكر تحول لهجة بوتين إلى “فظة وعدائية” بمجرد إثارة موضوع مذبحة بيسلان.

“لقد كان سريعاً جداً في استعمال نوع من اللهجة المستخدمة في غرفة الثكنات [لغة مبتذلة]. وهي لهجة تتعايش جنباً إلى جنب مع لهجته الرسمية، هذا جزء من هوية بوتين، وربما يعكس بعضاً من خلفيته الصعبة عندما كان طفلاً، والوقت الذي قضاه في كي جي بي وكل ذلك”.

“يمكن أن يكون عدوانياً للغاية عندما يطرح عليه الناس أسئلة ويوجهون له عمداً أسئلة استفزازية. وهو يرد عليهم بالمثل”.

“لكن في ذلك الاجتماع الأول، ما كان مثيراً للاهتمام هو أن ثلاث سنوات كانت قد مضت ربما على وجوده في السلطة. وجاء إلى الغرفة بمفرده مع مترجم، من دون أي حاشية، ولم يرافقه أحد. وتجدر الإشارة إلى أن ذلك تغير بمرور الوقت، لكنه لم يأخذ في رأي أحد قط خلال تلك الاجتماعات، ولم يظهر عليه أي توتر. وهو مطلع جداً ويعرف كل الحقائق”.

بدأت الانقسامات في العلاقة بين روسيا والمملكة المتحدة بالظهور أيضاً خلال تلك الفترة. لم يتراجع بوتين بأي حال من الأحوال، ولكن بحلول منتصف عام 2004، لم تعد العلاقة بين الدولتين قائمة على أساس ثابت.

واعتبر الخلاف حول أحمد زكاييف مثالاً على ذلك. في الواقع، وجهت روسيا اتهاماً إلى زكاييف، نائب رئيس وزراء الشيشان في ذلك الوقت، بارتكاب 13 جريمة، بما في ذلك أعمال إرهابية وتعذيب واختطاف اثنين من الكهنة الأرثوذكس. كان زكاييف قد فر من روسيا ولجأ إلى المملكة المتحدة، التي رفضت مطالبات بوتين بتسليم الزعيم الشيشاني المطلوب، وذلك بعد تدخل محكمة بريطانية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2003.

يقول لين “لقد كان بوتين شخصياً غاضباً من ذلك، إذ إن بوتين، الذي لا يفهم الغرب، أمضى القليل من الوقت فيه ولا يفهم سيادة القانون. ببساطة، لم يستطع أن يفهم أن تلك لم تكن قرارات سياسية، لذلك ظللت أسمع أن بوتين شعر بالحيرة بشأن (السبب وراء اتخاذ توني بلير قراراً سياسياً بعدم إعادة زكاييف إلى روسيا)”.

“فبذلنا جهدنا لنوضح له أنه لدينا محاكم في بريطانيا، ولا يمكن لرئيس الوزراء نقض المحاكم حتى لو أراد ذلك، بيد أن بوتين أخذ ذلك على محمل شخصي للغاية. لقد ارتكب بلير شيئاً سيئاً بحقه. لذلك، كان عليه أن ينتقم لأن هذا في شخصيته بالتأكيد. إنه الطفل الصغير الذي اعتاد الدخول في شجارات في شوارع لينينغراد الخلفية وتعلم ضرب الأولاد الآخرين، أو كما قال ذات مرة، (احصل على انتقامك أولاً)”.

في الواقع، جاء الرد في شكل هجمات ضد “المجلس البريطاني” في روسيا، الذي كان يساعد في تلقين اللغة الإنجليزية للمواطنين المحليين وتعزيز التعليم. وفي ذلك الإطار. يقول لين إن بلطجيين يرتدون سترات جلدية، “بأمر من بوتين”، بدأوا في اقتحام مكاتب المجلس الثقافي البريطاني في موسكو وإزالة أجهزة الكمبيوتر، وتدمير الملفات وإخافة الموظفين.

بحسب لين “كان ذلك من سمات بوتين في تلك الفترة. كان من نوعية الفتى الصغير، الذي يشعر بعدم الأمان والذي يعتقد أن شخصاً ما يخدعه، لذا يجب عليه أن يرد بالمثل”.

“في عام 2003، بدا أن بوتين كان يتأرجح نوعاً ما. وأتذكر أن ذلك أدى إلى قدر لا بأس به من النقاش الخاص في أماكن مثل داونينغ ستريت، وفي البيت الأبيض، حول ما إذا كان الرجل يسير في اتجاه مختلف”.

كانت ومضات العاطفة تلك التي أزالت بشكل متقطع مظهر الكياسة الخادع الذي كافح للحفاظ عليه، قد أصبحت أكثر وضوحاً، وقوة، ودلالة.

شكلت الحرب في العراق نقطة مؤلمة أخرى لبوتين، الذي “شعر أنه لم يسمح له بالجلوس على الطاولة الكبيرة [بين صفوة القوم] أو لم يلمس الاحترام الذي تستحقه روسيا”، كما يقول باول. ويضيف مانينغ أن الغرب نفسه كان قد بدأ يتفرق و”ينقسم إلى معسكرات مختلفة” بسبب الصراع، ما جعل ربما “التلاعب بالأطراف المنقسمة أمراً لا يقاوم بالنسبة إلى الروس”.

بالعودة سريعاً إلى سبتمبر 2004، عندما خرج كامبفنر وزملاؤه المتخصصون الروس في الساعة الواحدة صباحاً من قصر بوتين الفخم في نوفو-أوغارييفو، كان هناك إجماع واضح بين المجموعة على أن “بوتين قد تخلى عن الغرب”.

يقول كامبفنر “بغض النظر عن وجهة النظر التي كانت لدينا، فقد اتفقنا جميعاً على أن تلك كانت الفترة التي تحول فيها بوتين. لقد عاد بشكل أساسي إلى النمط السوفياتي، بعد أن جرب ما كان بنظره موقفاً محفوفاً بالمخاطر لكونه ودوداً إلى حد ما مع الغرب، ثم عاد بشكل أساسي إلى عقليته العدائية، بالاستناد إلى ما أصر بينه وبين نفسه بأنه خيانة كبرى”.

“أنت لا تهتم بقتلنا المعارضين في شوارعك”    

وحصل لقاء باول الأخير مع بوتين في يونيو 2007، في قمة مجموعة الثماني التي عقدتها أنغيلا ميركل في منتجع هايليغيندام شمال ألمانيا.

كانت العلاقات مع بوتين تتدهور بسرعة. قبل أشهر، في فبراير (شباط)، ألقى بوتين خطابه السيئ السمعة المناهض لأميركا في مؤتمر ميونيخ للأمن، الذي دان فيه الولايات المتحدة “بسبب استخدامها القوة في العلاقات الدولية بشكل مفرط وغير مسيطر عليه تقريباً”.

قبل ذلك، في نوفمبر 2006، توفي ألكسندر ليتفينينكو، وهو عميل سابق في الاستخبارات السوفياتية وناقد بارز لبوتين، بعد تسميمه بمادة البولونيوم-210. تبين أن جاسوسين روسيين كانا متورطين في ذلك، واستنتج لاحقاً أن بوتين نفسه قد أصدر أمراً باغتيال ليتفينينكو.

بعد سنوات من الاسترضاء والمغازلة، وصل بلير برفقة باول إلى هيليغيندام بهدف “إخبار بوتين برأيه الصريح”.

ووفق ما يتذكره باول “كان هناك بوتين والمترجم الروسي وتوني وأنا. كان توني صريحاً للغاية وقال ما يفكر فيه بشأن قتل ليتفينينكو في الشوارع البريطانية باستخدام مواد مشعة، وبشأن الاستبداد.

 بيد أن بوتين رد عليه بشراسة وعدوانية (أنت لا تهتم بقتلنا المعارضين في شوارعك. ديمقراطيتكم مروعة، انظر إلى أي مدى أنت فاسد). لقد كانت محادثة قاسية وخشنة للغاية”.

وعلى نحو مماثل، كان الاجتماع بين غوردون براون وبوتين في يونيو 2008 فاتراً، غير أنه لم يكن بالنبرة التهجمية نفسها. والجدير بالذكر أن توني برينتون، الذي كان سفيراً لبريطانيا لدى روسيا من 2004 إلى 2008، حضر تلك المناقشة في موسكو، حيث اجتمع وزراء مالية مجموعة الثماني في ذلك الوقت.

يقول برينتون: “لقد كانا على دراية جيدة بما يجري في السياسة في البلدان الأخرى من حولهما. وكان من الواضح أن غوردون براون سيرث رئاسة الوزراء من بلير، لذا فقد جعلوه يلتقي ببوتين خلال انعقاد القمة”.

“لقد كان لقاء مثيراً جداً للاهتمام، لأنه في ذلك الوقت، وبالتوازي مع اليوم، من بعض النواحي، كانت أسعار الغاز قد ارتفعت بشكل تجاوز التوقعات. وشعرنا أن الروس كانوا مسؤولين عن هذا إلى حد ما، ولذا ذهب براون لإقناع بوتين بضرورة إطلاق مزيد من الغاز في السوق”.

لقد صدم بوتين بذلك كثيراً، إذ إنه على إلمام تام بتفاصيل سوق الغاز. وكانت الإجابة التي أعطاها إلى براون هي أن “سبب تأثر المملكة المتحدة بأسعار الغاز هو أنكم تشترون كل الغاز من السوق الفورية، وهذا هو سبب ارتفاع سعره. إذا اعتمدتم عقوداً طويلة الأجل مع شركة غازبروم، فسيكون ذلك أرخص بكثير بالنسبة إليكم”.

“كان ملماً بالملفات المطروحة. وفي الحقيقة، الشخصية السياسية الوحيدة التي تعاملت معها والتي أتقنت بشكل أفضل المواد التي طرحت عليها كانت مارغريت تاتشر.

 لقد تصدى براون للأمر كله بطريقة دبلوماسية للغاية، لكنه خسر اللقاء، وخسر المناقشة لأن وجهة نظر بوتين كانت ذات مصداقية تامة”.

كان بوتين مختلفاً تماماً عن الرجل الذي تعامل بودية لأول مرة مع بلير منذ سنوات مضت في سانت بطرسبورغ. وفي الواقع، تبددت الصفات المؤقتة والمتواضعة والمراعية خلال كل تلك الفترة الماضية، واستبدلت بها سلسلة ثابتة من الثقة والقسوة التي عملت على زيادة الانقسام المتسع بين روسيا والغرب.

إذاً، بدأ الجانب المظلم لبوتين يسيطر، قامعاً البراغماتية التي كانت سائدة في الأيام الأولى في منصبه، إضافة إلى ذلك، كانت ومضات العاطفة تلك التي أزالت بشكل متقطع مظهر الكياسة الخادع الذي كافح للحفاظ عليه، قد أصبحت أكثر وضوحاً، وقوة، ودلالة.

حدث آخر لقاء لـ”لين” مع بوتين في اجتماع فالداي عام 2008، بعد شهر واحد فحسب من الحرب الروسية الجورجية. ووفق ما قاله لين، سأل صحافي بريطاني شجاع عن قضية ليتفينينكو خلال المؤتمر، وحصل على “إجابة حادة ومنفرة حقاً” عكست ثقة بوتين بالنفس وإحساسه المتزايد بأنه لا يقهر.

يتفق معظمهم على أن هناك غضباً هادئاً ولكن قابلاً للاشتعال يتربص في العمق، وهو ملطخ بالدم وعنيف بدرجة كافية لتحطيم الشخصية الخاضعة للسيطرة بين الفينة والأخرى

“نسيت الكلمات بالضبط، لكنه في الأساس لم ينتهز الفرصة ليذرف أي نوع من دموع التماسيح التي تعبر عن أسفه على موت الرجل. ورد بالكلمات التي قالت بشكل فعال، (لقد نال ما يستحق). كان هذا هو الجانب القاسي منه يظهر من دون أن يتمكن من كبح جماحه”.

وعلى نحو مماثل، بعد أن حضر جيمس شير، الزميل العالي الشأن في معهد السياسة الخارجية الإستوني، عدداً من اجتماعات فالداي باعتباره أكاديمياً روسياً بين عامي 2008 و2017، انضم إلى لائحة الأشخاص الذين لاحظوا تحول بوتين من براغماتي متردد إلى ديكتاتور.

يتذكر شير أنه في مؤتمر عام 2009، أعلن بوتين “بشكل عابر جداً” أنه “لا يوجد أي خطأ على الإطلاق في سياسة أدولف هتلر الخارجية أو أي شيء فعله حتى مارس 1939″، عندما ضم النازيون الأجزاء التشيكية من بوهيميا ومورافيا.

ويقول شير: “كانت حجة هتلر أنه كان ببساطة يعيد توحيد الأراضي الألمانية التاريخية”. وبالطريقة نفسها، كان بوتين يتحدث الآن عن وحدة روسيا والعالم الروسي.

“أصبح من الواضح أن الأساس العقائدي لسياسة بوتين الخارجية كان مشابهاً جداً لتلك الفترة السابقة من سياسة هتلر، إذ قال لتشامبرلين وآخرين، (أنا آخذ فحسب ما هو لنا تاريخياً)”.

 “هذا المنطق لدى بوتين موجود منذ فترة طويلة”.

بحلول منتصف عام 2010، أصبح الاتصال الغربي المباشر مع بوتين نادراً. وبعد ضم شبه جزيرة القرم، لم تكن هناك رغبة كبيرة في استعادة روح الاستكشاف المشتركة بين روسيا والغرب في النصف الأول من العقد الماضي. وظلت بعض المقاطعات والقيادات والمنظمات الغربية أقرب من غيرها إلى بوتين، لكن روح العصر السائدة في ذلك الوقت كانت بشكل عام منقسمة وبعيدة.

أنجيلا ستينت، خبيرة السياسة الخارجية التي حضرت معظم اجتماعات فالداي منذ عام 2004، رأت أن ذلك انعكس في المؤتمرات التي عقدت منذ عام 2014 وما بعده.

في الواقع، ازداد حجم الاجتماعات، وفقدت الحميمية التي كانت سائدة في الاجتماعات السابقة ما جعل من الصعب إجراء محادثات مباشرة مع بوتين، الذي أصبح أكثر انعزالاً داخل دائرته المقربة. على نحو متزايد، تحولت الاجتماعات إلى احتفال خاص بروسيا، “نسخة عن دافوس” تعتمدها الدولة، بحسب ما تقوله ستينت.

“في السنوات الثماني الماضية، بدأ بوتين يستخدم المؤتمرات لانتقاد حقوق (مجتمع الميم)، واللياقة [أو الصوابية] السياسية، والتنديد بما اعتبره انحطاط الاتحاد الأوروبي، (نحن المسيحيون الحقيقيون، والغرب شيطاني)”.

أعتقد أن هذا ترافق مع ذلك الشعور الأكبر بالانتصار “لقد استعدنا شبه جزيرة القرم وشعبنا وطني حيال هذا الأمر”، بينما ينتقد بشدة العقوبات الغربية ولكن يقول إن اقتصادهم يمتلك وسائل الازدهار.

“في عام واحد، طوروا صانع الجبن البطل الوطني وقالوا نحن قادرون على صنع جبن البارميزان والماسكاربوني الخاص بنا. كان الوضع يزداد حدة ومعاداة للغرب ولأميركا. وعلى الرغم من أننا لم نعد نحظى بمقابلات شخصية مع بوتين، كان ذلك يدل على طريقة تفكيره”.

تجدر الإشارة إلى أن أفكاراً من هذا النوع تفتح نافذة، مهما كانت صغيرة، لدخول عقل الرجل، الذي هو فلاديمير بوتين. ومن خلال البقاء بعيداً ومعزولاً عن وهج المراقبين الغربيين، يبقى الرجل الروسي القوي لغزاً، ودوافعه في أوكرانيا مشوشة وغير واضحة، لكن التصورات التي بناها أولئك الذين قضوا وقتاً في رفقته تتضمن بعض القواسم المشتركة.

في الواقع، يتفق معظمهم على أن هناك غضباً هادئاً ولكن قابلاً للاشتعال يتربص في العمق، وهو عنيف بما يكفي أحياناً لتحطيم الشخصية الخاضعة للسيطرة التي بناها على مر السنين.

ويقولون إن هذا الغضب هو الذي دفع بوتين إلى أعمال الهمجية الوحشية وإقامة نظام شمولي يظهر القليل من الرحمة تجاه أعدائه. إنه غضب عبر عنه من خلال إدارته، ومن خلال قتل المدنيين في الشيشان، وتدمير غروزني، وسوء التعامل الوحشي مع حصار مدرسة بيسلان، وقصف حلب، وتسميم المعارضين، واغتصاب الأوكرانيين الأبرياء وتعذيبهم وقتلهم.

يتفق معظمهم أيضاً على أنهم لم يعتقدوا قط أن بوتين قادر على ارتكاب الفظائع التي تحدث في أوكرانيا اليوم. صحيح أنهم كانوا دائماً على دراية بـ”السيدين بوتين” المتعايشين معاً، وبسرعة الانفعال وقابلية الاشتعال المحمومتين اللتين حددتا وجهات نظره وأفعاله حول العالم، لكن لم يعتقد أي منهم أن الوحش الذي بداخله سيهيمن بالطريقة التي هيمن بها.

وبهذا المعنى، هم جميعاً متفقون على أن السلطة أثبتت أنها أعظم قوة مفسدة، دافعةً بوتين إلى حالة ذهنية تم فيها إطلاق العنان لقدرته الكامنة على ارتكاب الشر الخالص والسماح لها بالوصول إلى كامل إمكاناتها.

ويقول روبرتسون: “وصل إلى هذه الحالة منذ فترة طويلة جداً، وهو بعيد عن الأشخاص العاديين، عن التحدي، عن أي مجموعة حقيقية من القيود السياسية. وقد أتاح ذلك تحول كثير من الومضات العاطفية التي رأيتها إلى هواجس خطيرة، وأوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم”.

————————-

=====================

تحديث 15 أيار 2022

——————————-

سوريا:انهيار التفاهمات..يؤدي لتصادم المصالح/ العقيد عبد الجبار العكيدي

أفضى التدخل الدولي على المستويين السياسي والعسكري في سوريا إلى نشوء صراع مصالح بين الدول النافذة، وخشية وصول هذا الصراع لدرجة التصادم نشأت مسألة بناء تفاهمات تعنى بالدرجة الأولى بإدارة هذا الصراع والحيلولة دون وصوله إلى مرحلة الانفجار، ولعل أبرز هذه التفاهمات تلك القائمة بين روسيا وإسرائيل.

ولإن كان صحيحاً أن الروس يرون أنفسهم أصحاب أحقية كبرى في الوصاية على نظام الأسد بحكم نفوذ آلتهم العسكرية التي حافظت على نظامه من السقوط منذ أيلول/سبتمبر 2015، إلا أنه لا يمكنهم التنكر للدور الإسرائيلي الذي يسعى هو الآخر للحفاظ على نظام الأسد، بل كان له السبق في ذلك منذ العام 2012 من خلال الضغوط التي مارسها رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو على  إدارة باراك أوباما للتخلي عن فكرة اسقاط النظام.

وجهة النظر الإسرائيلية بالتمسك بالأسد تنطلق من نظريتهم التي تقول (شيطان نعرفه أفضل من شيطان لا نعرفه)، وعلى أساس هذا التكامل في المصالح مضت موسكو وتل ابيب في إدارة مصالحهما داخل سوريا.

لقد التزم الروس كامل الالتزام بعدم التعرض للطيران الإسرائيلي الذي يستهدف مواقع ميليشيات إيران داخل الجغرافيا السورية، بل ذهبت بالتعاون إلى حد منع تشغيل واستخدام منظومات الدفاع الجوي التي أحكمت سيطرتها عليها بشكل كامل، وبالمقابل التزمت إسرائيل بالتنسيق وإخطار الروس بأي طلعة جوية لطيرانها في الأجواء السورية والحفاظ على التنسيق العسكري والاستخباراتي من خلال الخط الساخن بين تل أبيب وقاعدة حميميم.

لكن ثبات المصالح أمر متعذر الحصول في العلاقات بين الدول، بل يمكن القول إن أي تغيير في مسار المصالح لابد أن يؤدي إلى الإطاحة بما سبقه من تفاهمات، ولعل الغزو الروسي لأوكرانيا قد أفرز شكلاً جديداً من المصالح، وبالتالي أوجب شكلاً جديداً أيضاً من التفاهمات لإدارة هذا الصراع، إلا أن إيجاد هذه التفاهمات الموجبة ربما يكون متعذراً لازدياد الهوة في المصالح المتناقضة.

الروس اليوم في حال تحدٍ صارخ للموقف الغربي الرافض لغزو أوكرانيا، وتحول هذه الحرب بالنسبة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من حرب حدود إلى حرب وجود، وكذلك لم تعد غاية الغرب هي ردع بوتين فحسب بل باتت الغاية هي تقويض روسيا كدولة عظمى سياسياً واقتصادياً، الأمر الذي أحرج إسرائيل التي لم يعد بإمكانها إمساك العصا من المنتصف، بل أظهر أنها مهما بلغت من البراغماتية فإن انحيازها إلى حليفها التقليدي الأميركي أمر لا بد منه. ومن هنا يمكن الركون إلى ارهاصات واضحة تنذر ببروز تصادم جديد روسي-إسرائيلي، وعلى الرغم من الحرب في أوكرانيا على رأس أسباب هذا التصادم، إلا أن مسرح عمليات هذا الصراع ربما يكون الأرض السورية.

التدافعات بين تل أبيب وموسكو تجاوزت مستوى الوقائع الميدانية لتصل إلى مستوى آخر ربما يكون أكثر حساسية مما هو ملموس على أرض الواقع، من خلال التقاذف الأيديولوجي والديني الذي تجلى بتصريحات وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف بتنسيب هتلر إلى اليهودية، فضلاً عن انتماء زيلنسكي، الأمر الذي جعل الأجواء بين الطرفين مكتملة الاحتقان بل ناضجة لاستنبات خلافات قادمة.

لعله من الطبيعي أن يكون التنسيق السابق بين البلدين حول استهداف ملحقات إيران في سوريا هو العرض الأولى لحلقات هذا الصراع، ولعل هذا ما تترجمه تصريحات لافروف المتكررة التي تصب في مجرى إدانة إسرائيل لقصفها مواقع في سوريا، ليتطور هذا الموقف الإعلامي الروسي إلى موقف عملي تجسد بسحب روسيا لبعض قواتها وقواعدها البرية ومجموعات من الضباط من المطارات السورية وبعض المواقع الأخرى وتسليمها لأطراف تابعة لإيران. ولعل هذه العملية هي الرسالة الأولى التي تحمل استفزازا روسياً لإسرائيل، إذ تدرك موسكو مدى حساسية الموقف الإسرائيلي من ميليشيات إيران داخل سوريا.

في السياق ذاته يمكن النظر إلى الزيارة التي قام بها رئيس النظام بشار الأسد إلى طهران ولقاؤه بالمرشد والرئيس الإيرانيين، إذ لا يمكن أن يغيب الظل الروسي عن أجواء هذه الزيارة إن لم يكن القسم الأهم منها من أجله، خاصة وقد سبقتها زيارة وفد من حركة حماس إلى موسكو، ذلك أن انشغال الروس بحربهم على أوكرانيا من جهة وتوتر علاقاتهم مع إسرائيل من جهة أخرى، لا بد أن يترك فراغاً في سوريا على إيران أن تبدأ بملئه، بل ربما ترى أنها باتت صاحبة الأحقية قبل الروس بتوجيه بوصلة الصراع في سوريا، وهنا لا يمكن تجاهل الطلب الإيراني من الأسد بعودة علاقاته مع حركة حماس، في استفزاز روسي-إيراني مشترك لإسرائيل، لم يتأخر الرد عليه بقصف جديد استهداف مواقع جيش نظام الأسد في مدينة مصياف القريبة من قاعدة حميميم، وقتل العديد من ضباطه وجنوده.

ربما طبيعة المصالح لدى الطرفين تحتم على كليهما مزيداً من التفكير قبل الوصول إلى أي صدام، ذلك أن إسرائيل تدرك جيدا أنه لولا التنسيق مع روسيا فإن طائراتها ربما أصبحت عرضة للإسقاط أو التصدي لها من خلال تفعيل منظوماتي الدفاع الجوي الروسية “إس-300” و”إس-400″، وبالمقابل تحرص موسكو على أن تبقى إسرائيل على موقفها الثابت تجاه عدم المساس بنظام الأسد في الوقت الراهن.

رسائل التصعيد المتبادل بين موسكو وتل أبيب كشفت عن أزمة سياسية حادة بينهما، لم يقتصر تأثيرها على ساحة الحرب الأوكرانية وإنما امتدت إلى الساحة السورية، ما قد ينجم عنه احتدام التنابذ بين الطرفين واستخدام هذه الساحة لتصفية الحسابات بينهما، فيما إذا تم إيقاف التنسيق العسكري والاستخباراتي الذي يربطهما، واتخذت روسيا موقفا تصعيدياً بمنع الطائرات الإسرائيلية من قصف أهدافها في سوريا.

هنا لابد من توضيح الأمر عسكرياً بأن سلاح الجو الروسي المتواجد في قاعدة حميميم، سواء طائرات “سو-22” حتى “سو-34″، وبما في ذلك أحدث طائرات الميغ، غير قادرة على اعتراض الطائرات الإسرائيلية “إف-15″ و”إف-16”. هذه الطائرات تتمتع بقدرة عالية على المناورة ومزودة بصواريخ موجهة قادرة تلقائياً على تدمير منظومات الدفاع الجوي والرادارات بمجرد ملامسة نبضة الرادار الليزرية لجسمها.

وفي حال قرر الروس تفعيل منظومات الدفاع الجوي، فسيكون لدى إسرائيل خيار استخدام طائرات “إف-35” العصية على الكشف من قبل أجهزة الرادار الروسية ولا يمكن لحظها في الأجواء، بالإضافة إلى إمكانية استخدام صواريخ أرض-أرض وصواريخ بحر-أرض من قواعدها وسفنها الحربية.

ما تقدم يضعنا أمام سؤال مهم هو: إلى أين سيفضي هذا التوتر القائم بين موسكو وتل ابيب على الجغرافيا السورية؟ وهل بمقدور الطرفين اجتياز هذا المأزق وبناء تفاهمات جديدة على ضوء ما أفرزته الحرب في أوكرانيا، وإعادة التوافق بينهما على معالجة الملفات الخلافية التي ظهرت على خلفية هذه الحرب، والإبقاء على التنسيق في الجغرافيا السورية؟

من خلال تأكيدات الجانب الإسرائيلي أن التوتر مع موسكو بشأن أوكرانيا لن يشمل ملفات المنطقة الأمنية، ورغم أن هذه التأكيدات قد تكون مجرد تصريحات لانتزاع فتيل أزمة مقبلة، إلا أن الأمور على ما يبدو تنحو باتجاه تبريد التوتر وضبط ردود الأفعال منعاً للتصادم وتفجير الخلاف بينهما، وتعويل بوتين على الوقت والتغيرات والتبدلات في الواقع الميداني في حربه على أوكرانيا بما يتيح له أن يفرض على الإسرائيليين الحياد الفعلي عن التدخل في هذا الملف على أقل تقدير.

ويبقى السؤال الأهم: هل سيكون بمقدور الطرفين صياغة تفاهمات جديدة قادرة على استيعاب هذا المأزق؟ أم أن هذا التوتر سيدفع إيران لشغل مساحات جديدة في سوريا في ظل ضواء أخضر روسي غير مباشر، والغمز من قناة المقاومة بما يؤدي لزيادة زخم الهجمات الإسرائيلية وقوات التحالف ضد القوات الإيرانية المتواجدة في سوريا؟. ربما كانت هجمات دير الزور الأخيرة إحدى أهم علاماتها، وربما يكون الجواب مرهوناً بتداعيات الحرب الأوكرانية كما هو مرهون أيضا بمدى استمرارية تصاعد الموقف الغربي من موسكو وارتباط إسرائيل به.

المدن

——————————-

بوتين لحرب عالمية ثالثة لا نووية/ بسام مقداد

أعلن رئيس مجلس النواب الروسي (الدوما) فيتشسلاف فولودين منذ أيام، أن عدد العقوبات الغربية المفروضة على روسيا منذ العام 2014 بلغ 10128، وهو رقم قياسي لم يبلغه ضد أية دولة أخرى، على قوله. ونقل عن الرئيس الأميركي قوله بأن بديل العقوبات هو الحرب العالمية الثالثة. وأختتم إعلانه هذا بالقول: “كل ما لا يقتلنا يجعلنا أكثر قوة”، حسب صحيفة الفاشيين الروس Zavtra.

لكن العقوبات ليست بديل الحرب الثالثة، بل هي الشكل الذي اختارته الولايات المتحدة والغرب لخوضها، حتى الان على الأقل، وترفقه بمد أوكرانيا بالسلاح والمال الضروريين لتعزيز الصمود بوجه الغزو الروسي. وإضافة إلى الدفعات المالية السخية التي تخصصها لأوكرانيا، تعد الولايات المتحدة بتخصيص الأرصدة الروسية الهائلة المجمدة في الغرب لإعادة إعمار المدن والبنية التحتية التي تدمرها روسيا في أوكرانيا. 

يدرك الغرب أن حرب روسيا في أوكرانيا ليست سوى بداية معركتها الأساسية ضده، والتي بدأت تباشيرها الواضحة بمطالبة روسيا آخر السنة المنصرمة بضمانات موثقة لأمنها والتعهد بعدم تمدد الناتو إلى الشرق. وإمعاناً في رفضه تقديم مثل هذه الضمانات، حرك الغرب أمس قضية إنضمام فنلندا والسويد إلى الناتو، وهو ما أثار على الفور غضب روسيا وتهديدها، خاصة فنلندا، باتخاذ تدابير “ذات طبيعة عسكرية تقنية” ضدها. وفنلندا، في علاقاتها التاريخية بروسيا، تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن علاقات أوكرانيا بها. فهي ، وكما أوكرانيا، تبلور كيانها المستقل بعد ثورة شباط الروسية العام 1917، ولم يتمكن البلاشفة لاحقاً من القضاء عليه، كما فعلوا حيال كيان الدولة الأوكرانية الوليدة. وتعين على فنلندا خوض حروب شبه مستمرة مع البلاشفة للحفاظ على كيانها المستقل، كان آخرها حرب 1939 ـــــ 1940 التي تكبد فيها ستالين أكثر من 40 ألف قتيل، وهي التي كان يعتقدها نزهة قصيرة إصطدمت بمقاومة مذهلة من الفنلنديين، تماماً كما يجرى الآن مع بوتين.

إبتزاز بوتين بحرب عالمية ثالثة يستخدم فيها السلاح النووي، تراجع الآن إلى حرب عالمية يعرف الجميع أنها تنحصر مؤقتاً في أوكرانيا. أواخر الشهر المنصرم، وفي “توك شو” فلاديمير سالافيوف المعروف بجلافة تعابيره ووقاحة سلوكه على أثير قناة التلفزة الروسية الرسمية الأولى، قالت رئيسة شبكة تلفزة البروباغندا الروسية  RT مارغريتا سيمونيان بأن روسيا تفضل الموت مع العالم في حرب نووية على الإعتراف بالهزيمة في الحرب على أوكرانيا. لكنها أعلنت بأن معرفتها لبوتين وتصلبه تسمح بالقول أن السيناريو الأكثر واقعية من الحرب النووية هو الحرب العالمية الثالثة. وإختتم سالافيوف كلامها بالقول “على كل نحن في الجنة، وهم فقط يموتون”.

الخدمة الروسية في “الحرة” الأميركية جمعت تعليقات لمدونين على كلام سيمونيان في نص بعنوان “…المدونون عن خطر العالمية الثالثة”. أول المعلقين قال ساخراً “… خيار صعب جدا، أنا أفضل خسارة روسيا”. آخر قال “فليبلغ أحد هؤلاء الشياطين بأن أحداً لن يسمح بدخولهم الجنة. لقد هيأوا الحقائب بانتظار ضربة نووية”. ثالث قال “لماذا علّمتم أبناءكم خمس لغات إذا كان مقدراً لهم أن يحترقوا من أجل مجد بوتين؟”…

الخدمة الروسية في شبكة الإذاعة والتلفزة الفنلندية الرسمية نشرت يوم إطلاق بوتين حربه على أوكرانيا مقابلة مع البروفسور في جامعة هلسنكي وجامعة روسية فلاديمير غيلمان بعنوان “روسيا بدأت الحرب العالمية الثالثة ضد الغرب”. يرى البروفسور أن الحرب الروسية على أوكرانيا ليست حرباً إقليمية، بل هي حرب ضد العالم الغربي بأسره، وهي تهدد بعواقب وخيمة، ليس على روسيا وأوكرانيا فقط، بل على العالم أجمع. وهدفها الواضح تدمير أوكرانيا كدولة وتحويلها بلداً تابعاً لروسيا. ومعظم بلدان العالم سوف يدعم أوكرانيا، أو سيتظاهر بأنه غير معني بالأمر، لكن من الصعب أن يلقى هذا التفسير أنصاراً  له خارج روسيا التي يدعم معظم سكانها العمليات الحربية ويؤيد بوتين.

ويرى البروفسور أن هذه الحرب يمكن أن تتطور إلى حرب عالمية ثالثة إذا تمكنت روسيا أن تحطم بسرعة مقاومة أوكرانيا. وإذا ما تمكنت روسيا من ذلك سوف تطلق يدها لتكرار السيناريو مع بلدان أخرى. وهذا يتوقف على صلابة المقاومة الأوكرانية، وعلى مدى ترجمة الدعم الذي تلقاه الآن إلى مساعدات في شتى المجالات.

جورج سوروس نشر بإسمه في 11 آذار/مارس المنصرم على موقع الخدمة الروسية في project-syndicate العائد لمؤسسته نصاً بعنوان “فلاديمير بوتين وخطر الحرب العالمية الثالثة”. يرى سوروس أن هجوم بوتين على أوكرانيا هو بداية حرب عالمية ثالثة قد تطيح ب”حضارتنا”. ويتهم الرئيس الصيني بإعطاء بوتين كارت بلانش لشن الحرب على أوكرانيا، وذلك خلال إجتماعهما بمناسبة إفتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية. بوتين في 70 من العمر الآن، وهو يشعر بأن عليه أن يترك أثراً في التاريخ الروسي، ولذا عليه أن يسارع إلى العمل الآن، وإلا يكون الوقت قد فات. ويؤكد سوروس أن لدى بوتين سردية مشوهة عن دور روسيا في العالم، حيث يعتقد بأن الشعب الروسي بحاجة لقيصر يتبعه بعينين معصوبتين.

يسرد سوروس كيف أقام مؤسسته في روسيا وباقي الجمهوريات السوفياتية، و”شارك” في سقوط الإتحاد السوفياتي. ويقول بأنه لا يعرف بوتين شخصياً، لكنه يتابع صعوده وهو “بلا رحمة”، حوّل عاصمة الشيشان غروزني إلى ركام ويستعد الآن للعمل عينه في كييف.

موقع Delfi الناطق بالروسية ولغات البلطيق الثلاث نشر مقابلة مع مؤرخ ليتواني بعنوان “هذا يشبه الحرب العالمية الثالثة، لكن بين هتلر وبوتين أوجه الإختلاف أكثر من أوجه الشبه”. يرى المؤرخ أن من الصعب الإجابة عن كيفية نجاح بوتين في الكذب على ملايين الروس وتفسير عبادة الفرد (كما ستالين). أوجه الشبه يراها المؤرخ في ظروف بداية الحرب العالمية الثانية وما جرى في أوكرانيا بين العام 2014 والحرب الراهنة. روسيا وألمانيا يجمعهما تشابه في روح الثأر التي سيطرت على ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى وفي روسيا بعد سقوط الإتحاد السوفياتي. في الحالتين خرج زعيم بوسعه توحيد الناس وحشدهم لإستعادة العظمة السابقة، ثم يبدأ نهج التوسع ومحاولة إستعادة أراض ما سابقة. على هذا المستوى ثمة الكثير من أوجه التشابه، والحرب في أوكرانيا التي بدأت في شباط/المنصرم هي، من حيث الجوهر” بداية الحرب العالمية الثالثة.

ويرى المؤرخ أن بوتين لا يملك الكاريزما التي كانت لهتلر، فهو شخصية باهتة لم يكن ليلاحظه أحد لو لم يعتلي عرش روسيا. أما هتلر فكان بخطبه يلهب حماس الجماهير، وهو ما لا يتصف به بوتين الباهت. 

الرئيس السابق للمجلس اليهودي الروسي والمستشرق إيغور ساتانوفسكي يرى في صحيفة NG في 12 الجاري أن وجود روسيا على خريطة العالم مرتبط بعدم توقف حرب بوتين عند حدود الدونباس، بل بمواصلتها لتخضع أوكرانيا بأكملها. ويعتبر أن روسيا لم يكن بوسعها ألا تبدأ “العملية الخاصة” في أوكرانيا، وذلك لأن البديل كان إنهيار روسيا نفسها. ويرى أن الليبراليين الروس هم “حزب السلام”، “الأغبياء المفيدون”، “حزب الخيانة الوطنية” الذين يسعون للحفاظ على أرصدتهم في الغرب. مقابلهم ثمة “حزب الحرب”، حزب الواقعيين الذين يدركون أنه يستحيل خسارة هذه الحرب، وأن النقود في الجيب ليست هي الأهم، وأن المصالح الخاصة ينبغي أن تخضع للمصالح الوطنية.

المدن

————————-

“خطوط النزاع”… آخر خطط روسيا لذبح السوريين بسلاح المساعدات/ رائد الصالح

عندما بدأت الحرب الروسية على أوكرانيا كان من البدهي أن يكون لها تأثير بشكل أو بآخر على القضية السورية، أحياناً أبتعد قليلاً عن متابعة أخبار الحرب على أوكرانيا، أحاول أن أهرب منها، لكن لا مناص من ارتباط القضيتين ببعضهما في عدة جوانب، ربما يتضاعف اهتمامنا بأخبار أوكرانيا لأننا نحن السوريين نفهم تماماً التكتيكات الوحشية للقوات الروسية ونعرف مآلاتها على السكان وحياتهم، لا نريد أن تذبح الإنسانية مرتين، حين أرى مشاهد القصف والغارات الجوية واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً ومشاهد المدن المدمرة، أتذكر الأحداث نفسها تماماً في سوريا، السيناريو عينه يتكرر بحذافيره، ومع مشاهد الحصار التي تفرضها القوات الروسية على عدد من المدن الأوكرانية، تنتفض ذاكرتي، الحصار هو السياسة الأسوأ التي استخدمتها روسيا إلى جانب الأرض المحروقة لفرض التهجير على السوريين.

الحصار ومحاربة السكان بقوت يومهم ودوائهم وحليب أطفالهم، هي ليست مجرد كلمات تُقال، هي سلاح يقتل بصمت دون أن يسمع ضجيجه أحد، لم تكتفِ روسيا على مدى السنوات الماضية بشن الهجمات العسكرية لدعم نظام الأسد في حربه على السوريين، كانت هناك حرب موازية لحربهم العسكرية، عبر الضغط على الجانب الإنساني واستخدام سلاح التجويع والحصار ومنع إدخال المساعدات الإنسانية، وهذا النوع من الحرب هو جزء من سياستهم، وقد لا يقل خطورة عن الهجمات العسكرية، للأثر الكبير والمباشر على حياة وأرواح المدنيين.

مع اقتراب موعد التصويت في مجلس الأمن، على آلية إدخال المساعدات عبر الحدود، والذي من المفترض أن يكون في بدايات شهر تموز، تزداد المخاوف من إنهاء روسيا لهذه الآلية، لصالح إدخال المساعدات إلى شمال غربي سوريا عبر الخطوط، النظام الروسي الوحشي نزع هذه المرة عنه ثوب الأفعى علناً أمام العالم، في وقت كان السوريون يرونه منذ سنوات على حقيقته، وظهرت تلك الأفعى التي تريد أن تقتل ضحيتها بأي وسيلة ممكنة، وبدأت التصريحات الروسية تتعالى على لسان مسؤولي بوتين بأن هذه المرة لن يكون هناك تمديد للآلية، في تحدٍ للإنسانية جمعاء، هم طوال سنوات يمارسون القصف والقتل والتهجير والحصار في سوريا ولم يكن هناك أي موقف من المجتمع الدولي على الأقل لوضع حد لتلك الهجمات القاتلة، فلماذا لا يستغلون ذلك، من سكت على القتل والتدمير والتهجير من باب أولى أن يصمت على عدم تمديد إدخال المساعدات.

النظام الروسي بالتأكيد لن يلتفت لإعلان برنامج الأغذية العالمي، في تقريره السنوي لعام 2021، أن ثلاثة من كل خمسة سوريين يعانون من “انعدام الأمن الغذائي” بعد الارتفاع المستمر بأسعار المواد الغذائية، وتدهور الاقتصاد في جميع أنحاء سوريا، ولن يهمه أكثر من أربعة ملايين مدني في شمال غربي سوريا نصفهم هو من هجرهم، منهم 3.4 ملايين شخص بحاجة للمساعدات بحسب إحصاءات الأمم المتحدة، كيف لمن جرب أكثر من 300 نوع من السلاح على السوريين وعلى أجساد أطفالهم أن يكترث أصلاً إذا جاعوا، روسيا يهمها أمران الأول والذي بات أولوية بأنها ترى في هذا الملف وسيلة للابتزاز والحصول على مقابل ربما في الملف الأوكراني أو هكذا هي تطمح خلال هذه الفترة، وخاصة أنها ترى الإصرار الأميركي والغربي على استمرار المساعدات عبر الحدود، وهذا الأمر يرتبط بشكل كبير بالتطورات في أوكرانيا، الأمر الثاني، موسكو تريد زيادة دعم نظام الأسد اقتصادياً بطريقة غير مكلفة بالنسبة إليها، وبضمان تحكم الأخير بالمساعدات، فإدخالها عبر الخطوط يعطيه مردوداً كبيراً إذ يعمل نظام الأسد وبحسب دراسة أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، ومركز أبحاث مركز العمليات والسياسات، يعمل على الاستيلاء على نصف أموال المساعدات الإنسانية، من خلال إجبار وكالات الأمم المتحدة على تحويلها إلى الليرة السورية بسعر الصرف الرسمي للبنك المركزي الذي هو أقل من سعر صرفها على أرض الواقع بفارق كبير، وحصل على نحو 60 مليون دولار في عام 2020 من خلال جمع 0.51 دولار من كل دولار مساعدات يتم إرساله إلى سوريا.

لم يكتفِ نظام الأسد بسرقة أموال المساعدات في المناطق الخاضعة لسيطرته والتمييز في توزيعها وفقاً لولاء المجتمعات المحلية، بل يقدم نفسه جهة نزيهة ويسعى إلى توزيع المساعدات عبر الآلية المركزية التي تنهي العمل بالقرار 2165 وما انبثق عنها لإدخال المساعدات عبر الحدود.

إن السماح بإنهاء العمل بآلية إدخال المساعدات عبر الحدود إلى شمال غربي سوريا، لصالح إدخالها عبر خطوط النزاع، هو بمنزلة مكافأة لنظام الأسد على فساده واستغلاله للمساعدات الإنسانية، رغم التجارب السابقة في هذا الإطار واستخدامه سلاح التجويع والحصار الآن في مخيم الركبان يثبت استمراره على هذا النهج، فمنذ عام 2019 لم تدخل قوافل المساعدات الأممية عبر خطوط النزاع إلى المخيم، حيث يعيش أكثر من 10 آلاف مهجّر في ظروف إنسانية بالغة الصعوبة، وتفاقمت الأوضاع سوءاً خلال الأيام الماضية في ظل فقدان الطحين، دون أن يكون هناك أي قدرة للأمم المتحدة على إجبار روسيا ونظام الأسد على إدخال المساعدات.

لا يمكن القبول بتحول المساعدات الإنسانية إلى سلاح بيد روسيا ونظام الأسد الذي يقوم بتسييس توزيعها في مناطق سيطرته، وسرقتها لتمويل عملياته العسكرية لقتل السوريين، بينما يُحرم المدنيون منها، كما لا يمكن الوثوق بإدخالها عبر خطوط النزاع وهو الذي استخدام الحصار والتجويع كأحد أساليب الحرب على السوريين.

وإن مجرد إخضاع ملف المساعدات الإنسانية للمساومة، -التي هي حق للمدنيين- سيكون له عواقب مستقبلية كارثية، وتحويل لملف المساعدات الإنسانية إلى سلاح بيد روسيا تعطيه لنظام الأسد ليمارس دور مصاص الدماء من جديد.

وإن العمل بإدخال المساعدات إلى شمال غربي سوريا عبر خطوط النزاع بالنسبة لروسيا هي عملية مؤقتة وعبارة عن رسائل سياسية لا أكثر وهي تعلم أنها تكذب والعالم أجمع يعلم بأنها تكذب وبأنه لا وجود  لضمانات تجبرها على الالتزام بها وستتوقف في اليوم التالي من إيقاف آلية إدخال المساعدات عبر الحدود، كما إنها من زاوية أخرى شرعنة لنظام الأسد، ورضوخ للابتزاز الروسي في الوقت الذي كان الأولى بالمجتمع الدولي محاسبته على جرائم القتل والتهجير والحصار والتجويع، وسنرى رضوخاً مشابهاً في مناطق أخرى من العالم، وربما نشاهد سيناريو مشابهاً في أوكرانيا.

ما سيجري في مجلس الأمن في تموز القادم أتوقع أنه سيكون مختلفاً تماماً هذه المرة، الحكومة الروسية وبوتين باتوا يمثلون الجانب المظلم من العالم، ولا يمكن للمجتمع الدولي السكوت على هذا التصعيد ومواجهة الشعوب بهذه الطريقة، يجب أن تكون هناك آلية مختلفة عن التصويت بمجلس الأمن آلية تكون إنسانية بامتياز لا تخضع للابتزاز السياسي الروسي، لا يمكن القبول بأن المجتمع الدولي والأمم المتحدة متفاجئة ومندهشة برفض روسيا لتمديد الآلية، موسكو لا تخفي نواياها، ولكن ما الذي أعده المجتمع الدولي لمواجهتها، لن أستبق الأمور ولكن أتمنى ألا يكون هناك أي تخاذل تجاه السوريين وقضيتهم والوقوف إلى جانبهم، كفاهم خذلاناً أحد عشر عاماً.

—————————

هل يبقى الغرب موحدا في مواجهة روسيا أم تقسمه التباينات؟

يسجل تباعد متزايد في المواقف الغربية الداعمة لأوكرانيا بين الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين حددتا هدفاً استراتيجياً يقضي بإضعاف روسيا، ودول أوروبا الغربية التي تتخوف من عواقب محتملة لمثل هذا الأمر.

ويتجلى هذا التباعد في اختلاف المواقف بين الرئيسين الأميركي والفرنسي، إذ أعلن جو بايدن في 26 مارس (آذار) أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “لا يمكن أن يبقى في السلطة”، في حين اعتبر إيمانويل ماكرون في 9 مايو (أيار) أنه لا يمكن بناء السلام بـ”إذلال” روسيا.

وبعيداً من التصريحات، تقدم الولايات المتحدة وبريطانيا إمدادات من الأسلحة لأوكرانيا تفوق بكثير ما تقدمه إليها فرنسا وألمانيا على سبيل المثال. وتفيد تقارير صحافية غير مؤكدة لكنها متواترة، بأن أجهزة الاستخبارات الأميركية تقدم مساعدة ناشطة لأوكرانيا.

كما أن واشنطن ولندن أكثر اندفاعاً من باريس وبرلين في ما يتعلق بفرض عقوبات على موسكو، ولا تؤمنان إطلاقاً بإمكان إيجاد حل دبلوماسي للنزاع، وهو ما لا يزال الأوروبيون يأملونه.

إضعاف روسيا

وقال الباحث إوين دريا من مركز “مارتنز” للدراسات في بروكسل، “العالم الأنغلوفوني ينقذ أوكرانيا، في حين ينقذ الاتحاد الأوروبي نفسه”.

وكُتب في مقال نشره موقع “بوليتيكو” الإعلامي الأميركي، “الاتحاد الأوروبي مستمر في المواربة”.

في المقابل، تخصص واشنطن عشرات مليارات الدولارات لتزويد أوكرانيا بالأسلحة. ورأى جيرار أرو، السفير الفرنسي السابق لدى الولايات المتحدة والأمم المتحدة، أن “الدعم الأميركي لأوكرانيا يتخذ بعداً مختلفاً، وحين ننفق هذا القدر من المال، يكون الهدف تحقيق عائدات على الاستثمار”.

وعلى الرغم من أن الإدارة الأميركية لم تؤكد سعيها لـ”تغيير النظام” بعد تصريح بايدن، فإن واشنطن تحاول “إضعاف” روسيا على المدى البعيد، وهو ما أعلنه وزير الدفاع لويد أوستن.

وعلّق أرو متحدثاً لوكالة الصحافة الفرنسية، أنه بالنسبة إلى واشنطن التي تبقى المواجهة مع الصين أولويتها الاستراتيجية على المدى البعيد، “إنها فرصة تسنح لها لإضعاف القوة الروسية من دون استخدام أي جندي أميركي!”.

وأوضح، “بما أن الأوكرانيين يقاتلون بشكل ممتاز والروس بشكل سيء، يقول الأميركيون لأنفسهم إنها فرصة سانحة لإضعافهم، وإذا سقط بوتين، فهذا سيكون جيداً أيضاً”. وعلّق على موقف المملكة المتحدة فقال إن “البريطانيين يسيرون على خطى الأميركيين، لم يعُد لديهم أي سياسة أخرى ممكنة منذ بريكست”.

انكشاف أوروبي أكبر

أما في الجانب الأوروبي، فأقرّ الدبلوماسي السابق الإيطالي ماركو كارنيلوس، بأن “هناك شقاقات” بين دول الشرق المعادية جداً لروسيا بالطبع لأسباب تاريخية، وأوروبيي الغرب الذين يدعمون أوكرانيا بوجه الاعتداء، غير أنهم أكثر اعتدالاً من واشنطن ومعرضون أكثر منها بكثير لعواقب الحرب.

ولخّص كارنيلوس الوضع بالقول، “السؤال المطروح هو أي ثمن يكون الأوروبيون مستعدين لدفعه لقاء تغيير محتمل للنظام في موسكو؟”، موضحاً أنه بمعزل عن خطر تصعيد عسكري، فإن “الثمن الاقتصادي لتحقيق الهدف الأميركي قد يكون باهظاً”.

وشرح أستاذ الاقتصاد الصناعي في المعهد الوطني للفنون والحرف سيباستيان جان، أنه “من وجهة النظر الاقتصادية، هناك عدم تناسب حقيقي” بين انكشاف الولايات المتحدة وبريطانيا على العواقب، وانكشاف الاتحاد الأوروبي وفي مقدمته ألمانيا.

وقال، “الولايات المتحدة، كما المملكة المتحدة بدرجة أقل، هما من كبار منتجي الطاقة، وتبعيتهما للواردات محدودة أكثر”.

تباين كبير بين الأوروبيين

كما أن البلبلة الناجمة عن الحرب تنعكس “بشكل أساسي على المواد الأولية الخام أو المصنعة، بما فيها المواد المهمة للصناعة” مثل البالاديوم والبوتاس والنيكل وغيرها. إلا أن “الصناعة الألمانية القوية جداً لكنها مستهلكة جداً للطاقة، معرضة للغاية لهذه الصدمة. والأمر لا ينطبق بالقدر ذاته على المملكة المتحدة مثلاً، لأن صناعتها أقل قوة”، ولا على الولايات المتحدة التي هي أبعد جغرافياً ولديها قنوات إمداد أخرى، وفق أستاذ الاقتصاد.

وتابع جان، “هذا ما يجعل النظر إلى المسائل يختلف كثيراً” بين دول أوروبا الغربية الغنية، والأميركيين والبريطانيين الذين تنضم إليهم دول أوروبا الشرقية.

والسؤال: هل تنقسم أوروبا مرة جديدة؟

كتب المؤرخ العسكري الأميركي إدوارد لوتواك على “تويتر”، أن “الدعم الأوروبي الكلامي لأوكرانيا يخفي تباينات كبرى في الدعم المادي، تراوح من سخاء بولندا الكبير… إلى عمليات التسليم الألمانية البطيئة جداً والضعيفة جداً، مروراً بإيطاليا في الوسط”.

ولفت أرو إلى أنه على الرغم من “هذا التوتر الذي يتزايد بسبب تشديد الموقف الأميركي، فإن هذا لم يمنع الاتحاد الأوروبي من اتخاذ قرارات موحدة حتى الآن”.

اندبندنت عربية

——————————-

كيف تم التنبؤ بالتكتيكات الروسية العنيفة في أوكرانيا بدءا من سوريا؟/ ريتشارد هول

عندما أطلقت روسيا عملية غزو واسعة النطاق في أوكرانيا في فبراير (شباط) الماضي، ساد شعور بالصدمة في العواصم الغربية ولّدته أولاً وقاحة العملية نفسها ووحشيتها عندما بدأت تتكشّف. ولم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً بالقوات الروسية لكي تبدأ بقصف المناطق المدنية المأهولة في محاولتها الاستيلاء على الأراضي الواقعة في شرق البلاد وشمالها الشرقي. وخلال الشهر الأول من بدء الغزو، سجّلت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وفاة 3455 مدنياً في البلاد غالبيتها ناجمة عن القصف المدفعي والقصف الثقيل والصواريخ والغارات الجوية.

وانتقل فلاديمير بوتين من كونه شريكاً على الساحة الدولية إلى شخص منبوذ في عيون الحكومات الأوروبية وتبدّل الرأي العالمي بشأن روسيا بين ليلةٍ وضحاها. بيد أنّه بالنسبة للعديد من السوريين، كان الأمر أشبه بشعورٍ قاسٍ مألوف رافق تكشّف الأحداث في أوكرانيا. فهم رأوا هذا النوع من الوحشية من قبل في بلادهم.

“ما صدمني هو أنّ العالم شعر بالصدمة. لماذا هم مصدومون؟ هل لأن الأمر متعلق بدولة أوروبية؟” يقول عبد الكافي الحمدو وهو مدرّس لغة إنجليزية يتحدّر من مدينة حلب السورية. وقال لصحيفة “اندبندنت”: “شكّلت سوريا مختبراً لأسلحتهم ولتكتيكاتهم المختلفة. وها هم يستخدمونها اليوم في أوكرانيا”.

على مرّ الشهرين الماضيين، تحدّث العديد من السوريين عن نقاط التشابه بين التكتيكات الروسية في أوكرانيا والتكتيك الذي استخدمته خلال تدخّلها العسكري في سوريا عام 2015. وتساءلوا جهاراً كيف أنّ العالم أخفق في معرفة المدى الذي ستصل إليه روسيا بقيادة بوتين لبسط سلطتها.

وتدخّلت روسيا في الحرب الأهلية السورية دعماً لرئيس البلاد بشار الأسد. وكسرت بذلك حالة من الجمود الفعلي لصالح الديكتاتور من خلال استخدام القوة الجوية المدمرة في جميع أنحاء البلاد.

قدّرت “إيروارز” Airwars وهي منظمة استقصائية تحصي عدد الضحايا المدنيين في الحروب مقتل أكثر من 6398 مدنياً جرّاء التدخّل الروسي خلال السنوات الستّ التي نشط فيها في سوريا. وشهد الحمدو وحشية هجومٍ عسكري روسي عندما كان في الطرف الآخر من حصارٍ روسي-سوري طاول مدينته الأم حلب.

وخلال المعركة الأخيرة للمدينة السورية الشمالية الشرقية في العام 2016، أدّت حملة قصفٍ روسية وسورية إلى مقتل أكثر من 440 مدنياً في غضون شهرٍ واحد بحسب مركز توثيق الانتهاكات (Violations Documentation Center) وهي مجموعة رصد مدنية سورية. ومن جهة أخرى، أشارت منظمة “هيومن رايتس ووتش” Human Rights Watch بأنّ القصف الجوي “كان يبدو غالباً عشوائياً متهوراً واستهدف مرفقاً صحياً واحداً على الأقل وشمل استخدام أسلحة عشوائية على غرار الذخائر العنقودية وأسلحة حارقة”.

وقال الحمدو إنّ مشاهدة الهجوم الروسي على أوكرانيا كان بمثابة “استعادة أحداث فيلم مجدداً”. وأشار إلى أنّ العيش تحت أنظار الجيش الروسي يعني العيش في “خوفٍ مستمرّ”. وتابع قائلاً: “إنّه خوف مستمر، التفكير بالموت والتهجير والقلق على أسرتك. في الواقع، يعني العيش تحت القصف الروسي أنّه كلّما ظننت بأنّ مكاناً ما آمن، كلّما كان أشدّ خطراً”.

وليست فظاظة الغزو الروسي لأوكرانيا هي وحدها التي استدعت بناء هذا التشابه مع سوريا، بل يتعلق الأمر أيضاً بالتكتيكات الخاصة التي نشرتها. وشكّل التدمير الشامل للمناطق المدنية واستهداف المرافق الطبية والطواقم الصحية وتكتيكات الحصار وشنّ هجمات على الممرات الإنسانية تكتيكات تمّ استخدامها في سوريا أولاً.

وأعلن مسؤولون أميركيون بأن روسيا أوكلت قيادة الغزو الروسي على أوكرانيا للجنرال ألكسندر دفورنيكوف. وكان سبق لدفورنيكوف أن تولّى قيادة التدخّل الروسي في سوريا طوال السنة الاولى تقريباً بين سبتمبر (أيلول) 2015 ويوليو (تموز) 2016.

وأشار مجد خلف، وهو متطوع سابق في الدفاع المدني السوري وهي منظمة إغاثة تُعرف باسم “الخوذ البيضاء” White Helmets إلى أنّه رصد العديد من الإشارات التي تدلّ على أنّ موسكو تتبع التحرّكات نفسها التي اعتمدتها في سوريا. وفيما كان يتصفّح “تويتر” في أحد الأيام، شاهد فيديو لمسعفٍ يعالج إحدى ضحايا قصف جوي على ما يبدو عندما حصل هجوم آخر في الموقع نفسه. وفي سوريا، أصبحت تلك “الهجمات المزدوجة” بمثابة علامة بارزة تحمل توقيع قوات الجوّ الروسية. وقال خلف: “شاهدت فيديو لهجومٍ مزدوج في أوكرانيا وذكّرني بما حصل لنا في سوريا. وقمت بتغريدة حول الموضوع بهدف تحذير الناس في أوكرانيا، من مسعفين وصحافيين، لكي يتمكنوا من حماية أنفسهم. ويقوم هذا التكتيك على استهداف الموقع ومن ثم انتظار وصول المسعفين لمساعدة المدنيين قبل أن تأتي الطائرة إلى الموقع نفسه وتستهدفه مجدداً”.

وغالباً ما كان مسعفو “الخوذ البيضاء” في الصفوف الأمامية لهذه الهجمات. “فقدت الخوذ البيضاء أكثر من 292 متطوعاً” يقول خلف. وفي هذا الإطار، تمّ توثيق استخدام الجيشين الروسي والسوري للهجمات المزدوجة خلال الحرب السورية. وفي عام 2020، أعلن محققو الأمم المتحدة بأنّ القوات الروسية شنّت هجوماً مزدوجاً على سوقٍ في 22 يوليو 2019 مما أدى إلى مقتل 43 مدنياً. فبعد وقوع الهجوم الأول، وصل المسعفون إلى المكان لإسعاف المصابين وعندئذٍ وقع الهجوم الثاني.

وجاء في تقرير لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن سوريا بأنّ “القوات الجوية الروسية لم توجّه هجماتها على هدفٍ عسكري محدد ممّا يجعل ذلك يرقى إلى مستوى جريمة الحرب المتمثلة في شن هجمات عشوائية على مناطق مدنية”.

وأضاف خلف قائلاً: “استغرقنا الأمر وقتاً طويلاً لكي نفهم هذا التكتيك”. وقال بأنّ تأثير دخول روسيا إلى الحرب كان هائلاً على المدنيين. “منذ قيام روسيا باجتياح سوريا تغيّر كلّ شيء. وتماماً مثل ماريوبول، كان أمام الناس خياران لا ثالث لهما: الموت في تلك المدينة أو تهجيرهم قسراً. ما تقوم به روسيا اليوم في ماريوبول سبق أن فعلته في حلب. إنّها الاستراتيجية نفسها”.

الدكتور زاهر سحلول هو طبيب سوري-أميركي ورئيس منظمة “ميد غلوبال” Med Global وأحد الأشخاص القليلين الذين رأوا تأثير القذائف الروسية على كلّ من سوريا وأوكرانيا. فقد قام بالعديد من الرحلات إلى سوريا خلال الحرب لتدريب الأطباء المحليين والمساعدة على إنشاء المرافق الطبية. ويقوم اليوم بالأمر نفسه في أوكرانيا.

ويقول لـ”اندبندنت” بأنّ جزءاً من التدريب كان يقضي بالشرح لأكثر من 200 طبيب أوكراني كيفية معالجة المرضى الذين أصيبوا بهجوم أسلحة كيماوية وهو أمر لم يحصل بعد في أوكرانيا ولكنه حصل مئات المرات في سوريا. وأضاف قائلاً: “أجرينا التدريب على الإصابات الجماعية ومرضى الصدمات والأسلحة الكيماوية. إنّه التدريب نفسه الذي استخدمناه في سوريا وطاول العديد من الاطباء”.

وفي سوريا، زار الدكتور سحلول المرافق الطبية التي بُنيت داخل الكهوف لتجنب القصف الجوي الروسي والقصف الجوي الذي تشنه الحكومة السورية على إثر الهجمات التي لا هوادة فيها. وفي هذا الإطار، قامت منظمة “أطباء لحقوق الإنسان” غير الحكومية (Physicians for Human Rights) والتي تُعنى بتوثيق الهجمات على مرافق الرعاية الصحية برصد ما يناهز 244 هجوماً مماثلاً في سوريا شنّتها روسيا والقوات الموالية للنظام السوري. وفي عام 2019، كشف تحقيق أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” بأنّ الطائرات الروسية قصفت أربعة مستشفيات خلال 12 ساعة في شهر مايو (أيار) من ذلك العام.

وفي مطلع الشهر الجاري، أعلنت منظمة الصحة العالمية بأنّ أكثر من 70 شخصاً لقوا حتفهم فيما أُصيب 53 آخرون بجروح في الهجمات الروسية على مرافق طبية أوكرانية منذ بداية الغزو. وكشفت المنظمة بأنّها أكّدت حصول 147 هجوماً على الأقلّ طاول مرافق الرعاية الصحية بما في ذلك هجوم على مستشفى للأطفال في ماريوبول.

ويضيف الدكتور سحلول قائلاً: “الأمر مشابه إلى حدّ كبير ما حصل في سوريا من قصف للمستشفيات واستهداف مزوّدي الرعاية الصحية والبنى التحتية المدنية. انطلاقاً من تجربتنا، أعتقد بأنّ الهدف من ذلك هو إجبار عدد كبير من المدنيين على النزوح ممّا يسهّل عملية استيلاء القوات البرية على منطقةٍ محددة”.

وأشار الدكتور سحلول إلى الحصار المفروض على ماريوبول في جنوب أوكرانيا كمثلٍ ملموس لهذه الاستراتيجية المتّبعة. وفرضت القوات الروسية حصاراً على المدينة منذ بضعة أسابيع وسمحت أخيراً للمدنيين بالمغادرة من دون أن يعني ذلك هروبهم من إطلاق النار. وفي هذا السياق قال عمدة المدينة بأنّ أكثر من 10 آلاف مدني قُتلوا في القصف. وتابع بالقول: “يمكن للحصار أن يتسبب بالعديد من المشكلات في الصحة النفسية ونقص في الطعام والغذاء ويجعل المرضى المصابين بأمراضٍ غير معدية أو أمراض مزمنة غير قادرين على شراء أدويتهم فيما يتعذر على النساء الحوامل الحصول على ولاداتٍ طبيعية وينتهي الأمر بالمرضى الذين يحتاجون إلى إجراء عملياتٍ جراحية بسيطة إلى تكوين مضاعفاتٍ أو يموتون بسبب صعوبة الوصول إلى المستشفيات أو الأخصائيين. نرى الأمر نفسه في ماريوبول. إنّها بالطبع جريمة ضد الإنسانية عندما تقوم بمعاقبة شعب بأكمله للسيطرة على البلاد. ولكن في الوقت نفسه، إنّها تكتيكات حرب فعالة للغاية استُخدمت في سوريا”.

ولكن، يبرز اختلاف ملحوظ بين غزو روسيا لأوكرانيا وأفعالها في سوريا. ففيما أثار غزو بوتين لجارته الأوروبية استنكارا واسع النطاق ترافق مع فرض عقوبات ودعم عسكري واسع للجيش الأوكراني، لم تشهد سوريا ذلك الحشد عندما كان المدنيون السوريون تحت القصف.

في الواقع، يشير الدكتور سحلول إلى وجود علاقة مباشرة بين التقاعس والغزو الروسي الوقح لأوكرانيا. ويضيف قائلاً: “أعتقد أنه لو رأينا بعض المحاسبة على جرائم الحرب التي ارتُكبت في سوريا على يد نظام الأسد وإيران وروسيا، لما كنّا شهدنا الأمر ذاته يتكرر في أوكرانيا. حذّرنا المجتمع الدولي أنّه في حال بقيتم مكتوفي الأيدي تجاه ما يحصل في سوريا، فإنّ الأمر سيتكرر وسيطاردنا. الأشخاص مثلنا الذين ذهبوا إلى سوريا مرات عدة رأوا تأثير البراميل المتفجرة على الأطفال وتدمير أحياء ومدن بالكامل بفعل الطائرات المقاتلة فضلاً عن قصف مستشفيات واستخدام أسلحة كيماوية. وعلى الرغم من ذلك، اتّسم رد فعل المجتمع الدولي تجاه ما يحصل في سوريا بالصمت المطبق ولم يستحوذ الأمر على اهتمام الناس”.

وفي غضون ذلك، يستمر خلف في متابعة الأخبار الواردة من أوكرانيا وغرّد في مناسباتٍ عدة مقدماً النصح للأوكرانيين والمسعفين. ويعتبر بأنّ تجربته في سوريا تسببت بشعوره بالقلق على مستقبل أوكرانيا. وقال: “عندما أتابع الأخبار في أوكرانيا، أشعر بأنني أعرف بأي اتجاه تسير الأمور”.

© The Independent

—————————

سيناريو روسي قديم لحرب أوكرانيا / سامي عمارة

تتواصل أحداث ومشاهد المواجهة العسكرية على الساحة الأوكرانية، ولا أحد يعلم بعد ما يمكن أن تحمله الأقدار إلى هذه المنطقة، وإن كان هناك ما يشير إلى أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، سبق وتناول سيناريو المواجهة المحتملة مع أوكرانيا، ومن يقف وراءها في أكثر من مناسبة، وقبل هذا التاريخ بما يقرب من العام.

ولعل استعادة ما كتبه بوتين في مقالته “الأكاديمية” حول الأصول التاريخية المشتركة للشعبين الروسي والأوكراني قد يكون كافياً لإماطة اللثام عما يمكن أن تنتهي عنده ما يجرى اليوم من مواجهة عسكرية بين الشعبين “السلافيين الشقيقين”، بما في ذلك ما تنبأ به الرئيس الروسي حول احتمالات أن تفقد أوكرانيا وضعيتها كدولة مستقلة، أو بقول آخر “احتمالات تقسيمها”، وما قد يرتبط بذلك من ضم مساحات كبيرة من الأراضي، التي يتوالى انتقال تبعيتها يوماً بعد يوم إلى السيطرة الروسية، على الرغم من عدم اعتراف الغرب بذلك.

غير أن هناك ما يشير في الوقت ذاته إلى ارتباط ما يجري، وما يمكن أن يجري على مقربة في بيلاروس، بكل ما سبق وأعلن عنه بوتين من وحدة الشعوب السلافية، التي يقصد بها روسيا وأوكرانيا وبيلاروس، التي لطالما كانت تشكل نسبة 80 في المئة من القوة الضاربة للاتحاد السوفياتي السابق، بكل ما كان يتمتع به من مساحات جغرافية وقدرات اقتصادية عسكرية تستند إلى تاريخ مشترك وقدرات علمية عالمية.

موقف بيلاروس

وكان ألكسندر لوكاشينكو، رئيس بيلاروس، قد توقف عند ذات المعاني، حين أفصح خلال زيارته الأخيرة لروسيا عن ضرورة أن يكون لبيلاروس دورها ومكانها في أية تسوية يمكن أن تجري في المنطقة، بما في ذلك أي اتفاقيات أو معاهدات قد تعقدها روسيا مع أوكرانيا. وهو أمر يقيناً أن موسكو ترحب به وتدعمه، بوصفه النواة التي يمكن أن يسفر عنها ظهور كيان وحدوي يريد بوتين أن يضم بلداناً أخرى من الفضاء السوفياتي السابق، ومنها كازاخستان الدولة الأقوى في آسيا الوسطى.

ومن هذا المنظور يتوقف مراقبون كثيرون عند ما تعيره الصحافة الروسية من أهمية لتناول سيناريوهات العمل خلال الفترة الراهنة، وما قد يعقبها من مراحل تقف منها الولايات المتحدة وحلفاؤها في المعسكر الأوروبي بالمرصاد.

وحول هذا الصدد، تناولت لينا كورساك، في “موسكوفسكي كومسوموليتس”، إحدى الصحف الروسية الأكثر توزيعاً والأوسع انتشاراً، ما تقوم به الولايات المتحدة وحلفاؤها لتعزيز وجودهم العسكري بالقرب من الحدود البيلاروسية.

قلق من الناتو

ونقلت الصحيفة عن الجنرال فيكتور غوليفيتش، رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة البيلاروسية، النائب الأول لوزير الدفاع، ما أعرب عنه من قلق تجاه مضاعفة مجموعة قوات الناتو لوجودها، كماً ونوعاً، خلال الأشهر الستة الماضية.

وأشارت مصادر هيئة الأركان العامة البيلاروسية إلى أن القوات المسلحة الأوكرانية تحشد ما يقرب من 20 ألف جندي في الاتجاه الجنوبي بمنطقة الحدود البيلاروسية- الأوكرانية، وهو ما قالت إنه “يتطلب أيضاً رد فعل من بيلاروس”، بوصفه “خطوة خطيرة من شأنها أن توسع الحرب في المنطقة”.

وفي الصدد ذاته، نقلت الصحيفة الروسية عن الخبير العسكري يفغيني لينين، أن “كل ما يحدث منطقي تماماً. تعد دول الناتو، بطريقة أو بأخرى، بيلاروس طرفاً في النزاع. ويتجلى ذلك في العقوبات الدولية، التي فرضت عليها مثل روسيا”. ومن المعروف أن بيلاروس، وبموجب مقتضيات تحالفاتها مع روسيا، سواء في إطار ما وقعته من معاهدات اتحادية مع موسكو منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، أو عضويتهما المشتركة في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، تقدم إلى القوات المسلحة الروسية الكثير من التسهيلات اللوجستية، ومنها فرصة نقل القوات وإجراء التدريبات واستخدام أراضيها للدفاع الجوي، لكنها لا تشارك بشكل مباشر في الصراع.

وقالت الصحيفة، إن “بيلاروس تحد وبدرجة كبيرة من حرية الحركة لقوات الناتو المنتشرة في بولندا عند حدودها الغربية، وتحول دون توريد الذخيرة والوقود وزيوت التشحيم والموارد المتنقلة من غرب أوكرانيا إلى الشرق”.

خطوة بولندية

وها هي بولندا وقد أعلنت عن نفسها بطرحها لفكرة الدفع بقوات حفظ السلام إلى غرب أوكرانيا من دون تفويض من جانب الأمم المتحدة، وما قد يتبع ذلك من طموحات في بعض أراضي غرب بيلاروس إلى ما وراء شرق ما كان يسمى بخط كيرزون، تساندها ما يجرى من مداولات للإعلان عن تلبية طلبي فنلندا والسويد للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وهو ما سوف يجرى النظر فيه خلال الأسابيع القليلة المقبلة.

ولم يكن كل ذلك بغائب عن مداولات دوائر صناعة القرار في روسيا، التي بدورها تحدد البدائل الممكنة والسبل اللازمة للخروج من المأزق الراهن بأقل قدر من الخسائر، إن لم يكن بأكبر قدر من المكاسب، انطلاقاً مما يترتب على هذه العقوبات من نتائج تنال بدورها من استقرار كل البلدان التي تورطت في اتخاذ قرارات العقوبات أو انضمت إليها بحكم تبعيتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، سواء في حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي، وما يتفرع منهما من مجالس وتشكيلات.

وننقل عن دميتري ميدفيديف، الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، ما كتبه على قناة “تلغرام” حول أن عالم ما بعد العقوبات ضد روسيا سيحمل معه 10 نقاط ستحدث جراء ذلك، مؤكداً أن ذلك ليس من باب “التوقعات”.

أزمة لوجستية كبرى

ومن هذه النقاط، ما ورد على الموقع الإلكتروني لقناة “روسيا اليوم” الناطقة بالعربية، حول “انهيار عدد من سلاسل التوريد العالمية للسلع، إلى جانب احتمالات حدوث أزمة لوجستية كبرى، بما يتضمنه ذلك من احتمال انهيار أنشطة شركات الطيران الأجنبية، التي يحظر عليها التحليق فوق الأراضي الروسية”.

وأشار ميدفيديف كذلك إلى “تزايد حدة أزمة الطاقة” في الدول التي فرضت عقوبات “إطلاق النار على نفسها” على توريد ناقلات الطاقة الروسية، إلى جانب زيادة أسعار الوقود، وتراجع نمو الاقتصاد الرقمي في العالم، واندلاع أزمة غذاء عالمية شاملة مع احتمال “حدوث مجاعات في بعض الدول”.

لكن الأهم في ما أورده ميدفيديف من احتمالات، قال إنها تستند إلى معلومات، قد يكون في “اندلاع صراعات عسكرية إقليمية جديدة بالمناطق التي لم يتم فيها التوصل إلى حلول سلمية لسنوات طويلة، أو تم تجاهلها لحساب المصالح الأعلى للاعبين الدوليين الرئيسيين، إلى جانب عودة نشاط الإرهابيين، استناداً إلى اعتقادهم بتحول اهتمام السلطات الغربية اليوم إلى المواجهة مع روسيا”، وهو ما نشهده في مناطق أخرى كثيرة بالشرق الأوسط.

وإذ أشار إلى تراجع أنشطة المؤسسات الدولية، التي لم تتمكن من إثبات فعاليتها في سياق تسوية الوضع الأوكراني، مثل المجلس الأوروبي”، قال ميدفيديف بوجود ما يؤكد “احتمالات انهيار فكرة العالم المتمركز حول الولايات المتحدة الأميركية، وقيام تحالفات دولية جديدة للبلدان على أساس معايير براغماتية، وليس على أساس المعايير الأيديولوجية الأنغلوساكسونية”، على حد قوله.

السيناريوهات المتوقعة

ومن هنا يمكن التوقف عند ما نشرته صحيفة “كومسومولسكايا برافدا”، أوسع الصحف الروسية انتشاراً حول السيناريوهات المتوقعة لانتهاء “العملية العسكرية الروسية” الخاصة، من واقع الحوار الذي أجرته على الهواء مباشرة مع ثلاثة من خبراء السياسة في روسيا، خلصوا جميعهم إلى أن السيناريو الأكثر احتمالاً يتلخص في ما سوف تحرزه روسيا من تقدم عسكري وصفوه بالمحدود، ويتمثل في الاستيلاء على كل أراضي جمهوريتي “دونيتسك” و”لوغانسك” في حدودهما التاريخية، والتمسك بما جرى الاستيلاء عليه من أراض في مقاطعتي خاركوف وزابوروجيه وغيرهما، ومنها خيرسون التي توفر الكثير من مستلزمات الحياة، وأهمها المياه العذبة لشبه جزير القرم، التي صارت ترتبط برياً بكل هذا الأراضي والمقاطعات للمرة الأولى منذ انضمامها إلى روسيا في 2014.

وأشارت الصحيفة إلى الممر البري، الذي يربط اليوم كلاً من خيرسون وبيرديانسك وميليتوبول وماريوبول، الذي قالوا إنه كان يمثل “الهدف الرئيسي للمرحلة الأولى من العملية الخاصة”. ولم يغفل هؤلاء “احتمال احتلال نيكولاييف مع أوديسا”، الذي وصفوه بأنه “سيكون أمراً جيداً إن حدث”.

وخلص المراقبون إلى أن روسيا لا يجب أن تتوقف عند هذا الحد، على اعتبار أن ما حدث “ليس الانتصار النهائيط، وهو ما تشير الكثير من التطورات إلى صحة التقديرات بشأنه، في إطار السيناريوهات الرئيسة الثلاثة التي جرى طرحها، ومنها ما كان يتناول السيطرة على كامل الأراضي الأوكرانية في حدود عام 1939، الأمر الذي جرى استبعاده منذ البداية، بعد التأكد من صعوبة وقوع الانقلاب، ووقوف الغرب وراء الرئيس الحالي فولوديمير زيلينسكي، وما أعقب ذلك من تطورات، ومنها اعتقال فيكتور ميدفيدتشوك، الذي كانت دوائر في موسكو وخارجها ترشحه بوصفه أحد أبرز المرشحين لخلافته.

السيناريو الأقرب للتنفيذ

وعلى الرغم من الإيغال في التوقعات، والمضي في تغليب الاحتمالات، فإن هذا السيناريو يظل الأقرب إلى التنفيذ على ضوء ما يحدث من تطورات على أرض الواقع، تستند في معظمها إلى ما سبق وأعلنه الرئيس بوتين على مدى السنوات الثماني الماضية، وما طرحه من أسانيد تاريخية أودعها مقالته الشهيرة بشأن الأصول التاريخية المشتركة للشعبين الروسي والأوكراني.

وفي هذا الصدد يبدو ما يشبه الإجماع في الساحتين السياسية والإعلامية بموسكو حول عدم الاعتداد بكل ما طرحه الرئيس الأوكراني زيلينسكي حول رفضه لمجمل مضمون هذه المقالة من أسانيد تاريخية، وما يعلنه من تصريحات حول قدرات الشعب الأوكراني على “المضي في الحرب ضد روسيا لعشر سنوات مقبلة”، على حد قوله.

وشأن ما سبق، قال في ذكرى انضمام القرم وسيفاستوبول إلى الوطن الأم، “لقد عاشوا على أرضهم وأرادوا أن يعيشوا مصيراً مشتركاً مع وطنهم التاريخي مع روسيا. كان لديهم كل الحق في القيام بذلك وحققوا هدفهم”، كان بوتين سبق وأشار في مقالته الأكاديمية التاريخية إلى مصير مشابه لشعوب جمهوريتي “دونيتسك”، ولوغانسك”.

تحذير قديم

ونورد أدناه تلك الفقرة، التي كان لا بد من التوقف عندها طويلاً. ففيها كشف بوتين عما يجرى اليوم من خطوات منذ إعلانه الاعتراف بجمهوريتي “دونيتسك” ولوغانسك”. فبعد استعراضه للكثير من المشاهد التاريخية، قال بوتين:

“ولذلك، فإن أوكرانيا الحديثة هي نتاج خالص للحقبة السوفياتية. ونحن نعلم ونتذكر جيداً أنها قد تشكلت – بمعظمها – على أراضي روسيا التاريخية. وللتأكد من ذلك يكفي أن ينظر المرء إلى حدود الأراضي، التي توحدت مع الدولة الروسية في القرن السابع عشر وأراضي جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية عندما انفصلت عن الاتحاد الأوروبي.

تعامل البلاشفة مع الشعب الروسي على أنه مادة لا تنضب لتجاربهم الاجتماعية، فهم كانوا يحلمون بثورة عالمية ستطيح بالدول الوطنية. ولذلك كانوا في غاية السخاء عند رسم الحدود، وتقديم العطايا الإقليمية. على كل حال، لم يعد الآن مهماً الحديث عن نيات القادة البلاشفة عندما كانوا يقطعون البلاد إرباً. يمكن أن نختلف حول تفاصيل رئيسة وخلفيات، والمنطق وراء بعض القرارات، ولكن الحقيقة تبقى في غاية الوضوح: لقد تعرضت روسيا إلى السلب حقاً.

اعتمدت أثناء عملي على هذا المقال على وثائق لا تحمل طابع السرية، احتوت على حقائق معروفة، وليس على بعض الوثائق والسجلات السرية. ويفضل قادة أوكرانيا المعاصرة ورعاتهم الخارجيون تجاهل هذه الحقائق، فضلاً عن أنهم لا يفوتون فرصة، سواء في داخل البلاد أو خارجها، لاستغلالها من أجل إدانة “جرائم النظام السوفياتي”، وإدراج أحداث لا علاقة للحزب الشيوعي السوفياتي، ولا للاتحاد السوفياتي بها، ناهيك عن روسيا المعاصرة. وفي الوقت نفسه، لا تعتبر جهود البلاشفة لفصل الأراضي الروسية التاريخية عن روسيا جريمة. ونحن نعلم لماذا: “فإذا كان ذلك يمكن أن يكون سبباً في إضعاف روسيا، فإنه لا بد وأن يرضي من لا يحمل لنا وداً”.

الالتزام بالعودة إلى حدود ما قبل السوفيات

وللمزيد من الإيضاح مضى بوتين ليقول، وكأنما يخاطب القيادة الأوكرانية على وجه الخصوص: “أنت تريد إقامة دولتك الخاصة على الرحب والسعة، ولكن بشروط. وهنا استذكر التقييم الذي قدمه أناتولي سوبتشاك أحد أبرز الشخصيات السياسية في روسيا الحديثة، أول محافظ لمدينة سان بطرسبورغ. وبوصفه متخصصاً قانونياً بارزاً قال إنه يؤمن بأن أي قرار يجب أن يكون شرعياً. ومن هذا المنظور أعلن في عام 1992 عن الرأي التالي: على الجمهوريات المؤسسة للاتحاد بعد أن ألغت معاهدة الاتحاد لعام 1922، الالتزام بالعودة إلى حدودها، التي كانت قائمة قبل انضمامها إلى الاتحاد السوفياتي، بما يعني ضرورة أن تخضع كل ما اكتسبته من أراض بعد ذلك إلى النقاش والمفاوضات، نظراً لانتفاء الأساس الذي استندت إليه في ضمها لهذه الأراضي. وبقول آخر، يجب أن تخرج بما جئت به. وهذا منطق يصعب دحضه. سأقول فقط إن البلاشفة قد شرعوا في إعادة تشكيل الحدود حتى قبل قيام الاتحاد السوفياتي، وتلاعبوا بالأراضي بحسب أهوائهم متجاهلين إرادة الناس”.

وهنا نتساءل، ألم يكن ذلك تحذيراً من مثل ما تواجهه اليوم أوكرانيا من مواقف وأحداث؟ ألم يكن ذلك كله إعلاناً عما ينويه الرئيس بوتين، وأعلن عنه صراحة قبل ذلك بثمانية أعوام تاريخ عودة القرم إلى روسيا؟

—————————

نتيجة حصول خطأ فني في القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة” نستمر في تغطية هذا الملف الحيوي هنا

==================

تحديث 17 أيار 2022

—————————-

الاستراتيجية الأميركية في أوكرانيا وتداعياتها المحتملة على العلاقة مع روسيا:تلقين بوتين درساً دون الانجرار للحرب

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

بعد مرور نحو ثلاثة شهور على الغزو الروسي أوكرانيا، ما زالت القوات الروسية غير قادرة على تحقيق اختراق جوهري في الميدان. ورغم أن الاستراتيجية العسكرية الروسية تحوّلت، منذ منتصف نيسان/ أبريل 2022، من هدفها الرئيس المتمثل في السيطرة على العاصمة كييف وإسقاط نظام الرئيس، فولوديمير زيلنسكي، إلى التركيز على شرق أوكرانيا، وتحديدًا منطقة دونباس، فإن هجومها البرّي ما زال يواجه مقاومة شديدة تعوق تقدّمه. ويمكن تفسير فشل روسيا، حتى الآن، في تحقيق أهدافها العسكرية في أوكرانيا، بنجاح الاستراتيجية الدفاعية التي تسهم الولايات المتحدة الأميركية في وضعها، في تحميل موسكو تكاليف باهظة اقتصاديًا، وعسكريًا، واستراتيجيًا.

الاستراتيجية الأميركية في أوكرانيا

يعود تعثّر الاستراتيجية الروسية في أوكرانيا إلى الدعم الكبير الذي يقدّمه الغرب، وتحديدًا واشنطن، لكييف من الأسلحة المتطوّرة، فضلًا عن مشاركة معلومات استخباراتية حساسة معها، كان لها أثر مهم في توجيه ضربات موجعة إلى القوات الروسية. ومن هنا، يأتي الاتهام الروسي للولايات المتحدة بأنها منخرطة في الحرب مباشرة ضدها؛ وهو أمر يثير قلقًا من إمكانية الانزلاق نحو مواجهة عسكرية بين البلدين النوويين. وتحاول إدارة الرئيس جو بايدن أن تحافظ على توازنٍ صعبٍ بين استمرار تدفق الدعم لكييف بهدف ضمان هزيمة موسكو، وفي الوقت نفسه، عدم استفزاز هذه الأخيرة إلى الحدّ الذي يضطرّها إلى الرد في حال تهديد أمنها القومي أو استقرار نظام الحكم فيها. 

ومنذ تعاظم الحشود العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا، في كانون الأول/ ديسمبر 2021، أعلنت إدارة بايدن أنها ستعمل على استراتيجية توازن بين أمرين: عدم الانجرار إلى صراع عسكري مع روسيا. ورفع التكلفة الاقتصادية والسياسية والعسكرية على موسكو إلى “مستوى غير مسبوق”، إذا هي مضت في الخيار العسكري ضد أوكرانيا.

اقتصاديًا، فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون وغيرهم سلسلة من العقوبات الدبلوماسية والاقتصادية والمصرفية والتكنولوجية والعسكرية والتقنية المتتالية، التي لحقت مؤسسات الدولة الروسية وبنوكها ومصارفها. ولم يسلم قطاع الطاقة الروسي الذي يمثل شريان اقتصاد الدولة، من تلك العقوبات؛ ما فاجأ الكرملين الذي راهن على إحجام الاتحاد الأوروبي عن فرضها جرّاء اعتماد كثير من دوله على وارادات النفط والغاز من روسيا، غير أن العقوبات الغربية ذهبت إلى أبعد من ذلك؛ إذ شملت، أيضًا، رموز الحكم في روسيا وطبقة الأوليغارشية المتحالفة معها في مسعىً إلى خلخلة بنية نظام الرئيس فلاديمير بوتين من داخله. وفعلًا، نجحت تلك العقوبات في عزل روسيا عالميًا إلى حد بعيد، وأنهكت اقتصادها إنهاكًا واضحًا.

عسكريًا، التزمت إدارة بايدن بوعدها بأن تجعل أي عمل عسكري روسي، إن حصل، في أوكرانيا باهظ التكلفة، وذلك عبر حزم من المساعدات العسكرية الفتاكة للأوكرانيين. ومع أنه كان هدّد بوتين في القمة الافتراضية التي جمعتهما، في كانون الأول/ ديسمبر 2021، بأن واشنطن وحلفاءها سيقدّمون دعمًا عسكريًا لأوكرانيا، بما في ذلك أسلحة هجومية متقدّمة، في حال أقدمت روسيا على غزوها، فإن الروس استخفوا على ما يبدو بكلام بايدن، ولم يقدّروا بدقة الدور الذي ستؤدّيه هذه الأسلحة في ساحة المعركة، فقد ساهم التسليح الأميركي والغربي الكبير للقوات الأوكرانية في تغيير موازين القوى على الأرض، وترافق ذلك مع سوء التخطيط العسكري الروسي، وضعف خطوط الإمدادات اللوجستية، وغياب التغطية الجوية للقوات البرّية الغازية، وعدم تأمين أنظمة اتصال متطوّرة لضمان عدم التجسّس عليها، فضلًا عن الاعتماد على قواتٍ من المجنّدين الإجباريين، وليس القوات المحترفة. وقد تسبب ذلك كله في إلحاق خسائر فادحة بالقوات الروسية؛ ما قاد، بحسب تقارير غربية، إلى انهيار معنويات الجنود الروس وتمرّد عدد منهم على الأوامر.

ومنذ بدء الغزو، قدّمت الولايات المتحدة وحلفاؤها من الأوروبيين وفي حلف شمال الأطلسي “الناتو”، ومن خارجهما، ككوريا الجنوبية واليابان، مساعدات عسكرية تقدر بمليارات الدولارات، شملت قاذفات صواريخ خفيفة، وطائرات هجومية من دون طيار، وصواريخ ستينغر وجافلين، وأنظمة رادار وتعطيل اتصالات وتجسّس. وفي الأسابيع الأخيرة، بدأ يتضح من تصريحات مسؤولين أميركيين أن هدف الولايات المتحدة في أوكرانيا لم يعد محصورًا في ضمان هزيمة روسيا، بل في إضعافها “إلى درجة لا تستطيع معها تكرار ما قامت به من غزو لأوكرانيا”.

علاوة على ذلك، جاءت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بنتائج عكسية سياسيًا وأمنيًا على مصالح روسيا، فقد كانت روسيا أعلنت أن أحد أسباب غزو أوكرانيا يتمثل في منع الأخيرة من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو ما ترى فيه موسكو تهديدًا لأمنها القومي على حدودها الجنوبية الغربية. بل ذهب بوتين إلى أبعد من ذلك، إلى حد اشتراط سحب “الناتو” قواته وأسلحته من عدد من دول أوروبا الشرقية، وجمهوريات البلطيق الثلاث، ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفياتي. الآن، أعلنت فنلندا، رسميًا، وبتشجيع أميركي، سعيها إلى الانضمام إلى “الناتو” في أقرب وقت ممكن. ومن شأن ذلك أن يوسّع حدود روسيا المشتركة مع الحلف من نحو 700 كيلومتر حاليًا إلى أكثر 1600 كيلومتر. وعلى الرغم من تحذير موسكو من “اتخاذ خطوات انتقامية، سواء ذات طبيعة عسكرية تقنية أم غيرها، لوقف التهديدات لأمنها القومي التي تنشأ في هذا الصدد”، فإن المرجّح أن فنلندا ستنضم بالنتيجة إلى الحلف، وقد تلحق بها السويد.

تطوّر الدعم الأميركي لأوكرانيا

لتحقيق أهداف الاستراتيجية الأميركية المتمثلة في هزيمة روسيا، وإضعافها، عملت إدارة بايدن على مضاعفة دعمها أوكرانيا في مسارين: عسكري واستخباراتي.

1. عسكريًا

منذ 18 نيسان/ أبريل 2022، ومع فشل روسيا في السيطرة على كييف أو إطاحة نظام زيلنسكي، تحول تركيزها إلى منطقة دونباس، ومحاولة الاستيلاء على ميناء ماريوبول الاستراتيجي لتأمين ممرّ ساحلي إلى شبه جزيرة القرم التي احتلتها في عام 2014. وقد تحرّكت واشنطن وحلفاؤها مباشرة لتزويد أوكرانيا بكل ما يساعد في إفشال الأهداف الروسية. وبحسب المعطيات المتوفرة، تلقت أوكرانيا مزيدا من صواريخ جافلين وستينغر، وأجهزة تشويش لإرباك الطائرات من دون طيار الروسية، فضلًا عن كمياتٍ كبيرةٍ من الذخائر والقذائف الصاروخية وطائرات من دون طيار. وبدأت واشنطن وحلفاء لها، في الآونة الأخيرة، بتزويد كييف بمدافع الهاوتزر “M777” التي تمتاز بدقتها وقوتها وفاعليتها ضد المدرعات والدبابات. وبحسب خبراء عسكريين أميركيين وأوكرانيين، ساهمت هذه المدافع في “تغيير قواعد اللعبة” في المعارك البرّية في شرق أوكرانيا. ويبلغ أقصى مدى لهذه المدافع 25 كيلومترًا تقريبًا، وتطلق قذائف دقيقة التوجيه، مستخدمةً نظام تحديد المواقع العالمي”GPS”. وقد تلقت أوكرانيا من الولايات المتحدة وحدها حتى الآن 85 مدفعًا من أصل 90 تعهدت بها، بينما ينتظر أن ترسل أستراليا ستة وكندا أربعة، كما جرى تدريب 310 جنود أوكرانيين على استخدامها. ولا تقف حدود الدعم الأميركي عند هذا الحد؛ إذ صوّت مجلس النواب الأميركي، في 10 أيار/ مايو 2022، بأغلبية كبيرة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، على مشروع لتقديم مساعدات ضخمة لأوكرانيا، عسكرية وإنسانية واقتصادية، بقيمة 40 مليار دولار. وينتظر أن يمرّر مجلس الشيوخ المشروع نفسه في الأيام المقبلة، وهو ما رحّبت به إدارة بايدن التي كانت طلبت من الكونغرس حزمة مساعداتٍ بقيمة 33 مليار دولار.

2. استخباراتيًا

لا تقف تحرّكات واشنطن لاحتواء روسيا وإضعافها عند حد تقديم السلاح، بل تقدّم، بحسب وسائل إعلام أميركية، معلومات استخباراتية تساعد أوكرانيا في تحديد أهداف عسكرية روسية ومهاجمتها. وتفيد المعلومات المتوافرة بأن القوات الأوكرانية تمكّنت، بفضل هذه المعلومات الاستخباراتية، حتى الآن، من قتل 12 جنرالًا روسيًا. وكان مصدر في إدارة بايدن كشف سابقًا أن واشنطن هي التي قدّمت المعلومات التي مكنت القوات الأوكرانية من قصف وإغراق أحد أهم قطع الأسطول الروسي في البحر الأسود، الطراد موسكفا، في نيسان/ أبريل 2022. ولا تكتفي واشنطن بتقديم المعلومات الاستخباراتية لاستهداف الجنرالات، والقوات الروسية عمومًا ومراكز تجمعها، بل تقدّم للقوات الأوكرانية أيضًا أسلحة خاصة تمكّنها من جمع مثل هذه المعلومات، مثل طائرات من دون طيار من طراز Switchblade، القادرة على القيام بمهماتٍ مثل استهداف الجنود والضباط الروس وتدمير المركبات العسكرية.

وقد أثار كشف وسائل إعلام أميركية هذه المعلومات استياء إدارة بايدن، خشية أن تؤكّد رواية الكرملين إن الولايات المتحدة هي التي تقود (وتوجّه) الحرب ضدّها في أوكرانيا. وتخشى إدارته أيضًا من أن تتّخذ موسكو هذه المعلومات ذريعة للقيام بردٍّ ما ضد مصالح واشنطن؛ ما قد يقود إلى تصعيدٍ بين الطرفين لا تريده إدارة بايدن. وقد اضطر الرئيس الأميركي إلى توبيخ كبار مسؤولي الأمن القومي في إدارته على هذه التسريبات وطالبهم بوقفها، ولم تنكر إدارته صحتها. ويقول المسؤولون الأميركيون إنهم لا يُنكرون تقديم معلوماتٍ استخباراتيةٍ للأوكرانيين لتطوير ردّهم العسكري على الغزو الروسي، إلا أنهم ليسوا المصدر الوحيد لها، كما أن كييف هي التي تقرّر كيف ستستفيد منها، وهي لا تستشير الولايات المتحدة عند اتخاذها قرارًا تراه في مصلحتها عسكريًا. لكن الوقائع تشير، بحسب بعض المراقبين، إلى أن “الولايات المتحدة متورّطة في هذه الحرب بكل الطرق تقريبًا، باستثناء القتال المباشر ضد الروس”.

خاتمة

مع أن إدارة بايدن تنكر تورّطها في هذه الحرب، فإن روسيا مقتنعة بأن الولايات المتحدة و”الناتو” يخوضان حربًا بالوكالة ضدها في أوكرانيا. ويتوجّس خبراء أميركيون من أن رفع واشنطن سقف أهدافها في أوكرانيا، والمتمثلة الآن في إذلال روسيا وهزيمتها، قد يدفع الرئيس بوتين اليائس إلى التصعيد، وخصوصًا إذا ما أحسّ أن نظام حكمه مهدّد. ورغم تقدير الاستخبارات الأميركية بأنه لن يلجأ إلى الحرب النووية، إلا إذا شعر بتهديد لأمن روسيا القومي، فإن سقف المسؤولين الروس يبدو أكثر انخفاضًا ويثير التكهنات، إذ يصعُب تحديدُه. وعلى هذا الأساس، تحاول إدارة بايدن، قدر الإمكان، الموازنة بين هدفها الاستراتيجي، استغلال هذه الحرب وعدم تفويت الفرصة لتلقين بوتين درسًا عبر منع روسيا من تحقيق أهدافها في أوكرانيا (وإضعافها إلى حد كبير)، وعدم استفزازها إلى حد تضطرّ فيه إلى الدخول في مواجهة عسكرية مع “الناتو”، ستكون بالضرورة نووية؛ ذلك أن روسيا غير قادرة على هزيمة قوات الحلف تقليديًا. وفي هذا السياق، وفي محاولة لضبط التصعيد، ترفض إدارة بايدن تزويد أوكرانيا بأي أسلحة هجومية قادرة على ضرب العمق الروسي.

——————————-

سولجنتسين: أنبياء اجتياح أوكرانيا/ صبحي حديدي

ثمة جانب مرتبط بالاجتياح الروسي العسكري في أوكرانيا لا يتكشف كما ينبغي له، أو على الأقلّ لا يتصدّر السجالات حول الأبعاد القوموية الكامنة عميقاً في قلب الاعتبارات التي دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى اتخاذ قرار الاجتياح. ذاك الجانب هو المناسبات العديدة التي شهدت توافق، وتطابق، عدد من كبار المحافظين وأهل اليمين والقومويين في روسيا والغرب، على نكران حقّ أوكرانيا في الاستقلال، أوّلاً؛ وحقّ حكوماتها المتعاقبة في الانضمام إلى الغرب عبر الاتحاد الأوروبي أو الحلف الأطلسي، ثانياً.

ولقد بلغ الأمر أحياناً شأو اعتماد مراجعات تاريخية أقرب إلى تحريفات نظيرة، على نحو أو آخر، لتلك التي يقوم الغرب ضدّها ولا يقعد إذا تجاسرت على تدقيق وقائع الهولوكوست بصفة خاصة ومحددة، أو حتى حصرية؛ على شاكلة التشكيك في المجاعة المعروفة باسم «هولودومور»، أو «مجاعة الإرهاب» أو «المجاعة الكبرى» في تسميات أخرى، التي ضربت الاتحاد السوفييتي عموماً وأوكرانيا خصوصاً خلال أشهر 1932-1933 وأسفرت عن وفاة الملايين جوعاً. وأن يأتي النكران من جهة ستالينية، جامدة في العقيدة كما في قراءة التاريخ، أمر يختلف جوهرياً عن مجيئها من رجل مثل ألكسندر إيساييفتش سولجنتسين؛ الروائي الروسي (السوفييتي، سابقاً)، الذي تربّع ذات يوم على عرش «الرمز الأعظم» للنضال من أجل حرية التعبير في الاتحاد السوفييتي وسائر بلدان المعسكر الاشتراكي؛ الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1970 بتأثير الترجمة الإنكليزية لروايته الأولى «يوم في حياة إيفان دنيسوفيتش»، التي كانت قد صدرت بالروسية أوّلاً، في موسكو، وبقرار شخصي من نيكيتا خروتشوف.

وصدقٌوا أنّ أوّل من استهدفهم سولجنتسين بالهجوم الشديد، من منطلق نكران الشطر الاوكراني من تلك المجاعة، لم يكن سوى الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن؛ الذي سافر إلى كييف، وشارك الرئيس الأوكراني يومذاك فكتور يوشنكو تدشين نصب تذكاري لتخليد ضحايا المجاعة. كانت الولايات المتحدة هي الموطن الثاني الذي اختاره سولجنتسين بعد مغادرة الاتحاد السوفييتي، لكنّ النزعة القوموية لم تتكفل بإعادته إلى موسكو، وإعلان تأييده للرئيس بوتين الذي ردّ التحية بتقليده أحد أرفع أوسمة روسيا، فحسب؛ بل صبّ جام غضبه على بوش، لأنّ الأخير صادق على «أكاذيب» الغرب حول المجاعة، وجاءت غضبة «الروائي الكبير المنشقّ» ضمن مقال اختار أن ينشره في صحيفة… «إزفستيا»!

وقارئ تصريحاته، بعد عودته المشهودة سنة 1994 إلى «روسيا الجديدة» كما سارت تسمية تلك الأيام، لا يُلام إذا خال أنّ سولجنتسين ما يزال على قيد الحياة، في قلب موسكو، خلف بوتين، مطلق الحماس لاجتياح أوكرانيا: الولايات المتحدة ودول الحلف الأطلسي تسعى، في يقينه، إلى تطويق روسيا وحرمانها من سيادتها، ليس عن طريق الحشد العسكري جنوب البلاد وشرق أوروبا فقط؛ بل كذلك بمساندة «الثورات الملوّنة»، في إشارة إلى أوكرانيا البرتقالية وجورجيا الوردية. وإذْ أغدق المديح على بوتين لأنه يجهد لإحياء «روح روسيا»، شنّ سولجنتسين هجوماً عنيفاً على الزعيم السوفييتي الإصلاحي ميخائيل غورباتشيف لأنه استسلم للغرب، ولم يوفّر الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين لأنه واصل الاستسلام ذاته.

ولا يُنسى أنّ تلك الحصيلة تنتسب إلى انتهازي سابق ومنافق لاحق وديماغوجي قوموي حتى ساعة رحيله سنة 2008، صعد ذات مرّة على يد الغرب ذاته الذي عاد إلى قدحه والتشنيع عليه؛ ولم يكن ذلك الصعود نابعاً من عبقرية أدبية أو سجلّ كفاحي متميّز من أجل الحرّية، بل لاعتبارات كانت تخصّ المعارك الصغيرة التي اكتنفت عقود الحرب الباردة. وحين صدرت الطبعة الروسية من روايته الشهيرة «أرخبيل الغولاغ»، كان أمراً طبيعياً أن تتخاطفها الأيدي وأن تبيع ملايين النسخ؛ وأمّا حين أصدر كتابه التالي «روسيا المنهارة»، فإنّ الأيدي ذاتها لم تتخاطف أكثر من ثلث الطبعة، التي كانت خمسة آلاف نسخة أصلاً، في بلد شاسع واسع اعتاد القرّاء فيه على استهلاك الكتب بالملايين وليس بالآلاف.

ثمّ صدّقوا، إلى هذا، أنّ نفراً من محافظي هذه الأيام في الغرب، والولايات المتحدة بخاصة، يواصلون الدفاع المحموم عن سولجنتسين حتى حين تُفتضح كلّ يوم أهوال الاجتياح العسكري الروسي في أوكرانيا؛ أو، في ترجيح آخر، وكأنّ الحرب الباردة لا تُستأنف اليوم بمواضعات القرن الحادي والعشرين، بل بأعراف أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن العشرين. ففي موقع «المحافظ الخلاّق» يكتب جوزيف بيرس عن سولجنتسين بوصفه «بطل الحرّية الجسور في عصر التوتاليتارية»، و»ناقد الشيوعية الذي لا يخاف»، و»الصوت النبيّ»؛ ولكن، أيضاً، «ناقد الغرب الحديث والمتحلل أخلاقياً»، والرؤيوي الذي «لم يؤخذ على محمل الجدّ، كما هو مصير الأنبياء»! وليس أقلّ مغزى أنّ صاحبنا يمتدح تشديد سولجنتسين على يقظة الفلسفات القوموية، وكأنه يبارك واحداً من أبرز حوافز بوتين في اجتياح أوكرانيا.

وإذا صحّ أنّ عدداً غير ضئيل من أنبياء اجتياح أوكرانيا لم يتخرجوا من الكرملين أو أكاديميات الجيش الروسي فحسب، بل أتوا أيضاً من صفوف الرواية والشعر والتشكيل والموسيقى والفلسفة؛ فإنّ سولجنتسين أحد كبار هذا الصنف الأخير، ليس لأنه أعلاهم كعباً في الرواية والسرد والقَصّ، بل لأنه أكثرهم تمتعاً برعاية الغرب ودلال أجهزة الاستخبارات، قبل أعمدة الصحف ومجالس الأدب والفنون والفكر.

القدس العربي

—————————–

أنباء عن نقل قوات روسية من سوريا إلى أوكرانيا

«الحرس الثوري» يعزز مواقعه… وإسرائيل «قلقة» وتستعد لمواجهة التطور

اتخذت أنباء تداولتها وسائل إعلام روسية وإسرائيلية بشأن شروع روسيا في نقل جزء من قواتها في سوريا إلى أوكرانيا، أبعاداً جديدة، بعد تسريب معطيات عن تركيز القوات في ثلاثة مطارات تمهيداً لنقلها. وأفادت مصادر بأن «الحرس الثوري الإيراني» وقوات تابعة لـ«حزب الله» اللبناني عززت حضورها في المناطق التي تم سحب القوات الروسية منها، ما أثار قلقاً لدى إسرائيل التي بدا أنها تستعد لمواجهة هذا التطور.

وبرزت المعطيات الأولى في هذا الشأن، في تقرير نشرته صحيفة «موسكو تايمز» الروسية التي تمارس نشاطها من هولندا حالياً، لتجنب القيود الروسية على نشر المعلومات. وكتبت الصحيفة في نسختها باللغتين الروسية والإنجليزية، تفاصيل عن سحب القوات الروسية من عدد من المواقع التي كانت تشغلها ونقلها إلى عدة مطارات تمهيداً لزجها في المعارك الدائرة بأوكرانيا.

وأكدت هذه المعطيات في وقت لاحق، معطيات سربتها وسائل إعلام في إسرائيل وأوكرانيا. ولفتت استناداً إلى مصادر محلية في البلدين، إلى أن القواعد الجوية العسكرية الروسية التي تم إخلاؤها أو تقليص الوجود الروسي فيها، تم تسليمها إلى التشكيل العسكري السياسي الإيراني «الحرس الثوري الإسلامي» ومنظمة «حزب الله». وزادت أن الحديث يدور عن تجميع القوات في قاعدة «حميميم» (غرب اللاذقية) وفي مطار القامشلي ومطار آخر في دير الزور، فضلاً عن تركيز بعض القوات التي سيتم نقلها في مطار تيفور قرب حمص.

ووفقاً للمعطيات، فقد تم توسيع حضور الحرس الثوري الإسلامي في بعض المطارات والقواعد بينها قاعدة «ماهين» شرق حمص. وتعد هذه القاعدة من كبرى القواعد في سوريا، حيث تحتوي على 25 منظومة أسلحة ومخزن ذخيرة. وإلى جانب مقاتلي الحرس الثوري الإيراني الذين شاركوا منذ فترة طويلة في معارك الجيش السوري مع تنظيم «داعش»، وصلت إلى القاعدة 40 شاحنة إضافية تابعة للحرس الثوري وحزب الله.

ولم يصدر عن الجانب الروسي ما ينفي أو يؤكد هذه المعطيات، لكن خبراء في موسكو، استبعدوا أن تكون موسكو مقبلة على تقليص جدي في حجم قواتها العاملة في سوريا، مع إشارة إلى أن القوات التي يتم نقلها «لا تمارس مهام قتالية أساسية في سوريا حالياً، وسحبها مؤقتاً لن يؤثر على الوجود الروسي الدائم في سوريا». في المقابل، أشارت أوساط إسرائيلية إلى أن الخطوة تثير قلقاً لدى تل أبيب التي ترصد تحركات الحرس الثوري وحزب الله واحتمالات تعزيز قدرات الطرفين في القواعد التي تخلت عنها موسكو.

ورأى مسؤولون أوكرانيون أن التحرك الروسي ستكون له تأثيرات بعيدة المدى على وضع القوات الروسية في سوريا. وقال مستشار الرئيس الأوكراني أليكسي أريستوفيتش، إن موسكو قررت نقل جزء من قوات الجيش الروسي من سوريا إلى أوكرانيا، من أجل تسريع وتيرة عملية السيطرة الكاملة على دونباس. وقلل أريستوفيتش من تقديرات أشارت إلى أن عديد القوات الروسية في سوريا حالياً قد يصل إلى 63 ألف عسكري، وقال إن العدد الحقيقي قد يصل إلى 11 ألفاً، يتم حالياً نقل جزء مهم منهم. ورأى المسؤول الأوكراني أن الخطوة الروسية سوف تترك تأثيرات مفيدة لدى الأطراف المنخرطة في الصراع بسوريا، خصوصاً الأتراك والإسرائيليين والإيرانيين.

وأضاف أنه مع تقليص قبضة موسكو وتوسيع حضور الإيرانيين، ستقف تركيا أمام واقع جديد، كما أنه يمكن للإسرائيليين ضرب القوات الإيرانية وقوات الرئيس السوري بشار الأسد «من دون عقاب»، ومن وجهة نظره، فإن «الأسد أيضاً سوف يشعر بهزة كبيرة للغاية». وتساءل: «من الذي سيعمل على استقرار نظامه… إيران؟».

وزاد أنه «من الواضح أن الطرفين التركي والإيراني سيحاولان توسيع نفوذهما على حساب جيش الأسد في غياب الطيران الروسي». في الوقت نفسه، أشار المستشار إلى أنه لا يرى أي احتمالات لعودة تلك القوات قريباً إلى سوريا، وأضاف: «الروس غارقون في مستنقع بأوكرانيا». ووفقاً له: «عندما يعودون، إذا عادوا، سيكون كل شيء هناك قد تغير، وسيكون هناك على الأقل نفوذ إيراني أقوى، وكحد أقصى، قد تقسم سوريا إلى ثلاث أو أربع دويلات، وسيغدو الأسد رئيساً لبلدية دمشق».

بدوره، أكد مستشار آخر للرئيس الأوكراني، هو ميخائيل بودلاك، تلك المعطيات، وقال إن روسيا «تسحب بشكل عاجل قواتها من سوريا، وتنقل القواعد العسكرية إلى الحرس الثوري الإيراني». وزاد: «موسكو تخسر جزءاً من نفوذها في المنطقة من أجل إلقاء بعض الحطب (الذي لن يحل أي شيء) في فوهة الحرب بأوكرانيا».

الشرق الأوسط

————————-

سقوط حلم القطبية الروسية العالمية سيبدأ من سورية/  د.باسل معراوي

سعت روسيا من خلال تدخلها الاخير في سورية لتحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية لأن سورية هي التدخل العسكري الأول للرئيس الروسي خارج المجال الجغرافي للاتحاد الروسي ولكونها لم تأت تحت دعاوى اعتاد الرئيس الروسي على تكرارها بتدخلاته السابقة وهي تدخلات دفاعية لإبعاد خطر الناتو عن أراضيه أو لدعاوى أمن قومي أخرى ..إن التدخل الروسي العسكري في سورية (والذي لم يتسنى لبوتين استثماره سياسياً) هو تحويل فائض القوة الذي تخنزنه روسيا واستثمار غياب الرؤية الواضحة أو تخبط الاستراتيجية الامريكية في العالم والشرق الأوسط بشكل خاص..وانكفاء الاتحاد الاوربي عن لعب أي دور جيوسياسي عالمي واكتفائه بالرهان على القوة الاقتصادية المجردة من اي ادوات سياسية او عسكرية…وتوتر العلاقة بين جناحي الأطلسي خاصة بعهد الرئيس ترامب…إضافة الى رد الفعل الغربي الباهت على اجتياح روسيا واقتطاعها ماتريد من اراض دولة مجاورة باشراف كامل على البحر الاسود وبالتالي التمدد للبحر المتوسط والعالم.

كان الروس ينوون أن يكونوا محور لتجمع او منظومة اقليمية بين دول متناقضة بل متصارعة احيانا…على غرار منظومة شنغهاي التي تضم في عضويتها مثلا الهند إلى جانب غريميها اللدودان الصين وباكستان..ويكون الدور الروسي هو الضابط والمتحكم بتلك التوازنات داخلها…

حيث لم يأل الجهد الروسي في سورية عن بناء علاقات متينة وقوية مع كل الاطراف الاقليمية الفاعلة والمتدخلة بشكل مباشر او غير مباشر بالملف السوري.

أساس تلك الاستراتيجية الروسية هو تحالف صلب وحقيقي بين الثلاثي (روسيا وايران والنظام السوري)..له اهدافه والتي لم يحيد عنها وعلائم نجاحه هو استمرار رئيس النظام السوري بالوجود بالسلطة.

وقد تمكنت السياسة الروسية في سورية من بناء تفاهمات عميقة مع دولة الاحتلال الاسرائيلي تم فيها استثمار العلاقة الشخصية لرئيس الوزراء الاسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو مع الرئيس الروسي واستثمار وجود اكثر من مليون روسي اسرائيلي لهم ثقلهم الانتخابي ايضا بالمقابل وجود مليون روسي يهودي في روسيا منهم الكثير من النافذين والمؤثرين بقرارات الكرملين.

بحيث تمكنت روسيا من الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع طرفين متحاربين فوق الاراضي السورية وادارت تنسيقا للهجمات الاسرائيلية على المواقع والاهداف الايرانية واستثناء (على الاغلب) المواقع التابعة لميليشيا النظام السوري من الاستهداف بتلك العمليات.

لاشك ان الاحتفاظ بتلك العلاقة امر صعب بما يشبه تحديد قواعد الاشتباك للطرفين..واستمرت تلك القواعد راسخة وثابتة الى مابعد الغزو الروسي لاوكرانيا حيث بدات عوامل الضعف تعتريها.

تمكنت روسيا أيضاً من بناء علاقة جيدة (ان لم نقل متينة) مع عدو لدود وخصم تاريخي وعضو حالي بحلف الناتو..حيث تمكنت من ادارة الاختلاف معها بملفات عديدة كسورية وليبيا واذربيجان مع بيعها صفقة أسلحة هي درة انتاج الصناعات الحربية الروسية والتي اعتبر الاتفاق بشانها (بل وصولها لتركيا بالفعل) هي لمثابة قبر للعداوة التقليدية والتاريخية بين البلدين ..وخرق استراتيجي كبير على الحدود الشرقية لحلف الناتو باستمالة احد اهم اعضائه والقوة البرية الثانية بالحلف الى جانبه وأنشا محورا في سورية جمع ايضا بين متنافسين تاريخيبن هو محور أستانة الذي ضم تركيا وروسيا وإيران.

أما التحالف الروسي الايراني العميق والذي بدا ينمو ويزداد قوة بوصول الرئيس بوتين الى الكرملين حيث وجد نظام الملالي الايراني خير سند له دوليا واقليميا النظام البوتيني…بغض النظر عن ان كل التقنيات النووية الايرانية مصدرها الاساس روسي ايضا كان الدور الروسي بالمفاوضات التي أفضت الى اتفاق 2015 النووي 5+1 مع ايران ..كانت تحسب روسيا والى حد اقل الصين كاحد الداعمين للموقف الايراني بوجه المطالب الغربية.

وقد تجسد التحالف على الأرض عمليا بالحرب في سورية حيث كان التناغم والتنسيق بين البلدين قويا وكل ما تم إحرازه من تقدم عسكري على الارض لصالح النظام السوري هو بغرفة عمليات واحدة..جيشها البري الميليشيا الاسدية والايرانية وذراعها الجوي الطيران الروسي.

لقد رأت بعض دول الخليج (وأهمها المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة) إن الدور الروسي العسكري بسورية سيخدمها بالضرورة حيث راهنت على قدرة الوجود المباشر العسكري الروسي على الحد من النفوذ الايراني واستئثاره منفردا بالنفوذ.

فقد أعربت عن رضاها عن ذلك التدخل ولم يفوت الروس الفرصة لبناء علاقات قوية مع السعودية والامارات وعمل رافعة خليجية روسية لسياساتهم بالمنطقة تجلت بضم روسيا الى منظمة أوبك بلس.

لقد ظهر عمق العلاقة بين موسكو وكلا من الرياض وأبو ظبي بالمواقف الخليجية من الغزو الروسي لاوكرانيا والامتناع عن ادانته واخذ موقف الحياد من الصراع وعدم الاستجابة للطلب الامريكي بزيادة كمية الضخ اليومي للبترول بغرض كبح أسعاره.

وكانت السياسة الروسية تعمل بقوة بأفريقية لخلق حامل أفريقي للدور الروسي الاستراتيجي بالعالم، من خلال تحسين العلاقة مع مصر والاتفاق على صفقات عسكرية ومؤازرة اللواء المتقاعد حفتر (رجل مصر والخليج بليبيا)..والاتفاق مع الحكومة السودانية لانشاء قاعدة عسكرية في بور سودان على البحر الاحمر..إلى جانب التغلغل بوسط افريقيا باستخدام ميليشيا فاغنر كراس حربة ودخول رجال الاعمال الروس باستثمارات بدول متعددة من القارة.

وقد تمكن الروس من طرد الفرنسيبن من دولتين مهمتين لها هما مالي وافريقيا الوسطى..ودخول روسيا كلاعب منافس للعدوين التقليديبن المتنافسين بالقارة وهما الصين والولايات المتحدة الامريكية.

كان الهدف الروسي كسر القطبية الأمريكية الأحادية بالعالم، وعدم الانضمام كذراع عسكري للتنين الصيني الاقتصادي بسعيه لمنافسة القطبية الاحادية الامريكية عبر مبادرة الحزام والطريق.

وبتنا نعلم الآن أن الاهداف الروسية في الشرق الأوسط وأفريقيا يتم التحضير لها بالتوازي مع الاهداف الروسية بأوربا والتي كان من اهداف الغزو الروسي لاوكرانيا خلخلة العلاقات الاوربية بين الدول الاعضاء اضافة لزرع الشقاق بين الولايات المتحدة وأوروبا، وشق أوروبا إلى ثلاثة أقسام قسم مهادن للروس وأهمهم المانيا عبر انبوب نورد ستريم 2..واعتماد كل اقتصادها على الطاقة الروسية…وقسم محايد يناى بنفسه عن اتون الصراع وقسم معادي للمخطط الروسي يتجسد ببريطانية وفرنسا ومن خلفهم الولايات المتحدة الامريكية.

كل الاستراتيجية الروسية العالمية كانت مبنية على دعامتين رئيسييتين، سورية كقلب للعالم واشرفها على البحار الثلاثة البحر الاحمر والبحر المتوسط .

والخليج العربي(جيوسياسياً نقصد بسورية ليست سورية سايكس بيكو وإنما سورية الطبيعية من قبرص لغزة لعمان للبصرة)..كتموضع استراتيجي بين القارات الثلاثة ومركز عبور خطوط الطاقة الى أوروبا.

وأوكرانيا التي بدونها لاتغدو روسيا امبراطورية بل دولة اقليمية كبرى، وكان واضحاً الترابط الوثيق بين سورية وأكرانيا بالاستراتيجية الروسية وسقوط أحد الموقعين سيؤدي بالضرورة الى سقوط الاخر وبالتالي كسر ساقي القطبية الروسية التي ارادها بوتين.. وهذا ما يحصل الآن.

——————————-

باقية في “حميميم” و”طرطوس”: خسائر الضباط الهائلة فرضت سحب قوات روسية من سوريا/ بيار عقل

في مقال بعنوان « إعادة انتشار » (قام بترجمته موقع “ميمري”)،كشف المغرد الرويس « أناتولي نيسميان »، الذي يستخدم إسماً مستعاراً هو « المُريد »، عن مغزى سحب قسم من القوات الروسية المتوجدة في سوريا، وزجّها في حرب أوكرانيا. وجاء في تعليقه أنه، إذا صحّت المعلومات، فذلك يعني أن روسيا فقدت عدداً كبيراً من الضباط في « اللاحرب » التي تخوضها في أوكرانيا.

وأضاف أن الخسائر بين الضباط قد ضاعَفَت من تأثير « الإصلاحات » التي طبّقها وزير الدفاع الروسي السابق، « أناتولي سيرديوكوف »، الذي سعى لإصلاح الجيش بعد الإداء غير المشرّف للقوات الروسية في حرب جيورجيا في سنة ٢٠٠٨.

روسيا اعتمدت نموذج “الجيش المحترف” الأوروبي

وكان « سيردياكوف » قد توصّل إلى أن المطلوب هو خفض أعداد الجيش وتحسين نوعية العسكر المتبقّي. وحيث أنه كان هنالك وجهة نظر سائدة بأن الجيش السوفياتي، ثم الجيش الروسي، يعاني من « كثرة » عدد الضباط، فقد أحدثَ خفضاً حاداً في أعداد الضباط، كما أقفل عدداً من كليات تدريب الضباط.

بكلام  آخر، فإن الجيش الروسي اتّبع النموذج الأوروبي الذي ألغى « الخدمة العسكرية الإلزامية » وتحوّل إلى نموذد « الجيش المُحترف »، كما فعلت إنكلترا، وفرنسا وألمانيا، وغيرها. وفي غياب جيش كبير، يشتمل على أعداد كبيرة من « المجنّدين »، فقد استنتج وزير الدفاع الروسي السابق أن وجود اعداد كبيرة جداً من « الضباط » بات أمراً لا لزوم له، وباهظ الكلفة على الخزينة.

لم تتوقع روسيا أن تخوض حرباً برّية تقليدية، بل بنت إستراتيجيتها على أساس أنها لن تخوض سوى « نزاعات محلية قصيرة الأجل » أو « حملات تأديبية » مثلما تفعل في سوريا.

لا إنسحاب من “حميميم” و”طرطوس”

ولكنها الآن باتت مضطرة لاستعارة ضباط من وحدات أخرى، وسوريا هي أحد أبرز « الخزّانات » لهذا الغرض.

يلاحظ المحلّل الروسي أيضاً أنه أساس ظاهرة “المرتزقة الروس” (جماعة “فاغنر”):

المفهوم الجديد للجيش الروسي الذي وضعه وزيرالدفاع السابق يتقف مع تكتيك « لا توجد قوات روسية » هناك، كما تقول روسيا عن وجودها العسكري في أوكرانيا (سابقاً)، وليبيا، وسوريا، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وموزامبيق. ويقوم ذلك التكتيك على استخدام قوات من « المرتزقة » بقيادة ضباط « مُعارين » من الجيش الروسي ويمكن “التضحية بهم”.

ولهذا السبب نفسه، لن تتخلى روسيا عن قاعدتي « حميميم » و « طرطوس » في سوريا. فهاتان القاعدتان تؤمّنان لوجستيات الجماعات المسلّحة (المرتزقة) التي تنشرها روسيا في حوالي ١٢ بلدا.

ويضيف أن هذا المفهوم العسكري الروسي لا يصلح لحرب واسعة النظاق ضد عدو تقليدي، كما هو الحال في أوكرانيا حالياً. أولاً، لأن أحداً لا يستطيع أن يسدّ نقص الضباط القياديين. وهذا، بالمناسبة، ما يجعل مستحيلاً اليوم أن تعمد روسيا إلى عملية « تعبئة شاملة »! فلا يوجد « قادة عسكريون » لعملية التعبئة الشاملة. ولا يتبقى سوىلا خيار « تعزيز الوحدات العسكرية » الموجودة. ولكن ذلك لن يحلّ مشكلة نقص الضباط القياديين.

ويخلص المحلل الروسي إلى أن خبر سحب قوات روسية من سوريا يعني أن القوات الروسية تعرّضت لخسائر كبيرة في صفوف الضباط في « اللاحرب » التي تخوضها في أوكرانيا، ما يجبرها على سحب ضباط قياديين من وحدات خارج أوكرانيا لـ « تطعيم » الوحدات التي تقاتل في أوكرانيا حالياً. وهذا الوضع يمكن أن يتكرّر خلال شهرين من القتال.

———————————

تقرير سي آي اي: الخطر من سورية وايران وروسيا

—————————

هل يُطيح الغاز الروسي بالتضامن الأوروبي؟/ مثنى عبد الله

منذ اليوم الأول للأزمة الأوكرانية سارعت أوروبا إلى اتخاذ العديد من العقوبات بحق روسيا، ويبدو أن لا أحد كان يتوقع أن تدفع موسكو بملف الغاز ليدخل على خط الصراع وبقوة. فكان ردها أن على أوروبا أن تدفع قيمة الغاز المُصدّر إليها بعملتها الوطنية الروبل، وقد برروا هذا القرار بأنه جاء نتيجة لخطوات غير ودية من أوروبا وبشكل غير مسبوق في المجالين الاقتصادي والمالي، ليتبعه بعد فترة قرار بقطع الإمدادات عن بولندا وبلغاريا لرفضهما الدفع بالروبل.

وإذا ما علمنا أن 90% من احتياجات بلغاريا يعتمد على الغاز الروسي و55% من احتياجات بولندا من هذه المادة هي من المصدر نفسه، يتبين وبوضوح حجم الاضطراب الذي يمكن أن يحققه قطع الغاز عن هذه البلدان، فهل موسكو جادة في تنفيذ قرارها على الجميع؟

يبدو أن روسيا تستعرض عضلاتها في هذا الملف، وهي تعتمد في هذا الاستعراض على أنه لا يمكن إحلال أي غاز آخر محل الغاز الذي تُصدّره إلى أوروبا، لا اليوم ولا بعد سنوات، وفقا لتقديرات خبراء الطاقة، فجميع صادرات أمريكا وأستراليا وقطر لا يمكنها أن تحل محل الغاز الروسي، لأن معظم صادرات هذه الدول مرتبطة بعقود لزبائن في منطقة حوض المحيط الباسفيكي مُقدّما ولسنوات طويلة، فعلى سبيل المثال أبلغت قطر الاتحاد الأوروبي، أنها تستطيع تصدير فقط 10% من صادراتها البالغة 55 مليون طن في العام إلى الاتحاد، هذا يدل دلالة واضحة على أنه ليست هنالك أية مصادر طاقة أخرى بديلة. أيضا هنالك ورقة رابحة أخرى بيد موسكو، وهي أنها قادرة على بيع كل صادراتها من الغاز إلى منطقة حوض المحيط الباسفيكي، كالهند والصين اللتين هما بحاجة إلى الغاز السائل والغاز العادي والطاقة بوجه عام. وهناك تجار نفط غربيون سيشترون الغاز والنفط الروسي بصورة سرية، كما أن ارتفاع الأسعار ستكون موسكو فيه هي الرابح الأكبر، لأنه حتى لو صدّرت كميات أقل من النفط والغاز هي تقبض ضعف السعر أو أكثر، كل هذا يعطي انطباعاً بأن موسكو قد تكون جادة في قطع الغاز عن أوروبا في حالة عدم الدفع بالروبل، لكن عند النظر إلى ما يدخل الخزينة الروسية من بيع الغاز، ربما يكبح القرار الروسي بقطع الإمدادات، فهناك منظمة أوروبية غير حكومية قالت، إن الاتحاد الأوروبي دفع إلى روسيا 41 مليار يورو، مقابل الوقود الأحفوري المصدّر إليها منذ غزو أوكرانيا قبل شهرين. السؤال الآن ما هي خيارات دول الاتحاد الأوروبي في التعامل مم التهديدات الروسية في قطع إمدادات الطاقة؟ من الواضح أن أوروبا في حيرة تامة من أمرها، وهي حتى اليوم غير قادرة على تحقيق إجماع في التعامل مع هذا الملف، ويبدو الحذر واضحا في الخطاب الألماني حول هذه المسألة بالقول يجب أن تكون خطواتنا ذكية، حتى لا نتسبب في كوارث اقتصادية. أيضا فرنسا حذرة وتقول سنواصل الدفع باليورو، من دون أن تشير إلى فرض حظر شامل على إمدادات الطاقة من روسيا. صحيح أن المانيا خفّضت اعتمادها على الطاقة من روسيا بنسبة 10%، لكنها تجد صعوبة في تعويض الغاز الروسي على المدى القريب، وتجد نفسها اليوم في أزمة عميقة، وهناك انقسام داخلي بسبب هذا الملف.. وهناك مطالبات داخلية بتسوية الأمر مع الروس. وهي تحاول البحث عن بدائل، لكن الغاز الروسي الذي يشكل نسبة 35% من استهلاكها، يجعل من الصعب العثور على بديل. كل هذا يحصل وسط ارتفاع متواصل في مستويات التضخم في الدول الأوروبية، بسبب ارتفاع أسعار الغاز والنفط، واختلال ميزان العرض والطلب، إلى الحد أن رئيسة الخزانة الأمريكية حذّرت من مغبة فرض عقوبات شاملة على روسيا، لأنه ستكون هناك انعكاسات كارثية على الاقتصاد العالمي، حسب تعبيرها.

لقد سمعنا على مدى أكثر من شهرين من أوروبا تصريحات عالية النبرة، لكن الحقيقة أن سقف المواقف الأوروبية لا يتماشى مع واقع أزمة الطاقة في أوروبا. فقد رفضت الدفع بالروبل في بداية الأمر، واليوم ذهبت بعض الدول الأوروبية للدفع بالعملة الروسية، فالنمسا والمجر وسلوفاكيا قالت أنها ستدفع بالروبل، وحسب بلومبيرغ، هناك عشر دول أوروبية فتحت حسابات في موسكو بالروبل، وأربع منها دفعت بهذه العملة، حتى ألمانيا قالت إنها ترفض الدفع بالعملة الروسية، لكنها الآن ستفتح حساب لها في غاز بروم، ومن ثم يتم تحويله من اليورو إلى الروبل. إن عدم وجود بديل جاهز يعوّض أوروبا عن الغاز الروسي، يعطي موسكو القدرة على تمرير قرارها بالدفع بعملتها الوطنية، مقابل الطاقة التي تُصدّرها إلى دول أوروبا، كما أن الموضوع مرتبط أيضا بالوقت والجهوزية. وهناك عامل مهم يلعب دورا كبيرا في الضد من الأوروبيين وهو، عدم وجود بُنى تحتية، وهذه لا يمكن أن تكون جاهزة على أحسن تقدير قبل عامين، هنا ليس من خيار أمام الاوروبيين سوى التقشف في الطاقة، لكن هذا الخيار أثمانه باهظة أيضا. سيكون هنالك تأثير كبير على العجلة الاقتصادية والنمو الاقتصادي. فالطاقة التي تستوردها أوروبا من روسيا تذهب الى قطاعات مهمة مثل المواصلات والصناعة، ما يعني أن هذه القطاعات ستتأثر وسيحصل تراجع في النمو الاقتصادي، وعادة الحدث الاقتصادي دائما ما تتكون منه عدة أحداث أما تُضخّمه أو تُقلّصه. يبدو أن موسكو سوف تستمر في مطالبتها المستوردين الأوروبيين بالدفع بالروبل، وهذا الموقف يعود إلى سببين، أن قرار دفع الصادرات الروسية بالروبل هو قرار رئاسي جاء شخصيا من بوتين، وليس من الحكومة، لذلك لن يتراجع بوتين عن قرار اتخذه بنفسه، كي يؤكد للغرب جديته في كل القرارات التي يُصدرها. أما السبب الثاني فإن سلاح الطاقة بعد الحرب الاقتصادية التي شنها الغرب ضد روسيا، كما العقوبات التي تم فرضها على موسكو، خلال الفترة القصيرة الماضية منذ الغزو وحتى اليوم، هي أكثر عشرات المرات من تلك التي فُرضت على دول أخرى في عقد من الزمن. لذلك لا يمكن للجانب الروسي التراجع، وهذا هو السلاح الأقوى بيد روسيا الآن، وإذا لم تستخدمه الان فمتى ستستخدمه إذن؟ لذلك بوتين يفهم جيدا الموقف الأوروبي، الذي يعتمد بشكل كبير على مصادر الطاقة الروسية، وفي المقام الأول على الغاز الروسي. لقد اختلفت أوروبا في ما بينها مؤخرا عند طرح مقترح فرض حظر شامل على واردات النفط الروسية بحلول نهاية العام الحالي. واعتبر رئيس الوزراء المجري هذه الخطوة خطا أحمر لا يمكن الموافقة عليها، فاضطر الاتحاد الأوروبي إلى تمديد واردات النفط إلى المجر ودول أوروبية أخرى إلى نهاية عام 2024. فإذا كانت دول الاتحاد الاوروبي لا تستطيع الاتفاق على وقف واردات النفط الروسي، فكيف سيكون الأمر لو تم وضع قطاع الغاز الروسي في الحظر، وهو الاكثر إيلاما، وليس هنالك من بديل له؟

كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية

القدس العربي

———————————-

إدخال المساعدات إلى الشمال السوري: الغرب يتحسب لعرقلة روسية/ أمين العاصي

يقترب موعد تصويت مجلس الأمن الدولي على تجديد آليات إدخال المساعدات الإنسانية الدولية إلى شمال غربي سورية عبر معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، وهو ما استدعى تحركاً غربياً مبكراً للبحث عن بدائل في حال عرقلة روسيا لهذه الآلية التي تنتهي في يوليو/تموز المقبل.

وزار وفد من الاتحاد الأوروبي أمس الإثنين معبر باب الهوى الحدودي بين سورية وتركيا، وذلك بعد لقائه عدداً من الشخصيات التركية في جنوب تركيا.

وجاءت زيارة الوفد الأوروبي بعد أيام من زيارة مماثلة قامت بها السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، والتي قالت قبيل الزيارة إن “الوضع الإنساني الخطير الذي يواجهه ملايين السوريين يظل أولوية كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة”. وأكدت أنه “يتعيّن على مجلس الأمن إعادة التصريح وتمديد التفويض الذي يسمح بدخول المواد الغذائية المهمة والمياه النظيفة والتطعيمات والأدوية والاستمرار بالتدفق إلى سورية”.

مخاوف من ابتزاز روسي في سورية

وينتهي في 10 يوليو/تموز المقبل تفويض مجلس الأمن رقم 2585، الذي يقضي بتمديد المساعدات الإنسانية إلى سورية عبر الحدود من معبر باب الهوى شمال غربي سورية لمدة 12 شهراً.

ويتعيّن على مجلس الأمن التصويت مجدداً على تجديد هذه الآلية والمعمول بها منذ عام 2014، وهو ما يشكل فرصة للطرفين الروسي والصيني لاستخدام حق النقض لتعطيل هذه الآلية. وتريد موسكو أن يكون دخول المساعدات تحت إشراف حكومة النظام السوري، وتطالب بأن تنظم الأخيرة عملية عبور الدعم والإغاثة من أراض يسيطر عليها النظام.

ومن المتوقع أن تعاود موسكو البحث عن مكاسب سياسية واقتصادية للنظام السوري مقابل التصويت مع تجديد آلية ادخال المساعدات. ولطالما طالبت موسكو بفتح كل المعابر بين مناطق النظام ومناطق المعارضة في شمال سورية في محاولة لإنعاش اقتصاد النظام الذي يعاني من أزمات خانقة.

وكانت المساعدات تدخل إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام من أربعة منافذ حدودية، قبل أن يتم تقليص هذه المعابر إلى واحد فقط عبر تركيا (باب الهوى) العام قبل الماضي، وذلك بسبب معارضة روسيا والصين تجديد التفويض عبر المنافذ الأربعة.

وتخدم هذه الآلية أكثر من 4 ملايين مدني في الشمال الغربي من سورية يعيشون في ظروف تكاد تصل إلى حدود الكارثة. وينص تفويض مجلس الأمن الدولي على دخول قوافل المساعدات أيضاً عبر خطوط التماس من مناطق سيطرة النظام، إلا أن الأخير لم يلتزم بتعهداته بشكل كامل.

وذكر فريق “منسقو الاستجابة” في شمال غربي سورية أمس الاثنين، أن برنامج الأغذية العالمي (WFP) التابع للأمم المتحدة “سيُدخل الإثنين مساعدات إنسانية إلى شمال غربي سورية عبر خطوط التماس مع النظام”، مشيراً إلى أن “الشحنة تضم مواد غذائية فقط”.

وأوضح أنها الرابعة منذ بدء تطبيق القرار الأممي 2585، مضيفاً: “لا يمكن مقارنتها بالمساعدات القادمة عبر الحدود والتي تجاوزت حتى 16 مايو/أيار أكثر من 12000 شاحنة”.

وأبدى الفريق استغرابه من “إصرار الوكالات الدولية الإنسانية على دخول المساعدات الإنسانية عبر خطوط التماس”، مشدداً على أن هذه الآلية “لا يمكنها أن تكون بديلاً عن المساعدات عبر الحدود”.

وطالب الفريق بمنع هذه الآلية وعدم التساهل في هذا الصدد “لمنع روسيا من احتكار القرار الإنساني في سورية”. وحذر من “خطورة إغلاق المعابر الحدودية مع تركيا وذلك بسبب الأوضاع الإنسانية في المنطقة وما يترتب عليها من ارتفاع كبير في أسعار المواد والسلع الغذائية وعجز السكان المدنيين على تأمين احتياجاتهم بشكل كامل”، وفق بيان.

وتعهدت عدة دول بتقديم 6.4 مليارات يورو (نحو 6.7 مليارات دولار) لسورية وجيرانها، خلال مؤتمر للمانحين عُقد أخيراً في العاصمة البلجيكية بروكسل، وضم ممثلين عن 55 دولة و22 منظمة دولية، لكنه استبعد روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا. هذا الأمر يثير مخاوف من انتقام روسي في مجلس الأمن الدولي بتعطيل آليات إدخال المساعدات الدولية عبر معبر باب الهوى الخارج عن سيطرة النظام.

وكان فريق “منسقو الاستجابة” قد ذكر أثناء انعقاد المؤتمر أن المبالغ التي أعلن عنها المانحون “صادمة ومخيبة للآمال”، مشيراً إلى أن أكثر من 650 مخيماً للنازحين غير مخدم بالمياه الصالحة للشرب، وأن أكثر من 800 مخيم لا تحصل على مساعدات غذائية منتظمة.

كما أوضح أن عدد المحتاجين للمساعدات الإنسانية زاد بأكثر من 1.2 مليون سوري مقارنة بالعام الماضي، وأنه يوجد أكثر من 400 مدرسة تعمل بشكل تطوعي، وتضم أكثر من 6500 معلم يعملون بشكل تطوعي من دون أجور.

حلول أمام المجتمع الدولي لإدخال المساعدات لسورية

وفي السياق، أكد محمد نجار، وهو مدير منظمة “سداد” التي تنشط في المجال الإنساني شمال سورية، أنه “ستكون هناك آثار سلبية على نحو 5 ملايين مدني في حال تم استخدام حق الفيتو من قبل روسيا ضد تمديد إيصال المساعدات الإنسانية للشمال السوري”.

ولكنه بيّن في حديث مع “العربي الجديد” أن هناك العديد من الحلول أمام المجتمع الدولي لإيصال المساعدات للمستحقين، منها “إنشاء صندوق للتمويل الإنساني خاص بسورية نيابة عن صندوق التمويل الحالي”.

وتابع: “يمكن البدء بإنشاء منصات أو كتل تنسيق فرعية في تركيا والشمال السوري تكون بإدارة سورية، وتحويل التمويلات من المساعدات الغذائية إلى الدعم النقدي أو القسائم أو العمل مقابل النقد أو عن طريق المشاريع المولدة للدخل بإشراف قطاع التعافي المبكر”. ومن الحلول الأخرى، أوضح نجار، “تفعيل دور منظمات المجتمع المدني المحلية وزيادة التنسيق مع المنظمات الدولية لتفعيل وزيادة المساهمات النقدية”.

إلى ذلك، أشار الباحث الاقتصادي خالد تركاوي، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أن الدول الغربية “حريصة على دخول المساعدات إلى الشمال الغربي من سورية”، موضحاً أنه في حالة استخدام الروس حق النقض في مجلس الأمن الدولي لإيقاف تدفق المساعدات عبر باب الهوى فأمام المجتمع الدولي خيارات أخرى.

وأضاف: “إما الاعتماد على المنافذ الحدودية التي فتحتها تركيا مع الشمال السوري لإدخال المساعدات عبر منظمات دولية غير تابعة للأمم المتحدة، أو الاعتماد على المعابر مع الجانب العراقي والتي تسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية (قسد)”.

ورجح تركاوي أن “تطرأ تغيّرات في حال عدم تجديد آلية إدخال المساعدات عبر الأمم المتحدة، منها المنظمات التي توصل هذه المساعدات وأنواعها”، مضيفاً: “ربما تصبح هذه المساعدات عينية وتتوجه نحو قطاعات مثل الصحة والتعليم والبنى التحتية، وربما يتم التعامل مع المجالس المحلية في الشمال السوري بشكل مباشر”.

——————————-

الحياد السويدي في خبر كان/ عبد الباسط سيدا

تتحكّم الجغرافيا والتوجهات السياسية المستلهمة من التاريخ في العلاقة بين السويد وروسيا، كما تحدّدها الآفاق المستقبلية للمعادلات الدولية الجديدة التي أفرزتها الحرب الروسية على أوكرانيا، وانعكاساتها الإقليمية. وهي معادلات ستتأثر بالتحولات المناخية والأولويات الاقتصادية، ولا سيما في مجال الطاقة والتنمية، فالسويد مجاورة لروسيا، ولها علاقات وثيقة مع دول البلطيق وفنلندا، وهي الدول التي تتشارك في حدود برّية مع روسيا وتعتبر السويد بمثابة الشقيقة الكبرى.

كان التنافس على المنطقة على أشدّه بين روسيا والسويد في المرحلة التي كانت تعتبر الأخيرة قوة عظمى في المنطقة، حتى أنها دخلت تحت قيادة ملكها كارل الثاني عشر في حربٍ طاحنة مع الروس في أثناء عهد القيصر بطرس الأكبر في بدايات القرن السابع عشر، وتعرّضت لخسارة كبرى أمام الجيش الروسي في معركة بولتافا بأوكرانيا عام 1709، الأمر الذي أجبر الملك السويدي، في ذلك الوقت، على التوجه نحو الأراضي التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية في مولدافيا، واستقر في منطقة بندر بين 1709 و1714، وكان ذلك في عهد السلطان العثماني أحمد الثالث الذي كان هو الآخر على علاقة عدائية مع الإمبراطورية الروسية.

واستمرّت العلاقة العدائية بين السويد وروسيا في القرن التالي، إذ رفض ملك السويد غوستاف أدولف الرابع طلب نابليون بونابرت القاضي بمقاطعة بريطانيا تجارياً، فهاجمت روسيا التي كانت متحالفة مع نابليون، في ذلك الحين، فنلندا التي كانت جزءاً من السويد في عهد ألكسندر الأول، وكان ذلك في عام 1808. ووصل الجيش الروسي إلى مدينة أوميو في الشمال السويدي راهناً، وكان الهدف هو السيطرة على استوكهولم نفسها، الأمر الذي أدّى إلى استسلام الجيش السويدي في سبتمبر/ أيلول 1808، كما حصل انقلاب دموي على الملك السويدي. وفي سبتمبر 1809 جرى التوقيع على معاهدة سلام بين روسيا والسويد، فقدت بموجبها الأخيرة سيادتها على فنلندا التي أصبحت جزءا من الإمبراطورية الروسية، وظلّت خاضعة لها إلى بدايات الثورة الاشتراكية في أكتوبر/ تشرين الأول 1917، إذ حصلت على استقلالها في 6 ديسمبر/ كانون الأول 1917.

ويبدو أن تلك التجربة القاسية دفعت السويد إلى التزام نهج الحياد في التعامل مع الصراعات التي كانت تنشب بين القوى الدولية العظمى التي كانت تتطلّع نحو توسيع دائرة نفوذها، ومراكمة أسباب قوتها، فالتزمت السويد الحياد في الحرب العالمية الأولى، وكذلك فعلت في الثانية؛ مع الإشارة إلى أن حيادها لم يكن خاصاً تماماً، وإنما كان التزاماً رسمياً لتجنب المخاطر؛ الأمر الذي لم يمنع، في بعض الأحيان، من الوصول إلى تفاهمات غير معلنة مع هذه الجهة أو تلك من الجهات المتصارعة لإقناعها بأهمية الابتعاد عن السويد، مقابل الحصول على بعض الامتيازات، كما كان الأمر مع هتلر في أثناء الحرب العالمية الثانية.

وخلال الحرب الباردة، احتفظت السويد بحيادها، ولكنها كانت حريصةً على هويتها الغربية، وأصبحت بفعل نظام الرفاه الذي وضع أسسه الحزب الاشتراكي الديمقراطي في بدايات ستينيات القرن المنصرم، وهو النظام الذي ساهم في دحض الدعاية السوفييتية التي كانت تتغنّى بالفردوس المزعوم الذي حققته الأحزاب الشيوعية في دول المعسكر الشرقي، وهو الفردوس الذي تبيّن فساده مع انهيار الاتحاد السوفييتي في أواخر عام 1991، والتحوّلات التي شهدتها دول المعسكر الشرقي بعد ذلك.

واليوم إذ تستعد السويد لتقديم طلب الانضمام إلى حلف الناتو، نتيجة تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، والتحولات النوعية التي أحدثتها هذه الحرب في مواقف دول كثيرة، ومن ضمنها السويد. واللافت في مسألة هذا القرار السويدي سرعة اتخاذه، وعدم انتظار نتائج المناقشات العامة، بل كان الحرص على إخراج هذا الموضوع من دائرة الحسابات الحزبية والانتخابية، والتعامل معه على أنه يخصّ الأمن الوطني الاستراتيجي، ويستدعي قراراً سريعاً، خصوصا بعد قرار فنلندا الانضمام، الأمر الذي شكّل مزيداً من الضغط على الحكومة الاشتراكية السويدية، لإدراكها أن الاعتبارات الجيوسياسية باتت ضاغطة، وأن ما تعرّضت له أوكرانيا يمكن أن تتعرّض له البلدان المجاورة الأخرى أيضاً، ولا سيما أن هجوم القوات السوفييتية على فنلندا في عهد ستالين في أثناء الحرب العالمية الثانية ما زال في الذاكرة الحيّة، فسياسة التوسّع باتت بالنسبة إلى روسيا جزءاً من استراتيجية الحفاظ على التماسك الداخلي، وذلك عبر محاولات إقناع المجتمع الروسي بمزاعم المخاطر الوجودية التي تتعرّض لها روسيا، وبما يستوجبه ذلك من التماسك، والثقة المطلقة بالحاكم المطلق الصلاحيات، وإعطاء الأولوية لتنمية القدرات العسكرية على حساب القدرات التقنية الاقتصادية السلمية التي من الواضح أن روسيا، على الرغم من مواردها المالية والبشرية الضخمة، ما زالت متخلفة فيها حتى عن بعض الدول المجهرية.

جرى تجاوز الحياد السويدي بهذه الصورة أو تلك مع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عام 1995، وكان ذلك بعد استفتاء شعبي. ولكن الاتحاد الأوروبي يبقى تكتلاً اقتصادياً في المقام الأول، على الرغم من الدعوات التي كانت وما زالت، خصوصا من فرنسا، بضرورة تشكيل قوة عسكرية أوروبية مهتمها الدفاع عن أوروبا، وذلك تحسّباً لحدوث تحوّلات في الموقف الأميركي كالتي كانت في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.

تتخذ السويد قرار الانضمام إلى حلف الناتو من دون اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي العام الذي عادة ما يجرى قبل اتخاذ القرارت في القضايا الخلافية الحاسمة. وعلى الرغم من أن نتائج هذه الاستفتاءات تكون غير ملزمة وفق الدستور السويدي، إلا أن الحكومة بصورة عامة تراعي توجهات المواطنين، ولكن جرى في موضوع الانضمام إلى “الناتو” تجاوز هذه الخطوة، وذلك بناء على تقديرات الحكومة والمعارضة التي ترى ضرورة الانضمام، وأهمية الإسراع فيه.

ولطمأنة الرأي العام السويدي، والتخفيف من حدّة معارضة بعضهم هذه الخطوة، تواصلت الحكومة السويدية مع الفاعلين الأساسيين ضمن “الناتو” بغية الحصول على ضمانات أمنية، تؤكّد أنه (الحلف) سيتدخل في حال تعرّض السويد لأي تهديد خلال الفترة الفاصلة بين تقديم طلب الانضمام والحصول على العضوية الكاملة في الحلف، وهي عملية قد تستغرق بعض الوقت. وجدير بالذكر هنا أن السويد حصلت على وعود من الألمان والأميركان والبريطانيين؛ بل عقدت اتفاقية دفاع مشترك مع بريطانيا، تحسباً لأي طارئ.

وبالنسبة إلى الموقف التركي المتحفظ على انضمام كل من السويد وفنلندا إلى الحلف، فالاعتقاد السائد بين المسؤولين المعنيين السويديين في الحكومة والمعارضة أنه موقف تفاوضي في المقام الأول، يرمي إلى الحصول على بعض الامتيازات، وربما التنازلات، من الأميركان، وحتى من السويديين.

من الواضح أن “الناتو” يحتاج إلى السويد التي تشكل عمقاً استراتيجياً لا استغناء عنه في ضوء نتائج الهجوم الروسي على أوكرانيا، وذلك لاعتبارات ميدانية تقنية في حال اضطر “الناتو” للتدخل لحماية الدول الأعضاء المحاذية لروسيا، لا سيما دول البلطيق وحتى بولندا. ولعله من نافلة القول هنا إن مرحلة عضوية حلف الناتو بالنسبة إلى السويد لن تكون مثل المرحلة التي كانت قبلها، فالنفقات الدفاعية سترتفع، وإنتاج الأسلحة سيزداد. كما أن الاستعداد للمتغيرات المناخية، وإمكانية ظهور طرق جديدة للملاحة البحرية في المناطق القطبية الشمالية ستفرض مزيدا من التحديات وسط هواجس احتمال الاستغلال الروسي لذلك، وما قد يحمله هذا الأمر من تهديدٍ لأمن دول الشمال التي ستشكّل تكتلاً إقليمياً جذاباً، سيكون في مقدوره تقديم نموذج يُحتذى به لشعوب روسيا والدول الدائرة في فلكها، فهذا التكتل يضم دولاً ديمقراطية ناضجة، تتميز بنظام الرفاه الاجتماعي الذي يحافظ على الأمن والاستقرار الداخليين، سواء على مستوى كل دولة من دول الإقليم، أم على مستوى الإقليم بأسره. كما يتمتّع هذا التكتل بمستوى رفيع من التقدّم التكنولوجي، وبإنجازات كبرى في ميادين المحافظة على البيئة، وإنتاج الطاقة المتجددة. ولن يكون ذلك كله في صالح النموذج الروسي الذي لا يقيم وزناً للحرّيات الفردية والعامة، ولم يحقّق نجاحاً في الميادين المعرفية التقنية، كما أنه يمثل ملاذاً للفاسدين الذين استفادوا من الموارد العامة، ويحظون بتغطيةٍ رسميةٍ مقابل القيام بأدوار وظيفية لصالح النظام الحاكم في روسيا، والذي يدعم القيادات اليمينية المتطرّفة في أوروبا ويحظى بتأييدها.

العربي الجديد

—————————-

بوتين في مربع ستالين/ بسام مقداد

حين سُئل الرئيس الفنلندي عن رأيه في كيف سترد روسيا على إنضمام بلاده إلى حلف الناتو، قال إن سبب هذا الإنضمام “كانت هي نفسها. أنظروا إلى المرآة”. وأضافت رئيسة وزرائه، في ظهورها معا الرئيس للإعلان عن الإجراءات الأخيرة للإنضمام إلى الناتو، قائلة: “لا يمكننا أن نبقى عُزّلاً ضد روسيا التي لا تمتثل للقوانين الدولية”.

الخدمة القفقازية في “الحرة” الأوروبية نشرت على موقعها الناطق بالروسية ekhokavkaza نصاً بعنوان “روسيا دفعت فنلندا والسويد إلى الناتو”. قال الموقع بأن فنلندا والسويد تتخليان عن حيادهما، والناتو مستعد لإستقبالهما على وجه السرعة. هددت روسيا باتخاذ إجراءات ذات طبيعة “عسكرية تقنية” ضد هلسنكي. مثل هذه “الإجراءات” تحولت إلى حرب شاملة ضد كييف، لكن الناتو يؤكد لكل من فنلندا والسويد بأنهما ستحصلان من جميع أعضاء الحلف على ضمانات لأمنهما في الفترة الفاصلة بين تقديم الطلب وإنضمامها الرسمي للحلف.

يقول الموقع بأن السويد حافظت على حيادها طيلة قرنين من الزمن، وتحافظ عليه فنلندا منذ 80 عاماً تقريباً. وقبل غزو روسيا لأوكرانيا كان مواطنو البلدين يرفضون رفضاً قاطعاً الإنضمام إلى أي أحلاف عسكرية. لكن الوضع تغير جذرياً بعد 24 شباط/فبراير المنصرم، حيث تشير إستطلاعات الرأي إلى أن 76% من الفلنديين يؤيدون الآن الإنضمام إلى الناتو، ولا ترفضه سوى نسبة 12% فقط.

الأوكران عاتبون على الناتو الذي شرع “الأبواب المفتوحة” لكل من فنلندا والسويد، لكنه أوصدها بوجه أوكرانيا. الرئيس الأوكراني عبّر عن “الأسف لعدم عثور الناتو قبل الحرب على مكان لأوكرانيا في الحلف”. ويقول بأنه مقتنع بأنه لو كانت أوكرانيا قبل الحرب جزءاً من الناتو لما كانت الحرب لتقع، “أنا مقتنع بذلك”.

الخدمة الروسية في BBC نشرت لمراسلها في شؤون الأمن نصاً بعنوان “التوسع الإسكندنافي لأوروبا: يجعل أوروبا أقوى وأكثر أمناً، أم أنها ستواجه تهديدات جديدة؟”. يقول موقع الخدمة أن أمين عام الناتو صرح بأن الحلف سيرحب بالسويد وفنلندا ب”ذراعين مفتوحتين”، فنلندا والسويد بلدان ديموقراطيان متطوران مؤهلان لعضوية الناتو، وانضمامهما سوف يستغرق الحد الأدنى من الوقت.

ينقل الموقع عن القائد السابق لقوات المشاة الأميركية في أوروبا ترحيبه الحار بهذه الإضافة للناتو، وبأنه ليس لديه أدنى شك في فوائد هذا الإنضمام بالنسبة للغرب. ويرى أن القوات المسلحة في البلدين “جيدة جداً”، مؤهلة، حديثة وتمتلك نظام تعبئة مجرّب.

روسيا، أو بالأحرى بوتين برأي الموقع، لا يعتبر الناتو حلفاً دفاعياً، بل، على العكس تماماً، يرى فيه تهديداً للأمن الروسي. وكان يراقب بقلق كيف كان الناتو، بعد سقوط الإتحاد السوفياتي في العام 1991، يتوسع نحو الشرق مقترباً أكثر فأكثر من موسكو. وحين كان ضابطاً صغيراً في KGB، كانت موسكو تسيطر على كل ما كان يجري في بلدان أوروبا الشرقية، وكانت القوات السوفياتية متواجدة في معظم الدول الأعضاء في حلف فرصوفيا. لكن معظم هذه البلدان انتهجت الخيار الغربي وانضمت إلى الناتو. لروسيا حدود شاسعة جداً، ولا يحدها الناتو سوى في 6% من هذه الحدود، ومع ذلك يرى بوتين أن الناتو يحاصر روسيا ويهددها. وقبل أن يرسل قواته إلى أوكرانيا، طالب بوتين بإعادة النظر بخريطة الأمن الأوروبي، وأصر على سحب قوات الناتو من جميع بلدان أوروبا الشرقية والتوقف عن ضم أعضاء جدد إلى صفوفه، حسب الموقع.

ويرى الموقع أن غزو بوتين لأوكرانيا أفضى إلى نتائج عكسية تماماً. فخلال عقود طويلة كانت فنلندا والسويد تفاخران بحيادهما، وهما تنتميان للثقافة الغربية. لكنهما، وحتى الأحداث الراهنة، لم تفكرا في إزعاج جارهما الضخم الذي يمتلك السلاح النووي. غير أن غزو أوكرانيا أرغمهما على تغيير وجهة نظرهما بسرعة، وأخذ الشعبان والحكومتان يتساؤلون: ألم يكن أكثر أمناً لو كانوا تحت سقف الناتو الذي تقول المادة 5 من إتفاقية التحالف بأن الهجوم على أي بلد عضو يعتبر هجوماً على الجميع.

موقع إسرائيلي ناطق بالروسية ويتابع المواقع الإعلامية والتواصل الإجتماعي الناطقة بالروسية، نشر لمدون نصاً بعنوان “في تذكر الحرب الفنلندية: روسيا تعيش في مربع ستالين”. قدم المدون لنصه بالتأكيد أن حرب روسيا ضد أوكرانيا وحرب الإتحاد السوفياتي ضد فنلندا تتضمنان أوجه تشابه أكثر بكثير من أوجه الإختلاف، 80 عاماً (83 عاماً) والطرق هي عينها. وقال في تذكر حرب الإتحاد السوفياتي ضد فنلندا بأن التاريخ يعيد نفسه، فالكرملين يعمل في مربع ستالين، يستخدم البروباغندا الكاذبة نفسها والاستفزازات عينها المصممة لأولئك الروس الذين يثقون بالسلطات على نحو أعمى، ولا يستطيعون التفكير الناقد، والقسم الأعظم منهم لم يتغير كثيراً خلال كل تلك السنوات الطويلة.

بعد أن يشير المدون على القراء “أحكموا بأنفسكم”، يورد ما كتبته البرافدا قبل أسابيع من بداية الحرب من أن السوفيات سيرسلون إلى الجحيم “السياسيين المقامرين”، ولن يوقفهم شيء في الطريق لتوفير الأمن للإتحاد السوفياتي محطمين كل العقبات ومن يقف في وجههم. ثم يسأل “هل الخطاب معهود؟”، ويورد مرة مرة أخرى عنوان نص للصحيفة عينها قبل أيام من نشوب الحرب “مهرج في منصب رئيس وزراء”، ويقول بأن المقالة كانت بمثابة إشارة إنطلاق حملة بروباغندا ضد فنلندا. وبعد هذه الاستشهادات التاريخية من الصحيفة المركزية للبلاشفة يكرر المدون سؤاله للقراء: “كيف؟ ثمة تشابه؟ خاصة في ما يتعلق بالمهرج”.

يقول المدون أنه في اليوم عينه قُصفت بالمدفعية منطقة سكنية سوفياتية مجاورة لفنلندا، سارعت القيادة السوفياتية لتحميل المسؤولية للجانب الفنلندي. وأضيف حينها إلى ماكينة البروباغندا السوفياتية تعبير “الفنلنديون البيض” ( على غرار الروس البيض أعداء البلاشفة الحمر”) المماثل كلياً للتعبير الحالي “النازي الأوكراني” الشائع في بروباغندا بوتين.

يتوسع المدون في سرد حوادث قصف الأراضي السوفياتية، والتي كانت فنلندا تنفي مسؤوليتها عنها وتؤكد أن القصف من المناطق السوفياتية، بل وكانت تعلن عن إستعدادها لتحقيق مشترك لا يوليه الجانب السوفياتي أي إهتمام. ويقارن بين حوادث القصف وتفجيرات الأجهزة الأمنية الروسية للأبنية السكنية في مدن روسيا قبل حرب الشيشان الثانية، وكيف وظفتها ضد الشيشان في التمهيد للحرب عليهم.

يواصل المدون مقارنته بين بروباغندا ستالين في الحرب على فنلندا وبروباغندا بوتين في حربه على أوكرانيا، ويلتقط تطابقات مذهلة في البروباغندا وسبل إدارة الحرب في الحالتين. ويستشهد مرة أخرى بصحيفة البرافدا في مدينة لينينغراد (بطرسبورغ الآن)، وما نشرته بعد يومين من الحرب على فنلندا. وقالت حينها بأن جيشي عالمين متناقضين اشتبكا مع بعضهما: الجيش الأحمر”الأكثر سلمية”، “الأشد بطولة وبأسا”، والمجهز بالأعتدة الحديثة؛ وجيش الحكومة الفنلندية العميلة الذي يجبره الرأسماليون على القعقعة بالسلاح.

لكن، وبعد شهر على الحرب واصطدامه بمقاومة مستميتة من الفنلنديين، تكبد الجيش الأحمر “عشرات الألوف” من القتلى والمتجمدين في صقيع غابات فنلندا. ويشير إلى أن القيادة الستالينية أصدرت أمراً للقوات السوفياتية قالت فيه بأنهم يدخلون فنلندا ليس كمحتلين، بل كأصدقاء ومحررين للشعب الفنلندي من نير الملاكين والرأسماليين.

يختتم المدون مقارناته بالإشارة إلى أن الكرملين يهدد من جديد فنلندا التي تسعى للإنضمام إلى الناتو لحماية نفسها من روسيا-بوتين التي فقدت صوابها. ويتساءل هل بوسع بوتين خوض حرب جديدة كفيلة بإرجاع روسيا إلى حدود 1940 ( لم يكن ستالين قد ضم بعد أوكرانيا الغربية البولونية ودول البلطيق).

المدن

————————

بوتين يحشد حلفاءه في مواجهة «الأطلسي»

علاقات موسكو مع واشنطن «تجاوزت نقطة اللاعودة»… وبرلمانا فنلندا والسويد يناقشان الانضمام إلى «الناتو»

رائد جبر

بدا أمس، أن الكرملين سرع وتيرة تحركاته في إطار محاولة إحياء حشد حلفاء روسيا في الفضاء السوفياتي السابق، ضد ما وصف بأنها «حرب هجينة وشاملة» يشنها الغرب على روسيا. وبرزت دعوات خلال لقاء جمع رؤساء البلدان المنضوية في منظمة «معاهدة الأمن الجماعي» لتشكيل «تحالف يواجه حلف الأطلسي» فيما يمكن أن يشكل نسخة محدثة لـ«حلف وارسو» الذي تم حله قبل انهيار الاتحاد السوفياتي.

وسيطرت فكرة المواجهة مع الحلف الغربي على القمة التي استضافتها موسكو أمس، ورأى محللون أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يسعى إلى تعزيز دور هذه المنظمة التي كانت أدوارها محدودة في السنوات الماضية، ولم تبرز بشكل جدي إلا في إطار مواجهة تداعيات انسحاب واشنطن من أفغانستان، وخلال الأحداث الدامية التي شهدتها كازاخستان في بداية العام الجاري.

وقال بوتين خلال اللقاء إن منظمة معاهدة الأمن الجماعي باتت تلعب دوراً مهماً للغاية ودورها يزداد في هذه المرحلة.

والمنظمة هي تحالف عسكري يضم بالإضافة إلى روسيا، كلاً من بيلاروسيا وأرمينيا، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، تم توقيع معاهدة لإنشائها في 1992 قبل أن تنضم إليها في وقت لاحق جورجيا، التي عادت وانسحبت منها بعد الحرب الروسية الجورجية في 2008. وكانت أوزبكستان قد انسحبت بدورها من المعاهدة في وقت سابق. لتبقى فيها ستة بلدان أسست في عام 2002 على إنشاء المنظمة كتحالف عسكري يهدف إلى مواجهة المخاطر الخارجية بشكل جماعي وفقاً لنظامها الداخلي.

وشهدت الجولة الأولى من اجتماعات القمة أمس، وهي الأولى التي تعقد منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، جلسة افتتاحية تحدث خلالها الرؤساء، تلتها سلسلة اجتماعات ثنائية بين الزعماء الحاضرين.

ومع الدعوات الروسية لتفعيل هذا التحالف، حملت دعوة رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو إشارة إلى الهدف من عقد القمة في هذا التوقيت؛ إذ شدد على أهمية «حشد جهود بلدان المنظمة» وقال إنه «لا ينبغي أن تواجه روسيا وحدها مساعي توسيع حلف شمال الأطلسي». وقال لوكاشينكو إنه «بدون حشد سريع لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي في جبهة موحدة سوف تتضرر كل بلدانها». وزاد: «لو أننا منذ البداية تصرفنا على الفور كجبهة موحدة ما كانت لتفرض هذه العقوبات الجهنمية ضدنا، ولا ينبغي لروسيا أن تواجه محاولة توسيع الناتو وحدها»، لافتاً إلى أن الغرب يشن عدواناً هجيناً واسع النطاق ضد بيلاروسيا وروسيا».

وذكر لوكاشينكو أنه من أجل تعزيز منظمة معاهدة الأمن الجماعي من الضروري تعزيز التفاعل السياسي، وزيادة آلية المشاورات وتوحيد المواقف. ولفت إلى أن «الغرب الجماعي لا يريد قبول رحيل النظام أحادي القطب للنظام العالمي ويشن صراعاً شرساً للحفاظ على موقعه. وقال لوكاشينكو أيضاً إن «اجتماعنا يأتي في وقت صعب، وقت إعادة تقسيم العالم. النظام أحادي القطب في النظام العالمي هو شيء من الماضي لا رجعة فيه، لكن الغرب يخوض حرباً مريرة للحفاظ على نفوذه. باستخدام جميع الوسائل، بما في ذلك تلك الموجودة في منطقة مسؤولية منظمة معاهدة الأمن الجماعي: من صراع الناتو بالقرب من حدودنا الغربية إلى حرب هجينة واسعة النطاق شنت ضدنا، في المقام الأول ضد روسيا وبيلاروس، وأن الحلف يضم إلى تكوينه من قبل دولاً محايدة سابقاً. ويتصرف على أساس مبدأ كل من ليس معنا فهو ضدنا». كما شدد الرئيس البيلاروسي على أن الشيء الأكثر خطورة في أوكرانيا هو محاولات تفكيكها، منوهاً بأن واشنطن تريد إطالة الصراع في أوكرانيا قدر الإمكان.

وأمس، بحث البرلمان الفنلندي والسويدي ترشح الدولتين الإسكندنافيتين للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، مع ضمان أغلبية كبيرة في كلا المجلسين. وبدأ البرلمان الفنلندي جلسة ماراثونية صباح أمس لدرس الترشح الذي قدمته السلطة التنفيذية رسمياً الأحد قبل التصويت الذي سيجري صباح اليوم الثلاثاء. ووفقاً لآخر تقارير وسائل الإعلام الفنلندية، فإن 85 في المائة على الأقل من 200 نائب سيصوتون لصالح الانضمام إلى الناتو. من جهته اجتمع البرلمان السويدي أمس، وذلك غداة إعلان رئيسة الوزراء الاشتراكية الديمقراطية ماجدالينا أندرسون أنها تريد ضمان «دعم واسع» في البرلمان قبل إعلان القرار الرسمي للحكومة السويدية.

إلى ذلك، أكد بوتين أن روسيا ليست لديها مشاكل مع فنلندا والسويد، وأن انضمامهما إلى حلف الناتو لا يشكل تهديداً، لكنه يتطلب إجراءات جوابية. وأضاف الرئيس الروسي في كلمة أثناء مشاركته في قمة «منظمة معاهدة الأمن الجماعي» في موسكو، أن الناتو خرج عن مهمته في إطاره الجغرافي ويحاول بطريقة سيئة التأثير على مناطق أخرى. وتابع قائلاً: «فيما يتعلق بالتوسع (الناتو)، بما في ذلك من خلال الأعضاء الجدد في الحلف، فنلندا والسويد: ليس لدى روسيا مشاكل مع هذه الدول، وهذا يعني أن التوسع من خلال هذه الدول لا يخلق تهديداً مباشراً لروسيا، لكن توسيع البنى التحتية العسكرية في هذه المناطق، سيؤدي بالتأكيد إلى إجراءات جوابية، وذلك بناءً على التهديدات التي ستنشأ لنا».

وكان سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي قال، إنه يجب ألا تكون لدى أحد أوهام بأن روسيا ستتقبل ببساطة انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو. وشدد ريابكوف في تعليق بشأن انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو، على أن الأمن لن يتعزز لدى البلدين بعد الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. وأكد نائب وزير الخارجية الروسي أن الوضع في العالم سيتغير بشكل جذري بعد قرار السويد وفنلندا الانضمام إلى حلف الناتو، مشدداً على أن انضمامهما إلى الناتو سيكون خطأً بعواقب بعيدة المدى. ولفت ريابكوف إلى أن رد فعل روسيا الاتحادية على انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، سيكون مرتبطاً بما سيتخذانه من خطوات محدد.

وذكر بوتين، من جهة أخرى، أن واشنطن واصلت تطوير أسلحة بيولوجية في أوكرانيا. وقال إن المهمة الرئيسية لهذه المعامل كانت «جمع المواد البيولوجية، ودراسة خصوصيات انتشار الفيروسات والأمراض الخطيرة لأغراضها الخاصة». وتابع بوتين: «لقد دققنا ناقوس الخطر منذ فترة طويلة بشأن الأنشطة البيولوجية للولايات المتحدة في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي. وكما نعلم، فقد أنشأ (البنتاغون) عشرات المعامل والمراكز البيولوجية المتخصصة في منطقتنا المشتركة، وهم ليسوا منشغلين بأي حال من الأحوال بتطوير وتقديم المساعدات الطبية العملية لسكان هذه المناطق التي بدأوا فيها أنشطتهم». وتابع بوتين أن روسيا قد حصلت، في سياق العملية العسكرية الخاصة بأوكرانيا على أدلة موثقة على أن مكونات الأسلحة البيولوجية قد أنشئت بشكل أساسي «في مناطق مجاورة لحدودنا مباشرة».

في الأثناء، انتقد الناطق باسم الكرملين، دميتري بيسكوف تصرفات الأجهزة الأمنية الأميركية الخاصة تجاه البعثات الدبلوماسية الروسية، ووصفها بالوقحة وغير المقبولة. وأضاف أن «الكرملين على علم بمعطيات محددة. نحن نشارك رئيس بعثتنا الدبلوماسية في الولايات المتحدة مخاوفه. السلوك الوقح للغاية لممثلي الأجهزة الأمنية الخاصة، فيما يتعلق بمواطنينا وموظفي بعثاتنا في الخارج غير مقبول».

وفي وقت سابق أعلن السفير الروسي في واشنطن، أناتولي أنطونوف، أن موظفي السفارة الروسية في الولايات المتحدة يتلقون تهديدات، مؤكداً أن أجهزة المخابرات الأميركية تحاول دفع الدبلوماسيين الروس للخيانة.

في السياق ذاته أفادت الخارجية الروسية في بيان بأنها شرعت في مناقشة نسخة جديدة من مفهوم السياسة الخارجية الروسية نظرا لأن المسار العدواني للغرب يتطلب مراجعة جذرية لعلاقة موسكو بالدول غير الصديقة.

وجاء في بيان الوزارة، أن اجتماعاً عقد لمناقشة إعداد نسخة جديدة من مفهوم السياسة الخارجية الروسية وفقاً لتعليمات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن «الاجتماع ناقش مهام السياسة الخارجية الروسية في ضوء الحقائق الجيوسياسية المتغيرة جذرياً، والتي تطورت نتيجة إطلاق العنان للحرب الهجينة المعلنة ضد بلادنا، تحت ذريعة الوضع في أوكرانيا، بما في ذلك إحياء نظرة عنصرية لأوروبا من كهف الروسوفوبيا، لإلغاء روسيا وكل ما هو روسي».

وقالت الوزارة في هذا السياق إن «واشنطن، وبعد أن أخضعت الغرب الجماعي بالكامل، تجاوزت نقطة اللاعودة في هوسها بالتأكيد على هيمنتها الكاملة على العالم بأي ثمن، وقمع العملية الموضوعية لتشكيل عالم متعدد الأقطاب». وشددت وزارة الخارجية الروسية على أن «المسار العدواني للغرب، يتطلب مراجعة جذرية لعلاقة روسيا مع الدول المعادية وتعزيزاً شاملاً لمجالات أخرى في السياسة الخارجية».

الشرق الأوسط

—————————-

أوكرانيا والشرق الأوسط والتداعيات المحتملة/ مصطفى فحص

مستبعد جدا أن تبقى منطقة الشرق الأوسط بعيدة عن تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، بالرغم من الجهود التي تبذلها دول المنطقة الفاعلة لتبقى بعيدة عن الانخراط المباشر أو غير المباشر بالحرب، وتتجنب إعلان انحيازها وتحاول الحفاظ على مسافة واحدة من  طرفي الأزمة.

إلا أن هذا الموقف المركب والمعقد غير قابل للاستمرار نظرا لنظام مصالح الدول المعنية بصراعات المنطقة، بحيث يرتبط الإقليمي بالدولي بعد سنوات من سياسة حافة الهاوية في الشرق الأوسط الكبير التي نجح فيها الفاعلون السياسيون في أقلمة السياسة الدولية لصالح استقرار قائم على قواعد اشتباك وضوابط حققت ربط نزاع بين القوى المتنافسة.

فتح الخلاف الروسي الإسرائيلي احتمالات لتداعيات جدية كفيلة في ضرب جزئي أو كلي للاستقرار خصوصا في المجالين السياسي والاقتصادي.

سياسيا في سوريا من الممكن أن تسحب تل أبيب جزءا من الضمانات التي أعطتها لموسكو حول نظام الأسد خصوصا أن الأخير  قام بزيارة إلى طهران قضت على كافة الرهانات التي كانت تروج لفكرة ابتعاده عنها، بل أن الأسد في زيارته الأخيرة أظهر ارتباطا عميقا بالنظام الإيراني، إذ لا يمكن له أن يتخلى عن طهران مهما قُدمت له من إغراءات، فحتى الآن بقيت سياسات إبعاده عن إيران والانخراط العربي في سوريا محدودة التأثير  على ثوابت الأسد الجيوسياسية وتحالفاته التاريخية الثابتة.

من هنا، فإن الضمانات التي أعطتها تل أبيب لموسكو حول الأسد ونظامه في تحييده عن الضربات الاسرائيلية في سوريا قد يتم تعديلها، وتتراجع تل أبيب عن ضماناتها الأمنية وهذا ما سوف يقلق طهران ودمشق معا، بالرغم من أن موقف موسكو من مفاوضات فيينا بات يناسب تل أبيب.

ولكن موسكو تدرك أن تل أبيب تتعامل تكتيكيا مع الموقف الروسي، لكنها استراتيجيا تتقاطع مع واشنطن بالرغم من خلافاتها التكتيكية معها.

لذلك فان الموقف الروسي من مفاوضات فيينا مصلحي وليس استراتيجيا، ما يجعل المجال الاقتصادي يدفع إلى مزيد من المواجهة المفتوحة في المنطقة.

حيث تراهن تل أبيب على إمكانية أن تقوم بتغطية جزء من حاجات السوق الأوروبية من الغاز حيث هناك أصوات روسية تحذر من مشروع أنابيب إسرائيلي أوروبي عبر المتوسط من أجل إيصال  الغاز الإسرائيلي إلى الدول الأوروبية، وهذا ما قد يؤدي إلى مزيد من التنسيق الروسي الإيراني في المنطقة بعيد عن خلافاتهما التكتيكية في مفاوضات فيينا.

في المقابل تتمسك دول الخليج العربي بموقف الحياد في أوكرانيا، لكن هذا الحياد السياسي يأخذ طابعا اقتصاديا يعكر صفو العلاقة مع واشنطن التي تضغط على دول الخليج من أجل خفض أسعار الطاقة، وخصوصا في الخروج من اتفاق “أوبيك بلاس” الذي يمنح روسيا أسعارا مرتفعة لبرميل النفط، فهذه الدول المستاءة من موقف إدارة  البيت الأبيض من تصرفات إيران  في المنطقة ومن ميوعة المفاوضين الأميركيين في فيينا التي أدت إلى فتور كبير في العلاقات لكن لم تصل إلى حد إعادة التموضع.

في النهاية أدى سوء التقدير الأميركي للمصالح الخليجية في المنطقة إلى تباعد في المواقف وعدم انسجام إقليمي دفع بعض الدول الخليجية إلى إعادة علاقتها مع نظام الأسد من باب التقارب مع روسيا بالرغم من قناعتها باستحالة فصله عن إيران.

لا تبدو المنطقة بعيدة عن تداعيات أوكرانيا، فالخلاف الروسي الإسرائيلي وانحياز الأخيرة لصالح كييف سيترجم مباشرة في سوريا، كما أن زيارة بايدن المرتقبة إلى الخليج ستساعد على تصحيح مسار العلاقات ما بين واشنطن والعواصم الخليجية إضافة إلى أن الاتفاق النووي الإيراني أصبح رهينة الانتخابات النصفية الأميركية، ما يعني أن المنطقة قد تكون مقبلة على متغيرات كبيرة.

الحرة

—————————–

روسيا الخائفة… روسيا المخيفة/ غسان شربل

سألني الدبلوماسي إن كنت أرى نقاط تشابهٍ بين الغزو الروسي لأوكرانيا والغزو العراقي للكويت. استغربت وأجبت أنَّ كلاً من الحدثين وقع في عالم مختلف ومنطقة مختلفة. ثم إنَّ روسيا ليست العراق. وفلاديمير بوتين ليس صدام حسين. ويفترض أن آلية صنع القرار في موسكو الحالية مختلفة عنها في بغداد صدام. ثم إنَّ روسيا دولة نووية وعضو دائم في مجلس الأمن. طبعاً مع الإشارة إلى أنَّ الغزو العراقي لامس عصب سلعة حيوية للعالم هي النفط، في حين تلامس الحرب الروسية في أوكرانيا عصب سلعتين حيويتين للعالم هما الغذاء والطاقة.

رأى أن أخطر تشابه بين الحدثين هو استخدام القوة لشطب حدود دولية معترف بها وضم أراضٍ وتهديد وحدة دولة مستقلة. ولاحظ أن الغزو من الخارج يختلف تماماً عن تغير الحدود بفعل تطورات من نوع الانفجار السوفياتي أو اليوغوسلافي أو السوداني أو انشطار تشيكوسلوفاكيا بفعل إشهار الطلاق بين المكونين الرئيسيين فيها.

لاحظ أن الولايات المتحدة شنت في القرن الحالي حربين كبيرتين في أفغانستان والعراق، لكنها لم تحاول فيهما تغيير خريطة البلد المستهدف. قصة أوكرانيا مختلفة فعشية إطلاق الحرب اعتبرها بوتين مجرد صناعة روسية أي أنها لا تمتلك شرعية الوجود كدولة مستقلة. واعتبر الدبلوماسي أن العالم الذي اكتوى بتجربة الحرب العالمية الثانية أدرج في باب المقدسات عدم جواز الاستيلاء على أراضي الآخرين بالقوة، ولذلك لا تعترف الشرعية الدولية بما نتج من سياسة الغزو الإسرائيلية. وشدد على أن الحرب الحالية التي تدور على الأرض الأوروبية ستؤدي بالتأكيد إلى ولادة عالم جديد. يدرك الأوروبيون، وفي مقدمهم الرئيس إيمانويل ماكرون، خطورة إذلال روسيا في أوكرانيا. يدركون في الوقت نفسه خطورة التسليم بأن من حق القوة تغيير الخرائط والتلاعب بالحدود الدولية المعترف بها. فإذا تغاضيت عن ضم روسيا لأجزاء من أوكرانيا، كيف يمكن أن تعارض ما تعتبره الصين حقها الطبيعي في إعادة تايوان إلى رحاب الوطن الأم وبيت الطاعة؟

يصعب تشبيه الاجتياح الروسي لأوكرانيا بالاجتياح العراقي للكويت. لم يظهر بوتين في العقدين الماضيين تهوراً في التعامل مع الأزمات التي تعني بلاده أو تهمها، وإن يكن أظهر حزماً. يمكن القول إنه أظهر براعة أوحت بأن مطبخ القرار في الكرملين يستند إلى معلومات تنقلها السفارات والأجهزة الأمنية العريقة. ويصعب الاعتقاد أن قوة السيد الرئيس تحول دون تمكن أبرز معاونيه من التعبير عن رأيهم أو مخاوفهم. ويصعب في الوقت نفسه تصور أن دبلوماسياً محترفاً من قماشة سيرغي لافروف لم يتوقع أن يصطدم غزو أوكرانيا برد غربي شديد. تذكرت ما سمعته قبل أسابيع من عراقي ربطته بطارق عزيز وزير الخارجية العراقي السابق علاقة عمل ومودة. قال إن عزيز كان معارضاً لغزو الكويت ومدركاً لمخاطر ضمها لكنه لم يستطع التأثير على مسار الأحداث. هل سيكتشف العالم ذات يوم أن لافروف كان في وضع يشبه وضع طارق عزيز، طبعاً مع الالتفات إلى الفوارق بين الحقب والرجال؟

تذكرت ما سمعته من حازم جواد الذي قاد «البعث» العراقي إلى السلطة في 1963. قال إن مجلس الوزراء كان منعقداً برئاسة الرئيس عبد السلام عارف. أثار أحد الوزراء شيئاً يتعلق بالكويت فنسي عارف أنه رئيس الجمهورية وأطلق جملة معبرة. قال: «عيّنوني قائداً للواء البصرة وأنا أحل لكم مشكلة الكويت»، وهو يقصد اجتياحها. وبعد عقود سيتوجه صدام حسين إلى منطقة البصرة ليقود من هناك اجتياح الحرس الجمهوري العراقي للكويت. وبعد عقود من استقلال أوكرانيا، سيعتبرها بوتين كياناً مصطنعاً وسيطلق جيشه في أراضيها.

سمعت أيضاً من عراقيين أن الخوف موجود في أعماق روح كيان العراق. حشرته الجغرافيا بين جارين قويين. يتذكر كل حاكم للعراق تلك الصفحات من التاريخ التي تروي كيف تقاتل الصفويون مع العثمانيين على أرض العراق. وفي التاريخ الحديث تتبدى في سياسات بعض الدول القائمة على ركام إمبراطوري ميول صريحة إلى توسيع مداها الحيوي على حساب الحلقة الضعيفة المتاخمة. بعض المشاهد طازجة. إيران تقصف أهدافاً في أربيل. وتركيا تتعقب أعداءها داخل الخريطة العراقية.

تاريخ روسيا صاخب هو الآخر. تتعرض لغزوات وتطلق غزوات. على مدى قرون كانت حدودها قلقة ومتحركة. في ذاكرتها قصص غزوات كثيرة وإن تكن الكتب تركز على مغامرة نابليون وجنون هتلر.

كان العراق خائفاً من قدرة إيران على امتلاك أوراق داخل أراضيه. ثمة من يقول إن خوف صدام من عبارتي «الولي الفقيه» و«تصدير الثورة» دفعه إلى إطلاق الحرب ضد إيران، معتقداً أنه إن لم يبادرها بالحرب في منطقة الحدود سيضطر إلى مقاتلتها لاحقاً في شوارع بغداد. بوتين بدوره اتهم أوكرانيا بالتآمر واعتبر الحرب عليها استباقية.

روسيا التي تقيم طويلاً تحت الثلج قارة ثرية بالنفط والغاز والمعادن. لكنها مصابة بعقدة الحصار والخوف على روحها. محاولة بطرس الأكبر استيراد أسباب التقدم الأوروبي لم تبدد خوفها الدائم من الغرب. من نموذجه المختلف وجاذبية ثقافته وأسلوب حياته، شيّد الاتحاد السوفياتي جدار برلين ليصد رياح النموذج الغربي لكن التاريخ اقتلع الجدار. ذهب الغرب بعيداً في ممارسة غطرسة المنتصر. حرك بيادق حلف «الناتو» باتجاه حدود روسيا وهو ما اعتبره بوتين إمعاناً في إذلال بلاده وتهديداً بغزوها تحت ستار العولمة و«الثورات الملونة». من هذا الخوف العميق ومن الركام السوفياتي جاء بوتين.

في برلين يشعر الصحافي الزائر بأن العالم وقع بفعل الحرب الروسية في أوكرانيا في فخ يصعب الخروج منه. روسيا الخائفة صعبة ومتعبة. وروسيا المخيفة مثيرة للقلق والذعر. والأكيد أن العالم الذي يدفع اليوم ثمناً باهظاً يتغير على وقع الأيام الأوكرانية فالدول خائفة والتطورات مخيفة.

* نقلا عن “الشرق الأوسط”

———————–

قد ترتفع سخونة الحرب الباردة الجديدة قريبا لماذا قد تصعّد روسيا والغرب القتال حول أوكرانيا؟/ إيان بريمير

كانت التوترات بين روسيا والدول الغربية في الأسابيع العشرة الماضية منذ بدأت روسيا هجومها على أوكرانيا أعلى منها من أي وقت مضى منذ أزمة الصواريخ الكوبية. وقد اتهم الرئيس الأميركي جو بايدن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو زعيم دولة عظمى تملك أسلحة نووية، بارتكاب “إبادة جماعية”، ووصفه بأنه “مجرم حرب”، كما صرح بأن [بوتين] “لا يمكنه أن يبقى في السلطة”. وطبقاً للويد أوستن، وزير الدفاع الأميركي، فإن الولايات المتحدة تسعى حالياً إلى “إضعاف روسيا” إلى الدرجة التي لن تكون معها قادرة على تهديد جيرانها. ووصفت ليز تروس، وزيرة الخارجية البريطانية، الحرب في أوكرانيا بأنها “حربنا”.

وإذ كان الزعماء الأوروبيون الآخرون أشد حذراً في اختيارهم الكلمات [التي استعملوها لوصف الحرب]، فهم كانوا واضحين بالقدر نفسه لجهة معارضتهم العدوان الروسي. واعتبرت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية في أعقاب زيارة قامت بها لبلدة بوتشا في أوائل أبريل [أن ما رأته كان] “فظيعاً، ولا يعقل، وصادماً”. وأدى الصراع إلى وضع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في حالة تأهب عسكرية قصوى كما تمخض عن التشديد بشكل كبير على مخاطر اعتماد أوروبا على روسيا في مجال الطاقة. وتلاشى الاطمئنان إلى تخلي بوتين عن استعمال القوة وتحويل التجارة إلى سلاح، من غير تقدير المخاطر الكامنة في هذا الاسعمال، وكذلك [تلاشى] التردد بالترحيب بأوكرانيا في الاتحاد الأوروبي. وقد نشر حلف شمال الأطلسي (الناتو) الآلاف من القوات الجديدة بالقرب من الحدود مع روسيا، ومن المرجح أن يضم الحلف قريباً كلاً من فنلندا والسويد إلى صفوفه.

وقد تحول القادة الروس في الأثناء، تحولاً حاداً من وضعهم الحرب في إطار “عملية خاصة” محدودة، من أجل “تحرير” أجزاء من شرق أوكرانيا، إلى جعلها صراعاً وجودياً شاملاً ضد حلف الناتو. واتهم بوتين الولايات المتحدة، ودول أخرى، بمحاولة “تدمير روسيا من الداخل”. كما هدد القادة الروس في مناسبات متعددة بنشر أسلحة نووية ضد أي دولة تتجرأ على التدخل في الصراع.

وتنتج هذه التطورات مجتمعة واقعاً جديداً خطيراً. فالأيام التي كانت أهداف الحرب في نظر روسيا، تقتصر على “اجتثاث النازية ونزع السلاح” من أوكرانيا، ولّت. والأيام التي قيدت فيها الولايات المتحدة والحكومات الحليفة مشاركتها [في الصراع] بمساعدة أوكرانيا على الدفاع عن سيادتها ووحدة أراضيها، طويت. ولقد تجاوز قادة طرفي النزاع الآن سلسلة من الخطوط التي لا يمكن التراجع عنها بسهولة [والعودة إلى الوضع السابق]. والنتيجة هي حرب باردة جديدة بين روسيا وخصومها. وهي تعد بأن تكون أضيق عالمية من التي شهدها القرن العشرون وأقل استقراراً وقابلية للتنبؤ بتطوراتها.

حرب باردة جديدة

والأرجح أن تكون المنافسة بين روسيا والولايات المتحدة أقل وأكثر خطورة، في الوقت نفسه [هذه المرة] من سابقتها التاريخية [ويرجع ذلك إلى أسباب] أحدها أن روسيا تمثل تهديداً عسكرياً أضعف بكثير، بالنسبة إلى واشنطن، من تهديد الاتحاد السوفياتي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وذلك على الرغم من ترسانة موسكو النووية، وثروتها الهائلة بالموارد الطبيعية. وعلى كل حال، فإن غزو بوتين أتاح للولايات المتحدة والمسؤولين الحلفاء معاينة أوجه قصور موسكو العسكري الفادح. ونظراً للفشل الكامل للهجوم الروسي الأولي على كييف، والخسائر الفادحة التي تكبدتها موسكو في ميدان القتال ضد قوات أوكرانية أقل عدداً وأقل بما لا يقاس، فعلى الأغلب أن المليارات التي صرفتها روسيا على التحديث العسكري طوال العقد الماضي تبددت، أو سرقت، أو تبددت وسرقت معاً.

ولا يقل أهمية عن ذلك حجم اقتصاد روسيا، الذي كان على الرغم من عائدات النفط والغاز، أصغر من اقتصاد نيويورك، إبان الغزو. وكان هذا قبل أن تؤدي عقوبات الولايات المتحدة وحلفائها إلى انكماش اقتصادي بين 10 و15 في المئة في عام 2022، وهو كساد من شأنه حتماً أن يقيد قدرة روسيا على إرغام دول أخرى [على فعل ما تريده] بقوتها الاقتصادية. وخلافاً للاتحاد السوفياتي، حيث عزل الاقتصاد الموجه البلاد عن الحرب الاقتصادية، تعتمد روسيا بقيادة بوتين على التجارة والاستثمار الخارجيين. وهي تسعى الآن جاهدة لتسديد أقساط ديونها الدولية. وبالطبع، يمكن لروسيا أيضاً أن تحول الاعتماد المتبادل إلى سلاح لمصلحتها، كما يدل قطع الكرملين أخيراً صادرات الغاز إلى بلغاريا وبولندا، لكن في حين أن أوروبا تستطيع أن تنجو، وهي ستفعل، من فك الارتباط مع روسيا، فإن خيارات روسيا الاستراتيجية محدودة جداً.

وخلال القرن العشرين، كسبت موسكو، بفضل جاذبية الاتحاد السوفياتي الأيديولوجية أصدقاء ومعجبين حقيقيين في أنحاء العالم، بينهم كوبا ونيكاراغوا في الأميركيتين، ومصر وسوريا في الشرق الأوسط، وكمبوديا وفيتنام في جنوب شرقي آسيا، وإثيوبيا وموزمبيق في أفريقيا. إلا أن لروسيا حالياً فقط زبائن ودولاً تتكل عليها. وعلى الرغم من أن العديد من الدول، بما في ذلك معظم الديمقراطيات، بين المنخفضة الدخل إلى متوسطة الدخل، بما فيها البرازيل والهند وإندونيسيا والمكسيك التي تواصل الوقوف على الحياد والتعامل مع موسكو، لم يدافع عن غزو روسيا في الأمم المتحدة سوى بيلاروس، وإرتيريا، وكوريا الشمالية، وسوريا (وكانت فنزويلا أيدت روسيا أيضاً لو أن كاراكاس قد سددت متأخرات تترتب عليها للأمم المتحدة، وأتيحت لها فرصة التصويت).

وقيمة بكين بصفتها حليفاً لروسيا، محدودة. ومع أن شي جينبينغ، الزعيم الصيني، قد أنهى اجتماعاً عقده وجهاً لوجه مع بوتين قبل الحرب بتعهد أن صداقة مع روسيا “بلا حدود”، فإن شي يظل أكثر اهتماماً بكثير بمستقبل الصين، ومستقبله هو منه بمستقبل بوتين. وإذ تشاطر بكين موسكو، بصورة مؤكدة، الرغبة في التصدي لما تعتبره العاصمتان جهوداً أميركية وأوروبية لاحتوائهما، فمن غير المرجح أن يدين شي سلوك روسيا طالما لم تبادر إلى استعمال أسلحة كيماوية أو نووية، ولكن من الواضح أن هناك حدوداً للدعم الصيني لبوتين.

وقد تكون الصين قوة مراجعة [تعيد النظر في أسس توافق سابق] عازمة على تقويض هيمنة الولايات المتحدة، بيد أن لدى بكين مصلحة كبيرة في الحفاظ على الاستقرار العالمي. وتعتمد شرعية شي والحكم المحلي للحزب الشيوعي الصيني على النمو الاقتصادي الثابت، الذي يعتمد بدوره على العلاقات البراغماتية مع كبار شركاء بكين التجاريين في أوروبا، واليابان، والولايات المتحدة. ولذلك فمن غير المرجح أن تجازف الصين بالمواجهة [مع الغرب] من خلال انتهاك صريح للعقوبات أو تقديم دعم عسكري مباشر لموسكو.

وثمة حدود مماثلة تنطبق على التجارة. وعلى الرغم من أن بكين وموسكو شريكان طبيعيان، باعتبار أن الصين بحاجة إلى النفط والغاز والمعادن والفلزات الروسية، وروسيا بحاجة ماسة إلى الأموال الصينية، فإن البنية التحتية اللازمة من أجل تحويل الصادرات [الروسية] الموجهة إلى أوروبا و[إرسالها] شرقاً تقتضي استثمارات هائلة وطويلة الأجل. وعلى أي حال، فنمو الصين الاقتصادي يتباطأ منذ اليوم. واستعداد بكين لتحمل إنفاق من هذا النوع هو رهن انتزاع شروط مواتية للغاية من موسكو. باختصار، على الرغم من قول شي إن صداقة بكين وروسيا من دون حدود، فإن لها حدوداً سياسية واقتصادية واضحة.

ولسوء الحظ، تنتهي هنا الأخبار الحسنة للولايات المتحدة وحلفائها. وعلى النقيض من حالها أثناء الحرب الباردة في القرن العشرين، فالولايات المتحدة هي اليوم أكثر الدول الأعضاء في “مجموعة السبع” انقساماً على نفسها سياسياً وأشدها اختلالاً وظيفياً. ومع أن الديمقراطيين والجمهوريين يتفقون حالياً على أن الأوكرانيين يستحقون الأسلحة، والروس يستحقون العقوبات، ويتفق الحزبان على وجوب تفادي الولايات المتحدة مواجهة مباشرة مع موسكو، فإن وحدة سياسية داخلية على هذا النحو لن تدوم طويلاً. وإذ تلوح الانتخابات النصفية في الأفق، فإن الجمهوريين سيسلطون الضوء على أسعار الغاز التي تحلق عالياً، وعلى التضخم الذي بلغ أرقاماً قياسية، فيما يصورون بايدن في صورة زعيم ضعيف “خسر أوكرانيا”. وفي المقابل، سيحاول الديمقراطيون أن يربطوا بين الحزب الجمهوري وبين إعجاب الرئيس السابق دونالد ترمب القديم ببوتين، وتشكيكه في حلف الناتو. وفيما يشهد الأوروبيون عودة إلى القنص الحزبي المرير في الولايات المتحدة، قد يفاجئهم عن حق تغيير الانتخابات المقبلة من نهج واشنطن حيال روسيا والتحالف عبر الأطلسي، خصوصاً إذا عاد ترمب كمرشح جمهوري في انتخابات عام 2024 الرئاسية.

ثمة عنصر آخر من عناصر الخطر يكمن في خطاب الزعماء الغربيين المتصلب عن التنافس الأيديولوجي بين الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية. وجادل بايدن وبعض الزعماء الأوروبيين، على سبيل المثال، بأن من الضروري طرد روسيا من “مجموعة العشرين” التي تجمع قادة أكبر عشرين اقتصاداً في العالم. وعلى الرغم من الادعاءات الساخرة بأن “مجموعة العشرين” ليست أكثر من [منبر يوفر] فرصة لالتقاط صور جيوسياسية، أثبت هذا الملتقى قيمته خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، عندما كان بمثابة فضاء حيوي لالتقاء الدول ذات الأنظمة السياسية والقيم الأيديولوجية المختلفة بعضها ببعض. وإذ انهارت الأسواق، أدرك زعماء “مجموعة العشرين” أنهم لا يستطيعون الاستجابة للكارثة الاقتصادية العالمية إلا إذا جلست دول غير ديمقراطية، أو تتبع نظام رأسمالية الدولة حول الطاولة إلى جنب الديمقراطيات الصناعية المتقدمة.

وخلافاً لذلك، لا يرى بايدن أن ثمة حاجة كبيرة للتعاون مع دول على الطرف الآخر من الحدود الأيديولوجية. وبدلاً من تصوير النزاع في أوكرانيا محاولةً على حدة لخوض حرب عدوانية، فوضعه الرئيس الأميركي في إطار “المعركة بين الديمقراطية والاستبداد”. لا يمكن أن يحبذ شي جينبينغ سماع تلك النغمة، ومن الطبيعي أن ترفض الصين الجهود الرامية إلى طرد روسيا من “مجموعة العشرين”. وعندما يحين موعد اجتماع قمة المجموعة في نوفمبر (تشرين الثاني)، يتعين على بايدن، والقادة الحلفاء، أن يختاروا بين تشارك الطاولة مع مستبدين مثل بوتين وشي جينبينغ، وبين الإخلال الوظيفي بعمل المجموعة في وقت يزداد فيه خطر التهديدات العالمية التي تتطلب مواجهتها إجراءات جماعية، مثل تغير المناخ، والجائحات، وانتشار التقنيات التخريبية، على سبيل المثال لا الحصر. واحتمال انهيار التعاون المتعدد الأطراف هو أكبر خطر ماثل يواجهه النظام الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.

والسبب الأخير في تفوق خطر هذه الحرب الباردة الجديدة على سابقتها هو الاحتمال المتزايد بأن تلجأ روسيا إلى حرب سيبرانية مدمرة حقاً. وعلى الرغم من الفرقة بين موسكو وواشنطن في احتساب موازين القوة التقليدية، فالأسلحة الرقمية الأكثر تطوراً في روسيا هي أشد زعزعة للاستقرار من الصواريخ النووية التي كانت تهدد الولايات المتحدة وأوروبا في ثمانينيات القرن الماضي. ولا تقتل الأسلحة السيبرانية الناس على الفور، بيد أنها تبقى مدمرة بشكل كبير، وقادرة على إلحاق ضرر جسيم بالنظم المالية، وشبكات الطاقة، وبنى تحتية أساسية أخرى. والأهم من ذلك، هو أن استعمال الدول للأسلحة السيبرانية أكثر ترجيحاً من أسلحة دمار شامل أخرى، وذلك لأن بناءها أسهل، وإخفاءها يسير، وإقامة الدفاعات في وجهها في غاية الصعوبة، ويكاد يكون من المستحيل ردعها.

ويجب ألا تستسلم واشنطن أم تطمئن إلى أن بوتين لم يستعمل حتى الآن أكثر هذه الأسلحة تدميراً. فالتخطيط للهجمات السيبرانية الفعالة يستغرق أشهراً، بل سنوات، والحرب في أوكرانيا بدأت للتو. وكما استجابت الولايات المتحدة وأوروبا للغزو بمعاقبة روسيا اقتصادياً، يمكن للأخيرة أن تستخدم أسلحة سيبرانية لشل الولايات المتحدة وأوروبا سياسياً، وذلك من خلال استهداف الانتخابات المقبلة بموجات أكبر وأكثر تواتراً من المعلومات المضللة.

أين هي صمامات الأمان؟

وفيما تأخذ سخونة الحرب الباردة الجديدة بالارتفاع، على الزعماء أن يبدأوا التفكير في سبل الوقاية من الأخطار أو تدابير الأمان المصممة لضمان عدم تصعيد هذا الصراع وتحويله إلى مواجهة مباشرة بين روسيا وحلف الناتو. وفي أعقاب الصدام النووي الذي كاد يقع جراء أزمة الصواريخ الكوبية، على سبيل المثال، أوجد قادة الولايات المتحدة وأوروبا والاتحاد السوفياتي أنظمة مأمونة من العطل، أي اتفاقيات الحد من التسلح مثل “معاهدة القوى النووية متوسطة المدى”، وخطوات بناء الثقة كاتفاقيات الأجواء المفتوحة، لضمان ألا تؤدي الحروب بالوكالة في أرجاء العالم إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة.

وليس هناك، اليوم، معادل سيبراني لـ”معاهدة القوى النووية متوسطة المدى”، كما أنه ليس من سبيل للتفاوض على معاهدة من هذا النوع وإنفاذها في الحال. وثمة قدر ضئيل من الثقة حالياً بين الرئيس الروسي والحكومات الغربية، كما أن من الصعب تخيل كيفية بناء ما يكفي من الثقة من أجل إيجاد قواعد ومؤسسات جديدة (وكم سيستغرق ذلك). فمجلس الأمن الدولي يعاني تصدعاً على نحو لا ينفع معه الإصلاح، ومع عدم وجود بدائل واقعية في الأفق، فأفضل ما يمكن للزعماء أن يفعلوه هو الاستمرار في التواصل بصراحة واحترام في شأن الفرص المحتملة للحد من الضرر المتعاظم الذي يمكن للمواجهة بين روسيا والغرب أن تلحقه بالعالم. وفي الوقت الحالي، ترك المجتمع الدولي أمام حرب ليس هناك أولويات متفق عليها للحد من توسعها.

ومع ذلك، فإن زعماء الولايات المتحدة والدول الأوروبية يعتقدون أنهم يستطيعون منع الصراع من التفاقم والخروج عن السيطرة. إنهم يواصلون فرض عقوبات أشد صرامة من أي وقت مضى، وإرسال الأسلحة الفتاكة إلى كييف، ومشاركة المعلومات الاستخباراتية في الوقت الحقيقي مع القوات المسلحة الأوكرانية، والتشجيع على مزيد من التوسيع لحلف الناتو، والحديث عن المستقبل الأوروبي لأوكرانيا. إنهم يتحدثون كما لو أن رفضهم إرسال قوات تابعة للناتو إلى الأراضي الأوكرانية أو فرض منطقة حظر على الطيران في مجالها الجوي، من شأنه أن يضع حداً للمجازفة بانتقام روسي. والحق أن بوتين يعتبر سلفاً أن كل هذه الخطوات أعمال حرب [الغاية منها إثارة صراع عسكري مباشر]. وتقدر الولايات المتحدة وحلفاؤها أن تنفيذ هذه السياسات، بينما لا تتمتع روسيا اليوم بالقدرة على توجيه ضربة انتقامية كبيرة، أمر مشروع، لكن على قدر مايطول أمد الحرب، تزداد صعوبة منع التصعيد [والانزلاق] إلى صراع أوسع نطاقاً على كلا الجانبين.

وحتى إذا أقنع بوتين بإنهاء هذه الحرب من خلال اقتراح الاستيلاء على رقعة صغيرة من الأرض في شرق أوكرانيا، على أنه انتصار تاريخي بالنسبة لروسيا، فلن يعود الاستقرار النسبي الذي كان قائماً قبل 24 فبراير (شباط). ستكون الحرب الباردة الجديدة مفتوحة بلا نهاية، وستبقى روسيا إلى أجل غير مسمى مثقلة بعقوبات الحلفاء، وسيكون لها القليل من الروابط التجارية مع أوروبا، وهذه كانت تشجع على ضبط النفس. ومن المرجح أن يختبر بوتين في حال تعرضه إلى الإذلال، تصميم حلف الناتو. فيمكن لروسيا، على سبيل المثال، أن تضرب أهدافاً تابعة للحلفاء مثل قوافل أسلحة، ومراكز تدريب، ومستودعات تخزين في أوكرانيا. ويمكنها أن تقوم بهجمات سيبرانية محدودة ضد بنى تحتية مدنية في الولايات المتحدة ودول أوروبية. وقد تقطع إمدادات الغاز عن مزيد من الدول الأوروبية وتقيد صادرات بضائع بالغة الأهمية. فيتعرض قادة حلف الناتو وسط أزمة اقتصادية متفاقمة، إلى ضغوط هائلة من أجل الرد على هذه الاستفزازات بالمثل، ما يؤدي إلى المجازفة بتصعيد إضافي خطير.

وإذا  خسر بوتين دونباس، ووجد أن من المستحيل إعلان النصر في الداخل، تعاظمت مخاطر التصعيد. وفي هذا السيناريو ربما تفكر موسكو باستخدام أسلحة كيماوية من أجل تحويل الموازين، أو بمهاجمة منشآت تابعة لحلف الناتو في بولندا. ويمكن لقادة الولايات المتحدة والدول الأوروبية أن يردوا بشن هجمات مباشرة على ممتلكات أو أهداف روسية في أوكرانيا أو بفرض منطقة حظر على الطيران. وإذا  ردت واشنطن بتشديد العقوبات، فقد يتوقف الغاز على الفور عن التدفق إلى أوروبا. ويشعر كلا الجانبين بالرغبة في شن هجمات سيبرانية مدمرة على البنى التحتية البالغة الأهمية لكليهما. وعلى الرغم من أن كلا الإجراءين لا يزال مستبعداً، فلن يبقى مستحيلاً تصور استخدام أسلحة نووية ونشر قوات تابعة لحلف شمال الأطلسي. ومن دون وقايات أمان، ليس هناك وسيلة لتوقع المدى الذي يمكن أن يقود هذا المنطق الجديد.

*إيان بريمير هو الرئيس المؤسس لمجموعة أوراسيا.

مترجم من فورين أفيرز، مايو (أيار 2022

اندبندنت عربية

——————————–

نهايتان في أوكرانيا والاثنتان تحملان مخاطر كبرى/ روس دوثات

حمل الأسبوع الماضي معه القليل من الوضوح إلى الحالة الضبابية التي تكتنف حرب أوكرانيا. كان التاريخ المهم هنا 9 مايو (أيار)، الذي تزامن مع الاحتفال بذكرى انتصار الاتحاد السوفياتي في مواجهة ألمانيا بقيادة هتلر. وجاء اليوم ومر دونما تغيير في الاستراتيجية الروسية.

وعندما خرج فلاديمير بوتين لتفقد العروض العسكرية والصواريخ الباليستية العابرة للقارات، لم يَصدر إعلان كاذب بالنصر، ولا حتى إعلان عن تصعيد من شأنه أن يضع روسيا كلها في حالة حرب لتنطلق حملة تجنيد جماعي. ويبدو أن الخطة الروسية القائمة على فكرة استمرار الحرب الطاحنة في جنوب وشرق أوكرانيا، بهدف تغيير النظام، جرى التخلي عنها بشكل أساسي لصالح السيطرة على الأراضي التي قد يجري دمجها في النهاية داخل الاتحاد الروسي.

من وجهة النظر الأميركية، يبدو هذا كأنه انتقام استراتيجي. ورغم بعض التباهي المتهور بشأن دورنا في القضاء على الأهداف الروسية، تبقى الحقيقة أننا صعدنا بشكل مطرد دعمنا لأوكرانيا ـ بما في ذلك حزمة 40 مليار دولار التي من المحتمل أن يقرها مجلس الشيوخ، دون إثارة تصعيد متهور من قبل روسيا رداً على ذلك. أما مخاطرة أن تشجع الحرب الدائرة بالوكالة موسكو على التصعيد نحو صراع أكبر لم يتحقق منها سوى قعقعة سيوف على شاشات التلفزيون الروسي الحكومي، إلا أنها حتى الآن لم تنعكس على الخيارات الفعلية للكرملين. من الواضح أن بوتين لا يحب تدفق الأسلحة الأميركية إلى أوكرانيا، لكنه يبدو على استعداد لخوض الحرب وفقاً لهذه الشروط، بدلاً من الرهان على مخاطر وجودية أكبر.

وبوجه عام، هناك سيناريوهان يلوحان في الأفق على امتداد الأشهر الستة المقبلة من الحرب. في إطار الأول، تتبادل روسيا وأوكرانيا الأراضي بمساحات صغيرة، وتتحول الحرب تدريجياً إلى «صراع مجمّد» على نحو ما هو مألوف في الحروب الأخرى بالجوار القريب لروسيا.

في ظل هذه الظروف، ربما يتطلب أي اتفاق سلام دائم الإقرار بالسيطرة الروسية على بعض الأراضي المحتلة، في شبه جزيرة القرم ودونباس، إن لم يكن الجسر البري الذي تسيطر عليه الآن القوات الروسية في الغالب. وهذا من شأنه أن يمنح موسكو مكافأة واضحة على عدوانها، على الرغم مما خسرته في سياق هذه الحرب. وحسب مساحة الأراضي التي جرى التنازل عنها، فإن ذلك سيترك أوكرانيا مشوهة وضعيفة، رغم نجاحها العسكري.

لذلك قد تبدو مثل هذه الصفقة غير مقبولة من جانب كييف أو واشنطن أو كليهما. ورغم هذا، فإن البديل المتمثل في ظهور حالة من الجمود الدائم للصراع من شأنه كذلك أن يترك أوكرانيا مشوهة وضعيفة، ومعتمدة على تدفقات الأموال والمعدات العسكرية الغربية، وأقل قدرة على إعادة بناء نفسها بثقة.

إلا أنه ثمة سيناريو آخر تتضاءل فيه هذه المعضلة، لأن الجمود ينهار لصالح أوكرانيا. ويعد هذا السيناريو المستقبل الذي يدعي الجيش الأوكراني أنه أصبح في متناول اليد – بمعنى أن تنجح أوكرانيا، بمساعدة عسكرية وتوافر عتاد كافٍ، في تحويل هجماتها المضادة المتواضعة إلى هجمات كبرى تدفع الروس إلى التراجع؛ ليس فقط إلى خطوط ما قبل الحرب، بل وربما ينسحبون من الأراضي الأوكرانية بأكملها.

من الواضح أن هذا هو المستقبل الذي ينبغي لواشنطن أن ترغب فيه ـ باستثناء التحذير بالغ الأهمية بأن هذا المستقبل يصبح كذلك فيه التصعيد النووي الروسي فجأة أكثر احتمالية مما هو عليه الآن.

إننا ندرك جيداً أن تصور العقيدة العسكرية الروسية لاستخدام الأسلحة النووية التكتيكية يقوم على منظور دفاعي، من أجل قلب اتجاه المد في حرب خاسرة. ويجب أن نفترض أن بوتين وحاشيته يعتبرون الهزيمة الكاملة في أوكرانيا سيناريو يهدد النظام. وعندما تجمع هذه الحقائق مع عالم يشهد هزيمة الروس فجأة، وتتبخر فيه مكاسبهم الإقليمية، ستجد نفسك في مواجهة أكثر وضع عسكري يخيم عليه شبح الأسلحة النووية منذ الحصار البحري لكوبا عام 1962.

في الواقع، أقلب هذه التساؤلات في رأسي منذ أن توليت إدارة مناقشة في الجامعة الكاثوليكية الأميركية مع ثلاثة مفكرين من يمين الوسط معنيين بمجال السياسة الخارجية – إلبريدج كولبي وريبيكا هاينريش وجاكوب جريجيل. فيما يتعلق بحكمة دعمنا لأوكرانيا حتى الآن، اتخذ الثلاثة موقفاً موحداً بشكل أساسي. إلا أنه فيما يتعلق بمسألة نهاية الحرب والخطر النووي، ظهرت بجلاء التحديات التي نواجهها. من ناحيته، أكد جريجيل أهمية استعادة أوكرانيا للأراضي في الشرق وعلى طول ساحل البحر الأسود، من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي بشكل معقول في المستقبل، في الوقت الذي اشتعل فيه خلاف بين هاينريش الأكثر تشدداً، وكولبي الأكثر حذراً حول الموقف الذي يجب على أميركا اتخاذه في حالة مواجهة التقدم الأوكراني السريع بضربة نووية تكتيكية روسية.

ورغم أن هذا التساؤل ليس مطروحاً أمامنا مباشرة في الوقت الراهن، فإنه لن يتحول إلى مشكلة، إلا إذا بدأت أوكرانيا في تحقيق مكاسب كبيرة. ونظراً لأننا نتولى تسليح الأوكرانيين على نطاق يبدو أنه يهدف إلى جعل مسألة شنهم هجوماً مضاداً أمراً ممكناً، فإنني آمل بصدق في أن تبدأ مناقشة هذا السيناريو داخل المستويات الأعلى من الحكومة – قبل أن يتحول تساؤل مهم في الدوائر الأكاديمية حالياً إلى التساؤل الأهم على مستوى العالم.

* خدمة «نيويورك تايمز»

الشرق الأوسط

————————————-

=====================

نتيجة حصول خطأ فني في القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة” نستمر في تغطية هذا الملف الحيوي هنا

======================

تحديث 22 أيار 2022

———————-

الاستراتيجية الأميركية في أوكرانيا وتداعياتها المحتملة على العلاقة مع روسيا

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

بعد مرور نحو ثلاثة شهور على الغزو الروسي أوكرانيا، ما زالت القوات الروسية غير قادرة على تحقيق اختراق جوهري في الميدان. ورغم أن الاستراتيجية العسكرية الروسية تحوّلت، منذ منتصف نيسان/ أبريل 2022، من هدفها الرئيس المتمثل في السيطرة على العاصمة كييف وإسقاط نظام الرئيس، فولوديمير زيلنسكي، إلى التركيز على شرق أوكرانيا، وتحديدًا منطقة دونباس، فإن هجومها البرّي ما زال يواجه مقاومة شديدة تعوق تقدّمه. ويمكن تفسير فشل روسيا، حتى الآن، في تحقيق أهدافها العسكرية في أوكرانيا، بنجاح الاستراتيجية الدفاعية التي تسهم الولايات المتحدة الأميركية في وضعها، في تحميل موسكو تكاليف باهظة اقتصاديًا، وعسكريًا، واستراتيجيًا.

الاستراتيجية الأميركية في أوكرانيا

يعود تعثّر الاستراتيجية الروسية في أوكرانيا إلى الدعم الكبير الذي يقدّمه الغرب، وتحديدًا واشنطن، لكييف من الأسلحة المتطوّرة، فضلًا عن مشاركة معلومات استخباراتية حساسة معها، كان لها أثر مهم في توجيه ضربات موجعة إلى القوات الروسية. ومن هنا، يأتي الاتهام الروسي للولايات المتحدة بأنها منخرطة في الحرب مباشرة ضدها؛ وهو أمر يثير قلقًا من إمكانية الانزلاق نحو مواجهة عسكرية بين البلدين النوويين. وتحاول إدارة الرئيس جو بايدن أن تحافظ على توازنٍ صعبٍ بين استمرار تدفق الدعم لكييف بهدف ضمان هزيمة موسكو، وفي الوقت نفسه، عدم استفزاز هذه الأخيرة إلى الحدّ الذي يضطرّها إلى الرد في حال تهديد أمنها القومي أو استقرار نظام الحكم فيها. 

ومنذ تعاظم الحشود العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا، في كانون الأول/ ديسمبر 2021، أعلنت إدارة بايدن أنها ستعمل على استراتيجية توازن بين أمرين: عدم الانجرار إلى صراع عسكري مع روسيا. ورفع التكلفة الاقتصادية والسياسية والعسكرية على موسكو إلى “مستوى غير مسبوق”، إذا هي مضت في الخيار العسكري ضد أوكرانيا.

اقتصاديًا، فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون وغيرهم سلسلة من العقوبات الدبلوماسية والاقتصادية والمصرفية والتكنولوجية والعسكرية والتقنية المتتالية، التي لحقت مؤسسات الدولة الروسية وبنوكها ومصارفها. ولم يسلم قطاع الطاقة الروسي الذي يمثل شريان اقتصاد الدولة، من تلك العقوبات؛ ما فاجأ الكرملين الذي راهن على إحجام الاتحاد الأوروبي عن فرضها جرّاء اعتماد كثير من دوله على وارادات النفط والغاز من روسيا، غير أن العقوبات الغربية ذهبت إلى أبعد من ذلك؛ إذ شملت، أيضًا، رموز الحكم في روسيا وطبقة الأوليغارشية المتحالفة معها في مسعىً إلى خلخلة بنية نظام الرئيس فلاديمير بوتين من داخله. وفعلًا، نجحت تلك العقوبات في عزل روسيا عالميًا إلى حد بعيد، وأنهكت اقتصادها إنهاكًا واضحًا.

عسكريًا، التزمت إدارة بايدن بوعدها بأن تجعل أي عمل عسكري روسي، إن حصل، في أوكرانيا باهظ التكلفة، وذلك عبر حزم من المساعدات العسكرية الفتاكة للأوكرانيين. ومع أنه كان هدّد بوتين في القمة الافتراضية التي جمعتهما، في كانون الأول/ ديسمبر 2021، بأن واشنطن وحلفاءها سيقدّمون دعمًا عسكريًا لأوكرانيا، بما في ذلك أسلحة هجومية متقدّمة، في حال أقدمت روسيا على غزوها، فإن الروس استخفوا على ما يبدو بكلام بايدن، ولم يقدّروا بدقة الدور الذي ستؤدّيه هذه الأسلحة في ساحة المعركة، فقد ساهم التسليح الأميركي والغربي الكبير للقوات الأوكرانية في تغيير موازين القوى على الأرض، وترافق ذلك مع سوء التخطيط العسكري الروسي، وضعف خطوط الإمدادات اللوجستية، وغياب التغطية الجوية للقوات البرّية الغازية، وعدم تأمين أنظمة اتصال متطوّرة لضمان عدم التجسّس عليها، فضلًا عن الاعتماد على قواتٍ من المجنّدين الإجباريين، وليس القوات المحترفة. وقد تسبب ذلك كله في إلحاق خسائر فادحة بالقوات الروسية؛ ما قاد، بحسب تقارير غربية، إلى انهيار معنويات الجنود الروس وتمرّد عدد منهم على الأوامر.

ومنذ بدء الغزو، قدّمت الولايات المتحدة وحلفاؤها من الأوروبيين وفي حلف شمال الأطلسي “الناتو”، ومن خارجهما، ككوريا الجنوبية واليابان، مساعدات عسكرية تقدر بمليارات الدولارات، شملت قاذفات صواريخ خفيفة، وطائرات هجومية من دون طيار، وصواريخ ستينغر وجافلين، وأنظمة رادار وتعطيل اتصالات وتجسّس. وفي الأسابيع الأخيرة، بدأ يتضح من تصريحات مسؤولين أميركيين أن هدف الولايات المتحدة في أوكرانيا لم يعد محصورًا في ضمان هزيمة روسيا، بل في إضعافها “إلى درجة لا تستطيع معها تكرار ما قامت به من غزو لأوكرانيا”.

علاوة على ذلك، جاءت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بنتائج عكسية سياسيًا وأمنيًا على مصالح روسيا، فقد كانت روسيا أعلنت أن أحد أسباب غزو أوكرانيا يتمثل في منع الأخيرة من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو ما ترى فيه موسكو تهديدًا لأمنها القومي على حدودها الجنوبية الغربية. بل ذهب بوتين إلى أبعد من ذلك، إلى حد اشتراط سحب “الناتو” قواته وأسلحته من عدد من دول أوروبا الشرقية، وجمهوريات البلطيق الثلاث، ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفياتي. الآن، أعلنت فنلندا، رسميًا، وبتشجيع أميركي، سعيها إلى الانضمام إلى “الناتو” في أقرب وقت ممكن. ومن شأن ذلك أن يوسّع حدود روسيا المشتركة مع الحلف من نحو 700 كيلومتر حاليًا إلى أكثر 1600 كيلومتر. وعلى الرغم من تحذير موسكو من “اتخاذ خطوات انتقامية، سواء ذات طبيعة عسكرية تقنية أم غيرها، لوقف التهديدات لأمنها القومي التي تنشأ في هذا الصدد”، فإن المرجّح أن فنلندا ستنضم بالنتيجة إلى الحلف، وقد تلحق بها السويد.

تطوّر الدعم الأميركي لأوكرانيا

لتحقيق أهداف الاستراتيجية الأميركية المتمثلة في هزيمة روسيا، وإضعافها، عملت إدارة بايدن على مضاعفة دعمها أوكرانيا في مسارين: عسكري واستخباراتي.

1. عسكريًا

منذ 18 نيسان/ أبريل 2022، ومع فشل روسيا في السيطرة على كييف أو إطاحة نظام زيلنسكي، تحول تركيزها إلى منطقة دونباس، ومحاولة الاستيلاء على ميناء ماريوبول الاستراتيجي لتأمين ممرّ ساحلي إلى شبه جزيرة القرم التي احتلتها في عام 2014. وقد تحرّكت واشنطن وحلفاؤها مباشرة لتزويد أوكرانيا بكل ما يساعد في إفشال الأهداف الروسية. وبحسب المعطيات المتوفرة، تلقت أوكرانيا مزيدا من صواريخ جافلين وستينغر، وأجهزة تشويش لإرباك الطائرات من دون طيار الروسية، فضلًا عن كمياتٍ كبيرةٍ من الذخائر والقذائف الصاروخية وطائرات من دون طيار. وبدأت واشنطن وحلفاء لها، في الآونة الأخيرة، بتزويد كييف بمدافع الهاوتزر “M777” التي تمتاز بدقتها وقوتها وفاعليتها ضد المدرعات والدبابات. وبحسب خبراء عسكريين أميركيين وأوكرانيين، ساهمت هذه المدافع في “تغيير قواعد اللعبة” في المعارك البرّية في شرق أوكرانيا. ويبلغ أقصى مدى لهذه المدافع 25 كيلومترًا تقريبًا، وتطلق قذائف دقيقة التوجيه، مستخدمةً نظام تحديد المواقع العالمي”GPS”. وقد تلقت أوكرانيا من الولايات المتحدة وحدها حتى الآن 85 مدفعًا من أصل 90 تعهدت بها، بينما ينتظر أن ترسل أستراليا ستة وكندا أربعة، كما جرى تدريب 310 جنود أوكرانيين على استخدامها. ولا تقف حدود الدعم الأميركي عند هذا الحد؛ إذ صوّت مجلس النواب الأميركي، في 10 أيار/ مايو 2022، بأغلبية كبيرة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، على مشروع لتقديم مساعدات ضخمة لأوكرانيا، عسكرية وإنسانية واقتصادية، بقيمة 40 مليار دولار. وينتظر أن يمرّر مجلس الشيوخ المشروع نفسه في الأيام المقبلة، وهو ما رحّبت به إدارة بايدن التي كانت طلبت من الكونغرس حزمة مساعداتٍ بقيمة 33 مليار دولار.

2. استخباراتيًا

لا تقف تحرّكات واشنطن لاحتواء روسيا وإضعافها عند حد تقديم السلاح، بل تقدّم، بحسب وسائل إعلام أميركية، معلومات استخباراتية تساعد أوكرانيا في تحديد أهداف عسكرية روسية ومهاجمتها. وتفيد المعلومات المتوافرة بأن القوات الأوكرانية تمكّنت، بفضل هذه المعلومات الاستخباراتية، حتى الآن، من قتل 12 جنرالًا روسيًا. وكان مصدر في إدارة بايدن كشف سابقًا أن واشنطن هي التي قدّمت المعلومات التي مكنت القوات الأوكرانية من قصف وإغراق أحد أهم قطع الأسطول الروسي في البحر الأسود، الطراد موسكفا، في نيسان/ أبريل 2022. ولا تكتفي واشنطن بتقديم المعلومات الاستخباراتية لاستهداف الجنرالات، والقوات الروسية عمومًا ومراكز تجمعها، بل تقدّم للقوات الأوكرانية أيضًا أسلحة خاصة تمكّنها من جمع مثل هذه المعلومات، مثل طائرات من دون طيار من طراز Switchblade، القادرة على القيام بمهماتٍ مثل استهداف الجنود والضباط الروس وتدمير المركبات العسكرية.

وقد أثار كشف وسائل إعلام أميركية هذه المعلومات استياء إدارة بايدن، خشية أن تؤكّد رواية الكرملين إن الولايات المتحدة هي التي تقود (وتوجّه) الحرب ضدّها في أوكرانيا. وتخشى إدارته أيضًا من أن تتّخذ موسكو هذه المعلومات ذريعة للقيام بردٍّ ما ضد مصالح واشنطن؛ ما قد يقود إلى تصعيدٍ بين الطرفين لا تريده إدارة بايدن. وقد اضطر الرئيس الأميركي إلى توبيخ كبار مسؤولي الأمن القومي في إدارته على هذه التسريبات وطالبهم بوقفها، ولم تنكر إدارته صحتها. ويقول المسؤولون الأميركيون إنهم لا يُنكرون تقديم معلوماتٍ استخباراتيةٍ للأوكرانيين لتطوير ردّهم العسكري على الغزو الروسي، إلا أنهم ليسوا المصدر الوحيد لها، كما أن كييف هي التي تقرّر كيف ستستفيد منها، وهي لا تستشير الولايات المتحدة عند اتخاذها قرارًا تراه في مصلحتها عسكريًا. لكن الوقائع تشير، بحسب بعض المراقبين، إلى أن “الولايات المتحدة متورّطة في هذه الحرب بكل الطرق تقريبًا، باستثناء القتال المباشر ضد الروس”.

خاتمة

مع أن إدارة بايدن تنكر تورّطها في هذه الحرب، فإن روسيا مقتنعة بأن الولايات المتحدة و”الناتو” يخوضان حربًا بالوكالة ضدها في أوكرانيا. ويتوجّس خبراء أميركيون من أن رفع واشنطن سقف أهدافها في أوكرانيا، والمتمثلة الآن في إذلال روسيا وهزيمتها، قد يدفع الرئيس بوتين اليائس إلى التصعيد، وخصوصًا إذا ما أحسّ أن نظام حكمه مهدّد. ورغم تقدير الاستخبارات الأميركية بأنه لن يلجأ إلى الحرب النووية، إلا إذا شعر بتهديد لأمن روسيا القومي، فإن سقف المسؤولين الروس يبدو أكثر انخفاضًا ويثير التكهنات، إذ يصعُب تحديدُه. وعلى هذا الأساس، تحاول إدارة بايدن، قدر الإمكان، الموازنة بين هدفها الاستراتيجي، استغلال هذه الحرب وعدم تفويت الفرصة لتلقين بوتين درسًا عبر منع روسيا من تحقيق أهدافها في أوكرانيا (وإضعافها إلى حد كبير)، وعدم استفزازها إلى حد تضطرّ فيه إلى الدخول في مواجهة عسكرية مع “الناتو”، ستكون بالضرورة نووية؛ ذلك أن روسيا غير قادرة على هزيمة قوات الحلف تقليديًا. وفي هذا السياق، وفي محاولة لضبط التصعيد، ترفض إدارة بايدن تزويد أوكرانيا بأي أسلحة هجومية قادرة على ضرب العمق الروسي.

العربي الجديد

———————–

صاروخ روسي يضرب علاقة موسكو بتل أبيب/ أحمد رحّال

لم يكن مستغرباً ربط نتائج الحرب الروسية في أوكرانيا بالملف السوري. اتهامات وزير الخارجية الروسي، لافروف، لإسرائيل بتمرير مقاتلين مرتزقة للقتال إلى جانب الأوكرانيين، ونسبه الخلفية اليهودية لزعيم النازية هتلر، كانا ردّاً على موقف تل أبيب المتماهي مع الغرب والعقوبات الغربية نتيجة الحرب في أوكرانيا، وتلك أمور عكّرت صفو العلاقات الإسرائيلية الروسية التي جعلت من رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، ننتياهو، يحجّ إلى موسكو بشكل دوري لتنسيق الأعمال العسكرية في سورية، خصوصاً بعد تعهّد موسكو خلال السنوات الأخيرة بتحجيم الوجود الإيراني في سورية، واستمر صفو العلاقة بين القيادتين، الروسية والإسرائيلية، مع حكومة الاحتلال الراهنة، برئاسة نفتالي بينت.

منذ التدخل العسكري الروسي الميداني في سورية في نهاية سبتمبر/ أيلول 2015، حافظت تل أبيب على علاقاتٍ طيبة مع موسكو، بعد إحداث خط ساخن بين غرفة عملياتها في حيفا وعمليات قاعدة حميميم، والاتفاق على التنسيق الدائم بما يخص الملف السوري، بعد شروط متبادلة وضعها كل طرفٍ على الآخر، لضمان حسن سير العمل وعدم الوقوع في أخطاء تتسبّب بصدام عسكري في السماء السورية، فتعهدت موسكو بعدم إعاقة ضربات الطيران والصواريخ الإسرائيلية، وتعهدت تل أبيب، في المقابل، بعدم إحراج الروس وتنفيذ ضرباتها الجوية ليلاً، واختلفوا على جزئية زمن الإعلام المسبق عن الضربات. وكانت موسكو تصرّ على 15 دقيقة ما قبل الضربات، وأصرت تل أبيب على ما بين ثلاث وخمس دقائق فقط، حرصاً على سلامة طياريها، ولمنع فشل ضرباتها، لأنها لا تثق بالروس، لأنهم حكماً سيبلغون إيران وحزب الله ونظام الأسد عن المواقع المستهدفة.

حافظت موسكو، نحو سبع سنوات، على عدم التعرّض المباشر للهجمات الإسرائيلية في الأراضي السورية، والاكتفاء ببيانات تنديدٍ إعلامية روتينية لا تزعج تل أبيب، لكن القيادة العسكرية الإسرائيلية لاحظت، في بعض الأحيان، أن عملية التصدّي لصواريخها المطلقة على أهداف للحرس الثوري الإيراني، أو لمواقع تتبع حزب الله، كانت تتعرّض لمضادّات ليست سورية، ثم أعلنت قاعدة حميميم صراحة أن مضادّاتها الجوية شاركت في التصدّي لصواريخ أطلقتها طائرات إسرائيلية من فوق قاعدة التنف، وأن تصدّياً روسياً آخر جرى لصواريخ أطقت على أهداف إيرانية في محيط السيدة زينب وفي منطقة الكسوة. وقالت مصادر وزارة الدفاع الإسرائيلية إن مراصدها ووسائط استطلاعها أكدت وجود زيادة في أعداد بطاريات الدفاع الجوي لدى نظام الأسد من منظومات “بوك إم2” و”بانتسير”، ما يدلّ على دعم روسي جديد وواضح لنظام الأسد لإفشال الضربات الإسرائيلية.

ترافقت مواقف تل أبيب الداعمة للغرب في الحرب الروسية على أوكرانيا مع اضطرار روسيا لسحب عدة قيادات ميدانية من جنرالات الروس العاملين في قاعدة حميميم والجبهات الساخنة في سورية إلى غرف عملياتها في أوكرانيا، ومنهم الجنرال ألكسندر دفورنيكوف الذي نقله بوتين من سورية، وعينه قائداً للقوات الروسية العاملة في الأراضي الأوكرانية، وترافقت تنقلات الضباط الروس مع انسحاب عدة وحدات روسية مقاتلة من نقاط عسكرية مهمة، كانت تشغلها في حلب وحماة وتدمر وأرياف الرقة، وتلك الفراغات العسكرية استغلّها الجانب الإيراني، وقام بالسيطرة عليها، خصوصاً بعد زيارتي استجداء لطهران، قام بهما اللواء علي مملوك ورئيس النظام السوري بشار الأسد، وتمحورت معظم نقاشات الزيارتين على كيفية ملء فراغ الانسحاب الروسي (الجزئي أو الكلي)، لمنع تغيير موازين القوى والخرائط الحالية داخل سورية على أقل تقدير.

التغوّل الإيراني في الجغرافيا السورية وسيطرة الحرس الثوري الإيراني على مراكز البحث العلمي ومراكز التصنيع السورية، مع زيادة طاقة خطوط الإنتاج العسكري من صواريخ معدّلة تمتلك زيادة في دقة إصابتها، وقرار إيراني جديد بتحديث مخزون حزب الله من صواريخ تقليدية، ومع تراجع موسكو عن تعهداتها لتل أبيب بتحجيم الوجود الإيراني في سورية وإبعاده عن الجولان ما بين 40 إلى 80 كم، خصوصاً بعد وصول مليشيات إيران للانتشار على بعد مئات الأمتار من الحدود السورية مع الجولان المحتل، الأمر الذي أتى بعد نقل إيران مليشيات “كتائب الإمام” من مواقعها في الميادين والبوكمال والبادية السورية إلى أرياف القنيطرة وأرياف درعا في الجنوب السوري، هذا ما انعكس تصعيداً إسرائيلياً عبر ضربات صاروخية وجوية متتالية، لكن إسرائيل اتخذت، في المرحلة الأخيرة، إجراءات احترازية لمنع الصدام مع الروس، فباتت ضرباتها ضد أهداف حزب الله والحرس الثوري الإيراني في سورية تجرى إما عبر صواريخ أرض – أرض تطلق من مرابض تتموضع في الجولان السوري المحتل، أو عبر طائرات تقصف من خارج الأجواء السورية عبر سماء لبنان أو البحر المتوسط، وفي الحالات الحرجة تستخدم إسرائيل طائرات من طراز إف 35 العصية على الكشف بوسائط الاستطلاع الروسية الأكثر حداثة.

قصفت طائرات إسرائيلية، في 14 مايو/ أيار الحالي، مواقع الحرس الثوري الإيراني في منطقة مصياف في أرياف حماة، حيث يوجد أحد مراكز البحث العلمي، وأطلقت حينها 22 صاروخاً، جرى اعتراض بعضها ووصل الآخر إلى أهدافه. ولدى تشغيل نظام الأسد بطارية دفاع جوي للاعتراض، دمّرت الطائرات الإسرائيلية تلك البطارية، وفجأة تخرج قاعدة حميميم لتعلن عن إطلاقها صاروخاً من إحدى قطعاتها العسكرية باتجاه طائرة إسرائيلية شاركت في الهجوم على أهداف إيران في سورية، وتذرّعت، بحسب مصادر خاصة، بأن هذا كان رداً على تهديد أحد صواريخ الطائرات الإسرائيلية إحدى عربات منظومة الدفاع الجوي الروسية إس 400 التي تنتشر في منطقة مصياف.

كان الخبر الذي أعلنته القناة 13 في التلفزيون الإسرائيلي مفاجئاً لكل التوقعات، وإقدام موسكو على تلك الخطوة، وإن تعمدت (بحسب مصادرها)، إبعاد صاروخها عن الطائرة الإسرائيلية لعدم إصابتها والوقوع في صدام غير محسوب مع تل أبيب، يفتح العلاقات الروسية الإسرائيلية على الاحتمالات كافة، بما فيها احتمال صدامٍ عسكري فوق الأراضي السورية. ولكن موسكو المنشغلة عسكرياً اليوم بحربها على كييف، وتبعات تلك الحرب من عقوباتٍ غربيةٍ أنهكتها، وجعلتها تدفع أثماناً باهظة لها، ليست في موقع تحتاج فيه مزيداً من العداوات مع الغرب، إذا ما اصطدمت مع إسرائيل، وهي المدركة أن تل أبيب شكّلت، في وقتٍ ما، بوابتها للحوار مع الغرب، ومع السياسيين الأميركيين بالتحديد. وتدرك موسكو تماماً أنه في حال اندلاع مواجهة (ولو فرضياً) مع تل أبيب فهي غير قادرة على تخصيص الجهود الجوية الكافية لمواجهة القدرات العسكرية لإسرائيل، والتي تعد أكبر وأحدث قوة عسكرية جوية في جيوش دول منطقة الشرق الأوسط. وتدرك ايضاً أن قدرات إسرائيل في مجال الحرب الإلكترونية فائقة ومتقدّمة، وأن إسرائيل تتشارك مع الولايات المتحدة المركز الأول للدول المتقدّمة بتقنيات الحرب الإلكترونية والطيران المسير وعمليات التشويش الإلكتروني، وأن استخدام إسرائيل تقنياتها من التشويش الإلكتروني ضد الوجود الروسي في سورية سيجعل من شاشات راداراتها، وكل وسائط سطعها، بيضاء ومن دون قدرة على تشغيلها والاستفادة منها، بل أكثر من ذلك أن تقنيات التشويش الإسرائيلي قادرة على شل كل منظومات الاتصال الروسية البرّية والبحرية والجوية، وبالتالي ستكون الطائرات الإسرائيلية مفصولة تماماً عن قيادتها العملياتية بمجرّد إقلاعها عن مدرّجاتها في قاعدة حميميم.

وصلت الرسالة الروسية إلى تل أبيب، لكن الرد لم يأتِ بعد، فهل نكون أمام صدام حقيقي بين قوتين مدمرتين، وهو أمر مستبعد لكنه وارد، أم نكون أمام رسم قواعد اشتباك جديدة بين موسكو وتل أبيب، لن تتخلى فيها إسرائيل حتماً عن حريتها بقصف كل ما يهدّد أمنها القومي؟

——————-

ماراتون العقوبات الروسي الإيراني/ بسام مقداد

في حديث هاتفي مع بايدن آخر السنة المنصرمة، حذر بوتين نظيره الأميركي  من أن روسيا سوف تقطع  علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة في حال فرض عقوبات جديدة عليها. وجاء تحذير بوتين هذا رداً على تأكيد بايدن من أنه لم يتبقَ أمام واشنطن سوى خيارين: أو الدبلوماسية أو لجم روسيا بواسطة العقوبات. لكن بوتين لم يقطع العلاقات الدبلوماسية، مع أن العقوبات على روسيا متواصلة بشكل شبه يومي منذ بداية الحرب على أوكرانيا، وليس من قبل الولايات المتحدة فحسب، بل ومن جانب جميع الدول الديموقراطية المتطورة. فقد أعلن مفوض الإتحاد الأوروبي للشؤون الإقتصادية منذ أيام أن الحزمة السادسة من العقوبات مجمدة “مؤقتاً” بسبب خلافات داخل الإتحاد بشأن الحظر الشامل على إستيراد النفط والغاز من روسيا، حسب الخدمة الروسية في “الحرة” الأميركية.

رُزم العقوبات توالت مطراً على روسيا بعد شن بوتين حربه على أوكرانيا، وجرفه سيلها إلى المرتبة الأولى بين البلدان التي تتعرض للعقوبات، وتتفوق على إيران في حجمها وتشعباتها المالية والإقتصادية والعسكرية. فقد نشر المجلس الروسي للعلاقات الدولية  RIAC على موقعه في 18 الجاري نصاً بعنوان “سيناريو إيراني سريع الوتيرة لروسيا”. يقول واضعو النص الثلاثة (ما يندر في صحافتنا) أنه في يوم إنطلاق “العملية الخاصة” ضد أوكرانيا سارع عدد من كبار المسؤولين الأوروبيين والأميركيين للدعوة لتشديد العقوبات على روسيا. وفي الوقت عينه إقترح وزراء خارجية دول البلطيق إدانة ذلك بشدة من قبل المجتمع الدولي بأسره، وفرض أقسى العقوبات ضد روسيا، بما في ذلك طردها من نظام SWIFT وعزلها سياسياً.

يرى أحد واضعي النص أن سيناريو العقوبات الروسي شبيه بسيناريو العقوبات التي تفرض على إيران. لكن، على الرغم من أوجه الشبه بين السيناريوهين، ثمة فروق في سرعة كل منهما. فالعقوبات التي  فًرضت على إيران خلال عشر سنوات جرى فرضها خلال أسابيع على روسيا، وهي “أشد عمقاً” منها. في إيران تم طرد البنك المركزي من نظام التحويلات المالية  SWIFT،ولم يتم المس بالمصارف الأخرى على غرار ما جرى في روسيا.

ويرى مشارك آخر في وضع النص أن روسيا وإيران تتشابهان في كونهما بلدين مصدرين للنفط والغاز، وأهمية عائدات هذه الصادرات متشابهة في كلا البلدين. ووجه الشبه الآخر يتمثل في الشبكة الواسعة من قوانين العقوبات التي أخذ الباحثون الأميركيون يدعونها “عنكبوت قوانين العقوبات” حيال إيران، والذي أخذ يتشكل عنكبوتاً مماثلاً حيال روسيا الآن. كما يرى الرجل أن روسيا وإيران متشابهتان أيضاً في العدد الكبير من الأفراد والكيانات القانونية التي تخضع للعقوبات، مع رجحان كفة روسيا. كما تتشابه الدولتان في حجم ضوابط التصدير الواسعة على الصادرات، والتي تتقدم فيها روسيا على إيران.

لكن هذا المشارك يرى فروقا جوهرية  بين الحالتين تتمثل أولها في أسباب فرض العقوبات. في الحالة الإيرانية تتراوح هذه الأسباب من البرنامج النووي والصواريخ وحقوق الإنسان وصولاً إلى مسألة الديموقراطية وسواها. أما في الحالة الروسية فالسبب الرئيسي هو الصراع المسلح، والذي يصعب التوافق بشأنه أكثر مما بالنسبة للبرنامج النووي، وذلك لتفوق عدد بارامترات التوافق بشأنها.

يعدد الرجل البلدان والعقوبات التي فرضها كل بلد، وينقل عن وزير الخارجية الأميركي قوله بأن الولايات المتحدة ستواصل فرض العقوبات على روسيا “طالما ذلك ضروري”. وقرار فرض الحظر على صادرات النفط والغاز الروسية قد اتخذ عملياً، لكن ليس كل البلدان بوسعها الإنضمام إليه. في حالة المجر المسألة سياسية على الأرجح، فالصداقة الشخصية بين بوتين والرئيس المجري تجعله ينسف الحزمة السادسة من العقوبات الأوروبية المؤجلة حتى الآن. لكن قرار هذه الحزمة قد اتخذ، ولن تعرقل تنفيذه إعتراضات المجر وسلوفاكيا اللتان تطالبان بإستثناءات  وتعويضات ما لاعتمادهما الواسع على النفط الروسي.

يفترض أحد كتاب النص أنه في حال تحسن الوضع الجيوإستراتيجي قريباً، سيحاول الإتحاد الأوروبي التراجع عن كل ما يتعلق بالنفط والغاز، ثم تلي المصارف. لكن في حال  استمر الوضع متوتراً، فسوف يكون من الصعب على روسيا العودة إلى سوق الطاقة في الإتحاد الأوروبي.

يشير الموقع إلى أن إلغاء العقوبات، ولو جزئياً، سيكون صعباً، ويتعين توقع تشديدها وتشديد الرقابة على الإلتزام بها. والعودة إلى ما كان عليه الوضع قبل “العملية الخاصة” محتملة فقط في حال إنفراج الوضع الجيوإستراتيجي. وعملية الإلغاء قد تصطدم بعدد من العوائق البيروقراطية والموقف السياسي لعدد من البلدان، مما سيمدد العملية لوقت طويل.

الطرفان الروسي والإيراني يساندان بعضهما بوجه العقوبات الغربية، لكن كلاً منهما يتحين في الوقت عينه فرص التكسب من العقوبات على الآخر. فقد نشر موقع وكالة الأنباء الإقتصادية الروسية prime  أواخر الشهر المنصرم نصاً بعنوان ” رجال الأعمال الإيرانيين يقيمون فوائد العقوبات ضد روسيا”. نقل الموقع عن نائب رئيس لجنة تصدير النفط في غرفة التجارة الإيرانية مصطفى موسوي تصريحه بأن العقوبات الغربية ضد روسيا قد تتيح لإيران تصدير المزيد من السلع إلى السوق الروسية، وإقتطاع حصة كبيرة منه. وقال الموسوي بأن ظروف الحرب مع أوكرانيا ستمهد الطريق لإيران لاقتطاع حصة “ليست سيئة” من السوق الروسية، وتصدير المزيد من السلع إلى هذا البلد، وتتوفر لإيران إمكانيات تطوير التجارة معه. لكنه أشار إلى أن العمليات المالية هي مشكلة إيران الأهم في تبادلها التجاري مع روسيا. والقيود التي فرضها فصل المصارف الروسية عن نظام SWIFT سيخلق الكثير من المشاكل لروسيا، مما سيحتم “علينا” ضرورة التخطيط جيداً لتطوير التبادل التجاري معها.

في مطلع الشهر المنصرم نشر موقع قناة التلفزة الروسية RTVI نصاً بعنوان “إيران إقترحت على  روسيا طرق التحايل على العقوبات الأميركية”. فقد نقل الموقع عن نائب حاكم البنك المركزي الإيراني للشؤون الدولية محسن كريمي قوله بأن إيران، استناداً لتجربتها الغنية تحت العقوبات خلال السنوات الأخيرة، اتخذت التدابير الضرورية للتخلص من نفوذ الهيمنة الأميركية والدول المعادية، واقترحتها على الجانب الروسي. وأضاف كريمي أن السلطات الإيرانية ترغب في القيام بعمليات تجارية مع روسيا بالروبل والريال، وأشار إلى أن “الإمكانيات والإتفاقيات متوفرة”.

يقول الموقع  بأن بعض البلدان تبحث في إمكانية التبادل التجاري مع روسيا بالعملات الوطنية مثل الهند وتركيا. ويدعم قوله هذا بالإشارة إلى تصريح كل من السفير السوري والنيجيري في موسكو عن إستعداد بلديهما للتبادل التجاري مع روسيا بالعملات الوطنية.

يستعرض الموقع تطورات الوضع الإقتصادي الإجتماعي في إيران وفنزويلا بظل العقوبات، ويؤكد أن روسيا تتميز عنهما بسعة السوق الداخلية والإعتماد الأقل على الخامات والإمكانيات الأكبر للإنتقام من الغرب. لكنه يستدرك بالقول أنه ، على الرغم من أن نصيب الفرد من الناتج الإجمالي في روسيا من غير المحتمل أن يتدنى إلى مستوياته في إيران وفنزويلا، إلا أنه لا ينبغي إستبعاد إحتمال إنخفاضه النسبي. 

روسيا أيضاً ليست ضد الإفادة من العقوبات الغربية على إيران. فقد نشرت صحيفة الكرملين VZ  في خريف العام 2018 نصاً بعنوان “اتضح كيف استفادت روسيا من العقوبات الأميركية على إيران”. ونقلت عن صحيفة أميركية قولها بأن روسيا كانت المنتصر الرئيسي من تجديد العقوبات الأميركية على إيران، حيث إستغلتها لزيادة مبيعات نفطها.

—————————-

بعد أوكرانيا.. لماذا أعادت واشنطن حساباتها داخل سوريا؟/ علي تمي

الغزو الروسي لأوكرانيا هو طموح قديم جديد لـ”بوتين”، فبعد وصوله إلى الحكم، عام 2000، وضع نصب عينيه استعادة السيطرة على الجمهوريات السوفييتة السابقة، هذه الطموحات دفعته للانزلاق إلى المستنقع الأوكراني، في محاولة يائسة منه لإعادة أمجاد “الاتحاد السوفييتي” وتقسيم السيطرة على العالم مع الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة، ووقف تمدّد الناتو نحو دول البلطيق وجنوب شرقي بحر المتوسط، كونها تعتبر أوكرانيا الدرع الجغرافي لحماية روسيا  الاتحادية.

ومن هذا المنطلق  وجد “بوتين ” نفسه أمام خيارين: إمّا القبول بانضمام كييف إلى الاتحاد الأوروبي ومن ثم الناتو والوقوف متفرجاً، أو القيام بغزو أوكرانيا ومحاولة قلب نظام الحكم فيها كما فعل في الشيشان التي أعلن رئيسها “قاديروف”، نهاية عام 2014، خلال كلمة وجهها إلى الشعب الشيشاني وكل الشعوب الروسية، عن ولائه المطلق للقائد العام، الرئيس فلاديمير بوتين.

بوتين كان يرغب بتكرار التجربة ذاتها داخل أوكرانيا من خلال  وضع  رئيس موال له على سدّة الرئاسة، لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، وما حدث لم يكن بالحسبان، فدخول الناتو منذ اليوم الأول في معركة الدفاع عن كييف كان خياراً استراتيجياً حاسماً لا بد منه.

المواجهة مع موسكو داخل أوكرانيا هي بمنزلة معركة وجود، لأن الصين بدورها كانت تنتظر  انتصار بوتين في أوكرانيا حتى تُقدم هي أيضاً على غزو تايوان، والأوروبيون بدورهم يعتبرون أوكرانيا الدرع السياسي للاتحاد الأوروبي، والجدار الذي يحمي برلين من أي تمدد روسي محتمل  نحو العمق الأوروبي.

بوتين أخطأ في حساباته وخسر معركة السيطرة على كييف، ومن ثم  أعاد انتشار قواته في مناطق مختلفة شرقي أوكرانيا، الفاتورة كانت باهظة له ولجيشه الذي خسر هيبته في العالم، وبات وزير خارجيته “لافروف” يتغنّى ليل نهار بالنووي في وجه أوروبا، في دليل واضح على عدم القدرة على حسم المعركة لصالحهم.

وبناء عليه فقد أعاد انتشار قواته وغيّر من استراتيجيته العسكرية التكتيكية، إذ يحاول اليوم التمركز داخل مناطق محددة في شرقي أوكرانيا للمحافظة على قواته المتبقية وحدود دولته من تمدد أطماع الغرب التوسعية في شرقي آسيا وشرقي المتوسط.

الخطوة التصعيدية الأميركية التالية ضد الروس كانت بالعمل على ضم استوكهولم وهلسنكي إلى الناتو، وهذه إن دلت على شيء فإنها تدل على خسارة الروس في المعركة وفقدان السيطرة على الدول المتاخمة لحدودها، مشروع توسّع الناتو يصطدم اليوم برفض تركي قاطع.

فمن المعروف أن السويد تحتضن أكبر تجمع لحزب “العمال الكردستاني”، وفي كل مدينة وبلدة سويدية تجد مقرا مرخّصا للحزب المذكور تحت اسم جمعيات مدنية وإنسانية، لذا أنقرة لم تكتف بالرفض، بل باتت تطالب واشنطن مقابل موافقتها، برفع العقوبات عنها على خلفية شراء منظومة “إس400” الروسية، وتطالب أيضاً وعلى الدوام بعدم شرعنة مناطق شرقي الفرات سياسياً كونها تحت سيطرة “العمال الكردستاني”.

بين هذا وذاك وجدت واشنطن اليوم نفسها في مواجهة الجميع، مع موسكو داخل أوكرانيا، ومع طهران حول الملف النووي، ومع أنقرة حول ملف “قسد” وحزب “العمال الكردستاني”، ومع فرنسا وألمانيا حول استيراد الغاز من روسيا، ومع بكين وبيونغ يانغ على التمدّد الصيني التكنولوجي والاقتصادي والنووي، ومع دول الخليج حول اليمن، تصاعد حدّة كل هذه الخلافات دفعتها إلى إعادة حساباتها داخل سوريا، وبناءً على كل ما ذُكر تتجه إلى فتح صفحة جديدة مع أنقرة من منطلق المصلحة والحاجة الماسة إلى الموقع الجغرافي لتركيا ونفوذها السياسي والعسكري في الشرق الأوسط وشبه جزيرة القرم.

إعادة الحسابات داخل سوريا

تعمل واشنطن اليوم على إعادة انتشار قواتها داخل سوريا، فالوضع داخل أوكرانيا أفرز واقعاً جديداً وغيّر كثيرا من الموازين على الأرض، خبراء في الجيش الأميركي زاروا، منتصف الشهر الجاري، “الفرقة 17” في ريف الرقة وحاولوا إنشاء مطار عسكري خاص بهبوط وإقلاع المروحيات، كما زاروا قاعدة خراب العشق جنوب شرقي عين العرب (كوباني) في ريف حلب، لإعادة بناء قاعدة عسكرية فيها، بعد قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالانسحاب الجزئي من سوريا تجنباً لأي صدام عسكري مع الجيش التركي الحليف في الناتو.

الخبراء في الجيش الأميركي التقوا أيضاً مع ضباط روس في إحدى القواعد جنوبي كوباني، وبعيد اللقاء خفّض الروس عدد قواتهم في هذه المواقع، وأعادوا ترتيب الأوراق مع واشنطن حول شرق الفرات، في محاولة من موسكو بعدم فتح جبهة أخرى على نفسها وهي بغنى عنها.

الحسابات الخاطئة للروس واستراتيجيتهم الجديدة

بحسب تقارير الاستخبارات العسكرية البريطانية، فإن روسيا خسرت داخل أوكرانيا ثلث قواتها، معظمها من النخبة، وبالتالي الفاتورة الباهظة للروس داخل أوكرانيا دفعتهم إلى التريّث وعدم التصعيد مع الجيش الأميركي داخل سوريا.

كل المعطيات تشير اليوم إلى أن قبول أنقرة المبدئي بضم استوكهولم وهلسنكي إلى الناتو لن يكون على طبق من ذهب، فهناك مؤشرات على وجود تفاهم أميركي – تركي حول إدارة مناطق خارجة عن سيطرة النظام.

وبحسب المعلومات المتوافرة فإن إعادة مليون لاجئ سوري من تركيا إلى مناطق المعارضة لن يتحقّق إلا بعد فرض الحظر الجوي على المناطق الشمالية والشرقية، والتفاهم حول تسيير دوريات مشتركة للجيشين الأميركي والتركي في تلك المناطق، وإخراج عناصر حزب “العمال الكردستاني” من شرق الفرات بشكل كامل، وتأمين المنطقة الحدودية بين العراق وتركيا لمد أنابيب الغاز من إقليم كردستان إلى أوروبا عبر ميناء جيهان التركية، بالإضافة إلى حل جميع الملفات العالقة فيما بينهم.

كذلك تشير المعلومات إلى أن أنقرة قبضت ثمن موافقتها على ضم السويد وفنلندا إلى الناتو رغم عدم وجود هذا الخبر على وسائل الإعلام، كل هذه التفاهمات تأتي بالتنسيق مع بريطانيا وإسرائيل وقطر، فوصول أمير دولة قطر إلى إسطنبول ولقاؤه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لم يكن بعيداً عن المشهد السياسي القائم، الهدف الأساسي من الزيارة الخاطفة كان محاولة أنقرة التوسط ما بين الدوحة وبرلين لإتمام إبرام الاتفاق حول تصدير الغاز القطري إلى ألمانيا، بعد فشل المفاوضات فيما بينهم، وبالتالي التخلّص من الغاز الروسي، ما بعد العام 2023، الذي يستخدمه بوتين كسلاح في المعركة مع الغرب، بالإضافة الى مناقشة تصدير الغاز العراقي إلى أوروبا عبر تركيا.

الخلاصة: الصراع على أوكرانيا دفع بواشنطن إلى إعادة حساباتها داخل سوريا، فهذه الحسابات بحاجة إلى توافق مع أنقرة وهذا لا مفر منه، فتركيا بقيادة “أردوغان” ترى نفسها اليوم ليست ولاية أميركية في الشرق الأوسط كما كانت في السابق، فوجود الاتفاق المشترك فيما بينهم سيساهم بدرجة كبيرة إلى إعادة برمجة العلاقات الدولية والإقليمية في سوريا والعراق واليمن وليبيا وحول أوكرانيا بلا شك.

وبالتالي المتضررتان من هذه التفاهمات هما موسكو وطهران، المعطيات تشير إلى أن الروس سيحاولون التمسك بمناطق شرق أوكرانيا بكل الوسائل المتاحة، مقابل التنازل لواشنطن وأنقرة عن المناطق الشمالية الشرقية لسوريا كمناطق نفوذ لهما.

بالمحصلة المنطقة ذاهبة نحو تطورات جديدة وهذا لا جدال عليه، فموسكو خسرت كثيرا من أسهمها داخل سوريا وهيبتها داخل أوكرانيا، وهي مضطرة حالياً لإرضاء واشنطن، لأن معركة كسر العظم داخل أوكرانيا قد حسمت لصالح الناتو، وبالتالي المشهد السياسي العام أمام تقلبات وتوازنات جديدة.

فكل هذه الصراعات والحروب هي حول الطاقة وتحديداً الغاز، والاعتقاد السائد هو أن واشنطن تحاول بشتى الوسائل إيجاد البديل عن الغاز الروسي للاتحاد الأوروبي حتى تحمي أوروبا مستقبلاً من هيمنة الروس.

أما بالنسبة للمشهد داخل سوريا، فكل المعطيات تشير إلى أن أنقرة وواشنطن توصلتا إلى تفاهمات سياسية مشتركة والأيام القليلة المقبلة ستكون حبلى بالمفاجآت، فمن المبكر رفع الستار والغطاء عما ستؤول إليه المنطقة من تطورات جديدة، فجميع الأطراف داخل سوريا تحشد أدواتها وترتب أوراقها تحضيراً لمواجهة محتملة، وإن لم تكن اليوم فبكل تأكيد ستكون غداً، لأنّ مطالب “بوتين” بتعدد الأقطاب في العالم والسيطرة على أوروبا من خلال سلاح الغاز  لا يمكن أن يتحقق من خلال تهديد العالم بالسلاح النووي، ومن المؤكد أنه سيعض أصابعه ندماً على غزو أوكرانيا وتهوره العسكري المفتوح داخل سوريا، لأن عقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلى الخلف، فروسيا الاتحادية التي كانت تتباهى بعظمة جيشها وبوارجها الحربية وصواريخها النووية كل هذه الأسلحة المتطورة سقطت أمام إرادة السوريين وقوة الأوكرانيين، وتحولت بين ليلة وضحاها إلى “خردة بوتين” داخل شوارع دونباس وكييف.

————————–

هزيمة استراتيجية لروسيا.. بوتين وصل لطريق مسدود في الحرب

قال رئيس المخابرات العسكرية الأوكرانية إن بلاده ستواصل القتال حتى تطرد القوات الروسية من جميع أراضيها، بما في ذلك شبه جزيرة القرم والمناطق الأخرى التي استولت عليها موسكو فعليًا في عام 2014.

وقال الميجور جنرال كيريلو بودانوف، 36 عاما، أحد مهندسي المجهود الحربي في البلاد، في مقابلة مع صحيفة “وول ستريت جورنال“، إن لتسريع هجوم كييف المضاد، تحتاج أوكرانيا بشكل عاجل إلى أنظمة صواريخ متوسطة وبعيدة المدى، ومدفعية من العيار الكبير، وطائرات هجومية لموازنة القوات الروسية.

ودعا الدول الغربية لتسليم بلاده المزيد من الشحنات من هذه الأسلحة الثقيلة. وقال بودانوف: “لقد بدأنا بالفعل هجومًا في نقاط معينة، لكن هجومًا واسع النطاق بدون هذه الأسلحة سيكون صعبًا للغاية”.

مع توقف مفاوضات السلام بين موسكو وكييف، دفع الجيش الأوكراني القوات الروسية للتراجع في منطقة خاركيف الشمالية الشرقية، واستعادت سلسلة من القرى في الأيام الأخيرة.

وقال الجنرال بودانوف إن الجيش سيحول تركيزه في الأشهر المقبلة إلى طرد روسيا من المناطق التي احتلتها في جنوب البلاد وكذلك منطقة دونباس الشرقية.

كان الكونغرس الأميركي، وافق الخميس، على منح أوكرانيا 6 مليارات دولار إضافية كمساعدات عسكرية، و8.8 مليار دولار كمساعدة اقتصادية للحكومة الأوكرانية. كما سلمت واشنطن في الأسابيع الأخيرة حوالي 90 مدفع هاوتزر، وهي أول شحنة كبيرة من الأسلحة الثقيلة.

وقدر الجنرال بودانوف أنه في المرحلة الحالية من الحرب، بعد انسحاب روسيا من كييف وأجزاء أخرى من شمال أوكرانيا للتركيز على الاستيلاء على دونباس، جمعت موسكو 93 كتيبة تكتيكية بحوالي 141ألف جندي، وتشمل هذه الأرقام مقاتلين من ما يسمى بجمهوريات دونيتسك ولوهانسك الشعبية التي أقامتها موسكو خارج دونباس في عام 2014.

كما حققت روسيا مكاسب بطيئة ولكن ثابتة في دونباس في الأيام الأخيرة، لا سيما بالقرب من بلدة بوباسنا في منطقة لوهانسك.

وقال رئيس المخابرات العسكرية الأوكرانية: “ينجحون في السيطرة على بعض المناطق ويفشلون في أخرى، لكن هذا لا يهم على الإطلاق لأن روسيا ستخسر في النهاية وستستعيد أوكرانيا جميع أراضيها التي فقدتها مؤقتًا. ستفعل ذلك بالقوة، بالقوة فقط، لأنه لا توجد طريقة أخرى”.

هزيمة استراتيجية

وقال الجنرال بودانوف إن جهاز الاستخبارات الأوكراني يدير شبكة كبيرة من العملاء في روسيا ويراقب عن كثب الرئيس فلاديمير بوتين وغيره من كبار القادة الروس.

وأشار إلى أن المخابرات الأميركية أطلعت كييف على معلومات مفصلة حول خطط الغزو الروسي قبل بدء الحرب، وقال إن أوكرانيا وصلت إلى المداولات التي جرت في موسكو من خلال مصادرها الخاصة. وتابع: “كانت لدينا كل خططهم”.

ويعتقد أن لدى روسيا ما يكفي لمواصلة القتال حتى نهاية العام على الأقل. لكنه قال إن الحرب كانت بالفعل هزيمة استراتيجية لروسيا وزعيمها بوتين.

وتابع: “بوتين وصل لطريق مسدود تماما. لا يستطيع أن يوقف الحرب ولا ينتصر فيها. لا يستطيع الفوز لأسباب موضوعية. ولوقف ذلك، يجب أن يعترف بأن روسيا ليست على الإطلاق الدولة القوية والعظيمة التي يريد تصويرها”.

وأكد بودانوف أن بوتين يواجه تهديدًا من داخل روسيا بمجرد أن يصبح عجزه عن هزيمة أوكرانيا واضحًا، وقال “إذا أدركوا (الروس) أخيرًا أن القيصر ليس عظيماً كما يتظاهر، فهذه خطوة نحو تدمير دولة روسيا اليوم”.

الحرة / ترجمات – دبي

————————

الارتدادات العكسيّة للغزو الرّوسي لأوكرانيا… ألمانيا نموذجاً/ ماجد كيالي

يمكن اعتبار التحول الحاصل في السياسة الألمانية أبلغ مثال على الارتدادات العكسية للغزو الروسي لأوكرانيا، كما على التقدير الخاطئ للموقف الذي قاد الرئيس فلاديمير بوتين لاتخاذ قرار الغزو لذلك البلد، بذرائع مختلفة.

إن أي مراجع لتلك الذرائع، أو الادعاءات، قد يصاب بالحيرة، فهي تشمل الدفاع عن الأقلية الروسية المضطهدة في إقليم دونباس (حيث ثمة إقليمان منفصلان منذ عام 2014)، والقضاء على القوى النازية المتحكمة بأوكرانيا، والحؤول دون انضمامها إلى الناتو، أو دفع الناتو بعيداً من الحدود الروسية، كما لمحاولة بناء نظام عالمي جديد، متعدد الأقطاب، يحفظ لروسيا مكانتها.

إزاء كل ذلك، يمكننا أن نلاحظ تطور الموقف الألماني أو تحوّله تحولاً ملحوظاً ومثيراً، إذ تعاطت ألمانيا، في البداية، بحذر بالغ مع احتمالات غزو أوكرانيا، التي كانت تؤكدها دوائر الاستخبارات الأميركية، والتي كانت روسيا ترد عليها، بادعاء أن جيشها يقوم بمجرد مناورات عسكرية روتينية على الحدود الروسية ـ الأوكرانية، والبيلاروسية ـ الأوكرانية.

ومعلوم أن المستشار الألماني ذاته ذهب للقاء بوتين في موسكو لاستكشاف الحقيقة بنفسه، في أواسط شباط (فبراير) الماضي (أي قبل الغزو بعشرة أيام)، ووقتها كانت ألمانيا قد اكتفت بإرسال خوذ وملابس ولوازم مدنية للجيش الأوكراني استجابة لمطالبات الولايات المتحدة الأميركية بضرورة تقديم الدعم لأوكرانيا، إلى جانب تحذيرها روسيا من مغبة غزو أوكرانيا.

هكذا، فبعد قيام روسيا بغزو أوكرانيا، تغير الموقف الألماني تماماً، وأضحت ألمانيا (مع فرنسا)، بمثابة رافعة للموقف الأوروبي المناهض والمدين للغزو. وفي ذلك، مثلاً، فقد اتجهت الحكومة الألمانية، الائتلافية، نحو اتخاذ قرار تاريخي، يقضي بزيادة موازنتها للإنفاق العسكري، بمقدار الضعف تقريباً لتصبح مئة مليار دولار في السنة (2 في المئة من ناتجها القومي وهو 5 آلاف مليار دولار سنوياً) بدلاً من 56 مليار دولار، وهو مبلغ يزيد عن الموازنة الروسية بمرة ونصف، والتي تقدر بـ65 مليار دولار، علماً أن موازنة الولايات المتحدة للإنفاق العسكري بلغت 800 مليار دولار لعام 2021، وهي 3.7 في المئة من ناتجها السنوي، والصين 293 مليار دولار، والهند 76 مليار دولار.

ويجدر التذكر هنا أن ألمانيا، قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، كانت ترفض المطالبات الأميركية بزيادة إنفاقها على الأمن والدفاع، بدلاً من الاتكاء على إلقاء عبء الدفاع عن الدول الأوروبية على حلف “الناتو”، الذي تتحمل الولايات المتحدة فيه العبء الرئيسي، وهذا تحول تاريخي في ألمانيا بالقياس إلى أنها اعتمدت منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية سياسة التقليل من العسكرة والتسلح، للتركيز على الاقتصاد والتكنولوجيا.

 وكانت الخطوة الاستراتيجية التالية تجميد خط الغاز (نورد ستريم 2)، لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي، وصولاً إلى الانتهاء من واردات الغاز من روسيا، كي تتحرر من أي ضغوط روسية في المستقبل، وهذه الخطوة اتُّخذت بشأن الانتهاء من واردات النفط على المستوى الأوروبي.

أما الخطوة الثالثة وهي المتمثلة بإرسال أسلحة متطورة إلى أوكرانيا فتمت بعد التصويت عليها في البوندستاغ الألماني، أواخر الشهر الماضي، إذ صوّت إلى جانب ذلك القرار 586 عضواً في البوندستاغ مقابل مئة عضو عارضوا تلك الخطوة، التي تضمنت إرسال مصفحات محملة بمضادات دروع، ومضادات طائرات.

من كل ذلك يمكن الاستنتاج أن الغزو الروسي لأوكرانيا، وتدفق ملايين اللاجئين الأوكرانيين إلى الدول الأوروبية، وضمن ذلك إلى ألمانيا، وتحمل الدول الأوروبية مسؤولية الدعم المالي والإغاثي والتسليحي للشعب الأوكراني، هي المسؤولة عن هذا التحول، وعن ذلك التخوف من احتمال نجاح الغزو، أي احتمال أن يكون ثمة ما بعد أوكرانيا، وهي مخاوف ناجمة عن الوعي المختزن في الذاكرة الألمانية، من ذكرى الحروب الماضية، لا سيما الحربين العالميتين.

والمعنى من ذلك أن الخوف من الغزو الروسي لأوكرانيا، هو خوف ألماني، وأوروبي، يطال الحكومات والمجتمعات، أكثر منه استجابة لمطالبات أميركية، على ما يصور البعض، لأن الخطر هو على الدول الأوروبية، وتلك الدول ترى أن روسيا هي مصدر الخطر، وهي المسؤولة، حتى ولو كانت الولايات المتحدة تستفيد من ذلك، أو توظفه لمصلحتها.

بالنتيجة، أي بسبب ذلك الغزو، وذلك التخوف، كان رد الفعل عكسياً، إذ بدلاً من أن يبعد الغزو حلف الناتو عن حدود روسيا، إذا به يجعله قرب الحدود الروسية، من الشرق، لا سيما مع انخراط الناتو بدعم الجيش الأوكراني، وصد الغزو الروسي، كما في مطالبات السويد وفنلندا الانخراط في حلف الناتو.

أيضاً، فإن تلك الحرب من الناحية الألمانية، تبعاً لكل ما تقدم، أيقظت الروح العسكرية الألمانية، للمرة الأولى منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفوق كل ذلك فهي عززت اعتمادية أوروبا وألمانيا على الولايات المتحدة، فيما قوّضت كل العلاقات التي كانت تربط الدول الأوروبية بروسيا.

———————-

“معركة خاركيف”: كيف دافع الأوكرانيون عن المدينة الثانية ضد القوات الروسية؟/ كيم سنغوبتا

تقرير لمراسل “اندبندنت” من داخل المدينة التي كان متوقع أنّ ترحب بالغزاة الروس إلا أنها في الواقع قامت بطردهم بجهود اتسمت بالعزم

كان الهدف من الهجمات التي شنّتها قوّات كوماندوس روسيّة في وسط مدينة خاركيف، الاستيلاء على المدينة، وتمهيد الطريق أمام [الرئيس الروسي] فلاديمير بوتين لتفكيك أوصال أوكرانيا.

وكان من المتوقّع أن يسعى الكرملين للسيطرة على ثاني أكبر مدن البلاد التي تبعد نحو 30 ميلاً [48 كليومتراً] فقط عن الحدود الروسية، ويتحدّث 74 في المئة من سكّانها البالغ عددهم مليوناً و400 ألف نسمة، باللغة الروسية، ويُفترض أن تكون الولاءات فيها منقسمة.

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي توقّع قبل بدء الحرب، أن يتم الاستيلاء على هذه المدينة بحجّة “حماية” هؤلاء الناس. وفي العام 2014، خطّط الزعيم [الرئيس] الأوكراني الموالي لموسكو فيكتور يانوكوفيتش لبرهة من الوقت، للتموضع في خاركيف بعد فراره من كييف، في أعقاب الاحتجاجات المناهضة له التي انطلقت في “ميدان نيزاليزنوستي”Maidan Nezalezhnosti [ساحة الاستقلال]. حتى أن عمدة المدينة إيهور تيريخوف أقرّ بأن “خاركيف لطالما اعتُبرت أنها إلى حدٍّ ما، موالية لروسيا”.

لكن بعد نحو 82 يوماً على الغزو الذي بدأ في الرابع والعشرين من فبراير (شباط) الفائت، انكفأ الروس بعيداً من محيط المدينة باتجاه الحدود الروسية، الأمر الذي أدّى إلى تغيير في مسار الغزو. ومن المفارقات المأسَوية في “حرب التحرير” التي يشنّها بوتين، أن مدينتين يتحدّث سكانهما إلى حدّ كبير بالروسية وهما ماريوبول وخاركيف، قد تعرّضتا لأسوأ قصف. وفيما يُرجّح أن تسقط الأولى الآن بعدما تمّ إخلاء الموقع الأخير للقوّات الأوكرانية في مصانع الصلب في آزوفستال، فإن ما حدث في خاركيف يُعدّ ضربةً استراتيجية ذات رمزيةٍ كبيرة بالنسبة إلى الكرملين.

وكانت القوّات الأوكرانية قد عادت إلى الحدود الروسية، حيث بعثت من هناك بمقطع فيديو لعناصرها أثناء تجمّعهم حول مركزٍ حدودي بلوني العلم الوطني الأزرق والأصفر، وهم يقولون للرئيس زيلينسكي “نحن هنا! أصبحنا على الحدود!”.

وأعلن المسؤولون الأميركيّون أن أوكرانيا “انتصرت في معركة خاركيف”. وأشار ينس ستولتنبرغ الأمين العام لـ “حلف شمال الأطلسي” (ناتو) إلى أن ما يحدث الآن في المدينة يدعم الاعتقاد المتزايد بأن “أوكرانيا يمكن أن تربح هذه الحرب”. ورأى الأدميرال السير طوني راداكين قائد القوّات المسلّحة البريطانية، أن استقلال أوكرانيا بات الآن مضموناً.

لكن البعض في قوى الأمن الأوكرانية لا يذهبون إلى هذا الحدّ من التفاؤل، ويحذّرون من الإفراط في الثقة. ويقولون إن مدينة خاركيف والمناطق المحيطة بها، ما زالت تتعرّض للقصف وما زال يسقط فيها قتلى. وتفيد معلوماتٌ في المقابل عن حشود للقوّات الروسية عبر الحدود في منطقة بيلغورود. وقد أطلعني بعض الذين قابلتهم في خاركيف أثناء الحصار الطويل، عمّا حدث بالشكل المطلوب وعن الأخطاء التي واكبت الحملة، وما قد يستتبع ذلك.

معلومات استخبارية مغلوطة

مع بداية الحرب، تكشّفت خلال الهجمات الأولى على مدينة خاركيف أوجه قصورٍ عدة في العمليات الروسية، استمرّت لأيامٍ متتالية. التقصير الأول كان من جانب مظليّين حلّقوا بمروحياتهم فوق المدينة، حيث تعرّضوا لنيران كثيفة اضطُرّتهم في نهاية المطاف إلى الانسحاب، وقد لملموا جرحاهم مخلّفين وراءهم جثث رفاقهم، بعدما فقدوا مروحيّة واحدة على الأقل.

أما التقصير الثاني، فكان من جانب فرقة كوماندوس من مشاة البحرية الروسية وشيشانيّين، أُرسلت للقبض على مسؤولين أوكرانيّين في مقر المجلس المحلّي للمدينة والإتيان بهم أسرى، لكنهم ما إن وصلوا حتى وجدوا المبنى خالياً، ووقعوا هم أنفسهم في مكمن. واضطُر الجنود الروس إلى الانسحاب تحت وابلٍ من النيران وسقط منهم ضحايا على الطريق قبل أن يتمكّنوا من الاحتماء داخل مدرسة. وأرسلت وحدة لإغاثتهم، لكن أفرادها أجبروا على الانكفاء، وقُتل أو أُسر معظم الجنود الروس الذين كانوا في المدرسة.

أوليغ بوسوهوف الرقيب أول في “كتيبة كوزاك” [قوزاق] 226 المؤلّفة من متطوّعين، الذي كان قد شارك في القتال في ذلك اليوم، يستعيد ما حدث قائلاً “ما اكتشفناه هو أن المعلومات الاستخبارية التي حصل عليها الروس كانت خاطئة. فقد قال الذين اعتقلناهم، إنهم أعطيوا أوامر بالقبض على المسؤولين المحليّين، وهي ممارسة روسية باتت معتادة في هذه الحرب، لكن ما لم يعلموا به أن هؤلاء المسؤولين انتقلوا، بمجرّد بدء القصف، إلى أماكن أخرى لمواصلة عملهم”.

ويضيف بوسوهوف “قمنا بمطاردتهم إلى أن انتهى بهم المطاف في المدرسة. لم يكن لديهم في الواقع أيّ منفذٍ للخروج من هناك. وقد شنّت مروحيّاتٌ روسية هجوماً آخر مستخدمةً مدافعها الرشاشة، ثم هبطت في محاولةٍ للسيطرة على المباني، إلا أن قتالاً شديداً دار هناك، انتهى بتمكّننا من طرد المهاجمين”.

المعلومات الاستخبارية غير الدقيقة كانت سمّة طاغية باستمرار على هذه الحرب. فقبل بدء الأعمال العدائية، تحدّثت الحكومة البريطانية عن أن الكرملين اختار يفهين موراييف النائب الأوكراني السابق، ليكون زعيماً لنظامٍ دمية تابع لموسكو بعد الغزو. وقد تلقّت لندن “المعلومات الاستخبارية” في هذا الشأن من واشنطن.

إلا أن المعلومة لقيت تشكيكاً واسع النطاق في أوكرانيا، وقد علّق موراييف ببهجة عليها بأنّه يخضع لعقوباتٍ من الحكومة الروسية نفسها، بعد خلافٍ وقع بينه وبين فيكتور ميدفيدتشوك رجل الأعمال والسياسي المقرّب من موسكو، الذي وقف فلاديمير بوتين عرّاباً لابنته. والسيد ميدفيدتشوك هو رهن الاعتقال الآن في أوكرانيا.

الكولونيل أوليغ روزهوف وهو ضابط في الاستخبارات [الأوكرانيّة] قال إن “هناك أدلّةً على أن بعض الأشخاص كانوا يجنون الكثير من المال عن طريق بيع معلومات. وكانوا يخبرون الناس [أي الروس] بما يحبّون سماعه. وفي رأيي أن هذا هو أحد الأسباب التي جعلت الروس يعتقدون أن لديهم الكثير من الدعم في أوكرانيا”. ويضيف “كان هناك أيضاً عملاء يقدّمون معلومات عن مواقع عسكرية، وقمنا بتحديدهم واعتقالهم بسرعة وما زلنا نقوم بذلك”.

أما الكابتن ألكسندر أوسادتشي من “كتيبة كوساك” فزعم أنّ “هناك أيضاً بعض الأدلّة الظرفية على احتمال وجود تنافس بين وكالات الاستخبارات الروسية على دعم الفصائل الموالية لموسكو. إننا نلاحظ التغييرات التي يجريها بوتين في الوقت الراهن في وكالات الاستخبارات التي تدير العمليّات في أوكرانيا. وهذا النوع من التنافس يساعدنا في الواقع”.

قصف بلا رحمة

بعد فشل محاولات القيام بضرباتٍ محدّدة ومدروسة، أرسل الروس مدرّعاتٍ ثقيلة إلى المدينة في السابع والعشرين من فبراير. لكن تمّ من جديد صدّهم بقوة، بحسب زعم الأوكرانيّين دُمّرت 6 دبّابات روسية في غضون 24 ساعة، بواسطة أنظمة صواريخ “جافلين” Javelin التي قدّمتها الولايات المتّحدة لكييف، وقاذفات “الجيل المقبل من الأسلحة الخفيفة المضادّة للدروع”Next generation Light Anti-tank Weapon (NLAW) من المملكة المتّحدة، التي أثبتت فعّاليتها العالية في القتال القريب [المسافات القصيرة]. وما زالت البقايا المتفحّمة للدبّابات وناقلات الجند، متناثرة في أنحاء المدينة لتذكّر بالصراع.

ووقع هجوم جوّي آخر على المدينة في الثاني من مارس (آذار)، عندما قصف مظلّيون روس مباني بما فيها المستشفى العسكري. لكنهم أجبروا على التراجع بعدما فشلوا في السيطرة على الأرض، وقضى في ذلك اليوم 21 شخصاً وأصيب 110 بجروح.

وبعد إخفاق القوّات الروسية في إحداث اختراق، أخذت توجّه ضرباتٍ صاروخية على المدينة، ما أدّى إلى مقتل عشرات المدنيّين الآخرين. وذكرت خدمات الطوارئ أنه جرى تدمير 87 منزلاً، إضافةً إلى محطة كهرباء فرعية، ما أسفر عن انقطاع التيار الكهربائي عن جزء كبير من المدينة.

فالنتينا بانتشينكا ترتعد فرائصها عندما تتذكّر القصف. فهذه المعلمة البالغة من العمر 46 سنة كانت تعيش مع ولديها وابنتها في بلدة سالتيفكا القريبة، التي نالت في الأسابيع التالية نصيبها من القصف الروسي العنيف والمتواصل بلا رحمة.

وتقول في وصف ما حدث، “أخذ كلّ شيءٍ يهتزّ عندما أصاب الصاروخ البناية التي نقطن فيها. اعتقدتُ أن أرضية المنزل ستنهار وسنهوي من علوّ 4 طوابق. كنت أسمع صراخ الناس وبكاء الأطفال. قمتُ بجمع أولادي واندفعتُ بهم إلى الخارج على وقع تساقط الصواريخ على المباني بلا توقّف. لقيت امرأة حتفها وأصيب عددٌ غير قليل من الناس في بنايتنا بجروح. وشاهدتُ بعينيّ رجلاً مبتور الساقين”.

استطاعت السيّدة بانتشينكا وأسرتها الوصول إلى محطة مترو الأنفاق “هيرويف براستي”، التي تحوّلت إلى ملاذٍ ومنزل لهم على مدى الأسابيع التسعة التالية. ومع مرور الوقت، نشأ ما يشبه الروتين المجتمعي في المحطة، حيث أقيمت عيادة صحّية، وقامت مجموعات الرعاية الاجتماعية والمنظّمات الدينية بتأمين الطعام للمقيمين، وأعطيت دروس للأطفال عبر الإنترنت. وكان هناك حتى صالون تجميل موقّت. ومع توقّف القطارات عن الحركة من المحطة وإليها، كان الأفراد الذين يبحثون عن مأوى يستخدمون مسارات القطارات للانتقال ما بين المحطّات.

وتقول أوكسانا كوفاليفا التي لجأت هي الأخرى إلى المحطة مع أطفالها الأربعة، “كان الأمر لا يزال مرعباً للغاية. كنّا نسمع دويّ الانفجارات كلّ يوم، حتى تحت الأرض. وفي أحد الأيام خرجت امرأة مسنّة للوقوف في طابور من الناس بغية الحصول على طعام، لكنها قضت نحبها بقصفٍ طاول متجر السوبرماركت. أما زوجها واسمه أنطون، فكان قد التحق بالجيش.

فساد وعدم كفاءة

الكابتن أوسادتشي استذكر لبرهة العدد الكبير من الضحايا المدنيّين الذين سقطوا، وتحدّث بهدوء عن وفاة والدته. فقد قُتلت ماريا أوسادتشي التي كانت في الخامسة والثمانين من عمرها، عندما تعرّض منزلها الذي عاشت فيه عائلتها لأجيال في قرية كاميانكا، للقصف. ويقول “كانت امرأةً حازمة للغاية، ورفضت تغيير رأيها [في شأن المغادرة]. كما الكثير من أبناء جيلها، عاشت حياة صعبة. إنه لأمرٌ مؤسف أن تنتهي حياتها بهذا النحو المحزن ومن دون سبب مجدي”.

وبالنسبة إلى النقيب وعسكره، فالهدف الرئيسي كان مواصلة الدفاع عن مدينة خاركيف فيما كانت القوّات الأخرى تستعدّ لشنّ هجومٍ مضاد. لكن عدد القتلى في المدينة استمر في الارتفاع، وأفيد بأنه حتى حلول نهاية الشهر الأول من الحرب كان مئات من الأشخاص قُتلوا هناك.

في مقرّ قيادةٍ تحت الأرض لإحدى أكثر الوحدات العسكرية الأوكرانية نشاطاً في خاركيف، كان الجنود يتناولون غداءهم على عجل، قبل الانطلاق في مهمّة خلف خطوط العدو. فقائدهم أوليغ سوباريكا يتمتّع بخبرة اكتسبها خلال خدمته مع القوات السوفياتية، عندما التحق بإحدى الكتائب خلال الحرب الأولى في إقليم “ناغورنو قره باخ” في تسعينيّات القرن الماضي.

ويقول سوباريكا، “إذا ما نظرنا إلى أدائهم [الروس] الضعيف في هذه الحرب، فيمكن القول إنه لم تحدث تغييراتٌ كبيرة، فهناك الكثير من الفساد وعدم الكفاءة. كنتُ لفترةٍ من الوقت على تواصل مع أفراد في الجيش الروسي، إنّهم يمضون وقتاً في التمرينات الاحتفالية [للمناسبات العسكرية] أكثر من التدرّب على القتال، ويبدو هذا واضحاً في الحرب القائمة”.

على الجانب الآخر من الطريق، تعرّض أحد المباني لتهديم جزئي بفعل القصف الصاروخي. ويقول القائد المخضرم “كان يُفترض أن نكون هناك. كانوا يحاولون منذ فترة ضرب مركزنا؛ وهم يقتربون، ما كان قد يدفعنا إلى التحرك [لتغيير مواقعنا]”. لكن على الرغم من هذا المشهد، فقد حقّق الروس بعض النجاحات في إصابة أهداف عسكرية، بما في ذلك استهداف مقرّ قيادة قوات الدفاع الإقليمية في المدينة بصاروخين.

شعور رائع

أثبت الأوكرانيون في المقابل أنهم قادرون على تنفيذ ضرباتٍ موجّهة، بما فيها قتل الجنرال فيتالي غيراسيموف، أحد كبار الضبّاط الروس الذين كان قد أعلن عن وفاته خلال الحرب. وأشار أحد الضبّاط الأوكرانيّين إلى إن مقتل الجنرال الروسي برصاص قناص تمّ بمساعدة من الاستخبارات الغربية. وقد اتصل بي في وقتٍ لاحق لينفي ذلك مصرّاً على القول إنه ارتكب خطأ، وإنه لم يكن هناك أيّ دور غربي في عملية القتل.

التراجع الميداني بدأ فعلاً في نهاية أبريل (نيسان). فالروس بدأوا التخطيط لشن هجوم على منطقة دونباس الآن، بعدما أصبح غزو بوتين الكامل لأوكرانيا غير ممكن. وأصرّت موسكو أن الاستيلاء على المنطقة الشرقية من البلاد كان دائماً الهدف الحقيقي للحملة العسكرية.

في التاسع والعشرين من أبريل، استعاد الأوكرانيّون قرية “روسكا لوزوفا”. وفي السادس من مايو (أيار)، شنّت قوّاتهم هجوماً مضادّاً واسعاً تمكّنت بواسطته من استعادة بلدات تسيركوني وبيريموها و”تشيركاسي تيشكي”.

ويرى الرائد نيكولاي بافلويك الذي يخدم ضمن لواءٍ للمتطوّعين أن “المكسب الرئيسي يتمثّل في أننا أبعدنا معظم سلاح مدفعيتهم إلى خارج النطاق الذي يسمح لهم بقصف مدينة خاركيف. كان ذلك مصدر ارتياح كبيراً. إنه لشعور رائع أن نكون على الخط الأول للمواجهة وأن نجعلهم يتراجعون، فيما نقوم باسترجاع المنطقة. في الماضي، كنا نعمد إلى نسف الجسور لإبطاء تقدّم الروس، أما الآن فهم يقومون بالمثل في محاولةٍ لتأخيرنا”.

ويعتبر النقيب أوسادتشي أن “التوقّعات الآن مرتفعة للغاية. وفي حال كانت هناك طاولة محادثات، فإنه يتعيّن على السيّد زيلينسكي أن يتوخّى الحذر في شأن ما يطرحه عليه الروس، لا أعتقد أن الجيش سيقبل بتقديم تنازلات، ولا المواطنين الأوكرانيّين”.

إرث مدمر

وفي الوقت الذي تُعدّ فيه مدينة خاركيف آمنةً نسبياً في الوقت الراهن، فإن البعض يطرح علامات استفهام حول السبب في عدم إعداد المدينة في وقتٍ سابق للمواجهة. وتساق في هذا الإطار اتّهاماتٌ إما بعدم تأمين الطرقات، أو بسبب الإهمال والهدر. في حين طالب البعض الآخر بفتح تحقيقات. ويقول النقيب أوسادتشي “لقد فقد الناس أفراداً من أسرهم، وخاطروا بحياتهم، وهناك أسئلة يريدون إجاباتٍ عليها”.

في غضون ذلك، يتواصل القتال في إيزيوم البلدة القريبة من خاركيف التي ينوي الروس الاستيلاء عليها تمهيداً لهجومهم على مقاطعة دونباس. وقد تمّ تدمير عددٍ من القرى التي سيطر عليها الروس في المعارك التي تلت. وتحدّثت تقارير عن حصول إعدامات واعتداءاتٍ جنسية في تلك المناطق.

تبقى الإشارة أخيراً إلى أنه إضافةً إلى الخسائر في الأرواح، فإن حجم الدمار الذي خلّفه الهجوم على خاركيف كان مروّعاً. لكن هذه المدينة الأوكرانية بقيت صامدة وأهلها ما زالوا متّحدين في الوقت الراهن على الأقل. وقد أكّد كيريل سيمينوف ابن المدينة الذي يتحدّث بالروسية في زيارةٍ سابقة لنا، أنه “لن يحمل السلاح أبداً ضدّ إخوانه الروس”. لكن هذا المهندس البالغ من العمر ثمانيةً وأربعين عاماً أصبح بدلاً من ذلك، متطوّعاً يقوم بنقل الإمدادات والطعام إلى القوّات الأوكرانية. ويختم بالقول “لقد قام بوتين بقصفنا إلى حدٍّ أدركنا معه كم نحن أوكرانيّون”.

اندبندنت عربية

————————

“عسكرة” أوروبا تحت المظلة الأطلسية/ رفيق خوري

غزو أوكرانيا أيقظ أوروبا من حلم جميل طويل: عيش رغد في دول رفاه اجتماعي مرتاحة تحت مظلة الحماية الأميركية من الاتحاد السوفياتي. وغزو الكويت قبله بعقود أخاف الأنظمة في الشرق الأوسط ودفع الولايات المتحدة الأميركية إلى تنظيم أوسع تحالف دولي لإخراج العراق من الكويت. والفارق في ردود الفعل عليهما لجهة حرب مباشرة ضد الجيش العراقي الغازي وحرب بالوكالة ضد الجيش الروسي الغازي هو كون روسيا دولة كبرى تملك السلاح النووي. الرئيس صدام حسين تحدث عن أسباب مالية وجيوسياسية لغزو الكويت، لكن السبب الذي لم يقله إلا للمقربين منه هو أنه رأى ولادة “نظام عالمي جديد” وأراد أن يأخذ “حصته ودوره” فيه بدلاً من أن يقرره الكبار له. والرئيس فلاديمير بوتين وضع في طليعة مطالبة “حياد أوكرانيا ونزع سلاحها ونزع النازية منها ومنعها من الانضمام إلى الحلف الأطلسي”، لكن الهدف الأهم هو تصوره أن نظام الأحادية القطبية الأميركية بعد سقوط جدار برلين والاتحاد السوفياتي على “حافة الموت”. وأراد دفعه إلى الموت وتحديد دور روسيا كشريك على قدم المساواة في نظام التعددية القطبية الجديد. وهو كان يعرف أن حلف الـ”ناتو” لن يضم أوكرانيا إليه على الرغم من وعده لها، لأن أوكرانيا على خلاف مع روسيا في شأن القرم والدونباس، ونظام الحلف يمنع قبول دولة في مشكلة سياسية وعسكرية مع دولة أخرى.

والواقع، كما يقول روبرت كاغان في مقال نشرته “فورين أفيرز” تحت عنوان “ثمن الهيمنة”، أن روسيا “لم تتكيف مع فقدان الإمبراطورية، كما فعلت بريطانيا وفرنسا، وأن أميركا عقبة أمام استعادة موسكو نفوذها الضائع”. والواقع، كما يرى المؤرخون، أن روسيا القيصرية، ثم السوفياتية، ثم البوتينية، كانت منذ قرون، ولا تزال، دولة إمبريالية. والواقع أيضاً، كما توحي النقاشات الداخلية الأميركية، أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تتقبل خسارتها للأحادية القطبية. والعقبة المهمة التي رأتها أمامها هي الصين الصاعدة “اقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً” أكثر من “روسيا الانتقامية”، لكن روسيا هي التي سببت بغزوها لأوكرانيا الصراع القوي لأميركا، والخروج من الحلم الجميل لأوروبا. وما يراه العالم اليوم ليس انتقال فنلندا والسويد من الحياد المعلن والمعترف به إلى تقديم طلب رسمي للانضمام إلى الـ”ناتو”، بل بداية “عسكرة” أوروبا تحت المظلة الأطلسية.

ذلك أن أعضاء الـ”ناتو” الثلاثين، باستثناء تركيا، أعلنوا دعم المطلب الفنلندي والسويدي، وتحذير موسكو من أي اعتداء على البلدين في المرحلة الانتقالية، والاستعداد لمساعدتهما. أما تركيا، فإنها لا تريد إغضاب روسيا بسبب مصالح عدة. ولها مطالب من فنلندا والسويد هي التوقف عن دعم “حزب العمال الكردستاني” وتسليمها من تصفهم بأنهم “إرهابيون” يتمتعون بحرية الحركة هناك. ولديها مطلب آخر من “الناتو” هو إلغاء القيود على إنتاج السلاح وتصديره إليها. أما الغرب، فإنه يتحدث بثقة عن تغيير الموقف التركي عبر تلبية بعض المطالب. رد الفعل الروسي بدا مزيجاً من الاستقواء والاستضعاف. بوتين قال، “لا مشكلات لروسيا مع فنلندا والسويد، وانضمامهما إلى (الناتو) لا يشكل تهديداً، لكن توسيع البنية التحتية العسكرية في هذه المناطق سيؤدي بالتأكيد إلى إجراءات جوابية بناءً على التهديدات التي تنشأ لنا”. ونائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف أعلن أن روسيا لن تقبل ببساطة انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف، وسيتغير الوضع في العالم بشكل جذري إذا ما أصبحتا عضوين في “الناتو”. وكان القرار العملي الأول انسحاب روسيا من “مجلس دول بحر البلطيق”. والتحرك العملي الثاني تفعيل منظمة “معاهدة الأمن الجماعي” التي تضم روسيا وبيلاروس وأرمينيا وكازاخستان وفيرغيزيستان وطاجكستان.

وفي المقابل، فإن “عسكرة” أوروبا تتسارع. ألمانيا زادت اتفاقها العسكري، وتقدمت خطوات إلى أمام في دعم أوكرانيا. أعضاء الـ”ناتو” الأوروبيون تعهدوا تخصيص 2 في المئة من الدخل القومي للاتفاق العسكري. والاتحاد الأوروبي أشار عبر تقرير جديد إلى “ثغرات كبيرة” في القدرة الدفاعية الأوروبية لجهة “أنظمة الدفاع الجوي، الطائرات المقاتلة والمسيرة، الدبابات الحديثة، القوات البحرية، وغياب شبكة للتواصل المستقر عبر الأقمار الاصطناعية”. ولم يكن في الحسبان أن تقود حرب روسية من أجل “تحييد” أوكرانيا إلى انضمام الدول الحيادية إلى الـ”ناتو” والاندفاع في “عسكرة” أوروبا.

والسؤال هو: هل ينجح بوتين في الانقلاب على مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أم يجد بلاده في وضع أسوأ اقتصادياً وخارجياً، ولو دمر أوكرانيا؟ ما يتوقعه الخبراء هو أن يرد بوتين بتعزيز منظومة الردع النووي في بحر البلطيق. ولا أحد يعرف كيف ومتى تكون الولادة الصعبة لنظام عالمي جديد؟!

—————————

حرب أوكرانيا بين سوء حسابات بوتين واستثمار الغرب/ رياض قهوجي 

لم يتفاجأ العديد من الباحثين والمسؤولين الأميركيين بقرار بوتين غزو أوكرانيا. فهناك العديد من الدراسات والتقارير التي أعدت بعد اجتياح روسيا للقرم عام 2014 تحدثت عن وجود احتمال كبير بأن يشن بوتين هجوماً عسكرياً جديداً لاجتياح شرق أوكرانيا.

اختلف المحللون في أميركا على دوافع الهجوم الروسي المتوقع، اذ ربط بعضهم ذلك بتوسع “الناتو” على حدود روسيا في حين اعتبر البعض الآخر أن لدى بوتين خططاً لإحياء الأمبراطورية الروسية وضم الأراضي التي كانت تابعة لها. لكن هذه الدراسات توقعت أن تتبع روسيا سياسة القضم المتدرج، أي احتلال أوكرانيا على مراحل تفصل بين كل مرحلة وأخرى فترة زمنية. الا أن بوتين فاجأ العديد بهجوم الى عمق أوكرنيا وتحديداً الى العاصمة بهدف توجيه ضربة قاضية وسريعة.

من ناحية أخرى، يعتمد بوتين ومنذ وصوله الى السلطة على استراتيجية وضعها عندما كان أميناً عاماً لمجلس الأمن القومي الروسي عام 1999، وهي سياسة التصعيد النووي بهدف خفض التصعيد. فهو يعتقد أن الدول الغربية الليبرالية حساسة جداً ضد السلاح النووي، وتطغى على آلية صنع القرار فيها آراء أصحاب المصالح الرأسمالية التي تكره النزاعات العسكرية، بخاصة المدمرة منها. كما أن هذه الدول ومنذ سقوط الاتحاد السوفياتي لم تعد تهتم كثيراً بتأمين موازنات دفاعية وقلصت حجم قواتها المسلحة، وبالتالي باتت تعتمد على القوة الناعمة السياسية-الاقتصادية أكثر من العسكرية.

وعليه، كان استنتاجه أن لجوء روسيا للتهديد باستخدام السلاح النووي يحدث صدمة داخل المجتمع الغربي بخاصة اذا ما ترافق ذلك مع استعراض للقوة مثل تجارب لصواريخ عابرة للقارات وأمور مماثلة. ولقد اختبر بوتين هذه السياسة سابقاً في مناسبات عدة مثل غزو جورجيا والقرم، وأثبتت فعاليتها اذ لم يكن هناك أي رد فعل عملي من الغرب.

كادت سياسة بوتين تنجح هذه المرة لولا شدة المقاومة الأوكرانية وصمودها أمام الآلة العسكرية الروسية المترهلة. فلقد تلقت القوات الأوكرانية تدريبات وبعض الأسلحة المهمة من الغرب بعد 2014 والتي قلل الروس من فعاليتها. كما أحدثت الحملة الاعلامية الكبيرة والناجحة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، بخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي وقعاً كبيراً داخل أوروبا ما أجبر القادة المترددين فيها على التشدد في مواقفهم واختيار سياسة المواجهة بدل الانكفاء هذه المرة. هذا أدى الى قرار زيادة الانفاق العسكري في غالبية دول أوروبا، بخاصة الأعضاء في حلف “الناتو”. كما قررت هذه الدول مد أوكراينا بما تحتاجه من السلاح والمال، ليس لوقف التقدم الروسي وانما لهزيمة جيشها إن أمكن.

قرار الادارة الأميركية رصد أربعين مليار دولار اضافية على المليارات التي انفقت حتى الآن على تسليح أوكرانيا هو دليل على التحضبر لحرب طويلة تترافق مع العقوبات الاقتصادية. استراتيجية الغرب هي إبقاء روسيا في حرب استنزاف طويلة تترافق مع عقوبات تنهك اقتصادها من أجل تقويض النظام الروسي واسقاطه من الداخل. أما استراتيجية روسيا الآن فهي الضغط عسكرياً بقوة للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الأوكرانية والاستمرار في سياسية التصعيد النووي على أمل أن يدفع الخوف والحاجة للغاز والنفط الروسيين الى حدوث انقسامات داخل المعسكر الغربي مع الوقت والقبول بشروط موسكو لوقف الحرب في أوكرانيا.

يظهر أي تقييم للواقع الحالي أن استراتيجية بوتين لا تزال بعيدة جداً من تحقيق أهدافها. فمسار العمليات على الأرض ليس لمصلحة روسيا. فبعد أن خسرت معركة العاصمة كييف وسحبت قواتها من شمال أوكرانيا، ها هي الآن تخسر معركة خاركيف، ثاني أكبر مدن أوكرانيا، حيث طردت القوات الأوكرانية الجيش الروسي من المناطق الشرقية والشمالية للمدينة ودفعت بعضها الى داخل أراضي اقليم بيلوغراد الروسي.

كما أن القوات الأوكرانية استعادت جزءاً مهماً من الأراضي في إقليم خرسون في الجنوب. أما على جبهة دونتسك فالمعارك هناك أشبه بحرب خنادق بين الطرفين ولم تتمكن القوات الروسية من إحداث أي تقدم يذكر. الانتصار الوحيد الذي حققته روسيا هو إحكام السيطرة على مدينة ماريوبول الاستراتيجية بعد استسلام آخر معقل للمقاتلين فيها إثر قتال دام لأكثر من شهرين.

كما أن قرار السويد وفنلندا الانضمام الى حلف “الناتو” يشكل فشلاً كبيراً للاستراتيجية الروسية التي تهدف أساساً الى وقف تمدد هذا الحلف على حدودها. سيشكل انضمام فنلندا والسويد اضافة مهمة وثمينة جداً لـ”الناتو”. فكل منهما يملك قوات عسكرية محترفة والقدرة على حشد أكثر من مليون جندي احتياط خلال أيام قليلة. فهما يطبقان نظام الخدمة العسكرية الإلزامية. ويملكان أيضاً صناعات عسكرية متقدمة جداً وسيوفران قدرات دفاعية قيمة بالاضافة لموقعهما الاستراتيجي. تملك فنلندا حدوداً برية كبيرة على حدود روسيا الشمالية الغربية. كما أنهما سيزيدان من مساحة سيطرة “الناتو” البحرية في بحر البلطيق.

ستؤثر العقوبات الاقتصادية كثيراً في علاقات روسيا الدفاعية مع معظم الدول، بخاصة تلك التي تعتمد على منتجات عسكرية روسية. فجزء كبير من الأجهزة الالكترونية الموجودة على المنظومات الروسية الدفاعية تصنع في الغرب وبالتالي لا تستطيع الحصول عليها الآن لاستخدامها في منتجاتها. كما أن العديد من الدول تخشى أن تجد نفسها تحت عقوبات غربية اذا ما تعاقدت مع شركات روسية على لائحة العقوبات. وكانت الهند آخر الدول التي تلغي صفقة سلاح مع روسيا اذ قررت وقف شراء طائرات هليكوبتر عسكرية طراز “كاموف-31”.

يبقى لروسيا حالياً مصدر أساسي لدخلها لن يستطيع الغرب وقفه بسهولة أو بالسرعة المرجوة وهو الغاز والنفط. الا أن هذه الحرب تشجع الدول الأوروبية على الاستثمار في الطاقة البديلة أو بمشاريع مد أنابيب من جهات أخرى بهدف جعل الدول الأوروبية مستقلة تماماً عن روسيا في حاجتها لمصادر الطاقة. واذا ما تحقق ذلك، فان النتائج الطويلة الأمد لهذه الحرب ستكون مكلفة وكارثية على الاقتصاد الروسي. فلقد قلل بوتين كثيراً من التأثير المزدوج للخوف. فهو سيف ذو حدين، إذ إنه قد يرهب الطرف الآخر ويدفعه للإذعان. لكن يمكن أيضاً أن يستفزه ويدفعه لقرار المواجهة، وهو ما يبدو أنه يحصل اليوم في أوروبا. ولا يبدو أن سياسة التصعيد النووي تؤتي ثمارها اليوم، بل على العكس فلقد بدأت القوى النووية الغربية تلعب اللعبة ذاتها وتعمد حالياً لتحديث ترسانتها الاستراتيجية من قاذفات وصواريخ وغواصات قادرة على حمل رؤوس نووية.

يبدو حتى الآن أن بوتين إما أساء حساباته بشكل كبير، أو أن أميركا وقوى غربية أخرى استعدت جيداً لخطوة توقعت أن يقدم الرئيس الروسي عليها وتعمد اليوم لاستثمارها بشكل ناجح وتحقيق مكاسب استراتيجية.

النهار العربي

————————

هل حان وقت الصدام بين الروس والغرب؟/ حسام فاروق

أعلنت فنلندا عن تقديم طلب للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي دون إبطاء، ومن المتوقع أن تحذو السويد حذوها، الحلف من جانبه استقبل طلب فنلندا ومساعي السويد بالترحاب، وقال الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، إن الفنلنديين سيكونون “موضع ترحيب شديد” ووعد بعملية انضمام سلسة وسريعة، ولم يعر الناتو اهتماماً للتهديدات الروسية باتخاذ إجراءات “عسكرية تقنية” لم تحددها، حال حدث ضم الدولتين الإسكندنافيتين إلى الناتو بالفعل، لما تعتبره موسكو -بحسب التصريح الرسمي للكريملين- تهديداً مباشراً لروسيا، ونقل عن مسؤولين روس تحدّثوا في السابق عن أن خطوة كهذه من شأنها ترجيح احتمالية نشر صواريخ نووية روسية في بحر البلطيق.

في زاوية مقاربة من المشهد، أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أنه يدعم تماماً اختيار فنلندا الانضمام للناتو، واقترح إنشاء “منظمة سياسية أوروبية جديدة “تنضم لها أوكرانيا، بالتوازي مع آلية ضمها إلى الاتحاد الأوروبي، وقال ماكرون: “إن المنظمة الجديدة ستكون بمثابة حلف يسمح للأمم الأوروبية الديمقراطية التي تؤمن بقيمنا الأساسية بإيجاد مساحة جديدة للتعاون السياسي والأمني”، ما يعني أنه توسيع للتحالف العسكري الغربي في مواجهة روسيا بعد غزو الأخيرة لأوكرانيا، وهو ما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يسعى للحيلولة دون حدوثه. 

ليس خافياً أن بوتين تراوده فكرة الاستحواذ على بحر البلطيق مثلما تشغله الآن فكرة الاستحواذ على البحر الأسود والذي من أجله تدخلت روسيا في أوكرانيا، وإذا ما استطاع بوتين تحقيق انتصار في أوكرانيا، ستحرم أوكرانيا من شاطئها وتسيطر روسيا على كامل المنطقة لناحية الشرق، ومن هنا تخشى كل من فنلندا والسويد أن يتفرغ لهما بوتين بعد ذلك، بهاجس السيطرة على بحر البلطيق، حيث إن لدى الروس أسطولاً بحرياً كبيراً في المنطقة، وهذا يفسر لنا لماذا يدعم الناتو الجبهة الشرقية المقابلة لموسكو ولماذا أنشئت مجموعات قتالية زودت بسلاح وعناصر أمريكيين للدفاع ليس فقط من خلال البحر الأسود، ولكن أيضاً بحر البلطيق الذي يعد جزءاً من منطقة دفاع الناتو أمام أي هجمات روسية، حيث لن يسمح الناتو بأن يكون البلطيق حديقة خلفية لروسيا.

ضم فنلندا والسويد إلى الناتو ينطوي على مخاطر كبيرة على موسكو وحصار سياسي وعسكري للقوات الروسية، إذ سيكتمل الطوق الغربي باتجاه روسيا، وبالتالي سيعاد تنشيط الدرع الصاروخي الذي أقر منذ 1990 ويشمل كل دول أوروبا الشرقية التي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي السابق وأصبحت جزءاً من الناتو، لذلك فإن التمدد إلى فنلندا والسويد سيحقق للناتو حماية قريبة لدول أوروبا الشرقية التي تخشى دائماً أن يعاود الروس غزوها واحتلالها، وإذا ما وضعت صواريخ أو أسلحة متطورة للناتو في السويد وفنلندا فإن الحلف بات متواجداً في الجبهات والحدود الغربية الروسية ما يعني تكبيل أيدي بوتين وخطر السلاح الروسي.

قرار الدولتين الإسكندنافيتين الانضمام للناتو يشير إلى نيتهما التخلي عن وضع الحياد الذي حافظتا عليه طوال الحرب الباردة وهذا سيشكل أحد أكبر تحولات الأمن الأوروبي منذ عقود، ووصول صواريخ متطورة لحلف الناتو إلى البلدين يعني اختصار الدورة الزمنية لقدرة الدفاع الجوي الروسي على الرد، حيث كلما اقتربت الصواريخ من موسكو كلما قل زمن طيران الصواريخ، وبالتالي الزمن المتاح للتصدي لها أقل، ما يعني زيادة الخطورة على موسكو، لذلك ينزعج بوتين ويشعر بالضيق عند كل محاولة لضم أجزاء من أوروبا الشرقية إلى الناتو.

فيما يخصّ المقترح الفرنسي بإنشاء منظمة سياسية أوربية، تنضم لها أوكرانيا، فالخطوة ليس لها تفسير سوى أنها محاولة لتوسيع التحالف العسكري الغربي في مواجهة بوتين الذي وضع كامل الدول الأوروبية على صفيح ساخن وأعاد سيناريو الحرب العالمية الثانية إلى الوجود، فهناك بلا شك مخاطر كبيرة على الوجود الغربي في ظل التهديدات الروسية، حيث للمرة الثالثة في زمن الحرب الأوكرانية سمعنا تهديداً باستخدام الأسلحة النووية من قبل بوتين ولافروف، وبوتين نفسه سبق وأن استنفر الحقيبة النووية لتكون جاهزة وموجهة ضد الغرب بعد كل تصعيد ضده أو ضد روسيا، فمع كل إعلان عن تزويد أوكرانيا بالأسلحة، يرد بوتين باستخدام أسلحة مثل الكينجال والكاليبر من صواريخ الكروز من غواصات البحر الأسود أو حتى صواريخ إسكندر وإسكندر-إم التي استخدمت في أوكرانيا.

المقترح الفرنسي بتشكيل حلف أوربي جديد وإن بدا في ظاهره على أنه خطوة نحو ضمان الاستقرار؛ إلا أنه قد يحتمل أيضاً توقعات غير محمود عقباها من الجانب الروسي، فالمقترح يدعم قدرات جديدة للحفاظ على الأمن الحيوي الأوربي، لم تكن موجودة قبل أزمة أوكرانيا حتى إن الناتو كان يلقى صعوبات في تعبئة القوات لإرسالها في مهمات إلى الخارج، مثل أفغانستان والتحالف الدولي في العراق، وضم أوكرانيا إلى هذه المنظمة الجديدة يعد بمثابة إعلان حماية لها وتصعيب أي عمل مستقبلي عسكري لروسيا ضد الدول الأوروبية، وهذا يعني صداماً لا محالة مع روسيا، لأن الأوكرانيين منذ 2014 يتدربون مع الناتو في ألمانيا وشاركوا في عشر مناورات باستخدام أسلحة أمريكية وغربية وناصبوا العداء للروس منذ احتلال القرم، لذلك هذا الموضوع لن يؤدي إلى حل الأزمة، حيث يعتبر بوتين ووزير خارجيته لافروف أي مساعدة غربية لأوكرانيا بمثابة إعلان حرب، وأن كل الدعم الغربي المقدم في مجال الدفاع للرئيس زيلينسكي هو نوع من الاستفزازات لروسيا.

أطماع بوتين بدت واضحة، فهو يسعى اليوم إلى أوكرانيا وغداً إلى بولندا وبلدان أخرى مثل مولدافيا، وبالتالي هناك أخطار كبيرة يحملها المشروع البوتيني وحانت -من وجة النظر الغربية- لحظة الضرورة لإفشال هذا المشروع وتكبيل الآلة العسكرية الروسية من خلال تجمعات وتكتلات سياسية، وبات هناك شبه إجماع أوروبي – أمريكي على منع أي انتصار لبوتين الذي ينظر له في الغرب على أنه نسخة محدثة من هتلر.

في الأخير لن يقبل الروس بضم فنلندا والسويد للناتو، أو ضم أوكرانيا لهذه المنظمة الأوربية الجديدة ولن يقبلوا بمحاصرة روسيا بالصواريخ ضمن منظومة الدفاع الصاروخي ونشرها على مقربة من موسكو والشمال الروسي، وأتوقع أن تزداد نبرة التصعيد الروسي على لسان بوتين ووزيري خارجيته ودفاعه لافروف وشويغو، لكن اتخاذ قرار روسي بشنّ هجوم على الغرب أعتقد سيكون في إطار ضوابط، ربما تؤخر هذا القرار أو تعتبره الخيار الأخير، فالطبقة السياسية والاقتصادية المحيطة ببوتين بدأت تشعر بأنه أصبح يشكل عائقاً لها، ولن تسمح لبوتين بهذا التطور أو ببناء إمبراطوريته التي ستشكل دماراً للعالم كله، وبالتالي قد نسمع بعض التهديدات إنما لا أتوقع أن تذهب الأمور إلى صدام عسكري، ستستمر الأوضاع هكذا، حرب ميدانية غير محسومة لطرف دون آخر، وتداعيات اقتصادية يدفع ثمنها العالم وتهدد بمجاعات وأزمة غذاء وطاقة وارتفاع في الأسعار ينكوي بها فقراء العالم، ومع التصعيد والتصريحات المتجددة لكل طرف، فأغلب الظن أن الحلول الحقيقية لهذه الأزمة ما تزال غائبة أو يتم تغييبها عن قصد، وسنمضي شهوراً في هذه الأزمة.

————————-

روسيا وسورية.. التحركات “تحت دائرة الضوء” وهل من انسحاب؟

باتت التحركات الروسية في سورية “تحت دائرة الضوء”، بعدما نشرت وسائل إعلام غربية ومحلية تقارير عن “عمليات انسحاب” من بعض المواقع في البلاد، آخرها من خطوط التماس مع فصائل المعارضة بريف اللاذقية الشمالي.

وكانت أولى هذه التقارير من جانب صحيفة “موسكو تايمز”، حيث قالت في التاسع من شهر مايو / أيار الحالي إن “روسيا بدأت عملية سحب بعض قواتها من سورية للمساعدة في تعزيز قواتها في أوكرانيا”.

وفقاً لتقرير الصحيفة المستقلة، التي تتحذ من هولندا مقراً لها، فقد “تم نقل العديد من الوحدات العسكرية من قواعد في جميع أنحاء البلاد إلى ثلاثة مطارات متوسطية، حيث سيتم نقلهم إلى أوكرانيا”.

وجاء في التقرير أيضاً أن “القواعد التي تم التخلي عنها الآن تم نقلها إلى الحرس الثوري الإيراني شبه العسكري، وكذلك إلى جماعة حزب الله اللبناني”.

بدورها تحدثت مصادر إخبارية مقرّبة من “هيئة تحرير الشام”، في اليومين الماضيين، عن “انسحابات أقدمت عليها قوات روسية في ريف اللاذقية الشمالي، لصالح قوات لميليشيات إيرانية”.

ولم تتأكد المعلومات المذكورة بشكل رسمي حتى الآن، وخاصة من الجانب الروسي.

لكن نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف أشار، الخميس، إلى أن إغلاق الأجواء التركية أمام الطائرات الروسية المتوجهة إلى سورية أثّر على عمل القواعد العسكرية هناك.

من جانبه قال العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، قبل أيام إن “الدور الروسي في سورية يتراجع”، وأن “هذا الفراغ سيملؤه الآن الإيرانيون ووكلاؤهم”، مضيفاً: “للأسف أمامنا هنا تصعيد محتمل للمشكلات على حدودنا”.

“إعادة تموضع”

ويذهب نوّار شعبان وهو باحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” إلى أنّ عمليات النقل التي تجريها روسيا لقواتها من محور لآخر في سورية يندرج تحت ما يعرف بـ”إعادة التموضع”.

ويوضح الباحث لموقع “السورية.نت” أن “الحديث عن عملية انسحاب تعني انسحاب لوجستي كامل لنقطة ما إلى جانب الانسحاب العسكري إلى القاعدة استعداداً لمغادرة البلاد. وهو ما لم يحدث خلال الأيام القليلة الماضية مع القوات الروسية”.

ويردف شعبان أنّ “إعادة التموضع للقوات الروسية من موقع إلى موقع آخر يأتي خدمة لأهداف لوجستية لروسيا”.

ويضيف أن تواجد القوات الروسية عملياً في خطوط التماس “هو دور إشرافي فقط”، وخاصةً بعد انسحاب قوات “فيغا” الروسية إلى مطار حماة العسكري.

“وسيلة ضغط”

من جانب آخر تلجأ روسيا، بحسب الباحث السوري إلى نقل قوّاتها كما حدث في الجنوب السوري، ضمن إطار “الضغط”.

ويوضح ذلك بالقول أن “التصعيد الإسرائيلي يأتي في الوقت الحالي تماشياً مع التصعيد الإيراني في سورية، وبناءً على تكثيف وتنوّع تحركاته في مواقع مختلفة في اللاذقية والجنوب وسهل الغاب”.

واستهدفت صواريخ إسرائيلية مواقع عسكرية في محيط العاصمة دمشق، ليلة أمس الجمعة، بعد أقل من أسبوع من ضربات مماثلة استهدفت نقاطاً في مصياف بريف حماة الغربي، ومناطق أخرى بالساحل السوري.

لماذا القوات الإيرانية بديلاً؟

في غضون ذلك يتفق الباحث السوري ضياء قدور، في تحديد دوافع ما وصفه بـ”الانسحاب الجزئي” للقوات الروسية، مع رأي شعبان، من كونه “وسيلة ضغط”.

ورأى قدّور في حديثٍ لـ”السورية.نت” أنّ “روسيا تمارس ضغطاً مزدوجاً على إسرائيل والأردن في الجنوب السوري وتركيا في الشمال السوري، من خلال سحب قواتها وإحلال قوات إيرانية بدلاً عنها”.

ويجد الباحث في الشأن الإيراني أنّ “روسيا تتخذ من القوات الإيرانية فزاغةً تساوم من خلالها الدول الضالعة في الشأن السوري، لكن بالمقابل لن تسمح لها بتوسعة نفوذها”.

————————————

شرطان و”ضمانات”.. ماذا تريد تركيا مقابل انضمام فنلندا والسويد لـ”الناتو”؟

حددت تركيا شرطين مقابل قبولها انضمام فنلندا والسويد لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، فيما تحدث وزير خارجيتها، مولود جاويش أوغلو عن ضرورة “وجود ضمانات”.

وكان الوزير التركي قد شارك، أمس الأحد، في اجتماع وزارء الخارجية الذي عقد في مقر حلف شمال الأطلسي.

وذكرت صحيفة “صباح“، اليوم الاثنين، أن جاويش أوغلو قدم شرطين للسويد وفنلندا، وهما بأنه “يجب عليهم التوقف عن دعم الإرهاب، وعليهم أيضاً رفع القيود المفروضة على صادرات الصناعات الدفاعية إلى تركيا”.

وشدد جاويش أوغلو، في تصريحاته عقب الاجتماع، على أن تركيا “دعمت دائماً سياسة الباب المفتوح لحلف الناتو وأكد أن تضامن الحلف مهم للغاية، لا سيما في مواجهة التهديدات”.

وفي إشارة إلى أن الرئيس رجب طيب أردوغان يشاطر موقف تركيا فيما يتعلق بعضوية فنلندا والسويد المحتملة في الناتو، قال الوزير التركي إن هذا البيان “له تداعيات”.

وتابع: “هذين البلدين لديهما اقتراحات لمعالجة مخاوف تركيا. سنرى الضمانات التي سيقدمونها في الأيام المقبلة”.

وتتهم تركيا، العضوة في حلف الناتو، البلدين وخصوصاً السويد بإيواء ناشطين من “حزب العمال الكردستاني”، الذي تعتبره أنقرة ومعها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة “منظمة إرهابية”.

وكان وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن قد قال، في تصريحات للصحفيين، بعد اجتماع لوزراء خارجية الناتو في برلين: “هناك دعم كبير لانضمام السويد وفنلندا إلى الناتو، وسنصل إلى توافق بهذا الشأن”.

وأضاف بلينكن: “تحدثت مع وزير الخارجية التركي بشأن مسألة انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو وأثق في التوصل لتوافق”.

وفي برلين بألمانيا طلبت فنلندا رسمياً، الأحد، الحصول على عضوية “الناتو”، مؤكدة أن الغزو الروسي لأوكرانيا غير المشهد الأمني لأوروبا، وذلك رغم تأكيد الأمين العام للحلف أن “الحرب الروسية في أوكرانيا لن تسير كما خططت موسكو”.

وبعد عدة ساعات، وافق الحزب الحاكم في السويد أيضاً على الانضمام إلى الناتو، وهي خطوة قد تؤدي إلى تقديم طلب في غضون أيام.

شروط الانضمام للناتو؟

ولا يتطلب “الناتو” من الدول تبني تشريعات معينة في قوانينها المحلية كشرط للانضمام للحلف، على غرار ما يحدث في الاتحاد الأوروبي.

وتؤكد المادة 10 من معاهدة واشنطن أنه يجوز للحلفاء أن يدعوا بالإجماع “أي دولة أوروبية أخرى في وضع يمكنها من تعزيز مبادئ هذه المعاهدة والمساهمة في أمن منطقة شمال الأطلسي”.

وبحسب تقرير لمجلة “إيكونوميست” فإن الحصول على العضوية هو “إلى حد كبير مسألة تقديرية سياسية، وقبل كل شيء يخضع لرغبة الولايات المتحدة، أكبر مساهم في الحلف والضامن النهائي له، والتي توسع ردعها النووي من خلاله”.

وأرجعت المجلة تراجع توسع الناتو في السنوات الأخيرة إلى سببين هما: الصراعات المتشابكة في غرب البلقان، فقد انضمت مقدونيا الشمالية فقط بعد تسوية نزاع طويل الأمد مع اليونان بشأن اسمها الرسمي، ولا تزال البوسنة والهرسك، التي مزقتها التوترات الداخلية، تنتظر موافقة الحلف على طلبها.

أما الثاني: هو عداء روسيا ورفضها لانضمام جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق إلى هذا الحلف، ولا سيما جورجيا وأوكرانيا.

ويتعين على الأعضاء المحتملين إرسال خطاب نوايا إلى الناتو، وبافتراض موافقته، يتم إجراء محادثات بشأن مجموعة من القضايا السياسية والدفاعية والقانونية والتقنية.

ويضع الناتو بعد ذلك بروتوكولات الانضمام، التي يمكن أن يوقعها الوزراء أو السفراء لدى الناتو.

حتى لو أمكن اتخاذ هذه الخطوات الأولية بسرعة، في غضون أسابيع قليلة، تتطلب العضوية تصديق جميع أعضاء الناتو الحاليين، الأمر الذي قد يستغرق شهوراً.

ويتوقع مسؤولو الناتو أن العملية بالنسبة لفنلندا والسويد ستكون أسرع بكثير. قال أحدهم: “هذه ليست أوقاتاً عادية”.

وقال الأمين العام لحلف “الناتو”، ينس ستولتنبرغ إنه واثق من إمكانية تسريع عملية انضمام فنلندا والسويد مع الدول الأعضاء الحالية.

وأكد أنه في غضون ذلك، سيزيد التحالف من وجوده في منطقة البلطيق لردع التهديدات الروسية”، مضيفاً: “يدرك جميع الحلفاء الحجم التاريخي لهذه اللحظة”.

ورددت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك هذا الشعور، أمس الأحد، وقالت “السويد وفنلندا، إذا كنتم على استعداد، فنحن مستعدون”.

—————————

===================

تحديث 23 أيار 2022

————————

«رسائل أوكرانية» بين روسيا وإسرائيل في سوريا/ إبراهيم حميدي

كل موجة من الغارات الإسرائيلية على سوريا في السنوات الماضية، مهمة. لكن الدفعة الأخيرة منها ليل الجمعة/ السبت، لها أسباب إضافية من الأهمية، بينها تحول سوريا إلى «صندوق رسائل» بين روسيا وإسرائيل نتيجة التوتر بينهما بسبب أوكرانيا من جهة جهة، وسعي ايران لـ «ملء الفراغ» الروسي بسوريا.

الرسالة الروسية الأبلغ جاءت في 13 من الشهر الحالي، عندما شنت إسرائيل غارات في سوريا. الجديد وقتذاك، أن «حميميم» شغلت منظومة صواريخ «إس – 300» المتطورة، واستهدفت قاذفات إسرائيلية بعد انتهائها من حملة القصف. وكانت تلك أول مرة تستخدم فيها القاعدة الروسية، إحدى منظوماتها الثلاث: «أس 300”، و«أس 300” المتطورة، و«إس 400»، منذ نشرها في سوريا بعد التدخل العسكري نهاية 2015.

هذا التطور مهم، لأن تل أبيب حصلت على تعهدات من موسكو بأن تسيطر على غرفة القيادة في منظومة الصواريخ في سوريا، وألا تكون قبضتها بامرة القوات الجوية السورية التي تسيطر على المنظومات القديمة مثل «إس 200» وما دون. وجرى التأكيد على هذه التفاهمات بعد حل التوتر الروسي – الإسرائيلي إثر استهداف طائرة روسية غرب سوريا في سبتمبر (أيلول) 2018.

لكن، لماذا غيرت موسكو تصرفاتها؟ ولماذا نفى ميخائيل بوغدانوف، مبعوث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التقارير عن استخدام المنظومة ضد طائرات إسرائيلية؟

حسب مسؤول غربي رفيع، فإن التقارير الاستخباراتية تؤكد تشغيل «حميميم» للمنظومة، في حادثة نادرة، «لأن روسيا أرادت إيصال رسالة إلى إسرائيل، مفادها أن قدرتها على ملاحقة الأهداف الإيرانية مرتبطة بقرار موسكو، وعليها أن تأخذ هذا بالاعتبار لدى تموضعها في الملف الأوكراني».

ومنذ بداية الحرب الروسية في أوكرانيا، حاولت تل أبيب لعب «دور متوازن»، ورفضت تسليم كييف «القبة الحديدية». لكن، مع تصاعد الحرب والقصف، بدأت تظهر بوادر سياسي وتصريحات تصعيدية، وأحاديث عن دعم عسكري ووجود «مرتزقة» أو خبراء إسرائيليين إلى جانب الجيش الأوكراني، إضافة إلى صدام دبلوماسي.

في هذه اللحظة، بعثت موسكو رسالة إلى تل أبيب من «الصندوق السوري»، إذ يبدو أن الرد -القصف الإسرائيلي تضمن «اختبار عزيمة» الجانب الروسي، مع تمسك بملاحقة «الأهداف الإيرانية» في سوريا، خصوصاً أن الغارات الأخيرة أول من أمس، كانت واسعة، وأشمل من سابقاتها، لأنها طالت أهدافاً في ريف دمشق ووسط سوريا وغربها، وقتل فيها ضباط سوريون.

رسائل التذكير الروسية، ورغم نفي بوغدانوف واعتباره التقارير الغربية «أكاذيب»، لم تطَل إسرائيل وحسب، بل إنها تضمنت أيضاً إشارات إلى دمشق وطهران من أن القرار العسكري الجوي لا يزال في موسكو، بعد تبادل الزيارات المكثف بين مسؤولين سوريين وإيرانيين في الأسابيع الأخيرة، بما فيها زيارة الرئيس بشار الأسد إلى طهران، للعمل على «ملء الفراغ الروسي». كما تضمنت أيضاً، تمسك إسرائيل بـ«خطوطها الحمر» في المرحلة المتأرجحة بين الانسحاب الروسية والتقدمات الإيرانية.

الرئيس بوتين يريد أن يقول إنه رغم انشغاله بأوكرانيا، لم ينس سوريا و«لاعبيها»، أو إنه يريد استخدامها لتحسين الاصطفاف إلى جانبه في حربه الكبرى في «روسيا الصغرى». هنا، كان لافتاً أنه بعد إعلان مسؤولين أردنيين أنهم لاحظوا تراجعاً في الوجود العسكري الروسي جنوب سوريا مع احتمال أن تتقدم إيران وميلشياتها لـ«ملء الفراغ»، استعجلت قاعدة «حميميم» بتسيير دوريات عسكرية روسية على الحدود السورية – الأردنية، تماماً، كما هو الحال أيضاً مع «الرسائل الروسية» إلى تركيا. ذلك أن طائرات «حميميم» تستهدف بين الفينة والأخرى مناطق النفوذ التركي في شمال سوريا، لتذكير أنقرة بالأوراق الروسية لدى مراجعة أنقرة لقراراتها وخياراتها إزاء ممرات الدردنيل والبوسفور إلى البحر الأسود، وبحث طلب السويد وفنلندا للانضمام إلى عضوية «حلف شمال الاطلسي» (ناتو).

إلى الآن، لا يزال بوتين قادراً على استخدام سوريا «صندوق رسائل» ومنصة ضغط على اللاعبين في أوكرانيا. والزمن سيخبر مدى إمكانية الاستمرار في ذلك إذا تحولت الأرض الأوكرانية «مستنقعاً» للقوات الروسية، يصل صداه إلى العمق الروسي ومسارح الشرق الأوسط.

الشرق الأوسط

————————-

انعكاسات الحرب الأوكرانية على سوريا: المساعدات الإنسانية والمنطقة الآمنة/ منهل باريش

رفض النظام السوري تصريحات تركيا حول إنشاء «منطقة آمنة» داخل العمق السوري الملاصق للحدود والتي تسيطر عليها تركيا وفصائل المعارضة السورية.

ووصفت وزارة الخارجية التابعة للنظام تصريحات الرئيس التركي بأنها «رخيصة» مشيرة إلى أن التصريحات تبين «الألاعيب العدوانية التي يرسمها هذا النظام ضد سوريا ووحدة أرضها وشعبها». معتبرة أن «المساومات الدنيئة التي قام ويقوم بها النظام التركي تظهر انعدام الحد الأدنى من الفهم السياسي والأخلاقي للتعامل مع الأزمة في سوريا».

وزادت الوزارة في البيان الذي نشرته وكالة الأنباء السورية «سانا» الجمعة، أن محاولة تركيا لا تهدف إطلاقاً إلى حماية المناطق الحدودية بين سوريا وتركيا «بل الهدف الأساسي هو استعماري وإنشاء بؤرة متفجرة تسمى بالمنطقة الآمنة المزعومة وتساعد بشكل أساسي على تنفيذ المخططات الإرهابية الموجهة ضد الشعب السوري». ولفتت إلى أن تلك المنطقة الآمنة هي «في حقيقتها تطهير عرقي ونقل للسكان وتهديد لحياتهم ومستقبلهم وممتلكاتهم وهي تهدد بتفجير دائم للأوضاع بين البلدين المتجاورين. وبموجب القانون الدولي فإن نقل السكان والتطهير العرقي يشكلان جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية لأن تغيير البنية الديموغرافية وطرد السكان من أماكن عيشهم يشكلان سرقة موصوفة لحقوق مواطني الدول المستهدفة».

وجاء رد النظام السوري على تصريحات للرئيس التركي رجب طيب اردوغان، أطلقها قبل نحو أسبوعين وكررها في لقاء مع نواب حزب العدالة والتنمية، الأربعاء، إذ أشار إلى بدء «توطين الناس في المناطق الآمنة ومعظم المناطق الآمنة التي تحدثنا عنها اكتملت، وبدأ الناس يسكنون فيها، وبدأ العمل فيها من جديد». وتسعى تركيا إلى بناء 13 قرية سكنية في مناطق سيطرة فصائل المعارضة وإعادة مليون لاجئ سوري مقيم في تركيا وإسكانهم في تلك التجمعات.

وشدد اردوغان على أن «الدول الأعضاء في الناتو لم تدعم تركيا قط في حربها ضد pkk» موضحاً أن على بلاده مخاطبة كل الحلفاء في المنطقة، والحلفاء في الناتو؛ «فلتقفوا مع تركيا أمام هذه التحديات، ولا تمنعوها من السير قدماً في إنشاء هذه المنطقة الآمنة، وإكمالها وتأمين الرفاهية فيها». وحول اللاجئين السوريين، هاجم اردوغان أحزاب المعارضة التركية التي تثير الجدل في قضية اللاجئين السوريين، وتطالب بإعادتهم إلى بلادهم وإبقاء موضوعهم على رأس جدول الأعمال إعلامياً وسياسياً هو جزء من «خطة قذرة» حسب تعبيره، تطلقها المعارضة.

ووسعت تركيا دائرة الاتهامات بقضية عودة اللاجئين واتهمت وحدات حماية الشعب الكردية بعرقلة عودة اللاجئين إلى المناطق التي نزحوا منها، وقال وزير الخارجية التركية، مولود جاويش أوغلو إن بلاده «ستواصل الحرب ضد وحدات حماية الشعب الكردية في الوقت الذي تعمل فيه على تنفيذ خطة العودة الطوعية والآمنة لمليون سوري». وأضاف في كلمة له أمام منتدى مراجعة الهجرة الدولية في الأمم المتحدة في نيويورك، أن قرابة 500 ألف سوري عادوا إلى مناطقهم نتيجة الجهود التي بذلتها أنقرة «في توفير الاستقرار في المناطق السورية التي تم تطهيرها من التنظيمات الإرهابية». وأشار الوزير إلى الانتهاء من بناء 57 ألف منزل بجهود تركية في شمال سوريا، في حين أن خطة أنقرة هي بناء 100 ألف منزل، بنهاية العام الحالي.

وفي السياق، شدد وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، الجمعة على نية بلاده استكمال العمليات ضد الوحدات الكردية، متسائلا «إذا لم نطهر المناطق السورية ونجعلها آمنة من سيغادر؟» وعلق على دعوات المعارضة لطرد السوريين «هل من ثقافتنا وإنسانيتنا وحضارتنا أن نرمي السوريين في النار؟».

على الضفة الأخرى، عارض المجلس الوطني الكردي في سوريا، وهو أحد مكونات» الائتلاف الوطني» المعارض الخطة التركية الرامية إلى توطين مليون لاجئ سوري. وألمحت الأمانة العامة للمجلس في بيان نشرته، الاثنين، عن تزامن «المشروع مع حملة الانتخابات البرلمانية التركية والسجالات التي تدور بين الأطراف المتنافسة فيها» ونوهت إلى أن «عدم توفر البيئة الآمنة لعودة هؤلاء إلى أماكنهم الأصلية يؤشر إلى أن هذا المشروع يندرج في إطار ترحيل للاجئين وإحداث تغيير ديموغرافي في تلك المناطق كما حدث ويحدث في مناطق أخرى من البلاد بما فيها منطقة عفرين». وأكد المجلس «على حق العودة للاجئين والنازحين السوريين أينما كانوا، وبما يتوافق مع القرار الدولي 2254 والذي ينص على (الحاجة الماسة إلى تهيئة الظروف المواتية للعودة الآمنة والطوعية للاجئين والنازحين داخلياً إلى مناطقهم الأصلية وتأهيل المناطق المتضررة وفقاً للقانون الدولي)» ويرفض المجلس «عمليات التغيير الديموغرافي في أية بقعة من الجغرافية السورية ومن أية جهة كانت، ويرى في هذا المشروع «تعارضاً مع القرار الدولي 2254 وتفريطاً في حقوق اللاجئين وممتلكاتهم الأصلية، إضافة لما يؤسسه من نزاعات وفتن بين أبناء الشعب السوري الواحد».

ودعا المجلس أنقرة إلى «العدول عن هذا المشروع» كما دعا الدول المعنية بالشأن السوري إلى «اتخاذ موقف واضح وصريح منه والإسراع في تفعيل العملية السياسية لإيجاد حل نهائي للأزمة السورية والذي يضمن عودة آمنة للاجئين والنازحين إلى ديارهم في أماكن سكناهم الأصلية».

وفي اليوم نفسه، فضل «الائتلاف الوطني» السوري المعارض إصدار بيان دعم للانتفاضة في إيران، متجاهلا التعليق على المشروع التركي سلباً أو إيجاباً، وهو حال الائتلاف من سنوات. وشهد عدة مرات تباينات في داخل صفوفه. كما حصل مع إعلان تركيا بدء عملية «غصن الزيتون» ضد «وحدات حماية الشعب» الكردية، حيث رفض المجلس الوطني الكردي العملية وعاد في البيان ليصف ما جرى في عفرين بعملية «التغيير الديموغرافي» في الوقت الذي رحب الائتلاف الوطني بالعملية المذكورة وباركها. على الصعيد الإنساني، أعلنت روسيا الجمعة، معارضتها لتمديد آلية إيصال المساعدات عبر الحدود إلى سوريا، كون المجتمع الدولي لا يبذل الجهود الكافية المتعلقة بدعم مشاريع إعادة الإعمار المبكر هناك حسب قرار مجلس الأمن رقم 2585 الذي نص على ذلك.

واعتبر نائب السفير الروسي لدى الأمم المتحدة، دميتري بوليانسكي أن موسكو لا ترى «سببا لمواصلة هذه الآلية عبر الحدود» التي «تنتهك سيادة سوريا ووحدة أراضيها». معلنا أن موسكو ستصوت بلا مستخدمة حق نقض القرار «فيتو» خلال موعد التصويت على تجديد القرار في تموز (يوليو) المقبل، حيث ينتهي تفويض الأمم المتحدة في العاشر من نفس الشهر. ووصف منطقة إدلب بـ«الجيب الإرهابي» الذي يجري تزويده بالمساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا وهو المعبر الوحيد المتبقي لإدخال المساعدات الإنسانية بواسطة الآلية الأممية العابرة للحدود. ونوه الدبلوماسي الروسي في حديث مع «روسيا اليوم» إلى أنه في حال تسمية الأمور بمسمياتها فإن هذه الآلية «تنتهك سيادة سوريا ووحدة أراضيها». وشدد أن روسيا «سمحت غير مرة بإقناعها بالموافقة على تمديد هذه الآلية إلى حين بدء إيصال المساعدات على نطاق كامل عبر خطوط التماس داخل سوريا».

ويشير كلام نائب المندوب الروسي لدى مجلس الأمن إلى الفخ الذي وقعت فيه الأطراف الدولية عندما اشترطت موسكو تمرير المساعدات عبر خطوط التماس مقابل سماحها بتمديد عمل الآلية، فإظهار خطوط التماس بوصفها آمنة سيزيد من تشدد روسيا حول رفض عمل الآلية. ويرجح أن توافق على تمديد عمل الآلية شريطة زيادة نسبة المساعدات عبر خطوط التماس وجعلها مناصفة بينها وبين الآلية. وتهدف روسيا والنظام من خلال ذلك إلى إنعاش الوضع الاقتصادي في مناطق سيطرة النظام ودفع المعارضة إلى التطبيع والتعامل مع النظام شيئاً فشيئاً.

في السياق، أكد نائب الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيث أن العمليات عبر خطوط التماس «لا يمكن في ظل الظروف الحالية أن تعوض حجم أو نطاق عملية الأمم المتحدة الكبيرة عبر الحدود». محذرا من أن «عدم تجديد التفويض سيعطل المساعدات المنقذة لحياة أكثر من مليون طفل».

على صعيد الدولي، ترى كل من روسيا وتركيا في الحالة السورية ورقة مساومة يمكن أن تكسب منها، ورغم أن الفيتو الروسي الذي تهدد به سيزيد من قطيعة الأطراف الدولية مع النظام ويجبرها على ما لا تفضله موسكو، وربما تتمناه أنقرة، وهو إنشاء آلية للمساعدات الدولية خارج إطار الأمم المتحدة.

من جانبها فإن تركيا، تحاول موازنة القوى بينها وبين روسيا من جهة وحلف شمال الأطلسي «الناتو» وينظر إلى الاعتراض التركي على انضمام فنلندا والسويد على انه اعتراض مؤقت تهدف من خلالها أنقرة إلى إسماع صوتها داخل المجلس والأخذ بعين الاعتبار مصالحها الأمنية في سوريا، وإطلاق يدها بعملية عسكرية تحفظ المزيد من أمنها.

في المقابل، فإن عملية عسكرية تركية في سوريا في منطقة شرق الفرات أصبحت مرتبطة بالموافقة الروسية أكثر من الموقف الأمريكي، ويبدو أن الأولى غير مستعدة له حتى اللحظة وفي حال استعدادها فإنها تفضل دفع الجيش التركي إلى منطقة النفوذ الأمريكي شرق القامشلي والابتعاد عن عين العرب/ كوباني التي تثمن تركيا موقعها فالسيطرة عليها تعني وصل مناطق نفوذها في تل أبيض وراس العين شرق الفرات مع جرابلس والباب واعزار غرب الفرات وصولا إلى إدلب.

ليست حسابات الميدان والأمنية المباشرة الهم الرئيسي لتركيا فقط، فلديها تحديات اقتصادية وتحديات أخرى تتعلق بصفقة شراء طائرات اف-16 من واشنطن، إضافة لتطوير وصيانة طائراتها القديمة من نفس النوع، وهو أمر حساس للغاية لا تفضل أن ينتهي الأمر كما انتهى بطائرات اف- 35 الذي أفقدها صفقة تقدر بنحو 10 مليار دولار، واختلال مجال الخلاف مع «الناتو» سيعطل صيانة 80 مقاتلة وشراء 40 أخرى.

القدس العربي

————————-

هل ستساعد أمريكا السويد في موضوع الاعتراض التركي؟/ عبد الباسط سيدا

يُعد قرار انضمام السويد إلى حلف الناتو من أصعب القرارات التي اتخذتها الحكومات السويدية حتى الآن منذ أكثر من مائتي عام، ومن أصعب القرارات التي اتخذها الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي حكم السويد في معظم الأوقات خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا.

فالقرار سيُحدث تحولات نوعية في أذهان السويديين، وسيؤدي إلى متغيرات بنيوية في منظومتهم المفهومية الخاصة بالهوية السياسية للسويد؛ كما ستكون له نتائج مباشرة في المدى القريب؛ وستكون له تبعات وانعكاسات مستقبلية في مجالات الاستعدادات والأولويات والنفقات سواء على المستوى المحلي السويدي، أم على مستوى دول الشمال (السويد، فنلندا، الدانمارك، النرويج، ايسلندا) ودول البلطيق: (استونيا، لاتفيا، ليتوانيا). وغالبية هذه الدول تتشارك في سواحل بحر البلطيق إلى جانب كل من روسيا وألمانيا وبولندا.

كما ستؤدي عضوية الناتو بالنسبة إلى كل من السويد وفنلندا إلى تأثرهما بالنزاعات والصراعات الدولية، وربما إلى الانخراط فيها بناء على التزامات الناتو؛ وكل ذلك يأتي في ظروف ارتفاع حدة المواجهة بين روسيا والدول الغربية؛ وهي مواجهة متفاقمة في طريقها إلى التصعيد، لا سيما بعد الحرب الضروس التي أعلنها بوتين على أوكرانيا منذ نحو ثلاثة أشهر. وهي حرب يشارك فيها الغرب عملياً، وإن بصورة غير مباشرة، وذلك عبر تزويد الأوكرانيين بأحدث أنواع الأسلحة، والمعلومات الاستخباراتية، والدعم الاقتصادي المعلن. هذا فضلا عن حزم العقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضت، وتفرض، على روسيا تباعاً، لا سيما في ميدان الطاقة؛ كما فُرضت العقوبات، وتُفرض، على المسؤولين الروس وعلى أعلى المستويات.

ونظراً لاستثنائية الخطوة المتخذة، وتحسباً لاختلاطاتها وعواقبها التي قد تكون بعد القطع مع سياسة الحياد التي اتبعتها السويد على مدى القرنين المنصرمين، حرصت رئيسة الحزب الاشتراكي الديمقراطي ماجدلينا أندرسون (أو أندرشون وفق اللفظ السويدي) على إجراء حوارات ومشاورات معمقة، وعلى مختلف المستويات، ضمن الحزب الاشتراكي الديمقراطي نفسه؛ ومع أحزاب المعارضة، خاصة مع حزب المحافظين، وهو الحزب الثاني بعد الاشتراكي من جهة عدد أعضاء البرلمان والشعبية وفق استطلاعات الرأي العام.

وفي الوقت ذاته، كان الحرص على التواصل والتنسيق المستمرين مع فنلندا، باعتبارها الجارة التي تتكامل مع السويد، وتتقاسم معها التطلعات والتهديدات. وكان القرار السويدي الفنلندي بتقديم الطلب في التوقيت نفسه إلى قيادة الناتو في بروكسل؛ كما كان الحرص المستمر على الزيارة المشتركة لكل من ماجدلينا أندرشون والرئيس الفنلندي سولي نينستو إلى واشنطن لمقابلة الرئيس الأمريكي جو بايدن والبحث في الضمانات الأمنية الأمريكية، وتلك التي سيوفرها الناتو للدولتين خلال المرحلة الانتقالية، إلى جانب تناول موضوع الاعتراض التركي الذي أعلن عنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بخصوص انضمام كل من السويد وفنلندا إلى الناتو.

أما السبب المعلن للاعتراض التركي الذي ذكر أكثر من مرة من قبل رئيس تركيا، ووزير خارجيتها، فهو يتمثل في العلاقات التي تقيمها كل من السويد وفنلندا مع حزب «العمال الكردستاني»، وفرعه السوري «الاتحاد الديمقراطي» والقوات التابعة له بأسمائها المختلفة في سوريا.

وقد بينت السويد موقفها من جانبها، وأكدت مجدداً أنها تعتبر حزب «العمال الكردستاني» حزباً إرهابيا، ولا تقيم معه العلاقات، وهي تلتزم في ذلك بالموقف الأوروبي العام. غير أنها في المقابل اعترفت بعلاقاتها سواء مع «مسد» أم «قسد» والإدارة الذاتية» في منطقة شرقي الفرات التي يقف وراءها في واقع الأمر حزب «الاتحاد الديمقراطي» التابع لحزب «العمال». على أساس أن هذه القوى تمثل الكرد السوريين، وهو الأمر الذي لا يتطابق مع الواقع؛ وإنما الذي حصل هو أن حزب «العمال» استغل عدالة القضية الكردية السورية في سياق أجنداته الخاصة، وبالتنسيق التام مع سلطة بشار الأسد ومع الإيرانيين، وكان ذلك منذ الأيام الأولى للثورة السورية عام 2011.

وما يُستنتج من معطيات عدة هو أن السويد قد بنت تلك العلاقات بناء على ضوء أخضر من الجانب الأمريكي الذي اعتمد على «قسد» في محاربة داعش، وذلك بعد تباينات في المواقف بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، وهي التباينات التي تفاقمت لاحقاً نتيجة إصرار تركيا، وهي العضو الهام في الحلف الأطلسي، على شراء منظمة صواريخ إس 400 من روسيا، ومن ثم دخولها في مسار أستانا مع الروس والإيرانيين منذ بدايات عام 2017.

وقد أسفر التوجه التركي نحو روسيا عن اضطراب العلاقة مع الجانب الأمريكي إذا صح التعبير. وتجسد ذلك في فرض حظر نسبي على تزويد تركيا بالسلاح الأمريكي كإلغاء صفقة إف 35؛ هذا مع استمرارية التفاهمات الأخرى، وهي التفاهمات التي أدت في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى دخول القوات التركية إلى منطقتي تل أبيض ورأس العين في خريف عام 2019.

ولكن من الواضح أن هناك رغبة لدى غالبية أعضاء الناتو، لا سيما الولايات المتحدة، لإيجاد حل مقبول للاعتراض التركي الذي لن تكون نتائجه، في حال بقائه، لصالح الناتو بصورة عامة.

الجانب الأمريكي لديه القدرة، إذا توفرت الإرادة، بطبيعة الحال، على معالجة الموضوع عبر الإسهام الفاعل في عملية الوصول إلى حل واقعي ممكن للموضوع السوري، بعيداً عن أسلوب إدارة الأزمة المتبع منذ نحو عقد من الزمن. ومثل هذا الأمر سيساهم في حال تحققه في عودة السوريين إلى ديارهم، وبالتالي تتخلص حكومة العدالة والتنمية من أعباء ضغوطات قضية اللاجئين السوريين على الرأي العام في تركيا، وذلك بعد أن باتت القضية المعنية مسألة انتخابية بالنسبة إلى الأحزاب التركية التي تستعد لاستحقاقات العام المقبل 2023.

من ناحية أخرى تستطيع الولايات المتحدة، إذا أرادت، أن تساهم في جهود فك الارتباط بين حزب «الاتحاد الديمقراطي» ومعه «قسد» و»مسد» من جهة، وبين حزب «العمال الكردستاني» من جهة ثانية، مع العلم بأن هذا الأخير مصنف أمريكياً ضمن لوائح المنظمات الإرهابية، بل هناك جائزة أمريكية معلنة لمن يفيد بمعلومات تؤدي إلى الوصول إلى ثلاثة من قياديي هذا الحزب، وجميل بايق نفسه هو من بينهم، وهو الذي يعتبر اليوم القائد الفعلي للحزب المعني، بينما عبدالله أوجلان لم يعد سوى الماركة أو الواجهة.

وفي الوقت ذاته، تستطيع الولايات المتحدة أن تساهم بالتعاون مع الأوروبيين، وربما مع بعض الدول العربية، في دفع كل من الحكومة التركية، وحزب العمال ومعه الأطراف الكردية الأخرى في تركيا، نحو مائدة المفاوضات من جديد، بغية إحياء العملية السلمية التي كانت قد بدأت عام 2012، وتوقفت عام 2015، وهي العملية التي كانت تستهدف الوصول إلى حل عادل للقضية الكردية في تركيا ضمن إطار وحدة الدولة والشعب، ولمصلحة الاستقرار التركي الداخلي، والاستقرار الإقليمي أيضاً، واستقرار كل من العراق وسوريا على وجه التحديد.

ومثل هذا الأمر، فيما لو تحقق، سيعزز دور تركيا الإقليمي والدولي، وسيمكنها من تجاوز الكثير من الصعوبات التي تعاني منها راهناً، خاصة في الميدان الاقتصادي.

فالحكومة التركية اليوم تريد العودة إلى سياسة تصفير المشاكل مع دول المنطقة، وهي سياسة إيجابية مطلوبة لمنطقتنا التي انهكتها النزاعات والحروب. غير أن هذه السياسة الإقليمية لن تكون ناجحة كما ينبغي بمعزلٍ عن سياسة داخلية مماثلة، تقدم الحكومة التركية بموجبها تصورها لحل ممكن للقضية الكردية في البلاد، وهي القضية الداخلية الأكبر والأقدم، وتبدي استعدادها للحوارات والمفاوضات من أجل الوصل إلى حل يحظى بالقبول العام. هذا إلى جانب ضرورة رفع الإجراءات التي تقيّد الحريات الديمقراطية، وإطلاق سراح معتقلي الرأي؛ فكل ذلك سيساهم في التخفيف من التوترات والاحتقانات، وسيصب في مصلحة تركيا عموما، وفي مصلحة حزب العدالة والتنمية نفسه الذي بدأ حكمه عام 2002 بداية واعدة، ولكنه تعرض لجملة من الانتكاسات أثرت سلباً على شعبيته وسمعته، وفرضت مجموعة من التساؤلات حول مدى قدرته على التعايش مع نظام ديمقراطي مستقر ناضج يطمئن الجميع، ويحفظ حقوق الجميع.

تركيا قوة إقليمية هامة من دون أي جدال، ومن المتوقع أن يكون لها دور إقليمي أكبر مستقبلاً؛ ولكن الاستعداد لأداء هذا الدور بصورة إيجابية يستوجب إعادة ترتيب الأوراق على المستويين الداخلي والإقليمي، وذلك استعداداً للتحديات الكبرى التي تواجهها، وستواجهها، المنطقة عموماً وتركيا على وجه التخصيص نتيجة الحرب في أوكرانيا، وبفعل الاصطفافات والمعادلات الإقليمية والدولية التي تتشكل، وستتشكل، نتيجة التصادم الروسي الغربي في ميادين كثيرة وعلى مختلف المستويات.

*كاتب وأكاديمي سوري

القدس العربي

——————————-

مَن يشتري الفيتو التركي على انضمام السويد وفنلندا للناتو؟/ عبدالناصر العايد

كثر الحديث والتكهنات حول الغايات التركية من معارضة انضمام كل من فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، وعلى الأخص في الملف السوري. لكن نظرة فاحصة تقول إن أنقرة لن تستطيع ابتزاز دول حلف الناتو عبر منح تلك الموافقة الإجبارية وفق ميثاق تأسيس الحلف، ومن ثم فإن أردوغان لن يستطيع بيع هذا “الفيتو” سوى لموسكو، التي قد تكون مهتمة به نظراً للظروف الضاغطة التي تلمّ بها من كل جانب.

يقتضي حصول فنلندا والسويد على عضوية الناتو، عملية بيروقراطية طويلة، أحد أجزائها موافقة برلمانات الدول الثلاثين من أعضاء الحلف كاملة، إضافة إلى دراسات عسكرية ومشاورات فنية مطولة وإجبارية. وقد استلزم قبول الجبل الأسود في الحلف مؤخراً، 18 شهراً. ورغم الاستعجال الواضح في ما يخص الموافقة على طلبَي فنلندا والسويد، لأسباب سياسية، ولكَون بُنية جيشيهما تتطابق مع بنية بقية جيوش الناتو، إلا أنه ليس متوقعاً، وفق معظم الخبراء، أن تنجز العمليات الضرورية قبل سنة واحدة، أي أن مماطلة أنقرة في الموافقة التي أعلن أردوغان تردده في منحها، هي جزء من البطء المفترض، وليست شيئاً معرقلاً في حد ذاته.

وحتى يحين موعد الاستحقاق النهائي، أي التصويت بنعم أو لا، فقد تعهد عدد من دول الحلف، بالدفاع عن السويد في المرحلة الانتقالية، فيما لو شنت روسيا هجوماً انتقامياً. فأصدرت النروج والدنمارك وأيسلندا، بياناً مشتركاً لإعلان الالتزام بالدفاع عن الدولتين المرشحتين خلال مرحلة الانتظار، فيما وقع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، اتفاقيات أمنية مع البلدين تُلزم بلاده بتقديم المساعدة التي يطلبانها إذا ما وقع عليها هجوم.

ودعماً لدول الحلف التي تعهدت بمساعدة السويد، أعادت واشنطن نشر قوة كانت تتمركز في إيطاليا، وأرسلتها إلى دول البلطيق، ودعمتها بطائرات F-35 المتطورة وحوّامات أباتشي الهجومية، كما ضاعف الناتو حجم قواته في إستونيا وبلغاريا ورومانيا والمجر وسلوفاكيا ولاتفيا وليتوانيا. ما يعني أن دخول الناتو حرباً محتملة دفاعاً عن السويد وفنلندا، لا يقتضي موافقة تركيا من عدمها، وهي أصلاً بعيدة جداً من ميدان القتال المفترض، ويكاد تأثيرها في نتائجه يكون شبه معدوم.

من ناحية أخرى، فإن الغرب، الذي لا يسعى إلى “إذلال” روسيا، كما قال الرئيس الفرنسي ماكرون، سيكون مستعداً لطي صفحة انضمام هاتين الدولتين إلى الحلف، أو تأجيله -ربما بالتذرع بالفيتو التركي ذاته- لأطول فترة ممكنة، والاستعاضة عنه باتفاقيات دفاع مشترك بين فنلندا والسويد وعدد من دول حلف الناتو، في مقابل تراجع روسيا عن استراتيجيتها التوسعية. وهو ما يمكن أن يحدث في حال أدرك بوتين حجمه ومدى قوته، أو إذا ما حدثت تغيرات جوهرية في الكرملين والمنظومة التي تحكم روسيا اليوم.

ليس واضحاً بالضبط ما يمكن أن يطلبه أردوغان من الغرب، مقابل وضع موافقة بلاده، فهو يجدها فرصة قابلة للاستثمار، وقد مهد للمساومات السياسية بالقول إن كلاً من الدولتين المعنيتين، فنلندا والسويد، لا تبذلان ما يكفي لقمع أنشطة الجماعات الإرهابية “الكردية”، وخلايا التنظيم الموازي “فتح الله غولن” على أراضيهما. وأعاد التذكير بأن الدولتين فرضتا العام 2019 حظراً على بيع السلاح لتركيا إبان اجتياح قوات الأخيرة مدينة عفرين السورية. لكنه بالتأكيد ليس جادّاً حينما يطلب من الدول الاسكندنافية تقييد حرية مواطنيها أو اللاجئين فيها، لكنه قد يطلب تنازلات في قضايا أخرى، مثل قضية قبرص أو حتى النزاع مع اليونان، أو يعيد فتح ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. والمؤكد، أن دول حلف الناتو لن تستطيع تلبية الكثير من طلبات تركيا في سوريا. وعليه، لا تبدو فكرة المقايضة التي يتم الحديث عنها، بين الفيتو ومكاسب في سوريا، واردة، إلا في حالة واحدة، وهي توتر، أو توتير تركيا لعلاقتها مع موسكو في سوريا على خلفية الموافقة على ضم السويد وفنلندا للناتو. فيغدو أمر التزام الناتو بتقديم عطاءات أكبر لأنقرة، أمراً منطقياً ومنسجماً مع ميثاق الحلف وتعهد دوله بمساعدة بعضها البعض، خصوصاً على ضوء الدعم غير المحدود لأوكرانيا التي لا تتمتع بعضوية الحلف أساساً.

لكن روسيا يمكنها أن تقدم تنازلات أكثر مما يقدمه الغرب لتركيا، لأن موسكو تنظر إلى الحرب والعزلة المفروضتين عليها، واستمرار توسع الناتو، كتهديد وجودي، وهي بحاجة ماسّة إلى خرق الحصار من الجنوب، وجعل الحلف يتآكل في مكان ما، بموازاة تمدده في مكان آخر. ولأنه لا تعهدات مُلزمة لها في سوريا، لا بالنسبة لنظام الأسد ولا الأكراد، فإنها قادرة على منح أردوغان كل ما يطلبه مما تقع يدها عليه هناك، كتخفيف أو تقليص وجودها ودعمها العسكري لقوات النظام في الشمال، أو الضغط عليه سياسياً لتقديم تنازلات دائمة وتوقيع اتفاقيات. وفي ما يخص الأكراد، يمكنها أن ترفع مظلتها الحالية عن مناطق بعينها، لإفساح المجال لتوغل أو نشوء نفوذ لأنقرة فيها، كما أنها على استعداد، أبدته دائماً، لتزويد الجيش التركي بأي نوع من أسلحتها الحديثة. وأخيراً، هي لا تمانع في أن تأخذ جارتها الجنوبية الكبيرة، دوراً أكبر في العلاقات الإقليمية والدولية، من خلال احترام وساطة أنقرة في النزاع مع أوكرانيا، أو مراعاة نفوذها في آسيا الوسطى وحوض المتوسط.

لكن بوتين أيضاً، يمكنه أن يذهب بنفسه إلى الغرب، ليقود مفاوضات على تسوية ما لمجمل النزاع في أوروبا الشرقية، وحصول خطوة كهذه سيعني انقلاب حسابات أنقرة رأساً على عقب، وستخسر في كلا المقلَبين. وبالنظر إلى البراغماتية الشديدة لأردوغان، ومع الأخذ في الاعتبار سلوكه في قضايا مشابهة، فإن المتوقع أن يظل محافظاً على موقف وسطيّ دقيق، يمكّنه من الانتقال إلى الموقف الأكثر ملاءمة له، في الوقت المناسب تماماً، وهو سيخوض بالتأكيد مزيجاً من المساومة مع روسيا والغرب في آن واحد، ليجني أكبر ربح محتمل.

———————————–

أوكرانيا تعيد سوريا إلى الواجهة/ مصطفى فحص

أعادت أوكرانيا سوريا إلى الواجهة، لكن هذه المرة عسكريا بعدما تعطلت السياسة، فما كان يهيأ للطرح منذ أكثر من سنة تحت ذريعة إعادة خلط الأوراق السياسية في المنطقة، الذي يقوم على إعادة تعويم نظام الأسد، تحول إلى إعادة تموضع عسكري للقوى المؤثرة ميدانيا في سوريا.

هذا التحول قد يطيح بكل التفاهمات التي أُنجزت في السنوات الأخيرة لصالح الأسد ونظامه. فالتصعيد الأخير الذي جرى بين تل أبيب وموسكو ينذر بأن قواعد اشتباك جديدة ستُفرض في سوريا، قد تتسبب بتصادم بين تل أبيب من جهة، وموسكو وطهران من جهة أخرى.

الإشارة الأولى جاءت من العاهل الأردني، الذي أبدى تخوفه من تغيير قواعد الاشتباك في سوريا، وتحدث بشكل واضح وصريح عن مخاطر تراجع الدور الروسي لصالح الدور الإيراني، ففي لقاء مع برنامج (باتل غراوندز) العسكري التابع لمعهد هوفر في جامعة ستانفورد اعتبر العاهل الأردني ان “ملء إيران ووكلائها الفراغ الذي تخلفه روسيا في سوريا قد يؤدي إلى مشاكل على طول الحدود الأردنية”.

وأضاف أن “الوجود الروسي في جنوب سوريا كان مصدر تهدئة، ولكن مع انشغال موسكو في أوكرانيا، فإن الأردن يتوقع تصعيدا في المشاكل على الحدود”.

وعلى الأرجح فإن التصعيد قد بدأ، حيث تؤكد مصادر أردنية أن هجمات حدودية تحدث بشكل متصاعد في الأشهر الأخيرة من قبل أطراف معروفة الارتباط، إذ أن التوتر على الحدود الأردنية السورية سيؤثر مباشرة على استقرار مناطق جنوب سوريا ويعيد احتمال حدوث خروقات أمنية على حدود الجولان السوري المحتل، حيث من المتوقع أن تعيد طهران انتشارها في مناطق الجولان، بعدما كانت قد تعهدت للجانب الروسي بالتراجع 40 كلم عن حدوده.

عمليا التصعيد على خط طهران تل أبيب في سوريا أمر متوقع، لكن ما ليس متوقعا هو التصعيد الروسي الإسرائيلي في سوريا، والذي بدأ سياسيا مع لافروف ثم أخذ ملامح اقتصادية عبر إمكانية أن تقوم تل أبيب بتغطية بعض حاجات السوق الأوروبية من الغاز، لكنه في الآونة الأخيرة أخذ حيّزا أمنيا تصعيديا بعد قيام الدفاعات الجوية الروسية بالتصدي لطائرات حربية إسرائيلية كانت تشن غارة على مواقع تابعة للحرس الثوري وقوات النظام السوري. كما أشارت مصادر أمنية إسرائيلية إلى أن موسكو زودت النظام بدفاعات جوية جديدة لمساعدته على التصدي للغارات الإسرائيلية.

في حادثة غير مسبوقة، تصدت بطاريات صواريخ اس 300 الروسية، لأول مرة، لطائرات حربية إسرائيلية في سماء سوريا، هذا الحدث يخالف على الأغلب تفاهمات بوتين – نتنياهو التي جرت بعد التدخل الروسي العسكري في سوريا في 2015، والتي أعطت بموجبها موسكو لتل أبيب حرية الحركة ضد الأهداف الإيرانية على كافة المساحة السورية، كما أن هذا الحدث سيؤدي إلى تراجع التنسيق ما بين قاعدة حميميم وقاعدة حيفا.

على الأرجح أن التصادم الروسي الإسرائيلي في سوريا مستبعد، خصوصا أن موسكو بالغنى عن فتح جبهة جديدة تُثقلها ماديا، كما أنها قامت بسحب جزء من قواتها المقاتلة ونقلته إلى الجبهة الأوكرانية مع كبار الضباط الذين قادوا عملياتها في سوريا، ولكنها ليست حاليا في الموقع الذي تمنع فيه حدوث تصادم إيراني إسرائيلي كبير، خصوصا أنها تركت لطهران حرية التحرك في سوريا، الأمر الذي ساعد رأس النظام على إعادة رفع رهاناته الإيرانية، خصوصا بعد زيارته الأخيرة إلى طهران، إذ كشف سفير طهران السابق في دمشق محمد رضا باقري أن الأسد تحدث مع المرشد الإيراني علي خامنئي حول انسحاب القوات الروسية من سوريا، وقال باقري في مقابلة مع القناة الخامسة الإيرانية، بثت يوم الجمعة الفائت أن “الأسد طلب خلال زيارته الأخيرة لقاء المرشد الأعلى للثورة، للحصول على مشورة شخصية، وأعتقد أن من أهم النقاط كانت قضية انسحاب القوات الروسية من سوريا”.

من هنا فإن الفخ الذي نصبته الدول الغربية لموسكو في أوكرانيا، الذي تحول إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، لا بد أن يتوسع ليشمل مناطق النفوذ الروسية، خصوصا في المياه الدافئة التي يزدحم برها وبحرها بأنابيب الطاقة وسماءها بالطائرات والصواريخ الحربية، والتي قد تتحول إلى خاصرة رخوة للضغط على طهران وموسكو معا، وهذا على الأرجح ما دفع العاهل الأردني إلى مراجعة موقفه الذي أطلقه أثناء زيارته الأولى لواشنطن في يوليو 2021 وبين الزيارة التي حصلت في 13 مايو 2022 حيث يصح القول إن ما بعد أوكرانيا ليس كما قبلها.

الحرة

—————————-

================

تحديث 24 أيار 2022

———————

تركيا تلعب أوراقها قبيل الانتخابات… دخول السويد وفنلندا إلى الناتو مقابل دعم عمليتها في سوريا/ يامن المغربي

أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أمس الإثنين، عن اعتزام تركيا إطلاق عملية عسكرية في مناطق شمال سوريا التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، مشيراً إلى أن الأمر ينتظر موافقة مجلس الأمن القومي التركي فحسب.

تصريحات أردوغان، تشير بشكل أو بآخر إلى أن العملية لا ترتبط فقط برغبة تركيا في إبعاد مقاتلين وتنظيمات تضعهم على قوائم الإرهاب عن حدودها فحسب، إذ إن توقيت الإعلان واقتراب موعد العملية العسكرية التي تدور حولها الشائعات والتحليلات والأخبار منذ شهور، يشي بأنها ترتبط بشكل مباشر بنقطتين أساسيتين إحداهما تؤثر على أخرى، ثالثة.

تأتي العملية في وقت تحفظت فيه تركيا على الموافقة على انضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وأنباء متتالية عن انسحاب قوات روسية من سوريا لدعم العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، من جهة، ومشروع “العودة الطوعية” الذي أعلن عنه أردوغان قبل أسابيع، والذي يشمل إقامة مشاريع تنموية وتجارية وتعليمية لإعادة مليون سوري إلى بلادهم من تلك المناطق من جهة أخرى، وهذه النقطة بالذات هي التي يمكن أن تؤثر بشكل مباشر على النقطة الثالثة، أي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية في صيف 2023، التي يصفها محللون ومراقبون بأنها “الأصعب” و”الأكثر حسماً” في تاريخ تركيا الحديث.

مبررات وأسباب

تركيا، وفق كلام أردوغان، ستتخذ قراراتها في ما يخص العملية خلال اجتماع مجلس الأمن القومي الخميس المقبل. والحديث عن عملية عسكرية تركية جديدة في مناطق الشمال السوري ليس جديداً، إذ سبق أن صدرت العشرات من التحليلات السياسية والعسكرية والتقارير الصحافية الخاصة بالأمر، إلا أن ما صرّح به أردوغان هو الإعلان الرسمي الأوّل عن العملية، خاصةً مع عمليات استهدفت الداخل التركي، أعقبتها اتهامات وجّهتها أنقرة إلى “قسد” بتنفيذ هذه العمليات، كما أنها تأتي بعد عملية “المخلب”، التي نفّذتها تركيا في شمال العراق ضد “حزب العمال الكردستاني” (PKK)، الذي تضعه على قوائم الإرهاب.

وكانت وتيرة الاشتباكات بين “قوات الجيش الوطني” و”قسد” قد ارتفعت خلال الأيام الأخيرة في ريفَي حلب الشمالي والشرقي، ومدينتَي “رأس العين” و”تل أبيض”.

يرى الكاتب السياسي التركي، حمزة تكين، في حديث إلى رصيف22، أن العملية العسكرية المرتقبة “كان لها العديد من المؤشرات خلال الأشهر الماضية، وما أعلن عنه أردوغان كان مجرد إعلان وتأكيد عليها”،

ويشرح: “مبررات العملية لم تنقطع يوماً خلال السنوات القليلة الماضية، وأهمها وجود تنظيمات (إرهابية) في الشمال السوري تهدد الحدود التركية والأمن القومي التركي وتهدد بتقسيم سوريا، وهو ما لا يتوافق مع مصلحة الأمن القومي التركي، خاصةً أن هذه التنظيمات (قوات سوريا الديمقراطية-قسد، وPKK)، نفّذت عمليات قصف وتفجير في مناطق غصن الزيتون ونبع السلام ودرع الفرات، كما استهدفت مناطق داخل الحدود التركية”، مشيراً إلى أن العملية “ستتم بالشراكة بين الجيش التركي والجيش الوطني السوري كما العمليات السابقة”.

وأصدر المكتب الإعلامي لـ”قوات سوريا الديمقراطية”، بياناً أمس الإثنين، نفى فيه “أي بوادر لتغيير إستراتيجي في انتشار القوى الضامنة في مناطق نفوذها شمال شرق سوريا”، عادّاً أن التصريحات التركية لـ”تسخين الأجواء”، مستبعداً أي عملية عسكرية فعلية.

العملية والعودة الطوعية

لا يمكن الحديث عن العملية العسكرية التركية التي أعلن عنها الرئيس التركي، من دون ربطها بشكل أو بآخر بمشروع “العودة الطوعية”، خاصةً أن العدد الأوّلي الذي يستهدفه المشروع يشمل مليون سوري، في حال لم تُحتسب أعداد أخرى قد يتضمنها المشروع في وقت لاحق.

وعليه، فإن النظرية السياسية المطروحة هنا هي “عملية عسكرية تزيح خصوم أنقرة من على حدودها، وتؤمّن نتيجةً أفضل للمشروع، وتالياً تخفيف الضغط الذي يسببه ملف اللاجئين السوريين على حزب العدالة والتنمية قبل الانتخابات المقبلة في عام 2023”.

وبقدر ما يمكن القول إن هناك اتفاقاً حول ارتباط العملية بشكل أو بآخر بمشروع “العودة الطوعية”، يذهب الخلاف أكثر في اتجاه ارتباطه بشعبية حزب العدالة والتنمية في الشارع التركي، ويرى المحلل السياسي التركي، مصطفى كمال أرديمول، أن “العملية المحتملة يمكن أن تبدأ من منطقتَي تل رفعت ومنبج، والخطة هي السيطرة على هذه المناطق في المقام الأول”.

ويقول أريدمول لرصيف22: “أردوغان زعم بأن منظمتَي PKK، وYPD، كثّفتا من هجماتهما ومضايقاتهما في الشمال السوري، وأن مصدر هذه الهجمات هو منطقة تل رفعت، وعليه ستتم إعادة توطين المدنيين السوريين في المناطق الخالية، لذا أعتقد أن العملية مرتبطة بمشكلة الهجرة”.

ويضيف: “العملية تستهدف فعلياً جميع ممارسات حكومة العدالة والتنمية الحالية الداخلية، وأردوغان يحاول استعادة شعبيته قبل الانتخابات، لذا فإن العملية مرتبطة بالانتخابات بشكل مباشر، إذ قال أردوغان إنه سيعيد مليون سوري، وينوي تهيئة مناطق آمنة لهم في الوقت الذي يتواجد فيه الجيش التركي هناك بالفعل، لذا فإن الهدف هو فقط الحد من رد فعل المجتمع التركي، وأنا أرفض هذا الأمر لأنني لا أريد إعادة أي طالب لجوء طوعاً أم قسراً”.

في المقابل، لا يرى تكين رابطاً بين العملية والانتخابات المقبلة، ويقول: “لا علاقة لها (أي العملية) بالانتخابات على الإطلاق. هي عملية عسكرية ضرورية في هذه الفترة بعد أن طفح الكيل من هذه التنظيمات، كذلك هي مهمة للجيش الوطني السوري الذي سيفرض سيطرته على هذه المناطق”، مشيراً إلى الخطوات التي ستلي نهاية العملية العسكرية، إذ ستشرع تركيا “في عملية تنموية وإغاثية تشمل مشاريع هائلةً لإعادة ترميم البنى التحتية”.

وعليه، وفق تكين، “ستؤمّن عودةً طوعيةً لمئات الآلاف من السوريين الراغبين في العودة إلى منازلهم التي هُجّروا منها، خاصةً الأكراد، إذ تستضيف تركيا 400 ألف من الأخوة الأكراد السوريين الذين هربوا من مناطقهم بسبب التنظيم وسياساته ضد كل من يخالفه، سواء أكان تركياً أو عربياً أو كردياً أو تركمانياً”.

أين روسيا وأمريكا؟

كان من المتوقع، وفقاً للظروف السياسية والظروف على الأرض في سوريا، أن تعترض كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا على العملية العسكرية التركية المقبلة، إلا أن الظروف الحالية التي فرضتها الحرب الروسية على أوكرانيا، غيّرت قواعد اللعبة كما يبدو.

وتواردت الأنباء مؤخراً عن سحب روسيا لقواتها من مناطق عدة، وفق ما ذكرت صحيفة “موسكو تايمز”، في 17 نيسان/ أبريل الماضي، لدعم قواتها في أوكرانيا، وتسلّمت هذه المناطق قوات تابعة لـ”حزب الله” و”الحرس الثوري الإيراني”.

من جهة أخرى، فرضت الحرب في أوكرانيا، على الدول الأوروبية المجاورة لروسيا (السويد وفنلندا)، التخلي عن حيادها العسكري التاريخي والانضمام إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وهو ما اصطدم برفض تركي صريح، إذ اتهمت أنقرة كلاً من السويد وفنلندا بدعم تنظيم (PKK) الذي تضعه أنقرة على قوائم الإرهاب.

وتسعى واشنطن إلى تسهيل عملية انضمام الدولتين إلى الحلف في سبيل الضغط على موسكو، في الوقت الذي أعلنت فيه الخارجية التركية عن لقاء يُعقد غداً الأربعاء في أنقرة، مع وفدين من السويد وفنلندا، للتباحث حول الانضمام إلى الحلف. وتحاول تركيا استغلال الموقف الحالي لكل من واشنطن وروسيا للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب خلال الفترة المقبلة.

يقول تكين، إن “تركيا لا تنتظر موافقة أحد، لا روسيا ولا أمريكا، لتتحاور معهما، لكن في نهاية المطاف عندما تفرض الظروف العملية العسكرية فإن تركيا لا تنتظر موافقة أحد، والدليل أن العمليات السابقة جرت بالرغم من معارضة روسيا وأمريكا والأمر ذاته يحصل اليوم”، ويضيف: “موقف روسيا أصلاً موقف ضعيف في سوريا نتيجة الحرب في أوكرانيا، والأمر نفسه بالنسبة إلى أمريكا بسبب محاولات إدخال السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، ورفض تركيا لهذا الأمر لدعمهما للتنظيمات”.

تنازلات متبادلة

يتوقع تكين، أن واشنطن ستقدّم تنازلاتٍ لتركيا في نهاية المطاف، “للحصول على موافقتها في شأن انضمام فنلندا والسويد إلى (الناتو). قد توافق تركيا وهي في مرحلة تحفظ وليس في مرحلة الرفض الكامل، وهذا التحفظ قد يزول عندما تربح تركيا الأوراق من الناتو والاتحاد الأوروبي”.

من جهته، يرى أرديمول، أن العملية العسكرية المرتقبة “ستتم وفق اتفاقيات أستانا وبعمق لا يتجاوز الـ30 كيلومتراً”. ويضيف: “لا أعتقد أنه سيتم إبرام اتفاق مع الولايات المتحدة لهذه العملية، لكن تركيا ستقدّم بالتأكيد بعض التنازلات في ما يتعلق بعضوية الناتو لفنلندا والسويد، مع الولايات المتحدة. في النهاية، بغض النظر عن مدى رفض أردوغان، فإن الناتو هو الذي سيقبل فنلندا والسويد كعضوين”.

ولا يمكن لأي دولة الدخول إلى الحلف من دون الحصول على موافقة جميع أعضاء الحلف من غير استثناء، علماً أن تركيا تمتلك ثاني أكبر قوة عسكرية في “الناتو”.

يعتقد تكين أن “الولايات المتحدة ستبيع التنظيمات التي تدعمها في سوريا، في سبيل أهداف أكبر تتعلق بأوروبا وحلف الناتو، وتالياً هذا مكسب جديد للدبلوماسية التركية في لعبة الشطرنج التي تنجح فيها تركيا مجدداً في هذه الفترة الحساسة”.

في المحصلة، فإن العالم الذي يعاني من أزمات اقتصادية حادة وصل إلى مرحلة من الارتباط يُحدد فيها انضمام دولتين بحجم السويد وفنلندا إلى حلف “الناتو”، مصير ملايين السوريين المنتظرين حلاً ما لأزمتهم المستمرة منذ سنوات، وسط صعود قوى جديدة إلى الساحة الدولية في ظل الظروف الحالية.

رصيف 22

——————————

باحثة إسرائيلية: لا تسارعوا إلى تأبين الدور الروسي في سوريا

على خلفية تقديرات أجنبية وإسرائيلية حول تبعات الحرب في أوكرانيا على الشرق الأوسط تدعو باحثة في معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب الى عدم الإسراع في تأبين الدور الروسي في سوريا. وتشير الباحثة الإسرائيلية كرميت فالنسيا في مقال نشره موقع “المعهد” إلى تقارير نشرت في الفترة الأخيرة تحدثت عن انسحاب القوات الروسية من سوريا وانتقالها إلى جبهة القتال في أوكرانيا تضمنت ادعاءات أن الإيرانيين بدأوا باستغلال الفراغ الذي تركته روسيا وتعميق وجودهم في سوريا.

تقول فالنسيا إنه في هذه النقطة الزمنية، من الأصح أن يؤخذ في الحسبان الواقع المعقد في سوريا أنه حتى لو كانت هناك دلائل على تحريك القوات الروسية وإرسال بعضها إلى أوكرانيا، فإن هذا لا يدل على تغيير استراتيجي في الانتشار الروسي في سوريا، وهو بالتأكيد ليس بداية لانسحابها من هناك”. وتنوه أن هناك عدة تفسيرات لما يجري وأن الوجود الروسي في سوريا هو في الأساس محدود، ولا يتطلب موارد استثنائية من موسكو، حتى في ضوء مراوحة الوضع في أوكرانيا. وتضيف أن أحد الخطوط الأساسية للاستراتيجيات الروسية في الساحات المختلفة في العالم هو “أقصى حد من التأثير، مع أدنى حد من الاستثمار” وإن سوريا نموذج كلاسيكي من ذلك. لقد فهم الروس هناك أنهم قادرون على استخدام حد أدنى من القوة العسكرية من أجل تحقيق أقصى حد من النتائج: نفوذ إقليمي، ومنع الأمريكيين من أن يكونوا اللاعب المركزي في المنطقة.

مركزان استراتيجيان

وفي إطار هذه المقاربة تقول الباحثة إن روسيا لا تحتاج إلى التواجد في كل الأراضي السورية من أجل المحافظة على تأثيرها وإنه في الأعوام الأخيرة، أعطت موسكو أولوية لمركزين استراتيجيين في غرب سوريا: المرفأ البحري في طرطوس، والقاعدة الجوية في حميميم، الواقعين عملياً تحت سيطرتها، منوهة أنه بالإضافة إلى ذلك، هناك وجود روسي في مواقع صغيرة أكثر في شرق جنوب سوريا، حيث تعمل قوات “الشرطة العسكرية الروسية” المسؤولة، من بين أمور أُخرى، عن تهدئة الأجواء في المواجهات التي تنشب بصورة مستمرة بين قوات النظام والميليشيات الموالية لإيران وبين ما تبقى من أطراف المعارضة.

وبرأيها تعتمد الاستراتيجية الروسية على فكرة “الوكلاء” الذين يمكنهم أن يكونوا مرتزقة من فرقة فاغنر، أو ميليشيات سورية محلية. ومن هنا تستنتج أن نقل “شرطة عسكرية”، أو قوات محلية تعمل بإمرة روسيا، من منطقة انتشار إلى أُخرى، وحتى إرسال بعضها إلى الحرب في أوكرانيا، لا يدل على انسحاب القوات الروسية من سوريا، ولا على تغيير استراتيجي في انتشارها هناك. وتتابع: “بالنسبة إلى روسيا، تشكل سوريا رصيداً عسكرياً ودبلوماسياً، فمنذ بدء تدخلها في أيلول/سبتمبر 2015، استخدمت روسيا سوريا ملعباً للتدريبات وساحة لتجربة أدواتها القتالية، شملت فحص مدى سلاحها وفعالية منظومتها الدفاعية وتطبيق عقيدتها القتالية. في المقابل ترى أيضا أنه مع ذلك، يعتبر الروس سوريا، قبل كل شيء، بوابة إلى شرقي البحر المتوسط وموطئ قدم لترسيخ مكانتها الإقليمية والدولية. ودون الإشارة للعلاقة مع إسرائيل تلفت فالنسيا الى أن روسيا وطدت، خلال الأعوام الستة الأخيرة، علاقاتها الدبلوماسية والعسكرية مع دول، مثل مصر وليبيا ودول الخليج وإيران. وتعتبر الباحثة الإسرائيلية في نظرتها للساحة الدولية إن وجود روسيا في سوريا، وفي الأساس في القواعد العسكرية الواقعة تحت سيطرتها، يسمح لها بتسليط الضوء على قوتها في مواجهة الولايات المتحدة وتركيا، وفي الأساس في مواجهة حلف الناتو. وترى أن للوجود الروسي في البحر المتوسط أهمية كبيرة، من أجل ردع أسطول الناتو المنتشر هناك، كما أنه عامل رادع يشكل تهديداً للناتو في السياق الأوكراني. بناءً على ذلك، ترى الباحثة الإسرائيلية إن فرص تنازل روسيا عن “الرصيد السوري” وعن مكانتها هناك، ونقلها إلى الإيرانيين، ضئيلة وغير معقولة. وتتابع “في هذه الأيام التي يشهد فيها العالم ضعف روسيا في أوكرانيا والضرر الشديد الذي لحق بصورتها، تزداد الحاجة الروسية، أكثر فأكثر، إلى المحافظة على ساحة التأثير السورية في المجال الشرق الأوسطي. صحيح أن إيران معروفة بقدرتها على تحديد الأماكن التي تسودها الفوضى، والتي تفتقر إلى السيطرة، كي تتسلل إليها عسكرياً ومدنياً، لكن التقارير الأخيرة بشأن تعميق الوجود الإيراني في سوريا لا تحمل خبراً جديداً. من أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من خلال متابعة التمركز في سوريا، هو قدرة الإيرانيين على التأقلم والتكيف مع الظروف المتغيرة”.

وترى أيضا أن التقارير الأخيرة تفيد بأن التسلل الإيراني في عمق شرق سوريا، في حلب وحمص، هو جزء من توجُّه مستمر لا علاقة له بتحريك قوات روسية أو غيرها. وعن ذلك تقول: منذ فترة نشهد تغيرات في الانتشار الإيراني، تشمل تقليصاً كبيراً في عدد القادة والمستشارين في سوريا، والاعتماد على وكلائها أكثر فأكثر، وعلى رأسهم حزب الله والميليشيات الشيعية، ومؤخراً، على سوريين محليين”. وتزعم أنه ضمن هذا الإطار جرى تقليص للقوات الإيرانية ووكلائها في جنوب سوريا، نتيجة الهجمات الجوية المكثفة على المنطقة، والتي تُنسب إلى إسرائيل، أو نتيجة ضغوط مورست عليها من جهة روسيا. وتعتبر أن هذه التطورات دفعت الإيرانيين في الأعوام الأخيرة إلى تعميق تمركزهم في شرق سوريا وشمالها في مناطق سيطرة النظام، بهدف تقليص انكشافها وتعرضها للضربات الإسرائيلية. وتعتقد أن هناك اعتبارا آخر لنقل القوات شرقاً، هو إيجاد موطئ قدم على الحدود مع العراق، والاقتراب من حقول النفط الموجودة هناك، وتهيئة الأرضية لليوم التالي لانسحاب القوات الأمريكية من سوريا.  لذلك، برأيها، فإن المقصود هو خطة استراتيجية متواصلة لترسيخ الوجود والتأثير في عمق سوريا، وليس قراراً تكتيكياً ناجماً عن تقليص محتمل للوجود الروسي في هذه المناطق.

قلق الأسد

وتعتبر الباحثة الإسرائيلية أنه من المعقول الافتراض أن مسألة مستقبل الوجود الروسي في سوريا تثير قلق الرئيس بشار الأسد الذي يعتمد على الدعم الروسي. ولا تستبعد أن يكون لهذا علاقة بالزيارات المتبادلة، مؤخراً، بين مسؤولين سوريين رفيعي المستوى ومسؤولين إيرانيين، وخصوصاً الزيارة المهمة التي قام بها الأسد إلى طهران في مطلع أيار/مايو (وهي الثانية منذ نشوب الحرب في سوريا)، مرجحة أن الهدف من الزيارة، على ما يبدو، التذكير بأهمية الحلف الاستراتيجي بين الطرفين وضمان الوجود الإيراني في سوريا مع الروس، أو من دونهم. وتضيف: “ربما يدفعنا هذا إلى استحضار الخطة الطموحة والساذجة للدول العربية بالاعتراف بالأسد كحاكم شرعي وإعادته إلى حضن العالم العربي، في مقابل أن يضمن، من جهته، إبعاد الإيرانيين عن الأراضي السورية”. وتقول الباحثة إنه في الخلاصة، الوضع في سوريا كما في ساحات أُخرى في الشرق الأوسط، هو أكثر تعقيداً من تصويره بالأبيض والأسود، أو “لعبة حصيلتها صفر”. وتؤكد أن المصلحة الروسية في المحافظة على وجود كافٍ من خلال تقليص التمركز الإيراني في سوريا لا تزال على حالها. وترى أيضا أن المصلحة الإيرانية في استمرار التمركز في سوريا بأساليب مختلفة هي أيضاً لا تزال على حالها. وتتابع “ولا يزال الأسد يعتمد على الدولتين، بالإضافة إلى عدم قدرته، أو رغبته في الانفصال عنهما في هذه المرحلة. لذلك، من الأفضل لنا الاعتراف بهذه الدينامية المعقدة وعدم فقدان الصورة الشاملة الماثلة أمام أعيننا في الشمال”.

——————————-

 تطورات حساسة في أيار تحدد مصير الملف السوري؟/ عاصم الزعبي

مع مرور أكثر من 3 أشهر على الغزو الروسي لأوكرانيا، بات المجتمع الدولي بحاجة إلى إعادة ترتيب أوراق سياساته الخارجية، ولعل الملف السوري هو من بين أكثر الملفات العالقة في المنطقة، وهو الذي شهد جمودا كبيرا خلال الفترة الماضية.

المستجدات الأخيرة، وخاصة في شهر أيار/مايو الحالي، أعادت الملف السوري إلى الواجهة من جديد، فقد عاد التدخل في سوريا وتبني مواقف حولها من دول كبرى ومن دول إقليمية لتبرز معالم جديدة قد تكون حاسمة في المرحلة القريبة المقبلة.

منطقة تركية آمنة

مع مطلع الشهر الحالي، أعلن الرئيس التركي رجب أردوغان، عن نية بلاده إتمام مشروع المنطقة الآمنة في الشمال السوري، من أجل إعادة نحو مليون لاجئ سوري عودة طوعية بحسب قوله.

ولكن حتى الآن، لا تعرف المدة الزمنية اللازمة لإتمام المشروع، كما لم تصدر أي آراء حوله من الدول الفاعلة، سواء بالرفض أو الإيجاب، وهذا ما دعا أردوغان لابتزاز الغرب ودعوتهم لمساعدة تركيا في إنشاء هذه المنطقة مقابل احتمالية انضمام فنلندا والسويد إلى حلف “شمال الأطلسي” (الناتو).

من جانب آخر، وفي منتصف الشهر الحالي، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية، عن إصدار ترخيص عام يمنح المناطق الخارجة عن سيطرة حكومة دمشق في شمال غرب وشمال شرق سوريا، (ماعدا مناطق إدلب وعفرين) استثناءات من العقوبات الأميركية، وذلك بغية تحسين الأوضاع الاقتصادية.

وقد استثنت الولايات المتحدة القطاعات التالية من العقوبات، الزراعة، التمويل، البناء، المعلومات والاتصالات، البنية التحتية للشبكة الكهربائية، النفط والتخزين، الطاقة البديلة، التجارة.

انسحابات روسية

مؤخرا ومع الضغط الذي تتعرض له روسيا نتيجة لغزوها لأوكرانيا، أشارت العديد من التقارير إلى أن روسبا بدأت بسحب عدد من قواتها من سوريا، وقد أفادت مصادر لـ”الحل نت”، أن الروس سحبوا جزءا من قواتهم من شرق سوريا، كما قاموا بالانسحاب من مطار كويرس في ريف حلب وتسليمه للإيرانيين.

وعلى الرغم من هذه التقارير إلا أن الروس لم يعلقوا عليها بشكل رسمي، ما دفع العديد من المحليين إلى اعتبار أن تغييرات مهمة سوف تطرأ على الأرض ترتبط بالملف السوري خلال المرحلة القادمة.

الخبير في الشأن الروسي، سامر الياس، قال لـ”الحل نت”، إن روسيا منذ العام 2018 تقريبا، وبعد ترسيخ وتثبيت خطوط التماس في سوريا بين الأطراف المتصارعة، والقوى المسيطرة على الأرض في 2020 وحتى الآن، سعت إلى صفقة مع الولايات المتحدة، لكن الأخيرة لم تقدم لها أي عرض مناسب لصفقة في سوريا، بل على العكس شددت من قانون قيصر، وغيره من الإجراءات، كما أنها لم تنسحب من سوريا كما لوحت في السابق، مضيفا أن سوريا ورقة بيد روسيا ستقوم برميها عندما يكون الثمن مناسبا.

الجنوب السوري وتصعيد محتمل

وسط أنباء عن انسحابات روسية من محافظة درعا، وحلول ميليشيات إيرانية بدلا عنها، حذر الملك الأردني عبدالله الثاني، يوم الأربعاء الماضي، من أن النفوذ الإيراني سيزداد في سوريا لاسيما في الجنوب بعد الأنباء عن انسحابات روسية بسبب غزو أوكرانيا.

التمدد الإيراني، برز بشكل واضح في الآونة الأخيرة في سوريا، من خلال إعادة تموضع وانتشار الميليشيات الإيرانية تحت ستار الجيش السوري، بالإضافة الحركة الأخيرة لتنقلات الضباط السوريين في الجيش والأمن، حيث جيء بضباط عُرف عنهم الولاء لإيران، أبرزهم المقدم يحيى ميا في الأمن السياسي، والمسؤول عن معبر نصيب الحدودي، والذي عُرف بولائه الشديد لإيران، وزياراته لليمن في مهمات تدريبية مع حزب الله لجماعة الحوثيين، بحسب معلومات من مصادر لـ”الحل نت”.

وفي هذا السياق، قال الصحفي الأردني، خالد المجالي، في حديثه لموقع “الحل نت”، إلى أنه من الممكن أن يكون الأردن قد تحدث عبر القنوات الدبلوماسية مع إيران مرارا حول قضية تواجدها في الجنوب، وطالبها بكف يد ميليشياتها في جنوب سوريا، ولكن ذلك لم يكن كافيا، مضيفا أن الأمور قد تصل لتصعيد أكبر دبلوماسيا، ويصاحبه عمليات أكثر جرأة في العمق السوري بالتنسيق مع حلفاء استراتيجيين للأردن، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، لا سيما أن الأردن يمتلك أدلة دامغة على تورط إيران في عمليات التهريب.

تحول في المشهد السوري؟

الصحفي السوري، عقيل حسين، يرى خلال حديثه لموقع “الحل نت”، أنه في ضوء كل التطورات الأخيرة، فإن الملف السوري سيشهد تحولا كبيرا خلال العام الحالي، فالإدارة الأميركية ربطت بشكل واضح بين كل الملفات التي تتعلق بروسيا وبما فيها سوريا.

وأشار حسين، إلى أن التحركات الأخيرة للولايات المتحدة تدل على أن لديها خططا بالنسبة للملف السوري، وهذا لا يعني بطبيعة الحال وجود نية لدى واشنطن لإسقاط حكومة دمشق، أو باستئناف تحرك عسكري على نطاق واسع، ولكن بالتأكيد لديها تصورات مختلفة عن السابق، وقد اتضح ذلك من خلال الاستثناءات من العقوبات لشمال غرب وشمال شرق سوريا.

وبالإضافة لذلك، فإنه من الواضح أن الولايات المتحدة تخطط لإعادة انتشار في شمال سوريا، بعد قيام طواقم فنية وعسكرية أميركية مؤخرا بزيارة قواعدها السابقة في عين العرب، جرابلس، وإعزاز، لتعزيز الاستقرار في هذه المناطق، وتوجيه رسالة صريحة لإيران وروسيا بأنهم عادوا إلى سوريا بقوة أكبر، بحسب حسين.

احتمالات مفتوحة بشكل غير مسبوق في سوريا، ربما تحمل التهدئة في أجزاء منها، وربما تحمل التصعيد في أجزاء أخرى، فيما يبدو أنه عاد للملف السوري الزخم مؤخرا، وهو ما سيكون ورقة ضغط إضافية على روسيا بشكل رئيسي، وعلى إيران ودمشق أيضا.

———————————

إسرائيل تفحص إن كانت روسيا «غيّرت نهجها» إزاء حرية العمل في سوريا

في أعقاب أنباء عن إطلاق صواريخ على طائرات قصفت موقعاً لتحديث أسلحة «حزب الله»

في أعقاب الأنباء التي نشرت عن قيام غواصة روسية بإطلاق صواريخ على طائرات إسرائيلية قصفت أهدافاً في سوريا، كشفت صحيفة «يسرائيل هيوم» العبرية أن القيادة الإسرائيلية العسكرية تفحص إن كانت هذه إشارة على تغيير موقف موسكو من حرية عمل إسرائيل، أم لا.

وفي ضوء القلق في تل أبيب من أن تكون روسيا ترد بذلك على المساهمة الإسرائيلية في الحرب بأوكرانيا، عن تزويد الجيش الإيراني بالأسلحة والعتاد، حرص وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، على القول إن جيشه يمنح الأوكرانيين فقط أسلحة دفاعية، وإنها ليست موجهة ضد روسيا.

وكان غانتس يتكلم خلال محاضرة له في جامعة «ريخمان» بهرتسليا، عن التحديات الأمنية أمام إسرائيل، أمس (الثلاثاء)، فربط بين الوضع في سوريا والنشاط الإيراني العسكري، وكذلك تطوير القدرات النووية. فقال إن «أمام إيران أسابيع قليلة لتكديس مواد انشطارية تكفي لصنع أول قنبلة نووية».

وزعم غانتس أن إيران قامت خلال شهر فبراير (شباط) الماضي، بإطلاق طائرات مسيرة كانت في طريقها لفصائل المقاومة بالضفة الغربية أو قطاع غزة، وقد جرى إسقاطها في العراق. وأشار إلى أن «كميات الأسلحة الاستراتيجية الدقيقة التي تمتلكها إيران ازدادت بشكل كبير جداً خلال الفترة الماضية، ولكن إسرائيل ستستمر بمحاولاتها لمنع إيران من نقل أسلحة دقيقة لسوريا».

وفي السياق، قالت صحيفة «يسرائيل هيوم»، المعروفة بمواقفها اليمينية وقربها من رئيس المعارضة، بنيامين نتنياهو، إن حادثاً غير عادي وقع في يوم الجمعة الماضي، عندما هاجمت إسرائيل، بحسب منشورات أجنبية، أهدافاً في سوريا، وإن توقيت الهجوم – الجمعة في تمام الساعة الثامنة مساءً – غير معتاد أبداً. ووفقاً للمنشورات، فإن الموقع الذي أصيب بالهجوم كان مهماً أيضاً، موقع سارس، الذي يتم فيه تحديث صواريخ حزب الله لزيادة دقتها.

وجاء في التقرير المذكور: «لا يخفى على أحد أنه خلال الهجمات المنسوبة للجيش الإسرائيلي في سوريا، أطلق السوريون صواريخ أرض – جو على مقاتلات تابعة للقوات الجوية. عدد الصواريخ التي تم إطلاقها كبير، لكن هذه أنظمة قديمة من طراز TKA وباستثناء حالة واحدة في فبراير (شباط) 2018، التي تم فيها إسقاط طائرة (اقتحام) للقوات الجوية، فقد فشلت تلك الدفاعات السورية في إحباط أنشطة الطيران الإسرائيلي. لكن روسيا أقدمت على نقل كثير من أنظمة S-300 المتطورة إلى سوريا في السنوات الأخيرة. وساد الانطباع في تل أبيب بأن البطاريات المتقدمة بقيت في أيدي روسيا فقط، وبالتالي لا تشكل تهديداً لطائرات سلاح الجو الإسرائيلي. في ضوء ذلك، فإن التطورات التي حدثت خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضية مقلقة بشكل خاص».

وأكدت الصحيفة أنه «سيتعين على إسرائيل الآن انتظار الهجمات المقبلة في سوريا لفهم ما إذا كان هناك اتجاه جديد حقاً يدل على أن روسيا يمكن أن تعرقل حرية إسرائيل الجوية في سوريا، أو ما إذا كانت حالة استثنائية ولمرة واحدة».

يذكر أن وزارة الدفاع الروسية أكدت يوم السبت الماضي، أن ست مقاتلات «إف – 16» الإسرائيلية أطلقت 22 صاروخاً على مواقع لمركز البحوث العلمية السورية في مصياف وميناء بانياس يوم الجمعة، وتم التصدي وتدمير 16 صاروخاً وطائرة من دون طيار. وكشفت أنه نتيجة للغارات الجوية الإسرائيلية، قُتل ثلاثة جنود سوريين وموظفان مدنيان، وأصيب جنديان سوريان. كما تضررت مستودعات المعدات الخاصة التابعة لمركز البحوث العلمية السوري.

من جهة ثانية، أعلن الجيش الإسرائيلي، مساء الاثنين، رصد وإسقاط مسيرة قال إنها تابعة لـ«حزب الله» تسللت من لبنان. وحسب الناطق بلسان الجيش، فإن «المسيرة كانت تحت متابعة وحدات المراقبة طيلة الحادث، وسيواصل الجيش العمل لمنع أي خرق لسيادة دولة إسرائيل».

الشرق الأوسط

———————–

روسيا “تحرّك” قواتها في سوريا.. ماذا يحدث؟

ضياء عودة – إسطنبول

تستمر الضغوط السياسية والعسكرية التي تتعرض لها روسيا في أوكرانيا، وفي الوقت الذي يتوقع فيه المراقبون “أياما مقبلة أكثر تصعيدا”، أثار اهتمامهم في الأيام الماضية التقارير التي تحدثت عن “عمليات تقليص قوات” بدأتها موسكو، في مناطق انتشارها بسوريا.

وكانت أولى هذه التقارير من جانب صحيفة “موسكو تايمز” التي حجبتها هيئة مراقبة الاتصالات الروسية، في السابع عشر من شهر أبريل الماضي، حيث قالت قبل أسابيع إن “روسيا بدأت عملية سحب بعض قواتها من سوريا، للمساعدة في تعزيز قواتها في أوكرانيا”.

وأضافت الصحيفة، التي تتحذ من هولندا، مقرا لها أنه “تم نقل العديد من الوحدات العسكرية من قواعد في جميع أنحاء البلاد إلى ثلاثة مطارات متوسطية، حيث سيتم نقلها إلى أوكرانيا”، مشيرة إلى أن “القواعد التي تم التخلي عنها نقلت إلى الحرس الثوري الإيراني، وكذلك إلى جماعة حزب الله اللبناني”.

وسرعان ما انعكست تلك المعلومات على تقارير لوسائل إعلام سورية محلية معارضة وأخرى تركية وغربية، فيما انسحبت لتنعكس من تصريحات العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني مؤخرا، ومسؤولين إسرائيليين سابقين، بينهم جاكوب ناجل مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق (بالإنابة) لرئيس الوزراء السابق، بنيامين نتانياهو.

وأبدى العاهل الأردني تخوفه من تغيير قواعد الاشتباك في سوريا، وتحدث بشكل صريح عن مخاطر تراجع الدور الروسي لصالح الدور الإيراني، فيما اعتبر جاكوب ناجل بمقالة نشرتها مجلة “نيوز ويك”، الأحد، أن “انسحاب روسيا من سوريا سيكون فرصة لإسرائيل”.

“لا مؤشرات”

ورغم الكثير من سيناريوهات الربط التي استعرضها محللون عرب وغربيون، في الأيام الماضية، ما بين الملفين السوري والأوكراني، إلا أن تصريحات الساسة من مختلف الأطراف لم تشر إلى هذا السيناريو بعد، وبشكل رسمي حتى الآن.

ولروسيا في سوريا قاعدة “حميميم”، التي تعتبر الأكبر من نوعها في المياه الدافئة، وتقع في ريف مدينة اللاذقية الشمالي.

وفي هذه القاعدة كانت موسكو قد استقدمت عشرات الطائرات، والقاذفات بعيدة المدى، بينما أجرت سلسلة مناورات عسكرية، انطلاقا منها، وبحضور وزير دفاعها، سيرغي شويغو، قبل أيام قليلة من بدء الغزو على أوكرانيا.

إضافة إلى ذلك تنتشر قوات من “الشرطة العسكرية الروسية” في عموم المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة، وبينما تعمل على تسيير دوريات على طول الحدود الشمالية وفي محيط حدود محافظة إدلب برفقة القوات التركية، تتجه في جزء آخر لتسيير دوريات منفردة في الجنوب السوري، ومناطق خضعت مؤخرا لما يعرف بـ”اتفاقيات التسوية”.

ولموسكو أيضا قاعدة كانت قد ثبتتها، قبل عامين، في مطار القامشلي بمحافظة الحسكة السورية، وزودتها بطائرات حربية ومروحية، ومنظومات دفاع جوي، من نوع “بانتسير”.

ويوضح سام هيلر، المحلل المستقل لشؤون سوريا والمستشار السابق بمجموعة الأزمات الدولية، أنه “من الصعب تحليل التحركات الروسية المتفرضة دون دليل واضح، أو معلومات مؤكدة تشير فعلا إلى حدوثها”.

ويقول هيلر في حديث لموقع “الحرة” إن ما سمعه من بعض المسؤولين الغربيين هو أنهم “لم يلاحظوا أو لم يرصدوا أي تحركات من هذا النوع حتى الآن (تقليص)”.

ويضيف هيلر: “المسؤولون أشاروا إلى عدم وجود مؤشرات حقيقية، على صحة التقليص”.

وذلك ما يؤكده الباحث السوري في “مركز عمران للدرسات الاستراتيجية”، نوار شعبان، لافتا إلى أنه يجب التفريق بين مصطلح “الانسحاب” و”إعادة تموضع القوات”.

ويقول شعبان لموقع “الحرة”: “لا يوجد انسحاب. عندما تحرك روسيا قواتها من الجنوب إلى الشمال، فذلك يعني أنه إعادة تموضع داخل المنطقة الجغرافية الواحدة، وهي سوريا”.

ويضيف الباحث السوري: “روسيا تلعب بسلاسة وتتمتع بما يحصل. صحيح إن إعادة التموضع يرتبط بغياب رفاهية استقدام أعداد المقاتلين من الخارج، إلا أن موسكو تحاول القول لإسرائيل إن وجودها مهم”.

“تكتيك فوضى”

وفي تطور “لافت” تزامن مع تقارير “التقليص”، صعّدت إسرائيل من ضرباتها ضد مواقع عسكرية في سوريا، حيث استهدفت قبل أسبوع مصياف بريف حماة الغربي، لتتبع ذلك بضربات على محيط العاصمة دمشق.

ونادرا ما تعلّق إسرائيل على هكذا نوع من الضربات، فيما تؤكد على لسان مسؤوليها أنها ستواصل استهداف الميليشيات الإيرانية، التي تحاول التمركز في مواقع بسوريا وعلى حدودها في جنوبي البلاد.

واعتبر الباحث شعبان أن “ما تقوم به روسيا في سوريا ليس عشوائيا”، متحدثا عن “تكتيك أحدث فوضى كبيرة، مما أدى إلى زيادة الضربات الإسرائيلية”، في إشارة منه إلى عمليات “إعادة التموضع”.

من جهته يوضح المحلل السياسي الإسرائيلي، يوآب شتيرن أن “الوجود الروسي في سوريا نقطة مهمة وحساسة جدا لإسرائيل”.

ويضيف لموقع “الحرة”: “في ظل الوجود الروسي في سوريا حددت إسرائيل موقفها فيما يتعلق بالأزمة في أوكرانيا وحياديتها النسبية، عكس ما اتخذته الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية الأخرى”.

وبسبب الوجود الروسي في سوريا كانت إسرائيل قد امتنعت عن “إبداء رأي واضح”، وحاولت أن تلعب “بين المعسكرين، بنوع من الحيادية”.

ويشير شتيرن إلى أن “تفاصيل التقليص الروسي في سوريا غير معروفة حتى الآن”، وأنه وبالنسبة لإسرائيل فإن كل قرار روسي يتعلق بسوريا يؤثر على أمنها القومي، ولهذا السبب “هي حساسة جدا”.

ويتابع المحلل السياسي: “إذا سمحت روسيا للإيرانيين بالفعل بإحضار المزيد من المعدات العسكرية وتوسيع التمركز، فهذا سيمس أمن إسرائيل القومي. وبذلك سترى الأخيرة ما حصل تصعيدا من قبل موسكو”.

ماذا عن روسيا؟

على الطرف المقابل من المشهد، لم يصدر أي تعليق حتى اللحظة من جانب روسيا، سواء بتأكيد المعلومات المنشورة أو بنفيها.

لكن نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف كان قد صرّح لوكالة “ريا نوفوستي”، قبل أيام، بقوله إن “موسكو ستطلب من أنقرة فتح المجال الجوي للطائرات الروسية المتجهة إلى سوريا، كاشفا أن “إغلاق الأجواء لم يسهّل عمل القواعد الروسية” في البلاد هناك.

ويقول المحلل السياسي المقرب من الخارجية الروسية، رامي الشاعر إنه “لا يوجد أي أساس للشائعات التي ينشرها بعض المحللين السياسين بأن روسيا تورطت في أوكرانيا، وذلك ما سيضطرها لإعادة النظر في سوريا، لصالح تعزيز وضعها” في الجبهة الأولى.

ويضيف الشاعر لموقع “الحرة”: “هذه الشائعات تصدر أيضا من دمشق ومن بعض المسؤولين من القصر الجمهوري، لأن هناك من يتمنى أن تغيّر روسيا سياستها بخصوص الملف السوري، وتتنازل عن السعي للبدء بعملية الانتقال السياسي السلمي، على أساس قرار مجلس الأمن 2254، وأن يبقى النظام على وضعه الحالي دون أي تغيير”.

واعتبر المحلل السياسي: “كل ما يشاع هو نتيجة جهل بشأن إمكانيات روسيا وتجاهله أنها دولة عظمى، أو أنها يمكن أن تتراجع عن سياسيتها والأهداف التي وضعتها، هذا كما يقول المثل العربي: (حلم إبليس بالجنة)”.

وحتى الآن لم تستقر الصورة الكاملة التي سيكون عليها المشهد في أوكرانيا خلال المرحلة المقبلة، وبينما يؤكد المسؤولون الغربيون أن “العملية العسكرية الروسية فشلت هناك”، اعتبر الشاعر أنها “حققت أهدافها في الساعات الـ48 الأولى”.

ضياء عودة – إسطنبول

—————————–

بعد أوكرانيا.. لماذا أعادت واشنطن حساباتها داخل سوريا؟/ علي تمي

الغزو الروسي لأوكرانيا هو طموح قديم جديد لـ”بوتين”، فبعد وصوله إلى الحكم، عام 2000، وضع نصب عينيه استعادة السيطرة على الجمهوريات السوفييتة السابقة، هذه الطموحات دفعته للانزلاق إلى المستنقع الأوكراني، في محاولة يائسة منه لإعادة أمجاد “الاتحاد السوفييتي” وتقسيم السيطرة على العالم مع الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة، ووقف تمدّد الناتو نحو دول البلطيق وجنوب شرقي بحر المتوسط، كونها تعتبر أوكرانيا الدرع الجغرافي لحماية روسيا  الاتحادية.

ومن هذا المنطلق  وجد “بوتين ” نفسه أمام خيارين: إمّا القبول بانضمام كييف إلى الاتحاد الأوروبي ومن ثم الناتو والوقوف متفرجاً، أو القيام بغزو أوكرانيا ومحاولة قلب نظام الحكم فيها كما فعل في الشيشان التي أعلن رئيسها “قاديروف”، نهاية عام 2014، خلال كلمة وجهها إلى الشعب الشيشاني وكل الشعوب الروسية، عن ولائه المطلق للقائد العام، الرئيس فلاديمير بوتين.

بوتين كان يرغب بتكرار التجربة ذاتها داخل أوكرانيا من خلال  وضع  رئيس موال له على سدّة الرئاسة، لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، وما حدث لم يكن بالحسبان، فدخول الناتو منذ اليوم الأول في معركة الدفاع عن كييف كان خياراً استراتيجياً حاسماً لا بد منه.

المواجهة مع موسكو داخل أوكرانيا هي بمنزلة معركة وجود، لأن الصين بدورها كانت تنتظر  انتصار بوتين في أوكرانيا حتى تُقدم هي أيضاً على غزو تايوان، والأوروبيون بدورهم يعتبرون أوكرانيا الدرع السياسي للاتحاد الأوروبي، والجدار الذي يحمي برلين من أي تمدد روسي محتمل  نحو العمق الأوروبي.

بوتين أخطأ في حساباته وخسر معركة السيطرة على كييف، ومن ثم  أعاد انتشار قواته في مناطق مختلفة شرقي أوكرانيا، الفاتورة كانت باهظة له ولجيشه الذي خسر هيبته في العالم، وبات وزير خارجيته “لافروف” يتغنّى ليل نهار بالنووي في وجه أوروبا، في دليل واضح على عدم القدرة على حسم المعركة لصالحهم.

وبناء عليه فقد أعاد انتشار قواته وغيّر من استراتيجيته العسكرية التكتيكية، إذ يحاول اليوم التمركز داخل مناطق محددة في شرقي أوكرانيا للمحافظة على قواته المتبقية وحدود دولته من تمدد أطماع الغرب التوسعية في شرقي آسيا وشرقي المتوسط.

الخطوة التصعيدية الأميركية التالية ضد الروس كانت بالعمل على ضم استوكهولم وهلسنكي إلى الناتو، وهذه إن دلت على شيء فإنها تدل على خسارة الروس في المعركة وفقدان السيطرة على الدول المتاخمة لحدودها، مشروع توسّع الناتو يصطدم اليوم برفض تركي قاطع.

فمن المعروف أن السويد تحتضن أكبر تجمع لحزب “العمال الكردستاني”، وفي كل مدينة وبلدة سويدية تجد مقرا مرخّصا للحزب المذكور تحت اسم جمعيات مدنية وإنسانية، لذا أنقرة لم تكتف بالرفض، بل باتت تطالب واشنطن مقابل موافقتها، برفع العقوبات عنها على خلفية شراء منظومة “إس400” الروسية، وتطالب أيضاً وعلى الدوام بعدم شرعنة مناطق شرقي الفرات سياسياً كونها تحت سيطرة “العمال الكردستاني”.

بين هذا وذاك وجدت واشنطن اليوم نفسها في مواجهة الجميع، مع موسكو داخل أوكرانيا، ومع طهران حول الملف النووي، ومع أنقرة حول ملف “قسد” وحزب “العمال الكردستاني”، ومع فرنسا وألمانيا حول استيراد الغاز من روسيا، ومع بكين وبيونغ يانغ على التمدّد الصيني التكنولوجي والاقتصادي والنووي، ومع دول الخليج حول اليمن، تصاعد حدّة كل هذه الخلافات دفعتها إلى إعادة حساباتها داخل سوريا، وبناءً على كل ما ذُكر تتجه إلى فتح صفحة جديدة مع أنقرة من منطلق المصلحة والحاجة الماسة إلى الموقع الجغرافي لتركيا ونفوذها السياسي والعسكري في الشرق الأوسط وشبه جزيرة القرم.

إعادة الحسابات داخل سوريا

تعمل واشنطن اليوم على إعادة انتشار قواتها داخل سوريا، فالوضع داخل أوكرانيا أفرز واقعاً جديداً وغيّر كثيرا من الموازين على الأرض، خبراء في الجيش الأميركي زاروا، منتصف الشهر الجاري، “الفرقة 17” في ريف الرقة وحاولوا إنشاء مطار عسكري خاص بهبوط وإقلاع المروحيات، كما زاروا قاعدة خراب العشق جنوب شرقي عين العرب (كوباني) في ريف حلب، لإعادة بناء قاعدة عسكرية فيها، بعد قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالانسحاب الجزئي من سوريا تجنباً لأي صدام عسكري مع الجيش التركي الحليف في الناتو.

الخبراء في الجيش الأميركي التقوا أيضاً مع ضباط روس في إحدى القواعد جنوبي كوباني، وبعيد اللقاء خفّض الروس عدد قواتهم في هذه المواقع، وأعادوا ترتيب الأوراق مع واشنطن حول شرق الفرات، في محاولة من موسكو بعدم فتح جبهة أخرى على نفسها وهي بغنى عنها.

الحسابات الخاطئة للروس واستراتيجيتهم الجديدة

بحسب تقارير الاستخبارات العسكرية البريطانية، فإن روسيا خسرت داخل أوكرانيا ثلث قواتها، معظمها من النخبة، وبالتالي الفاتورة الباهظة للروس داخل أوكرانيا دفعتهم إلى التريّث وعدم التصعيد مع الجيش الأميركي داخل سوريا.

كل المعطيات تشير اليوم إلى أن قبول أنقرة المبدئي بضم استوكهولم وهلسنكي إلى الناتو لن يكون على طبق من ذهب، فهناك مؤشرات على وجود تفاهم أميركي – تركي حول إدارة مناطق خارجة عن سيطرة النظام.

وبحسب المعلومات المتوافرة فإن إعادة مليون لاجئ سوري من تركيا إلى مناطق المعارضة لن يتحقّق إلا بعد فرض الحظر الجوي على المناطق الشمالية والشرقية، والتفاهم حول تسيير دوريات مشتركة للجيشين الأميركي والتركي في تلك المناطق، وإخراج عناصر حزب “العمال الكردستاني” من شرق الفرات بشكل كامل، وتأمين المنطقة الحدودية بين العراق وتركيا لمد أنابيب الغاز من إقليم كردستان إلى أوروبا عبر ميناء جيهان التركية، بالإضافة إلى حل جميع الملفات العالقة فيما بينهم.

كذلك تشير المعلومات إلى أن أنقرة قبضت ثمن موافقتها على ضم السويد وفنلندا إلى الناتو رغم عدم وجود هذا الخبر على وسائل الإعلام، كل هذه التفاهمات تأتي بالتنسيق مع بريطانيا وإسرائيل وقطر، فوصول أمير دولة قطر إلى إسطنبول ولقاؤه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لم يكن بعيداً عن المشهد السياسي القائم، الهدف الأساسي من الزيارة الخاطفة كان محاولة أنقرة التوسط ما بين الدوحة وبرلين لإتمام إبرام الاتفاق حول تصدير الغاز القطري إلى ألمانيا، بعد فشل المفاوضات فيما بينهم، وبالتالي التخلّص من الغاز الروسي، ما بعد العام 2023، الذي يستخدمه بوتين كسلاح في المعركة مع الغرب، بالإضافة الى مناقشة تصدير الغاز العراقي إلى أوروبا عبر تركيا.

الخلاصة: الصراع على أوكرانيا دفع بواشنطن إلى إعادة حساباتها داخل سوريا، فهذه الحسابات بحاجة إلى توافق مع أنقرة وهذا لا مفر منه، فتركيا بقيادة “أردوغان” ترى نفسها اليوم ليست ولاية أميركية في الشرق الأوسط كما كانت في السابق، فوجود الاتفاق المشترك فيما بينهم سيساهم بدرجة كبيرة إلى إعادة برمجة العلاقات الدولية والإقليمية في سوريا والعراق واليمن وليبيا وحول أوكرانيا بلا شك.

وبالتالي المتضررتان من هذه التفاهمات هما موسكو وطهران، المعطيات تشير إلى أن الروس سيحاولون التمسك بمناطق شرق أوكرانيا بكل الوسائل المتاحة، مقابل التنازل لواشنطن وأنقرة عن المناطق الشمالية الشرقية لسوريا كمناطق نفوذ لهما.

بالمحصلة المنطقة ذاهبة نحو تطورات جديدة وهذا لا جدال عليه، فموسكو خسرت كثيرا من أسهمها داخل سوريا وهيبتها داخل أوكرانيا، وهي مضطرة حالياً لإرضاء واشنطن، لأن معركة كسر العظم داخل أوكرانيا قد حسمت لصالح الناتو، وبالتالي المشهد السياسي العام أمام تقلبات وتوازنات جديدة.

فكل هذه الصراعات والحروب هي حول الطاقة وتحديداً الغاز، والاعتقاد السائد هو أن واشنطن تحاول بشتى الوسائل إيجاد البديل عن الغاز الروسي للاتحاد الأوروبي حتى تحمي أوروبا مستقبلاً من هيمنة الروس.

أما بالنسبة للمشهد داخل سوريا، فكل المعطيات تشير إلى أن أنقرة وواشنطن توصلتا إلى تفاهمات سياسية مشتركة والأيام القليلة المقبلة ستكون حبلى بالمفاجآت، فمن المبكر رفع الستار والغطاء عما ستؤول إليه المنطقة من تطورات جديدة، فجميع الأطراف داخل سوريا تحشد أدواتها وترتب أوراقها تحضيراً لمواجهة محتملة، وإن لم تكن اليوم فبكل تأكيد ستكون غداً، لأنّ مطالب “بوتين” بتعدد الأقطاب في العالم والسيطرة على أوروبا من خلال سلاح الغاز  لا يمكن أن يتحقق من خلال تهديد العالم بالسلاح النووي، ومن المؤكد أنه سيعض أصابعه ندماً على غزو أوكرانيا وتهوره العسكري المفتوح داخل سوريا، لأن عقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلى الخلف، فروسيا الاتحادية التي كانت تتباهى بعظمة جيشها وبوارجها الحربية وصواريخها النووية كل هذه الأسلحة المتطورة سقطت أمام إرادة السوريين وقوة الأوكرانيين، وتحولت بين ليلة وضحاها إلى “خردة بوتين” داخل شوارع دونباس وكييف.

————————–

تمدد الناتو: فنلندا والسويد والفيتو التركي/ د. مدى الفاتح

حتى وقت قريب لم تكن فكرة انضمام فنلندا أو السويد لحلف شمال الأطلسي مطروحة على طاولة البحث، وكانت كل من استوكهولم وهلسنكي تكتفيان بموقفهما التاريخي المبني على الحياد، ورفض الانضمام لأي حلف معادٍ لروسيا.

الحرب الروسية على أوكرانيا دعت لإعادة التفكير في هذه السياسة، حيث كانت أهم الأسباب التي شجعت روسيا على اكتساح جارتها هو كونها خارج مظلة حلف الناتو، الذي يضمن حماية جماعية لأطرافه. هنا لاحظنا أن نسبة المتحمسين للانضمام للحلف من بين المواطنين في البلدين قفزت بشكل سريع، مما هو أقل من عشرين أو عشرة في المئة إلى ما يتجاوز السبعين في المئة، وهو ما يوضح أن هناك رغبة شعبية داعمة للانضمام.

أعلن البلدان بعد ذلك رغبتهما وتشاورا مع عدد من الدول، قادة الحلف أبدوا بدورهم حماسهم وعبروا عن إمكانية إجراء تسريع استثنائي لإجراءات القبول، بما يكفل توفير حماية سريعة في حالة حدوث أي رد فعل روسي غاضب.

على الأرجح لم يكن البلدان اللذان فكرا في الحصول على إجماع داخلي وفي الحصول على موافقة أوروبية يفكران برأي تركيا، أو يتوقعان أن تكون رافضة لانضمامهما وهو ما حدث حين عبر الرئيس التركي عن تحفظه على انضمام السويد وفنلندا معتبراً أنها ربما لا تكون فكرة صائبة في الوقت الحالي. أردوغان مضى لأبعد من ذلك حين رفض أن يتم استقبال قيادات البلدين من أجل التشاور في الأمر.

وفق قوانين الحلف فإن الحصول على موافقة جميع الأعضاء مهم لقبول العضوية، وتركيا ليست مجرد عضو وإنما تعد العضو الأهم استراتيجياً بفضل موقعها وما تمتلكه من قوة عسكرية، هذا يعني أنه، إذا استمر الفيتو التركي، فلن تكون هناك إمكانية للقبول. مقابل ذلك أبدت دول أوروبية أخرى استغرابها من الموقف التركي، وتم اتهام تركيا بموالاة روسيا وبأنها وسيط غير محايد، لكن المنطق التركي كان واضحاً وهو أنه لا حاجة الآن لفتح جبهة جديدة، أو السعي لاستفزاز روسيا والاعتماد على أنها لن تكون قادرة على تشتيت جيشها، فمثل هذه التطمينات هي التي جعلت أوكرانيا من قبلها تصعّد متحدية، ما أوصل الأمور إلى الحالة المأساوية التي هي عليها حالياً. بالتأكيد فإن الأزمة هي أعمق بكثير من كل ذلك، فالبلدان يختلفان مع تركيا، ومثلهما في ذلك دول غربية أخرى، حول تعريف “الإرهاب”. حزب العمال الكردستاني الذي يلقى أعضاؤه وناشطوه الكثير من الحماية والدعم من استوكهولم وهلسنكي، مصنف إرهابياً من قبل أنقرة التي تطالب منذ فترة طويلة بتسليم مطلوبين موجودين على أراضيهما. وفق ما تم إعلانه، تسلم البلدان 33 طلباً بشأن تسليم أفراد منتمين لتنظيمات إرهابية، من دون أن يجد ذلك استجابة. من ناحية أخرى تعلق السويد التعاون العسكري مع تركيا منذ عام 2019 تعبيراً عن رفضها للعملية التي يقودها الجيش التركي في شمال سوريا، هذا يجعل الإرهابيين الملاحقين والذين تعتبرهم أنقرة خطراً عليها حلفاء لاستوكهولم.

هل يمكن أن تكون تركيا أقرب فعلاً لروسيا؟ بالنظر إلى الطريقة العدائية التي كان يتم التعامل بها معها من قبل الشركاء الغربيين، التي وصلت حد دعم بعض دول الناتو لجماعات تتهمها أنقرة بالإرهاب وزعزعة الأمن، فإن ذلك ممكن. يمكن التفكير أيضاً في أن تركيا القومية والمحافظة والرافضة للقيم الليبرالية الأوروبية بشكلها المتطرف، الذي يعيد تعريف الأسرة ويمنح كل الأفكار والممارسات حرية الانتشار مهما بدت شاذة، تبدو أقرب في هذا من الموقف الروسي الذي يرفض التخلي عن القيم الدينية الأرثوذكسية لصالح الحداثة الغربية. شبيه بالبلدين في ذلك أيضاً موقف الرئيس المجري فيكتور أوربان، الذي يرى أن من حق أي دولة أن تحتفظ بهويتها وأن تعتز بدينها، موقف جعل الرجل متهماً بالعنصرية والتشدد الديني ومحاربة حرية الاعتقاد. تتشارك تركيا مع روسيا في تقاطعات سياسية واقتصادية كثيرة، لكن هذه الحقيقة لا تجعلنا ننسى أنها أيضاً صديقة مقربة لأوكرانيا، التي كانت الطائرات المسيرة التركية “بيرقدار” من أهم أسباب صمودها، في وقت كانت الدول الأوروبية الأخرى تتردد في منحها أبسط معدات المقاومة العسكرية. من الناحية الاستراتيجية نقول إنه ليس من مصلحة تركيا أن تنتصر روسيا بشكل حاسم، وأن تفرض منطقها، لأن هذا يعني أنها قد لا تكون هي نفسها في مأمن من نيرانها في المستقبل، وهو ما يصح أيضاً قوله في حالة تحقيق الحلف الغربي لانتصار ساحق، ففي هذه الحالة أيضاً لن يكون هناك ما يضمن ألا يحاول ذلك الحلف افتعال أي ذريعة من أجل السيطرة السياسية أو العسكرية على تركيا، التي يرى أن كثيراً من سياساتها لا تتماهى مع رغباته. لهذه الأسباب فإن اتهام تركيا بأنها منحازة بشكل تام إلى روسيا غير واقعي، أما إذا كانت الدول المعنية تطالب تركيا اليوم بفهم احتياجاتها الأمنية، فإن الأخيرة تذكرها بأنها لم تتفهم احتياجاتها حينما طالبت بوقف التعاون مع المجموعات المسلحة المعادية، أو حينما طالبت بإنشاء منطقة عازلة في سوريا، أو بمنظومة متطورة لصد هجمات الانفصاليين، كما تذكر كذلك بالتلكؤ والمراوغة التي امتدت لسنوات معرقلة الحصول على المقاتلات الأمريكية. هنا يمكن أن تكون تركيا متفقة مع روسيا في ضرورة إيجاد صيغة للأمن الجماعي تكون مرضية لجميع الأطراف. تذكّر هذه الأزمة بالعلاقة المعقدة التي تجمع تركيا بحلفائها الغربيين الذين يطلبون تعاونها ومساهماتها حينما يحتاجونها، ويتجاهلون مطالبها حينما تطلب هي منهم العون أو التعاون. ظهر هذا بشكل واضح إبان الأزمة الأوكرانية، حيث تطلع الجميع إلى أنقرة باعتبارها الأقدر على التدخل والوساطة البناءة، بسبب العلاقة التي تربطها بموسكو. في الوقت ذاته لم يعر الحلفاء اهتماماً لما كان الأتراك يطرحونه من طلبات، سواء ما تعلق منها بالنظر بجدية في انضمامها للاتحاد الأوروبي، أو بتعزيز التعاون العسكري والموافقة على تسليمها ما تحتاج من معدات عسكرية، بل إن الأمر ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، لدرجة القول إن بعض الحلفاء ربما كان يتمنى أن تفشل تركيا في مهمتها التفاوضية، حتى لا يمنحها ذلك نقاطاً إضافية في رصيدها.

في ظل هذه العلاقة الملتبسة بين تركيا وشركائها يفرض سؤال بسيط نفسه وهو: هل من مصلحة تركيا فعلاً أن يمتد الحلف ويصير أقرب إلى حدودها، بما يعنيه ذلك من عسكرة في الجوار؟

في لقاء أجرته معه مجلة “نيوزويك” في عددها الأخير، وفي تعليق له حول الأزمة الأوكرانية وتداعيات الاجتياح الروسي، اعتبر الأمين العام السابق لحلف الناتو راسموسن، أن على الدول أن تختار ما بين الاصطفاف مع الاستبداد أو الديموقراطيات. يذكر هذا بخطابات الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن الذي كان يقسم العالم لمحور خير ومحور شر. هذا التقسيم سوف يفرض ضغوطاً على دول كثيرة، بما فيها تركيا التي قد تجد في نهاية المطاف ألا مفر من قبول فنلندا والسويد وإن كانت ستسعى لأن لا يكون ذلك بلا مقابل.

*كاتب سوداني

القدس العربي

—————————–

خبراء روس يجيبون الجزيرة نت.. ما حقيقة سحب موسكو قواتها من سوريا؟/ فهيم الصوراني

نقلت مواقع إخبارية، عمن وصفتها بالمصادر العسكرية، أن روسيا بدأت بنقل قواعد في منطقة الصراع السوري، حيث كانت تنتشر قواتها، إلى قوات الحرس الثوري وحزب الله اللبناني. فما حقيقة هذه المعلومات؟ وما انعكاساتها على دول الجوار؟

الشرطة العسكرية الروسية بمدينة درعا جنوب سوريا (الجزيرة)

موسكو- لم تجد الأخبار التي نشرتها مواقع أجنبية مختلفة -حول ما يتم تداوله عن انسحاب للقوات الروسية من سوريا- أي تعليق رسمي من جانب السلطات في موسكو، سواء بالنفي أو الإيجاب.

وكانت مواقع إخبارية مختلفة مثل موقع “موسكو نيوز” المعارض، و”ديبكا” الإسرائيلي، نشرت أنباء حول سحب روسيا قواتها من سوريا لنشرها في أوكرانيا.

ونقلت -عمن وصفتها بالمصادر العسكرية- أن روسيا بدأت بنقل قواعد في منطقة الصراع السوري، حيث كانت تنتشر قواتها، إلى قوات الحرس الثوري وحزب الله اللبناني.

وتابعت أن تقليص الوجود الروسي له أهمية كبيرة، لأن موسكو منعت مرارا وتكرارا تعزيز المواقع الإيرانية، وشكلت مجموعات مسلحة بعيدا عن نفوذ الحرس الثوري الإيراني، كما منعت الجنرالات الموالين لإيران من السيطرة على الجيش السوري بأكمله، لكن موسكو -بحسب الموقع الإسرائيلي- فقدت الاهتمام بالسيطرة على الوضع في سوريا، وأن التعيينات الأخيرة في القيادة العليا في دمشق تؤكد ذلك.

يؤكد العقيد احتياط فيكتور ليتوفكين أنه من غير الممكن الحديث عن دلالات لأي تحرك إستراتيجي للقوات الروسية في سوريا دون تأكيدات وبيانات، وإيضاحات رسمية من وزارة الدفاع الروسية.

ويتابع ليتوفكين، في حديث للجزيرة نت، أن سحبا جزئيا للقوات الروسية من سوريا “يمكن افتراضه نظريا، على قاعدة أن روسيا تمكنت من إنجاز المهمة الأساسية لها، والمتمثلة بالقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)” وتمكن القوات الحكومية السورية من السيطرة على أغلب المناطق في البلاد “إلى جانب التقدم على خط المصالحة”.

ويرى أن السحب الجزئي للقوات يمكن فقط أن يتحقق نتيجة لتفاهم بهذا الخصوص بين القيادتين السياسية والعسكرية في كلا البلدين.

وأكد في الوقت نفسه أنه “في كل الحالات لم تعد هناك حاجة للحفاظ على تشكيلات عسكرية روسية بأعداد كبيرة في سوريا، وخصوصا القوات البرية، حيث أصبح من الممكن الآن الاكتفاء بالقوات الإستراتيجية، والقيام بأية عمليات ملحة من حوض البحر الأبيض المتوسط”.

خلط أوراق

ويوضح العسكري الروسي أن التقارير التي تحدثت عن سحب موسكو القوات من سوريا، وانتقالها إلى جبهة القتال في أوكرانيا، مترافقة مع الترويج لسعي إيران استغلال الفراغ الذي تركته روسيا لتعميق وجودها في سوريا، وأنها ليست سوى حلقة جديدة في مسلسل الدعاية الغربية التي تحاول تضخيم أي قرار بانسحاب جزئي مفترض للقوات الروسية، لصالح الحرب النفسية التي تشنها بهدف الإيحاء بأن القوات الروسية في أوكرانيا تعاني من نقص في العدد أو ضعف في الكفاءة.

وبرأيه، فإنه حتى “لو كانت هناك دلائل على تحريك القوات الروسية وإرسال بعضها إلى أوكرانيا، فإن هذا لا يدل على تغيير إستراتيجي في الانتشار الروسى بسوريا، وهو بالتأكيد ليس بداية لانسحابها من هناك”.

بدوره، يستبعد الخبير في الشؤون العربية، أندريه أونتيكوف، حدوث قرار روسي في الظروف الحالية لجهة سحب قواتها العسكرية، بالحد الأدنى القوات المنتشرة جنوب سوريا نظرا لطبيعة المنطقة التي قد تصبح “قابلة للاشتعال” في حال وصول القوات الإيرانية وحزب الله إلى مشارف هضبة الجولان وانتشارها على خطوط التماس المقابلة لإسرائيل.

ويتابع أونتيكوف، في حديث للجزيرة نت، أن “موسكو تدرك حساسية الجيوسياسية لمناطق الجنوب السوري، وأنه سيكون من الغريب أن تتخذ قرارا غير مدروس وخطر من هذا النوع” رغم تحرير مناطق يعيشش فيها ما يقرب من 80-85% من سكان البلاد، وإبرام الكثير من اتفاقات وقف إطلاق النار، والاستقرار الملموس والنسبي الذي تشهده الساحة السورية الوقت الحالي.

وختم بأن أي انسحاب روسي ينبغي أن يكون مشروطا بقدرة القوات السورية على ضمان الاستقرار والأمن، ليست فقط بالمناطق التي كانت توجد فيها الوحدات الروسية، بل وتلك الواقعة على الحدود مع دول الجوار، وهو أحد أبرز الأسباب، وفي نفس الوقت الأهداف، التي من أجلها قدمت القوات الروسية إلى سوريا.

المصدر : الجزيرة

————————-

روسيا توضح موقفها من تمديد آلية إدخال المساعدات إلى سورية عَبْر الحدود

أكد نائب مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة دميتري بوليانسكي، أن بلاده تعارض فكرة تمديد مجلس الأمن الدولي لقرار إدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية عبر الحدود.

وقال بوليانسكي في اجتماع لمجلس الأمن يوم أمس الجمعة: “من المرجح أن نسمع اليوم كثيراً من التصريحات عن أهمية هذه الآلية بالنسبة للنازحين السوريين وضرورة تمديدها أو حتى توسيعها”.

وأضاف: “تعلمون أن موقفنا بهذا الشأن يختلف ولا يمكننا تجاهُل الحقيقة المتمثلة في أن هذه الآلية، في حال تسمية الأمور بمسمياتها، تنتهك سيادة سورية ووحدة أراضيها”.

وزعم أن بلاده “سمحت غير مرة بإقناعها بالموافقة على تمديد هذه الآلية إلى حين بدء إيصال المساعدات على نطاق كامل عبر خطوط التماسّ داخل سورية”، مضيفاً أن “مجلس الأمن أصدر بهذا الصدد قراره رقم 2585 الذي ينص خصوصاً على دعم مشاريع التعافي المبكر في البلاد”.

وحمل الدبلوماسي الروسي باقي الدول الأعضاء في مجلس الأمن “المسؤولية عن التقاعس عن العمل مع الفصائل المسيطرة على إدلب والتي تحبط عمليات إيصال المساعدات عبر خطوط التماسّ”.

وتنتهي آلية إدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية عَبْر الحدود في العاشر من تموز/ يوليو الماضي، وسبق أن أكدت المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، وجود توافُق بين أعضاء مجلس الأمن على ضرورة استمرار عمل الآلية.

وأعلن مجلس الأمن الدولي في العاشر من كانون الثاني/ يناير، تمديد القرار 2585 تلقائياً لمدّة 6 أشهر دون تصويت، ما يعني استمرار تدفُّق المساعدات الإنسانية عَبْر الحدود إلى سورية من “باب الهوى” حتى إتمام مدة القرار الذي تم التوصل إليه في 10 تموز/ يوليو الماضي.

وأكد المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك، أن إدخال المساعدات الإنسانية عَبْر الحدود إلى سورية يظل ضرورياً لمساعدة السوريين، وقال: “نحن بحاجة إلى نقل المساعدات عبر الحدود وخط الجبهة، هذه عناصر أساسية بالنسبة إلينا لنكون قادرين على تلبية الحاجات الإنسانية لجميع السوريين”.

كما أكد الأمين العامّ للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في تقرير قدمه في 14 كانون الأول/ ديسمبر الماضي لمجلس الأمن، أن إدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية عَبْر الحدود، ما زال ضرورياً.

وقال غوتيريش: “في هذه المرحلة، لم تبلغ القوافل عَبْر خطوط الجبهة وحتى المنتشرة بشكل منتظم، مستوى المساعدة الذي حققته العملية العابرة للحدود عند معبر باب الهوى بين سورية وتركيا”.

وشدد الأمين العامّ على أن “المساعدة عَبْر الحدود تبقى حيوية لملايين الأشخاص المحتاجين في شمال غربي سورية”.

وفي تموز/ يوليو الماضي وافق مجلس الأمن الدولي بالإجماع على قرار يسمح بإيصال المساعدات الإنسانية إلى سورية عَبْر معبر “باب الهوى” مدّة 12 شهراً، تُقسَّم إلى مرحلتَين: الأولى ستة أشهر تُمَدَّد بناءً على طلب الأمين العامّ للأمم المتّحدة.

وقبل تمديد التفويض، طالبت روسيا بإدخال المساعدات إلى منطقة الشمال الغربي عَبْر خطوط التماسّ مع النظام، وهو ما رفضته المنظّماتُ العاملة في المنطقة وعددٌ من الدول الفاعلة في الملف السوري على رأسها الولايات المتّحدة.

وتزعم روسيا أنّ النظام قادر على إيصال المساعدات الإنسانية إلى مستحقِّيها في إدلب التي تضمّ أكثر من 1300 مخيّم يقطنها أكثر من مليون نازح.

وتحدث العديد من المنظّمات الحقوقية الدولية عن استغلال النظام السوري لملفّ المساعدات الإنسانية في معاقبة المناطق الثائرة ضدّه، كما فعل في الغوطة الشرقية بريف دمشق وريف حمص الشمالي، وحذّرت تلك المنظّمات من تسليم ملفّ المساعدات في إدلب إلى النظام.

————————

خطط توسيع الناتو والمظالم التركية/ محمود علوش

تُعرف عن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، براعته في إتقان فن اللعب على التناقضات في علاقات بلاده الخارجية، وتحويل الأزمات إلى فرص. وأحدث مثال على ذلك معارضته مساعي انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مستشهداً بتاريخ البلدين في احتضان مؤيدين لحزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية وتنظيم فتح الله غولن. على الرغم من أن أنقرة تتبنّى موقفاً مبدئياً داعماً لتوسيع الحلف، إلاّ أنها غير مستعدّة الآن للموافقة على ضم الدولتين من دون الحصول على مكاسب. عندما أعلن أردوغان، الأسبوع الماضي، أن بلاده ستُعارض توسيع “الناتو”، قدّم المسؤولون الأتراك قائمة من الشروط للسويد وفنلندا مقابل الموافقة على انضمامها للحلف. وكان في مقدمتها تسليم مطلوبين لأنقرة يعيشون في البلدين، والإقرار علناً بأن الوحدات الكردية تنظيم إرهابي، فضلاً عن رفض القيود التي فرضها البلدان على المبيعات العسكرية لتركيا، قبل ثلاثة أعوام، رداً على هجومها على الوحدات الكردية. لكنّ هذه القائمة توسّعت ضمنياً فيما بعد، لتشمل دعوةً من أردوغان إلى “الناتو” لدعم إنشاء منطقة آمنة على الحدود التركية السورية لإيواء اللاجئين وضمان أمن الحدود الجنوبية لتركيا. كان ذلك بمثابة مؤشّر واضح على أن الاعتراض التركي لا يتعلق بالمشكلة مع فنلندا والسويد فحسب، بل يرتبط بقائمة طويلة من المظالم التركية مع شركائها الغربيين.

إحدى المميزات الرئيسية التي دفعت كثيرين من أعضاء “الناتو” إلى الانضمام إليه بعد تشكيله في خمسينيات القرن الماضي كانت الضمانة الأمنية الجماعية التي يمنحها الحلف لأعضائه. مع ذلك، لم تجد أنقرة أنها استفادت بالشكل الكافي من هذه الميزة، حتى في الظروف التي كانت في أمس الحاجة إليها. في أعقاب اندلاع الأزمة التركية الروسية على خلفية إسقاط تركيا المقاتلة الروسية في سورية عام 2015، لم يستجب “الناتو” لدعوة أنقرة إلى الدفاع عنه. وعندما أطلقت الولايات المتحدة تحالفاً دولياً ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية والعراق، قدّمت الدول الغربية الدعم العسكري لوحدات حماية الشعب الكردية التي تُصنفها أنقرة منظمة إرهابية. كما عارضت الولايات المتحدة، ولا تزال، طلب تركيا تسليمها فتح الله غولن، الذي تتهمه أنقرة بالضلوع في محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في صيف 2016. وقبل عامين، فرضت الولايات المتحدة عقوباتٍ على تركيا لشرائها منظومة إس 400 الصاروخية من روسيا، وأخرجتها من مشروع تصنيع مقاتلات إف 35… وقائمة المظالم التركية تطول. على مدى السنوات الماضية، واصلت واشنطن مماطلتها في نقاش حقيقي لهذه المظالم، لكنّ الثمن الذي تكبّدته العلاقات التركية الغربية كان كبيراً. واختارت أنقرة الدخول في شراكة متعدّدة الأوجه مع روسيا، بينما استمرت العلاقات التركية الأوروبية بالتراجع، بعد أن فقدت أنقرة الأمل في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

على عكس الظروف الماضية التي لم تسمح لتركيا بفرض مظالهما على الغربيين، فإن الظروف الحالية تُساعدها في ذلك. بقدر ما شكلت الحرب الروسية على أوكرانيا تحدّياً كبيراً أمام أنقرة لموازنة علاقاتها بين موسكو والغرب، فإنها وجدت فيها فرصةً لإعادة تشكيل علاقاتها مع الغربيين على قاعدة أكثر توازناً مما كانت عليه خلال العقود الماضية. لقد أعادت هذه الحرب القيمة الجيوسياسية لتركيا بالنسبة للغرب على أكثر من صعيد. كان من المقرّر أن يزور وفد فنلندي وسويدي أنقرة للتوصل إلى تسوية بشأن المطالب التركية، لكنّ أردوغان أغلق الباب أمام الزيارة، ليس لقطع الطريق على انضمام الدولتين إلى “الناتو”، بل لعدم حصر قائمة المطالب بهما. ولا تبدو مصادفة أن الجدل الذي أوجدته أنقرة، بخصوص توسيع “الناتو”، تزامن مع زيارة وزير خارجيتها إلى نيويورك لعقد أول اجتماع للجنة المشتركة الأميركية التركية، التي تشكلت أخيرا، بهدف إيجاد حلول للقضايا الخلافية بين البلدين، وهي كثيرة ومعقدة. وعلى الرغم من جدّية أنقرة في التمسّك بموقفها من توسيع الحلف، أبدت واشنطن ثقة بتجاوز هذه الإشكالية، في مؤشّر على استعدادها لتقديم بعض التنازلات لأنقرة، لا سيما في مسألة صفقة بيع مقاتلات إف 16 لها.

بالنظر إلى أن ما تطلبه أنقرة الآن للموافقة على ضم فنلندا والسويد إلى حلف الناتو يتعلق، بشكل أساسي، بخلافاتها العميقة مع الدول الغربية بشأن مسألة مكافحة الإرهاب والعقوبات، فإن الجدل المثار بهذا الخصوص يفتح نقاشاً واسعاً بين تركيا والغرب في معظم القضايا العالقة. مع ذلك، لا يزال من غير الواضح بعد ما إذا كان الغربيون مستعدين بالفعل لتقديم تنازلاتٍ لكل ما تطرحه أنقرة، لا سيما أن هذه التنازلات لن تعني فقط التأكيد في الموقف السياسي على دعم تركيا في كفاحها ضد الإرهاب، بل ستدفع الغربيين إلى إحداث تغيير جذري في مقاربتهم بعض القضايا الرئيسية مع أنقرة، كالمسألة الكردية، والانخراط، بشكل فعال، في دعم الجهود التركية لتحقيق الاستقرار في المناطق الآمنة التي أنشأتها في شمال سورية لإيواء اللاجئين، وما يتطلبه ذلك من تقديم دعم مالي لتحقيق الاستقرار الاقتصادي في هذه المناطق، لتهيئة الأرضية لعودة طوعية للاجئين، مع الأخذ بالاعتبار أن جهود تركيا لإعادة اللاجئين لن تخدم فحسب استراتيجية أردوغان في تخفيف عبء اللاجئين على بلاده، بل تصبّ كذلك في صالح الدول الأوروبية، كونها ستمنع مستقبلاً تدفق موجات لجوء جديدة صوب أوروبا في حال تدهور الأوضاع في شمال سورية.

في ظل أن النقاش الرئيسي في مسألة توسيع “الناتو” يتعلق بالسويد وفنلندا، يريد أردوغان من هاتين الدولتين إدانة حزب العمال الكردستاني والجماعات التابعة له علنًا، شرطاً لانضمامهما إلى “الناتو”. كما يريد منهما الضغط على المتعاطفين مع حزب العمال الذين ينشطون في بلدانهم، فضلاً عن رفع قيود تصدير الأسلحة على تركيا. ولكن الاستجابة للمطالب التركية لا تبدو ميسرة، وأي تحرك بهذا الاتجاه يُمكن تفسيره تملقا لأردوغان وقد لا يحظى بشعبية لدى الناخبين السويديين. ومن المرجح أن تقاوم حكومة أندرسون الانجرار إلى مفاوضاتٍ بشأن سياسة تسليم المجرمين، على سبيل المثال، أو صادراتها من الأسلحة. بدلاً من ذلك، من المرجّح أن يحاول الدبلوماسيون السويديون تجنيد الحلفاء للضغط على تركيا، حتى لا تمنع انضمام بلدهم إلى “الناتو”. أما الخلاف مع فنلندا فهو أقل تعقيداً، فلا توجد في البلد أقلية كردية كبيرة. أوقفت فنلندا، مثل السويد، صادرات الأسلحة إلى تركيا في 2019، لكن هذه التجارة كانت صغيرة. في العقد الماضي، صدّرت فنلندا ما قيمته 60 مليون يورو من السلع المصنفة أسلحة إلى تركيا، بما في ذلك الذخيرة ومعدّات الحماية واللوحات المدرّعة.

على عكس تعقيدات الموقف الغربي من المسألة الكردية، قضية صفقة مقاتلات إف 16 غير معقّدة مع ميل إدارة الرئيس جو بايدن إلى تمريرها. مع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة متردّدة في رفع العقوبات التي فرضتها على صناعات الدفاع التركية. على الرغم من أن هذه العقوبات لم تكن مؤثرة بشكل كبير على أنقرة، إلاّ أن رفعها يكتسب أهمية كبيرة بالنسبة لأردوغان. ولم تُفعل تركيا منظومة إس 400 الروسية على الرغم من مضي عدة سنوات على شرائها، وهو ما ترك الباب مفتوحاً أمام التفاوض بين أنقرة وواشنطن بخصوص هذه المسألة. على اعتبار أن معظم القضايا الخلافية بين أنقرة والغرب مرتبطةٌ بعضها ببعض، فإن حدوث تقدّم في إحدى هذه القضايا سينعكس إيجابيا على مواقف الطرفين في القضايا الأخرى. سيواصل أردوغان الضغط على الغرب أملاً في دفعه إلى تبنّي مقاربة جديدة شاملة للعلاقات مع تركيا، التي يبدو أنها تعلمت من أخطاء الماضي، وأصبحت أكثر عناداً في إجبار الغربيين على النظر في قائمة مظالمها وعدم منحهم كل ما يُريدونه منها من دون مقابل. علاوة على ذلك، لا يصبّ عامل الوقت في الأزمة الجديدة بشأن توسع “الناتو” في صالح الغرب، فبقدر ما لضم فنلندا والسويد إلى الحلف أهمية حيوية له، فإن الإسراع في هذه العملية يكتسب أهمية كبيرة أيضاً، ما يُقلّص من فرص المناورة أمام الدول الغربية للتهرّب من الاستماع للهواجس الأمنية التركية. مع ذلك، تنطوي اللعبة التي يُمارسها أردوغان على بعض المخاطر، وقد تؤدّي إلى انهيار أعمق في علاقات بلاده مع الغرب.

——————–

المهمة الفرنسية المستحيلة مع بوتين/ خير الله خير الله

يعطي اختيار الرئيس إيمانويل ماكرون لكاترين كولونا كي تكون وزيرة للخارجية الفرنسيّة فكرة عن الهمّ الذي يشغل بال كل دولة أوروبيّة في هذه الأيام. إنّه الهمّ الأوكراني الذي يطغى على كلّ ما عداه، خصوصا أنّ كولونا التي تعتبر من بين أكثر الديبلوماسيين الفرنسيين خبرة في شؤون العالم، بما في ذلك الخليج والشرق الأوسط، هي قبل كلّ شيء مختصة بأوروبا.

ليس صدفة أن يكون آخر منصب شغلته قبل أن تصبح وزيرة للخارجيّة هو موقع السفير الفرنسي في لندن. يؤكّد مثل هذا الموقع، في الوقت الذي تمرّ فيه العلاقات الفرنسيّة – البريطانيّة في مرحلة دقيقة، بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، مدى الثقة التي يضعها ماكرون في كولونا.

يبحث الرئيس الفرنسي عن مخرج لفلاديمير بوتين مدركا أنّه لم يعد أمامه غير خيار التصعيد نتيجة مواجهته طريقا مسدودا في أوكرانيا… وبعدما بدأت أوروبا تظهر ميلا إلى فقدان أي أمل بالرئيس الروسي والقدرة على التعاطي معه مستقبلا.

بالنسبة إلى أوروبا، أعاد بوتين العالم إلى أيّام الحرب الباردة بعدما اعتقد أنّ الاتحاد السوفياتي لا يزال حيّا يرزق وأنّ في استطاعته استعادة أمجاده بمجرّد التلويح بالسلاح النووي.

أكثر من ذلك، أعاد بوتين الحياة إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) مع سعي كلّ من فنلندا وأسوج للانضمام إلى الحلف في تحدّ واضح لروسيا وللرئيس الروسي شخصيا. تغيّرت أوروبا كلّيا بعد الحرب الروسيّة على أوكرانيا. استطاع الرئيس الروسي إحداث تغيير أوروبي في العمق لا يقلّ أهميّة عن ذلك الذي حصل عند محطتين تاريخيتين مرّ فيهما العالم هما نهاية الحرب العالميّة الثانية في العام 1945 وسقوط جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989. كان هذا السقوط خطوة أولى على طريق إعادة توحيد ألمانيا… وخروج دول أوروبا الشرقيّة من تحت الهيمنة السوفياتية.

تأتي كولونا إلى الخارجية الفرنسية بعد تخلّي فنلندا عن حيادها التاريخي بين القوتين العظميين إبان الحرب الباردة. طلبت رسميّا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. كذلك، من يصدّق أن أسوج، التي أدارت ظهرها لكل الحروب منذ العام 1814، يمكن أن تتّخذ في السنة 2022 خطوة من نوع الطلب أن تصبح عضوا في الأطلسي؟ وقفت أسوج موقف المتفرّج في الحرب العالميّة الأولى، كذلك في الحرب العالميّة الثانية. حاولت بين الحين والآخر أن تكون وسيطا في الأزمات الدولية، من نوع الحرب العراقيّة – الإيرانيّة بين 1980 و1988. لم تذهب يوما إلى أبعد من ذلك. حرصت في كلّ وقت على تفادي إغضاب الاتحاد السوفياتي، قبل سقوطه، ثم الاتحاد الروسي. استقبلت لاجئين من كلّ أنحاء العالم، خصوصا من الأكراد ومسيحيي العراق. سعت لعلاقات طيبة مع كلّ دول العالم معتمدة مقاييس ذات طابع إنساني. وهذا ما يغيظ، في ما يبدو، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

يظلّ أهمّ ما تشهده أوروبا حاليا التغيير العميق في الموقف الألماني. لم يعد هناك ما يربط ألمانيا بروسيا. على العكس من ذلك، هناك انعدام كامل للثقة بين برلين وموسكو

ليست الحماسة التي تبديها فنلندا وأسوج تجاه الانضمام إلى الأطلسي سوى دليل على الرعب الذي يسود أوروبا. استطاع بوتين جعل أوروبا تعيش في ظلّ حال الرعب بعدما لجأ إلى القوّة من أجل إخضاع أوكرانيا بحجّة أنّها تنوي الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. لم تعد أوكرانيا وحدها في المواجهة مع روسيا. يشهد العالم حاليا حربا بالوكالة بين روسيا والغرب الذي قرّر الدخول في مواجهة مع الرئيس الروسي بعدما تبيّن، مع مرور الأيام، أنّه ليس شخصا طبيعيا بأيّ مقياس.

باختصار شديد، لا خيار آخر أمام القارة العجوز سوى وضع حدّ لطموحات بوتين عن طريق التصدي له. إذا سقطت أوكرانيا، سقطت أيضا دول البلطيق، أي لاتفيا وإستونيا وليتوانيا. هذه الدول أخذت مبادرة الانفصال عن الاتحاد السوفياتي. إلى جانب ذلك، ليس في استطاعة دولة مثل بولندا سوى الشعور بالهلع بسبب تاريخ علاقتها بروسيا والتجارب المؤلمة التي مرّت فيها في الماضي البعيد والقريب…

يظلّ أهمّ ما تشهده أوروبا حاليا التغيير العميق في الموقف الألماني. لم يعد هناك ما يربط ألمانيا بروسيا. على العكس من ذلك، هناك انعدام كامل للثقة بين برلين وموسكو. يؤكّد ذلك القرار الألماني القاضي بالتخلي كلّيا عن الغاز الروسي من جهة وإعادة بناء الجيش الألماني من جهة أخرى.

في النهاية، بعد كلّ المقاومة التي أظهرها الشعب والجيش الأوكرانيان بدعم أميركي وأوروبي مكشوف ومعلن، هل لا يزال من مستقبل سياسي لبوتين؟ الجواب عن هذا السؤال سيحتاج إلى بعض الوقت. لكنّ الثابت أن ليس في أميركا وأوروبا من على استعداد للتعاطي مع الرئيس الروسي باستثناء ماكرون. لا يمكن الاستخفاف بعامل الثقة في العلاقات الدوليّة. نجح بوتين في ضرب الثقة عندما أخطأ في العنوان ولم يتنبه إلى أن أوكرانيا دولة أوروبيّة وليست سوريا التي يستطيع فيها تجربة الأسلحة الروسية في الشعب السوري من دون أن يجد من يحاسبه.

ستكون الحرب الأوكرانيّة حربا طويلة من دون أدنى شكّ. بدأت الحرب في الرابع والعشرين من شباط – فبراير الماضي ولا تزال مستمرّة. أسوأ ما في الأمر أن ليس هناك من يريد إيجاد مخرج لبوتين باستثناء قليلين أحدهم الرئيس الفرنسي الذي سيكون عليه الاتكال على كولونا لإيجاد مثل هذا المخرج ووضع صيغة له. تبدو هذه مهمّة مستحيلة إذا أخذنا في الاعتبار شخصيّة الرئيس الروسي نفسه الذي لا هدف له سوى الاحتفاظ بالسلطة من جهة وتأكيد أن روسيا قوّة عظمى في هذا العالم وأنّ الاتحاد السوفياتي لم يمت من جهة أخرى.

الأهمّ من ذلك كلّه، أنّ المخرج سيعني الاعتراف بالخطأ والاستعداد للخروج من السلطة عاجلا أم آجلا. الأكيد أن بوتين ليس من الرجال الذين يستطيعون الاعتراف بالخطأ، خصوصا أنّه لا يستطيع أن يرى نفسه خارج السلطة يوما!

——————————

موسكو مهيمنة وكييف تقاوم بشراسة

ما الذي يمكن أن يحسم الصراع لصالح روسيا أو أوكرانيا؟

  – بي. بي. سي.

أصبحت حرب روسيا في أوكرانيا أمرا دمويا وطاحنا بصورة متزايدة، حيث كل طرف يريد إنهاك الطرف الأخر. كلاهما يدعي أنه حقق مكاسب في الآونة الأخيرة. لكنهما يعانيان أيضا من نكسات.

بشكل عام، لا تزال روسيا هي القوة المهيمنة ولديها قوة عسكرية كبيرة، لكنها لم تتمكن من تحقيق نصر سريع كما كان تخطط. هنا، نلقي نظرة فاحصة على بعض الأشياء التي يمكن أن تحسم النتيجة لصالح أي من الطرفين.

المكاسب والخسائر

في الشمال، نجح هجوم أوكراني مضاد في طرد القوات الروسية من مدينة خاركيف.

وفي الجنوب، نجحت روسيا في القضاء على جيوب المقاومة الأخيرة في مدينة ماريوبول الساحلية. كلا الأمرين كان مكلفا من حيث الخسائر العسكرية والمدنية، لكن من غير المرجح أن يكون أي منهما حاسما.

ما حدث في ماريوبول وخاركيف يسلط الضوء على حالة المد والجزر في هذا الصراع. هذا النمط من المكاسب والخسائر المكلفة يتكرر الآن في شرق البلاد.

تحرز روسيا تقدما صغيرا ولكن بثبات في دونباس، وهي المنطقة التي يتم تركيز الهجمات عليها باستمرار. لكنها أيضا تعاني من نكسات، من أبرزها تدمير عشرات العربات المدرعة الروسية في وقت سابق من هذا الشهر، وهي تحاول عبور نهر سيفرسكي دونيتس.

خارطة توضح العملية العسكرية الروسية في دونباس

BBC

المدفعية-أفضلية روسيا

في الشرق، يتبادل كل جانب الضربات الثقيلة والطاحنة باستخدام المدفعية. يقول بن باري، وهو عميد سابق في الجيش البريطاني يعمل الآن في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، إن هذا الأمر سيستمر في معركة دونباس.

ويتوقع أن تكون المدفعية هي السبب الرئيسي لسقوط ضحايا من الجانبين لأسابيع وشهور قادمة. سلط المسؤولون الغربيون الضوء على الخسائر الروسية الكبيرة، لكنهم كانوا أقل رغبة في تقديم تقديرات للخسائر الأوكرانية.

تتلقى أوكرانيا الآن أسلحة ثقيلة من الغرب، بما في ذلك مدافع الهاوتزر M777 الأمريكية. كما حصلت على أنظمة رادار مضادة للمدفعية للمساعدة في العثور على خطوط المدفعية الروسية واستهدافها. لكن روسيا لا تزال متفوقة.

تكتيكات

تستخدم روسيا قذائفها المدفعية وقاذفات الصواريخ لكسر القوات الأوكرانية المتمترسة على طول خطوط دفاعية معدة جيدا. كانت روسيا تضغط من اتجاهين رئيسيين، من إيزيوم في الشمال ومن الغرب حول مدينة سيفريدونيتسك. وقد أحرزت تقدما محدودا في كلا الاتجاهين.

يقول العميد باري إنه يبدو أن روسيا “تحاول استنزاف أوكرانيا تماما” من خلال إجبارها على تركيز قواتها في نقاط رئيسية، ومن ثم يمكن للمدفعية الروسية استهداف هذه القوات فيما بعد. يعتقد المحللون العسكريون أن أوكرانيا من المحتمل أن تكون قد تكبدت خسائر كبيرة نتيجة لذلك.

ومع ذلك، يضيف باري أن أوكرانيا ستظل قادرة على استغلال المناطق الحضرية في دونباس لإبطاء تقدم روسيا. القتال في المدن والبلدات، كما ظهر خلال هذه الحرب، في صالح المدافع وليس المهاجم.

مرة أخرى، كما في ماريوبول، من المرجح أن تحاول روسيا القضاء على المقاومة، من خلال النمط المألوف حاليا المتمثل في استخدام الضربات المدفعية الكاسحة حتى يبقى القليل من الدفاع. وكان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، قد قال بالفعل إن منطقة دونباس الشرقية في أوكرانيا “دمرت بالكامل” ووصف الحياة هناك بأنها “جحيم”. وسوف يزداد الأمر سوءا.

“قوات فرانكشتاين” الروسية

على الرغم من أن الخبراء العسكريين ما زالوا يعتقدون أن روسيا لا تمتلك العدد الكافي من القوات اللازمة لتحقيق تقدم كبير في الشرق، فمن غير المرجح أن يحدث إعادة انتشار قوات قادمة من جبهات خاركيف وماريوبول فارقا كبيرا في المعادلة.

يقول جاك واتلينغ، من معهد الخدمات المتحدة الملكي، إن روسيا لا تزال تعاني من نقص في القوة البشرية ولا سيما في قوات المشاة. حاولت روسيا إعادة بناء ودمج بعض وحداتها المدمرة بالفعل، والتي يطلق عليها اسم “قوات فرانكشتاين”.

لكن من المحتمل أن يكون تماسك الوحدة ضعيفا وكذلك قد تعاني من ضعف في الروح المعنوية للوحدات المتعبة والمستنفدة.

كشف تقييم استخباراتي أجرته وزارة الدفاع البريطانية مؤخرا أن القادة الروس يواجهون ضغوطا لتحقيق نتائج سريعة، ونتيجة لذلك من المرجح أن يعيدوا توزيع القوات دون استعداد كاف.

وقالت وزارة الدفاع البريطانية إن ذلك يهدد “بمزيد من الاستنزاف”. وزعمت حاليا أن روسيا فقدت بالفعل حوالي ثلث قوتها الأصلية في الغزو، ويشمل هذا التقدير الجنود القتلى والجرحى بالإضافة إلى المعدات التي تم تدميرها أو تضررت.

يقول واتلينغ إن روسيا تحاول معالجة هذا النقص، بما في ذلك تعبئة جنود الاحتياط الذين تزيد أعمارهم عن 40 عاما وتقديم عقود قصيرة الأجل لمن يريدون الخدمة العسكرية في صفوف الجيش الروسي. لكن تدريب الجيش وإعادة بنائه يستغرق وقتا.

كما انكشف ضعف روسيا أمام الهجمات الأوكرانية على خطوط الإمداد الروسية. لكن مع هذا فإن قدرة أوكرانيا محدودة على تهديد الخطوط الروسية حيث يتم تقييد الجزء الأكبر من قواتها في مواقع دفاعية.

الحرب الطويلة

لا أحد يعتقد أن هذه الحرب ستنتهي بسرعة، كما أنها لم تصل إلى طريق مسدود بعد. تحرز روسيا تقدما، لكن ببطء شديد. لكن من غير المرجح أن تعتمد نتيجة هذه الحرب على القوة العسكرية وحدها.

يقول واتلينغ إن روسيا تسعى أيضا إلى استخدام أدوات اقتصادية وسياسية لإلحاق أكبر قدر من الضرر بأوكرانيا. بينما يتعرض الاقتصاد الروسي لضربة من العقوبات الغربية، فمن المرجح أن يعاني اقتصاد أوكرانيا أكثر من ذلك.

من المتوقع أن يتقلص الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنسبة 12 بالمئة خلال العام المقبل، لكن الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا قد يخسر حوالي 50 بالمئة. كما يتسبب الحصار الروسي للبحر الأسود في أضرار جسيمة.

ويضيف واتلينغ أن استمرار الدعم الاقتصادي وكذلك العسكري الغربي، قد يكون حاسما. والسؤال: هل يتضاءل اهتمام الجمهور بالحرب مع استمرارها، تماما كما حدث بعد عام 2014 عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، واستولى الانفصاليون المدعومون من روسيا على أجزاء من دونباس لأول مرة؟

يتعين على الحكومات الغربية الآن أيضا أن تقلق بشأن التحديات المحلية في بلدانها، بما في ذلك ارتفاع التضخم وأسعار الغاز والنفط وأزمة غلاء المعيشة، الناجمة جزئيا عن الحرب.

عندما يقترب الشتاء سيكون من الصعب على الجيوش القتال. قد يكون من الصعب أيضا على العالم أن يواجه عاصفة اقتصادية.

————————-

الحرب الروسية على أوكرانيا.. موسكو تدرس خطة سلام إيطالية وزيلينسكي يطالب بعقوبات “قصوى

أعربت موسكو عن استعدادها للعودة إلى طاولة المفاوضات مع أوكرانيا وأكدت أنها تدرس خطة سلام مقترحة من إيطاليا، في حين طالب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من دافوس بفرض عقوبات “قصوى” على روسيا.

وقال أندريه رودينكو نائب وزير الخارجية الروسي إن موسكو مستعدة للعودة إلى المفاوضات مع أوكرانيا حين تبدي كييف رد فعل بناء، على الوثائق الأخيرة التي قدمتها موسكو.

على صعيد متصل، لم يستبعد المسؤول الروسي احتمال مناقشة مسألة تبادل أسرى مجمع آزوفستال الصناعي في مدينة ماريوبول مع أوكرانيا.

ونقلت وكالات الأنباء الروسية عن رودينكو أن بلاده تلقت خطة السلام التي اقترحتها إيطاليا، مؤكدا أن موسكو ستعطي رأيها بها بعد الانتهاء من دراستها.

وكان وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو أعلن الجمعة أن بلاده اقترحت على الأمم المتحدة تشكيل “مجموعة تيسير دولية” لمحاولة التوصل إلى وقف لإطلاق النار “خطوة بخطوة” في أوكرانيا.

وتضمنت الخطة الإيطالية -وفق صحيفة “لا ريبوبليكا” الإيطالية- التي سلمت إلى الأمم المتحدة، وقفا لإطلاق النار في أوكرانيا ونزع الأسلحة على الجبهة تحت إشراف الأمم المتحدة، وإجراء مفاوضات مع أوكرانيا بشأن انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي وليس حلف شمال الأطلسي (ناتو).

كما تشمل الخطة اتفاقية ثنائية (روسيا وأوكرانيا) بشأن شبه جزيرة القرم ودونباس بحيث تتمتع هذه الأراضي المتنازع عليها بحكم ذاتي كامل مع الحق في ضمان أمنها ولكنها ستكون تحت سيادة أوكرانية.

ووفق الخطة الإيطالية يتم إبرام اتفاقية سلام وأمن في أوروبا متعددة الأطراف بهدف رئيسي هو نزع السلاح ومراقبة الأسلحة ومنع نشوب نزاعات.

عقوبات “قصوى”

في المقابل، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن هناك محادثات لحكومته مع بعض الدول لإيجاد بدائل لتصدير الحبوب الأوكرانية بعد محاصرة القوات الروسية للموانئ الأوكرانية.

وأضف زيلينسكي -في كلمته أمام قمة دافوس عبر الفيديو- أن أي تعامل مع الأسواق الروسية في هذه المرحلة سيؤدي إلى خسارة للجميع، كما أكد استعداد أوكرانيا لمساعدة العالم في مواجهة موجة الجوع التي تهدد البشرية.

وقال الرئيس الأوكراني إن روسيا أصبحت دولة مجرمي حرب، وما كانت لتشن الحرب على أوكرانيا لو فرضت عليها “عقوبات قصوى” من قبل.

ودعا إلى فرض حظر نفطي على روسيا وعقوبات على جميع مصارفها والتخلي عن قطاع تكنولوجيا المعلومات التابع لها، بينما حض جميع الشركات الأجنبية على مغادرتها.

وفي طوكيو، قال الرئيس الأميركي جو بايدن إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحاول محو هوية أوكرانيا بعد فشله في احتلالها وسيدفع ثمن ذلك.

من جهته، أكد رئيس وزراء اليابان فوميو كيشيدا ضرورة تعزيز التحالف والتعاون الدفاعي بين اليابان والولايات المتحدة الأميركية.

وأكد كيشيدا أن بلاده ملتزمة بمواجهة العدوان الروسي على أوكرانيا بالعمل من خلال مجموعة السبع.

ميدانيا

وفي الميدان، أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن تدمير شحنة من الأسلحة والعتاد للجيش الأوكراني في مقاطعة جيتومير.

وقال المتحدث باسم الوزارة إن الدفاعات الجوية الروسية أسقطت أيضا 3 طائرات أوكرانية أمس.

في المقابل، قال المتحدث باسم هيئة الأركان الأوكرانية أولكسندر شتوبون إن قوات بلاده تواصل صد الهجمات الروسية في اتجاه دونيتسك ولوغانسك، وأضاف أن قوات بلاده دمرت معدات وآليات عسكرية تابعة للجيش الروسي.

وأعلنت هيئة الأركان الأوكرانية، أن روسيا خسرت 29 ألفا و200 جندي منذ بداية الهجوم العسكري الذي شنته موسكو على أوكرانيا أواخر فبراير/شباط الماضي.

وفي السياق، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي -في قمة دافوس- أن 87 شخصا قتلوا في ضربة روسية استهدفت قاعدة عسكرية في وقت سابق هذا الشهر بمنطقة في شمال أوكرانيا سيطرت عليها القوات الأوكرانية.

وكانت الضربات الروسية التي استهدفت “ديسنا” هجوما نادرا على منطقة قريبة من العاصمة، بعد أسابيع من استعادة القوات الأوكرانية المنطقة في أعقاب انسحاب القوات الروسية.

بدورها، قالت السفارة الأميركية في العاصمة الأوكرانية كييف إن قوات مشاة البحرية الأميركية تستعد لإرسال مدافع هاوتزر إلى كييف، وأضافت السفارة -في تغريدة على تويتر- أن الشحنة هي جزء من المساعدة الأميركية لأوكرانيا.

أما الكرملين فقال إن عسكرة أوروبا لن تساعد في تعزيز الأمن والاستقرار في القارة.

المصدر : الجزيرة + وكالات

————————

لوتان: هل تجر حرب أوكرانيا العالم إلى حرب باردة جديدة أم حرب عالمية ثالثة؟

تطور الصراع الأوكراني ليس مطمئنًا ويبدو أن الجميع يجد متعة في صب المزيد من الزيت على نار هذا الصراع، فهل تتطور الأمور لحرب باردة فحسب أم تسوء فتتردى لحرب عالمية ثالثة؟

سؤال عبّرت به ماري هيلين ميوتون -كاتبة عمود بصحيفة “لوتان” (Le Temps) الفرنسية- عن قلقها إزاء هذا الصراع، مؤكدة أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد فصل روسيا عن أوروبا بشكل تام بغض النظر عما ستؤول إليه حرب أوكرانيا الحالية.

ولفتت ميوتون -في بداية مقالها- إلى أن روسيا لم تربح أي شيء من غزوها أوكرانيا، مشيرة إلى أن هدفها في الأصل كان منحصرا في استعادة نهر دونباس، لأن كييف لم تحترم خريطة الطريق المكونة من 13 نقطة في إطار اتفاقيات مينسك الثانية، الموقعة تحت رعاية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا عام 2015.

وهو الأمر الذي قالت عنه الكاتبة إن الاتفاقية نصت عليه بشكل صريح مقابل وقف إطلاق النار وترك المناطق الانفصالية داخل حدودها، وأبرزت أن أوكرانيا كانت مطالبة، حسب الاتفاقية، بإنشاء منظمة حكومية فدرالية تسهر على التعامل بشكل أفضل مع الأقليات الإقليمية، كما كان على كييف أن تمنح “وضعا خاصا” لجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين.

غير أنه من الواضح، وفقا للكاتبة، أن أوكرانيا لم تفعل من ذلك شيئًا على الرغم من الدعوات العديدة لتطبيق ما اتفق عليه، ولاحظت الكاتبة -في هذا الصدد- تقاعس كل من ألمانيا وفرنسا عن الضغط لتنفيذ الاتفاق رغم أنهما كانتا ضمن الدول الراعية له.

إلى هذا التبرير الذي كان صداه قويا، وفقا للكاتبة، أضاف بوتين مبررا آخر لحربه على أوكرانيا وهو الحرب ضد النازية التي ابتليت بها أوكرانيا، حسب قوله.

وأقرت الكاتبة بوجود العديد من الأشخاص السيئين ضمن كتيبة آزوف الأوكرانية، قائلة إن بعضهم متهم بالمسؤولية عن عمليات تعذيب أو إعدام مؤكدة، لكن الكاتبة شددت على أن حديث بوتين -في هذا الصدد- عن إبادة جماعية تنفذ ضد المجموعات العرقية الناطقة بالروسية في دونباس مبالغ فيه رغم ما تسببت فيه الاشتباكات المتبادلة في هذه المنطقة في السنوات الماضية من قتل ودمار، مبرزة أن السكان المحليين في هذا الإقليم لم يرحبوا بالروس ولم ينظروا إليهم على أنهم محررون.

وأيا كانت نتيجة حرب أوكرانيا، فإن الكاتبة ترى أن بوتين قد فصل روسيا بشكل دائم عن أوروبا وجعلها منبوذة داخل المجتمع الغربي ودمر اقتصادها المتعثر أصلا.

وأضافت الكاتبة أن الرئيس الروسي عزز كذلك حلف شمال الأطلسي (ناتو)، الذي أصبح الآن منفتحا أمام انضمام فنلندا والسويد وربما حتى أوكرانيا نفسها لصفوفه.

وما تجاهله الكرملين أو لم يضعه في الحسبان، حسب الكاتبة، هو أن روسيا ربما تدخل التاريخ بوصفها الدولة المسؤولة عن دخول العالم حربا عالمية ثالثة.

ولفتت الكاتبة إلى أن دوامة الأقوال والأفعال الحالية يمكن أن تؤدي إلى تدهور الصراع بشكل دراماتيكي، لا سيما أن التدفق المستمر للأسلحة التي تحتاجها أوكرانيا يحول مانحي تلك الأسلحة، رضوا بذلك أم لم يرضوا به، إلى أطراف في النزاع، وهذا ما عبّر عنه الروس مرات عدة.

وهنا، تقول الكاتبة، يجب أن نلاحظ وندين دور الولايات المتحدة، الذي يؤدي إلى تفاقم الوضع المتفجر أصلا؛ ففي حين رفض الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما تسليح أوكرانيا بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم، يغدق الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن عليها بالمساعدات العسكرية ويمدها بكميات هائلة من الأسلحة الإستراتيجية التي تكلف المليارات.

وتقول الكاتبة إن من يستمع لتصريحات بايدن العنيفة وتشديده للعقوبات الاقتصادية التي يفرضها على روسيا يدرك، من دون شك، أنه لا يسعى، بأي حال من الأحوال، إلى إنهاء الأعمال العدائية أو حل الأزمة من خلال المفاوضات.

وترى الكاتبة أن أوروبا هي الخاسر الأكبر في هذا التطور الكارثي، كما هي حالها دائمًا، محذرة من أن الوضع الحالي لا يستطيع أحد التنبؤ بنتائجه.

وخلصت الكاتبة إلى أن الأمور ستتطور في أحسن الأحوال إلى حرب باردة جديدة وفي أسوئها إلى حرب شاملة، مبرزة أن الاتحاد الأوروبي انهمك بالفعل في اللجوء إلى الوقود الأحفوري الأميركي، وفي شراء الأسلحة الأميركية ومن المتوقع أن ينكفئ لفترة طويلة تحت مظلة الناتو وتحت القبضة الأميركية الخانقة على سياسته الخارجية وأن يتخلى عن كل أمل في لعب دور جيوسياسي مستقل وسلمي، على حد تعبير الكاتبة.

المصدر : لوتان

————————

هل دخل بوتين حرب أوكرانيا بلا سترة مضادة للرصاص؟/ أحمد عبد الحكيم

تحركات موسكو العسكرية خلقت ضدها تحالفاً عالمياً وانضمام فنلندا والسويد لـ”ناتو” وعدم سرعة حسم المعركة يقلل من الخيارات الروسية

كان أحد الأسباب الرئيسة التي دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الحرب في أوكرانيا منع توسع الناتو باتجاه الشرق (أ ف ب)

تعيش القارة الأوروبية ومعها روسيا على وقع متغيرات جذرية في المشهد الأمني والجيوسياسي للقارة بأكملها، عمقها إعلان كل من فنلندا والسويد التخلي عن حيادهما العسكري القائم منذ عقود، والتوجه إلى الانضمام لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، إثر مخاوف احتمالات تجاوز الجيش الروسي الجغرافية الأوكرانية التي يخوض فيها “عملية عسكرية خاصة” منذ الرابع والعشرين من فبراير (شباط).

وفي ظل عودة أجواء الصراع بين الشرق والغرب، الذي تجسد طوال عقود الحرب الباردة قبل انهيار الاتحاد السوفياتي في تسعينيات القرن الماضي، وفق توصيف البعض، تواجه موسكو اختباراً أمنياً غير مسبوق مع بدء عملية قبول عضوية هلسنكي وستوكهولم في حلف “الناتو”، إذ يعني إتمام الأمر زيادة الحدود المشتركة للتكتل العسكري الغربي مع روسيا بحوالى 1300 كلم، وتكريس الضمانات الأمنية من دول تمتع بقدرات نووية للدولتين الإسكندنافيتين، وعودة توسع الحلف شرقاً صوب الحدود الروسية، الذي كان أحد الأسباب الرئيسة التي دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى التوجه عسكريا إلى الحدود الأوكرانية.

وأمام خيارات روسية، تتوقف وفق توصيف بوتين على، “توسيع البنى التحتية العسكرية للناتو في أراضي فنلندا والسويد”، ترجح أغلب آراء المراقبين، على اعتبار انضمام هلسنكي وستوكهولم إلى حلف الأطلسي يعد أحد أبرز التداعيات غير المحسوبة التي يواجهها الرئيس الروسي جراء الحرب في أوكرانيا، مع ارتفاع مستوى التوترات العسكرية في القارة الأوروبية، وانخفاض القدرة على التوقع بالمستقبل، لا سيما أن الحرب في أوكرانيا اقتربت من تجاوز شهرها الثالث، ولم تحسم بعد لصالح أحد أطرافها.

هل أخطأ بوتين الحسابات؟

بحسب التصريحات الرسمية السويدية والفنلندية، فإن قرار الانضمام لحلف “الناتو”، الذي تقدم به البلدان رسمياً الأربعاء الماضي 18 مايو (أيار) إلى مقر الحلف في بروكسل، جاء كنتيجة مباشرة للحرب في أوكرانيا، وبعد قطيعة “تاريخية” مع حيادهما العسكري الذي كانا يريان في تجاوزه خطوة استفزازية غير ضرورية لموسكو، وعليه اختارا تجنب استعداء قوة إقليمية كبرى. لكن “العملية العسكرية” الروسية في الجارة السوفياتية السابقة، غيرت المشهد الأمني في أوروبا بأكمله، وباتت تعيد تشكيل أنماط التفكير القائمة منذ عقود في القارة العجوز، وفق ما يقول مراقبون.

ويرى ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، أنه “يمكن تفسير الخطوة الفنلندية والسويدية نحو الناتو للوهلة الأولي إنها نتاج واضح للغاية لتداعيات الحرب الروسية الأكثر تدميرا في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية”، مضيفاً بحسب ما كتبه في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، “مع استمرار تلك الحرب وتهديدها بأن تصبح مأزقاً مدمراً، خلصت الدولتان الإسكندنافيتان إلى أن بيئتهما الأمنية تتدهور واختارتا الحماية الأكبر التي يعتقدان أن عضوية الناتو ستوفرها”.

إلا أن والت، يعود متسائلاً، أن “هذا التفسير يترك بضعة أسئلة دون إجابة، بينها لماذا التخلي عن الحياد الآن وتغيير المسار بعد عقود في الحالة الفنلندية وقرنين في الحالة السويدية؟”، يجيب، “هذا مثال كلاسيكي لنظرية توازن القوى بشكل عملي”.

ويوضح والت، “ربما كان المرء يعتقد أن الأداء العسكري السيئ لروسيا في أوكرانيا كان سيجعل هلسنكي وستوكهولم تشعران بأمان أكبر وليس أقل، حيث أظهرت الحرب أن القوات المسلحة الروسية ببساطة ليست بارعة في غزو الدول الأخرى، وأن مزيج العقوبات الغربية، وتكاليف الحرب نفسها، واستمرار هجرة الأدمغة من الشباب الروس وانخفاض إجمالي عدد السكان وتراجع الأعمار، ستقلل من إمكانات القوة في روسيا لسنوات مقبلة”، وعلى الرغم من ذلك يضيف، “عندما يتذكر المرء أن السويد ظلت محايدة طوال الحرب الباردة، عندما كانت القوة السوفياتية في أوجها، فإنه من المحير إلى حد ما على الأقل أن السويد وفنلندا اختارت هذه اللحظة لتقرر أنهما بحاجة إلى حضن الناتو”.

ومضى والت في شرحه قائلاً، “تختفي مثل هذه الألغاز إذا أدركنا أن نظرية توازن القوى التقليدية غير مكتملة، إذ تولي الدول اهتماماً وثيقاً لميزان القوى، لكن ما يهتمون به حقاً هو التهديدات. حيث يمثل مستوى التهديد الذي تشكله الدولة للآخرين جزءاً من قوتها الكلية، ولكن أيضاً قدراتها العسكرية المحددة خصوصاً قدرتها على قهر أو إلحاق الأذى بالآخرين، وقربها الجغرافي، ونواياها المتصورة”. يتابع، “بشكل عام، الدول القريبة أكثر خطورة من تلك البعيدة”.

وبحسب والت، “تشرح نظرية توازن التهديد، حالة السويد وفنلندا، فمن الواضح أن نقطة التحول كانت وجهة نظر متغيرة للنوايا الروسية”، مستشهداً في ذلك بتصريحات رئيسة الوزراء السويدية ماغدالينا أندرسون لشرح خطوة بلادها الانضمام إلى “الناتو”، قائلة “إنها غيرت وجهة نظرها بشأن استعداد روسيا لاستخدام العنف وتحمل مخاطر هائلة”. يتابع والت، “يخبرك رد الفعل السويدي والفنلندي على وجه الخصوص من خلفه رد الفعل الغربي بالكثير عن كيفية إدراك الدول للتهديدات والرد عليها. فبشكل عام، تواجه الدول صعوبة أكبر في معرفة كيفية التعامل مع الدول التي تزداد قوتها بسبب جهودها الداخلية، ولكنها لا تستخدم بعد هذه القوة لتغيير الوضع الراهن أو تحاول أن تصبح أقوى من خلال الاستيلاء على أراض من دول أخرى”.

يستدرك، “بغض النظر عن دوافع بوتين، فمن الواضح الآن أنه أخطأ في الحسابات على مستويات عدة، حيث استخف بالقومية الأوكرانية، وبالغ في تقدير القدرات العسكرية الروسية، كما فشل في فهم درس رئيس من واقعية السياسة الخارجية، وهو توازن الدول ضد التهديدات”، مضيفاً أن “استخدام القوة لتغيير الوضع الراهن هو أكثر فعل مهدد يمكن أن يقوم به أي بلد”.

ويمضي والت في شرحه، “قد تكون الحرب ضرورية في بعض الأحيان بالنسبة إلى الدول، لكن فكرة شن الحرب تنذر دائماً الدول الأخرى، وعادة ما قد يوحدها لاحتواء الخطر”، مضيفاً، “في حالة الحرب الروسية الأوكرانية، ربما كان الرئيس الروسي يعتقد أن أوروبا كانت منقسمة للغاية وتعتمد على نفط وغاز بلاده أكثر من أن تعارض تحركه، لذلك راهن على أنه يستطيع تحقيق أهدافه بسرعة والعودة في النهاية لخططه كالمعتاد، إلا أن ما حدث كان عكس ذلك، إذ دفع سلوكه الدول إلى إعادة تقييم النوايا الروسية، والعمل على موازنة التهديد والقوى”، يتابع، “كما أظهر سرعة رد الفعل الغربي وتوحده وسعيه و”الناتو” لإمداد أوكرانيا بالأسلحة المتطورة، إلى تشجيع فنلندا والسويد على المضي في خطوة عضويتهما نحو حلف الأطلسي العدو اللدود لموسكو”.

من جانبه، ووفق ما كتبه، فريزر نيلسون، في صحيفة “التلغراف” البريطانية، عما سماه “مؤامرة بوتين لتفكيك الغرب التي جاءت بنتائج عكسية مفاجئة”، فإن جولة الرئيس الأميركي جو بايدن، إلى أقصى الشرق الآسيوي (كوريا الجنوبية واليابان)، تسعى من خلالها الإدارة الأميركية لمزيد من استمالة الجناح الآسيوي من أجل تحالف جديد مناهض لبوتين”، موضحاً “أن الحرب الروسية على أوكرانيا خلقت من غير قصد شيئاً أوسع نطاقاً، وأكثر فاعلية من مفاهيم (روسيا ضد الناتو) أو (روسيا ضد الغرب) ووصلت لحد “تحالف عالمي من الديمقراطيات” في مواجهته.

يشير نيلسون، إلى بعض التغيرات الجوهرية التي شهدتها منطقة شرق آسيا رداً على الحرب الروسية في أوكرانيا لمواجهة سياسات بوتين، إذ أعادت اليابان تسليح نفسها ونهضت دول أخرى محايدة سابقاً، وفرضت عقوبات وانحازت إلى الجانب الأوكراني، بعكس الحال الذي كانت عليه تلك الدول الآسيوية التي كانت محايدة أو هادئة على الأقل، طوال فترة الحرب الباردة، حيث تحشد الآن من أجل قضية الديمقراطية، وتتطوع من خلال انضمامها إلى فرض العقوبات على موسكو، بينها سنغافورة التي لم تفرض عقوبات على أي دولة منذ غزو فيتنام لكمبوديا عام 1978، إلا أنها انضمت لصف الغرب، بعد أن اعتبرت أن الحرب الروسية في أوكرانيا تمثل “تهديداً وجودياً” لها.

ووفق نيلسون فإن “اندفاع الديمقراطيات الآسيوية نحو الدفاع عن أوروبا يظهر أن تحالفاً جديداً قد تبلور، يتجاوز ما كان يعرف معسكر الشرق والغرب، ويصل حد العالم الحر وما سواه”.

أي خيارات أمام بوتين؟

بحسب قراءة ردود الفعل الروسية الأولية على خطوة انضمام السويد وفنلندا إلى حلف “الناتو”، فإن انضمام البلدين الإسكندنافيين للحلف لم يكن في صالح موسكو التي لطالما تحركت نحو منع توسع حلف الأطلسي شرقاً، حتى وإن ربط الرئيس الروسي تحديد رد فعل بلاده بـ”توسيع الحلف لبنيته العسكرية التحتية على أراضيهما”.

ويبدو أن ردود الخارجية الروسية كانت أقرب لقراءة، كيف تنظر موسكو للخطوة، إذ شدد نائب وزير الخارجية الروسي سيرغى ريابكوف، على أن “العالم سيتغير جذرياً بعد قرار فنلندا والسويد”، محذراً بحسب تصريحات أوردتها وكالة “ريا نوفوستي” الروسية، من أن الخطوة “سينجم عنها تداعيات واسعة. ولا يجب أن يظن البلدان أن موسكو ستتقبل قرارهما ببساطة”، مشيراً في الوقت ذاته إلى “مستوى التوتر العسكري سيزداد بسرعة يصعب معه التنبؤ بما سيحدث”، كذلك حذرت “الخارجية الروسية” من أن الخطوة ستضطرها لـ”اتخاذ خطوات انتقامية، من أجل وقف التهديدات لأمنها القومي، وأن اقتراب (الناتو) من حدودنا لا يجعل العالم وقارتنا أكثر استقراراً وأمناً”.

كذلك كان لافتاً إعلان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الجمعة 20 مايو، أن بلاده ستُنشئ 12 قاعدة عسكرية جديدة غرب البلاد رداً على تعزيز “الناتو” قواته وتوسعه المنتظر في فنلندا والسويد.

وقال شويغو أمام مسؤولي وزارته والجيش “بحلول نهاية العام، سننشئ 12 قاعدة عسكرية وسننشر وحدات في المنطقة العسكرية في الغرب”، من دون تحديد طبيعة هذه المنشآت ولا حجمها. مشيراً في الوقت ذاته إلى “تزايد التهديدات العسكرية على الحدود الروسية”.

وأمام هذه التطورات تتعقد الخيارات أمام موسكو، التي لا تزال لم تحسم معركة أوكرانيا بعد، وتواجه أعنف عقوبات اقتصادية يفرضها الغرب على دولة في التاريخ الحديث. ويقول ساشا توبريتش، نائب الرئيس التنفيذي لشبكة القيادة عبر المحيط الأطلسي، “تتغير الجغرافيا السياسية في القارة الأوروبية بشكل كبير وسريع جراء الحرب الأوكرانية”، مضيفاً لـ “اندبندنت عربية”، “خطوة تخلي فنلندا والسويد عن حيادهما القائم منذ عقود سيعيد تشكيل التفاعلات الأمنية والاستراتيجية في القارة العجوز بشكل لم يتضح بعد حتى اليوم”.

وبرأي، توبريتش، “فإنه لا يرجح تصعيداً على المستوى القريب بين روسيا وكل من فنلندا والسويد، على الرغم من تأكيده ارتفاع منسوب التوترات الأمنية مع وجود الناتو على الحدود الروسية، إلا أن كافة الأطراف مع هذه التغيرات تدرك أن التصعيد غير المحسوب لن يكون في صالح أي من الأطراف”.

ويوضح توبريتش، “باتت التوترات بين موسكو وحلف الأطلسي عميقة لدرجة لم يعد بالإمكان العدول عنها أو تجاوزها في المستقبل القريب، ويمثل انضمام دولتين بارزتين في الشمال الأوروبي للناتو فشلاً سياسياً كبيراً لسياسات بوتين المناهضة في هذا الاتجاه”.

من جانبها، ووفق تقييم مجلة “ناشيونال انتريست” الأميركية، قد يلجأ الرئيس الروسي لخيارات “باهظة الثمن” وقاسية استمر تعثرها، موضحة “سيكون أخطر شكل من أشكال التصعيد هو توجيه ضربة غير تقليدية تستهدف أوكرانيا أو دولة من دول الناتو، لا سيما أن هناك مؤيدين داخل الكرملين يرغبون في تصعيد لغة الحرب لإثارة مزيد من المخاوف لدى الغرب ودفعهم باتجاه ضرورة السعي نحو إنهاء الحرب بشروط مقبولة لروسيا”.

بدورها تري صحيفة “الغارديان” البريطانية، أن الخطوة الفنلندية والسويدية، كانت بمثابة “تحول ضخم في بنية الأمن في أوروبا”، إذ كشفت الحرب الروسية في أوكرانيا لدول الجوار أن “موسكو أصبحت بمثابة ذلك الجار الخطير والمقلق، وأن الحاجة باتت ضرورية  لتغيير البوصلة، والاتجاه أكثر نحو الناتو لتأمين سياستها الأمنية الداخلية”.

وأضافت الصحيفة “أن الدروس التي استخلصتها دول الجوار الروسي من حرب أوكرانيا، هي أن موسكو مستعدة على الدوام لشن حروب على جيرانها، التي لا تمتلك مظلة عسكرية دفاعية مثلما هو الأمر بالنسبة لفنلندا والسويد”.

———————-

«خبرات» النظام السوري في أوكرانيا: البراميل المتفجرة وغاز الكلور

رأي القدس

في شهر تموز/ يوليو المنصرم كان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو قد تفاخر بأن جيش بلاده جرّب أكثر من 320 سلاحاً جديداً في سوريا منذ بدء التدخل العسكري لصالح النظام في أيلول/ سبتمبر 2015، وخصّ بالذكر سلاح المروحيات مشيراً إلى أن شركة «روست فيرتول» طورت واحدة من أفضل مروحياتها خلال العمليات العسكرية التي نفذها الجيش الروسي في مواقع انتشاره على امتداد الأراضي الروسية.

يومئذ لم يتجاسر أي من الصحافيين المنصتين إلى شويغو على سؤاله إن كان الجيش الروسي قد استفاد من خبرات جيش النظام السوري على أي نحو، فالأمر غير وارد منطقياً بالقياس إلى فوارق لا تعد ولا تحصى تنفي المقارنة أصلاً بين الجيشين من جهة أولى، كما أن هذا الطراز من الأسئلة يمكن أن يثير حفيظة شويغو وقد ينطوي على إهانة لقدرات صناعة الأسلحة الروسية من جهة ثانية.

لكن الحال تغيرت تماماً بعد الاجتياح الروسي في أوكرانيا وصار سؤال تبادل الخبرات بين جيش الأسد والجيش الروسي حقيقة واقعة على الأرض، تتجاوز التقارير التي تحدثت وتتحدث عن استمرار تجنيد آلاف من السوريين للعمل كمقاتلين مرتزقة في أوكرانيا، سواء ضمن صفوف الوحدات النظامية الروسية، أو في عداد ميليشيات «فاغنر» المقرّبة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً. المؤشرات الجديدة، كما كشفت النقاب عنها صحيفة «الغارديان» البريطانية مؤخراً، تفيد بأن المئات من «خبراء» النظام السوري المتخصصين في صناعة البراميل المتفجرة وصلوا إلى روسيا منذ أسابيع، ويستعدون للمشاركة بإطلاق حملة تدمير براميلية في أوكرانيا.

صحيح بالطبع أن هذا السلاح البدائي، رخيص الثمن وعالي التدمير وعشوائي التوجيه، ليس من اختراع النظام السوري إذْ سبقته إليه دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ إنشاء الكيان، وكذلك فعلت الولايات المتحدة في فييتنام، والجيش السوفييتي ذاته في أفغانستان، ونظام عمر البشير ضدّ أهالي دارفور وكردفان. لكن الأصح في المقابل أن «خبراء» جيش النظام السوري اضافوا إليه عدداً من «التحسينات» أبقت على الكثير من بدائيته وعشوائيته، لكنها نوّعت الحشوات المتفجرة بما يفوق عبوات الديناميت والمواد المتفجرة إلى غاز الكلور والمسامير والخردة المعدنية والسوائل شديدة الاشتعال.

ومن الواضح أن الجيش الروسي في حاجة إلى هذه «الخبرات» على وجه التحديد، لسبب أول هو أن استيرادها على هذه الشاكلة يجعلها قابلة للاستخدام الفوري من دون حاجة إلى تدريب أو تأهيل، ولسبب ثانٍ منطقي هو أن الصناعة العسكرية في روسيا أكثر انشغالاً بتطوير أنواع أخرى من الأسلحة المعقدة المتقدمة من أن تنخرط في تأهيب سلاح بدائي مثل البرميل المتفجر. وبهذا المعنى فإنّ التعاون البراميلي بين الكرملين والنظام السوري هو واحد من ميادين توظيف التدخل العسكري الروسي في سوريا، حتى إذا لاح أنه بين الأكثر ابتذالاً بالمقارنة مع مكاسب جيو – سياسة واقتصادية وعسكرية واستثمارية أخرى تجنيها موسكو.

وهذه وجهة أخرى للتذكير بالأثمان الراهنة والآتية التي يدفعها الغرب نتيجة السكوت عن المشروع الروسي في سوريا، بما في ذلك تواطؤ بعض الدول على تشجيعه وتسهيل عملياته.

—————————–

سيناريوهات المعركة الروسية في أوكرانيا: حرب استنزاف طويلة/ رامي القليوبي

بعد مرور ثلاثة أشهر على بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي، تبدو موسكو بعيدة عن تحقيق أغلب أهدافها الاستراتيجية المعلنة مثل “نزع النازية” وتحييد سلاح أوكرانيا.

في المقابل، فقد نجحت بإحراز تقدّم لافت في مناطق جنوب شرق أوكرانيا بعد السيطرة الكاملة على مدينتي خيرسون وماريوبول الساحليتين وعدد من المدن الصغيرة والبلدات في مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك، وسط توقعات بتحوّل النزاع الروسي الأوكراني إلى حرب استنزاف طويلة الأجل بلا نهاية في الأفق.

نتائج متواضعة في أوكرانيا

تمكنت روسيا بحلول نهاية الشهر الثالث من أعمال القتال، من إخماد البؤرة الرئيسية لمقاومة العسكريين الأوكرانيين وكتيبة “آزوف” القومية المتشددة في مصنع “أزوفستال” في مدينة ماريوبول المطلة على بحر آزوف.

هذا الأمر يتيح لموسكو تحقيق أحد أهدافها الاستراتيجية المتمثل في إقامة ممر بري من “جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين” المعلنتين من طرف واحد في منطقة دونباس، إلى شبه جزيرة القرم.

في المقابل، اضطرت القوات الروسية للانسحاب من مدينة تشيرنيهيف ومحيط العاصمة الأوكرانية كييف ومدينة بوتشا الواقعة في ضواحيها، في نهاية مارس/ آذار الماضي، وسط انتشار صور لجثث ملقاة في شوارعها، متسببة في فضيحة دولية لروسيا وتعليق عضويتها في مجلس حقوق الإنسان.

على الصعيد السياسي، دخلت المفاوضات الروسية الأوكرانية مأزقاً حقيقياً في ظل عدم انعقاد أي جولة حضورية جديدة منذ محادثات إسطنبول في نهاية مارس الماضي، وسط عجز الطرفين عن الاتفاق على جدول أعمال محدد لأي لقاء مرتقب.

لكن مساعد الرئيس الروسي، رئيس وفد المفاوضات مع أوكرانيا فلاديمير ميدينسكي، أكد أن موسكو مستعدة لمواصلة المفاوضات مع كييف، مضيفاً في حديث مع قناة بيلاروسية، أمس الإثنين، أن “الكرة من أجل مواصلة محادثات السلام هي لدى الجانب الأوكراني”.

إلا أن المستشار الرئاسي الأوكراني ميخايلو بودولياك كان قد قال لوكالة “رويترز” في وقت سابق إن بلاده ترفض تقديم تنازلات لأن ذلك لن يوقف الحرب، مضيفاً “على القوات (الروسية) مغادرة البلاد وبعد ذلك سيكون من الممكن استئناف عملية السلام”.

اقتصادياً، تبدو المنظومة المالية الروسية صامدة في وجه العقوبات الغربية غير المسبوقة في ظل استمرار تدفق عوائد تصدير النفط والغاز إلى الخزانة الروسية وتراجع سعر صرف الدولار إلى ما دون 60 روبلاً لأول مرة منذ ربيع عام 2018.

لكن تساؤلات تبرز حول قدرة الاقتصاد الروسي على الصمود في حال إجماع الاتحاد الأوروبي على فرض حظر نفطي على روسيا والحد التدريجي من الاعتماد على الغاز الروسي.

ضم مناطق شرق أوكرانيا

في الوقت الذي لا يزال فيه الغموض سيد الموقف حول خطط موسكو المستقبلية في أوكرانيا، توقع مصدر في قيادة إحدى الجمهوريتين المعلنتين من طرف واحد في دونباس، واللتين اعترفت روسيا باستقلالهما عشية بدء العملية العسكرية، أن تستمر المرحلة النشطة من أعمال القتال لثلاثة أشهر أخرى، على أن يبدأ بعدها ضم مناطق جنوب شرق أوكرانيا إلى السيادة الروسية وفق نموذج ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014.

وقال المصدر لـ”العربي الجديد”، إن “أعمال القتال ستستمر لثلاثة أشهر أخرى”، مضيفاً “بحلول الخريف المقبل سيتم تحرير شرق أوكرانيا بالكامل، وإجراء استفتاءات تقرير مصير في دونباس أولاً، ستسفر عن تصويت أكثر من 90 في المائة من السكان لصالح الانضمام لروسيا، ثم في مقاطعتي خيرسون، وزابوريجيا” التي تحتضن أكبر محطة نووية في أوروبا.

ومن المؤشرات التي تدعم هذه التوقعات، مباشرة كبار المسؤولين السياسيين الروس بزيارات إلى مناطق شرق أوكرانيا، بمن فيهم النائب الأول لمدير ديوان الرئاسة الروسية، مسؤول السياسة الداخلية في الكرملين سيرغي كيريينكو، وأمين المجلس العام لحزب “روسيا الموحدة” الحاكم أندريه تورتشاك. وأعلن الأخير من خيرسون في وقت سابق من مايو/ أيار الحالي، أن “روسيا هنا إلى الأبد”، واعتماد الروبل الروسي عملة للتعاملات في هذه المدينة.

وقام رئيس كتلة الحزب الليبرالي الديمقراطي بمجلس الدوما (النواب) الروسي، ليونيد سلوتسكي، هو الآخر بزيارة إلى شرق أوكرانيا في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، ليعرب من مدينة دونيتسك عن ثقته في أن “سكان جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين سيعبّرون قريباً عن موقفهم، مثلما حدث يوماً في القرم وسيفاستوبول”.

ضعف الجيش الروسي

في موسكو، اعتبر المحلل السياسي والصحافي المتخصص في الشأن الأوكراني ألكسندر تشالينكو أن النتيجة الرئيسية التي حققتها روسيا حتى الآن هي السيطرة على مناطق شاسعة في جنوب شرق أوكرانيا.

لكنه أقر في الوقت نفسه بأن العملية العسكرية كشفت ضعف مستوى تدريب أفراد الجيش الروسي، متوقعاً تحوّلاً للنزاع إلى حرب استنزاف طويلة الأمد.

وقال تشالينكو في حديث مع “العربي الجديد”، إن “النتيجة الرئيسية لثلاثة أشهر من القتال هي تحرير مناطق جنوب “جمهورية دونيتسك الشعبية” وماريوبول، وإلحاق هزيمة باللواء الـ36 للجيش الأوكراني ذي القدرة القتالية العالية، وأسر نحو 7 آلاف عنصر، وتحرير 95 في المائة من أراضي “جمهورية لوغانسك الشعبية” باستثناء مدينتي ليسيتشانسك وسيفيرودونيتسك.

وأضاف: “أما خيرسون، فاستسلمت على عكس المناطق الأخرى من دون قتال في بداية العملية العسكرية”. وحتى في ماريوبول، ليس السكان المحليون من أبدوا المقاومة، وإنما وحدات الجيش الأوكراني وكتيبة “آزوف” التي أوفدتها كييف إلى هناك.

ومع ذلك، أقر بأن العملية العسكرية في أوكرانيا كشفت ضعف مستوى تدريب أفراد الجيش الروسي، مضيفاً: “لم تستعد القيادة الروسية للحرب كما ينبغي، وذلك على عكس أوكرانيا التي أظهر جيشها قدرة قتالية عالية جداً ومستوى تدريب أعلى من أفراد الجيش الروسي الذين كانوا يستسلمون أو يستقيلون من الخدمة”.

وتابع: “رأى العالم أجمع أن الجيش الروسي ضعيف للغاية وغير قادر على القتال، واضطر للانسحاب من محيط كييف وتشيرنيهيف، ووقعت حادثة محرجة في مدينة بوتشا”، وأشار إلى أن “الانتصارات التي حققها تعود إلى استخدام القوات الجوية والقوة النارية والاعتماد على قوات جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك والوحدات الشيشانية”.

ومع توقعه تحوّل المواجهة الروسية الأوكرانية إلى حرب الاستنزاف، قال تشالينكو: “بالنسبة إلى روسيا، هذه حرب وجودية، وهي ستواجه خطر التفكك في حال خسرت فيها، وأي انسحاب من أوكرانيا سيتم اعتباره هزيمة، ما يعني أن موسكو ستخوض حرباً طويلة الأجل لتحقيق أهدافها الاستراتيجية”.

في المقابل، اعتبر تشالينكو أنه “لن تكون لدى أوكرانيا فرصة للانتصار بعد الاستنفاد التدريجي للدعم الغربي وخسارة أقوى وحدات جيشها وتراجع حماسة السكان المحليين للمقاومة في مرحلة لاحقة”.

احتلال مقاطعات الشرق الأوكراني

في كييف، أكد مدير المركز الأوكراني للتحليل وإدارة السياسات رسلان بورتنيك أن موسكو لم تعدل عن أهدافها الاستراتيجية، معتبراً في الوقت نفسه أن قوة المقاومة الأوكرانية أثبتت تكوّن أوكرانيا كأمة ودولة.

وقال بورتنيك، في حديث مع “العربي الجديد”: “بعد ثلاثة أشهر من الحرب، يمكن القول إن روسيا لم تعدل عن أهدافها الاستراتيجية، ولكنها غيّرت خططها بعد الهزيمة على أطراف كييف، متخلية بشكل مؤقت عن مشروع (مالوروسيا) القاضي باحتلال كامل أراضي أوكرانيا وإقامة نظام سياسي موالٍ لها فيها”.

وأضاف: “تسعى روسيا في الوقت الحالي لتحقيق مشروع (نوفوروسيا) عن طريق احتلال مقاطعات جنوب شرق أوكرانيا وقطعها عن كييف وإثارة أخطر أزمة اقتصادية في البلاد”.

و”مالوروسيا” و”نوفوروسيا” تسميتان تاريخيتان، تُستخدم الأولى للإشارة إلى عدد من الأراضي التاريخية الروسية التي يتركز أغلبها ضمن الحدود الحالية لأوكرانيا، والثانية للمنطقة ذات الأغلبية المتحدثة بالروسية في مناطق جنوب شرق أوكرانيا.

وحول رؤيته للتكتيك الروسي الحالي في الحرب على أوكرانيا، لفت بورتنيك إلى أن “روسيا تحوّلت إلى تكتيك حرب الاستنزاف العسكري عن طريق الاعتماد على الضربات الجوية والصاروخية والمدفعية للحد من الخسائر في صفوف قواتها، وكذلك الاستنزاف الاقتصادي عن طريق تدمير الاقتصاد والبنية التحتية الأوكرانية وحرمان أوكرانيا من مصادر الدخل وإمكانيات تصدير المنتجات الزراعية”.

ومع ذلك، اعتبر أن أوكرانيا اجتازت خلال الأشهر الثلاثة الماضية اختبار الصمود، قائلاً: “حظيت الدولة الأوكرانية بدعمين مجتمعي وغربي واسعي النطاق، وتمكنت بفضلهما من الإثبات أن الأمة الأوكرانية قد تكوّنت وأن الرهان على انهيارها فاشل”.

ومن اللافت أن إبداء أوكرانيا مقاومة غير متوقعة للغزو الروسي، دفع موسكو إلى تغيير لهجتها. فبعدما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يدعو في بداية الاجتياح العسكريين الأوكرانيين للاستسلام أو الانقلاب على القيادة السياسية للبلاد، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، مطلع مايو الحالي، إن روسيا لا تطالب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالاستسلام، وأضاف أن موسكو لا تهدف إلى تغيير النظام في كييف، في مؤشر لخفض روسيا سقف أهدافها في أوكرانيا، ولو بشكل مؤقت.

العربي الجديد

—————————–

مراوغة روسيا في الإنسحاب من سوريا/ بسام مقداد

ليس من المعروف عن روسيا شفافيتها في الأنباء المتعلقة بشؤونها، سيما في زمن الحروب التي يفيض بها تاريخها. وإعلام الكرملين كان ولا يزال، منذ أن اعتلى البلاشفة عرش روسيا خريف العام 1917، على نسق صحيفة البرافدا، وريثة “إيسكرا” اللينينية، التي كانت البروباغندا مهمتها الأساسية لا الحقيقة وإيصالها إلى الناس. فمن الصعب أن تجد في إعلام الكرملين حقيقة حدث ما، وتضطر للبحث في كومة قش عن إبرة الحقيقة وقراءة ما بين السطور ومعاينة لهجة النص.

ذوو العسكريين الروس في حرب الكرملين الحالية على أوكرانيا يتسقطون المعلومات من البيانات الرسمية الأوكرانية والرسائل النصية من مواطنين أو مواقع أوكرانية عن مكان ومصير أقربائهم وتخمين خريطة جبهات القتال.

كان من العبث البحث في الإعلام الروسي عن حقيقة ما يدور منذ حوالي أسبوعين من شائعات عن إنسحاب جزئي للقوات الروسية من سوريا. الحذر من وظيفة البروباغندا الموازية للوظيفة الرئيسية للإعلام أثناء الحروب، فرضت بعض التردد في الأخذ بما ينشره الإعلام الأوكراني الناطق بالروسية عن إنسحاب للقوات الروسية من سوريا. وكان منذ مدة يفيض بالتعليقات والتحليلات حول هذا الإنسحاب وأسبابه وتأثيره على موازين القوى في الحرب، وكذلك في سوريا والشرق الأوسط ككل.

موقع صحيفة The Moscow Times الناطق بالإنكليزية وجزئياً بالروسية (توزع مجاناً في المقاهي وأمكنة تجمع الشبيبة الروسية)، والتي تصدرها جمعية هولندية وحظرت في روسيا الشهر المنصرم ، نشر في 6 من الجاري نصاً مقتضباً بعنوان ” بدأت روسيا نقل القوات من سوريا إلى أوكرانيا”. يرى الموقع أن بوتين إضطر لتقليص العملية في سوريا لتسريع الحملة المتوقفة من أجل ضم الدونباس. وقد بدأت روسيا عملية نقل قواتها المسلحة من سوريا وتجميعها في ثلاثة مطارات قبل إرسالها إلى الجبهة الأوكرانية. وتنقل روسيا القواعد الجوية التي تغادرها إلى الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني.

يقول الموقع بأن العدد الحالي الدقيق لأفراد الوحدة العسكرية الروسية في روسيا ليس معروفاً. لكن معطيات وزارة الدفاع الروسية تشير إلى أن هذا العدد سبق أن كان 63 ألف عسكري، يشكل الضباط حوالي النصف منهم.

ويشير الموقع إلى أن القائد الجديد للقوات الروسية في أوكرانيا خاض الحرب السورية، ووضع أمامه بوتين مهمة تحقيق النصر قبل 9 أيار/مايو، يوم النصر على ألمانيا النازية. لكنه يرى بأن هذا الهدف بعيد المنال حالياً. فخلال ثلاثة أسابيع على بدء المرحلة الثانية من الحرب على أوكرانيا يبدو تقدم الجيش الروسي في الحد الأدنى  بطيئاً “بأحسن الأحوال”.

الموقع الأوكراني UNN نشر في 11 من الجاري نصاً بعنوان “فشل الحرب في أوكرانيا وصعوبات الأمور اللوجستية: خبير يحدد أسباب إنسحاب القوات الروسية من سوريا”. ينقل الموقع عن الخبير قوله بأن روسيا مضطرة لسحب قواتها من سوريا، ليس فقط بسبب فشل الحرب في أوكرانيا والحاجة إلى قوات إضافية، بل وبسبب الصعوبات اللوجستية في خدمة هذه القوات. وإذا سحبت 6 آلاف من قواتها، سوف تبقى في كل الأحوال القاعدة البحرية العسكرية والقاعدة الجوية، مما يعني بقاء عدد محدد من القوات لخدمتها. ليس الوضع في سوريا وضع هزيمة، بل هي الحاجة للقوات على جبهة أخرى. بالطبع، يمكن القول بأن هذا يحدث بسبب الفشل في الحرب في أوكرانيا، لكن هذا ليس هزيمة. والخبير على اقتناع بأن إقفال المضائق والأجواء التركية بوجه السفن والطيران العسكري الروسي يضاعف مرات كلفة الخدمات اللوجستية لروسيا، مما يضطرها لتخفيض وجودها في الشرق الأوسط. 

أما بشأن ما يتركه الإنسحاب من تأثيرات على الوضع في الشرق الأوسط، يفترض الخبير بأن نفوذ إيران في سوريا سوف يتصاعد، ويستدل على ذلك بمحادثات الأسد مع الإيرانيين في زيارته الأخيرة. وتستمر صعبة العلاقات بين إيران وروسيا، وذلك لإدعاء تفردها في الإنتصار بسوريا، الذي يعود الفضل الرئيسي فيه للإيرانيين في الحقيقة.

يرى الخبير أن روسيا تراوغ في ترك الأخرين يتحزرون بشأن انسحابها من سوريا، وهي تريد بذلك إرسال إشارة قوية إلى اللاعبين الرئيسيين في الشرق الأوسط بأنها لا تستطيع التعاون بفعالية معهم. لكن الوضع ليس كذلك، فهي ستحتفظ برأس جسر هناك، وكل من القوى لديه مجال نفوذ ضئيل الإرتباط بروسيا. فالشمال السوري تسيطر عليه تركيا، بينما إسرائيل تنشط في مجابهة الوجود الإيراني. أي أن قرار موسكو الإنسحاب من سوريا حوله ما يكفي من الشكوك.

وفي ما يتعلق بوقوع “حرب كبيرة” قريباً في الشرق الأوسط كما يتوقع محللون كثيرون، يرى الخبير أن الأمر يتوقف على عوامل متعددة. أول هذه العوامل هو نتيجة الإنتخابات اللبنانية شديدة الأهمية لفهم ما سوف يحدث في الشرق الأوسط. ثانيها هو مستقبل التحالف الإسرائيلي الذي قد يؤدي ضعفه إلى إنتخابات مبكرة وانغماس إسرائيل بالوضع الداخلي، وبالتالي صعوبة تخصيص موارد للعمليات الخارجية. أما العامل الثالث فهو مصير الإتفاقية النووية الإيرانية وما إن كان سيتم التوقيع عليها وردة الفعل الأميركية التي تجعل تطور الوضع في المنطقة غامض الإتجاه. والخبير على ثقة أن وضع المنطقة إثر الإنسحاب الروسي سيشهد فترة حبس أنفاس في توقع الأحداث التي يمكن أن تعقبه.

     صحيفة البرافدا الأوكرانية نشرت في 10 من الجاري نصاً بعنوان “خطوة إضطرارية لبوتين: لماذا تسحب روسيا قواتها من سوريا، وما هي العواقب المترتبة على ذلك”. ترى الصحيفة أن مشاركة روسيا في الحرب السورية كانت برهاناً على عودتها إلى “نادي الدول العظمى”. فقد أسقطت محاولات الغرب إزاحة الديكتاتور بشار الأسد، وأجبرت الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل على أن يحسبوا حسابها.

ترى الصحيفة أن نقل كل القوات الروسية من سوريا إلى أوكرانيا لن يغير ميزان القوى لصالح روسيا، وسوف يصبح موضع شك مصير قاعدتها العسكرية الوحيدة خارج الحدود السابقة للإتحاد السوفياتي. كما ترى أنه سيتعين على روسيا التخلي نهائياً عن وضعها أكبر من قوة إقليمية.

تقول الصحيفة أن إنسحاب روسيا من سوريا سوف يغير كلياً كل الأجندات في الشرق الأوسط. فقد نقلت الصحيفة عن مصادر سورية معارضة أن العسكريين الروس ينقلون قسماً من قواعدهم في سوريا إلى حزب الله والفصائل الأخرى الموالية لإيران. والمعروف حتى الآن أن الروس جمعوا وحداتهم في قاعدة حميميم تمهيداً لإجلائها.

وفي الوقت عينه سيطر الإيرانيون على مطار حلب وعشرات القرى والبلدات حوله، وكذلك مطار تدمر ومستودعات ذخيرة  في حمص. ومن اللافت أن عملية نقل القواعد والمطارات مستمرة منذ حوالي الشهر، إلا أن المصادر الروسية لم تأت على ذكرها.

تقول الصحيفة أن المعلقين الموالين للأسد يشيعون أنه، بعد الإنتصار في أوكرانيا، سوف تعود روسيا إلى سوريا أقوى مما كانت عليه. لكن هذا الكلام يخفي وراءه الخوف من البقاء بمواجهة المعارضين  والتنظيمات الموالية لتركيا بدون تغطية جوية.

—————————-

السويد وفنلندا ترسلان وفدين إلى تركيا لمناقشة ترشيحهما لـ«الأطلسي»

أعلن وزير الخارجية الفنلندي اليوم (الثلاثاء) أن السويد وفنلندا سترسلان وفدين إلى أنقرة هذا الأسبوع على أمل إقناع تركيا بوقف معارضتها لترشيحهما للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.

وقال بيكا هافيستو خلال طاولة مستديرة في دافوس حيث ينظم المنتدى الاقتصادي العالمي اجتماعاً هذا الأسبوع: «حين نرى المشكلات تحصل، بالطبع نسلك الطريق الدبلوماسي. نرسل وفدينا لزيارة أنقرة من السويد وفنلندا. سيحدث ذلك غداً»، حسبما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية.

دفع الغزو الروسي لأوكرانيا، هلسنكي إلى إعادة النظر في الموقف الذي لطالما اعتمدته بالبقاء خارج حلف شمال الأطلسي، كما ذكر الوزير.

وأوضح: «نرى أن حلف شمال الأطلسي هو تكتل يضم ثلاثين دولة ديمقراطية مع قيم مشتركة وتعاون قوي جداً عبر الأطلسي، وهذا ما نسعى إليه في الوقت الراهن».

وجاء في بيان صادر عن وزارة الخارجية التركية أن الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين، ونائب الوزير سادات أونال، سيشاركان في الاجتماع الذي يُعقد غداً (الأربعاء).

وأوردت محطة «إن تي في» التركية الخاصة نقلاً عن وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، أن أنقرة أعدت «مشروع اتفاق» سيشكّل قاعدة للمحادثات. تريد تركيا «ضمانات» يمكن أن تعطى ضمن اتفاق رسمي وموقَّع.

لطالما اتهمت تركيا دول الشمال وخصوصاً السويد التي تضم جالية كبرى من المهاجرين الأتراك، بإيواء مسلحين أكراد وأنصار الداعية فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة منذ العام 1999 والمتهم بتدبير محاولة الانقلاب في يوليو (تموز) 2016.

وقد حذر الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مرة جديدة (السبت) من أنه سيعارض ترشيح البلدين إلى الأطلسي ما دام لم يلبّيا مطالبه في مجال مكافحة الإرهاب، ما قد يشكّل عائقاً كبيراً لأن قرارات حلف الأطلسي تُتخذ بالإجماع.

وقال هافيستو: «نتفهم أن لتركيا مخاوفها الأمنية الخاصة بها مثل الإرهاب»، مضيفاً: «نرى أن لدينا إجابات جيدة» وأنه «يمكن حل هذه المشكلة».

يرى بعض المحللين أن معارضة أنقرة قد تكون تهدف أيضاً إلى انتزاع تنازلات من دول أخرى في حلف شمال الأطلسي، على سبيل المثال الحصول طائرات مقاتلة من الولايات المتحدة.

وأضاف هافيستو: «قد تكون هناك أيضاً مسائل أخرى غير مرتبطة مباشرة بفنلندا والسويد»، قائلاً إنه مقتنع بأن «حلف شمال الأطلسي يمكنه حل هذه المشكلة».

من جانب آخر أكد رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، اليوم (الثلاثاء)، خلال منتدى دافوس أن السويد وفنلندا اللتين قدمتا ترشيحهما للأطلسي الأسبوع الماضي، ستحضران قمة الحلف في نهاية يونيو (حزيران) في مدريد.

وقال إن البلدين «سيحضران بالتأكيد» قمة مدريد التي تُعقد من 28 إلى 30 يونيو، وذلك رداً على سؤال بهذا الشأن من رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي بورغه برينده. وأضاف: «هما ديمقراطيتان كبيرتان وأرى أنه من المهم جداً رؤيتهما إلى جانبنا بصفتهما حليفين في حلف شمال الأطلسي».

————————

أوكرانيا: في انتظار حرب استنزاف قاسية وطويلة/ حسام عيتاني

ستتجمع الإمكانات اللازمة لشن هجوم أوكراني مضاد واسع في أواسط الصيف المقبل بحسب مصادر كييف. سيتركز الهجوم على منطقة الدونباس وسيرمي إلى استرجاع أجزاء كبيرة مما استولى عليه الجيش الروسي بعد بدء الحرب في 24 فبراير (شباط) الماضي.

وتحتاج أوكرانيا إلى نحو الشهرين لاستيعاب الأسلحة الغربية التي تصل إليها وتدريب قواتها على استخدامها، إضافة إلى إنجاز الاستعدادات اللوجيستية والاستخبارية الضرورية للمعركة المقبلة. والأرجح أن الهجوم المضاد المنتظر لن يشمل مناطق الدونباس ولوهانسك التي أعلنها الانفصاليون الأوكرانيون جمهوريتين شعبيتين قبل بدء القتال الأخير، كما لن يصل إلى شبه جزيرة القرم.

في غضون ذلك، تعمل القوات الروسية على إعادة تنظيم صفوفها وإبعاد القادة الذين أخفقوا في تحقيق أهداف المراحل السابقة من الحرب، وأسفر أداؤهم الهزيل عن خسائر جسيمة في المعدات والأرواح في مواجهة الجيش الأوكراني الذي من المفترض أن يكون أضعف بأشواط من نظيره الروسي.

يهتم الجيش الروسي حالياً ببناء خطوط دفاع صلبة على تخوم المناطق التي يسيطر عليها على نحو يحبط أي محاولة تقدم أوكرانية ويجعلها مكلفة وغير مجدية. كما يعمل على ملء صفوف الوحدات التي فقدت قسماً مهماً من الجنود والضباط في الجولات السابقة وتقييم عمل المعدات العسكرية وتكييفها أخذاً في الاعتبار الأسلحة التي تحصل أوكرانيا عليها من حلفائها الغربيين والبحث عن أدوات لإبطال الأثر الذي تتركه التكتيكات الأوكرانية التي تلجأ إلى أسلوب الحرب غير المتناظرة عبر التصدي بوحدات المشاة المسلحة بمضادات الدروع عالية الفاعلية من نوع «جافلين» الأميركي و«إن لاو» البريطاني – السويدي، للدبابات والمصفحات الروسية التي تتحرك ضمن الأنساق القتالية الكلاسيكية للحرب الميكانيكية.

أما إعلان كييف أن قواتها المسلحة، بمختلف فروعها قد بلغ عديدها 700 ألف جندي فيمثل، إذا صحّ، مشكلة إضافية لموسكو. ذاك أن ما يقال عن «خزان بشري روسي هائل» يحتاج إلى تصويب قوامه أن روسيا لم تعلن حالة الحرب حتى اليوم. فهي ما زالت تعتمد على الجيش العامل. وكان الرئيس فلاديمير بوتين قد صرح أن المشاركين في العملية العسكرية الخاصة سيكونون من الجنود المحترفين وليس من المجندين في صفوف الخدمة الإلزامية، وهو تبين عدم صحته وتسبب في خلافات في القيادة العسكرية الروسية. أما كييف فأعلنت حالة الحرب منذ اليوم الأول للقتال ووضعت جميع المواطنين الذكور بين سنّي 18 و60 عاماً على لوائح المجندين ومنعت سفرهم خارج البلاد.

بذلك أمنت أوكرانيا «خزانها البشري» الكبير في حين تبحث روسيا عن طريقة لسد هذه الثغرة، من الناحيتين السياسية بحيث يتجنب الكرملين إعلان الحرب لما في ذلك من اعتراف بتجاوز الصراع في أوكرانيا السمة المحدودة التي يرسمها مصطلح «العملية العسكرية الخاصة» ويرتب إجراءات غير شعبية على المواطنين الروس الذين بدأوا يشعرون بوطأة العقوبات الغربية القاسية.

والقوات الروسية التي تتابع في هذه الأثناء تقدمها البطيء والحذر في نواحي الدونباس وتسعى إلى منع الأوكرانيين من توسيع هجماتهم المضادة وتحويلها إلى اكتساح للمواقع الروسية على غرار ما جرى في ضواحي كييف، ستعتمد على استراتيجية دفاعية متينة للحفاظ على المكتسبات التي حققتها في الشرق والجنوب إضافة إلى الإصرار على الحصار البحري ومنع أوكرانيا من تصدير قمحها عبر مرفأ أوديسا أو سواه. ولا يستقيم الرهان هنا على انهيار سريع على الجانب الروسي قياساً على ما ظهر من تدني مستوى القيادة العملانية والخسائر البشرية والمادية الروسية الضخمة، فما زال في جعبة الروس أوراق كثيرة لاستخدامها إذا أصروا على متابعة القتال.

وقد لا يخلو من الصحة في هذا السياق ما قيل عن سعي روسي لافتعال أزمة ضخمة في أوروبا عن طريق دفع ملايين من اللاجئين الأوكرانيين الجائعين إلى دول الاتحاد الأوروبي حتى ليبدو معه تدفق اللاجئين السوريين في 2015 مجرد عرض تدريبي. فالنظر إلى الترسانتين الروسية والأوكرانية المخصصتين لحرب استنزاف طويلة، ستضع في حوزة كييف القدرات الغربية العسكرية والمالية والاستخبارية مقابل روسيا الوحيدة التي لا تملك من الحلفاء من يوازي الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، خصوصاً بعد الفتور الصيني في دعم موسكو دعماً ملموساً، باستثناء بعض التأييد اللفظي والإعلامي.

هذه الحقيقة قد تحمل الكرملين على التفكير بأساليب غير تقليدية لإغراق الغرب في مشكلات يكون مضطراً معها إلى البحث في سبل إنهاء الحرب بما يرضي روسيا. من هذه المشكلات تصعيد أزمات الغذاء والوقود في مناطق مختلفة من العالم وتحميل السياسة الغربية مسؤولية الكوارث التي ستنجم عنها وحرمان أوكرانيا من قمحها ودفعها إلى الاعتماد الكامل على المساعدات الغربية بحيث تستجيب لكل ما يطلبه المفاوضون الغربيون الحريصون في المقام الأول على استقرار بلدانهم واقتصاداتهم.

حرب الاستنزاف الطويلة المقبلة، قد تشهد فصولاً من التصعيد العسكري غير المسبوق على ما تكهن بعض العسكريين الأوكرانيين. لكنها أيضاً ستنطوي على فصول من الضغوط الاقتصادية والمالية والسياسية ذات الرهانات والمقاصد العالية والصعبة.

الشرق الاوسط

—————————–

===================

تحديث 29 أيار 2022

———————

كيف يرى كيسنجر حل الأزمة الأوكرانية؟

وزير الخارجية الأميركي السابق: لتسوية الأزمة الأوكرانية، ابدأوا من الآخر

كتب هنري كيسنجر في “واشنطن بوست” في 5 مارس (آذار) 2014، أي بعد حوالى أسبوعين من ضم روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية، مقالاً استعرض فيه طبيعة الصراع في البلد الذي يمر هذه الأيام بحرب مع روسيا للدفاع عن سيادته على أراضيه، وأعادت بعض وسائل الإعلام نشر هذا المقال الذي بدا يستشرف الأزمة الحالية من خلال أحداث سابقة.

وقال كيسنجر، “إن المناقشة العامة حول الأزمة التي اندلعت وقتذاك كانت “تدور كلها حول مواجهة، لكن هل نعرف إلى أين نتجه؟”.

وذكر وزير الخارجية الأميركي السابق (1973-1977) قراءه بأنه شهد في حياته المديدة (يبلغ في يومنا هذا 98 سنة) أربع حروب اندلعت “بكثير من الحماسة والدعم العام، لكننا لم نعرف في الحالات الأربع كيف ننهيها، وفي ثلاث منها، انسحبنا منها من طرف واحد”، مشدداً على أن “محك السياسة هو كيف تنتهي، لا كيف تبدأ”.

 وخلص إلى أن سعي أحد الطرفين، الروسي أو الغربي إلى الهيمنة على الآخر سينتهي آخر المطاف إلى حرب أهلية أو تفكك.

ولفت كيسنجر إلى أن المسألة الأوكرانية تُصوَّر كمواجهة، فهل تنضم كييف إلى الشرق أم إلى الغرب؟ لكنه رأى أن استمرار أوكرانيا وازدهارها يعتمد على عدم تحولها إلى “قاعدة أمامية” للشرق في مواجهة الغرب أو العكس بالعكس، “فهي يجب أن تعمل جسراً بين الطرفين”. وأضاف، “على روسيا أن تتقبل أن محاولتها إجبار أوكرانيا على أن تكون دولة تدور في فلكها، بالتالي تحريك حدود روسيا مجدداً، سيحكم على موسكو بتكرار تاريخها من الدوران في حلقات مفرغة دورية من الضغوط المتبادلة مع أوروبا والولايات المتحدة”.

وأردف يقول، “أما الغرب فيجب أن يفهم أن أوكرانيا في نظر روسيا لا يمكن أن تكون مجرد بلد أجنبي. فتاريخ روسيا بدأ في ما كان يُسمى روس الكييفية. والديانة الروسية انتشرت من هناك. وكانت أوكرانيا جزءاً من روسيا لقرون، وكان تاريخاهما متداخلين قبل ذلك. وخيضت بعض المعارك الأهم من أجل حرية روسية، بدءاً بمعركة بولتافا عام 1709، على التراب الأوكراني. ويقبع أسطول البحر الأسود الروسي (وسيلة روسيا لتوسيع السلطة في البحر المتوسط) في سيفاستوبول بالقرم، في مقابل إيجار بعيد الأجل. بل إن منشقين شهيرين مثل ألكسندر سولجنستين وجوزيف برودسكي أصرا على أن أوكرانيا جزء لا يتجزأ من التاريخ الروسي وفي الواقع من روسيا نفسها”.

وكتب كيسنجر في “واشنطن بوست” يقول، “يجب على الاتحاد الأوروبي أن يدرك أن تمديده وإخضاعه البيروقراطيين للعنصر الاستراتيجي إلى السياسة المحلية في التفاوض في شأن علاقة أوكرانيا بأوروبا أسهما في تحويل المفاوضات إلى أزمة. فالسياسة الخارجية هي فن تحديد الأولويات. والأوكرانيون هم العنصر الحاسم. فهم يعيشون في بلاد ذات تاريخ معقد وبنية متعددة اللغات. فالجزء الغربي دُمِج في الاتحاد السوفياتي عام 1939 حين تقاسم ستالين وهتلر المغانم. ولم تصبح القرم، التي يُعد الروس 60 في المئة من سكانها، جزءاً من أوكرانيا إلا عام 1954، حين منحها نيكيتا خروتشيف، الأوكراني المولد، إلى أوكرانيا من ضمن الاحتفال بالذكرى الـ300 لاتفاق روسيا مع القوزاق”.

ولفت إلى “أن الغرب كاثوليكي إجمالاً، والشرق أرثوذكسي روسي إجمالاً. وينطق الغرب بالأوكرانية، والشرق بالروسية إجمالاً. وأي محاولة يبذلها أحد الجناحين للهيمنة على الآخر (كما هي الحال) ستفضي في نهاية المطاف إلى حرب أهلية أو تفكك. وستعيق معاملة أوكرانيا كجزء من المواجهة الشرقية الغربية أي احتمال لوضع روسيا والغرب، لا سيما روسيا وأوروبا، في نظام تعاوني دولي”.

ونبه كيسنجر إلى أن أوكرانيا لم تستقل إلا عام 1991، بعدما ظلت تحت أنواع من الحكم الأجنبي منذ القرن الرابع عشر، غير أن قادتها لم يتعلموا برأيه فن التسوية ناهيك عن المنظور التاريخي. واعتبر أن العمل السياسي في أوكرانيا بعد الاستقلال يبين بوضوح أن جذر المشكلة يقبع في جهود السياسيين الأوكرانيين المنتمين إلى فصيل لفرض إرادتهم على أجزاء معارضة لهم من البلاد، قبل قيام نظرائهم في الفصيل الآخر بالأمر نفسه مع أجزاء أخرى معارضة لهم. وقال إن فيكتور يانكوفيتش ويوليا تيموشنكو وقت كتابة مقالته كانا يمثلان هذين الفصيلين الرافضين لتشارك السلطة.

وحض كيسنجر الولايات المتحدة آنذاك على اتباع “سياسة حكيمة” إزاء أوكرانيا “تسعى إلى طريقة لتعاون الجزأين اللذين تتكون منهما البلاد مع بعضهما بعضاً. فنحن يجب أن نسعى إلى المصالحة، لا إلى هيمنة أحد الفصيلين”. واعتبر “أن روسيا والغرب، ومختلف الفصائل في أوكرانيا، لا تعمل وفق هذا المبدأ. فكل طرف فاقم الوضع. لن تستطيع روسيا فرض حل عسكري من دون عزل نفسها في وقت تعاني فيه معظم مناطقها الحدودية اضطراباً. وبالنسبة إلى الغرب، ليست شيطنة فلاديمير بوتين سياسة، إنها ذريعة لغياب سياسة”.

وإذ لام بوتين على التفكير في الحلول العسكرية منبهاً من اندلاع حرب باردة جديدة، وحض الولايات المتحدة على عدم معاملة روسيا كدولة ضالة يجب تعليمها قواعد سلوكية تقررها واشنطن، وضع نقاطاً عدة رأى أن تطبيقها كفيل بتوليد حل يناسب قيم الأطراف كلها ومصالحها الأمنية، “أولاً، يجب أن تكون لأوكرانيا حرية اختيار روابطها الاقتصادية والسياسة، بما في ذلك روابطها مع أوروبا. وعليها ألا تلتحق بحلف شمال الأطلسي، وهو موقف اتخذته قبل سبع سنوات حين طُرِح للمرة الأولى. ويجب منح أوكرانيا حرية إنشاء أي حكومة تتوافق مع الإرادة التي يعبر عنها شعبها قبل أن يختار القادة الأوكرانيون الحكماء سياسة مصالحة بين مختلف أجزاء البلاد. ودولياً عليهم السعي إلى موقف شبيه بموقف فنلندا التي لا تترك شكاً في استقلالها المتين وتتعاون مع الغرب في مختلف المجالات، لكنها تتجنب بحذر العداء المؤسسي إزاء روسيا”.

ورأى كيسنجر “أن ضم روسيا للقرم لا يتوافق مع قواعد النظام العالمي القائم، لكن علاقة القرم بأوكرانيا يجب أن تكون أقل توتراً. ولهذا الغرض على روسيا الاعتراف بسيادة أوكرانيا على القرم، وعلى أوكرانيا تعزيز الاستقلال الذاتي للقرم في انتخابات تجرى بحضور مراقبين دوليين. وعلى العملية أن تشمل إزالة أي غوامض تتعلق بوضع أسطول البحر الأسود في سيفاستوبول”. وقال، “هذه مبادئ، وليست وصفات علاجية. وسيعرف الخبراء في شؤون المنطقة أن الأفرقاء المختلفين لن يستسيغوا هذه المبادئ كلها. بيد أن المعيار ليس الرضا المطلق، بل عدم الرضا المتوازن [موازنة عدم الرضا]. وفي حال عدم تحقيق حل ما وفق هذه العناصر أو عناصر قريبة منها، سيتسارع الانجراف نحو المواجهة. وسيحل وقت المواجهة بسرعة”.

—————————–

عندما يغضب زيلينسكي من كيسنجر/ معن البياري

تحتاج متابعتك تصريحات الرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، وخطبه، إلى أن تكون في إجازة تفرّغٍ لها، فالرجل يتكلم كل يوم، ويثرثر غالبا كيفما اتفق. وهذا هو لا يفوّت ما أفضى به هنري كيسنجر، في منتدى دافوس، بالفيديو قبل أيام، من دون أن يعقّب عليه، بغضبٍ مشهود. وإذا كان وزير الخارجية الأميركي العتيق قد اقترح، في المنتدى، أن تتخلّى أوكرانيا عن جزءٍ من إقليم الدونباس وجزيرة القرم لروسيا، فإنه كان، في مقابلةٍ مع “فايننشال تايمز”، قد قال إن الرئيس الروسي، بوتين، أخطأ في تقدير الموقف الذي واجهه بعد شنّه الحرب على أوكرانيا، وأخطأ في تقدير قدرات بلاده، وهو الذي يقيم فيه نوعٌ من “الإيمان الصوفي” في التاريخ الروسي، ويشعُر بالإهانة والتهديد. غير أن كيسنجر استرسل إنه، على الرغم من هذا، لم يتوقع هجوما بحجم الاستيلاء على دولةٍ معترفٍ بها. لم يكترث زيلينسكي بدلو كيسنجر للصحيفة البريطانية قبل أزيد من أسبوعين، ربما لأنه يجده من تحصيل الحاصل، على غير ما نصح به السياسي العريق في المنتدى العالمي، مفاوضات سلامٍ بين روسيا وأوكرانيا تهدف إلى إنشاء حدودٍ في دونباس كما كانت عشية الغزو الروسي.

ليس من “دالّةٍ” لكيسنجر (أكمل أمس عامه التاسع والتسعين) على إدارة الرئيس بايدن، وعلى الاتحاد الأوروبي، فيكون له تأثير عليهما، يجعل كلامَه مقلقا لزيلينسكي، فيبدو هذا في الغضب الذي بدا عليه، وهو يرمي الوزير الأميركي العتيد بأنه من “الماضي السحيق”، ويذكّره بأننا في العام 2022، ولسنا في 1938 عندما وقّعت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا اتفاقيةً مع ألمانيا في ميونخ، منحت هتلر أراضٍ في تشيكوسلوفاكيا، لإقناعه بالتوقف عن مواصلة التوسّع. تستحسن منتدياتٌ في أميركا وأوروبا (والصين أيضا)، وصحفٌ عريقة، استضافة هذا الرجل القديم، ليقول ما لديه في غير شأن (كورونا مثلا)، من باب تعريف الجمهور العام بآراء خبراء وأهل سياسةٍ وتجارب، ومشاهير ونجوم، وكيسنجر في مقدّمة هؤلاء، وفي إطلالاته، ولو بعكّاز، أو على كرسيٍّ متحرّكٍ منذ نحو عامين، وعلى بدانةٍ ظاهرةٍ يزيدها قِصر قامته مشهديةً خاصّة، ما يوحي باستدعاءٍ فلكلوري، أو بتوسّل تنويعٍ ما في منصّات الكلام ومنابره بين أجيالٍ وأجيال، فيحضُر تسعينيٌّ عجوزٌ اسمُه كيسنجر إلى جانب أربعينيين، يخوضون، جميعهم، في أوكرانيا وغيرها. وهذا من وُصف بأنه من ثعالب السياسة الأميركية في القرن العشرين لا يتوقف، منذ سنوات، عن التحذير من مواجهاتٍ بين الولايات المتحدة والصين، ومن حربٍ باردةٍ من الأنسب تفاديها. وقد سمعوا منه مثل هذا القول في بكين، في منتدىً استضافَه (بشخصه وليس بالفيديو) قبل ثلاث سنوات. ويكرّر، في شأن العلاقة الأميركية الصينية، قوله ما يعاكس الذي يُعايَن في أداء إدارة بايدن في تعاطيها مع “تحدّي” الصين، وقد قال مرّة إن إنجازات هذا البلد “لا تصدّق”.

إذن، ليس من المقدّر أن تلقى “أطروحة” كيسنجر المستجدّة بشأن مخاطر هزيمةٍ مذلّةٍ لروسيا في أوكرانيا على أوروبا، ولا مقترحُه تخلي أوكرانيا عن أراض لروسيا، مجرىً نحو الأخذ بهما، ليس فقط بالقياس على ما يواظِب على قولَه بشأن الصين ولا يُكترَث به، وإنما أيضا لأن رداء الواعظ الحكيم، الناصح المتروّي، والذي يرتديه كيسنجر، منذ سنوات، لا يأتي على قياس أحدٍ في البيت الأبيض، ولا في أيٍّ من دوائر القرار في غير عاصمةٍ أوروبية، سيما بشأن التعاطي مع “صوفية” بوتين تجاه التاريخ الروسي، والتي تبيح له بلْع ما قد يتيسّر من أراضٍ أوكرانية. وهذا السعي النشط، والذي جرى حسمُه تقريبا، إلى انضمام فنلندة والسويد إلى حلف الناتو، واحدٌ من شواهد المضي إلى مدىً أبعد وأبعد في استفزاز روسيا، وإذاقتها حصرما شديدَ الحموضة، تأديبا على الذي تقترفه، وما تزال، في أوكرانيا.

ليقُل أستاذ التاريخ في هارفارد في زمن راحل، والعضو السابق حتى نوفمبر/ تشرين الثاني في مجلس السياسة الدفاعية التابع للبنتاغون، كيسنجر، ما يقول، في دافوس وغيره، عن أوكرانيا وغيرها، وليُربكنا في قياس مسافات الأزمنة بينه لمّا كان يشعل انقلاباتٍ وحروبا ودسائس ويحاول اللعب في خرائط في غير موضع، وما صار إليه رجلا مسنّا يُؤثر الحكمة وحسن الموعظة في إقامة السلم، مع روسيا والصين وغيرهما، ليدهشنا في يقظة ذهنه وهو ماضٍ إلى عامه المائة، وليغضَب منه زيلينسكي في وقتٍ مستقطع، .. وفي الوقت نفسه، ثمّة الجنرالات ورجال المخابرات وأهل القرار، لهم أن يفعلوا ما يرونه أشدّ مضاءً وأصحّ.

العربي الجديد

—————————–

كيسنجر والشتائم الأوكرانية/ ممدوح المهيني

شتائم مهذبة تلقاها السياسي الشهير هنري كيسنجر، من المسؤولين الأوكرانيين، بعد أن اقترح التنازل عن أراضيهم لروسيا، لإنهاء النزاع والبدء بالسلام. قالوا إنه يعيش في القرن العشرين، أي بطريقة أخرى أنه خارج العصر.

لماذا أدلى كيسنجر بهذه التصريحات المتفجرة؟

من المؤكد ليس بحثاً عن الشهرة، وهو بعمر يقارب الـ100 وقد نال منها الكثير. ولكن لنفهم سياق حديثه علينا أن ندخل بعقله لنحاول معرفة كيف يفكر. في واحدة من مقولاته يقول كيسنجر، إن التاريخ بالنسبة للدولة مثل الشخصية بالنسبة للإنسان. بلا تاريخ من الصعب أن نتعامل مع مشكلات الحاضر المعقدة. فكرة التاريخ هي من أهم العوامل الحاسمة في طريقة تفكيره، لهذا يرى، كما قال، إن الحل الغربي الحالي بإهانة روسيا لن ينهي الصراع الذي يصعب إنهاؤه لو استمر لأشهر أخرى. وقال ذلك صراحة في حديثه المثير بأن «روسيا كانت جزءاً أساسياً من أوروبا منذ 400 عام، وأسهمت في توازن القوى خلال الأوقات الحرجة التي مرت بها القارة»، ولذلك فإنه يتوجب على الدول الغربية «تذكر أهمية روسيا وعدم الانغماس في مزاج اللحظة».

النقطة الثانية، الواقعية، وهو المعروف أنه أحد أبرز عرابيها. يقول مؤلف مذكراته المؤرخ الشهير نيل فيرغسون، إن كيسنجر لم يكن واقعياً في المرحلة الأولى من حياته، وإنما مثالياً، وهو الوصف الذي اختاره لعنوان الكتاب. قدحت الواقعية في عقله بعد أن زار فيتنام عام 1965 قبل أن يتسلم أي منصب، وعرف بعد رحلة فوق الأراضي الفيتنامية أن الحرب لا يمكن الفوز بها، وأن أفضل طريقة للخروج هي الحل السياسي. تعرض بسبب هذا الموقف لملاحقات ومطاردات إعلامية وسياسية، خصوصاً من اليسار، وأصدِرت عنه كتب عديدة تطالب بمحاكمته، أحدها للكاتب الإنجليزي اللامع كرستوفر هيتنشز «مجرم حرب». برأيي كانت ملاحقات ومطاردات مشحونة آيديولوجياً هدفها تشويه الشخصية وشيطنتها بسبب قرارات سياسية مفصلية في التاريخ.

النقطة الثالثة المتحكمة بطريقة تفكيره هي انشغاله الفكري بفكرة المحافظة على النظام الدولي، وهو عنوان كتابه الأخير «النظام الدولي الجديد». في الكتاب يستعرض بتوسع جذور هذا النظام العالمي الذي نعيش فيه، والذي انطلق أوروبياً من خلال معاهدة ويستالفيا التي أعقبت الحروب الدينية. في تلك المعاهدة التي أسست الهيكل الدولي الأساسي استبعدت روسيا، ومن هنا نفهم أهمية التاريخ بالنسبة له، وبصوت بوتين الذي يكرر مراراً عن موت هذا النظام غير العادل. ومطالبة كيسنجر بالتنازل هي انطلاقاً من هذا الدافع، وهو أن روسيا مهانة ومهزومة وضعيفة يعني تهديداً مستمراً للنظام الدولي.

ويرى كيسنجر أنه مع رئيسه نيكسون هما اللذان قاما بأكبر تحول بعد الصفقة الشهيرة مع الصين الذي أدخل العالم حرفياً بمرحلة جديدة. ومع الصراعات الأخيرة بين واشنطن وبكين سُئل كيسنجر عن الموضوع الذي يجعله مستيقظاً في الليل، فقال: عدم دمج الصين الصاعدة بالنظام الدولي الحالي. إلى جانب بكين، الآن موسكو أشعلت أزمة جديدة لن يتحملها العالم، وحلها لديه واضح وسريع حتى لو أغضب زيلنسكي ورفاقه. أي أنه يرى العالم الذي ساهم بتشكيله ينهار أمام عينيه.

هذه النقاط الثلاث تلخص طريقة تفكير كيسنجر صاحب التجربة الدبلوماسية الثرية والثقافة السياسية الموسوعية. رغم مطاردة الساحرات فهو يملك عقلاً سياسياً خبيراً، وعلى الرغم من الدعايات والاتهامات التي تصفه بالانتهازية والميكافيلية، فإنه اتخذ قرارات مثالية مبالغ فيها تنفي هذه الصورة عنه مثل رفضه الانضمام لمعسكر المرشحين الفائزين أكثر من مرة بسبب التزامه مع مرشحه الجمهوري المفضل نيلسون روكفلر، الذي هزم أكثر من مرة. ليست هذه صفات المنتفعين الهاربين من القوارب الغارقة.

الشرق الأوسط

——————–

هل يبقى في روسيا من يملك القوة للإطاحة ببوتين؟/ محمد خلف

لا يستطيع أي محلل أو مراقب سياسي، إلا أن يلحظ تشابهاً نافراً بين ممارسة بوتين وسلوكه السياسي العام وخطابه، وبين زعماء عرب من أمثال صدام حسين ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح والاسدين وعمر البشير، وغيرهم من الحكام المستبدين.

كان ظهور فلاديمير بوتين في عالم السياسة الروسية حدثاً مباغتاً وغريباً، لأنه لم يكن من تلك الشخصيات التي كان لها حضور وتأثير في الوسط السياسي سواء في المرحلة الشيوعية، أو في الفترة التالية، وما أثمرته من موجة جديدة من المتطلعين الى العمل السياسي في إطار تيارات وأحزاب وتنظيمات ناشئة تنتمي الى ايديولوجيات ونظريات وأفكار جديدة. ولم يخرج  بوتين من رحم كواليس اللعبة السياسية الحامية التي كانت تعصف في قمة الهرم السلطوي المتأرجح تحت ضربات ما عرف قبل أكثر من ثلاثة عقود على سقوط وتفكك الاتحاد السوفياتي بالبريسترويكا” و”الغلاسنوست”. هاتان الفكرتان كانتا رافعة ميخائيل غورباتشوف (رئيس دولة الاتحاد السوفياتي سابقاً) إلى فضاء الميديا الغربية، وعامل الجذب لأوسع الفئات الشعبية المتطلعة للتغيير. في كتابه “صراع الثروة والسلطة” يتناول الصحافي المتخصص في الشؤون الروسية سامي عمارة مسيرة بوتين السياسية التي يقول إنها “كانت ولا تزال سلسلة طويلة من المعارك التي بدأها على مختلف الجبهات وفي وقت واحد”.

إحدى معارك بوتين الاولى كما يشير عمارة الذي عمل مراسلاً لصحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية في موسكو، كانت مع أبرز رموز الأوليغارشية وغالبيتهم الساحقة من اليهود الذين “لطالما نجحوا في الاستئثار بمقاليد الحكم في البلاد سواء بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال مواقعهم في السلطتين التنفيذية والتشريعية”.

اقترنت طفولة بوتين بكثير من القسوة وهي قسوة مارسها بإفراط بعد وصوله الحكم.

معركة بوتين الثانية احتدمت عندما قرر كسر شوكة أقطاب الإعلام الروسي وقياصرته من أمثال فلاديمير جوسينسكي، مالك اكبر امبراطورية اعلامية، وأيضاً مع بوريس بيريزوفسكي القطب الآخر. وعندما نتحدث عن صراع القيصر الروسي الآتي من كواليس “كي جي بي” لا بد أن نعود بذاكرتنا الى الحملة المدمرة التي تعرضت لها صحيفة موسكوفسكي كوريسبوندنت المستقلة بعدما نشرت في نيسان/ أبريل 2008 أخباراً ومعلومات تناولت العلاقة التي قالت انها “نشأت بين بوتين والينا كابايفا، احدى البطلات الأولمبيات في الجمباز”. ينبه عمارة إلى أن مالك هذه الصحيفة الكسندر ليبيد الذي كان ضابطاً في “كي جي بي” أجبر على إغلاق صحيفته، وهو ما اعتبره بعض المراقبين درساً للاخرين كي يفكروا قبل أن يتخطوا الخطوط  البوتينية الحمر.

اقترنت طفولة بوتين بكثير من القسوة وهي قسوة مارسها بإفراط بعد وصوله الحكم. فعلي سبيل المثال فاجأ بوتين المراسلين الأجانب في موسكو في مؤتمر حين أجاب على سؤال وجهه صحافي غربي عن عدم موافقة الحكومة الأوكرانية على اتفاقية مينسك بالقول،”سواء أعجبك أم لا، إنه واجبك يا جميلتي”.من الواضح ان بوتين كان يلمح في رده  الى مقطع من اغنية “الجميلة النائمة في تابوت” لفرقة البانك روك السوفياتية” التي تقول، “الجميلة النائمة في التابوت، تسللت اليها وضاجعتها. سواء اعجبك ام لم يعجبك. نامي يا جميلتي”.

خيانات اوكار الرفاق الجواسيس

إذا صدقنا المعلومات التي نقلها  موقع “ميديا بارت” (Mediapart) الفرنسي التي تشير إلى أن الرئيس الروسي، الذي وصفه “بالطاغية القلق الذي يخشاه جواسيسه”، يعيش في خوف من الخيانة منذ بداية الحرب على أوكرانيا، وهو خوف تغذيه بذكاء أجهزة المخابرات الأميركية، على خلفية ما تردد عن تصفيات داخل المؤسسة السياسية والعسكرية والأمنية في موسكو. ووفق محللين فإن الإخفاق الروسي في تحقيق إنجاز عسكري سريع في أوكرانيا خلق انقسامات بين القيادتين السياسية والعسكرية، أدت إلى حملات اعتقال لعدد من كبار المسؤولين ووضعهم تحت الاقامة الجبرية بعد تحميلهم أسباب الفشل. ويتضح من تحقيق اجراه الصحفيان الروسيان إيرينا بوروغان وأندريتش سولداتوف اللذان يعيشان في المنفى منذ عقدين أن الأجهزة الأمنية قامت باعتقال الجنرال سيرغي بيسيدا ونائبه أناتولي بوليوخ، ووضعتهما تحت الإقامة الجبرية.

يخضع الجنرال بيسيدا الآن للاعتقال بحجة التحقيق  معه بتهمة الاختلاس، إذ أظهرت تقارير مالية أن الجهاز الذي اداره أهدر ملايين الدولارات  في رحلات لكبار ضباطه المكلفين بمحاولة إغراء السياسيين  الأوكرانيين إلى تايلاند وقبرص وجزر المالديف قبل الحرب بقبول رشاوى بمبالغ كبيرة مقابل توفير الدعم اللوجستي للاستيلاء على البلاد .إلا أن إخفاق هؤلاء في مهماتهم، وتسرب معلومات سرية عن خطط الغزو إلى وكالة الاستخبارات الأميركية، أثار غضب بوتين وفقا لأندريه سولداتوف. ما يسعى  إليه الرئيس الروسي هو الكشف عن شبكة العملاء الأميركيين والغربيين داخل الكرملين، وفي جهاز الأمن الفيدرالي، وغيره من الأجهزة السرية، وهو حريص على أن يعرف من أبلغ وكالة المخابرات المركزية “سي آي إيه”، وما إذا كان رئيس الجهاز هو المسؤول عن هذا الاختراق.

 لم تنحصر الاعتقالات بالدائرة المحيطة فقط بالجنرال بيسيدا ونائبه بوليوخ، فقد امتدت  بحسب صحيفة “التايمز” إلى رومان غافريلوف بعد اتهامه بإهدار الوقود دون داع” بعد الصعوبات التي واجهها الجيش الروسي على الأرض منذ الأيام الأولى للغزو.

حكام مستبدون ومسؤولون خانعون

فوبيا الاصابة بعدوى “كورونا”، جعلت بوتين يلوذ بالعزلة بشكل تام، فهو لا يلتقي حتى بالدائرة المغلقة جداً التي تضم وزرائه، فهو يعقد اجتماعاته مع حكومته عبر الدائرة التلفزيونية، كما يصدر جميع أوامره من أطراف طاولات كبيرة الحجم، وهو ما لاحظه جميع مشاهدي القنوات الفضائية، حين وجه بوتين التوبيخ لرئيس المخابرات نيكولاي ناريشكين، وذلك قبل وقت قصير من قراره شن أكبر غزو بري في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

وذكر تقرير نشرته صحيفة “لاكروا” الفرنسية أن الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس بوتين  تقلصت في السنتين الأخيرتين إلى مجموعة قليلة جداً تحظى بثقته وتشاركه رؤيته للعالم. ويتضح من محتوى التقرير الذي أعده أوليفييه تاليس وبنيامين كوينيل إن بوتين ومنذ بداية الأزمة في أوكرانيا حرص على الظهور بمظهر القائد الأوحد لسفينة بلاده، لكنه بالفعل يستشير قبل اتخاذ قراراته حفنة من صقور إدارته وبعضاً من ذوي الرتب العليا في الجيش”.

ولفت موقع “لاكروا” وغيره من الصحف الغربية الى الاجتماع الخاص جدا لمجلس الأمن الروسي، الذي دعا إليه بوتين في 21 شباط/ فبراير الماضي وحضره كبار الشخصيات في النظام، وسمح، وهو أمر نادر الحصول، بتصويره لبث الفيديو لاحقاً عبر التلفزيون. واقتصر جدول أعماله على نقطة واحدة “هل ينبغي لنا الاعتراف باستقلال الأراضي الانفصالية في دونيتسك ولوغانسك، في شرق أوكرانيا؟”. ونبه الى أن رئيس الكرملين كان يطلب الكلام من الحاضرين واحدا بعد الآخر، ولم يسلم بعض من وزرائه ورؤساء أجهزته الأمنية من الإهانات، ما أحرج مرؤوسيه، لتتجلى سلطوية بوتين في أبهى صورها. أما عدد الحاضرين في الاجتماع فلم يتجاوز عدد أصابع اليد وهم ذوو رتب عسكرية عالية، وينتمون إلى فئة ما يعرف باسم “سيلوفيكس” (silovikis)، أي أنهم أعضاء من وكالات إنفاذ القانون والأمن، الركيزة الحقيقية للنظام السياسي الروسي.

من يجرؤ على الكلام؟

لا يستطيع أي محلل أو مراقب سياسي، إلا أن يلحظ تشابهاً نافراً بين ممارسة بوتين وسلوكه السياسي العام وخطابه، وبين زعماء عرب من أمثال صدام حسين ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح والاسدين وعمر البشير، وغيرهم من الحكام المستبدين الذين يحرصون على إحاطة أنفسهم برجال خاضعين ومتعجرفين. وبالتالي فالخراب الذي سيحل في روسيا تحت ضربات العقوبات القاسية لن يكون أقل مما حل بالعراق وليبيا وسوريا واليمن والسودان.

وعزا مراقبون سبب تقلص عدد أعضاء الدائرة الضيقة لبوتين إلى قراره عدم مقابلة أي مسؤول يودّ رؤيته على انفراد ما لم يفرض على نفسه حجراً صحيا لمدة أسبوعين، ما حدّ  من حفلات الشواء التي كان ينظمها مع أصدقائه القدامى من الأوليغارشية. وحتى إيغور سيتشين، الرئيس القوي لشركة النفط العملاقة “روسنفت”، أصبح يكتفي باجتماعات متباعدة مع بوتين. ويحظى يوري كوفالتشوك إمبراطور الإعلام بوضع خاص لدى زعيم الكرملين، كونه يسيطر على نحو الربع من ملكية القناة العامة الأولى (Pervyï Kanal)، ولأنه بحسب الصحافي الروسي أليكسي فينيديكتوف، “شكل على مدى سنوات نظرة بوتين للعالم… وهو متفق معه في حربه على أوكرانيا كحال آخرين بمن فيهم وزير الخارجية سيرغي لافروف”.

أما وزراء الحكومة، فيتواصلون مع  بوتين عبر الفيديو أو يجلسون على بعد 10 أمتار منه، وهو ما يعلق عليه المحلل السياسي الروسي المستقل إيفان بريوبراجينسكي بالقول “بوتين معزول عن الواقع… وما يتلقاه من معلومات تأتيه من عناصر الاستخبارات الخاصة، فهو لا يستخدم الإنترنت بنفسه، ويكتفي بمتابعة دعايته الخاصة عبر التلفاز”.

القيصر انقلاب القصر

ازدادت التكنهات خلال الأسابيع الأخيرة باحتمال حصول انقلاب في الكرملين، ونقلت صحيفة “التايمز” البريطانية عن ضابط في جهاز الأمن الفيدرالي أن الرئيس فلاديمير بوتين بات معرضاً لخطر الانقلاب من أجهزة الأمن الخاصة به أكثرمن أي وقت مضى، من جراء تداعيات الحرب في أوكرانيا. إضافة الى الحملة القمعية المتزايدة ضد المسؤولين الأمنيين والعسكريين، وارتفاع منسوب الشكوى من عبثية الحرب وجدواها، والانتقادات الموجهة لبوتين وأخطائه في الحرب.

تناول تقرير لموقع “فورين أفييرز” احتمالات تحرك مراكز القوى المحيطة بالرئيس الروسي مع تنامي مشاعر الرفض التي طرأت بعد غزو أوكرانيا، مشيراً إلى مجموعة “سيلوفيكي”، والمقصود بها دائرة بوتين الضيقة من قادة الأجهزة الأمنية والجيش، التي تؤثر في قراراته ويستعين بها في تنفيذها. لا يمكن التكتم على الخلافات التي تعصف داخل الكرملين بين بوتين والأجهزة الأمنية والجيش، وهو ما لم يحدث على هذا النحو من قبل، وفق التقرير. ما دفع بوتين الى اعادة تنظيم التسلسل القيادي في الجيش، وكلف الجنرال، ألكسندر في بورتنيكوف، بالمسؤولية عن العمليات في أوكرانيا.

إلا أن المحللين يجمعون على استبعاد أن يشكل الجيش الروسي، تهديداً كبيراً للنظام الحالي، فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي، سعت مجموعات من قدامى المحاربين العسكريين للاستيلاء على السلطة السياسية، لكنهم كانوا يفشلون في كل مرة. ففي التسعينات، وقبل وصول بوتين إلى السلطة، فشلت حركة تمرد تسمى “اتحاد الضباط” في الاستيلاء على السلطة، برغم مستوى الضعف الكبير آنذاك في الحكومة.

وفي الحالات القليلة التي تحدى فيها أفراد من الجيش بوتين، كان من السهل إيقافهم، مثل فلاديمير كفاتشكوف، العقيد المتقاعد في المخابرات العسكرية، الذي حاول اغتيال أناتولي تشوبايس، الاقتصادي الذي أطلق برنامج الخصخصة الروسي المثير للجدل في التسعينات.

اعتاد قادة الأجهزة الأمنية، وأحياناً الجنرالات والضباط في الجيش الإلقاء بثقلهم على القادة الإقليميين الأقوياء، مثل عمدة موسكو، لكن بوتين قضى بشكل منهجي على هذا النوع من التهديد، ولم يعد في روسيا أي قوى معارضة كبيرة. فلقد قام بوتين بتصفية خصومه السياسيين، مثل بوريس نيمتسوف الذي اغتيل بالقرب من الكرملين عام 2015، ومن ثم ألقى بعدد كبير منهم في السجون واهمهم  أليكسي نافالني، وتك نفي آخرين.

يكشف  موقع “الحرة .نت” عن سبب هيكلي آخر لفشل الجيش في تحدي بوتين وهو المراقبة الشديدة له من قبل النظام، وهي سياسة قديمة اتبعها الاتحاد السوفييتي، توسعت في عهد بوتين عبر جهاز الأمن الفيدرالي (FSB)، الذي أنشأ فيه وحدة خاصة للتجسس على الجيش، وهي تتولى حالياً خلال الحرب على أوكرانيا مراقبة القيادات العسكرية. وبالتالي أصبح من غير الممكن “بروز مثل هذا النوع من الضباط الجريئين الذين قد يقودون تمرداً فعالاً”.

 وينطبق الحال نفسه على الأجهزة الأمنية الروسية التي طالما كانت عرضة للفساد، لكنها “لم تكن بارعة في بناء قواعد قوة فعالة وشبكات محسوبيات خاصة بها”. وبسبب طريقة عمل جهاز الأمن الفيدرالي، يميل الضباط الأفراد إلى أن يكونوا مخلصين لرتبهم ومناصبهم، كما يدركون أنهم قد يتعرضون للملاحقة مثل أي شخص آخر. أما الجيل الحالي من الضباط في FSB، وهم في الثلاثينات والأربعينات من العمر، فلم يعرفوا أي رئيس سوى بوتين، وبنوا حياتهم المهنية تحت قيادة مدير واحد، هو ألكسندر بورتنيكوف، الذي يدير الوكالة منذ عام 2007. ويخدم ضباط هذه المؤسسة الرئيس فقط، وتتمثل مهمتهم الرئيسية في القضاء بلا رحمة على أي مصادر محتملة للمعارضة، كما أن المكانة الرفيعة التي يتمتعون بها في المجتمع الروسي تجعلهم أكثر ولاء للنظام.

روسيا الدولة المنبوذة والمعزولة

لا نستطيع التكهن في حصول حدث أو تطور من شأنه أن يساعد في حدوث انقلاب يطيح بالرئيس بوتين الذي جعل من روسيا دولة معزولة ومنبوذة، وتسبب في تهميش دورها  في السياسة الدولية لسنوات طويلة مقبلة، بخاصة بعد الانجازات التي تحققت تحت قيادته خلال السنوات العشر الأخيرة من حكمه؟

تتفق أستاذة الشؤون الدولية في جامعة “نيو سكول” في  نيويورك وحفيدة الزعيم السوفييتي خروتشوف نينا خروتشوفا مع الاراء التي تستبعد امكانية حصول انقلاب في المرحلة الراهنة، إذ شددت في مقالة نشرتها مجلة “فورين افيرز” على أنه من غير المحتمل حدوث انقلاب آخر، سواء في أروقة الكرملين أو في شوارع موسكو. ولكنها استدركت موضحة “في الواقع، المجموعة الوحيدة التي قد تسقط الرئيس هي جهاز الأمن الفيدرالي (أف أس بي)، الذي لا يزال يديره مبدئياً السلوفيكي القومي المدرك لفكرة أن بعض المرونة في السياسة الخارجية ضرورة للتنمية الداخلية، لكن مثل أولئك المسؤولين ما عادوا يمثلون مستقبل الـ”أف أس بي”. وأكدت أن “الهيئة الغامضة من التكنوقراطيين الأمنيين المسؤولين اليوم مهووسة بالسيطرة الكاملة، بغض النظر عن العواقب الوطنية أو الدولية”. ونبهت خروتشيوفا من أن المرة الأخيرة التي بنى فيها الكرملين مثل تلك الدولة المسيطرة بالكامل، كانت تحت قيادة يوري أندروبوف في أوائل الثمانينات، وسرعان ما انهارت عندما أرخت قوات الأمن قبضتها وسمحت بالإصلاح. وبوتين على علم بهذه القصة جيداً ومن غيرالمرجح أن يخاطر بالنتيجة ذاتها. وحتى من دونه، فإن النظام الذي بناه سيبقى في مكانه، مدعوماً بالفوج الأمني الجديد، إلا إذا وقعت كارثة في أوكرانيا تدمر ذلك على غرار ما حدث في أفغانستان في الثمانينات. ورجحت المحللة أن يؤدي تمسك تلك البيروقراطية بالسلطة إلى انحسار مغامرات موسكو الخارجية، مقابل أن يبقى النظام على حاله، فستظل روسيا مضطهدة ومعزولة وغير حرة.

درج

——————————

مجلة روسية: واشنطن تسعى لفتح “جبهة ثانية” ضد موسكو في سوريا

زعم مقال بموقع مجلة “نيو إسترن أوتلوك” الروسي الناطق بالإنكليزية، أن واشنطن تسعى جاهدة لفتح “جبهة ثانية” ضد روسيا في منطقة حساسة أخرى لموسكو وهي سوريا. واعتبر الكاتب الروسي فلاديمير دانيلوف في مقاله أن ذلك يتم عبر استخدام إسرائيل، التي أصبحت غاراتها الجوية على الأراضي السورية أكثر تواترا.

وقال إن الضربات الإسرائيلية تستهدف مواقع مختلفة، بما في ذلك المناطق المدنية في سوريا، ويقوم الطيران الإسرائيلي بذلك في كثير من الأحيان دون أن يدخل المجال الجوي السوري، ويتصرف بشكل رئيسي من الأجواء اللبنانية أو من البحر الأبيض المتوسط.

وكانت آخر غارة إسرائيلية كبيرة في 12 مايو/أيار على مدينة مصياف السورية، وأسفرت عن مقتل 5 أشخاص وإصابة 7 آخرين. وقالت وكالة الأنباء السورية “سانا” إن قوات الدفاع الجوي السورية تمكنت من إسقاط معظم المقذوفات بعد تفعيل منظومة “إس-300” الروسية.

ويزعم الكاتب أنه بالرغم من عدم إلحاق أضرار محددة بالطيران الإسرائيلي، لكن تفعيل قوات الدفاع الجوي السوري المدعومة بمنظومات روسية يشير إلى استعداد لإسقاط الطائرات الإسرائيلية في المستقبل.

ويذكر الكاتب أنه في الأعوام الأخيرة، أنشأت إسرائيل وروسيا ما يسمى بالخط الساخن لتسوية النزاعات حتى لا يتصادم الطرفان بالخطأ في سماء سوريا. وخلال اجتماع في سوتشي العام الماضي، اتفق رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت والرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مواصلة هذه الآلية من أجل تجنب الأزمات في المجال الجوي السوري.

ومع ذلك، كما تشير وسائل الإعلام الإسرائيلية: “لا يزال من الصعب تحديد ما إذا كان الهجوم الصاروخي عبر منظومة إس-300 هو حالة استثنائية أو إشارة من روسيا إلى إسرائيل بتغيير سياستها”.

ويقول الكاتب إنه من المتوقع أن تلتقط إسرائيل هذه الإشارة وتعيد النظر في تكتيكات ضرباتها الجوية ضد الأراضي السورية.

تزايد الهجمات الأمريكية واستهداف الجماعات الشيعية

ويزعم الكاتب، من جهة أخرى، أنه من أجل زعزعة استقرار الوضع في سوريا وتصعيد النزاع المسلح هناك، استخدمت الولايات المتحدة أيضا طائرات بدون طيار وضربت أهدافا برية في 7 مايو/أيار في محافظة دير الزور شرقي سوريا.

واستهدفت الهجمات مواقع للتشكيلات الشيعية الموالية لإيران (في منطقتي الحويجة وجسر المعلق) العاملة في محيط القواعد العسكرية الأمريكية التي أقيمت على الضفة الشرقية لنهر الفرات. ويشار إلى أن طائرات أمريكية مسيرة هاجمت في 2 مايو/أيار أيضا معسكرات المقاتلين الشيعة في بادية العشارة.

وتزايدت الهجمات الأمريكية على مواقع المسلحين الشيعة مع تزايد نشاط تنظيم “الدولة” في المنطقة.

    يتحدث دانيلوف عن تزايد رد الفعل المعادي لأمريكا من قبل السكان المحليين الذين يتحولون إلى أساليب حرب العصابات ضد القوات الأمريكية

في المقابل، يتحدث دانيلوف عن تزايد رد الفعل المعادي لأمريكا من قبل السكان المحليين الذين يتحولون إلى أساليب حرب العصابات ضد القوات الأمريكية ويتجلى ذلك في تزايد الهجمات على القوافل العسكرية الأمريكية، التي يقول إنها “تقوم بسرقة النفط والموارد الأخرى وتصديرها للخارج”.

وتعرضت القاعدة العسكرية الأمريكية في بلدة الشدادي بمحافظة الحسكة السورية لهجوم آخر بقذائف الهاون مؤخرا. وذكرت قناة “الميادين” التلفزيونية أن النيران جاءت من جانب الحدود السورية العراقية. وقد تم تحديد أن معظم الصواريخ انفجرت في محيط المنشأة العسكرية، ولم ترد أية معلومات عن خسائر محتملة أو أضرار مادية.

وفي مطلع أبريل/نيسان الماضي، أصيب 4 جنود أمريكيين خلال قصف قاعدة أمريكية شرقي سوريا. وقد تم إطلاق قذيفتين على القاعدة، ما أدى إلى إلحاق أضرار بمبنيين خارجيين.

ويقول الكاتب الروسي إنه في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، هاجم أهالي قرية حامو بمحافظة القامشلي السورية رتلا عسكريا من المدرعات ورشقوه بالحجارة وأجبروه على الالتفاف.

وبحسبه فكما يتضح من اللقطات التي نشرها شهود عيان على “تويتر”، لم يقتصر الأمر على الرجال البالغين فحسب، بل قام الأطفال أيضا بإلقاء الحجارة على الأمريكيين، وعندما عادت المركبات، بدأ بعض السوريين بمطاردتها.

ويقول إنه حدثت قصة مماثلة في منتصف شهر يوليو/تموز من العام الماضي عندما ألقى سكان قرية فرفرة السورية الحجارة على دورية أمريكية وطردوها أثناء محاولتها المرور عبر القرية.

———————————

الجنود الروس ينهبون أوكرانيا..وسوريا/ بسام مقداد

موقع الخدمة الروسية في “الحرة” الأميركية نشر، الخميس، نصاً مقتضباً عن الطرود البريدية المرسلة من العسكريين الروس في أوكرانيا، والتي من المفترض أنها تحتوي على مسروقاتهم من أوكرانيا. ويقول الموقع أن وزن هذه الطرود بلغ 60 طناً خلال الأشهر الثلاثة للحرب الروسية على أوكرانيا. وذروة عملية إرسال الطرود كانت في مطلع الشهر المنصرم، حيث تطابقت مع تاريخ إنسحاب الجيش الروسي من منطقة كييف وشمال أوكرانيا. وضمت محتويات الطرود أحذية سنيكرز، إطارات، أجهزة تلفزيون، مواداً غذائية ومعلبات، آلة غيتار وخيمة وغيرها من الأغراض. وقد احتوى أحدها على طائرة مسيّرة عسكرية من طراز “Orlan-10”. وأكبر الطرود حجماً كان يزن 381 كلغ أُرسل إلى إحدى ضواحي عاصمة الأورال يكاتينبورغ.

يشير الموقع إلى أن الوزن الأكبر من الطرود أرسل إلى مدينة في جنوب غرب سيبيريا، حيث تتمركز ثلاث وحدات عسكرية، وإلى مدينة أخرى في المنطقة عينها يتمركز فيها فوجا دبابات. وفي حين يتهم الجانب الأوكراني العسكريين الروس بارتكاب نهب جماعي، يمتنع الجانب الروسي عن التعليق على الإتهام.

وكان الموقع عينه قد نشر في 6 الشهر المنصرم نصاً بعنوان “”جوهر نظام بوتين: مدونون عن نهب العسكريين الروس”. قدم الموقع للنص بالإشارة إلى مشاهد من كاميرا المراقبة في مركز بيلوروسي لإرسال الطرود البريدية ، حيث إستخدمه العسكريون الروس المنسحبون من منطقة كييف لإرسال طرود منهوباتهم إلى روسيا.

محتويات الكاميرا عن تجمهر العسكريين الروس في المركز البريدي نشرها موقع بيلوروسي  وتبعت مشاهده عشرات بوستات المدونين. يقول المدون الأول: ” طبيعي، خانقو جميع الأفكار النيرة، المغتصبون، اللصوص، معذبو الناس، فقط أنظروا إليهم”. مدون ثاني يقول بأن خدمة التعرف إلى الوجوه حددت بين الحشد في المركز البريدي وجوه روس وبيلوروس وهم يرسلون في طرودهم من أجهزة السكوتر الكهربائية إلى قطع السيارات.

مدونة كشفت أن أكثر المدن الروسية المتلقية للطرود هي مدينة في منطقة ألتاي غرب سيبيريا. وتكرر المدونة ما سبق أن قاله عن سكان هذه المدينة سكرتير المنظمة الشيوعية للمنطقة أيام الإتحاد السوفياتي، بأن كل ثاني شخص في هذه المدينة إما سُجن (بجريمة سرقة) أو هو سجين أو سوف يسجن.

كان من المفيد متابعة جميع المدونات التي أجمعت على إدانة نظام ، ما عدا واحدة إتهمت النظام الأوكراني بكل ما جاء في المدونات الأخرى واعتبرته ملفقاً ضد الجيش الروسي. وقال بعض المدونات بأن الروس الذين يقاتلون في أوكرانيا ليسوا جيشاً نظامياً، بل هم رعاع. واتهمت مدونة بأن من يجلس في مجلس الأمن القومي الروسي هم أنفسهم من ينزع الحلى من أذن المرأة القتيلة، ومن ينهب بيوت الأوكران.

الصحافي السوفياتي الأوكراني المخضرم دمتري غوردون إشتهر في السنوات الأخيرة بموقعه الذي يحمل إسمه ” Gordon”، والذي يجري عليه مقابلات مع المشاهير من الناشطين السياسيين الروس والأوكران. نشر في 12 آذار/مارس المنصرم نصاً مقتضباً بعنوان “سلطات روسيا سمحت لجيشها بالنهب في أوكرانيا”. ينقل الموقع عن قيادة المخابرات في وزارة الدفاع الأوكرانية قولها بأن الجيش الروسي تلقى أمراً من قيادته بالتحول إلى “الإكتفاء الذاتي” في أوكرانيا، وهو ما يعني عملياً تشريع النهب. وينقل عن المخابرات قولها بأنه بعد فشل محاولة الروس في الإحتلال السريع لأوكرانيا بسبب المشاكل اللوجستية وطول خطوط المواصلات، لا يستطيعون أن يوفروا لوحداتهم المحروقات والمواد الغذائية والآليات والذخيرة وإجراء التبديلاـت.

وينقل الموقع عن هذه المخابرات قولها بأن  وحدات “جيش يوتين” ستبقى طويلاً مقطوعة عن الإمدادات، وتلقت أوامر بالتحول إلى “الإكتفاء الذاتي” حتى صدور أوامر أخرى، أي أن تأخذ كل ما تحتاجه من السكان المحليين وتنهب المستودعات والمحال التجارية والصيدليات.  

معظم المعطيات عن نهب العسكريين الروس في أوكرانيا مستقاة من الأحاديث المعترضَة بين الجنود وذويهم في روسيا. بعض محتويات هذه الأحاديث قامت بنشرها المخابرات الأوكرانية التي اعترضت الأحاديث، وبعض هذه الأحاديث اعترضها ناشطون روس وأوكران ونشروا محتوياتها.

موقع the village البيلوروسي نشر مطلع الشهر المنصرم نصاً بعنوان “… ما المعروف عن نهب الروس في أوكرانيا (وما علاقة بيلاروسيا به)”. قال الموقع بأن الحديث عن نهب العسكريين الروس في أوكرانيا يبهت أمام وحشيتهم في (الإبادة الجماعية) مدينة بوتشا والمدن الأخرى. ومع ذلك يبقى النهب واحدة من الجرائم الحربية. وينقل مقاطع من حديث هاتفي لعسكري روسي مع زوجته اعترضته المخابرات الأوكرانية، يخبرها عن سرقته لمنزل أوكراني. الزوجة دعمت زوجها وشجعته على نهب كل ما يستطيعه بقولها “أي روسي هذا الذي لا يسرق، ما بك أنت؟”، وتسأله ما إن صادف “هناك” زياً رياضياً، وتذكره بأن إبنتهم بحاجة لجهاز كمبيوتر محمول من أجل دراستها في المدرسة.

يقول الموقع بأن العسكريين الروس أقاموا في مدينة بيلوروسية سوقاً خاصة يبيعون فيه ما نهبوه في أوكرانيا. وُعرض في هذه السوق غسالات وجلايات كهربائية، برادات، حلى، سيارات، دراجات هوائية ونارية، أطباق، سجاد، لعب أطفال ومستحضرات تجميل.

يذكّر الموقع بأن القانون الدولي يعتبر نهب حاجيات القتلى والجرحى في ساحة المعركة، وسرقة الحاجيات الخاصة المتروكة كجريمة حربية ذات طابع دولي. ويشير إلى أن المادة المتعلقة بعقوبة النهب وجدت في قانون عقوبات روسيا السوفياتية منذ العام 1960، لكنها أزيلت من قانون العقوبات الروسي في العام 1996، وأصبحت جريمة النهب ” MARAUDING” تعتبر سرقة أو إختلاساً.

ينقل الموقع عن telegram channel بيلوروسية ترصد العمليات الحربية بأنها رصدت عند مكتب خدمات الطرود البريدية في مدينة بيلوروسية قريبة من الحدود الأوكرانية شاحنات عسكرية روسية، كان الجنود الروس يفرغون منها ثياباً مستعملة (بالات).

ومن جديد يذكر الموقع المدينة الروسية في منطقة ألتاي غرب سيبيريا، ويقول بأنها تلقت 128 طرداً تزن 3 أطنان. ويشير إلى أن وحدة من الحرس الوطني تتمركز في المدينة وتشارك في الحرب على أوكرانيا، وبأن وسائل الإعلام المحلية تحدثت في آذار/مارس المنصرم عن عملية “طرد الجندي” لدعم العسكريين في الوحدة العسكرية رقم كذا. إضافة إلى هذه المدينة “الشهيرة”  يشير الموقع إلى توزع الطرود على كافة المناطق الروسية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، مروراً بالعاصمة موسكو.

موقع central.asia المتخصص بشؤون آسيا الوسطى نشر أواخر الشهر المنصرم نصاً بعنوان “”جيش اللصوص”: نهب القوات الروسية البيوت الأوكرانية ـــــ صفحة جديدة في تاريخ الجريمة”، وأرفقه بآخر ثانوي ” النهب ـــــ ظاهرة عادية في منطقة الصراعات، حيث يوجد العسكريون الروس ومرتزقة الكرملين، مثلاً في جورجيا، سوريا، ليبيا ومالي”. لم يضف الموقع ما يذكر في نهب العسكريين الروس أوكرانيا، لكنه إستعاد ما إرتكبوه من نهب في الدول التي عددها.

في توقفه عند سوريا، يقول الموقع بأن روسيا حاولت وضع يدها على حقول النفط والخامات الأخرى، ونهب مرتزقة “فاغنر”آثار تدمر المدرجة على قائمة الأونيسكو، وشوهدت هذه الآثار في قاعدة المرتزقة. وفي دير الزور تكررت عمليات نهب المرتزقة للبيوت التي أخلاها السوريون، وأقاموا سوقاً علنية لبيع المسروقات. وفي حلب اتخذت عمليات النهب طابعاً منظماً، وطاولت المنازل ومختلف المشاريع، وحتى الأبنية والمؤسسات الرسمية.

————————-

لافروف:لم يعد لدى روسيا مهام عسكرية في سوريا

قال وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف إن روسيا لم يعد لديها مهام عسكرية في سوريا ووجودها لضمان الاستقرار في المنطقة.

وأكد لافروف أن القوات الروسية في سوريا، لم يتبقَّ لديها مهام عسكرية تقريباً، وأن عددها “على الأرض” تحدده مهام محددة ، وعلى أساس “مبدأ المصلحة”. وشدد على أن وجود القوات مرتبط بضمان الاستقرار والأمن، ويتجدد عدد القوات على الأرض من خلال المهام المحددة التي تقوم مجموعتنا بحلها هناك”.

وأوضح أنه “من المهام العسكرية التي يحلها الجيش السوري بدعمنا، في إدلب، حيث لم يختف التهديد الإرهابي في أي مكان، وقد بقي”. وأضاف “ليس لدينا طلبات من القيادة السورية”.

وأشار لافروف إلى أن القوات الروسية في سوريا تحاول “تحقيق ما اتفق عليه الرئيسان فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان قبل سنوات، لكن الأمور، كما نرى جميعاً، لا تسير على ما يرام”.

وتابع أن هذه المهمة (حل مسألة إدلب) “لا تزال على جدول الأعمال لكن في الآونة الأخيرة وبفضل الإجراءات التي اتخذتها روسيا وقوات النظام، لم تلحظ استفزازات من داخل إدلب” على مواقع النظام والقواعد الروسية في سوريا.

ويأتي كلام لافروف فيما تشهد خطوط التماس بين مناطق سيطرة المعارضة السورية والنظام اشتباكات وخروق متواصلة لاتفاقيات وقف إطلاق النار، يبنما تنفذ روسيا غارات وضربات عسكرية متكررة على مناطق سيطرة المعارضة.

كذلك شنّت المقاتلات الروسية ليل الأربعاء، 3 غارات جوية تدريبية فوق منطقة تل أبيض بريف الحسكة الشمالي الشرقي الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني السوري.

وقالت مصادر محلية ل”المدن”، إن الطائرات نفذت غاراتها بصواريخ من نوع جو-جو فوق المنطقة التابعة لمنطقة “نبع السلام” بالقرب من منقطتي تل أبيض ورأس العين. وأضافت المصادر أن الغارات لا تحدث أثراً على الأرض وإنما تنفجر صواريخها بالأجواء فقط.

في هذا الوقت، دخلت تعزيزات عسكرية روسية إلى قاعدتها العسكرية المتمركزة بمنطقة عين عيسى، والخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بالتزامن مع تلويح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعملية عسكرية قريبة على المناطق الخاضعة لسيطرة الأخيرة، ضمن خطة إنشاء المنطقة الآمنة بعمق 30 كيلومتراً داخل الأراضي السورية.

——————————-

روسيا تخطط لهجوم جديد على كييف

تسعى روسيا لـ”تحقيق نصر كامل” في اوكرانياً قبل الخريف المقبل، عبر التخطيط لشن هجوم جديد على العاصمة كييف، حسب ما نقلت وسائل اعلام اوروبية، فيما اتهم وزير خارجيتها سيرغي لافروف الغرب بـ”شن حرب شاملة على العالم الروسي بأكمله”.

ونقلت صحيفة “الاندبندنت” عن موقع اخباري مستقل في لاتفيا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يفكر في شن هجوم جديد على العاصمة الأوكرانية كييف، ويخطط “لتحقيق النصر” في أوكرانيا بحلول الخريف المقبل.

وقالت مصادر مقربة من الكرملين لموقع “ميدوزا إنه “على الرغم من الفشل في الاستيلاء على كييف في بداية الحرب، فإن الكرملين يفكر في شن هجوم ثان على العاصمة الأوكرانية، حيث يبدو أن القوات الروسية تتقدم في منطقة دونباس بأكملها، وهي على وشك “الاستيلاء عليها”.

وقالت المصادر لـ”ميدوزا” إن التقدم في الشرق والتوقعات بأن موسكو يمكن أن تكسب حرب استنزاف ضد كييف وحلفائها الغربيين، أحيت الآمال في إدارة بوتين بأن تحقيق “نصر كامل” ممكن في أوكرانيا قبل نهاية العام.

وأخبر مصدران مقربان من الكرملين ومصدر آخر داخل إدارة بوتين “ميدوزا” أن القيادة الروسية لديها “هدف أدنى” و”هدف أقصى” بشأن نجاح واكتمال “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا.

وأوضحت المصادر أن الهدف الأدنى المطلوب لإعلان النصر هو الاستيلاء الكامل على منطقة دونباس، وهو ما تكاد القوات الروسية أن تحققه بالفعل. ووفقا للتقديرات الأخيرة، لا تزال القوات الأوكرانية تسيطر على خمسة في المئة فقط من لوغانسك وأقل من نصف دونيتسك. ويبقى الهدف الأقصى للكرملين هو الاستيلاء على كييف.

تصعيد متواصل

وتواصل روسيا معركتها العسكرية في اوكرانيا، ونقلت وكالة “رويترز” عن حاكم إقليم لوغانسك سيرغي غايدي قوله إن قوات روسية “دخلت مدينة سيفيرودونيتسك الإستراتيجية، بعد محاولة استمرت أياما لمحاصرة القوات الأوكرانية، وذلك في ظل أكبر تقدم للقوات الروسية في منطقة دونباس منذ بدء الحرب آخر شباط/فبراير الماضي”.

وأضاف حاكم إقليم لوغانسك أن القوات الأوكرانية قد تضطر للانسحاب من المدينة وهي آخر مناطق سيطرتها في الإقليم، من أجل تجنب تطويقها أو وقوع عناصرها في الأَسر مع التقدم السريع الذي تحققه القوات الروسية بالمنطقة الشرقية.

وكانت قيادة أركان الجيش الأوكراني قالت أمس إن القوات الروسية بدأت هجومًا على مدينة سلوفيانسك (شمالي دونيتسك) كما أنها تحاول اقتحام خطوط الدفاع الأوكرانية وقطع خط الإمداد لمدينة سيفيرودونيتسك، قرب مدينة باخموت.

الى ذلك، اتهم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الغرب باعلان “حرب شاملة على العالم الروسي كله”. وقال لافروف في جلسة مجلس رؤساء المناطق الروسية لدى وزارة الخارجية الروسية: “أعلن الغرب حربا شاملة ضدنا وضد العالم الروسي كله، وهو لا يخفي ذلك”، مشيرا إلى أن ذلك بلغ حد العبثية. وحذر من أن الوضع الحالي مع “إلغاء” الغرب لروسيا سيبقى لفترة طويلة. 

ورأى أن الغرب لا يتخلى عن محاولاته إثارة الشجار بين شعوب الاتحاد السوفييتي السابق وذلك باستخدام تفسيرات مغرضة ومغلوطة للتاريخ.

————————–

غزو أوكرانيا… عودة إلى ما قبل 1945؟/ جورج عيسى

دخل الغزو الروسي لأوكرانيا شهره الرابع، مع مواصلة موسكو تركيزها على اجتياح منطقة دونباس. انطلقت المرحلة الثانية من الغزو أواسط أبريل (نيسان)، بعدما فشلت المرحلة السابقة في إطاحة حكومة كييف وتعيين نظام موالٍ للكرملين. اليوم، يبدو الروس في وضع أفضل عسكرياً بالنظر إلى مجموعة عوامل تصبّ في مصلحتهم. اعترف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بصعوبة الأوضاع الميدانية التي تواجهها قواته في دونباس، وطالب الغرب بالتوحّد على نطاق أوسع وبتسريع عملية تسليم الأسلحة الثقيلة إلى بلاده. بالمقابل، تبدو روسيا مصمّمة على استثمار كلّ إمكاناتها لتحقيق سيطرتها على شرق البلاد والجزء الأكبر من ساحلها الجنوبي.

من المرجّح أن يساعد ذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على حفظ ماء الوجه عبر تمكينه من ادّعاء تحرير المناطق الخاضعة لحكم “النازيين” في دونباس، حيث تضمّ هذه المناطق أغلبيّات متفاوتة من الناطقين باللغة الروسيّة. صحيح أنّ قسماً كبيراً من الشرق الأوكرانيّ بات يكنّ العداء لروسيا بفعل تداعيات الحرب، لكنّ السيطرة على تلك المناطق سيرفد الكرملين بالدعاية التي يحتاجها لترسيخ حكمه الداخليّ. في الوقت عينه، سيسعى بوتين أيضاً إلى توجيه ضربة لنظام ما بعد الحرب الباردة. لكنّه قد يعيد العالم، على مستوى بعض المفاهيم والممارسات، إلى ما قبل بداية تلك الحرب حين برز القطبان الأميركيّ والسوفياتيّ. ما ظنّ كثر أنّه سياسة تنتمي إلى عصور بائدة، أعيد إحياؤه فجأةً في 24 (فبراير) شباط الماضي.

حقبة جديدة – قديمة

بعد الحرب العالمية الثانية، اتّفقت القوى الكبرى ومعها الدول الناشئة حديثاً على ضرورة التوقّف عن تعديل الحدود الدولية بواسطة القوة. تقدّم أستاذة العلوم السياسية في جامعة مينيسوتا ومؤلّفة كتاب “موت الدول: سياسات وجغرافيا الغزو، الاحتلال، والضم” تانيشا فازال رؤيتها للتحوّلات الكبيرة التي طرأت على النظام الدولي قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، وتأثير حرب أوكرانيا على مستقبل العلاقات بين الدول. في العدد الحالي من مجلة “فورين أفيرز“، كتبت فازال أنّه منذ سنة 1816 وحتى 1945، كانت تختفي دولة واحدة كلّ ثلاثة أعوام كمعدّل عام، بفعل الاجتياحات والضمّ وتقاسم الأراضي. حدث ذلك مع الدول الواقعة بالقرب من جيران أقوياء أو حتى مع الدول التي لم تقم علاقات دبلوماسية مع الدول الاستعمارية الكبرى.

تغيّر الوضع بعد الحرب العالمية الثانية، بفعل تجذّر أعراف الامتناع عن الغزو لأسباب كثيرة، من بينها بروز قطبين عالميين وكلفة الحروب العالمية وبروز السلاح النووي وعدم وجود مصلحة مباشرة لدى بعض القوى في شنّ الغزوات. وراحت العولمة تتعزّز أكثر، الأمر الذي أمّن للدول منافع اقتصادية بكلفة أقلّ بكثير من تلك التي تؤمّنها الحروب. صحيح أنّه بين 1945 و1990، لم يتوقّف غزو الأراضي بالكامل، لكنّ الحروب كانت عموماً أكثر ميلاً إلى التدخّل في الشؤون الداخلية للدول من دون إعادة رسم الحدود (تدخّل السوفيات في المجر أو فيتنام في كمبوديا مثلاً). كانت محاولة احتلال العراق للكويت سنة 1990 أقرب صورة عن محاولة احتلال روسيا لأوكرانيا اليوم، بحسب رؤية فازال.

ما هي الآثار البعيدة المدى؟

رأت فازال أنّ الأنباء الجيّدة التي برزت بعد 24 فبراير تكمن في الغضب الواسع والسريع من الحرب الروسيّة، مع إعراب عدد من اللاعبين عن قلقه من تأثير سياسة بوتين على استقرار الحدود. تعترف فازال بأنّ الدفاع عن أوكرانيا، وبالتالي عن العرف السائد في ما يتعلّق بقدسية الحدود لا يستحقّ الدخول في صراع نوويّ مع الروس. لكن بالمقابل، إنّ نجاح روسيا في تحقيق مبتغاها سيهدّد الدول المحاذية للقوى الكبرى بالزوال. ومع انتفاء قدسيّة الحدود تبرز مشكلة أخرى في زيادة “وحشيّة” الحروب مع التهجير والتغيير الديموغرافي.

لكنّ الصورة ليست قاتمة كلياً بالنسبة إلى الأستاذة الجامعيّة. نصف الدول التي ماتت موتاً عنيفاً بعد سنة 1816، عادت إلى الحياة: “قلّة من الاحتلالات في التاريخ نجحت بتحقيق أهدافها السياسية الطويلة المدى”. وتابعت: “إذا تُرك الأوكرانيون كي يعيدوا إحياء بلدهم الخاص، فستكون النتيجة النهائية جيدة للأوكرانيين لكن ليست مشجّعة بالتحديد للعرف ضد الغزو الإقليميّ. كي تبقى الأعراف قوية، يجب معاقبة الانتهاكات”. وعلى المستوى الدولي، أضافت الكاتبة، أنّ من يطمحون كي يكونوا غزاة سيستنتجون درساً واضحاً: من الممكن الإفلات بغزو الأراضي من دون عقاب.

بين المصلحة والرّغبة

وفقاً لهذه الزاوية من التحليل، يبقى للغرب مصلحة كبيرة في إفشال مخطّط روسيا. لكنّ المصلحة ليست متجانسة بين التكتّل الغربيّ ككلّ. واضحة هي الخلافات بين فرنسا وألمانيا من جهة ودول أوروبا الوسطى والشرقية تجاه روسيا. فهاتان الدولتان غير المتخوّفتين من نزاع حدوديّ مع الروس ستنظران إلى هذا العرف الدوليّ بـ”قدسيّة” أقلّ من تلك التي تنظر إليها معظم دول حلف وارسو. حتى المجر بصفتها دولة عانت من الحقبة السوفياتية لا تزال تعارض فرض عقوبات على صادرات الطاقة الروسيّة، بالنظر إلى اعتماد اقتصادها الكبير على تلك الإمدادات، شأنها في ذلك شأن الاقتصاد الألمانيّ. وثمّة دول لا تنظر إلى ما يجري في أوكرانيا من بوّابة النزاعات الحدوديّة وحسب، على الرغم من أنّها تعاني من مخاوف مرتبطة كما هي الحال مع الهند.

وهنالك نقطة أساسيّة تتعلّق بقضيّة السلاح النوويّ. إذا كان بروز هذا السلاح أواخر الحرب العالمية الثانية قد شكّل عاملاً ساهم في ترسّخ عرف حماية الحدود الدوليّة من التعديل القسريّ، فقد أطلّ هذا العامل برأسه من البوّابة الأوكرانيّة كعامل مثير للتجرّؤ على انتهاك هذا العرف. لو لم تكن روسيا قوّة نوويّة لكان الردّ الغربيّ أقوى من ذلك على الأرجح. وثمّة المزيد. إنّ الخوف من اندلاع حرب نوويّة لا يدفع البعض إلى التحذير من انخراط عسكريّ أكبر في أوكرانيا وحسب، بل إلى التخلّي عن الدعم العسكريّ لأوكرانيا بالكامل. لعلّ مطالبة هيئة التحرير في صحيفة “نيويورك تايمز” قبول كييف بالتخلّي عن بعض الأراضي لمصلحة روسيا هو أبرز مثل على ذلك. أدّى هذا الأمر ببعض الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعيّ مقترحين على الصحيفة التنازل عن ولاية ألاسكا إرضاءً للروس. وتقدّم مفكّرون بارزون، مثل نعوم تشومسكي وهنري كيسنجر، بمقترحات مشابهة أيضاً، ما يشير إلى أنّ العرف في ما يخصّ حماية الحدود الدوليّة لا يتصدّر دوماً واجهة الأولويات في مقاربات حلّ النزاع. وثمّة مؤشّرات في الداخل الأميركيّ تظهر ولو لمحة عن تراجع نسبيّ في الدعم الشعبيّ لأوكرانيا. في (مارس) آذار الماضي، قال 42% من الأميركيين إنّ بلادهم لم تكن تقدّم ما يكفي من الدعم لأوكرانيا، قبل أن ينخفض هذا الرقم إلى 31% الشهر الحالي.

لا تعني هذه المؤشّرات أنّ الدول الغربيّة، أو أقلّه الدول الأكثر تشدّداً في مواجهة روسيا، ستتراجع بالضرورة عن دعم أوكرانيا لمصلحة إيجاد تسوية بين موسكو وكييف على حساب الحدود الأوكرانية. لكنّ مواصلة دعم أوكرانيا في الأشهر القليلة المقبلة قد لا تكون على المستوى نفسه من السهولة بالمقارنة مع ما كانت عليه في الفترة الماضية. وهذا ما ينطبق أيضاً على إمكانات روسيا في استدامة حربها. مجدّداً، مسار نهاية الحرب بين الطرفين لا يزال مبهماً.

النهار العربي

————–

لماذا لا تلبي أوروبا طلبات زيلينسكي؟/ سميح صعب

لا يزال الانقسام سيد الموقف في ما يتعلق بمسألة حظر الاتحاد الأوروبي استيراد النفط والغاز الروسيين. في مقدم المعترضين تأتي المجر التي وضعت شرطاً تعجيزياً على التكتل الأوروبي لتسهيل التوصل إلى قرار في هذا الشأن، وهو الحصول على 500 مليار دولار لجعل بنيتها التحتية تتكيف مع الفطام عن موارد الطاقة الروسية.

وإذا كانت المجر تتصدر الواجهة، فإن دولاً أخرى، تطالب بأن تعطى مهلاً أطول للاستغناء عن الغاز الروسي، أو المطالبة بتعويضات كبيرة ليس في مقدور الاتحاد الأوروبي تحمّلها.

وفي الوقت نفسه، تتعرض أوروبا لانتقادات حادة من جانب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لأنها لم تتوقف حتى الآن توقفاً كاملاً عن استيراد الغاز من روسيا من جهة، ومن جهة ثانية لأنها لا تزود أوكرانيا بعد بالأسلحة الثقيلة التي تطالب بها كييف، في وقت تزحف القوات الروسية على منطقة دونباس في الشرق الأوكراني. وقد عبّر زيلينسكي عن ذلك بوضوح في الكلمة التي ألقاها أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس خلال جلسته الافتتاحية قبل أيام. وباختصار قال زيلينسكي أريد أسلحة الآن وعقوبات أشد قسوة على روسيا.

وأكثر من مرة، ردد زيلينسكي مقولة أن تأخر الغرب في إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا وعدم الوقف الفوري لاستيراد الطاقة الروسية، هما السببان اللذان مكنّا موسكو من مواصلة هجومها على الأراضي الأوكرانية. وتصاعدت انتقادات المسؤولين الأوكرانيين بعدما ظهر أن العقوبات الغربية، رغم اتساعها غير المسبوق، لم تحدث الأثر المتوخى في جعل الاقتصاد الروسي ينهار ويحرم الكرملين من الموارد اللازمة لتمويل العمليات العسكرية في أوكرانيا.

وحتى الآن، يمكن القول إن الاقتصاد الروسي تمكن على الأقل من الصمود في مواجهه العقوبات، بينما ارتفع سعر الروبل في مقابل الدولار إلى مستويات هي الأعلى منذ سبعة أعوام، وذلك من طريق إجبار الدول الأوروبية المستوردة للطاقة الروسية على دفع ثمنها بالروبل بدلاً من الدولار.

ولم تكن طلبات زيلينسكي، المدعومة من الولايات المتحدة، سهلة التنفيذ من جانب الأوروبيين بالسرعة المطلوبة، من دون إلحاق أضرار بالغة باقتصاداتهم. وهذه هي علّة التأخير والتردد اللذين كانا سمة بعض المواقف الأوروبية ومنها ألمانيا، قبل أن تقبل بالتوقف الفوري عن استيراد الغاز الروسي، تحت الضغط الأميركي.

ومع ذلك، تبقى مسألة التوصل إلى اتفاق، رهن حصول كل طرف من الأطراف المعترضين على ما يرضيه.

وتعكس الخلافات عدم الحماسة الأوروبية للانخراط في حرب، كان من الممكن في نظر فرنسا وألمانيا حلّها بالطرق السلمية والحوار.

إن أخطر صراع تشهده أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، من البديهي أن يقود إلى انقسامات، في ضوء حسابات تجريها كل دولة لمدى انعكاسات أي قرار تتخذه، على مصالحها الوطنية.

وبين إلحاح زيلينسكي وحسابات بعض الدول الأوروبية لعدم الانزلاق أكثر في الحرب أو عدم المساهمة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بتمددها، تقف القارة مرة أخرى على أعتاب مرحلة مصيرية، تتنافر فيها المصالح وتختلف الرؤى للمستقبل.

وحلف شمال الأطلسي اليوم، هو أقوى مما كان عليه لعقود خلت، ويقدم نفسه على أنه الضامن للأمن الأوروبي، بينما تلاشت أحلام قادة أوروبيين بـ”الاستقلال” الأمني عن أميركا في المستقبل المنظور.

وهذه من الانقلابات الجذرية التي أحدثتها الحرب الروسية – الأوكرانية في التفكير الأوروبي. ومن اعتقدوا أن الحرب العالمية الثانية بكوارثها، كانت كفيلة بإقناع الجميع بعدم الاندفاع إلى كارثة أخرى، تبيّن لهم أن اعتقادهم هذا كان مجرد وهم تلاشى مع الطلقة الأولى في الحرب الجارية الآن.

النهار العربي

—————————

الغزو الروسي لأوكرانيا: أي حصيلة بعد ثلاثة أشهر؟ ما كان يفترض أن يكون غزواً شاملاً وسريعاً لأوكرانيا يتحول إلى غزو جزئي والقمح سلاح موسكو الجديد

آدم جابر

آلاف القتلى، وملايين الفارين، دمار، خراب، رعب، عقوبات وعقوبات مضادة، وتحالفات جيوسياسية.. ذاك هو المشهد بعد ثلاثة أشهر من الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا، والتي تدخل شهرها الرّابع وسط تكثيف الجيش الروسي لعملياته العسكرية بهدف السيطرة على منطقة دونباس، وتزايد المخاوف من أزمة أمن غذائي عالمية خطيرة.

مع بداية هجومها العسكري على أوكرانيا في الرابع والعشرين من شباط/فبراير الماضي، حققت القوات الروسية في البداية مكاسب سريعة في جنوب أوكرانيا. وكانت تهدف بشكل رئيسي إلى إنشاء ممر بري بين شبه جزيرة القرم، التي ضمتها في عام 2014 والمناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون المدعومون من روسيا في دونيتسك ولوغانسك. وسيطر الجيش الروسي منذ الأسابيع الأولى للصراع على منطقة خيرسون وجزء كبير من منطقة زابوريجيا. وكانت القوات الروسية تستهدف بشكل خاص جنوب غرب أوديسا، الميناء الكبير على البحر الأسود، ودنيبرو، في وسط البلاد، لكنها واجهت مقاومة شرسة من نظيرتها الأوكرانية في ميكولايف جعلتها تتراجع.

حاولت القوات الروسية أيضًا اختراق الغرب للوصول إلى كييف، لكن المقاومة الأوكرانية القوية في كييف أدت مرة أخرى إلى إبطاء التقدم الروسي بشكل كبير. وتمكنت القوات الأوكرانية من استعادة مناطق واسعة حول كييف في بداية شهر نيسان/ابريل الماضي، وذلك بعد أن تخلت موسكو عن اندفاعها نحو العاصمة الأوكرانية كييف، وكذلك نحو شمال شرق خاركيف. ومع ذلك، ما زالت القوات الأوكرانية تكافح لصد الروس الذين يحاولون دخول المنطقة.

معركة حاسمة في دونباس

أعادت روسيا بعد ذلك تركيز جهودها على السيطرة على شرق وجنوب أوكرانيا، لتستولي قواتها على مدينتي روبيزني وبوباسنا في الأسابيع الأخيرة، فيما تم دفع تقدمها نحو مدينة إيزيوم. وتحاول حالياً وبشراسة تطويق مدينة سيفيرودونيتسك، التي تشكل مع ليسيتشانسك، آخر جيب للمقاومة الأوكرانية في مدينة لوغانسك التابعة لإقليم دونباس، بحسب معهد دراسة الحرب «ISW» وتحاصرهما حاليا القوات الروسية مصعدة قصفها في الأيام الأخيرة، مؤكدة تصميمها على تحقيق «كافة أهدافها» وسط حديث القوات الأوكرانية عن صعوبة الوضع في إقليم دونباس، الذي يضم منطقتي لوغانسك ودونيتسك. وحذر الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي من مغبة أن «الأسابيع المقبلة من الحرب ستكون صعبة». ويرى مراقبون أن الهجوم الشامل الذي تشنه روسيا في محاولة للسيطرة على منطقتي دونيتسك ولوغانسك ومحاصرة القوات الأوكرانية في جيب على الجبهة الشرقية، قد يحدد مدى نجاح أو فشل الحملة العسكرية الروسية الرئيسية في شرق أوكرانيا.

وتجد سيفيرودونيتسك نفسها مهددة بمصير مدينة ماريوبول الساحلية الاستراتيجية الكبرى في جنوب شرق أوكرانيا على بعد 350 كيلومترًا شمال شرق شبه جزيرة القرم وحوالي مئة كيلومتر جنوب دونيتسك. استهدفت هذه المدينة التي يسكنها ما يقرب من 450 ألف نسمة وتقع على بحر آزوف، من قبل الجيش الروسي منذ الأيام الأولى للصراع. في بداية شهر نيسان/ابريل الماضي وصفت منظمة الأمم المتحدة المدينة بأنها «مركز الجحيم». وهو تعبير أكدته صور آخر المقاتلين الراسخين في مصنع آزوفستال. بعد ثلاثة أشهر من تعرضه للقصف بالقنابل، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إنه «لم يعد هناك مبنى غير متضرر» في هذه المدينة، التي دمّرت بالفعل بالكامل، قبل أن تصبح تحت سيطرة الروس بعد حصار استمر لأسابيع وقتال شرس، أجبر في النهاية الجنود الأوكرانيين الذين كانوا متحصنين في مصنع آزوفستال للصلب بماريوبول إلى الاستسلام أخيرًا «للعدو». وباتت روسيا حاليا تسيطر على الساحل بأكمله لبحر آزوف.

«جزيرة الثعبان» تحت الرادار

وبعد سقوط ماريوبول، قد تسعى روسيا إلى تعزيز مكاسبها الإقليمية في جسر بري يربط الأراضي الروسية بشبه جزيرة القرم، كما أنها تواصل جهودها لتعزيز قواتها في جزيرة الثعبان الأوكرانية بالبحر الأسود، على الرغم من الضربات الجوية الناجحة التي شنتها القوات الجوية الأوكرانية الأسبوع الماضي، حيث أعلنت وزارة الدفاع الأوكرانية أنها دمّرت سفينة إنزال روسية ومنظومة صاروخية مضادة للطائرات من نوع «تور-إم2» خلال نقلها إلى الجزيرة. وبالنسبة للطرفين فإن هذه الجزيرة تعد نقطة ذات أهمية استراتيجية للغاية، في البحر الأسود، ما يسمح لكليهما بتشكيل تهديدات خطيرة ولكن أيضًا مكشوفة بشكل خاص، وهاجمها الجيش الروسي منذ اليوم الأول للصراع للاستيلاء عليها. ويقول مصدر من وزارة الدفاع البريطانية، إذا نجحت روسيا في تعزيز مواقعها على الجزيرة، «فقد تسيطر على الجزء الشمالي الغربي من البحر الأسود».

وفي محاولته الوصول إلى قلب العاصمة كييف التي باءت بالفشل تمكن الجيش الروسي من السيطرة على بلدات بضواحيها انتهت بالانسحاب منها. لكن بلدة بوتشا الصغيرة الواقعة في ضواحي العاصمة الأوكرانية أصبحت رمزًا للفظائع المنسوبة إلى روسيا، لاسيما بعد نشر وسائل إعلام دولية العديد من الصور التي التقطت في المدينة، وتظهر جثثًا في الشوارع، بعضها مقيد الأيدي خلف ظهورهم أو محترقة جزئيًا، بالإضافة إلى مقابر جماعية. ووثقت الأمم المتحدة مقتل العشرات من المدنيين. وقد نفت موسكو مسؤوليتها عن هذه الفظائع، متحدثة عن «فبركة». وكذلك الحال بالنسبة لبلدة بورودينكا، القريبة من كييف التي كانت مسرحاً لـ «مجازر مدنية» خلال شهر آذار/مارس عندما احتلت القوات الروسية البلدة. وقالت الشرطة في العاصمة الأوكرانية إنه تم العثور على جثث تسعة مدنيين ظهرت على بعضها «آثار تعذيب».

عقوبات وعقوبات مضادة

بعد مرور ثلاثة أشهر من الحرب، تواصل واشنطن وحلفاؤها الغربيون، في مقدمتهم الاتحاد الأوروبي، سياسة العقوبات ضد موسكو، مقابل الاستمرار في تقديم الدعم لكييف. واتخذت الدول الغربية إجراءات سريعة لفرض عقوبات على روسيا وأيضاً لمساعدة أوكرانيا. وأعلنت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن عن سلسلة من العقوبات الاقتصادية التي تستهدف البنوك والنخب والصادرات الروسية، والتي يعتقد جو بايدن أنها ستجعل فلاديمير بوتين «منبوذًا على الساحة الدولية». واستمر توازياً مع ذلك الدعم الأمريكي لأوكرانيا، والذي كانت أحدث حلقاته المساعدة المالية الضخمة الأمريكية بقيمة 40 مليار دولار.

وحذت بريطانيا حذوها من حيث دعم كييف وفرض العقوبات ضد موسكو، بما في ذلك حظر طيران إيروفلوت وفرض عقوبات على البنوك ورجال الأعمال الروس. كما فُرضت عقوبات قاسية على الرياضة الروسية…إلخ. من جانبه، وافق الأوروبيون على عقوبات «ضخمة» ضد موسكو، تستهدف قطاعات المال والطاقة والنقل. فهذا الصراع الذي يدور على أبواب الاتحاد الأوروبي، له آثار مباشرة على أراضيه. ويتواجد غالبية اللاجئين الأوكرانيين في الدول الأعضاء، وما زالت مسألة الاعتماد على الوقود الأحفوري الروسي تقسم الدول الــ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهي مسألة تسعى واشنطن إلى استغلالها، حيث يمثل الغزو الروسي فرصة جيو-اقتصادية للأمريكيين في الأسواق الأوروبية، لاسيما في قطاع الغاز.

في المقابل، ضاعف فلاديمير بوتين العقوبات المضادة. وقررت السلطات الروسية تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل من خلال تبني عقوبات تستهدف الشخصيات الغربية، مثل جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو والعديد من أعضاء حكوماتهم. بالإضافة إلى ذلك، قاموا بفرض عقوبات اقتصادية وتجارية مضادة ضد «الدول غير الصديقة» مثل حظر تصدير بعض المنتجات الزراعية وحتى معدات الطيران (والتي، على المدى الطويل، ستعيق وصول الأوروبيين إلى الفضاء) والتزام الدفع بالروبل من الدائنين الأجانب وتعليق شحنات الغاز إلى عدة دول أوروبية.

بوتين يقوي الناتو

ويبدو أن الرئيس الروسي، من خلال شنه الحرب على أوكرانيا، قام بإعادة ترتيب تتعارض تماماً مع أهدافه، من خلال تقويته للتحالف الغربي الذي أراد إضعافه. فقد نجحت الولايات المتحدة، إلى حد كبير، في توحيد الصف الغربي ضد موسكو، بما في ذلك داخل حلف الناتو، الذي كانت هذه الحرب محركاً لبعض الدول لطلب الانضمام إليه. فها هي فنلندا والسويد تتحركان للحصول على العضوية في الحلف الأطلسي «الناتو» بعد أن رفضتا القيام بذلك طوال الحرب الباردة وفضلتا الوقوف على الحياد، في ظل التساؤلات حول التوازنات الجيوسياسية التي أثارتها هذه الحرب. وقد تصبح هذه الترشيحات سارية المفعول في غضون عام. وتؤكد هذه الخطوة أن المأساة الأوكرانية، بالإضافة إلى السابقة الجورجية، غذت المخاوف المشروعة في وارشو وهلسنكي، وعجلت بهذا التطور الكبير في شمال أوروبا. لذلك كانت الخطوة الفنلندية – السويدية موضع ترحيب من قبل الدول الأعضاء في حلف الناتو والتي أيدت توسيع الحلف، باستثناء تركيا، التي عبرت عن رفض يرتكز على مخاوفها الداخلية، وليس للمعطى الجيوستراتيجي الجديد الذي يلوح في الأفق.

الضحايا: تضارب الأرقام

ما يزال من الصعب للغاية الحصول على فكرة دقيقة عن عدد القتلى والجرحى بسبب هذا الصراع ولا يوجد تقييم شامل حتى الآن. استمرار القتال على الأرض يمنع المنظمات من إجراء التحقيق، كما أن حرب الاتصالات التي تدور رحاها بالتوازي مع الغزو تجعل من الصعب التحقق من المعلومات المتسربة. وقضى آلاف المدنيين والعسكريين بدون أن تتوافر حصيلة دقيقة للوفيات بالأرقام. وفي مدينة ماريوبول وحدها، تفيد السلطات الأوكرانية بسقوط عشرين ألف قتيل. فبينما لم تقدم أوكرانيا أي مؤشر على خسائرها العسكرية، اعترف الكرملين من جهته بحدوث «خسائر جسيمة» ورجحت مصادر غربية مقتل 12 ألف جندي، وهي حصيلة قريبة من التي سجلت في صفوف الجيش السوفييتي خلال تسع سنوات من النزاع في أفغانستان.

أدت الحرب أيضًا إلى زعزعة توزيع السكان: فقد نزح أكثر من ثمانية ملايين أوكراني داخل بلادهم، وفقًا للأمم المتحدة. يضاف إلى ذلك 6.5 مليون شخص فروا إلى الخارج، أكثر من نصفهم 3.4 مليون، إلى بولندا، وفقًا لمكتب مفوض اللاجئين في جنيف، الذي يشير مع ذلك إلى أن تدفق المغادرين جف إلى حد كبير على مدى الأسابيع وحتى على العكس. ومع ذلك، ما يزال الرصيد الإجمالي سلبيًا إلى حد كبير مع 6.3 مليون مغادر مقابل 1.85 مليون عائد، وفقًا لحرس الحدود.

سلاح القمح

من جهة أخرى، أدت الحرب الروسية في أوكرانيا إلى زيادة المخاوف من حدوث أزمة أمن غذائي عالمي خطيرة تؤثر بشكل خاص على البلدان الأشد فقراً. فالبلدان يعدان المزودين الرئيسيين للسوق العالمية بالقمح والذرة وعباد الشمس. وتشهد أوكرانيا، المصدر الرئيسي للحبوب، توقف إنتاجها بسبب الصراع، الذي أدى إلى إغلاق موانئ البحر الأسود، والموانئ الرئيسية لصادرات الحبوب الأوكرانية، ما تسبب في ارتفاع مستمر لأسعار القمح في أنحاء العالم. على سبيل المثال، ارتفع سعر القمح إلى أكثر من 400 يورو للطن في سوق باريس مقابل 280 يورو قبل الحرب.

روسيا، من جانبها، ومع أن العقوبات الغربية قوضت إنتاجها بسبب تأثيرها على القطاعات المالية واللوجستية، إلا أنها استمرت في إنتاج الحبوب وبيعه في الخارج بأسعار مرتفعة، إلى دول مثل تركيا أو إيران وغيرها، لتبدو الرابح الأكبر من أزمة الغذاء هذه التي تسببت فيها جزئيًا منذ غزوها لأوكرانيا منافستها الرئيسية في أسواق الحبوب العالمية. ساعدها في ذلك أيضا، دعم الارتفاع في الأسعار من جراء سوء الأحوال الجوية، ما قلل من إمكانات الإنتاج في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية والهند. وللتذكر، جمعت موسكو بالفعل 1.9 مليار دولار منذ ايلول/سبتمبر من ضرائب تصدير القمح وحدها.

وقال ديفيد بيزلي، رئيس برنامج الغذاء العالمي، يوم الاثنين الماضي، في منتدى دافوس الاقتصادي، إن «عدم إعادة فتح الموانئ هو إعلان حرب على الأمن الغذائي العالمي». فعشرة ملايين طن أخرى محاصرة في موانئ البحر الأسود، والقوات الروسية ليست في عجلة من أمرها لإعادتها إلى السوق الدولية. وفي نهاية الأسبوع، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه مستعد للتصدي لأزمة الغذاء من خلال تصدير القمح والأسمدة بشرط رفع العقوبات عن بلاده، مستخدماً بذلك القمح كرافعة جيوسياسية، وهو ما رفضته الولايات المتحدة الأمريكية، مشددة على أنه «لا توجد عقوبات تمنع تصدير القمح أو الأسمدة».

——————————

هل تسحب روسيا قواتها من سورية؟/ فاطمة ياسين

مع إطالة مدّة الحرب المشتعلة في أوكرانيا، بدأت تصريحات وتحليلات توحي بأن القوات الروسية الموجودة على الأرض السورية قد بدأت بالتململ، وتزامن ذلك مع بدء تحرّكات على الأرض تفيد بأن بعض هذه القوات يتحضّر للرحيل، وبعضها قد اتخذ العدّة كاملة للمغادرة على الفور، فصدرت عن ملك الأردن، عبد الله الثاني، تخوّفات من انفلات الوضع في الجنوب السوري، ما يؤدّي إلى سيطرة للمليشيات التابعة لإيران فيما لو غادر الروس، وأٌعلنَت بالفعل مصادرة شحنة مخدّرات كانت متجهة إلى الأردن. جاءت المؤشّرات الأخرى من الشمال في ريف اللاذقية، فقد قيل إن قوات روسية غادرت بعض نقاط تمركزها في جبل التركمان. تدرك روسيا أن وجودها في سورية هو الضمان الوحيد للأسد، فقد سبق أن تدخل الروس، في اللحظة الأخيرة، لإبقائه. والآن، مع ازدياد مساحات الاشتعال في أوكرانيا واستهلاك مقدّرات روسيا، هل يمكن أن تتخلّى روسيا عن مشروعها الذي استثمرت فيه سياسياً وعسكرياً واقتصادياً في سورية، لتركّز عملها الأساسي وتدعم مركزها في أوروبا؟ قد لا يبدو هذا الخيار معقولاً أو منطقياً الآن، رغم تداول تلك التقارير معلوماتٍ عن مغادرة الروس. وهناك في المقابل مؤشّرات عملية تفيد بأن روسيا لم تتخلَّ عن حلمها بوضع قدم دائمةٍ على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط.

على جانب آخر، اعتادت إسرائيل أن تتحرّك في الأجواء السورية بحرّيةٍ تامة، بعد التوغل الإيراني هناك، فإسرائيل تطلق الصواريخ العابرة للحدود، وتحلق طائراتها فوق الأجواء والأهداف السورية الإيرانية، من دون أدنى اعتراض من أحد. وقد يصل الأمر إلى التفاهم الكامل بينها وبين الروس، لتنسيق مثل هذه الضربات. وعلى الرغم من كثافة الهجمات الإسرائيلية، تتعايش جميع القوات داخل سورية مع هذه المعادلة، وتتفهمها وتدرك محتواها، وتلزم حدودها تجاهها، وقد نفذت إسرائيل خلال العام الحالي وحده سبع ضربات جوية متنوعة بالصواريخ الموجهة أو الطائرات. الاستثناء الوحيد الذي حدث أخيراً، أن روسيا، بشكل شاذ، قد شغّلت بطاريات صواريخ موجهة نحو الطائرات الإسرائيلية المهاجمة، ومن المؤكد أن روسيا ليست في وارد الدفاع عن منشآت أو تجمعات قوات إيرانية في سورية، ولا افتعال مواجهة غير مضطرّة إليها حالياً. أما الصاروخ الذي أطلقته، فهو رسالة إلى كل من يهمه الأمر، ومنهم إسرائيل، بأنها موجودة على الأرض، وتستطيع أن تطلق الصواريخ. ويُفهم منه أيضاً أن روسيا تنوي البقاء. وهنا ليس على إسرائيل أن تقلق أو ينتابها التردّد من هجماتها على إيران، فهذه الهجمات من غير المتوقع أن تتوقف، ولكن إسرائيل ستأخذ في اعتبارها أن روسيا موجودة بشكل فعّال ومؤثر.

أرادت روسيا أن تؤكّد مشروعها في سورية الذي بدأ بإرسال الطائرات، ثم بالمساندة بالقصف والتدمير لتثبيت الأسد، وأنه لا يتعارض مع مشروعها في أوكرانيا. ويبدو أنها التقطت بعض اللغط الدائر بشأن وضعية قواتها في سورية، فخرج وزير خارجيتها، في مقابلة مع قناة روسيا اليوم، ليقول إن روسيا باقية في سورية. وعن عدد قواتها المتغير، قال إن القوات تحدّدها المهمات على الأرض. وأفاد بأن جيش النظام يقوم بمهماتٍ أكبر في مجالات الأمن، ويقتصر الدور الروسي على الدعم، ولم ينسَ، بالطبع، أن يقول إن الجيش الروسي موجودٌ بطلب من حكومة سورية “الشرعية”. ألمح لافروف إلى نوعٍ من مبادلة القوات، أو نقلها مؤقتاً من سورية، ولكنه أكد هدفها النهائي بالبقاء. فروسيا، بنظامها الاقتصادي والعسكري والسياسي الحالي، ما زال لديها القدرة على تحمّل مزيدٍ من الخسائر، وقد حوّلت حربها الحالية إلى شأن قومي لكسب الشارع. والملفان في سورية وأوكرانيا يخدمان قضية واحدة بالنسبة إلى بوتين، محاولة القفز على الواقع، وإثبات أن روسيا يمكن أن تكون قوة عالمية حاسمة كما كانت من قبل.

العربي الجديد

—————–

مستجدات المشهد السوري!/ أكرم البني

يصح القول إن المشهد السوري، الذي بات مرتهناً بشدة للعوامل الخارجية، هو الأكثر عرضة للتأثر بما يطول العالم من مستجدات ومتغيرات، ربطاً بانعكاس تلك المتغيرات على مواقع الأطراف الفاعلة فيه وأدوارها.

أولاً، ما يخلفه انشغال موسكو في الحرب على أوكرانيا من تأثير في دورها ووزنها في سوريا، خصوصاً بعد تعثرها وعدم نجاحها في تحقيق انتصار سريع وغير مكلف هناك، إن لجهة اهتزاز الثقة بها كحليف كان يعتبر كلي القدرة بين قطاع واسع من السوريين، وفي أوساط السلطة الحاكمة، وإن لجهة انحسار قدرتها على المناورة والتقرير في حقل تنافسها مع الجهات المتدخلة في الصراع السوري، كما تراجع إمكاناتها لمد النظام بما يحتاج إليه من دعم إسعافي لتخفيف حدة أزمته الاقتصادية والاجتماعية، والأهم ما يثار عن اضطرارها لإعادة نشر قواتها في سوريا، وسحب بعض قطعاتها العسكرية من مواقع كانت تعد استراتيجية، في ريف دمشق ودير الزور ودرعا والسويداء، ربما للاستعانة بها، وبما راكمه جنودها وضباطها من خبرات ميدانية، في حربها على أوكرانيا.

ثانياً، الفرصة التي باتت متاحة أمام إيران وميليشياتها لملء الفراغ الذي يتركه إعادة الانتشار الروسي، فضلاً عما قد يصيب معادلة تنازع النفوذ على الاقتصاد السوري بين طهران وموسكو من تغيير لصالح تقدم الأولى وتراجع وزن الثانية، ما يفسر توقيت زيارة رأس النظام إلى طهران لاستجرار موافقتها على خط ائتماني جديد، أساسه قرض بفائدة ميسرة لسد العجز المالي للدولة وقدرتها على توفير الأجور والمواد الأساسية والسلع المعيشية، وسيكون المقابل، بلا شك، منح إيران امتيازات اقتصادية جديدة في سوريا ليس فقط في التجارة والصناعة وتمليك الأراضي، وإنما أيضاً في موارد البلاد وثرواتها الطبيعية، والأسوأ إن تم إحياء الاتفاق النووي، حيث سيوفر رفع العقوبات عن طهران مزيداً من الموارد لتعزيز نفوذها الإقليمي ودورها في سوريا على حساب دور موسكو، التي بدأت تعاني، مالياً واقتصادياً، من وطأة تشديد العقوبات الغربية عليها، هذا من دون أن نغفل انعكاس كل ذلك في تفعيل الأنشطة الاقتصادية غير الشرعية لشبكة بغيضة يتعاضد فيها، ضباط أمن ورجال أعمال مرتبطون بالنظام السوري مع ميليشيات حزب الله والحرس الثوري لتهريب الآثار وتوسيع تجارة المخدرات (الحشيش وحبوب الكبتاغون).

ثالثاً، انعكاس موقف الحكومات الغربية المتشدد من قيادة الكرملين، بتشدد موازٍ من حليفها نظام دمشق، بما يفضي ربما إلى نهاية مرحلة كان فيها الغرب يسلم لموسكو إدارة الملف السوري، ويكرّس عملياً الاستمرار في عزل النظام وتعزيز العقوبات المتخذة ضده، كما تثبيت الاشتراطات الغربية حول الانفتاح وإعادة الإعمار جنباً إلى جنب مع مقارعة المبادرات السياسية التي راهنت موسكو عليها لترتيب البيت السوري، كاتفاقات سوتشي والآستانة وإفشالها، بدليل ضحالة الاهتمام أو الرهان عموماً على نتائج ذات قيمة يمكن أن يفضي إليها مؤتمر الآستانة المرتقب، كما تصعيد المطالبة الأميركية ليس فقط بأولوية تنفيذ القرارات الأممية وإذعان النظام للتسوية السياسية، بل بضرورة مساءلته ومحاسبته على ما ارتكبه من مجازر وجرائم، وأيضاً التصريح الحاسم لمسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي على هامش مؤتمر بروكسل للدول المانحة لسوريا بأن «الاتحاد ملتزم عدم المساهمة في إعمار سوريا، وعدم رفع العقوبات، وعدم إقامة علاقات دبلوماسية مع النظام السوري، ما لم يتم إنجاز انتقال سياسي حقيقي وشامل وجاد وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254 الصادر عام 2015».

رابعاً، انعكاس جديد الموقف الغربي من النظام ومن تنامي التغلغل الإيراني في سوريا على مواقف عربية أبدت بعض المرونة في التعاطي مع النظام السوري، ما يؤكد، مرة أخرى، أوهاماً ولنقل عدم جدوى التعويل على فك ارتباط هذا النظام مع طهران، ويمكن أن تدرج في هذا السياق تصريحات ومواقف لغير سياسي ومسؤول عربي، يعبر فيها عن القلق والتحسب من مثالب تعميق التلاحم السوري الإيراني، ومن ضمنها موقف أردني، استهجن ميل قادة النظام والميليشيات الإيرانية، لاعتبار مبادرات التطبيع مع دمشق بوادر ضعف أو استسلام لواقع الحال المفروض في سوريا، كذا! وحذر بشدة من مخاطر اقتراب الحرس الثوري وحزب الله اللبناني من حدود الأردن الشمالية ومحاولتهما استباحتها لتنشيط عمليات تهريب المخدرات، وقد شهدت الأسابيع القليلة الماضية تكرار الاعتداءات على الجيش الأردني واشتباكات عدة مع المهربين، تم خلالها قتل بعضهم، ممن يحسبون على حزب الله اللبناني ومصادرة كميات كبيرة من الحشيش وحبوب الكبتاغون.

خامساً، بدأ يتضح استعداد أميركي للبقاء فترة طويلة في سوريا وتعزيز ذلك بتوفير حاضنة اجتماعية واقتصادية له، بدليل مسارعة واشنطن لتوسيع انتشار قواتها في مناطق جديدة من شرق سوريا، ثم مبادرتها لإعفاء أو استثناء مناطق الإدارة الذاتية الكردية وبعض مناطق سيطرة المعارضة السورية من مفاعيل العقوبات الأميركية، حيث أخرجت من قائمة العقوبات قطاعات الزراعة والاتصالات والبنية التحتية والبناء والنقل، إضافة إلى قطاعات متعلقة بالخدمات الصحية والتعليم والتصنيع والتجارة، وكذلك سمح الاستثناء بشراء المنتجات البترولية المكررة ذات المنشأ السوري وتنشيط الاستثمارات الأجنبية في تلك المناطق.

سادساً، جديد ما يشهده اللاجئون السوريون في تركيا على مشارف انتخاباتها العتيدة، وقد أصبحوا مادة للجدل في حلبة التنافس بين الحكومة والمعارضة، وبينما أظهرت بعض رموز الأخيرة إشارات عدائية حول حقوق اللجوء للسوريين، سارعت حكومة أنقرة لتجديد مطالبتها بدعم غربي لمشروع إقامة منطقة آمنة في القطاع الذي تسيطر عليه لاستيعاب مليون لاجئ سوري، ربطاً بما يثار عن احتمال قيامها بعملية عسكرية جديدة لتوسيع هذا القطاع، يحدوها صمت أميركي وتصعيد كردي ضد المنطقة الآمنة على أن غايتها محاصرة الوجود الكردي، وتغيير التركيبة السكانية للمنطقة ووضع بذور خلافات وصراعات بين اللاجئين والسكان الأصليين.

استدراكاً، وفي ظل ما سبق من مستجدات، يصح القول إنه لا استقرار في الأفق السوري ولا حلول، بل يرجح أن يكتنف المشهد المزيد من الضياع الوطني، والمزيد من التشتت والتمزق الاجتماعي والتردي الإنساني والاقتصادي، والأسوأ، المزيد من الصراعات الدموية المجانية بين أجندات خارجية لتقاسم النفوذ وتحسين المواقع، ربما حتى آخر سوري!

الشرق الأوسط

———————————-

سوريا: حالة طوارئ إقليمية!

رأي القدس

ازدحمت الأنباء المتعلقة بسوريا في الأيام الأخيرة الماضية، بجملة من الوقائع والتصريحات المنذرة بتطورات عسكرية أو أمنية، صادرة عن الدول المجاورة للبلد أو الرعاة الإقليميين والدوليين الكثر للجيوش والميليشيات والكيانات المتحاربة / المتعايشة على الجغرافيا السورية.

يعكس الأمر، بداية، فشلا مستداما في إدارة الدولة السورية، التي حولها النظام إلى رهينة تحكمها طغمة عائلية تبادل سيطرتها على جزء من البلد بالرضوخ لاحتلالات ودوائر نفوذ أجنبية، وبتحويل عمليات القتل والخطف والتعذيب والسجن، كجزء من الاقتصاد الأسود للنظام، وذلك قبل أن يصعد نفوذ اقتصاد المخدرات، الذي يعد موردا رئيسيا للنظام، وانضاف إليها، في السنوات الأخيرة، عمليات شحن المرتزقة للقتال في بلدان أخرى.

عكست التبعية الخارجية نفسها على انتماءات الفرق العسكرية التي كان لها دور ضارب في القمع وإعادة احتلال المناطق المتمردة، كالفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، المحسوبة على إيران، و«قوات النمر»، التي يقودها سهيل الحسن، المحسوبة على روسيا، إضافة إلى الميليشيات العراقية واللبنانية، المحسوبة أيضا على إيران، والعصابات المحلية التي تتبع الطغمة الحاكمة.

تشير التطورات الإقليمية الأخيرة إلى أن النظام بدأ التحول من دولة فاشلة إلى مارقة، تعمل مع حلفاء لها في لبنان على تهريب المخدرات عبر الحدود المجاورة، نتيجة الانهيار الكبير الذي حاق بالاقتصاد السوري بسبب الحل التدميري الشامل الذي اتبعه النظام وحلفاؤه تجاه مجمل المحافظات والمناطق السورية التي تمردت عليه، وسيطرة حزب «العمال الكردستاني» على المناطق الغنية بالنفط والحبوب في الحسكة والقامشلي ودير الزور، والعقوبات الدولية الصارمة على النظام.

أدت إدارة النظام لعمليات تصنيع وتهريب المخدرات إلى «تنسيق» بين القوة العسكرية التي تملكها هذه الإدارة وهذا «الاقتصاد الناشئ» للمخدرات، كما أدت عمليات تصدير «الفائض» العسكري، نتيجة أوضاع عالمية، كما هو حاصل حاليا في أوكرانيا، إلى مضاعفات إقليمية ودولية، واكتسب ذلك على الحدود الأردنية (باعتبارها الطريق البرية نحو السعودية ودول الخليج العربي)، خطرا مزدوجا للسلطات في عمان: تسويق المخدرات عبر أراضيها، ودخول ميليشيات محسوبة على إيران على خط التهريب هذا.

إضافة إلى استيراد القوة الروسية والإيرانية، استخدم النظام، مع بدء انتشار المظاهرات والاعتصامات والانشقاقات العسكرية ضده إلى طرف تركي متمثل بـ«حزب العمال الكردستاني»، حيث أمن له السيطرة على مناطق واسعة للكرد فيها وجود، إضافة إلى العرب وأقليات إثنية ودينية، وساهم ذلك في إنهاء سياسة تقارب حزب «العدالة والتنمية» الحاكم وحلفائه مع الحزب، كما كان سببا إضافيا لتدخل الدولة التركية داخل سوريا، حيث بسطت نفوذها أيضا على مناطق شمال سوريا.

أدت الديناميات الداخلية والخارجية، وظهور تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى ظهور تحالف أمريكي ودولي ضده في سوريا والعراق، وبعد معارك شاركت فيها المعارضة السورية ضد التنظيم، وخسرت فيها آلاف المقاتلين، اعتمدت واشنطن وحلفاؤها حزب «العمال الكردستاني» التركي، حليفا عسكريا رئيسيا لها في سوريا، ودعمت ذلك بقوات وقواعد أمريكية على الأرض، ما أدى إلى توتر دائم بين تركيا وأمريكا، على مر الإدارات الأمريكية التي تعاقبت.

مع ازدياد أهميتها في حلف «الناتو» بسبب الوضع الحالي في أوكرانيا، وانشغال الغرب بتأمين آليات صد الغزو الروسي، وتأمين دخول السويد وفنلندا للحلف، وجدت تركيا الوضع ملائما لتطبيق خطتها التي تم حظرها من قبل واشنطن مرات عديدة، بتوسيع المنطقة الآمنة التي تسيطر عليها داخل سوريا، وخصوصا لعدم التزام الولايات المتحدة بمذكرة التفاهم مع أنقرة عام 2019 والتي كان من بنودها انسحاب وحدات الحزب إلى مسافة 30 كيلومترا من الحدود التركية الجنوبية.

غير أن أمريكا جددت تحذيرها من أن التوسع التركي «سيقوّض الاستقرار في المنطقة ويعرّض القوات الأمريكية وحملة التحالف على تنظيم الدولة الإرهابي للخطر»، ومجمل هذه الوقائع تعني أن إشارة المرور الخضراء الأمريكية مفتوحة في سوريا، لطرف تركي معارض، هو «حزب العمال الكردستاني»، وإشارة المرور الحمراء مغلقة أمام الدولة التركية.

لا يجب أن ننسى أن إشارة المرور الخضراء إلى سوريا مفتوحة لإسرائيل.

القدس العربي

———————

دورة حياة “الروبل القوي”/ إياد الجعفري

في سوريا، حيث تنتشر صور فلاديمير بوتين إلى جانب بشار الأسد، في الكثير من شوارع المدن الخاضعة لسيطرة النظام، سيكون من المثير للسخرية أن تطرح على أحدهم، الروبل الروسي، بوصفه أحد الملاذات الآمنة التي يلجأ إليها السوريون لحفظ قِيَمِ مدخراتهم. كما سيكون من المثير للسخرية أيضاً، أن تتحدث عن مزايا استثمارية، للعملة الروسية.

وفي هذا السياق، قد يكون من المفيد التذكير بالفكرة التي أطلقها صناعي سوريّ –عاطف طيفور- مطلع آذار/مارس المنصرم. حينما دعا إلى اعتماد الروبل الروسي كعملة رئيسية للتبادل التجاري والحوالات والسياحة والبدلات والحسابات المصرفية. بل ذهب إلى أبعد من ذلك، ودعا إلى رمي الدولار واليورو في أقرب مكب نفايات. وبعد حوالي ثلاثة أشهر على تلك الدعوة الغرائبية، لم يُسجل أي تجاوبٍ معها، لا من جانب قطاع الأعمال السوري، ولا من جانب البنوك العاملة في سوريا، ولا حتى من جانب حكومة النظام، ذاتها، التي ما تزال تعتمد الدولار الأمريكي، بوصفه العملة الرئيسية التي يدفع بها المغتربون في السفارات، لقاء المعاملات والأوراق الرسمية التي يضطرون للحصول عليها من هناك.

ورغم أن الواقع في سوريا، يكذّب التنظير في وسائل الإعلام، لصالح ما بات يُعرف بـ “الروبل القوي”، إلا أننا يجب أن نقرّ أن هذا الترويج لنجاح روسيا في مواجهة العقوبات الغربية، لا ينحصر في البلدان التي تدور في الفلك الروسي. بل نجده في أقلام اقتصاديين، من المفترض أنهم محايدون، يتحدثون عن “قدرة لا محدودة على التحمل” أثبتها الاقتصاد الروسي في الأشهر الأخيرة. وصولاً إلى استنتاجات مؤدلجة، تتحدث عن نهاية عصر الدولار الأمريكي، وانهيار أوروبا العجوز، ونهوض المارد الروسي من جديد.

ولم يسلم حتى الإعلام الغربي، من موجة الإعجاب بقدرة روسيا على تجنب أثر العقوبات غير المسبوقة عليها، بل وإظهار مؤشرات تعافٍ وقوة، تمثلت بصورة رئيسية، في صعود قيمة عملتها المحلية، حتى وصفها تقرير لشبكة “سي بي إس” الأمريكية، بأنها العملة الأفضل أداءً في العالم، منذ بداية العام الجاري.

وفي خضم موجة الانبهار تلك، بـ “الروبل القوي”، من المفيد التساؤل: هل هو نتاج ظروف حقيقية أم مصطنعة؟، وهل هو مؤقت بدورة حياة قصيرة، أم سيفرض نفسه –بالفعل- كعملة عالمية؟ يتطلب ذلك، مناقشة الأسباب التي جعلت الروبل “قوياً”، وتقييم مدى ديمومة هذه الأسباب.

أصبح الروبل “قوياً”، لجملة أسباب، من أبرزها، مضاعفة سعر الفائدة في بداية الحرب، وارتفاع أسعار النفط والغاز، وفرض روسيا بيع الغاز بالعملة المحلية على الدول “غير الصديقة”. إلى جانب الضوابط الصارمة على حركة رأس المال الأجنبي وعلى بيع الروبل وشراء القطع الأجنبي، في الداخل الروسي، ناهيك عن إلزام المصدّرين بتحويل 80% -أصبحت الآن 50%- من إيراداتهم من القطع الأجنبي إلى الروبل. وهو إجراء شبيه بإلزام المصدرين ببيع 50% من القطع الأجنبي المتوفر لديهم من عمليات التصدير، بالسعر الرسمي، للمركزي السوري.

هذه الإجراءات، والتي هي قسرية ومُصطنعة –باستثناء ارتفاع أسعار النفط والغاز-، أدت إلى زيادة الطلب على الروبل. لكن استمرار هذه الإجراءات لأمد طويل، له آثار سلبية تفوق تلك الإيجابية. وفي هذا الصدد، قدّم الخبير ووزير الاقتصاد السوري الأسبق، نضال الشعار، قراءة مثيرة للاهتمام. والشعار يحمل دكتوراه فلسفة في علم الاقتصاد النقدي والدولي من جامعة جورج واشنطن الأمريكية. وبهذا الصدد، طرح الرجل تساؤلين مهمين: ماذا سيفعل المركزي الروسي بتريليونات الروبلات الروسية المكدسة لديه بعد أن ألزم المصدّرين الروس ومشتري الغاز الأجانب بدفع العملة المحلية له؟ ما مصير هذه السيولة الهائلة من الروبلات، لو وقفت الحرب في أمد قريب مثلاً؟ قد تكون إحدى الأجوبة، أن مُشتري الغاز مضطرون لشراء الروبل مجدداً وبالتالي فدورة هذه السيولة ستبقى مستمرة. وهنا نعلّق من جانبنا، أن ذلك يمكن أن يكون صحيحاً، لو لم يكن الأوروبيون بصدد التخلص من الارتهان للنفط والغاز الروسي، خلال سنة أو سنتين على الأكثر، حتى لو توقفت الحرب. مما يعني أن دورة حركة الروبل الروسي ستتضاءل تدريجياً، وبالتالي، فإن سيولة ضخمة من الروبل ستتكدس لدى المركزي الروسي، مما سيضطره في النهاية إلى طرحها، بطريقة ما، في الأسواق، وهكذا سيهوي سعر صرف الروبل.

كذلك، من الأسئلة المثيرة للاهتمام التي طرحها نضال الشعار، تتعلق بالكيفية التي سيتغير فيها الطلب على القطع الأجنبي داخل روسيا، حينما تتوقف الحرب. ببساطة، سيزداد الطلب على القطع الأجنبي، لأغراض الاستيراد، ذلك أن 75% من مكونات الصناعات غير الغذائية مستوردة، مما يعني، أن الروبل الروسي سيتهاوى.

تلك معالجات موجزة، توضح أن دورة حياة “الروبل القوي”، قصيرة للغاية، ومرتبطة بإجراءات استثنائية قسرية، تتعلق بأزمة الحرب والعقوبات. ولاحقاً، ستضطر السلطات الروسية إلى التخفيف من تلك الإجراءات، لأنها تقيّد النشاط الاقتصادي في روسيا إلى أقصى الحدود. وهو ما حدث في سوريا مثلاً. فإجراءات من قبيل إلزام المصدّرين ببيع نصف القطع الأجنبي المتأتي من عمليات التصدير، أدت إلى ركودٍ كبيرٍ في النشاط الاقتصادي، كما يقرّ بذلك، خبراء اقتصاديون موالون للنظام.

لكن الأخطر في الحالة الروسية، أن هذا البلد سيخسر رأس المال الأجنبي الذي خرج منه. وتحديداً، الشركات الغربية، بخبراتها النوعية. وعلى الأرجح، ستستمر حالة المكاسرة الاقتصادية بين الغرب وروسيا، مما يعني أن استيراد منتجات تقنية عالية النوعية من الغرب، ستبقى ممنوعة على روسيا، مما سيجعل الاقتصاد الروسي يخسر سنوات من التنمية التكنولوجية. فروسيا، الغنية بمواردها النفطية والغازية والزراعية، ستكون مجبرة بشكل كبير، على الانزواء في خانة الاقتصاد الريعي، في إجهاضٍ لمساعيها للتحول إلى اقتصاد إنتاجي صناعي، على المدى البعيد. فالشركات التي خرجت من روسيا، من الصعب أن تعود، في معظمها، حتى لو حصلت تسوية سياسية تنهي الحرب، في وقت قريب، ذلك أن خسائرها الناتجة عن اضطرارها القسري للهجرة من السوق الروسية، ستبقى درساً يجعلها تتريث مراراً قبل العودة إلى هذه السوق مرة أخرى. أما البديل الصيني، فيبدو الرهان عليه، مبالغاً فيه، فالصين التي تملك شركات عملاقة لها تشعبات ومصالح داخل اقتصاديات الدول الغربية، ليس من مصلحتها الوقوع في فخ العقوبات. مما يجعل البديل الصيني، محدود الأثر، قد ينفع في منع انهيار الاقتصاد الروسي، لكنه لن يمنع وقوع الضرر الآخر، وهو خسارة روسيا للقدرة على التشبيك مع شركات الغرب الصناعية والتقنية المتقدمة، بصورة تسمح لها بتحقيق تنمية نوعية، لا أن تبقى اقتصاداً ريعياً، يحميه فقط سعر برميل النفط، أو الغاز.

يدرك الخبراء الروس الحقائق السابقة جيداً، لذلك يراهنون على تعظيم حدة الاستقطاب في العالم، والدفع به إلى معسكرين، أحدهما مع الغرب، والآخر مع روسيا. وهو أمر لا يبدو أن الصين، اللاعب الأبرز في هذا المجال، مستعدة له. كذلك، لا تلقى موسكو دعماً في هذا الاتجاه، من دول إقليمية كبرى، كالهند وإيران ومصر ودول الخليج، أيضاً. فهذه الدول جميعها، تضع قدماً مع روسيا، وأخرى مع الغرب. مما يصعّب الأمر على موسكو، التي فشلت حتى الآن في خلق أجواء مناسبة للتبادل التجاري بالعملات المحلية، مع دول كمصر والسعودية مثلاً، رغم مساعيها منذ سنوات، في هذا الاتجاه.

أما في سوريا، التي لا يمكن أن تشكل أي متنفس حقيقي للاقتصاد الروسي، قد يجد الروبل في وقت قريب من يشتريه، مضطراً. حالما يعود المرتزقة الذين أرسلهم النظام للقتال في أوكرانيا، وهم يحملون أجورهم بالعملة الروسية، حيث سيعملون على استبدالها بالليرة أو بعملات أخرى. وسيجدون تجاراً مضطرين لشراء الروبل، كي يدفعوه بدورهم للتجار الروس لشراء الحبوب القادمة من المناطق التي استولت عليها روسيا، في شرق أوكرانيا، انطلاقاً من موانئ جزيرة القرم. لكن لا يمكن لهذه السوق المحدودة للغاية، أن تجعل دورة حياة “الروبل القوي”، أطول. كما أنها ستبقى محدودة للغاية مقارنة بسوق الطلب على الدولار، في سوريا ذاتها، التي لا تستورد الحبوب فقط. كما أنها لا تستورد الحبوب من روسيا والمناطق المستولى عليها في أوكرانيا، فقط. بل سيبقى لدى التاجر السوري خيارات أخرى، كالهند، أو دول في أمريكا اللاتينية، على المدى البعيد. كما أن شراء السلع الروسية بالروبل، سيكون، على الأرجح، مؤقتاً. فالاقتصاد الروسي لن يتحمل كثيراً، الانقطاع عن القطع الأجنبي، الذي يحتاجه لشراء سلعٍ أخرى. فروسيا، لا تحيا بالغذاء وحده. وهكذا فإن الرهان على حياة مديدة ل “الروبل القوي”، رهانٌ سياسي، تعوزه المقومات الاقتصادية الموضوعية.

—————–

سوريا والأزمة الأوكرانية ارتدادات وانعكاسات / محمد بدر الدين زايد

تشهد سوريا حالياً كثيراً من التصعيد والمخاطر، لا تقتصر على تزايد الضربات الجوية الإسرائيلية، وتزايد ضغوط تركيا بورقة اللاجئين، بل أيضاً تحركات عسكرية متنوعة لتركيا وإيران، فضلاً عن تردد أقاويل لم تثبت عن تراجع يصل إلى انسحاب روسيا جزئياً، بسبب انشغالها بالحرب الأوكرانية، وأن هناك فراغاً ستشغله أطراف أخرى، سواء إيران أو التنظيمات المتطرفة الموظفة للدين، وعلى رأسها “داعش”، ويأتي كل ذلك وغيره في وقت لم تكن الأوضاع، قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية، تسير في اتجاه الحلحلة أو طي صفحة الصراع، وبدء عملية سياسية تدخل بها سوريا وشعبها في اتجاه الانفراج، بل إن الشاهد أن بعض أطراف الأزمة منذ أعوام عدة يسرع في افتراض النصر وحسم الصراع لصالحه. وجاءت الأزمة الأوكرانية التي توشك على أن تنهي شهرها الثالث لتضيف مزيداً من التعقيد وتراجع فرص الحسم، ما يجعلنا بحاجة إلى استعادة بعض جوانب هذه الأزمة خلال الأعوام الأخيرة.

مشهد ما قبل أوكرانيا

أسفر التدخل الروسي في سوريا الذي بدأ في عام 2015، ومع ضربات التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن ضد ميليشيات “القاعدة” و”داعش” إلى تراجع ملحوظ لهذه الميليشيات، وتمكن النظام السوري بدعم من حلفائه الإيرانيين من استعادة السيطرة على المساحة الكبرى من البلاد، وخلال هذه العملية التي استغرقت أكثر من سنتين، حدث تطوران مهمان، أولهما انسحاب الميليشيات المتشددة وتراجعها باتجاه الحدود التركية وتركزها في محافظة إدلب شمال غربي البلاد. ومع تزايد الاستعداد الحكومي السوري لاستعادة هذه المحافظة بدعم روسي جوي وبري، وإسناد من قبل إيران وأذرعتها العربية، “حزب الله” اللبناني و”الحشد الشعبي” العراقي، اصطدمت هذه الجهود بحملة دعائية ودبلوماسية تركية بارعة، نجحت في حشد الغرب والمؤسسات الدولية لمنع روسيا وحلفائها من استعادة إدلب، بدافع وجود كتلة سكانية، يبلغ عديدها نحو ثلاثة ملايين شخص، تداخلت معها هذه الميليشيات. ومع الضغوط الغربية المؤيدة جاءت التسويات المؤقتة في صورة التفاهمات والوعود التي قطعتها أنقرة لموسكو، ولم تفِ بها، وعلى رأسها أن تتخلى هذه الميليشيات عن سلاحها من ناحية، ومن ناحية أخرى تفرز أنقرة الفصائل المتشددة عن تلك المتطرفة. ولم تخلف أنقرة بتعهداتها فحسب، بل استغلت هذه الترتيبات التي سميت “ترتيبات إدلب”، لتدفع بقوات عسكرية داخل هذه المحافظة وتخضعها تقريباً لحمايتها السياسية والعسكرية، وتستخدم هذا الرصيد الميليشياوي الذي أطلقت عليه آنذاك تسمية “مخزن إدلب للمتطرفين والميليشيات المسلحة”، الذين تحولوا إلى إجراء أو تابعين توظفهم الدولة التركية في عمليات مد نفوذها الإقليمي، بخاصة في ليبيا، بل باتوا أهم أدوات تركيا في مشروعها للتوسع الإقليمي.

على صعيد آخر، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بعد توليه الحكم، نيته الانسحاب تدريجياً من القواعد التي أنشأتها إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما في حربها ضد “القاعدة” و”داعش”، التي كانت تعتمد على الضربات الجوية وعلى “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية للتخلص من “داعش”. ومع نجاح هذه الاستراتيجية، جاءت مسألة انسحاب القوات الأميركية التي تحفظ عليها أصدقاء واشنطن الغربيون وأغلبية مؤسسات الدولة الأميركية من وزارة دفاع وخارجية وأجهزة استخبارات، كونها تعني تسليم آخر ورقة نفوذ أميركي في الملعب السوري، والتضحية بالحلفاء الأكراد.

وبعد تفاعلات معقدة جرت خلال عامي 2018 و2019 والتوترات الصعبة بين واشنطن وحليفتها أنقرة التي تدخلت في إقليم شمال غربي سوريا، خشية إعلان دولة كردية مستقلة في هذه المنطقة بحماية أميركية، تراجعت واشنطن عن الانسحاب الكامل، وأبقت على بعض قواتها، فيما تغلغلت قوات تركية في هذه المنطقة. ومع الوجود الأميركي، على الرغم من محدوديته، والوجود الغربي والتركي الأكثر عدداً وعتاداً، أصبحت منطقة شمال غربي سوريا أيضاً خارج سيطرة دمشق وحلفائها، بالتالي اختفى بريق “نغمة النصر” التي عبر عنها كل من النظام السوري وإيران وأذرعتها الإقليمية، حتى ولو أنها تواصل هذا الادعاء.

وإذا أردنا أن نلخص أبعاد الموقف قبل اندلاع حرب أوكرانيا، فهي ببساطة، عدم قدرة النظام السوري على فرض سيطرته على كامل البلاد، وفشل جهود إخراج تسويات سياسية، بما في ذلك، تلك المشاريع التي قادتها الأمم المتحدة أو روسيا للتوصل إلى تسويات سياسية ودستورية، وعدم حدوث أي تطور جاد في جهود إعادة الإعمار، والأخطر من كل ذلك، جهود إعادة اللاجئين السوريين الذين تبعثروا في دول الجوار وفي أنحاء الأرض في ظروف متفاوتة وإن كان أغلبها سيئاً.

المشهد الدولي والمشهد الإقليمي

المدخل الرئيس الذي سبق لنا طرحه هنا، هو أنه يجب النظر إلى هذه الأزمة السورية في أحد أبعادها، بوصفها منصة لحالة الصراع الدولي والإقليمي، وسعي الأطراف الفاعلة لتحقيق نفوذها ومكانتها في الأوضاع الدولية الحالية شديدة الفوضى والجاري تشكيلها، ومن هنا كانت سوريا أول محطة خارجية أرادت روسيا من خلالها تسجيل عودتها إلى الساحة الدولية كقطب دولي بارز، لأول مرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، خلافاً لحربي القرم وجورجيا قبل ذلك، كونها جرتا في “جوار مباشر”.

ومن هنا جاء تدخل موسكو في سوريا بمثابة أقوى إعلان عن عودتها، وتلا نجاح التدخل بناء أكبر قاعدة عسكرية روسية خارجية في حميميم، بالتالي تأمين وجود مستقر في البحر المتوسط.

على صعيد آخر، سجلت إيران وتركيا في هذه الأزمة حضوراً وتغلغلاً كبيرين، عكس موازين القوى الإقليمية الجديدة. وعندما شكلت روسيا “إطار آستانة” مع هاتين الدولتين لإدارة الصراع والنفوذ كان هذا يشكل حدود وقواعد اللعبة الجديدة في سوريا والمنطقة، ومن هم اللاعبون الأوفر حظاً وحضوراً. وبالقدر ذاته، جاء تراجع واشنطن عن قرار انسحابها من سوريا، بمثابة “فيتو” أميركي وغربي على “النصر” الروسي، وأن هذا الغرب لن يعترف بذلك ولا بنتائج التدخل الروسي، ولا بوضع روسيا الجديد. من هنا توصف الأزمة السورية بأنها أحد أبرز إرهاصات الأزمة الأوكرانية، كون أن في الحالتين محاولة من روسيا للعودة إلى المسرح الدولي ومن واشنطن وحلفائها لمنع اكتمال ذلك.

أوضاع ملتبسة وموقف غامض

واستكمالاً لروابط الأزمتين، جاء الحديث عن “مرتزقة سوريين” على جانبي الصراع في أوكرانيا، ولن ندخل في تفاصيل هذا البعد بعد أن سبقت الإشارة إلى أننا نقدر أهمية عدم المبالغة في وزنه في الصراع الأوكراني، وأن تأثيره مجرد ردع نفسي، ما لم تتحول المعارك إلى حرب شوارع في المدن، وهو ما يبدو قد تم تجاوز أغلبه، ولكن البعد الرئيس الذي يتزايد طرحه الآن هو أن انشغال روسيا قد يحدث فراغاً على الساحة السورية ستملأه أطراف أخرى بخاصة إيران وتركيا وحلفاء الجانبين من ميليشيات مسلحة تحت غطاء الدين، وإسرائيل التي زادت ضرباتها الجوية لغرض إجبار إيران وميليشياتها، بخاصة “حزب الله”، على التحرك شرقاً بعيداً من الحدود الجانبية مع إسرائيل.

وفي الواقع، باتت كل هذه الأبعاد حاضرة على الساحة، فثمة توتر روسي – إسرائيلى وتحليلات لردود فعل روسية محتملة ضد ضغوط إسرائيل على الساحة السورية قد تشمل دعم تسليح الجيش السوري دفاعياً، وقد تشمل تراجعاً متواصلاً لإيران باتجاه الشرق، ما سيعني، إضافة إلى قدرة إيران على توفير قدرات عسكرية ومالية، مزيداً من النفوذ الإيراني في دمشق، كما يعني سيطرة جوية إسرائيلية على الجنوب السوري، ليضاف ذلك إلى مشهد استباحة الأراضي السورية وتعدد الجيوش الأجنبية عليها. وقد تنفلت “داعش” لتحقيق مزيد من السيطرة على الأراضي، ما يدفع الجانب الآخر إلى الرد والتصعيد ويزداد استنزاف هذه الأطراف مجتمعة، وبخاصة المعسكر الذي تقوده روسيا ليصب كل ذلك في مزيد من التوتر والمخاطر، خاصة بعد تزايد الوجود العسكري التركي المباشر وتزايد التأهب الإسرائيلي ومن ثم مخاطر انتقال ساحة المواجهة التي تجري في أوكرانيا إلى الساحة السورية، مع فارق كبير، وهو استمرار معاناة الشعب السوري فعلياً حتى الآن لفترة تزيد على عشر سنوات، وليبرز التساؤل والمقارنة الموضوعية حول من يمكن أن يتحمل هذه المعاناة وبخسائر اقتصادية وبشرية هائلة نتيجة هذه الانعكاسات، علماً بأن حجم الخسائر البشرية في سوريا بشكل خاص، ربما لن تعرفها الساحة الأوكرانية أبداً مهما امتدت بها الأزمة زمنياً. في النهاية، دفع الشعب السوري أثماناً باهظة ولا يزال حتى الآن ومن الظلم أن تتفاقم معاناته في المرحلة المقبلة جراء ارتدادات الأزمة الأوكرانية.

اندبندنت عربية

——————-

=====================

تحديث 30 أيار 2022

————————

مقترح كيسنجر.. والجدل حول “عقلانية” بوتين/ إياد الجعفري

لم يكن فولدمير زيلينسكي، رئيس أوكرانيا، موفقاً في اعتماد البعد الأخلاقي، في جانبٍ من ردّه على اقتراحات هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، بخصوص كيفية إنهاء الحرب الروسية – الأوكرانية. فالحديث عن عشرات الآلاف من الأوكرانيين الذين قُتلوا، والمدن المدمرة، ومعسكرات التصفية التي أقامتها الدولة الروسية، حيث يُعذب أوكرانيون، ويُهانون، وتُغتصب نساؤهن، وفق زيلينسكي، ليست الوصفة المثالية لتفنيد طروحات رائد المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية الأميركية، منذ أكثر من 70 عاماً.

فـكيسنجر، الذي يبدو مسكوناً بهاجس الخشية من ثنائية قطبية، جامدة، قد تهدد بصراعٍ يخرج عن السيطرة، بين القوى الكبرى، هو من المروجين الأكثر بروزاً لما يُعرف بنظام توازن القوى المُؤسَّس بعيد سلام وستفاليا عام 1648، والذي يُعد، في نظر كيسنجر، منظومة مفاهيمية ما تزال تمسك بزمام صُنّاع القرار في السياسة الدولية، حتى الآن. وذاك “السلام الوستفالي”، جاء بوصفه استيعاباً للواقع، لا بوصفه تبصراً أخلاقياً فريداً، حسبما يقول كيسنجر في كتابه “النظام العالمي، تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ”.

لكن، في الشطر الآخر، من رد زيلينسكي على كيسنجر، كان الأول موفقاً في اقتناص لحظة تاريخية، سجلت فيها “الواقعية” أبرز سقطاتها، لتذكير الأكاديمي التسعيني، بأن بعض وصفات “واقعيته” المُجرّبة، كانت مُرّة. فإشارة رئيس أوكرانيا إلى اتفاق ميونيخ عام 1938، بين رئيس وزراء بريطانيا حينئذ، نيفيل تشمبرلين، وبين الزعيم النازي الألماني، أدولف هتلر، كانت إصابة في الصميم. ذاك أن تشمبرلين، الذي كان مسكوناً بهاجس الخشية من حرب عالمية جديدة، في حينها -كما هو حال كيسنجر اليوم إلى حدٍ ما- وافق على منح هيتلر جانباً من أراضي تشيكوسلوفاكيا، لقاء وعدٍ من هتلر بترك باقي هذه الدولة، بسلام. وهو الوعد الذي أخلف به هتلر، بعد ستة أشهر من لقاء ميونخ، واجتاح كامل أراضي تشيكلوسلوفاكيا، عام 1939. وبذلك، يكون هتلر قد أثبت عدم عقلانيته، خلافاً لمعايير المدرسة الواقعية في السياسة الدولية.

في مُؤلَّفِ كيسنجر المشار إليه آنفاً، يمكن لنا أن نقع على قراءات للرجل، تناقض إلى حدٍ ما، رهاناته الأخيرة على عقلانية صانع القرار بموسكو، فلاديمير بوتين. ومن خلال تشريح موسّع لتاريخ روسيا، خلال خمسة قرون، وللإرث السيكولوجي الذي حكم عقلية صنّاع القرار في معظم مراحل ذاك التاريخ، يشير كيسنجر إلى أن روسيا كانت ترى نفسها دوماً محاصرة، وأنها لن تتحصّل على الأمن، إلا من خلال فرض إرادتها المطلقة على جيرانها. ولطالما كان “القيصر”، يُرى بوصفه عنواناً للدفاع عن روسيا، ضد أعداء محيطين بها من جميع الجهات. وعلى وقع هذا التوصيف، يتوارد تساؤل ملح على الأذهان: ألا نستطيع أن نرى ملامح هذا الإرث السيكولوجي، جليّة للغاية في سياسات وخطاب، فلاديمير بوتين؟ لا يجيبنا كيسنجر عن هذه الحيثية مطلقاً.

والأخطر مما سبق، هو إقرار كيسنجر ذاته، في مُؤلَّفِه المشار إليه أيضاً، بالنوازع التوسعية لروسيا، عبر تاريخها في القرون الخمسة الفائتة. فروسيا التي نعرفها اليوم، بدأت عام 1552، انطلاقاً من دوقية موسكو فقط. لتتوسع حتى العام 1917، لتصبح أكبر دول العالم مساحةً، قبل أن تتحول في زمن الاتحاد السوفييتي، إلى قطبٍ دولي موازٍ للولايات المتحدة الأميركية. ووفق توصيف كيسنجر، فإن روسيا دأبت على مدى القرون الخمسة الفائتة، على مدّ سيادتها ونفوذها في كل مرحلة، وصولاً إلى الحدود القصوى لمواردها المادية. ناهيك عن نزعتها للتصرف كقوة عظمى، عبر الإصرار على استعراض قوتها الردعية، كلما شعرت بفائضٍ من القوة.

يختفي هذا الإرث السيكولوجي في معالجات كيسنجر للموقف من روسيا، منذ العام 2014، حينما ضمت شبه جزيرة القرم. ومن الممكن فهم ذلك. فالرجل الذي هندس الاتفاقية الصينية – الأميركية، قبل نصف قرن، والتي مثّلت تحولاً نوعياً في الحرب الباردة، ضد الاتحاد السوفييتي، يخشى اليوم أن تتلاشى آثار جهوده تلك، وأن تتقارب كل من روسيا والصين، إلى الدرجة التي تتيح خلق تحالف صلب بينهما. وهو ما قد يهدد بالتأسيس لنظام ثنائي القطبية، لا يتمتع بالمرونة التي تحظى بها التعددية القطبية الراهنة، مما قد يجعل من احتمالات الصدام بين القوى الكبرى، بصورة تخرج عن السيطرة، أمراً وارداً بالفعل. وهو السيناريو المرعب الذي فاقمت الحرب الروسية على أوكرانيا، من احتمالات تحققه. لذا، ولنزع فتيل تحول كهذا، يقترح كيسنجر أن تتحلى النخبة الأوكرانية في كييف، بما يكفي من “الواقعية”، للتخلي عن أجزاء من أراضيها، لوقف الحرب مع روسيا، قبل فوات الأوان.

ورغم أن مقومات مقترح كيسنجر، مفهومة، وربما تلقى تجاوباً لدى بعض صنّاع القرار في الغرب ذاته، فإن تجربة اتفاق ميونخ عام 1938، تبقى تلوح في الأفق. فما الذي يضمن أن يكون بوتين عقلانياً بالقدر الذي يتيح عدم تكرار غزوه لأوكرانيا أو لسواها، في حربٍ جديدة بعد بضع سنوات فقط؟ وهنا، يقفز هتلر إلى الواجهة. فالرجل الذي مهّد لأسوأ حرب في تاريخ البشرية، عبر المطالبات باسترداد أراضٍ من دول مجاورة، تسكنها جاليات ألمانية، يتقمص اليوم، “قيصر الكرملين”، في نظر كثير من المؤرخين، ويذكّر بأن استرضاء المُعتدي، يشجعه، ويشجع نظراءه، ويؤخر الصراع فقط، لكنه يجعل محصلته النهائية، أسوأ.

تلفزيون سوريا

————————-

تركيا والحرب الروسية على أوكرانيا: الإمساك بالعصا من المنتصف/ نور الدين العايدي

في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها أوكرانيا والعالم، بفعل الغزو الروسي، تقف تركيا في موقف لا تُحسَد عليه. إذ أن تركيا من جهة، مشاطئة عبر البحر الأسود مع كلٍ من روسيا وأوكرانيا، وهي كذلك عضوٌ في حلف الناتو الذي قرر دعم أوكرانيا عسكريًا وسياسيًا ومقاطعة روسيا وفرْض عقوبات قاسية عليها. ومن جهة أخرى، تحصل هذه الحرب المتصاعدة بين دولتين حرصت تركيا طوال السنوات الماضية على الحفاظ على علاقات قوية متوازنة معهما. حيث تمتلك أنقرة علاقات مميزة -بل وحساسة- مع هاتين الدولتين ما يجعل خسارة أيٍ منهما، عبر الاصطفاف -العدائي- مع أحد طرفيْ الصراع، تهديدًا حقيقيًا لمصالح تركيا.

لذلك ومع تصاعد التوتر بين روسيا وأوكرانيا في الأشهر الماضية حاولت استغلال علاقاتها الجيدة مع الطرفيْن للوساطة،[1] لكن هذه المحاولة لم تنجح في ظل رفضٍ روسيّ متكرر.

خلال زيارة لكييف مطلع شهر شباط المنصرم، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن تركيا لا تريد حربًا بين روسيا وأوكرانيا وأن حربًا كهذه «ستكون نذير شؤم على المنطقة». ومع بدء الغزو، جدد أردوغان التعبير عن موقف تركيا المبدئي الداعم لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها ونضالها لحماية استقلالها مؤكدًا على رفضه للهجوم الروسي «غير المقبول» داعيًا روسيا إلى العودة إلى «الحوار والدبلوماسية».

في المقابل، سعت تركيا للمحافظة على خط رجعة مع روسيا من خلال تجنب المواقف العدائية تجاهها، فكانت الدولة الوحيدة، العضو في الناتو، التي لم تُغلق مجالها الجوي في وجه الطائرات الروسية، كما رفضت المشاركة في العقوبات الغربية عليها، إذ رأت أنها «ستضر تركيا أكثر من روسيا».

هذا «التوازن» في العلاقات التي تعمل تركيا لأجل الحفاظ عليه، لخصه أردوغان بالقول: «تركيا لن تتخلى عن روسيا ولا عن أوكرانيا»، في سياسة يمكن لنا أن تسمى بسياسة إمساك العصا من المنتصف.

علاقات روسية تركية متشابكة

تعود جذور هذه السياسة التركية تجاه الأزمة إلى تشابك وتعقيد علاقاتها مع طرفي الصراع.

اقتصاديًا، نمت العلاقات الروسية التركية بشكل مستمر خلال السنوات الفائتة، فمثلًا في عام 2020 بلغ حجم التعاملات التجارية بين الطرفين أكثر من 20 مليار دولار، منها قرابة 15.7 مليار واردات و5.1 مليار صادرات تركية. أمّا في عام 2021 فلقد حطم البلدان أرقامًا قياسية جديدة، حيث بلغ حجم التعاملات التجارية بينهما قرابة 35 مليار دولار، منها 29 مليار دولار واردات و5.5 مليار دولار صادرات تركية، لتحتل روسيا حينها المرتبة الثانية بعد الصين كأهم شريك تجاري لتركيا بنسبة 10.4% من المجموع الكلي للواردات التركية.

كما أن روسيا، وعلى مدى السنوات الفائتة، كانت أهم مورّد للغاز الطبيعي إلى تركيا الفقيرة بموارد الطاقة، فبلغت حصة الغاز الروسي من واردات الغاز التركية الكلية عام 2020 نسبة 33.6% أمّا عام 2021 فارتفعت النسبة لتصل 44%. كما أن مرور الغاز الروسي في تركيا، عبر خط أنابيب «ترك ستريم» عام 2020، وهو خط ينقل الغاز من روسيا عبر البحر الأسود إلى تركيا ثم إلى أوروبا، قد عزّز من المكانة التركية في سوق نقل الطاقة إلى أوروبا.

إضافة إلى الغاز، تستورد تركيا العديد من المنتجات الزراعية من روسيا، وفي 2021 كانت تركيا المستورد الأكبر لهذه المنتجات من روسيا إذ تستورد منها احتياجاتها الأساسية من البقوليات والشعير وزيت عباد الشمس، لكن أهم ما تستورده زراعيًا هو القمح بلا شك، إذ وبسبب الجفاف والصناعات التصديرية تعتمد تركيا بشكل كبير على الخارج في تلبية احتياجاتها من القمح حيث استوردت عام 2021 ما نسبته 78% من هذا المنتج الأساسي من روسيا. وعلى الجهة الأخرى تعتبر روسيا أيضًا أهم مستوردي الخضروات والفواكه التركية حيث حطمت عام 2021 رقمًا قياسيًا جديدًا، لتبلغ ما يزيد عن ثلاث مليارات دولار بحصة تزيد عن 32% من الصادرات التركية الكلية في هذا المجال.

تعتبر السياحة أحد أهم المجالات الاقتصادية في تركيا خاصة وأن عائداتها تشكل ما نسبته 5% من الاقتصاد التركي الكلي، كما وتعتبر أحد أهم مصادر العملات الصعبة التي تحتاجها تركيا في شتى المجالات لا سيما في ظل تدهور العملة المحلية. وفي السنوات الأخيرة احتل السياح الروس المرتبة الأولى بين أكثر السياح زيارة لتركيا، وقد وصل عدد السياح الروس في تركيا عام 2019 قرابة سبعة ملايين سائح بنسبة تزيد عن 15% من مجموع السياح الأجانب الكلي.

كما ويمتلك القطاع الخاص التركي استثمارات ضخمة في روسيا حيث تعمل -بحلول عام 2022- أكثر من 3 آلاف شركة تركية في قطاعات الاقتصاد الروسي المختلفة لا سيما في قطاع الإنشاءات، حيث بلغ عدد المشاريع التي تولتها الشركات التركية في السنوات الأخيرة أكثر من 150 مشروعًا في مختلف أنحاء روسيا بقيمة بلغت قرابة 22 مليار دولار.

وتتشابك العلاقات بين البلدين، كذلك، سياسيًا وعسكريًا، حيث يتواجهان بأشكال مختلفة في العديد من الساحات في المنطقة والعالم خاصة في سوريا وليبيا وقاراباخ وغيرها، ما يفرض عليهما -خاصة تركيا- الحفاظ على خط رجعة في علاقاتهما رغم كل الخلافات. فمثلًا عند تناول علاقاتهما في سوريا، يحاول الطرفان حفظ مصالحهما وتقوية نفوذهما من خلال العديد من الآليات الدبلوماسية لتقليل صداماتهما على الأرض مثل مباحثات أستانة والقمم الثلاثية الروسية التركية الإيرانية.

رغم الترابط الاقتصادي بين الطرفين إلا أن الاشتباك السياسي بينهما أثبت بالتجربة هشاشة هذا الترابط. وربما يمكن النظر إلى أزمة إسقاط الطائرة الروسية[2]عام 2015 دليلًا على ذلك، حيث توعدت روسيا تركيا «بتدفيعها ثمنًا باهظًا»، لتفرض إثر هذه الأزمة عقوبات متنوعة على تركيا. إذ وإضافة إلى تقييد عمل الشركات التركية في روسيا خاصة في مجال الإنشاءات، منعت استيراد بعض الفواكه والخضروات من تركيا لتتراجع صادرات تركيا إليها عام 2016 إلى حوالي 1.7 مليار دولار فقط. كما علقت روسيا حينها العمل في مشروع (ترك ستريم). ودفعت نحو تقييد حركة السياحة الروسية إلى تركيا لينخفض عدد السياح الروس في تركيا عام 2016 إلى أقل من مليون سائح بعوائد لم تتجاوز 478 مليون دولار ذلك العام.

كما تخشى تركيا أن تؤدي أي انتكاسة في العلاقات مع روسيا إلى زيادة الضغط عليها، ليس فقط من خلال زيادة استهداف القوات التركية في سوريا، بل وأيضًا من خلال الضغط الروسي العسكري على مناطق المعارضة في إدلب ما قد يؤدي إلى موجة هجرة جديدة ترى تركيا أنها غير قادرة على تحملها، خاصة في ظل أزمتها الاقتصادية. كما تخشى من دعم روسيا للقوى الكردية في سوريا، دعمٌ قد ينتقل من كونه سياسيًا ليصير عسكريًا، وهو ما يعتبر تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، ويرى العديد من المنظرين الأتراك أن إسقاط حزب العمال الكردستاني مروحية تركية في أيّار 2016 بعد أشهر من أزمة الطائرة الروسية بصاروخ إيغلا روسي الصنع هو رسالة روسية غير مباشرة.

علاقات أوكرانية تركية متشابكة كذلك

أمّا الأسباب التي تمنع تركيا من التخلي عن أوكرانيا فهي متنوعة أيضًا. فإضافة إلى الرغبة التركية بالحفاظ على تكاملها مع معسكر الناتو الداعم لأوكرانيا، تمتلك تركيا وأوكرانيا ذات الأقلية التركية-التترية علاقات مميزة وواعدة إلى درجة يمكن فيها مثلًا لمواطني البلديْن عبور الحدود بالهوية الوطنية فقط منذ عام 2017. وتعتبر تركيا رابع أكبر شريك تجاري لأوكرانيا ففي 2021 بلغت الصادرات التركية إلى أوكرانيا قرابة الثلاث مليارات دولار، والواردات قرابة أربع مليارات دولار ونصف. وتحتل أوكرانيا منذ سنوات المرتبة الثانية بعد روسيا بين أهم موردي القمح إلى تركيا حيث استوردت الأخيرة منها عام 2021 ما نسبته 12% من المجموع الكلي لواردات القمح.[3]

تعتبر تركيا كذلك من أهم الوجهات السياحية لمواطني أوكرانيا، حيث زاد عددهم عام 2021 على المليوني سائح، وهو رقم قياسي بالنسبة للعلاقات بين البلدين حيث احتلوا المرتبة الثالثة بين أكثر السياح زيارة لتركيا في هذا العام.

تعمل في أوكرانيا أكثر من 700 شركة تركية من القطاع الخاص خاصة في مجال الإنشاءات، إذ كانت أوكرانيا عام 2020 ثاني أكثر دولة يفوز فيها متعهدو البناء الأتراك بمناقصات في الخارج. كما وتولّت الشركات التركية العاملة في أوكرانيا في السنوات الثلاثة الأخيرة أكثر من خمسين مشروعًا بقيمة تزيد عن ثلاث مليارات دولار.

تركيا وأوكرانيا والصناعات الدفاعية

تُشكّل الصناعات الدفاعية أحد أهم أبواب التعاون بين تركيا وأوكرانيا حيث تعتبر الأخيرة أحد أبرز مستوردي الأسلحة التركية. تصدّر تركيا إلى أوكرانيا الطائرات المسيّرة[3] والزوارق البحرية إضافة إلى أنظمة الصواريخ والذخيرة الذكية. لكن العلاقة بين البلديْن في مجال الصناعات الدفاعية انتقلت من طور البيع والشراء إلى طور الشراكة في التصنيع من خلال اتفاقيات رسمية عبر الدمج بين التكنولوجيا التركية وقدرة أوكرانيا التصنيعية خاصة في مجال تصنيع المحركات بمختلف أنواعها كما حصل في عملية تصنيع مروحيات تركية بمحركات أوكرانية. شكّل هذا التعاون مصدرًا للسلاح والتكنولوجيا الدفاعية بالنسبة لأوكرانيا، وبوابة لتركيا لتطوير صناعاتها الدفاعية وتجاوز الحظر الذي فرضته عليها بعض الدول الغربية في مجال الصناعات الدفاعية.

وفي السياق نفسه صرّحت الشركة الوطنية الأوكرانية لتجارة الأسلحة عام 2020 عن رغبتها بالإنتاج المشترك لمسيّرات «بيرقدار تي بي 2» المسلّحة في أوكرانيا مشيرةً إلى أن الجيش الأوكراني يخطط لشراء 48 مسيّرة مسلحة عبر الإنتاج المشترك. كما أعلنت أوكرانيا قبيل زيارة الرئيس أردوغان الأخيرة إلى كييف، قبل الحرب بأسابيع، عزم الطرفين بناء مصانع للطائرات المسيّرة التركية في أوكرانيا. تتعاون شركات الصناعات الدفاعية التركية والأوكرانية بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة كما هو الحال في التعاون بين شركة «بايكار»[4] التركية المشهورة بطائرات «بيرقدار تي بي 2» المسيّرة وشركة موتور سيش الأوكرانية لتصنيع محرّكات للطائرات المسيرة.

انتقدت روسيا هذه العلاقة الوثيقة في مجال الصناعات الدفاعية لا سيما الطائرات المسيرة، حيث رأت فيها أحد عوامل «زعزعة الاستقرار» بعد استخدام أوكرانيا لهذه المسيرات في الصراع في شرق أوكرانيا عام 2021 لترد تركيا بأن السلاح الذي يباع «يصبح ملك الدولة التي اشترته» في رفضٍ صريح لأي مسؤولية عن استخدام هذه الأسلحة. وقد هددت روسيا حينها بأنها ستعيد النظر في علاقات التعاون العسكري والتقني مع تركيا حال استمرت الأخيرة ببيع المسيرات إلى أوكرانيا.

ومنذ بداية الحرب تنشر القوات المسلحة الأوكرانية وبشكل احتفالي فيديوهات لضربات المسيّرات التركية ضد الجيش الروسي على وسائل التواصل الاجتماعي.[5] كما وصرّح وزير الدفاع الأوكراني في اليوم السادس للحرب بأنهم يتلقون المزيد من السلاح التركي وأن مسيّرات تركية جديدة وصلت ودخلت الخدمة، وقد تجنبت وزارة الدفاع التركية التعليق على هذه التصريحات مؤكدةً أن تركيا «تتابع إرسال المساعدات الإنسانية إلى المنطقة وتعمل على إحلال السلام فيها». ويرى البعض في هذه التصريحات والتركيز الأوكراني على إبراز الدعم التركي العسكري محاولة متعمدة لإجبار تركيا على ترك سياسة الحفاظ على علاقاتها مع الطرفين واتخاذ موقف أكثر حدة تجاه روسيا.

خاتمة

أعادت الحرب بين دولتين مطلّتين على ساحل البحر الأسود المضائق التركية إلى الواجهة. إذ برزت منذ اليوم الأول للحرب أهمية هذه المضائق ما جعلها نعمة ونقمة. نعمةً لأنها تذكير لمختلف الأطراف في المنطقة والعالم بالأهمية الاستراتيجية لتركيا ونقمة من حيث كونها تشكّل عامل ضغط إضافي على تركيا للوقوف العملي مع أحد طرفي الصراع.

طلبت أوكرانيا من تركيا منذ اليوم الأول للحرب إغلاق المضائق في وجه السفن الحربية الروسية. طلبٌ قابلته تركيا بالصمت خلال الأيام الأولى، لتعود لاحقًا لنفي إغلاقها للمضائق أمام إلحاح وتصريحات الرئيس الأوكراني الملتبسة. لكن ومع التطورات الميدانية المتصاعدة في أوكرانيا قررت تركيا أن هذه الأزمة حرب وليست عملية عسكرية محدودة أو مؤقتة وبذا يحق لها تفعيل بنود اتفاقية مونترو الناظمة للملاحة في المضائق التركية. فأعلنت رسميًا إغلاق مضائقها أمام السفن الحربية الروسية في خطوة تبدو للوهلة الأولى دعمًا عمليًا لأوكرانيا لكنها في الحقيقة خطوة رمزية، وتضامنية على أبعد تقدير، ومنسجمة بالكامل مع سياسة تركيا في الحفاظ على علاقاتها مع طرفي الصراع. إذ أن ما يجعل هذه الخطوة رمزية هو أن اتفاقية مونترو وإن نصت على منع السفن الحربية للدول المتحاربة من المرور عبر المضائق خلال الحرب إلا أن مادتها التاسعة عشر تحتوي استثناءً يسمح للسفن الحربية التي انطلقت من موانئ البحر الأسود بالعودة إلى موانئها الأصلية ما يتيح لسفن أسطول البحر الأسود الروسي العودة إلى موانئها. وقد أكدت تركيا على أن هذا القرار يأتي في سياق المساعي التركية لخفض التصعيد في أوكرانيا ليعلق السفير الروسي في أنقرة على هذا القرار بقوله إن موسكو «تتفهم إغلاق تركيا مضائقها وفق اتفاقية مونترو».

 حتى الآن، تحافظ تركيا على موقف متوازن وحذر من هذه الأزمة. لكن استمرارها، حتى وإن نجح الساسة الأتراك -بمعجزة- في السير على الخيط الرفيع بين طرفيها، يضر بتركيا ومصالحها في قطاعات أساسية متنوعة مثل الطاقة والسياحة والمنتجات الزراعية. إذ أن ارتفاع أسعار منتجات أساسية مثل البترول والغاز والقمح عالميًا يزيد الضغط على الاقتصاد التركي الذي يعاني أصلًا من أزمة خانقة تتجلى في تدهور قيمة العملة المحلية وارتفاع التضخم لنسبٍ قياسية. وبالمحصلة، يمكن وصف السياسة التركية الحالية تجاه هذه الأزمة بالحياد في صف أوكرانيا، لكونها في الأساس ترتكز على دعم أوكرانيا رسميًا ودبلوماسيًا دون إحراق الجسور مع روسيا عمليًا. سياسة، وفي ضوء المعطيات الداخلية والخارجية، تبدو سياسةً اضطرارية تسعى تركيا للالتزام بها مهما كان الثمن.

 ———————————

إيران وحرب أوكرانيا: هل تتدهور طهران إلى مجرد قوة تابعة لنزوات بوتين؟

الغزو الروسي لأوكرانيا تجاوز يقينيات الأمن السياسي القديمة ليس فقط في أوروبا بل أيضا في إيران التي باتت تواجه تحديات جيوسياسية جديدة. تحليل علي فتح الله نجاد حول طبيعة العلاقات الإيرانية الروسية.

تُعد هذه المقالة ترجمة معتمدة من جانب الدكتور علي فتح الله نجاد وتم نشرها في الأصل بتاريخ 21 مارس 2022 في معهد الشرق الأوسط (MEI).

يمثل الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير، الذي أشعل فتيل أول نزاع كبير في أوروبا منذ حروب البلقان في عقد التسعينيات، حدثًا بارزًا في تاريخ القارة بعد الحرب الباردة. يفرض النزاع تحديات أمنية كبيرة أمام دول أوروبا وآسيا بل وأبعد من ذلك، فقد تسبب في تغيرات غير متوقعة في نماذج السياسة الخارجية والأمنية الأوروبية الراسخة منذ وقت طويل تجاه الأنظمة الاستبدادية، كما توضح حالة ألمانيا. وليست إيران بأي حال مُحصنة ضد هذه التغيرات الجغرافية السياسية الجارية.

قبل اندلاع الحرب ضد أوكرانيا، وبعد ما يقرب من عام من الجهود الدبلوماسية المتوالية في فيينا، بدت المفاوضات النووية مع إيران معدة لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة (المعروفة بالانجليزية اختصارًا JCPOA) لعام 2015. دفع الغزو، الذي فاجأ الكثيرين في الغرب، في البداية كلا من طهران وموسكو على ما يبدو إلى تغيير مواقفهما مما تسبب في حالة من الريبة على نطاق واسع بشأن المحادثات بل وأثار مخاوف من انهيارها. ومع ذلك، اعتبارًا من أواخر مارس، يبدو أن المحادثات عادت إلى طبيعتها ومن المتوقع أن يتمخض عنها اتفاق قريبًا.

إلى جانب خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، أدت الحرب الباردة الجديدة التي تواجهها حكومة روسيا برئاسة فلاديمير بوتين ضد التحالف الأطلنطي أيضًا إلى إثارة المناقشات داخل إيران حول تداعياتها على وضع البلاد في النظام العالمي. في هذا السياق، تبرز أهمية تحليل الخطاب الداخلي الإيراني حول شريكها الروسي القوي، كما قد يسميه البعض القائد الأعلى وعلاقته بالقيادة في طهران.

ردود الفعل الإيرانية على الغزو الروسي وتصرف موسكو كقائد أعلى

الآمال الجغرافية السياسية لطهران

جاء رد الفعل الرسمي للجمهورية الإسلامية الإيرانية على الغزو الروسي سواء من جانب وسائل الإعلام الحكومية أو المسؤولين، بمثابة ترديد لدعاية الحرب الروسية مع زعم، في نفس الوقت، “الحفاظ على وحدة الأراضي والسيادة الوطنية لجميع الدول” (وفقًا لكلمات الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي). وقد تم وصف الغزو، في أغلب الأحيان، بأنه “عملية خاصة” روسية جاءت بسبب توسع منظمة حلف شمال الأطلنطي (حلف الناتو) نحو الشرق بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وانطلاقًا من وجهة النظر هذه، تسعى روسيا ببساطة إلى الحفاظ على أمنها ضد عقود من التوسعية الغربية المزعزعة للاستقرار. وتم الترويج لهذه الرواية من جانب وسائل الإعلام الإيرانية الرئيسية (التابعة للدولة والحرس الثوري الإسلامي أو الحرس الثوري الإيراني) وكبار ممثلي الدولة (بما في ذلك المرشد الأعلى والرئيس ووزير الاستخبارات وإمام خطبة صلاة الجمعة في طهران). ويستندون في ذلك إلى أن الغزو الروسي لأوكرانيا يشكل عملاً ضروريًا للمقاومة ضد الاعتداء الغربي/ حلف الناتو وبالتالي يتحمل الأخير المسئولية المباشرة لهذا التصعيد الحالي. عند الدفاع عن روسيا، فإنهم يبررون ضمنيًا موقف إيران الإقليمي الهجومي، المعروف باسم “الدفاع المتقدم” الذي تحب طهران استخدامه كرد فعل شرعي على التوسع المزعزع بدوره للاستقرار في المحيط القريب منها.

وانطلاقًا من هذا المنظور لهذه النخبة، فإن تحرك روسيا ضد أوكرانيا مقابل الشكوك الغربية يتماشى مع مصالح طهران الخاصة ويضاف إلى استراتيجية إيران الكبرى في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وإظهارها للسلطة في منطقة الشرق الأوسط وخارجها. ويعتبر إحجام الغرب عن التدخل في النزاع، ولاسيما بشكل عسكري، إشارة بشكل مؤثر إلى تراجع القوة الأمريكية. لقد تم تقويض صورة القوة العسكرية الأمريكية بسبب إخفاقها في الانسحاب من أفغانستان في الخريف الماضي وغيرها من المستنقعات الأخرى في غرب آسيا حيث فشلت الولايات المتحدة وحلفاؤها في هزيمة المجموعات المتحالفة مع إيران. باختصار، أثرت هذه المغامرات الفاشلة على مكانة واشنطن كقوة عظمى في العلاقات الدولية.

مخاوف إيرانية بشأن روسيا تحت قيادة بوتين

ومع ذلك، فإن رواية الجمهورية الإسلامية الإيرانية الموالية للكرملين لم تمر دون رد. فقد كانت هناك انشقاقات كبيرة حتى في بعض وسائل الإعلام الرئيسية وخاصة في جميع صفوف المجتمع الإيراني. ويواجه أولئك الذين يسعون إلى خلق روايات معارضة عقبات هائلة.

الوصاية الروسية على التقارير الإعلامية الإيرانية: أحد مظاهر الاستعمار الجديد

بعد أن أدانت  السفارة الروسية في طهران تقريرًا لوكالة تسنيم للأنباء – التي من الغريب أنها تابعة للحرس الثوري الإيراني الموالي لموسكو- ووصفته بـ “الأخبار الكاذبة” لإشارته إلى عملية بوتين في أوكرانيا على أنها “غزو”، فقد تمت إزالة التقرير عن الشبكة وتم استبداله بآخر يعكس تمامًا الرواية الرسمية للكرملين. وفي مناسبة أخرى، هاجمت السفارة الروسية صحيفة يومية إيرانية إصلاحية انتقدت روسيا لتهديدها بعرقلة مفاوضات خطة العمل الشاملة المشتركة. وفي وقت لاحق، عقد السفير الروسي في طهران ، بتاريخ التاسع من مارس/آذار، مؤتمراً صحفيًا حث فيه وسائل الإعلام الإيرانية على عدم استخدام مصطلحي “حرب” أو “غزو” في تغطيتها الإعلامية، وهو ما يمثل تدخلًا سافرًا في الشئون الداخلية الإيرانية مما أثار الغضب في البلاد.

تذكرنا هذه الحالات بتدخلات مماثلة من جانب السفارة الصينية في إيران إزاء تقارير إعلامية غير مؤيدة وتصريحات رسمية، وكان آخرها ما تعلق بالتمركز المُزعم لقوات الأمن الصينية في إيران لحماية مصالحها الاستثمارية. وفيما سبق، في العام الأول للوباء، تدخلت السفارة الصينية لإسكات المتشككين في إحصاءات بكين الرسمية عن كوفيد-19.

يعكس مثل هذا التدخل من جانب سفيري القوتين العظميين غير الغربيتين في الشئون الداخلية لإيران طبيعة العلاقات التي تربط طهران مع روسيا والصين وتعتمد عليها كل استراتيجية إيران الجغرافية السياسية  في “التطلع إلى الشرق”. وينتج عن هذه الفجوة الهائلة في السلطة ضعف واعتماد مزمنين لإيران مما يطرح طيفًا لاتفاق إقطاعي جديد تتبع فيه زعامة طهران الإملاءات العليا في موسكو وبكين. ومع ذلك، قد يؤدي وضع روسيا الجديد المنبوذ إلى تحسين وضع إيران فيما يتعلق بالعلاقات الثنائية، ولكن فقط إذا تمكنت طهران من اللعب بأوراقها بعناية ولم يتدهور بها الحال لتصبح مجرد قوة تتبع نزوات بوتين.

في واقع الأمر، إن سياسية إيران في “التطلع إلى الشرق” لا تهدف فقط إلى تحقيق التنمية الاقتصادية والحصول على الدعم السياسي ضد الضغط الغربي فحسب، بل تسعى أيضًا إلى الإبقاء على نظام حكم يفتقر إلى الدعم الداخلي. وتدعم موسكو وبكين هذا النظام المتأرجح من الخارج. وبالتالي، تجد الجمهورية الإسلامية الإيرانية نفسها تقدم تنازلات لمصالح روسية أو صينية بل وفي بعض الأحيان تحاول استباق رغباتهما الظاهرة.

في هذا السياق، تنعكس المخاوف المرتبطة باتفاقية التعاون الشامل التي وقعتها إيران مع الصين ومدتها 25 عامًا في تلك المتعلقة باتفاقية الـ 20 عامًا المتوقع إبرامها مع روسيا. وتفتقد الاتفاقيتان كلتاهما الطويلتا الأجل، المصنفتان على أنهما “اتفاقيتان إستراتيجيتين”، إلى الشفافية وبالتالي أثارا التكهنات. تكثر النظريات التي تشير إلى أن زعماء الجمهورية الإسلامية الإيرانية يقومون بالفعل ببيع البلاد لمجرد دعم سلطاتهم وسط ضغوط محلية ودولية غير مسبوقة بمساعدة هاتين القوتين العظميين غير الغربيتين وحقهما في النقض بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

وبصفتها ركيزة أساسية للاتفاقية مع روسيا، أفادت وزارة الخارجية الإيرانية في ديسمبر / كانون الأول الماضي أنها “على وشك الانتهاء”، ويشار إلى أن موسكو ستعمل على حماية مصالح طهران في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وفي خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، وستزودها بمعدات عسكرية متطورة (مثل نظام الدفاع المضاد للصواريخ إس-400 وطائرات مقاتلة من طراز سوخوي سو-35) مقابل حصول روسيا على اتفاقيات تفضيلية في حقول النفط والغاز الإيرانية. بالتزامن مع هذه الاتفاقية التي تبلغ مدتها 20 عامًا، يشار إلى أنه هناك اتفاقية أخرى بين البلدين منذ الخريف الماضي، تمنح بموجبها إيران الحصة الأكبر للشركات الروسية في حقل شالوس الضخم للغاز، المكتشف حديثًا في منطقة بحر قزوين من الأراضي الإيرانية (يليها الشركات الصينية وبعدها فقط الشركات الإيرانية وتحديدًا تلك الشركات التابعة للحرس الثوري الإيراني).

وتعتبر إيران بالنسبة لروسيا، بمثابة ورقة رابحة سمحت لها باستغلال “التهديد الإيراني” في مواجهة الغرب والاستفادة اقتصاديًا في نفس الوقت من علاقاتها مع طهران بما في ذلك إنعاش صناعتها النووية من خلال دورها البارز في البرنامج النووي الإيراني. وبالتالي، إذا قامت إيران بتطبيع علاقاتها مع الغرب، فمن المحتمل أن يؤدي ذلك بشكل كبير إلى الحد من التأثير الروسي. بصيغة أخرى، سيشكل التوجه الإيراني نحو الغرب تهديدًا أكبر لمصالح موسكو عما هو الحال بالنسبة لــ “إيران النووية”.

قلاقل اجتماعية وجغرافية سياسية

تثير طبيعة العلاقة بين إيران وروسيا وتداعياتها المحتملة جدلًا كبيرًا في المجتمع الإيراني. تنشأ المخاوف الإيرانية من انعدام التكافؤ في العلاقات الثنائية والانفصال الملحوظ بين المصالح الوطنية ومصالح نظام الحكم فيما يتعلق بروسيا أو الصين في هذا الصدد.

وتمتد جذور هذه المخاوف بشأن روسيا إلى التاريخ والحقائق الجغرافية السياسية. ولا تزال الذكريات المريرة لقصف البرلمان الإيراني عام 1908 من جانب لواء القوزاق الفارسي بزعامة روسيا بهدف القضاء على الثورة الدستورية، وكذلك الغزو الأنجلو- سوفيتي عام 1941، باقية في الوعي الجماعي كتذكرة لإرادة الكرملين دهس إيران في سعيها وراء مصالحها. بالإضافة إلى ذلك، يرى بعض عناصر مجتمع السياسة الخارجية الإيرانية أن روسيا تتنصل عندما يتعلق الأمر بالخلاف الدائم بين إيران والغرب. بالنسبة إليهم، تُعتبر موسكو طرفًا انتهازيًا يُركز فقط على تحقيق أهدافه الخاصة حتى ولو تضمن ذلك معارضة الخطاب الرسمي الناقد للولايات المتحدة والغرب، بما في ذلك ميلها إلى إبقاء شعلة الخلاف بين إيران والغرب متوهجة كوسيلة لتعظيم موقف موسكو في تلك العلاقة الثلاثية المتنازعة. وتُتهم روسيا، من بين أمور أخرى، بخرقها لعقود توريد الأسلحة، وتخريب عملية خطة العمل الشاملة المشتركة والحفاظ على روابط وثيقة مع أعداء إيران الإقليميين (إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية).

وعلاوة على ذلك، هناك أيضًا مخاوف أوسع داخل المجتمع بشأن التحالف الطويل الأجل الذي يسعى النظام الإيراني نحو إبرامه مع الأنظمة الاستبدادية المتشابهة الفكر مع روسيا والصين. ورغم قلة أعداد الحضور، إلا أن الاحتجاجات على الحرب أمام السفارة الروسية في طهران التي تردد هتافات مناهضة لبوتين (“تطالب بالموت لبوتين”) توضح الشعور المُعادي لموسكو. وتنطبق مثل هذه التحفظات بشأن روسيا على الصين أيضًا. وعلى الرغم من ذلك، لا توجد هناك معارضة منظمة إزاء تعميق علاقات نظام الحكم الإيراني مع أي منهما.

تتعارض مصالح نظام الحكم مع مصالح المجتمع الإيراني فيما يتعلق بروسيا. فبينما يرى الأول روسيا كضامن قوي للأمن العسكري واستقراره وبقائه، يرى الأخير أن هذا الدعم يمثل تهديدًا وشيكًا أمام التطلعات الديمقراطية. ويخشى الإيرانيون المؤيدون للديمقراطية من إمكانية دفع موسكو لجهازها القمعي في بلادهم بل واحتمالية نشرها لقوات عسكرية إذا بلغت الاحتجاجات الشعبية حدًا يُعرّض نظام الحكم للخطر، كما كان الأمر في كل من سوريا وكازاخستان. ويدعم العلاقة بين نظامي الحكم الروسي والإيراني أيضًا أوجه التشابه القائمة بينهما: فكلاهما دولتان نفطيتان تضمان طبقات حاكمة على غرار المافيا يُديرهما حكام مستبدون أقوياء لا يترددون في استخدام القمع ويقودهم حنينهم إلى أيام مجد الإمبراطوريات الماضية.

علي فتح الله نجاد

حقوق النشر: معهد الشرق الأوسط 2022

ar.Qantara.de

علي فتح الله نجاد هو باحث مشارك ومؤلف تقرير إيران تحت المجهر (Iran in Focus) في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية (IFI) بالجامعة الأمريكية في بيروت (AUB). وهو أيضًا مؤلف كتاب: إيران في ظل نشأة نظام عالمي جديد (Iran in an Emerging New World Order) : من أحمدي نجاد إلى روحاني (2021) صاحب المبادرة ومقدم مشارك في  بودكاست برلين الشرق الأوسط (مؤسسة كونراد أديناور). وباحث في مركز دراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للعلوم السياسية التابع للجامعة الحرة في برلين (FU) ومركز دراسات التعاون الدولي والتنمية (CECID) التابع لجامعة بروكسل الحرة (ULB). يمكن متابعته على تويتر.

 ————————–

استغلال تركيا وإيران وإسرائيل حرب أوكرانيا/ عبدالوهاب بدرخان

شكّل التدخّل في سوريا تمدّداً روسياً لوراثة النفوذ الأميركي تدريجاً في الشرق الأوسط، وفيما موسكو استخدمت دورها السوري لشراكات شتّى مع دول عربية في المنطقة، كذلك مع تركيا وإيران وإسرائيل، إلا أن بوصلتها الاستراتيجية ظلت متجّهة نحو الغرب، تحديداً أوكرانيا، ولم تقنع أو تقتنع بسوريا كـ”تعويض” عنها. فهناك كان يقلقها زحف حلف شمال الأطلسي إلى حدودها، ومحاولته حصارها، وفرض عقوبات غربية عليها بعد ضمّها شبه جزيرة القرم (2014).

أما في الشرق فلم تجد روسيا أي مصدر للقلق، وبعدما تعرّضت لتحدٍّ مبكر من تركيا، سارعت إلى مقاطعتها وتهديدها، وسط صمت أطلسي وأميركي، وما لبثت أن احتوتها ثم مكّنتها، في إطار “تفاهم” مع الأميركيين، من إنشاء منطقة نفوذ في شمال سوريا. هذا “التفاهم” مرّ بتقلّبات عدة، ويدخل حالياً مرحلة تجاذب بفعل احتدام الصراع الأميركي – الروسي، وسعي تركيا إلى توسيع “المنطقة الآمنة”، مستغلّةً رغبة الدولتين في استمالتها على خلفية حرب أوكرانيا.

لم تتأخّر روسيا، وسط انشغالها بترتيب انتشارها في سوريا (خريف 2015)، في الاتفاق على قواعد اللعبة مع إسرائيل، إذ منحتها بموجبه “حق التدخّل”، تحديداً ضدّ الوجود العسكري الإيراني في سوريا. كان “أمن إسرائيل” نقطة التوافق الوحيدة المعلنة بين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب (قمة هلسنكي 2018)، مع أن الرئيس الروسي كان يبحث عن تحريك ما لملف الخلافات مع الأطلسي وعن تنازلات ما في ملف أوكرانيا، إلا أنه لم يجد لدى نظيره الأميركي استعداداً لتنفيذ وعود أطلقها خلال حملته الرئاسية وحاول فعلاً تنفيذها بالضغط على الشركاء الأوروبيين في “الناتو”، لكن غرق ترامب داخلياً في قضية التدخّل الروسي في الانتخابات الأميركية حال دون تطوير العلاقة بين واشنطن وموسكو، اللتين حافظتا على “تفاهمات” في سوريا وغيرها، وأهمها التنسيق العسكري والاستخباري بين روسيا وإسرائيل الذي يؤكّد الطرفان أنه مستمرّ على رغم المؤشرات إلى احتمال تغيير في تطبيقاته، فثمّة جوانب غموض طرأت على علاقتهما بسبب حرب أوكرانيا.

لم تكن واضحة دائماً طبيعة الاتفاقات التي تحكم العلاقة بين روسيا وإيران في سوريا. حصلت خلافات ولم تتطوّر أو تصل إلى حدّ الصدام، لكن معادلة “الجوّ للروس والأرض للإيرانيين” ظلّت سائدة واستطاعت تنظيم حركة الطرفين وعملياتهما واستقطاباتهما لقوات النظام. حرصت طهران على إشهار أن قاسم سليماني هو مَن أقنع موسكو بالضرورة الملحّة لتدخّلها، لأن سقوط نظام بشار الأسد يُسقط مصالحها أسوةً بما حصل في ليبيا، وتبيّن سريعاً أن التدخل الروسي شكّل مظلّة لتكثيف الوجود الإيراني ومضاعفة حجم الميليشيات الشيعية المتعددة الجنسيات، إلى جانب توسيع النفوذ الإيراني المدني في مناطق كحلب وحماة، وقد ساهم الروس في طرد المعارضة السورية منها.

الأكثر التباساً كان تعايش الإيرانيين مع ضرب مواقعهم بتنسيق علني بين الروس والإسرائيليين، والأكيد أنهم نالوا في المقابل موافقات روسية على إقامة بنى عسكرية حصينة في مناطق عديدة، بات اليوم أبرزها في الشمال الشرقي (على تواصل مع غرب العراق) كما في الجنوب (“كتائب الإمام” على تماس مع الإسرائيليين في الجولان). رفض الروس إقامة أي قاعدة إيرانية على ساحل المتوسّط، لكن المؤكد أنهم يجرون حالياً انسحابات من مناطق داخلية لا يلبث الإيرانيون أن يملأوا الفراغ فيها، بموافقة روسية. وقد أوضح سيرغي لافروف أنه “لم تعد هناك مهمات عسكرية لروسيا في سوريا”.

دفع الحدث الأوكراني تركيا وإسرائيل وإيران الى محاولة تحسين مواقعها في الإقليم، إمّا باستغلال الانشغال الدولي بالأزمة الأكبر، أو بالمراهنة على التغيير المفترض في حال استمرار الانكفاء الأميركي أمام “انتصار” روسيا، وبالتالي الصين.

تستعدّ تركيا لشن عملية جديدة في شمال سوريا، مستندة إلى حاجة الأميركيين والروس إليها، وإلى خطّتها لإعادة مليون لاجئ سوري وإسكانهم في “المنطقة الآمنة”، وهذه خطّة تتماشى عملياً مع الأهداف الدولية البعيدة المدى في سوريا، لكن هذه الأهداف مرشّحة لأن تتغيّر، لأن رفض الوجود الأميركي في الشمال الشرقي يجمع بين روسيا وإيران ونظام الأسد، كما أن الأطراف جميعاً تحاول اجتذاب ورقة الأكراد الذين يريدون الاحتفاظ بمناطق سيطرتهم ولا يثقون بأي طرف، فيما يخشون أن يُتركوا وحدهم في مواجهة الأتراك.

أما إسرائيل فترى في الانشغال الدولي بأوكرانيا غطاءً مناسباً للذهاب إلى أبعد في الضغط على الفلسطينيين، سواء بتوسيع مشاريع الاستيطان (آخرها التمهيد للاستيلاء على محمية عين العوجا الطبيعية في أريحا/ 22 دونماً) أو باستخدام القوّة لفرض سيادتها على أماكن العبادة والمقدسات في القدس، مقتربة، باعتراف أعضاء يهود في الكنيست، من تفجير “حرب دينية”. وفيما تعارض إسرائيل إعادة إعمار ما دمّرته في غزة (حرب 2021) وتمعن في عنفها المفرط في أرجاء الضفة الغربية، فإنها تستجيب لتقارب تركيا معها وتحاول الترويج لمشروع أمني ضد إيران بمشاركة “دول في المنطقة”، أي دول عربية، لكن مع استمرارها في تجاهل إصرار السعودية ومصر والأردن والاتحاد الأوروبي، وإلى حدّ ما الولايات المتحدة، على ضرورة معالجة “الجانب السياسي” من النزاع مع الفلسطينيين.

لم تترك إيران أي غموض يكتنف اصطفافها مع روسيا في أوكرانيا ومع الصين في تايوان وضد الغرب و”الشيطان الأكبر” الأميركي، وتعتبر أن رياح “النظام الدولي الجديد” تدفع باتجاه تحقيق أهدافها الاستراتيجية، وأهمها أن يكون لها موقع رئيسي في أمن المنطقة، بالاعتماد على ميليشياتها، وأن يُعترف بنفوذها في أربع دول عربية وأكثر.

ساهمت حرب أوكرانيا في تأخير التوصّل إلى الاتفاق النووي الجديد، وإذ تصرّ طهران على شروطها، فإنها لم تعد متعجّلة إنجازه حتى لو بقيت العقوبات مفروضةً عليها. ومع الاحتجاز الأميركي لناقلة نفط إيرانية في اليونان وردّ “الحرس الثوري” باحتجاز ناقلتين يونانيتين في مياه الخليج، كذلك بعد اغتيال إسرائيلي مفترض لأحد ضباط “فيلق القدس” في طهران والهجوم على منشأة بارشين واستمرار الضربات الإسرائيلية في سوريا، ازدادت أخيراً مؤشّرات التصعيد في الشرق الأوسط.

وما دامت العقوبات لم تُرفع، فإن إيران تواصل تطوير قدراتها النووية، ما يعزّز احتمال تدخل عسكري ضدّها، بما قد يستجرّه من إشعالٍ لجبهات لبنان وسوريا مع إسرائيل، ومن اندفاع في العراق وشمال شرقي سوريا إلى “طرد الأميركيين”، ومن هجمات حوثية ضد السعودية أو غيرها من دول الخليج.

النهار العربي

————————-

====================

تحديث 02 حزيران 2022

———————-

حرب فلاديمير بوتين على الشَّوَاش/ تيري إيغلتون

نُشِرَ النصّ الأصلي باللغة الانكليزية في موقع (UnHerd) بتاريخ 21 آذار (مارس) 2022

ترجمة: مهيار ديب

تعني كلمة «كايوس» الإغريقيّة القديمة هوّةً أو خلاءً [وأُترجمها هنا بكلمة شَوَاش]، أمّا الكلمة التي تقف كضدّ لها، «كوزموس»، فتعني التصميم البديع للكون. ولقد أدهشَ علماءَ الفيزياء الفلكية ما يُسمّونه «التناغم الدقيق» الذي يتّصف به الكون، ذلك المكان الذي يبدو كأنّه رآنا قادمين فصاغَ قوانينَه وفقاً لذلك التناغم. إذ الرياضيات لغة الله. غير أنّه قد تكون هنالك أكوانٌ أخرى، ربما ما لا يمكن إحصاؤه منها، أكثرُ شَوَاشاً من كوننا. وثمّة في واحدٍ منها على الأقلّ ماويٌّ ببطاقة اسمه جيكوب ريس موغ.1

يُعَدّ الشَّوَاش خلاءً لأنّ العدم لا شكلَ له، وما من نوع مُثلّثيّ من السلبية في مقابل نوعٍ آخر بيضويّ منها. وتتعامل ما تُسمّى «نظريّة الشّواش» مع نُظُم ذات سلوك عشوائي وغير متوقَّع، يُعرَف أحدها باسم فلاديمير بوتين. ذلك أنَّ إحدى السِّمات الغريبة لهجوم الرئيس الروسي على أوكرانيا هي التهوّر. قد يكون عملاء الاستخبارات السوفيتية (كي جي بي) السابقون قساةً أو بليدين أو ساديّين، لكنه لم يكن منتظراً أن يكونوا من الرّعونة بمكان.

لكنّ بوتين كان رجلَ استخباراتٍ لزمنٍ طويلٍ مضى، وحَظِيَ مُنذئذٍ بمتّسعِ من الوقت كي يُصاب بالجنون. ليس الجنون بمعنى أن لا يعي ما الذي يتطلّع إليه، بل الجنون على غرار نجوم البوب المحاطين بالمتملّقين ولا يعرفون ما هي فتّاحة العلب. وهذه هي حال الملك لِير في بداية مسرحية شكسبير التي تحمل هذا الاسم، ولا بدّ أن يذوقَ الأمرّين كي يشفى منها. (فهو أيضاً لم يكن يعرف ما فتّاحة العلب، لكنَّ ذلك كان مفهوماً).

إنّ دَافِعَ بوتين لتسوية أوكرانيا بالأرض هو دافعٌ إثنيّ في جزء منه. فهو يعتقد أنّ ذلك البلد، من الناحية الإثنيّة، نوعٌ من التّخييل، قطعةُ ورقٍ مقوّى مقصوصةٌ من أمّة، ويجب أن يوضع حدّ لذلك بأسرع وقت ممكن. فأوكرانيا هي خلاء، انعدامٌ للكيان، وروسيا سوف تفرض شيئاً من النّظام على هذا الشَّواش بإدماجه فيها. وبذلك سوف يكفّ الأوكرانيون عن كونهم غير حقيقيين ويصيرون ما هم عليه في الجوهر، أي روساً.

بهذا المعنى، تُذكّرنا الحرب بمخاطر الإثنيّة. فهذه الأخيرة، بخلاف ما يرى التفكير ما بعد الحداثيّ، لا تستحق أن يُصَفَّق لها دائماً. ولا حاجة بنا لأن نكون عنصريين كي نعلم أيّ صراعات فتّاكة أنزلَ الاختلافُ الإثنيّ بالبشرية. ولو كان الجميع من كورنول أو من جمهورية الكونغو الديمقراطية، لكان العالم أشد وحشةً بكثير، ولكن أقلّ تلطّخاً بالدماء بكثير أيضاً.

تقبع وراء اعتداء بوتين على جيرانه إحدى أسوأ الأفكار التي لطالما حملتها البشرية: المطلبُ الرومانطيقيّ القوميّ بأنّه لا بدّ من وجود توافقٍ دقيقٍ بين السّياسة والإثنيّة، بحيث يحقّ لـ«شعب» إثنيّ، كائناً ما كان معنى ذلك، أن تكون له دولته ذات السيادة، وأن يوسِّعَ هذه السّيادة لتشمل أولئك الذين هم من نوعه ويعيشون حاليّاً في ظلّ أنظمةٍ مختلفة.

كانت نتيجة هذا المذهب خراباً سياسيّاً. فللإنجليز الحقّ في تقرير المصير، ولكن ليس لأنّهم إنجليز. والاستقلال الاسكتلندي مسألة ديمقراطية، وليس شأناً جينيّاً أو وطنيّاً. ولقد طردت الأمم المُستعمَرة مستعمِريها، من الهند إلى موزمبيق، لكنّ هذا شأنٌ سياسي، وليس شأناً إثنياً.

يظلُّ الاستعمار مُستهجَناً حتى لو كان لمن نهبوا مواردكَ أصلكَ الإثنيّ نفسُه. وهنالك جمهوريّون في إيرلندا الشماليّة يعارضون تقسيم البلاد، لأنّهم يفضّلون العيشَ مع أترابهم الغَيليين عبر الحدود على العيش مع مجموعة من استكلنديي آلستر، المُضَلَّلين الذين يعتقدون أن العالم نشأ منذ 6000 سنة فقط. لكنّ هنالك أسباباً لمعارضة التّقسيم أجدرَ من هذا السبب. والإثنيّة في الغرب هي في الغالب مسألة ضمان حقوقٍ متساوية، ولا بدّ، إذاً، من التأكيد عليها؛ في حين رَفعت الإثنيّة بمقياس أعمّ أكوامَ الجّثث، ولاتزال تفعل وأنا أكتب الآن ما أكتبه.

تبقى المقابَلةُ المفرطةُ بين النظام والشَّوَاش أمراً مُضلِّلاً. فالحرب تخلق الشواش، لكنّها اضطرابٌ مُختلَقٌ عمداً، وليست معمعةً اعتباطية. ولعلّك تُشيع الدّمارَ واليأسَ، إنّما بطريقة مخطّط لها ومنضبطة قدر الإمكان. إلى جانب ذلك، فإنّ ما تعتبرْهُ شَواشاً يتوقف إلى حدّ بعيد على فكرتك عن النظام. وبهذا المعنى، فإنّ المفهومين متعايشان يتطفّل واحدهما على الآخر.

كلّ من عاد توّاً إلى بريطانيا ممّا يسمّى أمّةً ناميةً سوف يدهشه كم يبدو كلّ شيء مرتّباً وأنيقاً إلى أبعد حدّ، لكن البشر في بلدان أفقر لا يعتبرون حيواتهم فوضويّة. لقد رأت فرجينيا وولف الحياة متشَظية وعديمة الشّكل، لكنّه من غير المرجّح أن تكون خادماتها اللواتي كنَّ يفركن أرضيّاتها قد شَعَرْنَ مثلها.

كان أستاذي الجامعيّ يعتبر كلّ شيءٍ من حوله شواشيّاً، من طبطبةِ طفلٍ إلى هرهرة محرّك سيارة، لكنّ ذلك لأنَّ فكرته عن النظام كانت فكرة مَرَضيّة. وكان ليرفضُ مصافحتك في الإجازة بسبب قانون جامعيّ ما من العصور الوسطى لم يسبق أن سمع به أحد من قبل. ولقد سألته مرّة عند نهاية درس إن كنت أستطيع أن أستشيره حول دوره كموظَّف جامعي، فطلب مني أن أغادر الغرفة، وأطرق الباب، وأنتظر ريثما يدعوني للدخول مجدّداً. أمثالُ هذا الأستاذ يجب تقييدهم إلى الجدار في زنازين مبطّنة، ولا يقتربَ منهم سوى من يرتدون سترات واقية. ولا يسع المرء سوى أن يتساءل عن مدى جموح الدوافع العربيدة التي كان يكبتها.

كان أستاذي، مثل كثير من المحافظين المتزمتين، متمسكاً بشدّة بما يمكن أن ندعوه مبدأ الامتناع عن فتح بوابات الطوفان. جَرِّب أن تسمح لشخص واحد بعزف الترومبون في محطة مترو أنفاق، ولسوف تجد، قبل أن تعلم أين أنت (وهذه عبارة أساسية من عباراته)، أنَّ منظومة لندن تحت الأرض بأكملها سوف تعجّ بأناس يعزفون الترومبونات وسوف يعمّ الشواش. وبلغة فرويد، فقد وقع هذا الرّجل في حبّ القانون ذلكَ الحبَّ المرضي. ومثل الفَرّيسيين في العهد الجديد، حوّلَ القانون إلى صنمٍ كي يبقي الشّواش بعيداً.

يتفاعل الليبراليون السُذّج مع هذه الحالة المَرَضيّة بنبذ القانون برمّته، الأمر الذي يخفق في التمييز بين إطاعة القانون لما يوصي به وإطاعته لذاته. فجملة «القانون هو القانون» هي من أشدّ أنواع اللغو فتكاً في أيّ لغة من اللغات. ومن وجهة النظر هذه، فأنت لا تفعل ما يطلبه القانون لسبب من الأسباب، لأنّ ذلك سيعني أنّ القانونية متوقفة على العقلانية، ما يجعلها تكفّ عن كونها مطلقة.

بالنسبة إلى إيمانويل كانط، ولعلّه أعظم الفلاسفة المُحْدَثين، يجب أن تكون أخلاقيّاً لأنّه من الأخلاقي أن تكون كذلك. وهذا مشكوك فيه للغاية، لكنّه يحتوي نواةً من الحقيقة، وهي أنّ كونك أخلاقياً لن يقودك إلى أيّ مكان. فهو ليس بالضرورة سبيلاً إلى حياة أكثر إنجازاً. بل إنّه، بالنسبة إلى العهد الجديد، سبيل يقود إلى ميتةٍ بائسة على يد الدولة. ويكتب روائيّ القرن الثامن عشر هنري فيلدنغ أنَّ هنالك مذهباً نبيلاً مفاده أنّ الصالحين سيَجْنون ثوابهم في هذا العالم، وهو مذهبٌ، كما يضيف، ليس فيه سوى عيبٌ واحد، هو أنّه ليس صحيحاً.

هنالك سُبُل أخرى يكون فيها النظام والشَّوَاش صديقين قديمين. فمن وجهة نظر فرويد، ما يفرض القانونَ والنظامَ هو الأنا الأعلى، وهو مَلَكةٌ تستمدّ قوتها الهائلة من قوى اللاوعي الشواشيّ. ولا يمكن لأي نظامٍ سياسيّ أن يصمدَ إن لم يُورّطنا على هذا القَدْر من العمق. فلا يمكنك أن تحكم البشر من فوق رؤوسهم، حتّى لو كانوا فرنسيين. وكلّ سلطة سياسية يمكن أن تستغل اللاوعي الجّمعي سوف تُثبت على نحوٍ واضحٍ أنّه يَصعبُ خلعُها. وإذا ما أمّنت لمواطنيها ما يكفي من الإشباع أيضاً، مهما كان ضئيلاً، كي تجعلهم يواصلون العمل، فمن المرجّح أن تبقى. يجب أن يكون في السلطة شيءٌ لك. فإذا لم يكن، سواء كان معنوياً أو مادّياً، كانت السّلطة هشّة للغاية.

النّظام الاجتماعيّ من الذّكاء بما يكفي لتشجيعنا على بلبلته من حين لآخر. وكان الاسم التقليديّ لهذا في أوروبا العصور الوسطى هو الكرنفال. إذ يتطوّح عامة الناس في الشوارع وهم يرتدون قضباناً ومهابلَ رهيبة من عجين الورق، ويقصفون ويعربدون في تحدٍّ للدولة. وتكتسح الحياةَ الاجتماعيةَ موجةٌ من التقليد الساخر وقلب الأشياء عكسها: أنف/ قضيب، وجه/ ردفان، فم/ شرج، أعلى/ أدنى. ما من شيء على الإطلاق يفلت من نوبة السخرية العظيمة هذه. ما من شيء مَهيب أو مقدس فلا يمكن التجديف عليه. يرتدي أُناسٌ زيّ كرادلة ويتبوّلون في الشوارع. وهذا كلّهُ يضع النّظام الاجتماعي القائم موضعَ تساؤل، لكنّه أيضاً وسيلةٌ لحمايته، انفجارٌ جمعيّ تشرق بعده الشمس على عدد لا يحصى من أباريق الخمرة الفارغة وأفخاذ الدجاج المقضومة، ويعود الرعاع إلى العمل طواعية.

أنت بحاجة إلى نظامٍ إن كنت تريد أن تكون حرّاً. وما لم تستطع التّنبّؤ بالطّريقة التي يُحتمَلُ أن يتصرف العالم بها، لا يمكنك تحقيق قدراتك وإمكاناتك، وهذا هو المعنى الإيجابيّ للحريّة. ولا يمكنك أن تلعب لعبة الكروكيه إذا كانت الأطواق التي يجب أن تمرّ منها الكرات مشكَّلةً من طيور الفلامنغو التي لا تكفّ عن التنقل، شأنها في أليس في بلاد العجائب.

بالمثل، فإنَّ الحياة الاجتماعية ما كانت لتسير لو كان كلّ جزء فيها ملزمَاً بقواعدَ محدّدة. وما كنتَ لتستطيع أن تقول «قف هناك تقريباً»، وهو قول ذو معنى بلا شكّ، أو أن تصافح شخصاً ما، لأنّه ما من قواعد تحدّد المدّة التي يجب أن تستغرقها المصافحة. ولعلّ هذا ما كان يقف وراء حذر أستاذي الشديد حيالها.

نحن نعيش ونعمل على ما يسمّيه لودفيغ فيتغينيشتين الأرضية الخشنة للوجود الاجتماعي، حتى ولو كان هناك أولئك الذين يحاولون السيرَ على الجليد النّقي الذي تتصف به رؤيةٌ إلى النظام لا تشوبها شائبة. لكنّ الاثنين ليسا مجرد ضدّين. وما شهدناه في أوكرانيا هو مدى السهولة التي يمكن بها لمثل هذه الرؤى، التي لا تشوبها شائبة، أن تخلق أرضية خشنة لمدينةٍ دُكَّت دكَّاً.

1.جيكوب ويليام ريس موغ سياسيّ ووزير بريطانيّ محافظ جدّاً في وزارة بوريس جونسون، اشتهر بمناصرته خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي. أمّا وصف تيري إيغلتون له بأنّه ماويٌّ ببطاقة (أي ماويٌّ متحزّبٌ) فلعلّي لم أفهم مرماه تماماً (المترجم).

موقع الجمهورية

————————————

حصاد غزو أوكرانيا حتى الآن/ سمير سعيفان

سيبقى غزو بوتين لأوكرانيا الحدث الرئيس في أجندة السياسة العالمية، ما دامت رحى الحرب تدور هناك، ولا أحد ينتظر أن تُحقق أوكرانيا انتصارًا كاملًا، والغرب يعي ذلك الأمر تمامًا، على الرغم من أن جيشها وشعبها يدافعان ببسالة عن أراضيها، منذ اليوم الأول لذلك الغزو، وعلى الرغم من أن الغرب قدّم لها مساعدات سخية عسكرية، وإغاثية ودعم سياسي وإعلامي. فالغاية من وقوف الغرب إلى جانب أوكرانيا هي النيل من روسيا، ومن بوتين تحديدًا، فالحرب تتجه نحو إقامة جدار برلين جديد، بين روسيا وبقية بلدان أوروبا، وتُنعِش حلف الناتو الذي كاد أن ينام أيام الرئيس ترامب، فضلًا عن أنها ستُحفّز عملية سباق التسلّح وتوسّع دائرته.

ومن نتائج الغزو، توسّع حلف الناتو ليضم دولًا كانت تفضل البقاء خارجه، ولكن الرّعب من بوتين دفع تلك الدول إلى أحضان الناتو، ومن النتائج أيضًا اشتعال حرب النفط والغاز الروسي الذي تعتمد عليه أوروبا، وسعي هذه الأخيرة لتأمين مصادر أخرى للطاقة، بدلًا من النفط والغاز الروسي، وإنْ استغرق هذا السعي بعض الوقت وتسبّب في عدد من الصعوبات، حيث إن أوروبا في النهاية ستتخلى عن إنتاج روسيا النفطي، وسيوقع ذلك خسائر اقتصادية فادحة بروسيا، سيدفع ثمنها الأكبر الشعب الروسي.

وفي جانب آخر من المشهد، تظهر تركيا -وهي عضو في حلف الناتو- وهي تسعى لاستغلال هذه الحرب، حيث إنها تسعى من جهة للعب دور الوسيط برضى من الغرب وروسيا معًا، على الرغم من توقف الوساطة، كما تسعى لاستغلال انشغال روسيا في أوكرانيا، وحاجة أميركا وأوروبا إلى موافقتها على دخول السويد وفنلندا في حلف الناتو، فتضع شروطها للتضييق على نشاط حزب PKK الكردي التركي، في السويد وفنلندا وباقي أعضاء حلف الناتو، وتسعى من جهة أخرى لاستكمال سيطرتها على كامل منطقة الشريط الحدودي السوري، بعمق 32 كم في الأراضي السورية، بحيث تقلّص منطقة سيطرة حزب PYD وحلفائه الشكليين إلى حدّ بعيد. وإذا تحقّق لها ذلك، فستكون قد وجّهت ضربة إلى ما يُسمّى “الإدارة الذاتية” التي تتحكم فيها قوات PYD الكردية، إضافة إلى مكاسب أخرى. ويبدو أن الولايات المتحدة أعلنت عدم موافقتها، ولكنها لم تتخذ موقفًا صارمًا، ويُعتقد أن صدور التحذير هو من باب المفاوضات، ولا شك في أن أميركا ستوازن بين حاجتها إلى تركيا في موضوع أوكرانيا، وحاجتها إلى دعم سيطرة القوات الكردية على شرق الفرات، ومن ثم ستُرجح كفّة مصالحها. ويضاف إلى ذلك أن روسيا أرسلت تعزيزات عسكرية إلى قاعدتها في القامشلي، كإعلان عن عدم موافقتها على العملية التركية، ولكن موسكو مشغولة بحرب أوكرانيا، التي تصدرت قائمة حساباتها الخارجية. وقد تنتهي مساعي تركيا بسيطرتها على الأراضي الواقعة بين منطقة “نبع السلام، وغصن الزيتون”، أو بسيطرتها على المنطقة الواقعة غرب الفرات في منبج، أو على كليهما معًا، ولا جدال في أن تلك السيطرة ستُضعف المشروع الكردي بشكل كبير.

في المشهد البانورامي، تبدو إيران الرابح، حتى الآن، حيث إنها سارعت إلى احتلال المواقع التي انسحبت روسيا منها في سورية لتعزيز عملياتها في أوكرانيا، ومن جهة أخرى، استفادت من التوتر بين روسيا وإسرائيل، بسبب موقف إسرائيل المعارض لغزو بوتين لأوكرانيا، بعد الضغط الأميركي عليها.

لقد أسميت الغزو الروسي “غزو بوتين لأوكرانيا”، وليس الغزو الروسي، لأن “الدكتاتور” بوتين وما يمثله، هو من غزا أوكرانيا، وبوتين لا يمثّل روسيا وشعبها، فأيّ رئيس يُمضي أكثر من دورتين في الرئاسة يُصبح رئيسًا غير شرعي، ويتحوّل إلى مستبدّ، لأنه لا يستطيع التمديد دون أن يقيم نظامًا استبداديًا، أو أن يكون رئيسًا غير شرعي منذ يومه الأول، كأن يستولي على السلطة بانقلاب عسكري أو بالوراثة عن والده، ولدينا أمثلة كثيرة. ولو أن بوتين سقط في انتخابات ديمقراطية، وسيسقط حتمًا في أي عملية انتخاب ديمقراطية، فإنّ خليفته لن يتعامل مع روسيا بهذه الطريقة التي أرعبت جيرانه الأوروبيين، ودفعتهم أكثر نحو أحضان الناتو، وأساءت إلى سمعة روسيا، فضلًا عن الآثار السلبية الداخلية.

إنّ صمت الغرب عمّا فعله بوتين في جورجيا وأوكرانيا ثم سورية أغراه بالمضيّ في طريقه، وقد أسكره “النصر” السهل في سورية على فصائل المعارضة التي لا تملك من الأسلحة ما تواجه به أسراب الطائرات الحربية وغاراتها، وقد منع الغرب عن قوات المعارضة السورية حيازة صواريخ مضادة للطائرات، وتركهم لمصيرهم، لكن قادة الغرب، حين وقع بوتين في الفخّ وتورّط وأقدم على غزو أوكرانيا، دفعوا بكل قوتهم، وفرضوا عقوبات لم يسبق لها مثيل على روسيا، وقدّموا لأوكرانيا مساعدات عسكرية ومادية سخيّة، كما قدّموا أسلحة تقليدية متطورة، وهي أكثر تقدّمًا من الأسلحة التقليدية لدى الجيش الروسي، فدامت الحرب ثلاثة أشهر حتى الآن، بدلًا من ثلاثة أيام، وما زالت رحاها تدور، ولا نعلم إلى أي مصير ستؤدي حماقات بوتين في هذه الحرب، مع العلم أن استخدام الأسلحة الذريّة أمرٌ مستبعد، وأغلب الظن أن كبار جنرالاته لن يؤيدوه في مثل هذا القرار، وقد يكون ذلك القرار نهايةً لبوتين ومرحلته، ولبدء مرحلة جديدة في روسيا. وفي المقابل، لا يمكن إذلال بوتين وإخراجه مكسورًا، لأنه قد يرتكب حينذاك حماقة كبيرة، ولا شك في أن الغرب ليس مغفّلًا كي يسمَح بأن تخرج حماقات بوتين إلى حيّز الفعل.

لا يخفى أنّ استمرار الغرب الأوروبي والأميركي في التعامل مع روسيا كعدوّ بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، والرغبة في الانتقام منها والسعي لتدميرها ونهبها على مدى عقد، في فترة الرئيس يلتسين، قد مهّد الطريقَ لصعود شخص مثل بوتين، وهذا الوضع يشبه وضع ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، فخسارتها الحرب وخضوعها للشروط التي فرضت عليها مهّدا الطريق لصعود الحزب النازي وصعود هتلر.

 بوتين رجل عسكريّ بعقلية مخابراتية ترى المؤامرة في كل شيء، والنتائج عندَه نوعان فقط: منتصر أو مهزوم، ولا خيار آخر بينهما! ولذلك يسعى لتحقيق أهدافه بواسطة السلاح، بدلًا من أن يهتمّ بالتنمية والاقتصاد ويجعل روسيا دولة صناعية لها حصة من السوق العالمية. ومن المعروف أن لدى روسيا قدرات علمية وتكنولوجية وموارد أولية وطبيعية فريدة في العالم، ولكنها تحتاج إلى إدارة جيدة، ولكن بوتين لم يسعَ لتطوير تلك الإدارة والاستفادة من الموارد والإمكانات، وترك روسيا دولةً تعتمد على تصدير النفط والغاز، وتستورد كثيرًا من الاحتياجات من الخارج، وهو بذلك لم يتعلّم من درس الصين ولا من درس ألمانيا أو اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، بل ظلّ يهتمّ بتطوير أسلحته وجيشه وترسانته. لذا استخدم أنيابه في الشيشان، وفي جورجيا، ومع أوكرانيا، فقضم جزيرة القرم، وغزا شرق أوكرانيا، وتدخّل في سورية، ليحمي نظام الأسد ويدعمه وارتكبت قواته جرائم حرب من أجل ذلك، وحَال دون تطبيق اتفاق جنيف الأول الصادر في 30 حزيران/ يونيو 2012، والذي وضع صيغة مناسبة جدًا لقيام انتقال سياسي وسلطة جديدة في سورية، هي شراكة بين النظام والمعارضة والمجتمع، بإشراف الأمم المتحدة ودعم المجتمع الدولي.

من المتوقع أن تتوقف الحرب الأوكرانية، وأن يتوصل الجميع إلى اتفاقٍ بعد أن سيطر بوتين على مساحات من أراضي أوكرانيا، ولو بعد بضعة أسابيع، بحيث يكون الغرب قد نال من بوتين وسمعته، وأضعفه داخليًا، وقوّى المعارضة الداخلية ضده بين العسكر أنفسهم؛ بعد أن أدت الحرب إلى موت المئات منهم أولًا، وفضحت أداء الجيش الروسي ثانيًا، وأساءت إلى سمعة روسيا ثالثًا. ولكن في الوقت نفسه لا بدّ أن يترك الغرب لبوتين شيئًا من ماء الوجه، كي يقبل بحلّ وسط، كأن ينسحب هو من أوكرانيا، مقابل تعهّد بعدم دخول أوكرانيا في حلف الناتو، وبمنح مناطق شرق أوكرانيا حكمًا ذاتيًا ضمن الدولة الأوكرانية، وبقاء وضع جزيرة القرم معلّقًا.

على الجبهة السورية، فتحت أميركا وأوروبا سجلّ بوتين وأخذت تذكّر بما فعله في سورية، وخاصة في حلب، وإنما الغرض من ذلك هو النيل من سمعة روسيا، لكن من دون أن يطرأ أي تغيير على مواقفهم تجاه القضية السورية، وليس هناك مساع لمعاقبة بوتين على ما فعله في سورية، ولا سيما أن الغرب لم يُغيّر مواقفه من الصراع في سورية وعليها، فما زالت أميركا ترفع شعار “تغيير سلوك الأسد”، مع أنها واثقة أنه من المستحيل أن يغيّر سلوكه، وما زال مسار أستانة شغالًا، وما زالت اللجنة الدستورية تتحرك، والجميع يعلم أنها ليست أكثر من “طبخة بحص”، وما زال السوريون يستغربون ازدواجية المكاييل، إذ سكتت أوروبا وأميركا على جرائم بوتين في سورية، وهي تفوق جرائمه في أوكرانيا بعشرات المرات، في حين أنهم استنفروا لمواجهته بكل قوّتهم حين غزا أوكرانيا!

من المرجّح أن تُحتوى هذه الحرب وأن تُعالج آثارها وتبعاتها، تدريجيًا؛ لأن استمرارها يعني الوصول إلى حربٍ بأسلحة ذريّة، قد لا ينجو منها حتى من هُم خارج نطاقها، ولا أحد مستعدّ لذلك، وإذا ما وصلت حماقة أحد الرؤساء إلى هذا الحدّ (وحماقات الرؤساء والقادة دائمًا خطيرة) فإنّ النهاية ستكون مرعبة. وقد تتطور الحرب بطريقة تجعل الغرب يسعى ليعاقب روسيا في سورية، وهذا أمرٌ سهلٌ، ولكن الغرب، إلى الآن، لم يقترب من دور روسيا في سورية، وربما ما زال بايدن يريد أن يسترضي إيران بتقديم سورية هديّة لها، كي توقّع الاتفاق النووي، وهو الأمر الذي فعله أوباما من قبلُ استجابةً للشرط الإيراني، وعلى الرغم من أن روسيا قد قلّصت وجودها في سورية، فإنها ما زالت تحتفظ بقوتها الجوية هناك، ويمكنها إعادة نشر قواتها في سورية ببعض الصعوبة، لأن إيران تمركزت في النقاط التي أخلتها روسيا، وربما تتطور الحرب وتنتهي باتفاقٍ يضمن أن تركز روسيا مكاسبها في أوكرانيا وتتخلى عن سورية، أما إذا فشل التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران، فإنّ هذا سيؤدي إلى تغيّرٍ في طرق تعاطي الغرب مع القضية السورية، ومن ثم ستتغير كل النتائج الواقعة على الأرض الآن.

في المحصّلة، ثمة احتمالات عدة لتأثيرات الحرب الأوكرانية على القضية السورية؛ فقد ينتهي غزو بوتين لأوكرانيا بطريقةٍ لا تشمل القضية السورية، وحينئذٍ ستكون القضية السورية مفتوحة على مصير مجهول، وقد ينتهي الغزو باتفاقٍ يشمل حلًا للقضية السورية، بطريقةٍ لا تُرضي أيّ طرف، لأن الحلّ الواقعي في سورية اليوم، إن قُيّض له أن يحدث، لن يُرضي أيّ طرفٍ من أطراف هذه الحرب، أو قد يُرضيها جزئيًا وتقبله مضطرة.

مركز حرمون

——————————

ماذا يعني حظر الاتحاد الأوروبي الجزئي على النفط بالنسبة لروسيا وبقية أوروبا؟

اتّفقت دول الاتّحاد الأوروبي على خفض وارداتها من النفط الروسي بنسبة 90% بحلول نهاية العام الجاري في قرار تسعى من خلاله لحرمان موسكو من مصدر تمويل ضخم لحربها على أوكرانيا. وأكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أمس الثلاثاء التوصل إلى اتفاق “من حيث المبدأ” بين زعماء دول التكتل الأوروبي بشأن حظر واردات النفط من روسيا.

وأعربت للصحفيين غداة القمة التي عقدت في بروكسل عن “سعادتها للغاية” للتوصل إلى هذه الخطوة التي ستمهد لحزمة العقوبات السادسة على حد قولها، موضحة أنه “من المتوقع أن يكون المجلس الآن قادرًا على وضع اللمسات النهائية على حظر ما يقرب من 90% من جميع واردات النفط الروسي بحلول نهاية العام. هذه خطوة مهمة إلى الأمام، سنعود قريبًا إلى موضوع 10% المتبقية التي تُنقل عبر خطوط الأنابيب”.

الاتفاق الذي توصّل إليه القادة الأوروبيون الإثنين سيكون على سلم اولويات محادثات الأربعاء القادم على مستوى سفراء دول الاتحاد الأوروبي بهدف وضع اللمسات الأخيرة عليه بعد مفاوضات مضنية استمرّت شهرًا. واستبق الاتفاق تعهد ألمانيا وبولندا بوقف وارداتهما من النفط الروسي عبر خط أنابيب دروجبا ما يرفع إلى 90% كمية الصادرات النفطية الروسية التي سيتخلّى عنها الاتحاد الأوروبي بحلول نهاية العام.

هذا ومنح الاتفاق استثناء لبعض الدول الأوربية. فقد أعلن رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال في وقت سابق عن فرض حظر تدريجي على واردات النفط الذي تصدّره روسيا عبر السفن مع منح إعفاء مؤقّت للنفط المنقول عبر خطوط الأنابيب، وذلك إرضاء للمجر التي هدّدت باستخدام الفيتو ضد هذه الحزمة السادسة من العقوبات الأوروبية على روسيا. وكتب ميشال تغريدة على تويتر قال فيها إن هذا “الخفض سيحرم آلة الحرب الروسية من مصدر تمويل ضخم، وسيمارس ضغوطًا قصوى على روسيا لدفعها لوقف الحرب”.

لكن من غير الواضح متى سينتقل الاتحاد الأوروبي إلى حظر نفطي كامل. فقد وعدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين التي تقود الحملة  لحظر النفط الروسي بأن الاتحاد الأوروبي سيناقش كيفية “سد الثغرة” في أقرب وقت ممكن، حيث تسعى المجر للحصول على أموال من الاتحاد الأوروبي لإعادة تجهيز مصافيها النفطية التي لا يمكنها سوى التعامل مع الخام الروسي. كما تحتاج كرواتيا أيضًا إلى وقت لوقف الإمدادات النفطية من جارتها الشمالية عبر خط أنابيب أدريا. عطفًا على ذلك، تجنب زعماء الاتحاد الأوروبي إعطاء تفاصيل عن تاريخ انتهاء الإعفاء لدول أوروبا الوسطى، حيث ستستفيد البلدان الواقعة على الفرع الجنوبي لخط أنابيب دروجبا الذي يعود إلى الحقبة السوفيتية – المجر وسلوفاكيا وجمهورية التشيك – من الإعفاء المؤقت.

وعن تأثير الحظر على آلة الحرب الروسية، يشار إلى أن الاتحاد الأوروبي يدفع لروسيا حوالي مليار يورو يوميًا مقابل النفط والغاز، وهو مصدر ضخم للعملة الصعبة للكرملين في تمويل حربها ضد أوكرانيا، كما يقول المسؤولون الأوروبيون. وسيؤدي الانخفاض الحاد في هذه التدفقات المالية إلى تعميق المشاكل الاقتصادية لروسيا على المدى الطويل. مع ذلك حذر بعض الاقتصاديين من أنه قد يكون لهذه العقوبات تأثير عكسي سيساعد موسكو على المدى القصير، حيث تستفيد روسيا من ارتفاع الأسعار. كما منحت مناقشات الاتحاد الأوروبي المطولة والخلافات وقتًا لروسيا لإيجاد مشترين بديلين، حيث كثفت الهند والصين وتركيا من مشترياتهم مما عوض الخسارة جزئيًا. فقد عززت روسيا بالفعل صادراتها النفطية بنسبة 6% في أيار/مايو مقارنة بشهر نيسان/أبريل.

بالإضافة إلى ذلك، سيكون لهذا الحظر تأثير على المستهلكين والشركات في أوروبا، حيث ستشهد محطات الوقود ارتفاعًا كبيرًا في أسعار الوقود بسبب ارتفاع أسعار البرميل الخام. كما ستجد الحكومات الأوروبية صعوبة أكبر في إدارة تكاليف المعيشة المرتفعة أصلًا. وبعد إعلان الحظر النفطي من الاتحاد الأوروبي، وصل سعر برميل خام برنت إلى 124,10 دولارًا وهو أعلى مستوى له منذ آذار/ مارس الماضي على الرغم من انخفاضه قليلًا في التعاملات اللاحقة، حيث ارتفعت أسعار النفط بالفعل أكثر من 55% هذا العام وهي عند أعلى مستوياتها منذ عام 2008.

يبقى السؤال هل لدى الاتحاد الأوروبي المزيد من بطاقات العقوبات للعبها؟ فقبل أن يوافق الاتحاد الأوروبي حتى على حظر النفط، كانت بعض الدول الأوروبية تدرس بالفعل فرض مزيد من العقوبات على صادرات روسيا من الغاز قبل الحرب، فقد كانت تزود روسيا 40% من مجمل استهلاك الاتحاد الأوروبي للغاز، ووعد زعماء الاتحاد الأوروبي بالتخلص التدريجي من ذلك، لكن دول الاتحاد مضطرة إلى الاستمرار في استيراد الغاز على المدى القصير لأن اقتصادها يعتمد عليه، وتعمل دول مثل ألمانيا بجد لفطم نفسها عن إمدادات الغاز، لكن هذا قد يستغرق سنوات.

ومع ذلك، يعتقد أكثر حلفاء أوكرانيا صراحة في الاتحاد الأوروبي بالإضافة لبولندا ودول البلطيق أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يضع الآن موعدًا نهائيًا لحظر الغاز الروسي، وهذه الخطوة غير مؤكدة وستكون أصعب من المحادثات بشأن الحظر النفطي غير المكتمل.

———————————–

انسحاب روسيا من سوريا يقلق ملك الأردن… تخوفات من التمدد الإيراني في الجنوب/ آدم أفرام

بعد زيارة خاطفة، مؤخراً، إلى العاصمة الأمريكية واشنطن، حذّر الملك الأردني عبد الله الثاني من الفراغ الذي قد يشكله غياب الدور والوجود الروسيين في الجنوب السوري، ومن ملء طهران الفراغ عوضاً عن موسكو، في منطقة حساسة لكل من سوريا والأردن، سيما أن الأردنيين على حد وصف ملكهم، استفادوا من تهدئة عسكرية عمرها سنوات على حدودهم الشمالية، بفعل وجود الروس في المنطقة.

يعيش الأردن هذه الأيام على وقع تخوفات جيو-سياسية، نقلها الملك الأردني إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن. عنوان هذا الخوف هو اللاعب الإيراني في الملف السوري.

وفي مقابلة أجراها الملك مع معهد هوفر في جامعة ستانفورد، قال إنّ الوجود الروسي في جنوب سوريا “كان يشكل مصدراً للتهدئة، وهذا الفراغ سيملأه الآن الإيرانيون ووكلاؤهم. وللأسف، أمامنا هنا تصعيد محتمل للمشكلات على حدودنا”.

وكانت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، قد قالت في 26 أيار/ مايو، إنّ روسيا بدأت بسحب قواتها من سوريا لصالح تدعيم جبهة أوكرانيا. وسبقتها تقارير صحافية أفادت بأن الحرب الأوكرانية التي شغلت العالم، دفعت بروسيا إلى سحب جزء من قواتها من سوريا إلى جبهات القتال في أوكرانيا، وتالياً بدأت روسيا بالتنسيق مع دمشق وطهران لسد الفراغ الحاصل في بعض الاتجاهات، وأبرزها الجنوب السوري، خاصةً بعد زيارة الرئيس الأسد الأخيرة إلى طهران.

استدعت هذه الأنباء ردوداً من أنقرة وتل أبيب، تمثلت في استهدافات متنوعة في الداخل السوري، كاستهداف حافلة مقاتلين في ريف حلب، وضربات جوية إسرائيلية على مواقع عدّة داخل سوريا، بشكل متزامن تقريباً.

ذلك كله جاء مع خطوات أمريكية تعفي مناطق في شمال شرق سوريا، وشمال غربها، من حزمة عقوبات قيصر، ما يجعل تلك المناطق متهيئةً لنمو وتطور متسارعين بالمقارنة مع دمشق التي لن تستطيع اللحاق بركبها، بفعل حزم العقوبات المتتالية، ما سيعمّق الهوة بين العاصمة والمناطق المعفاة من الحصار والواقعة خارج سلطتها.

وتعزز هذه المتغيرات فرضية توجه المناطق المعفاة من الحصار نحو الابتعاد أكثر عن دمشق، بشكل كامل أو شبه كامل، هذا إذا لم تتغير المعطيات الدولية بسرعة.

وسيعني تحقيق نوع من الاستقلال لهذه المناطق، حرماناً أكبر للسوريين المقيمين في مناطق سيطرة النظام، من موارد النفط والغاز والقمح وما إلى هنالك من ثروات وخيرات في الأطراف، سواء التي يسيطر عليها حلفاء واشنطن في شمال شرق سوريا، أو التي يسيطر عليها حلفاء أنقرة في شمال غربها.

قلق أردني

وبالعودة إلى الأردن، يخشى الجار الجنوبي لسوريا من أي تصعيد متجدد على حدوده الشمالية الشرقية، وهي خشية قد تراها دمشق مبالغاً فيها، فالوجود الإيراني في المنطقة الجنوبية، في حال تم بالصورة العسكرية التي يُحكى عنها، بحسب دمشق، سيكون حاله من حال الانتشار في مناطق أخرى، وسيساعد في مكافحة ما تبقّى من خلايا داعش.

تصريحات ملك الأردن تأتي في وقت لا تشهد فيه بلاده الاستقرار المطلوب، خصوصاً بعد ما حدث مع الأمير حمزة، المدعوم من عشائر لا يستهان بها، والمشكلات المالية الداخلية، فضلاً عن انكشاف حدوده الشمالية التي تمتد على طول نحو 370 كيلومتراً مع سوريا، إذا لم تقُم روسيا بتغطيتها بالتنسيق مع الجانب السوري.

وبيّنت حركة التهريب بين البلدين، أن الأردنيين لا يمكنهم ضمان ملف الحدود من دون التنسيق مع دمشق. ولا تزال أجزاء من الحدود مكشوفةً بشكل شبه يومي أمام حركة تهريب المخدرات.

ويبدو أن ملك الأردن، وما يمثله من تحالفات سياسية في موازين قوى الإقليم، ينظر إلى وجود إيران هذه المرة بدلاً من روسياً، من منطلق أنه خطر سياسي يخلق مصاعب لوجستيةً على أرض الواقع، بحسب ما يمكن الاستنتاج من تصريحاته، خاصةً أن الأردنيين يتخوّفون من تجاهلهم في اتفاق يُعقد مع إيران، في السياق الدولي العام، ومن وجود مشاريع إسرائيلية تتجاوز الأردن.

صمت دمشق

لم تعلّق دمشق على تصريحات ملك الأردن، أو حتى على الملف بصورة عامة حتى الآن. ويقول مصدر مطلع لرصيف22: “في مطلق الأحوال، وأياً يكن مَن معنا من الحلفاء في الجنوب السوري أو غيره، فإننا لن نسمح لداعش بالعودة مهما كلّف الأمر، وهو ما نعمل عليه في هذه الأوقات، من خلال مكافحة بقايا التنظيم في مناطق البادية والحدود ومهاجمتها، وما يشغلنا هي أولوية الحفاظ على أمننا ووحدة أراضينا وسلامتها من القوات غير الشرعية. أما الروس والإيرانيون فإنّ وجودهم شرعي طالما أنّه بطلب من الدولة السورية صاحبة الحق بالأمر”.

يمكن فهم مخاوف الجانب الأردني في ما خص عملية التنسيق، وتُضاف إليها خشية الملك مما قد يستتبعه وجود إيران على حدود بلاده من تفاهمات وبروتوكولات أمنية في ملفات متنوعة، أبرزها ملف معبر نصيب-جابر الحدودي.

دمشق التي لم تعلّق على الأمر، يبدو أنّها تعمل على قراءة الرسائل الخفية في تصريحات الملك الأردني، خاصةً أنّ المتخوف هذه المرة من طريقة تعاملها مع أراضيها، هو جارٌ لا يمكن وصف ماضيه معها بالجيد.

يمكن أن يستثمر الأردن في مخاوفه من ملفَّي تهريب السلاح والمخدرات، وأن يحذّر من نوايا إيران والمجموعات المقاتلة التابعة لها، ويقول إنّ إمساك إيران بالأمن أو بجزء منه في الجنوب السوري، سيحمل ضرراً لبلده.

والجدير بالذكر أن ملك الأردن كان أول مَن أطلق مصطلح “الهلال الشيعي”، وذلك عام 2004، واصفاً إياه حينذاك بالخطر على المنطقة.

تشير مصادر متقاطعة لرصيف22، إلى إمكانية أن يكون قد جرى حديث بين الإيرانيين والأردنيين حول ملف الجنوب السوري، ولكن من دون نتيجة تُذكر على الأرض، لذا قد تتجه الأمور نحو تصعيد دبلوماسي يلعب فيه الأردن دور رأس الحربة الذي يخشى أن يتحوّل إلى معبر للسلاح والمخدرات إلى الخليج، ليقول الملك مرةً جديدةً، إنه حامٍ لظهر الخليج من فوضى المواد الممنوعة.

وكان الأردن يرمي إلى إقحام جيشه في إنشاء منطقة عازلة في درعا، في جنوب سوريا، قبل أن تتغير المعادلات بعد دخول الجيش الروسي على خط الحرب السورية، أواخر عام 2015. و”غرفة الموك” لا زالت تحتفظ ببعض ما لم يروَ عنها حتى اليوم.

وكانت المعارضة السورية أكثر مَن تلقّف حديث الملك لتروّج له وتبني عليه معطيات وتحليلات تدفع أكثر في اتجاه تحريض الأردن على إيران، وتحشيد الرأي العام الدولي في مواجهة “مخاطر” التواجد الإيراني على حدود الجار الهاشمي.

ويعاني الأردن، على الأقل منذ عام 2018، من فوضى تهريب المخدرات على حدوده، ويتّهم بشكل مباشر إيران وحلفاءها بالوقوف وراء ذلك، ما دفع مدير أمن الحدود في الجيش الأردني العميد أحمد خليفات، قبل أيام، إلى إطلاق تصريح علني يتهم فيه إيران وحزب الله والنظام السوري بدعم التهريب وإحداث القلق والبلبلة لبلده.

ولكن يبقى الأهم: هل فعلاً ستسحب روسيا قواتها من الجنوب السوري، مع الأخذ في الحسبان أنّها سيّرت في الأيام الماضية دوريات جوالةً تابعةً لها على طول الحدود الأردنية؟ وهل الحاجة إلى مقاتلين على الجبهة الأوكرانية ستتفوّق على الخصوصية الجيو-سياسية للتموضع الروسي في الجنوب السوري؟ حتى الآن، لا إجابات حاسمة على ذلك.

رصيف 22

————————–

==================

تحديث 03 حزيران 2022

———————

حرب بلا أفق: هل أصبح الغرب الأوكراني آمناً؟/ علاء أبو عامر

صرّح الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، في مقابلة مع “أسوشييتد برس” في الخامس من الشهر الماضي (مايو/ أيار الجاري)، وهو الحليف الأقرب إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي نسّق معه المناورات والخطط العسكرية على الحدود قبل إعلان الحرب على أوكرانيا: “لست منغمسًا في هذه المشكلة بما يكفي، لأقول ما إذا كانت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تسير وفقًا للخطة، ‏كما يقول الروس، لكن أريد أن أؤكّد مرةً أخرى شعوري بأن هذه العملية قد طال أمدها”. رغم صيغة النأي الدبلوماسية بشأن عدم الاطلاع الكافي على الخطة العسكرية وتفاصيلها ومآلاتها، إلا أن لوكاشينكو قد ضمّن، في عبارته، أن المدة التي وُضعت قد تجاوزت أمدها المقرّر. وفي ظن صاحب هذه المقالة، وظن مراقبين أوكرانيين وغربيين، اطلع لوكاشينكو على الخطة الأولى للعملية العسكرية، ورافق بوتين في كل جولاته واجتماعاته، فلا يعقل أن تنطلق القوات العسكرية الروسية من أراضيه كي تحاصر كييف وتشرنيغف وغيرها من أراضٍ أوكرانية ولا يكون مطلعًا أو لا يكون له رأي في أهدافها، بل إنه كان على علم بساعة الصفر، مثل أي جنرال روسي في الجبهة، حيث وصف لوكاشينكو بوتين بـ‏‏”الأخ الأكبر”، وقال إن الزعيم الروسي ليست لديه “علاقات أوثق أو أكثر انفتاحًا أو أكثر وديةً ‏مع أيٍ من قادة العالم بخلافه هو”.

وعليه، يبدو أن الحرب الروسية على أوكرانيا دخلت في مرحلةٍ جديدة مختلفة عن سابقتها، وواضحٌ أن الدور البيلاروسي في الحرب قد تقلّص، أو ربما جرى الاستغناء عنه مؤقتًا أو كليًا، وهذا يعني أن كييف وتشرنيغف وغيرها من مدن جنوب الحدود البيلاروسية الأوكرانية قد باتت آمنة. إذ مثلت هذه الحدود، في المرحلة الأولى من الحرب، منبع الخطر من اجتياح روسي شامل لأوكرانيا، يمتد من الشمال باتجاه الغرب. وكان القلق يساور سكان مقاطعتي رفينو وفولين الأوكرانيتين الواقعتين على الحدود البيلاروسية، والمسافر إلى تلك الأقاليم يرى بعينيه الخنادق والدشم التي تملأ الشوارع الرئيسية والطرقات، والأجسام التمويهية ذات الطابع الحربي، وكذلك الحواجز العسكرية التي تفتش السيارات المارّة، وتتفحص بطاقات الهوية وجوازات السفر، وكذلك الأمر عند الاقتراب أكثر من خط الحدود، حيث تُرى فوهات المدافع والدبابات المتجهة شمالًا نحو بيلاروسيا.

السؤال هنا: هل تغيّرت الخطة، بحسب ما يتناقله سكان الشمال الغربي، بل والغرب الأوكراني عمومًا، بسبب تمرّدٍ حصل في قطاعات الجيش البيلاروسي في الأسبوع الثاني للحرب، حيث تشير الأخبار التي يتداولها سكان الشمال الغربي الأوكراني في ما بينهم، ومصدرها جيرانهم في مدن جنوب بيلاروسيا، إلى أن البيلاروس “منعوا قوات من بلادهم كانت متّجهة باتجاه أوكرانيا من العبور”. هذه الحكايات الإخبارية يجري تناقلها بشكل كبير في هذه الأنحاء من أوكرانيا، ولا يمكن التأكد من صحتها فهي لم تُنشر عبر وسائل الإعلام، بل تنتقل من شخص إلى آخر. لكن المؤكّد أن هناك معارضة واسعة لحكم الرئيس البيلاروسي في بلاده، وقد عبّر المواطنون البيلاروس في مظاهراتٍ عديدة خلال السنوات الماضية عن رفضهم حكم الرئيس لوكاشينكو الذي نعتوه بالدكتاتور. وقد استضافت أوكرانيا قبل الحرب، وما زالت، فئةً كبيرة من معارضي لوكاشينكو الذين سيّروا مظاهراتٍ حاشدة في العاصمة الأوكرانية كييف، مُطالبةً برحيله، وقد جرت تصفية أحد هؤلاء القادة المعارضين، وهو الناشط البيلاروسي فيتالي شيشوف، الذي عُثر عليه مشنوقًا في إحدى حدائق العاصمة الأوكرانية، وفق ما أعلنت عنه الشرطة التي فتحت تحقيقًا في جريمة قتل، فيما حمّلت منظمة يرأسها نظام الرئيس لوكاشينكو مسؤولية قتله.

التساؤل الذي يطرحه اليوم سُكّان مدن الغرب الأوكراني: بعد الانسحاب الروسي من محيط كييف وتشرنيغف (نتيجة ما يعتقدون أنه هزيمة روسية بفضل المقاومة الأوكرانية الباسلة)، ورفض مواطني بيلاروسيا وعناصر من جيشها المشاركة في القتال، هل تُنقذ مدنهم وقُراهم من ويلات الحرب؟ القراءة الأولية تقول نعم، حيث أصبح الهدف الروسي المعلن من العملية العسكرية يتلخص في السيطرة على إقليم دونباس ومناطق بحري آزوف والأسود؛ أي أن المعارك البرّية لن تطاول تلك الأقاليم، لبعدها عن مناطق المعارك التي حدّدتها روسيا، أي القريبة من حدودها، خصوصا الناطقة بالروسية ومناطق الجنوب الأوكراني التي معظم سكانها يتحدثون بالروسية أو بخليط لغوي وقومي روسي – أوكراني يُطلق عليه “السورجو”، حيث يصرّ الكرملين أن الهدف من العملية إنقاذهم من بطش المتطرّفين الأوكرانيين.

إلى أن يتضح أفق العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا في المرحلة المقبلة، والتي يبدو أنها تتغير بحسب الظروف والنجاحات العسكرية، فإن ما يمكن تسجيله من تجوّلنا في مناطق الغرب الأوكراني أن تلك الأقاليم، خصوصا فولين، تعيش حالة من السلام الكامل، لا تقطعه إلا صفارات الإنذار في أحيانٍ قليلة، أو حادثة قصف مطار العاصمة لوتسك، ما تسبّب في مقتل عددٍ من المدنيين، أو وصول جثامين لبعض قتلى الجيش الأوكراني إلى عائلاتهم، أو أخبار يتناقلونها في ما بينهم عن مصائر أبنائهم في الجبهة، بعضهم جُرح، بعضهم يتحدّث عن قتال شرس، وآخرون يتحدّثون عن الحنين بالعودة إلى زوجاتهم وأبنائهم، ويلعنون حرب بوتين على بلادهم.

يُلاحظ في الأقاليم الغربية أيضًا وجود هجرة كبيرة للاجئين من كييف ومناطق الشرق والوسط إلى قرى الغرب ومدنه، بعضهم من الأثرياء الذين استأجروا فللا ريفية، أمّا الآخرون فوزعتهم الدولة على المنتجعات والفنادق الفارغة من الرواد، كون العام لن يشهد موسمًا سياحيًا. والمحلات التجارية لم تُغلق في فترة الحرب ولا ندرة في المواد الغذائية، مع أن الملاحظ أن أغلب البضائع تأتي من الجارة بولندا لتسدّ النقص الحاصل نتيجة توقف المصانع، لكن الزراعة والإنتاج الحيواني مستمران، فالمزارعون أخذوا في استصلاح أراضيهم في تلك المناطق مع حلول فصل الربيع وارتفاع درجات الحرارة الملائمة لزراعة الذرة وعبّاد الشمس والفراولة وغيرها. وما لوحظ أن نساء أوكرانيات كثيرات يذهبن للعمل في بولندا في هذا الوقت من السنة في جني الثمار وتعليبها أو في أعمال أخرى، وكذلك كان يفعل الرجال قبل الحرب، لكن مع الحرب مُنعوا من مغادرة البلاد للدفاع عنها.

وفي ظل الصراع على من هو الأصل ومن هو الفرع؛ الروسي أم الأوكراني، تستمر الحرب في حصد أرواح أبناء الطرفين، فيما الاقتصاد الأوكراني يكاد ينهار، والمدن الأوكرانية في الشرق تتعرّض للدمار، والأطفال يغادرون لاجئين بلا آباء أو أمهات، وكبار السن يهيمون على وجوههم من دون مأوى. ما زال الأوكرانيون في الغرب يردّدون، في تحياتهم، إلى بعضهم أو يضعون نغمات رنين لهواتفهم عبارات مغناة مثل: “مساء الخير نحن من أوكرانيا” و”المجد لأوكرانيا، المجد للأبطال”.

حربٌ بلا أفق، حياة قلقة وانتظار، هذا حال سكان الغرب الأوكراني. وعلى الرغم من أخبار وتطمينات، تبقى العين على الحدود مع بيلاروسيا، فهي، وفق تحليلاتهم، مكمن الخطر الذي تستطيع روسيا من خلاله غزو مناطقهم، ويبقى الشباب ممن لم يذهبوا إلى الحرب بانتظار استدعائهم، بينما النساء يَعملن في مساعدة قوات الحماية المحلية كطباخات ومساعدات وممرضات وغيرها من الأعمال، في انتظار عودة أبنائهن وأزواجهن وأحبتهن بسلامٍ رفقة نصر مؤمّل.

العربي الجديد

——————————-

حربٌ في المدن: كيف باتت الثقافة المدينيّة «فقاعةً» قابلةً للانفجار/ محمد سامي الكيال

تحدّث كثير من المتابعين للحرب الروسية في أوكرانيا عن استراتيجية عتيقة ومتكررة للجيش الروسي في تعامله مع الأعداء، فسواء تعلّق الأمر بغروزني الشيشانية أو حلب السورية أو ماريوبول الأوكرانية، تتكرر المشاهد نفسها: مدن مدمرة بشكل شبه كامل، حُطمت كل المرافق الحضرية الضرورية لاستمرارها، وسوّي كل مركز مقاومة محتمل فيها بالأرض. المحظوظون من أهالي هذه المدن قد يتمكنون من اللجوء إلى مدن أخرى، تقوم بـ»إدماجهم» من جديد، ليس دون أثمان صعبة.

ما يجعل التكتيك العسكري الروسي عتيقاً، ليس فقط ارتفاع تكلفته الحربية والبشرية، لكن منظوره للمدن نفسها، بوصفها ماكينة للعدو، تنتج سلعاً وإمدادات ومقاتلين، ولا بد من تدميرها. ربما كان هذا منظوراً صحيحاً في القرنين الماضيين، لكن تكراره في أيامنا قد يشير إلى تخلّف نظرة القادة والجنرالات الروس للعالم، إذ أن خصومهم في الغرب لن يهتموا غالباً بدمار المدن القصيّة شرقاً، ما دامت تشكّل مستنقعاً يلتهم الموارد الروسية، وبعيدةً عن الحواضر العالمية الأساسية. المدن الأهم باتت بعرفهم أكثر حيوية من أن تعتبر ماكينات واجبة التدمير، فهي مركزٌ للتدفقات المالية والبشرية والثقافية، التي يمكن إدارتها والتحكّم بها، سواء عبر زيادتها وتضخيمها، لتصبح المدن بذلك ميداناً لتطوير حضري متسارع بجنون، وجاذباً لاستثمارات، تستوعب الفوائض المالية وتضاعفها بمتواليات هندسية؛ أو عبر قطع التدفقات وحصارها، ما يُنتج المدن المُفقرَة، التي تعاني من العقوبات الاقتصادية، والانغلاق السياسي والاجتماعي، والتصحّر الثقافي.

حدث هذا في مدن عدة: بغداد قبيل سقوط نظام صدام وبعده؛ طهران وكركاس حالياً؛ بل موسكو نفسها، التي يبدو أنها المستهدف بحرب مدن غربية جديدة، لم تظهر بعد نتائجها. بهذا المعنى فإن حرب المدن، على الطريقة الحديثة، لا تحتاج إلى كثافة نيرانية هائلة، ومعارك مكلفة، تنتقل من شارع إلى شارع. وإذا تطلّب الأمر استخدام العنف المحض، فتكفي بعض العمليات الموضعية، التي تتسم بالسرعة والكفاءة.

هذان المنظوران المتعارضان لحرب المدن، الروسي والغربي، قد يكونان مفيدين لفهم التطور في الثقافة المدينيّة. فالمنظور الروسي، الذي يبدو أشبه بطبقة أثرية غنية باللُقى القديمة، يذكّر بما كانته المدن في عصر التصنيع؛ فيما يكشف المنظور الغربي ما استجدّ بعد عقود من نزع التصنيع، وتراجع «الاجتماعي» وغلبة الإداري على السياسي. فما أهم التغيّرات التي طرأت على ثقافة المدن، وفهمها لذاتها؟ وما الذي تكشفه عودة حرب المدن، بالمعنى الكلاسيكي، عن منظورات الحاضر؟

ملحمة البورجوازية

ربما كانت العودة لإسهامات النقد الأدبي الحديث شديدة الأهمية لفهم الثقافة المدينيّة وتطوراتها. لاحظ عدد من النقّاد البارزين ظاهرة أساسية، ترافقت مع نمو المدن، ربما منذ عمل ثيرفاتنس الشهير عن جنون «دون كيخوته»: لم يعد الشعر والملاحم والنصوص الدينية، الفنون المناسبة للحياة المدينيّة، كل تلك القوالب كانت تُروى وتُنشد في حلقات جماعية. في المدن يفضّل الناس شراء كتب مطبوعة، وقراءتها منفردين، ولذلك يمكن اعتبار الرواية القالب المديني الأكثر مناسبة لحياة البشر المُحدثين، ورغم كل محاولات التحديث في الشعر والخطاب الديني، يبقى السرد الروائي الموطن الأكثر مناسبة للأدب، الذي استطاع الصمود مع تقدم الوسائل البصرية والسمعية للفن الحديث. من أهم محاولات تفسير هذا نظرية الرواية للفيلسوف والناقد الأدبي المجري جورج لوكاش: الفن الروائي هو، باختصار، ملحمة البورجوازية. الملاحم القديمة كانت تعبّر أساساً عن تماهي الفرد مع المجموعة، ما يعطي المعنى للبطولة. معظم شخصيات الملاحم كانوا آلهة أو أنصاف آلهة؛ فرسان قومهم وأشرافهم؛ أو ربما أنبياء وقديسين؛ مُثلاً توصل الحكمة والعبرة. لم يعد لهذا كثير من المعنى مع تطور المدن وصعود البورجوازية، فالوحدة البدائية بين الفرد والجماعة تراجعت لمصلحة التناقض الشامل في المجتمعات الحديثة، بين مصالح مختلف الطبقات والفئات والأفراد، في شرط يتسم بكثير من السوقية والتفاهة واللامعنى. من يبحث عن المعاني البطولية الثابتة سينتهي نموذجاً كاريكاتيرياً شبيهاً بـ»دون كيخوته». ولذلك أبدعت البورجوازية القالب المتناسب مع طبيعة حياتها: النثر، المعبّر عن صراعات لا تنتهي، وتشتت المعنى بين منظورات متعارضة، فيما بعد طوّر الفرنسي لوسيان غولدمان أفكار لوكاش، ليعتبر الرواية «قصة بحث متفسّخ عن قيم أصيلة، بطريقة متفسّخة، في مجتمع متفسّخ».

إلا أن لوكاش وغولدمان، وغيرهما من النقّاد المؤثرين بأجيال من أنصار المذاهب الحداثية والطليعية، كانا يعبّران عن معنى آخر، تولّد مع المدينيّة الحديثة: ربما كان المعنى الجمعي القديم قد تفسّخ، إلا أن الحياة في مجتمعات صناعية، قاهرة للفرد تحت سلطة المؤسسات الانضباطية والسلطوية، ومغرّبة إياه عن منتجه ومجتمعه وقيمه، تتيح للبشر إمكانيات التجمّع بأشكال جديدة. وإذا كانت الآداب البورجوازية قد اقتصرت على التعبير عن الاغتراب، والكوميديا/التراجيديا الحديثة، فهنالك فرصة لإنتاج ملاحم جديدة، تؤمن بمستقبل يستعيد فيه الناس سيطرتهم على منتجهم المادي والاجتماعي. وهكذا ولّد اجتماع البشر الحديث، وتضامنهم في وجه الشدائد، قصصاً أخرى عن حروب دارات في المدن، لكنها بعيدة بشدة عن التفاهة واللامعنى، من معارك عامة باريس المسلّحين منذ عصر الثورة وحتى أيام الكومونة؛ مروراً بصمود مقاتلي الجيش الأحمر إبان حصار ستالينغراد؛ وصولاً إلى نضال قادة التحرر الوطني في مدن وبلدات العالم الثالث. ربما تربى الجنرالات الروس أو تأثروا بكثير من النقد الاشتراكي، ولذلك ما يزالون يفهمون الأمور وفق المدرسة القديمة: إذا أردت تدمير مقاومة البشر وتضامنهم، فحطّم مدنهم، واردم مبانيها على رؤوسهم.

لا داعي لتدمير المدن، فهي كيانات مرنة تعد بالكثير، يمكن رفع ريعها أو خفضه بشكل هائل، عبر ضخ بعض البيانات أو حجبها، سواء كانت تحويلات مصرفية، أسهماً في البورصات، معلومات وأخباراً مؤثرة في المستثمرين وتعاملات الشركات، الخ. هكذا يرى المديرون، سواء كانوا في الحكومات أو الشركات الغربية، حروبهم اليومية. لم تعد المدن ملحمة البورجوازية، أو مجالاً لتضامن الطبقات التي خلقتها، وعلى رأسها الطبقة العاملة ونخب المستعمرات، بل مجرد تراكم اعتباطي لعلامات فارغة؛ كثير من المال الوهمي الذي لا يوجد ما يسنده؛ فقاعات عقارية تنفجر بشكل دوري. الملحمة هنا لم تعد صراع الطبقات، أو تناقض الفرد مع المجتمع والسلطة، بل مجرد «محتوى» فارغ، تقاس أهميته بما يجلبه من تفاعل و»ترافيك» أي من بيانات قابلة للبيع والتداول. وإذا أردت معاقبة مدينة وكسرها، فما عليك إلا أن تخفض جاذبيتها الاستثمارية، أي أن تجعل بياناتها ذات تصنيف ومؤشرات منخفضة. ما القالب الفني المناسب للتعبير عن كل هذا؟ ربما على نقّاد المستقبل التركيز أكثر على «المنصات» العارضة لـ»المحتوى».

الفقاعة الثقافية

لا تعرف المدن المعاصرة فقاعات عقارية ومالية، تنفجر دورياً حسب، فالتطوير الحضري له جانب ثقافي عضوي. يمكن القول إن الثقافة ونمط الحياة باتا من أساسيات الجاذبية الاستثمارية لأي مدينة، في عصر «الإنتاج اللامادي» وتسليع العواطف والرموز والهويات. وبات التنوّع والتسامح والتعددية الثقافية قيماً يمكن تداولها. من يرغب بالمغامرة بأمواله في مدن ذات لون وصوت واحد؟

إلا أن هذا «التطور» الذي يجلبه استثمار الفوائض الرأسمالية في الحواضر العالمية، يجعل الثقافة المدينيّة شبيهة بالأموال الوهمية التي تملأ البورصات، أي فقاعة تتضخّم من الرموز والعلامات، التي لا تجد بدورها ما يسندها من معانٍ وأفكار ومفاهيم. وربما كان ما يسمى بـ»الفن المعاصر» خير مثال عن ذلك: أعمال، توصف بـ»الفنية» لا يمكن تحديد ما يُعرّف جمالياتها، تملأ المتاحف ودور العرض، بدعم من البنوك والمؤسسات الثقافية الحكومية وغير الحكومية. قد تصل أثمان تلك «الفنون» وأجور صانعيها، إلى مبالغ خيالية، ثم فجأة تنطفئ، وتصبح قيمتها لا تساوي المواد الأولية الداخلة في إنتاجها. سبق للجغرافي البريطاني- الأمريكي ديفيد هارفي كتابة ما يشبه المرثية عن «غزو» الفن المعاصر لمدينة نيويورك، ومساهمته في تدمير الماضي الاجتماعي التضامني لسكانها ونخبها.

الأفراد الحزانى

عندما لا يجد الأفراد أكثر من فقاعات ثقافية، على «المنصات» وفي المعارض المختصة بـ»المحتوى» المعاصر، سيبدو سعيهم أكثر عبثية من وصف غولدمان المذكور أعلاه، حول تفسّخ البحث عن قيم أصيلة في المجتمعات الحديثة. يصبح الحزن والاكتئاب والانتباه المشتت بين ما لا يحصى من منبّهات السمة الأساسية لبشر يزدادون فقراً وعزلة وفقداناً للحقوق الأساسية، مع انفجار كل فقاعة مالية وثقافية. هؤلاء ضحايا حرب مدن لا تعرضها وسائل الإعلام ومنصات التواصل.

قد يكون أبناء المدن المدمّرة، البعيدة شرقاً، أصحاب تجربة أكثر عمقاً. بعضهم عرف معنى التضامن والمقاومة في وجه سلطات أشد مباشرة ووضوحاً؛ وآخرون حملوا تجاربهم بين عالمين. وفي كل الأحوال فقد يكونون شهوداً، أو حتى مساهمين، بانفجار نهائي للبنية المولّدة لكل تلك الفقاعات.

كاتب سوري

القدس العربي

—————————-

كيف قلب الغزو الروسي لأوكرانيا النظام العالمي؟

 أ ف ب

على مدى مئة يوم منذ بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا، تزعزع الاستقرار في أوروبا وضعف الاقتصاد الدولي وانقلب النظام العالمي رأسا على عقب.

لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مصر على المضي قدما في حملته رغم تدهور الاقتصاد الروسي والإخفاقات العسكرية.

في ما يلي تسلّط فرانس برس الضوء على الأمور التي تغيّرت منذ 24 شباط.

عزلة بوتين

قبل إطلاق #روسيا الغزو، كان بوتين محاورا دائما ولو فظا للعواصم الغربية. حتى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استقبله في مقر إقامته الصيفي في صيف 2019.

لكن القادة الغربيين لا يترددون اليوم في وصفه بـ”دكتاتور” و”مجرم حرب” بينما بات الرئيس الروسي معزولا وفُرضت عقوبات على مقرّبين منه مثل وزير الخارجية سيرغي لافروف الذي كان في الماضي يجري زيارات متكررة للغرب.

وأما داخليا، يبدو أن بوتين يسيطر على الوضع بل وحتى يحظى بالدعم في حربه ضد أوكرانيا، رغم الشائعات المتكررة وغير المؤكدة المرتبطة بوضعه الصحي وعدم الرضا في صفوف المقرّبين منه.

إعادة رسم خرائط

فشلت روسيا في هدفها الأول المتمثل بإطلاق هجوم خاطف أرادت من خلاله السيطرة على كييف، إذ واجهت مقاومة أوكرانية لم يتوقعها الكرملين.

مع ذلك، باتت القوات الروسية ترسّخ وجودها عميقا في الأراضي الأوكرانية، بينما تبدو موسكو عازمة على انتزاع جميع أراضي منطقة دونباس الناطقة بالروسية.

سبق لروسيا أن أعادت رسم خرائط بشكل صارخ من خلال ضمها شبه جزيرة القرم الأوكرانية المطلة على البحر الأسود عام 2014، علما أن المجتمع الدولي لم يعترف بالخطوة قط.

لكن في وقت لا يبدو بوتين في عجلة من أمره للانسحاب، ما زالت أهدافه النهائية غير واضحة.

وإذا سقطت منطقة دونباس، يمكن أن يكون ميناء أوديسا الاستراتيجي غربا “في خط النار”، وفق ما أفاد خبير الجغرافيا والديبلوماسي السابق ميشال فوشيه فرانس برس.

وأكد “الفترة التي بدأت غير مواتية للأوكرانيين”.

تحالفات روسية

وبينما وقف الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة صفا واحدا نسبيا (رغم الاختلاف في الاستراتيجيات) حيال الحاجة للضغط على روسيا، لم يكن هذا الموقف السائد على مستوى العالم.

لم تصدر أي إدانة صينية صريحة للهجوم الروسي واستغلت موسكو عزلتها في الغرب لتوطد علاقاتها مع بكين التي كانت مشحونة تاريخيا منذ الحقبة السوفياتية.

وبدت الهند التي تعد حليفة رئيسية لروسيا خصوصا في ما يتعلق بمبيعات الأسلحة متحفظة أيضا.

وكان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان حريصا على عدم تقويض العلاقات مع موسكو رغم استخدام أوكرانيا لمسيّرات تركيا.

وذكر مدير برنامج الحوكمة والديبلوماسية الإفريقية لدى المعهد جنوب الإفريقي للشؤون الدولية ستيفن غروزد أن معظم دول مجموعة “بريكس” للاقتصادات الناشئة كانت “مترددة للغاية” في إدانة الغزو.

وأفاد “أعتقد أن هناك دولًا في إفريقيا تقول إنها تفضّل البقاء على الحياد مثل جنوب إفريقيا، لكن يفسّر ذلك على أنه دعم لروسيا في هذا الوضع”.

ناتو مختلف

قبل 24 شباط، كانت مسألة انضمام فنلندا والسويد غير المنحازتين تاريخيا إلى حلف شمال الأطلسي بعيدة عن سلم الأولويات السياسية للبلدين الاسكندنافيين.

لكن الآن، تقدّمت فنلندا التي تتشارك حدودا برية مع روسيا والسويد التي تعود خلافاتها البحرية مع موسكو إلى قرون، بطلبين للانضمام إلى الناتو.

في الأثناء، أرسلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون آلاف الجنود الإضافيين للمساعدة على حماية حدود دول الناتو مع روسيا في بولندا ودول البلطيق.

عقوبات تؤثر على العالم

اتفقت قوى العالم على عقوبات تعد الأشد ضد روسيا، فسعت لقطعها عن الجزء الأكبر من الاقتصاد العالمي وإيذاء بوتين سياسيا.

لكن القيود تحمل خطر الإضرار بالمستهلكين خارج روسيا التي تعد مورّدا عالميا رئيسيا للحبوب وما زال الأوروبيون يعتمدون على إمداداتها من الطاقة. واتفق الاتحاد الأوروبي على حظر محدود على النفط الروسي، لكن الغاز سيمثّل خطوة أخرى.

ويشعر العالم بأسره بتداعيات الحرب التي تؤثر على النمو الاقتصادي وسلاسل التوريد وقطاعي الغذاء والطاقة. وأثارت المخاوف من أزمة غذائية، خصوصا في دول شمال إفريقيا التي تعتمد على الواردات الروسية، بحسب غروزد.

وأشار إلى أن كل ذلك قد يؤدي إلى تداعيات قد تتمثل بـ”انتفاضات أو تظاهرات. لذا، حتى وإن كان ما يجري بعيدا للغاية، هذا عالم مترابط، ويشعر به سكان جنوب الكرة الأرضية بالتأكيد”.

—————————

الاستخبارات الاميركية تؤكد:بوتين مصاب بالسرطان..وتعرض لمحاولة اغتيال

كشفت مجلة “نيوزويك” الأميركية عن أمرين خطيرين بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأول يتعلق بصحته المتراجعة، والثاني حول تعرضه لمحاولة اغتيال من داخل روسيا.

وقالت المجلية إن صحة بوتين كانت موضوع محادثات مكثفة داخل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، بعد أن أصدر مجتمع الاستخبارات تقييمه الشامل الرابع نهاية أيار،مايو، وبعدما بدا أن بوتين عاد إلى الظهور بعد خضوعه للعلاج في نيسان/أبريل من السرطان المتقدم.

محاولة اغتيال

وأضافت المجلة أن 3 من قادة المخابرات الأميركية ممن قرؤوا التقارير أكدوا لها أن التقييم يؤكد أيضاً حدوث محاولة اغتيال لبوتين في مارس/آذار.

ونقلت عن أحد كبار ضباط الاستخبارات -الذي يتمتع بإمكانية الوصول المباشر إلى التقارير السرية للاستخبارات- قوله إن قبضة بوتين قوية ولكنها لم تعد مطلقة، و”المناورات داخل الكرملين أصبحت الآن أكثر من أي فترة مضت من حكم بوتين، إذ شعر الجميع بأن النهاية قريبة”.

وقال التقرير إن المسؤولين رفيعي المستوى الذين يمثلون 3 وكالات استخبارات منفصلة يشعرون بالقلق من أن بوتين يشعر بجنون العظمة بشكل متزايد بشأن قبضته على السلطة، وهو وضع يجعل مسار الحرب في أوكرانيا صعباً وغير متوقع، لكنهم يقولون إن هذا يجعل احتمالات نشوب حرب نووية أقل احتمالاً. وحذر المسؤولون من أن عزلة الزعيم الروسي تجعل من الصعب على المخابرات الأميركية إجراء تقييم دقيق لوضعه وصحته.

مؤشرات تراجع صحته

وأورد التقرير بعض الأحداث التي وصفها بأنها تؤكد أن صحة بوتين ليست على ما يرام. وأشار في هذا الإطار، إلى الطاولة الطويلة جداً التي استخدمها بوتين في الكرملين لتسجيل الصور الفوتوغرافية لاجتماعاته المهمة، التي جاءت لترمز إلى جنون العظمة والخوف الجسدي. وأضاف أن تلك الطاولة التي كانت مكان اجتماع بوتين مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قبل أسبوعين فقط من غزو أوكرانيا، أصبحت بالنسبة لمجتمع الاستخبارات أساساً لقياس تراجع صحة الرئيس الروسي.

ويقول أحد كبار المسؤولين بوكالة استخبارات الدفاع إنهم لاحظوا أنه لم تكن هناك مصافحة ولا عناق دافئ، وإن المخابرات الفرنسية لديها ملاحظات كثيرة من الاجتماع ومن الرحلة إلى موسكو.

ثم جاء اجتماع بوتين في 21 أبريل/نيسان مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، حيث كانت صحة بوتين ليست جيدة، إذ كان مستلقيا على كرسيه ويمسك الطاولة بيده اليمنى.

وقالت المجلة إن تحليل العديد من المعلومات الاستخباراتية للبيت الأبيض أجمعت على أن بوتين كان مريضاً في مراحل متأخرة. وأضافت أن ظهور بوتين “يوم النصر” حيث جلس وهو منتفخ بشكل ملحوظ، يوضح أن صحته قد تلاشت، مضيفة أن مجتمع المخابرات الأميركية أجمع على أن وضعه كان أخطر مما كان يُعتقد سابقا، وأنه كان مرهقاً تماماً.

وأضاف التقرير أنه في ذلك الوقت تأكدت شائعة مفادها أن رجال الأمن في الكرملين كشفوا عن مؤامرة روسية لاغتيال بوتين. وكانت وكالة المخابرات المركزية وأجهزة المخابرات الأجنبية تلتقط قصصاً متسقة عن الخلاف على رئاسة وزارات الأمن القومي، فضلاً عن رغبة الدبلوماسيين الروس في الانشقاق إلى الغرب.

التسرع بالاستنتاجات

وقالت “نيوزويك” إنه وعندما بدأت معلومات استخبارية جادة تنتشر حول مرض بوتين، تم تحذير قادة الولايات المتحدة من القفز إلى الاستنتاجات بسرعة كبيرة، وتذكيرهم بأمثلة من “المعلومات الاستخبارية” الساخنة عن أسامة بن لادن وصدام حسين التي شكلت السياسة الأميركية ثم ثبت أنها مشكوك فيها.

ونفى وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف أي فكرة عن مرض بوتين. لكن أحد مسؤولي الاستخبارات الأميركية علق بأن إصرار لافروف على أن كل شيء طبيعي هو إعلان بالولاء لبوتين وليس أي نوع من التشخيص يجب الاستماع إليه.

وبعد نشر هذه القصة، نفى مجلس الأمن القومي في بيان للمجلة، قائلاً إن “التقارير التي تشير إلى وجود أي تقييمات لمجتمع الاستخبارات أو أنه تم إطلاع الرئيس عليها ليست صحيحة”.

وقال كبير قادة استخبارات الدفاع: “حتى لو اتفقوا على أن المعلومات الاستخباراتية بأن بوتين يحتضر موثوقة، فيجب عدم الاعتماد على ذلك أو الإشارة إلى دعم لروسيا من دون بوتين”. وتابع: “روسيا المسلحة نووياً لا تزال روسيا المسلحة نووياً، وسواء كان بوتين قوياً أو ضعيفاً، في الداخل أو الخارج؛ لا نرغب في استفزازه أو استفزاز خلفه المحتمل”. وقال: “بوتين مريض بالتأكيد (…) أما إذا كان سيموت قريباً فهو مجرد تكهنات. ومع ذلك، إنه لا يزال خطيراً، والفوضى تنتظرنا إذا مات”.

————————-

كيف وصلت صواريخ “جافلين” من أوكرانيا إلى إدلب؟

فنّد باحثون مستقلون الأخبار التي انتشرت مطلع الأسبوع حول وصول أسلحة غربية قدمت إلى الجيش الأوكراني من بينها صواريخ “جافلين” المضادة للدبابات، إلى المعارضة السورية في محافظة إدلب، عبر مهربي أسلحة.

وانتشر مقطع فيديو لشخص يتحدث بالعربية ويقول أنه تمكن من الحصول على تلك الأسلحة التي يبيعها بمبالغ تبدأ بسعر 15 ألف دولار أميركي للقطعة الواحدة. ويزعم المتحدث أنه من المعارضة السورية وأنه عاد من أوكرانيا مؤخراً بعدما اشترى أسلحة غربية المصدر هناك، وعاد بها عبر حافلة مستخدماً وثيقة سفر تركية خاصة باللاجئين.

    A Syrian militant calls his friend and says he’s safely returned from #Ukraine after buying Western weapons from Ukrainian military. He shows the first batch of the purchased materiel: several ATGMS, including a US-made #Javelin are visible. pic.twitter.com/y27gBsfHcJ

    — SMM Syria (@smmsyria) May 30, 2022

الفيديو الذي نشرته حسابات تتابع الحدث السوري في 30 أيار/مايو الماضي، تم دحضه بسرعة، كَون الشخص الظاهر في الفيديو يتحدث بلهجة أهل الساحل في سوريا، ما أعطى انطباعاً بأنه أحد عناصر المخابرات السورية وليس جزءاً من المعارضة السورية كما يدعي. وهو ما أكدته مصادر غربية لاحقاً.

وأفادت منصة “Ukraine Weapons Tracker”، المشروع المستقل الذي يدقق في صحة الأخبار والمعلومات حول أوكرانيا، بأن الفيديو يتضمن معلومات غير دقيقة، فبينما يتحدث الشخص في الفيديو عن امتلاكه صواريخ “FGM-148 Javelin” أميركية الصنع من أوكرانيا، فإن ما يشير إليه يظهر أسلحة مختلفة هي قاذفات “SMAW-D & APILAS” فرنسية الصنع في الواقع.

    The man also mentions “mines” (Actually ammo boxes) & rifles that are also claimed to be from Ukraine. The rifles are FN FAL & apparent M16A2. Again, easily sourced locally in Syria- but never seen in UA. It is worth a note that the APILAS has so far never been seen in UA either. pic.twitter.com/7IicldkJhN

    — 🇺🇦 Ukraine Weapons Tracker (@UAWeapons) May 30, 2022

وكان نظام الأسد استحوذ على تلك القاذفات في سنوات سابقة من المعارضة السورية ولا يوجد أي إثبات على أن الأسلحة الظاهرة في الفيديو الجديد آتية من أوكرانيا بالفعل، علماً أن المتحدث في الفيديو قدم مغالطات مماثلة عند حديثه عن الأسلحة الأخرى التي زعم أنها تتدفق من أوكرانيا، فيما ظهرت كل تلك الأسلحة في صور ومقاطع فيديو نشرتها وكالة الأنباء السورية “سانا” وحسابات تابعة لـ”قوات النمر” في الجيش السوري، منذ العام 2015.

    Tiger force capture MK7 MOD2 Anti-Personnel Obstacle Breaching System(US to rebels supply) from IS(https://t.co/bq07wEyq1F) SMAW-D, Milan ATGMs, and more.https://t.co/S4VsTgfJsshttps://t.co/CS8yNMv0KM pic.twitter.com/1da9fT58De

    — monitoring (@warsmonitoring) August 3, 2018

واللافت تحديداً أن قاذفات “SMAW-D & APILAS” فرنسية الصنع لم تكن جزءاً من الأسلحة التي قدمتها الدول الغربية إلى أوكرانيا لمساعدتها ضد الغزو الروسي الذي بدأ أواخر شباط/فبراير الماضي. وكذلك بقية الأسلحة التي ظهرت في الفيديو.

ورغم أن تهريب الأسلحة بين أوكرانيا ودول الشرق الأوسط، بما في ذلك سوريا، كان موجوداً في الماضي، إلا أن ظروف الغزو الروسي لأوكرانيا عقّدت ذلك المشهد إلى حد كبير. وبحسب باحثين غربيين، فإن الفيديو الأخير هو جزء من محاولة نظام الأسد وحليفته روسيا لتزييف الوقائع، للقول أن هناك علاقة بين أوكرانيا والجماعات الجهادية في إدلب، وشيطنة كل من الدولة الأوكرانية والمعارضة السورية، وحتى اللاجئين المدنيين في تركيا على حد سواء.

    Needless to say, ignore this video.

    For sources on SMAW-D in Syria, please see:https://t.co/IlLDmDeFtnhttps://t.co/qCgH7PrnxD

    For sources on APILAS in Syria, please see:https://t.co/jJbgmxlFFfhttps://t.co/m7h3AeUhwO

    — 🇺🇦 Ukraine Weapons Tracker (@UAWeapons) May 30, 2022

———————

حرب المائة يوم… متى تنتهي؟/ الياس حرفوش

هذا هو اليوم المائة من الحرب الروسية في أوكرانيا. ولا أحد يملك الجواب عن الطريقة التي ستنتهي بها هذه الحرب ولا عن عدد الشهور أو السنين (؟) التي ستستغرقها. الأكيد أن روسيا وحلفاء أوكرانيا الغربيين دخلوا (وأدخلوا العالم معهم) في مغامرة صار صعباً العثور على مخرج منها. كميات الأسلحة القادمة إلى الجبهة الأوكرانية، وأكثرها تطوراً الصفقة الأخيرة من الصواريخ الأميركية التي يصل مداها إلى 70 كلم، من بين حزمة أسلحة تبلغ قيمتها 700 مليون دولار، لن تفعل سوى «زيادة صب الزيت على النار»، كما وصفها بحقّ الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف. أما الرئيس بايدن فقد أكد أن هذه الصواريخ لا تستهدف روسيا، ولا توجد خطط في واشنطن لإسقاط الرئيس بوتين، ورأى من جهة أخرى أنها تعزز موقف أوكرانيا في المفاوضات، وتزيد فرص التوصل إلى حل دبلوماسي.

موسكو قرأت رسالة أخرى من صفقة الصواريخ هذه، وحذرت وزارة الخارجية الروسية من أن هذه الأسلحة سوف تزيد مخاطر المواجهة المباشرة بين روسيا والولايات المتحدة، بسبب المخاوف من بلوغها أهدافاً داخل الأراضي الروسية. وبالطبع، ترى موسكو أن زيادة تسليح أوكرانيا تزيد تصلب موقفها وليس العكس.

بحساب المكاسب، يصعب العثور على رابح من هذه الحرب حتى الآن. سياسياً وعسكرياً، كل المتورطين خاسرون. لا أتحدث هنا عن الأضرار التي أصابت الاقتصاد العالمي وإمدادات الطاقة والغذاء والكلفة اليومية لعيش المواطنين في معظم أرجاء الكرة الأرضية. دعونا ننظر إلى ما حققته الأطراف المتحاربة بعد هذه الأيام المائة من الحرب.

دخل بوتين الحرب لحماية القاطنين في المناطق الشرقية من أوكرانيا من «الإبادة»، ولنزع سلاح أوكرانيا وتنظيفها من «النازيين». ودخل الغرب الحرب لنصرة أوكرانيا التي تعرضت في نظر الحكومات الغربية لـ«عدوان» على سيادتها ووحدة أراضيها. وأصحاب الحجتين على الجانبين عجزوا إلى الآن عن تحقيق الكثير من أهدافهم.

فحرب «الإبادة» التي يقول بوتين إن أصدقاءه في شرق أوكرانيا كانوا يتعرضون لها، لا تقارن بما يتعرضون له اليوم، بعدما صارت أراضي منطقة الدونباس مسرحاً لأشد مراحل الحرب ضراوة. وبدلاً من نزع سلاح أوكرانيا صار هذا البلد محطة لتجارب مختلف أنواع الأسلحة الغربية. فيما تصاعدت النزعة القومية ومشاعر العداء لروسيا بين الأوكرانيين. أما الغرب الذي نجحت أسلحته في دعم المقاومة الأوكرانية ومنع سقوط العاصمة كييف وبالتالي حماية حكومة الرئيس زيلينسكي، فقد فشل حتى الآن في مساعدة أوكرانيا لاستعادة مناطقها الشرقية، وعلى العكس، تتقدم القوات الروسية هناك وتستولي على أراضٍ جديدة، بعدما حوّلت جهدها للسيطرة الكاملة على هذه المناطق، وتخطط لضمها إلى الأراضي الروسية لاحقاً.

يزيد غياب الوساطات من مخاطر تدهور هذه الحرب صوب أسوأ السيناريوهات. اللقاء اليتيم بين الجانبين على مستوى وزيري الخارجية عقد بوساطة تركية في 29 مارس (آذار) الماضي. ومنذ ذلك التاريخ ظهرت مبادرات كثيرة، آخرها عرض من إيطاليا رفضه الروس، فيما تتكرر الاتصالات بين بوتين وعدد من القادة الغربيين، أبرزهم الرئيس الفرنسي ماكرون والمستشار الألماني شولتس، من دون أن تخرج أي تفاصيل عن عروض لتسوية النزاع، أو مواقف أكثر ليونة من أحد الطرفين.

وفي ظل تصعيد المواقف المتقابلة، يصبح العثور على حل وسط، أو ما يوصف بإنزال المتحاربين عن الشجرة، أكثر صعوبة. ما هي التنازلات التي يمكن أن تقدمها روسيا؟ وعلى ماذا يمكن أن يوافق الغربيون؟ بوتين لن يقبل بأقل من السيطرة الكاملة على منطقة الدونباس، بعدما أصبحت صورته وموقعه داخل القيادة الروسية على المحك. أي أنه سيعتبر مطلب العودة إلى ما قبل حدود 24 فبراير (شباط) الماضي إعلاناً لهزيمته. والدول الغربية التي وظفت ثقلها السياسي وإمكاناتها الاقتصادية والعسكرية بهدف منع تسجيل سابقة في أوروبا بكسب أراضٍ بالقوة المسلحة، لا يمكن أن تقبل الآن بحل «وسط» يبقي قوات بوتين في المناطق التي سيطرت عليها بعد هذا التاريخ. للتسجيل، أميركا وحدها أنفقت إلى الآن على هذه الحرب 14 مليار دولار، كما وافق الكونغرس على حزمة مساعدات إضافية بقيمة 40 مليار دولار.

وفيما يرى خبراء غربيون في تسوية النزاعات المسلحة أن المخرج الذي يمكن أن يقبل به الغرب هو العودة إلى ما كان عليه الوضع قبل قيام بوتين بـ«عمليته الخاصة»، بمعنى السكوت عن ضم شبه جزيرة القرم ودفع أوكرانيا إلى القبول بذلك، مع إمكان قيام نوع من «الحكم الذاتي» في الأماكن المتنازع عليها في الشرق الأوكراني، فإن من الصعب أن يوافق بوتين على ذلك إلا إذا شعر بأن جيشه يواجه الهزيمة، وهو ما لا يشير إليه الوضع اليوم.

في المقابل، تصدر أصوات في الولايات المتحدة وفي عواصم غربية أخرى تطالب بعدم إيصال العلاقة مع موسكو إلى القطيعة الكاملة، بحجة أنها في «البيت الأوروبي»، ومن الضروري المحافظة على علاقات طيبة معها. وإلى جانب افتتاحية «نيويورك تايمز» قبل أسبوع التي اعتبرت أن هزيمة روسيا فكرة «خطيرة وغير واقعية»، كانت مداخلة هنري كيسنجر في منتدى دافوس التي أثارت ردود فعل متباينة، والتي نصح فيها بعدم دفع موسكو إلى «حلف دائم» مع الصين.

غير أن هذه الأصوات تبقى خافتة يحجبها هدير الدبابات وقصف الصواريخ. فالأرجح أن ساحة المعركة هي التي ستحدد مسير التطورات المقبلة. والرئيس زيلينسكي يرى أن هذه الحرب سيتم كسبها في ساحة القتال، لكن وقفها سيكون على طاولة المفاوضات. وقصده أن التفاوض سيكون بين المهزوم والمنتصر.

إشارة مبالغة في التفاؤل، كما أنها غير مطمئنة ولا ودية للرئيس بوتين.

الشرق الأوسط

———————-

روسيا تستعد لمرحلة جديدة بعد 100 يوم من الحرب/ رائد جبر

الغرب يتوعد بهزيمة بوتين

مع مرور 100 يوم على الحرب الروسية في أوكرانيا يتضح أكثر حجم التغيرات التي فرضتها المواجهة على الساحة الدولية، وعلى الأطراف المنخرطة في الصراع بشكل مباشر أو غير مباشر. وكما يقول خبراء، لم يسبق أن شهد العالم تحولات متسارعة بهذه الدرجة من الحدة وبهذا العمق الذي شمل كل منظومة العمل الدولي، وانسحب على التحالفات والمحاور التي بدا جزء منها متماسكاً إلى أقصى درجة كما ظهر لدى «الغرب الجماعي» وفقاً للمصطلح الذي بات أكثر تردداً في موسكو في وصف «الأعداء»، بينما بدت محاور أو تكتلات أخرى إقليمية ودولية مرتبكة وحائرة أمام التطورات المتسارعة وأمام الواقع الجديد الذي فرضته الحرب في أوكرانيا.

ومع استعداد موسكو للمرحلة الجديدة بأهداف أوسع من أهداف «المرحلة الثانية» التي انحصر نطاقها في منطقة دونباس، يبدو الغرب من جهته أكثر قدرة على مواجهة الموقف وتعزيز مسار مواجهة طموحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل وتعهد الغرب بإلحاق هزيمة كاملة بمشروع روسيا الإقليمي والدولي.

– انسداد أفق المفاوضات

وتتخذ الترجيحات أبعاداً أكثر غموضاً مع انسداد أفق إعادة إطلاق المفاوضات، واحتمال وضع سيناريو يمكن الطرفين الروسي والأوكراني من التوصل إلى حل وسط. وحتى محاولات الوساطات المتعددة التي برزت في الأسابيع الماضية، لم تنجح في وضع تصور لتهدئة الموقف أو الشروع في بلورة آليات للتسوية.

وواجهت المبادرة الخجولة التي طرحتها إيطاليا هجوماً عنيفاً من جانب موسكو التي رأت فيها «اغتراباً كاملاً عن الأمر الواقع الجديد الذي كرسته العملية العسكرية»، وفي المقابل تراوحت محاولات تركيا وأطراف أخرى للعب دور الوساطة في مربع ميت، ولم تقابل الدعوة الأخيرة لعقد اجتماع روسي أوكراني بحضور الأمم المتحدة حماساً من جانب موسكو. لا يبدو أن إنجاز أهداف المرحلة الثانية من الحرب التي تم خلالها تركيز الجهد العسكري الروسي في مناطق الشرق والجنوب، وتثبيت الأمر الواقع الميداني السياسي الجديد بتقسيم أوكرانيا إلى منطقتي نفوذ سوف يقود إلى وضع نهاية للمواجهة. خصوصا أنه برزت من الطرفين إشارات إلى أن إطالة أمد الحرب، ودخولها مراحل جديدة غدا بين الخيارات الأكثر ترجيحاً.

– حصيلة 100 يوم من المعارك

مع تركيز القوات الروسية والقوات الموالية لها جهدها في منطقة دونباس تم إحراز تقدم ملموس على جميع محاور القتال، وشكل استكمال السيطرة على ماريوبول في منتصف مايو (أيار) نقطة تحول مهمة، كون التقدم حقق واحدا من الأهداف الأساسية للمعركة وهو فصل أوكرانيا نهائيا عن بحر أزوف، وتثبيت مناطق سيطرة موسكو في القطاع البري شمال شبه جزيرة القرم. ومع توسيع مساحة سيطرة الانفصاليين في إقليمي لوغانسك ودونيتسك لتبلغ نحو 90 في المائة من إجمالي مساحة الحدود الإدارية للوغانسك وأكثر بقليل من 65 في المائة وفقا للتوزيع الإداري قبل 2014، بدا أن موسكو باتت تقترب من نهاية هذه المرحلة من دون أن تحقق بقية أهدافها. فهي مع تثبيت سيطرتها على خيرسون التي تتمتع بموقع استراتيجي مهم كونها تقع إلى شمال القرم مباشرة، لكن فشلت عمليات في توسيع مساحة السيطرة على زاباروجيه المجاورة. وفي استكمال مهام تحقيق تقدم ميداني في وسط البلاد لتثبيت خطوط فصل جديد على ضفتي نهر دنيبرو.

ويمكن ملاحظة أن الجيش الروسي انتقل إلى استخدام آليات مختلفة عن المرحلة السابقة في تكتيكات المعارك شملت التوقف عن شن عمليات الهجوم المباشر على المناطق، والاكتفاء بتقديم غطاء جوي كامل لوحدات الانفصاليين الذين تقاتل إلى جانبهم وحدات شيشانية ومتطوعون من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا ومناطق أخرى. ساهم ذلك في تقليص الخسائر المباشرة للجيش الروسي بشكل ملحوظ.

– الطيران الاستراتيجي والصواريخ

كما لوحظ توسيع استخدام الطيران الاستراتيجي والصواريخ بعيدة المدى في شن ضربات جوية مركزة على المناطق المحاصرة والمنشآت التي تزودها بالعتاد والسلاح والوقود.

فضلا عن استهداف المعسكرات والمرافق ومحطات سكك الحديد في مناطق وسط وغرب البلاد، وهي مواقع تستخدم إما لتجميع ونقل الإمدادات إلى المناطق التي تجري فيها المعارك وإما لاستقبال الشحنات العسكرية الغربية. كما يتم استهداف منشآت تخزين الوقود بنفس الطريقة.

بالتزامن مع استمرار «معركة دونباس» بدت مؤشرات إلى الأهداف الروسية في المرحلة المقبلة بدأت تتخذ نطاقا أوسع. وساهم غياب أفق لتسوية سياسية مع رفض أوكرانيا الاستجابة لشروط موسكو في القبول باستقلال لوغانسك ودونيتسك وسيادة روسيا على القرم. في تعزيز نهج الكرملين نحو المضي في معركته حتى النهاية ورفض القبول بأي مبادرات لوقف إطلاق النار. في هذه الأجواء، عادت أوساط روسية إلى التركيز على أن الأهداف التي وضعها الرئيس فلاديمير بوتين عند إعلان الحرب والتي تمثلت في «اجتثاث النازية وتقويض كل القدرات العسكرية لأوكرانيا» وهما هدفان بين أهداف أخرى يعكسان إصرارا على السيطرة على كل أوكرانيا، وإطاحة السلطة الحاكمة فيها.

– 3 مجالات رئيسية

في هذا الإطار عكست كلمات الخبير العسكري فلاديسلاف شوريغين في مقابلة صحافية الإطار العام للتحرك الروسي في مرحلة مقبلة، إذ قال: «أمام روسيا حاليا ثلاثة مجالات رئيسية. الأول، هو الهزيمة النهائية للقوات المسلحة الأوكرانية في دونباس. بعد ذلك، الضغط باتجاه ترانسنيستريا (مولدافيا) من أجل القضاء على التهديد، في اتجاهي أوديسا ونيكولاييف. وبوجه عام، سوف نحاول جعل هذا الجزء من البحر الأسود بحرا داخليا لنا. بالإضافة إلى ذلك، هناك مهام لطرد القوات الأوكرانية من شمال شرقي ووسط البلاد، أي من زاباروجيه، وخاركوف. والمرحلة الأخيرة هي كييف. أي أنه لا يزال لدينا ما يكفي من العمل والمراحل».

أيضاً، في سياق المهام الأخرى الموضوعة تشكل عملية التحضير لضم أجزاء من أوكرانيا نهائيا إلى روسيا واحدة من الأهداف الأساسية حاليا. وحمل مرسوم بوتين في 25 مايو حول تسهيل منح الجنسية لسكان خيرسون وزاباروجيه إطلاقا عمليا لهذه المرحلة. وبالتأكيد وفقا لتصريحات عدد من المسؤولين والبرلمانيين فإن روسيا «لن تنسحب أبدا من المناطق التي سيطرت عليها».

– تمدد حلف «الناتو»

في المحيط الروسي تبدو نتائج جهود موسكو لحشد تأييد واسع لمواقفها متواضعة حتى الآن. ولم يحمل عقد قمة بلدان منظمة الأمن الجماعي ثم اجتماع وزراء الدفاع لهذه المجموعة جديداً على صعيد تحفيز شركاء روسيا في المجموعة على إعلان مواقف أو القيام بخطوات ملموسة لتخفيف الضغط عنها. ورغم أن موسكو وشريكتها الأقرب مينسك انطلقتا في هذا المجال من التحذير من مخاطر تمدد حلف الناتو على المجموعة الإقليمية كلها، لكن كما اتضح من غياب مواقف واضحة ومعلنة لهذه البلدان فإن التعامل مع مشكلة توسع الناتو لا يقابل بنفس الدرجة من الاهتمام لدى بلدان المنظمة. وهذا أمر مفهوم كون التهديد الأمني والعسكري المباشر يقع على عاتق روسيا وبيلاروسيا وحدهما، في حين أن بلادا مثل كازاخستان وقيرغيزستان أو أرمينيا لا تواجه مشكلات جدية مع ملف انضمام فنلندا والسويد مثلاً إلى حلف الناتو.

– «الاتحاد الاقتصادي الأوراسي»

على الصعيد الاقتصادي سعت موسكو إلى تحفيز مجموعة «الاتحاد الاقتصادي الأوراسي» لتخفيف وطأة العقوبات الغربية عليها. لكن هذه المجموعة التي تضم ست جمهوريات سوفياتية سابقة وبرغم أن معاملاتها التجارية تجري بالروبل بنسبة 75 في المائة من التبادلات لكن يبقى حجم تأثيرها محدودا للغاية، بالمقارنة مع إجمالي حجم المبادلات التجارية الروسية. كما أن هذه البلدان لا تمتلك القدرات الصناعية والتقنية التي وفرتها بلدان الغرب سابقا لروسيا. وفي المجال الأوسع، يشكل انضمام فنلندا والسويد المحتمل إلى حلف شمال الأطلسي أكبر وأبرز تداعيات الحرب حتى الآن، وهذا يعني تغيير موازين القوى كلياً في شمال أوروبا، وأحكام تطويق روسيا في بحر البلطيق، فضلاً عن تغير السياسات حيال التعامل مع ملف القطب الشمالي، الذي كان حتى وقت قريب مثالا على القدرة على التعاون وتحوّل سريعا إلى منصة مهمة للتنافس والمواجهة.

– تغير أولويات أوروبا

لكن الأسوأ من ذلك بالنسبة إلى موسكو أن 100 يوم من الحرب أنتجت تبدلاً غير مسبوق في أولويات أوروبا، وقلبت موازينها ليس فقط لجهة البحث عن مصادر جديدة للطاقة، بل وفي مجال «عسكرة» الاتحاد الأوروبي الذي بدا كما يقول مسؤولون روس إنه «لم يعد يظهر فوارق تميزه عن حلف الأطلسي».

وحملت الحرب انعكاسات مهمة على ملفات مرتبطة بسياسات روسيا بشكل مباشر، وخصوصا في سوريا حيث تصاعدت وتائر الهجمات الإسرائيلية خشية من قيام إيران بشغل الفراغ الذي أحدثه الانشغال الروسي بأوكرانيا، وأيضا تحركات تركيا لتوسيع مساحة المنطقة الآمنة في الشمال السوري. في الحالين ترى موسكو تهديدا لنظام التهدئة ما يشكل عنصرا ضاغطا عليها. لكن الملاحظ هنا أن موسكو تعاملت حتى الآن بهدوء مع التهديد التركي بشن عملية عسكرية، في المقابل بدت اللهجة الروسية تجاه إسرائيل أكثر قسوة من السابق، وبرزت تحليلات تقول إن تل أبيب «تنسق تصعيدها في سوريا مع واشنطن لتعزيز الضغط على موسكو في أوكرانيا».

الشرق الأوسط

———————–

استراتيجية بايدن في أوكرانيا… “توازن” أم “جنون”؟/ جورج عيسى

طالب بعض المراقبين الولايات المتحدة بأن يكون لها هدف واضح في أوكرانيا. ما جاء في صحيفة “الفايننشال تايمز” قبل أربعة أيام مثل بسيط على ذلك: “خلف الخطاب الواثق بنفسه، ثمة وضوح أقل بكثير عمّا تؤْمن واشنطن بأنه يمكن ويجب أن يحصل في أوكرانيا. ثمة تفصيل قليل عمّا ستبدو عليه هزيمة استراتيجية لروسيا أو ما هو نوع التسوية حول الأراضي الذي قد تنتهي الولايات المتحدة إلى تشجيع الأوكرانيين كي يقبلوا به”.

ووفقاً لنقاط حوار داخلية صاغها أخيراً مجلس الأمن القومي الأميركي قرأتها الصحيفة، “تسعى (واشنطن) إلى أوكرانيا ديموقراطية، سيّدة ومستقلة” وتهدف إلى التأكّد من أنّ جهود روسيا للسيطرة على أوكرانيا “تنتهي بفشل استراتيجي”. ونقلت عن السفير الإيطالي السابق إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) ستيفانو ستيفانيني قوله: “يرغب الأوروبيون لو علموا ما هي خطة النهاية، لأنّ فكرة روسيا خاسرة – أو غير رابحة – لم يتم تحديدها”.

الجواب أتى سريعاً؟

لم يتأخّر “الردّ” الأميركيّ. قبل يومين، كتب الرئيس جو بايدن مقال رأي في صحيفة “النيويورك تايمز” تحت عنوان “ما ستفعله وما لن تفعله أميركا في أوكرانيا”. أعاد بايدن تأكيد أنّ بلاده تريد “رؤية أوكرانيا ديموقراطية، مستقلة، سيدة ومزدهرة مع الوسائل للدفاع عن نفسها وردع المزيد من الاعتداء”. وكتب أيضاً أنّه سيلتزم شعار “لا شيء عن أوكرانيا بلا أوكرانيا” مضيفاً: “لن أضغط على الحكومة الأوكرانية – في السر أو العلن – لتقديم أي تنازلات إقليمية. سيكون فعل ذلك خاطئاً ومتعارضاً مع المبادئ الراسخة”.

تجنّب بايدن في مقاله الإشارة إلى نيّة في إلحاق “هزيمة استراتيجية” بروسيا. بما يشبه عكس ذلك، أشار إلى “أنّنا لا نريد إطالة الحرب فقط من أجل إنزال الألم بروسيا”. لكنّه في الوقت نفسه ذكر أنّه “إذا لم تدفع روسيا ثمناً باهظاً لأفعالها، فسيوجّه ذلك رسالة إلى معتدين محتملين آخرين بأنّهم قادرون هم أيضاً على الاستيلاء على الأراضي وإخضاع دول أخرى. سوف يعرّض بقاء ديموقراطيات مسالمة أخرى للخطر”.

تعابير مبهمة

ربّما رأى بايدن أنّ استخدام عبارة “خسارة” أو “هزيمة استراتيجيّة” تصعيد مع روسيا لا يريده. في المقابل، إنّ فرض “الثمن الباهظ” قد لا يعني بالضرورة إنزال هزيمة نكراء بروسيا بل حرب استنزاف لقواتها ومواردها العسكرية والمالية. مع ذلك، يجب الاعتراف بأنّ الخط الفاصل بين المفهومين غير واضح تماماً.

من جهة ثانية، قد لا يريح إعلان بايدن أنّه لن يضغط على كييف لتقديم تنازلات لصالح روسيا حلفاء واشنطن في أوروبا الغربية الخائفين من إطالة أمد الحرب، أكان لسبب إنسانيّ أو اقتصاديّ أو للسببين معاً. إذا كان الهدف الأساسيّ بالنسبة إلى هؤلاء تقصير مدّة الحرب فقد ينطوي ذلك بشكل غير مباشر على القبول بالتنازل عن الأراضي التي اجتاحتها روسيا لغاية اليوم أو عن قسم كبير منها. لن يقول الأوروبيون الغربيون هذا الكلام بشكل مباشر، لكنّهم يدركون أنّ الأوكرانيين لا يستطيعون فرض شروطهم من دون الدعم العسكريّ الغربيّ.

وعلى أيّ حال، إذا كانت “الهزيمة الاستراتيجية” لروسيا غير واضحة المعالم في واشنطن فإنّ “عدم إذلال” موسكو كما قال الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون هو تعبير مبهم أيضاً. قد يعني هذا التعبير أيّ مرادف بدءاً من عدم إرسال أسلحة فتّاكة إلى أوكرانيا وصولاً إلى إرضاء روسيا عبر إعطائها الأراضي التي استولت عليها.

أسلحة جديدة تقلب الطاولة؟

يوم الاثنين، أوضح بايدن أنّه لن يرسل أسلحة قادرة على استهداف الأراضي الروسية. تلقّى الرئيس الأميركي انتقادات من المتشدّدين الذين يريدون زيادة التكلفة على موسكو، ومن بينهم السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام والسفير السابق إلى روسيا مايكل ماكفول. يبدو أنّ ذلك ساهم ولو جزئياً في تراجع بايدن عن قراره وفقاً لصحيفة “النيويورك بوست“. ففي مقاله، وبالرغم من تشديده على أنّ واشنطن لا تريد الحرب مع روسيا ولا تريد تغيير حكمها، أعلن أنّه سيرسل “أسلحة أكثر تطوّراً” و”صواريخ دقيقة” إلى أوكرانيا.

لكن ليس مؤكّداً ما إذا كان بايدن قد تراجع عن قراره فعلاً. فالصواريخ التي ستُرسل هي من طراز “هيمارس”، ومن المرجّح أن ترسل واشنطن المقذوفات التي تتمتّع بمدى متوسّط يراوح بين 70 و 80 كيلومتراً بحسب صحيفة “كييف بوست“، التي أشارت إلى أنّ أوكرانيا تحتاج بشكل يائس إلى مقذوفات “أتاكْم” (تُطلق أيضاً من “هيمارس”) ومقاتلات “أف-16”. فالأولى قادرة على تسليم رؤوس تقليدية بزنة تفوق 200 كيلوغرام وتمكّن أوكرانيا من ضرب جميع القواعد الروسية الجوية داخل أوكرانيا كما أسطول البحر الأسود الذي ينفّذ الحظر على تصدير الحبوب، بحسب الصحيفة.

على أيّ حال، هذه الصواريخ التي سترسلها واشنطن ستكون أقلّ بكثير من الأسلحة الطويلة المدى لكن أيضاً أعظم بكثير ممّا حصلت عليه حتى اليوم وفقاً لشبكة “سي أن أن“. بالفعل، ذكرت صحيفة “الغارديان” أنّ صواريخ “هيمارس” أطول مدى من مدفعية “هافيتزر” بحوالي الضعفين، وهي تقع خارج نطاق مدفعية روسيا بينما بالمقابل هي تضع البطاريات الروسية في دائرة الخطر. وقال بعض المحللين إنّ هذه الصواريخ “مغيّرة في قواعد اللعبة” بينما يعتقد آخرون أنّها لن تقلب الطاولة فجأة، لكنّ مسؤولاً كبيراً في وزارة الدفاع قال إنّها ستجعل الميدان متوازناً بين الطرفين.

نقاط لم يذكرها

ما لم يأتِ على ذكره بايدن أيضاً هو خططه الأمنيّة لأوكرانيا المستقبلية مهما كانت خريطتها الجغرافيّة. ثمّة مشكلة أولى في الضمانة الأمنيّة التي ترتبط بأوكرانيا “السيّدة” التي تريدها الولايات المتحدة. هل يقبل بايدن بأن تكون أوكرانيا مجرّدة من حقّها “السياديّ” بالانضمام إلى “الناتو”؟ ماذا عن حقّها “السياديّ” بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟ في الحالتين، يبدو أن لا جواب لدى الإدارة الأميركيّة، أو بالأحرى، لديها جواب لا يتوافق كثيراً مع تطلّعات أوكرانيا انطلاقاً من حقّها بالسيادة. الولايات المتحدة غير مستعجلة لضمّ أوكرانيا إلى “الناتو”، والاتحاد الأوروبي غير مستعجل هو الآخر لضمّها إلى صفوفه. و”عدم الاستعجال” هنا تعبير ملطّف عن الرغبة الحقيقيّة لصنّاع القرار في واشنطن وبروكسيل.

حتى تخلّي أوكرانيا عن الرغبة بالانضمام إلى “الناتو” جاء بفعل تلمّسها عدم وجود نيّة أميركيّة حقيقيّة لذلك بعد 14 عاماً على إطلاق الحلف الأطلسيّ تعهّده بأنّها ستنضمّ “في المستقبل” إلى صفوفه. بالمقابل، كانت فرنسا واضحة حين تحدّثت عن أنّ انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي قد يستغرق عقوداً. حتى مع افتراض أنّ أوكرانيا ستتخلّى أيضاً عن هذا الطموح، سيأتي يوم تطالب فيه أوكرانيا بضمانات أمنيّة حين تجلس إلى طاولة التفاوض. نوعيّة الضمانات التي تنوي واشنطن تقديمها لمنع غزو مستقبليّ لأراضيها تبقى هي الأخرى مثار تكهّن.

عن الأوراق غير المكشوفة

إذا كان من المفترض أن يوضح مقال بايدن استراتيجيّة الأميركيين في أوكرانيا فهو لم يفعل ذلك إلى حدّ بعيد. يمكن الدفاع عن الموقف الأميركيّ عبر الإشارة إلى أنّ الولايات المتحدة بالتأكيد لن تكشف جميع أوراقها أمام الروس، وهذا طبيعيّ. مع ذلك، ثمّة ملاحظة أخرى طرحها الأستاذ في جامعة “جونز هوبكينز” إليوت كوهين عن المقال: إنّ “إخبار الطرف الآخر ما لن نفعله” يرقى إلى “جنون استراتيجيّ”.

ربّما كان كوهين مبالغاً في ردّ فعله. لا يمكن إسقاط احتمال أن يكون بايدن راغباً باحتواء مسبق لتداعيات إرسال أقوى أسلحة نُقلت إلى أوكرانيا حتى اليوم، فكتب في “النيويورك تايمز” أنّه لا يريد حرباً مع الروس، بالرغم ممّا سيسمعونه (أو يختبرونه) عن الأسلحة الجديدة.

هو التوازن الذي استنتج البعض أنّ بايدن يحاول اعتماده. تقول الخبيرة في العلاقات الأميركية والأوروبية مع روسيا أنجيلا ستَنت: “من ناحية، هذا أمر جديد، نرسل إليهم أنظمة الصواريخ هذه، مع أنّنا أوضحنا أنّنا لا نرسل إليهم صواريخ ستصل إلى عمق الأراضي الروسية. من ناحية أخرى، هو يوضح تماماً أنّ هنالك حدوداً لما ستقوم به الولايات المتحدة”.

مع ذلك، قد لا ينتهي الجدل قريباً عن سبب رسم بايدن حدوداً لنفسه بشكل مجّانيّ في صراعه مع روسيا.

النهار العربي

————————-

أميركا وروسيا… الخطوط الحمر تتآكل/ سميح صعب

الرد الأميركي على التقدم الروسي في شرق أوكرانيا، جاء على شكل حزمة مساعدات عسكرية جديدة بقيمة 700 مليون دولار بينها راجمات صواريخ متطورة يبلغ مداها 70 كيلومتراً. وسرعان ما اعتبرت موسكو أن واشنطن “تصب الزيت على النار” في أوكرانيا من خلال إصرارها على إرسال المزيد من الأسلحة المتطورة إلى كييف، بما يمكن أن يهدد الأراضي الروسية.

وكان الكرملين واضحاً في القول إن الراجمات الأميركية تقرب احتمال المواجهة المباشرة بين روسيا والولايات المتحدة. وعلى ذلك، حاول البيت الأبيض أن يوضح أن الولايات المتحدة حصلت على تعهد من أوكرانيا بأن لا تستخدم الراجمات الأميركية ضد الأراضي الروسية.

وفي رسالة حازمة من موسكو في مقابل الخطوة الأميركية، أجرت القوات النووية الروسية تدريباً بعد ساعات فقط من إعلان واشنطن عن إرسالها الأسلحة النوعية إلى أوكرانيا. والمغزى من التدريب النووي الروسي لا يستعصي على الفهم، ويشير بصراحة إلى أن روسيا لن تقبل بتهديد أراضيها انطلاقاً من الأراضي الأوكرانية وبأنها مستعدة للذهاب إلى أقصى الخيارات.

كانت روسيا تأمل بأن يقنع التقدم الذي تحرزه قواتها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وداعميه الغربيين بأنه قد آن آوان الذهاب إلى مفاوضات جدية لوضع حد للحرب. لكن تبيّن أن القيادة الأوكرانية والغرب لا يزالان على تصميمهما بضرورة إلحاق الهزيمة بروسيا حتى ولو طالت الحرب أشهراً وسنوات.

هذه الإستراتيجية تفتح واسعاً باب التساؤلات، حول إمكان التحكم بإيقاع حرب استنزاف طويلة الأمد في أوكرانيا، وعدم تمددها إلى أطراف ثالثة، سواء بالصدفة أم من طريق الحسابات الخاطئة. ثم أن ثمة سؤالاً جوهرياً يتعلق بالثمن الذي ستدفعه أوكرانيا قبل روسيا لقاء حرب طويلة ستسفر عن إلحاق مزيد من الخسائر في الأرواح والبنى التحتية الأوكرانية، فضلاً عن الانعكاسات الخطيرة للحرب على بقية أنحاء العالم بينما الجوع يهدد أكثر من بلد، والغلاء يجتاح معظم الدول حتى الأوروبية منها، بفعل توقف إمدادات الحبوب الروسية بسبب العقوبات الغربية وعجز أوكرانيا عن تصدير إنتاجها من الحبوب بسبب الحصار الروسي المفروض على موانئها.

إن رهان واشنطن وشركائها الأوروبيين قائم على فرضية أن العقوبات الغربية غير المسبوقة، تحتاج إلى وقت كي يظهر تأثيرها في الاقتصاد الروسي، وتالياً في قدرة موسكو على تمويل آلتها الحربية. لذا يعتبر الغرب أن إطالة أمد الحرب هو ورقة رابحة في يده.

إنما السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو عن الثمن الذي ستدفعه أوكرانيا في سبيل تحقيق هدف جيوسياسي للغرب، وهو إلحاق الهزيمة الإستراتيجية بروسيا وشل قدرتها على القيام بمغامرات عسكرية في المستقبل المنظور؟

إن تحويل أوكرانيا إلى أفغانستان أخرى في قلب أوروبا ينطوي على الكثير من المخاطر، لا سيما إذا أراد بوتين الذهاب في خيارات غير متخيلة لتقصير مدة الحرب ووضع حد للإستنزاف الروسي. ومن يعرف سلوك بوتين، يدرك جيداً أن الزعيم الروسي لن يسمح بإذلال روسيا، وإذا شعر بأنه سيكون خاسراً فقد يقرر أن يخسر الجميع معه.

وهنا لا تعود أي من السيناريوات الكارثية مستبعدة. وعلى الولايات المتحدة أن تقرأ جيداً التحذير الروسي من اشتباك مباشر مع أميركا نتيجة استمرارها في تسليح أوكرانيا ورفض خيار التفاوض قبل إنزال الهزيمة بالجيش الروسي في الميدان وإنهاك إقتصادها في الداخل.

فهل تجاوزت واشنطن الخطوط الحمر الروسية في أوكرانيا عندما قررت الرد على التقدم الروسي في الدونباس، بحزمة أسلحة متطورة قد تكسر قوة الردع الروسية؟

أوكرانيا هي عنوان أخطر مواجهة أميركية -روسية منذ إنتهاء الحرب الباردة، وعلى هذه المواجهة يتوقف شكل النظام العالمي الذي إنهار عندما اجتازت أول دبابة روسية الحدود مع أوكرانيا في 24 شباط (فبراير) الماضي.

النهار العربي

—————————

====================

تحديث 05 حزيران 2022

———————-

ضرورة تأميم قرار الحرب/ راتب شعبو

بعد دخول الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا شهره الثاني، وبعد سقوط عشرات آلاف القتلى، والتسبّب في نزوح الملايين وهجرتهم، عدا عن الخراب المادي الهائل، وجعل بلدانٍ كثيرة اليوم تحت تهديد المجاعة، هذا سوى شتّى صنوف خراب النفوس المرافق لكل حرب، نقول، بعد هذا كله، صرّح الرئيس الأوكراني المخذول إن بلاده تدرُس بعمق خيار الحياد الذي كان مطلباً روسياً قبل الحرب. كان يمكن لهذه “الدراسة” أن تكون سبيلاً للسلم قبل أن تندلع الحرب، أو على الأقل كان يمكنها أن تنزع من يد الرئيس الروسي، بوتين، ذريعة أساسية كانت مفيدة له في حشد التأييد الروسي لحربه (إذا افترضنا أن فرض الحياد على أوكرانيا لم يكن هو، أو لم يكن هو فقط، دافع الهجوم الروسي). هكذا يبدو أن العالم لا يكفّ عن عرض حلقات مكرورة من العبث الذي تدفع البشرية ثمنه أرواحا ودماءً ودماراً وعيشاً قلقاً ومسموماً.

تعيدنا الحرب في أوكرانيا، بما تنطوي عليه من خطورة ناجمة عن موقعها الجغرافي وانخراط أكبر بلد نووي فيها، إلى السؤال البديهي عن الحرب والسلم. لماذا تشقى البشرية في بناء قدرات عسكرية غايتها تدمير كل ما تبنيه البشرية؟ ما الذي يدفع الدول إلى تخصيص معظم ناتجها المحلي لبناء ترسانات عسكرية وجيوش دائمة؟ لماذا تسود مقولة “إذا أردت السلم فاستعد للحرب”؟ والحال إن “الاستعداد للحرب أخطر من الحروب الحاضرة أو الماضية”، على ما يقول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، أبرز الفلاسفة الذين شغلتهم مسألة الحرب والسلم، وحرّر لذلك كتاباً إنسانياً في نزوعه ومنطقياً وعملياً في أفكاره، أسماه “مشروع للسلام الدائم”. لماذا يكون ضمان السلم هو توازن القوة، وليس توازن انعدام القوة؟ ألم تنتقل البشرية، وفق هذا المبدأ، من توازن القوة إلى توازن الرعب؟

لو تأمل الإنسان الحرب، بريئاً من الاعتياد، لوجد أن قرارها لا يجوز إيكاله إلى زعيم أوحد أو حتى إلى نخبة حاكمة، أكانت تحكُم بقوة الأمر الواقع أم بقوة صناديق الاقتراع. ينبغي أن يعود قرار الحرب إلى الناس الذين يتحمّلون تبعاتها، هذا إذا افترضنا أنه لا يمكن تفادي الحروب. على أن كانط، في أطروحته المشار إليها، يقدّم ما يبين إن السلام الدائم أمر ممكن.

يقول الواقع إن العدوانات أو الحروب تشنها النخب الحاكمة المستبدة أو المنتخبة سواء بسواء. وإذا كان احتكار نخبةٍ مستبدّة السلطة السياسية يجعل من السهل عليها اتخاذ قرار الحرب، فإن الآلية الديمقراطية في إنتاج النخبة الحاكمة لا تلعب دوراً ضامناً في منع الحروب، فالعلاقات بين الدول، والجاهزية للاعتداء على الغير، مستقلّة إلى حد كبير عن العلاقات الداخلية في الدولة نفسها.

في الزمن النووي الذي وصلنا إليه، يصبح الأمر أكثر حساسية وخطورة، فلا يستوي مع المنطق إيكال أمر الحرب للسياسيين وحدهم، ذلك أن قرار الحرب بات شأناً يخصّ كل إنسان طالما أن حياة كل البشر، في كل مكان، مرهونة بقرار قد تتخذه دائرة محدودة من السياسيين، مهما كان هذا القرار الرهيب بعيد الاحتمال، إلا أنه يبقى ممكناً، لأن وسائله متوفرة. هنا، لا يتعلق الأمر بإدارة البلاد، لا يتعلق بتحسين القدرة الشرائية أو توفير فرص العمل أو خفض ساعات العمل وسن التقاعد .. الخ، لا يتعلق الأمر بما ينبغي أن تنشغل به مهنة السياسة في صون وتحسين حياة الناس وعلاقات الدول، بل يتعلق الأمر بالحياة نفسها، ليس بالمعنى البعيد للكلمة، كما يطرحه أنصار البيئة، بل بالمعنى المباشر والحرفي.

يزيد من مشهد العبث الحربي الذي نعيشه أن البشرية، ممثلةً بالسياسيين، لا تسير باتجاه تدارك الخطأ أو الخطر الذي صنعته بنفسها، والذي يهدّد وجودها، فتعمل مثلاً على تفكيك سلاح الدمار الشامل، بل باتت الدول التي لا تملك هذا السلاح تسعى إلى امتلاكه، على حساب قوت شعبها وحريته، لكي تمتلك القدرة على الإبادة والإفناء. البشرية تهدر القدرة على رفاهيتها كي تزيد قدرتها على إفناء ذاتها.

ويتم تصوير الأمر على أنه دفاع استراتيجي عن أمن البلاد، وفق مبدأ وضيع، ولكنه سائد، يقول إن ما يحمي بلد من الاعتداء هو امتلاكه قوة تدمير شاملة. وفي ما يخص القوى الكبرى على الأرض، تجاوز الأمر القدرة على التدمير الشامل للخصم، إلى القدرة على التدمير الشامل للحياة على الكوكب. الكلام عن التدمير الشامل يعني أن العدو الفعلي لا شيء آخر سوى الحياة نفسها. هذا يقول إن السياسات الأمنية للدول اليوم فاشلة (والأصحّ إجرامية) مرّتين، مرّة لأنها تهدر قيمة كبيرة من جهد الناس في سبيل البناء العسكري على حساب رفاهيتهم وحرّيتهم، ومرّة لأنها تطوّر أسلحة دمار شامل متعدّدة السبل قادرة على إفناء البشرية والعودة بها إلى نقطة الصفر.

وقد شهد العالم تجربة مصغّرة من الدمار الشامل مع انتشار فيروس كوفيد 19، أكانت هذه التجربة ناجمةً عن تطوّر طبيعي أو مصنّع لهذا الفيروس. لنا أن نتخيّل ما يمكن أن يكون عليه الحال إذا ما تعمّدت “السياسة الأمنية” لبلد معين أن تسخّر مخابرها ووسائلها الجهنمية لتهاجم بهذا النوع من الأسلحة بلداً آخر.

هناك من الكتّاب من يدافعون، من مدخل إنساني وليس بدافع قتالي أو لعصبية قومية، عن سلاح التدمير الشامل، معتبرين أنه من موانع الحروب، أي إن الخوف من استخدام هذا السلاح يمكن أن يردع الدول عن الدخول في حروب. إذا صحّ هذا في ما يخص القوى النووية فيما بينها (وهو أمر غير مضمون أيضاً)، فإنه لا يصحّ خارجها. والحقّ أن الواقع لم يبرهن على فاعلية هذا الخوف في منع الحروب. ومن ناحية ثانية، فشل هذا الخوف في الردع مرّة واحدة يمكن أن يكلف البشرية الثمن الأغلى. هذا فضلاً عما يقتضيه بناء سلاح الدمار الشامل من استهلاك لموارد البلد، بصورةٍ تحرم الناس الاستفادة من ناتج عملهم في تحسين معيشتهم على مختلف الصعد، حين يخصّص جل هذا الناتج لإنتاج بضاعة مخصّصة فقط لحرمان الناس من معيشتهم.

العربي الجديد

————————–

كيف تؤثر حرب أوكرانيا في الأزمة السورية؟

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

“كيف تؤثر حرب أوكرانيا في الأزمة السورية؟” دراسة سياسية جديدة للباحث في الشؤون السورية مالك ياسين، سلط فيها الضوء على الفترة الزمنية التي أعقبت “إعادة انتخاب” بشار الأسد كرئيس للنظام في سوريا، وتحديداً منذ أيلول 2021، وصولاً إلى هذه الأيام، وما تخلل تلك الفترة من محاولات بذلتها روسيا لتعويم الأسد وانتزاع الاعتراف بنظامه من قبل دول الإقليم العربية، كالأردن وغيرها.

كما تناولت الدراسة

أيضاً الخطوات التي اتبعها النظام السوري في التعامل مع الغزو الروسي لأوكرانيا، وانعكاسات ذلك الغزو على الحالة السياسية والميدانية في سوريا، وكيف استغلّ نظام الأسد انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية لتمتين التحالف مع إيران.

النظام يعلن تأييده غزو الروس لأوكرانيا

مع انطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا في الـ24 من شباط 2022، أعرب مسؤولو النظام السوري عن تأييدهم للعملية العسكرية الروسية، معتبرين أنها بمنزلة “تصحيح للتاريخ”، وسهّلوا سفر مقاتلين للقتال إلى جانب الجيش الروسي بوصفه “رد جميل” للجيش الذي ساعدهم في هزيمة المعارضة. وعلى الرغم من حماسة النظام لحرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، سواء على الصعيد السياسي أم الإعلامي، فإن ذلك لم يمنع حكومة النظام من التحسب لآثارها السلبية في الاقتصاد السوري، المنكمش أصلًا، في حين كان رئيس النظام بشار الأسد يأمل في أن تسهم الحرب في أوكرانيا في توسيع هامش مناوراته السياسية والإقليمية، وتتيح له زيادة خياراته تجاه القوى الدولية والإقليمية، فضلًا عن أن موسكو ستكون مضطرة إلى زيادة اعتمادها عليه، كي تتمكن من الاحتفاظ بنفوذها في منطقة حيوية، وسط المواجهة مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة.

وبعد أكثر من ثلاثة أشهر على اندلاع القتال، لا تزال تتضح جملة من التداعيات الأوسع للحرب في أوكرانيا على سوريا، مثل: تراجع اهتمام المجتمع الدولي بالحل السياسي للأزمة السورية، وتصاعد حدة حرب الظل الإيرانية – الإسرائيلية على الأرض السورية، وسط “غضب” موسكو من الموقف الإسرائيلي حيال أوكرانيا و”إدانتها” المستجدة للغارات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية والسورية، وتباطؤ زخم الاندفاعة العربية لتطبيع العلاقات مع النظام ريثما تتبلور ملامح المواجهة الروسية – الأميركية في أوروبا، واحتمال انتقال شراراتها إلى سوريا، وتقلّص احتمالات تمديد الآلية الدولية للمساعدات الإنسانية عبر الحدود بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2585 (2021)، وأخيرًا، مسارعة الأوروبيين إلى إجراء مراجعة عميقة لخيارهم في الانفتاح المتدرّج على النظام الذي بات يُنظر إليه أوروبيًا على أنه “امتداد لروسيا”.

النظام يساهم في خطط موسكو

قبل نحو عشرة أيام من غزو أوكرانيا، شارك النظام السوري موسكو خططها في تشتيت الانتباه عن التحضيرات المتزايدة للغزو؛ فاستقبل وزير الدفاع الروسي الذي زار قاعدة حميميم من أجل متابعة مناورات أجرتها نحو 15 سفينة حربية من أساطيل المحيط الهادئ وبحر الشمال والبحر الأسود، إلى جانب مقاتلات من طراز ميغ 31- ك الحاملة لصواريخ كينجال فرط الصوتية، وقاذفات تو22- م، جاءت من روسيا، في رد على وجود مجموعات جوية تابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وفقاً لوزارة الدفاع الروسية.

وبعد 6 ساعات من بدء الغزو الروسي، انتقل الأسد ليعلن في اتصال هاتفي مع بوتين وقوفه مع “حق” روسيا في “مواجهة توسع الناتو”. ووصف الغزو بأنه “تصحيح للتاريخ وإعادة للتوازن”.

استغلال الحرب الروسية في أوكرانيا

وتختم الدراسة بالقول إن النظام السوري يسعى لتعظيم مكاسبه من الحرب في أوكرانيا بما يحرره من وطأة الضغط الروسي سواء فيما يتعلق بالقضايا البروتوكولية أو بالعملية السياسية المتعثرة أصلاً ضمن اللجنة الدستورية في جنيف، أو بالمطالب الاقتصادية لروسيا كمكافأة على تدخلها لإنقاذ النظام، أو تعامل موسكو مع النظام باعتباره ورقة في علاقاتها بالدول العربية والإقليمية. وقد عمد النظام إلى استغلال انشغال روسيا بأوكرانيا لإعادة التحالف السوري- الإيراني.

تلفزيون سوريا

—————————

صوامع الحبوب الأوكرانية/ فاطمة ياسين

لا تحتل أوكرانيا المراتب الأولى عالمياً في إنتاج الحبوب في العالم، فتلك تحتلها دول مثل الولايات المتحدة والهند والبرازيل وكذلك الصين. وتقول إحصاءات عام 2021 إن أوكرانيا أنتجت 86 مليون طن من الحبوب، لكن أهمية أوكرانيا تأتي بوصفها أول مصدِّر لهذه السلعة المهمة، فالدول ذات المراتب الأولى في الإنتاج واسعة، وفيها عدد سكان كبير، يستهلك جل ما تنتجه، في حين أن الإنتاج الأوكراني فائضٌ عن الحاجة، ولذلك يعدّ معظمه للتصدير. وتَعتبِر منظمة الغذاء العالمي (فاو) أوكرانيا صومعة حبوب عالمية، ففيما أنتجت ما نسبته 3% من محصول الذرة في العالم، صدّرت ما مجموعه 16% من صادرات الذرة العالمية! وبحسب المنظمة، فإن نصف زيت عبّاد الشمس يأتي من أوكرانيا أيضاً .. تعطي هذه الأرقام أهمية خاصة لهذا البلد، وتجعل عيوناً عالمية كثيرة تتجه إليها، وهي تأمل أن تنتهي الحرب سريعاً، ليعود التدفق الغذائي إلى سابق عهده، وقد أصيب بانهيار خطير بعد العدوان الروسي في فبراير/ شباط، فقبل بدء الحرب، كانت أوكرانيا تصدّر حوالى ستة ملايين طن من القمح شهرياً، ولم تتمكّن خلال شهر فبراير/ شباط من تصدير أكثر من 300 ألف طن فقط، وهو رقم يعكس عوز السوق الشديد، ويبرّر تخوّفه من ارتفاع جنوني للأسعار من جديد مع استمرار هذه الحرب.

لم تقترب الصواريخ والقنابل الروسية المتهاوية على الأوكرانيين من خطوط نقل الغاز والنفط، ولا من صوامع الحبوب المليئة، إلّا بالقدر الذي يسمح لها بالسيطرة على هذه الصوامع، وسرقة ما فيها، فيما تقول السلطات الأوكرانية إن لديها أكثر من عشرين مليون طن من القمح مخزّنة، مع إمكانية حصاد أكثر من أربعين مليون طن أخرى من الحبوب في الحقول التي هجرها الجميع، للانضمام إلى الحرب، أو هرباً باتجاه الغرب. كلّ هذه المعطيات التي طفت فجأة على السطح وضعت أوكرانيا في موقع حسّاس، وخروجها من بيت الطاعة الروسي، ومعها كلّ تلك الثروة ومكامن القوة، يجعل بوتين في موقف أكثر ضعفاً، وهو الذي شنّ حربه تحت ذرائع عديدة، واضعاً أمام عينيه كلّ الشرق الأوكراني، وبعدما سيطر على مدينة ماريوبول، أصبح يظن أنّ كلّ الشاطئ الأوكراني على البحر الأسود صار متاحاً، وقد يكون هدفه التالي مدينة أوديسا.

كان بوتين قد أجرى بروفة عسكرية قبل أن يبدأ الحرب على أوكرانيا بإعلان البحر الأسود وبحر آزوف منطقة مناورات عسكرية ما بين 13 و19 فبراير، فتوقفت حركة الملاحة الدولية فيهما، وبدأت المعاناة العالمية، وأرفق بوتين إعلانه بإطلاق النار على أكثر من عشر سفن كانت في المنطقة، فضلاً عن إغراق سفينة إستونية، من دون أن تكون هناك ردة فعل قوية من الغرب، بل جاءت من الأسواق التي ردّت بارتفاع الأسعار بشكل لافت، بعد محاصرة شريان الحبوب والطاقة المتدفق، وزاد الارتفاع طبعاً مع بدء الحرب، واستمرّ.

يحتفظ بوتين بقواتٍ في منطقة ترانسنيستريا، وهي منطقة انفصالية أخرى، موجودة في جمهورية مولدافيا على طول الحدود مع أوكرانيا، يمكن أن يستخدمها في إحكام الحصار البحري والتقدّم نحو أوديسا تمهيداً لمحاصرتها، وهو سيناريو، إن حصل، يعطي بوتين إمكانية إحكام السيطرة شبه الكاملة على موانئ البحر الأسود وبحر آزوف، وهو ما يعدّ ربما ردّاً على محاولة حلف شمال الأطلسي ضمّ السويد وفنلندا، التي ستجعل بحر البلطيق بحراً تابعاً للحلف بشكل شبه كامل. لكنّ الحلّ العسكري الذي قد يوقف السيطرة الروسية على أوديسا أو يؤخرها، تدمير قوات بوتين البحرية من بعد، وهو ما يقوم به الرئيس بايدن الآن، بموافقته على تقديم معدّات عسكرية بعيدة المدى وفائقة التفجير، ما يجعل بوتين يعيد التفكير قبل البدء بالهجوم التالي، فيما الأسعار ترتفع، وصوامع الحبوب الأوكرانية تمتلئ بالغذاء الضروري للعالم.

العربي الجديد

————————

سكوت روسيا العاجز عن العملية التركية/ بسام مقداد

في حين تعلن واشنطن بالفم الملآن رفضها للعملية العسكرية شمال سوريا، تصمت روسيا الرسمية عن التعليق على العملية، ويكتفي إعلامها بذكر ما تعلنه السلطات التركية، أو بالحث على الصدام بين تركيا والولايات المتحدة. ويرى مراقبون أن إعلان تركيا عن العملية العسكرية قد يكون، في  جزء كبير منه، ورقة تركية في المساومة مع الولايات المتحدة حول التوسع اللاحق لحلف الناتو.

تواصلت “المدن” مع الخبير الروسي بالشؤون التركية يوري مافاشيف، وطرحت عليه اسئلة تتمحور حول أسباب الصمت الروسي الرسمي عن العملية التركية المحتملة في شمال سوريا، وما إن كان إنهماك روسيا في  الحرب على أوكرانيا يعرقل تخصيص قوى وموارد تدعم أي رد محدد من الكرملين، على قول محللين روس. 

قال مافاشيف بأنه يوافق مع زملائة المحللين الروس الذين يفسرون “صمت” روسيا بصعوبات تخصيص قوى وموارد تدعم “رداً محدداً” بشأن العملية. ويعتقد أن الكرملين يحاول بما أوتي أن يظهر عبر وسائل إعلامه ووسائل أخرى أن المشكلة هي بين تركيا والولايات المتحدة، أي، وبكلام آخر، السلطات الروسية تحاول بكل قواها جعل الأتراك يصطدمون بالأميركيين. وهو ليس واثقاً من أن هذا التكتيك، والذي تصر عليه روسيا، سيساعدها في الوضع الراهن، علماً أن العملية تمس بشكل مباشر مصالحها. فالعملية العسكرية التي تستطيع تركيا بالتأكيد القيام بها، تعني 100% إضعاف مواقع روسيا، “لكن موسكو وبوتين ليس بمقدورهما فعل شيئ حيال الأمر”.

منذ عامين، وعلى خلفية الدور التركي في جنوب القفقاز، نشر موقع  Kasparov المعارض نصاً لكاتب سياسي روسي قال فيه بأن بوتين، ومن الموقع الضعيف، يواصل لعب “الدور الثاني” مع إردوغان. ورأى أن بوتين بدخوله إلى سوريا “فتح الباب أيضاً لإردوغان”، وفشل في المشاركة بدعم اليونان في صراعها مع إردوغان حول جرف شرقي المتوسط، إضافة إلى دخول روس في أجهزة كمبيوتر الأساقفة اليونانيين أثناء الصراع حول إنفصال الكنيسة الأرثوذوكسية الأوكرانية عن الكنيسة الروسية. وتجرأ إردوغان، وهو “يرى ضعف القيصر الروسي”، على إخضاع آيا صوفيا نهائياً.

في العودة إلى العملية التركية المحتملة حالياً، يتلطى الكرملين في صمته حيالها وراء تصريحات نواب سوريين عن رفضهم لها و”حرصهم على سيادة سوريا ووحدة أراضيها”، وخلف ما ينسبه إعلامه إلى تركيا محاولتها الحؤول دون نشوب صراع مباشر مع روسيا، ويستدل بعضه على ذلك بآراء  محللين سياسيين أتراك يحاولون تخفيف وقع العملية على صعوبة أن تتخذ روسيا موقفاً محدداً من العملية. فقد نشر موقع وكالة نوفوستي في القرم crimea.ria.ru آخر الشهر المنصرم نصاً لمستشرق روسي بعنوان ” عملية تركيا الخاصة، لماذا يحتاجها إردوغان وكيف سترد روسيا”. يقول المستشرق بأن تركيا، وعبر العملية العسكرية، عازمة على معالجة مهمات سياسية وإستراتيجية في الشرق الأوسط والبحر المتوسط، لكن تحقيقها يدخل في تناقض مع المصالح الروسية، مما سيجعل أنقرة تحاول تفادي مجابهة مباشرة مع موسكو.

بين المهمات الإستراتيجية التي تسعى أنقرة لجعل العملية العسكرية أحد عناصر حلها، يرى المستشرق ضمان أمن الطاقة التركية على حساب إحتياطيات الهيدروكربونيات في جرف شرق البحر المتوسط. وثاني هذه المهمات يراها في شغل تركيا موقعاً أساسياً على الخريطة السياسية للشرق الأوسط والبحر المتوسط. ولحل هاتين المهمتين الإستراتيجيتين تسعى تركيا لضمان أمنها في المناطق الحدودية في سوريا والعراق، والتي تنشط فيها الوحدات المسلحة لحزب العمال الكردستاني. ويؤكد أن جميع هذه المهمات السياسية التي تسعى تركيا لتحقيقها “لاتتوافق بحال من الأحوال” مع المهمات التي رسمتها روسيا لنفسها في هذه المنطقة، وبالتالي تركيا في هذه الحالة “منافس لروسيا”.

وما يعزز وضع تركيا منافساً لروسيا، برأي المستشرق، هو طموحاتها في القفقاز التي تتحقق في إطار “العالم التركي”، وتؤثر، إن لم يكن بشكل مباشر، فبشكل غير مباشر على طبيعة العلاقات التركية الروسية. 

ويرى المستشرق أن القفقاز يمثل لروسيا مشكلة ومهمة أكبر بما لا يقاس مما تمثله سوريا. وحين كانت الأمور هادئة في جنوب القفقاز كانت سوريا في مركز إهتمام روسيا لأنها كانت موطئ قدم لتغلغلها الجديد في الشرق الأوسط.

صحيفة  Kommersant السياسية الروسية التي تدور في فلك إعلام الكرملين (كانت مستقلة في وقت غير بعيد)، قالت في النص الذي نشرته في 30 الشهر المنصرم أن المحادثة الهاتفية بين إردوغان وبوتين في اليوم عينه تركزت حول أوكرانيا. لكن الكرملين، وفي إشارة سريعة، ذكر أنها تناولت مسائل إقليمية أيضاً. أما الجانب التركي فقد أشار إلى أن إردوغان ذكّر بوتين بأن الفصائل الكردية المسلحة تواصل هجماتها على تركيا والمدنيين في سوريا. كما أبلغ بوتين عدم وجود منطقة آمنة من الإرهابيين في سوريا بعمق 30 كلم عن الحدود التركية.

صحيفة NG الموالية نشرت في 25 الشهر الماضي نصاً بعنوان “العملية الجديدة في سوريا ستجعل تركيا تصطدم بالولايات المتحدة”، وأرفقته بآخر ثانوي  “أنقرة تنجز الإستعداد لتوجيه ضربة للقوات الكردية”. تشير الصحيفة إلى أن الولايات المتحدة  قابلت “بعدائية” الأنباء عن الإستعداد للعملية ، وتنقل عن الناطق بإسم الخارجية الأميركية قلقه العميق بشأن إحتمال تنشيط العمليات الحربية في شمال سوريا، وكذلك إدانته لأي تصعيد ودعمه لوقف النار السائد حالياً.

تنقل الصحيفة عن خبير روسي قوله بأن المنطقة الآمنة يجب أن تمتد، برأي تركيا، على طول الحدود السورية التركية، يضاف إليها الجيبان الكرديان منبج وتل رفع، اللذان تزمع تركيا إحتلالهما وتسليمهما للحكومة المؤقتة للجيش الوطني السوري. ويشير الخبير إلى أن منبج يقسمها الأوتوستراد M4 إلى شطرين، كانت العمليات التركية السابقة تتوقف عنده، ويعتقد بوجود “تفاهم نظري” بين روسيا وتركيا على إعتبار الأوتوستراد خطاً أحمر.

وبشأن إمكانية تنفيذ العملية التركية، يرى الخبير بأنها لا تزال موضع تساؤل إذا أخذنا بالإعتبار تواجد العسكريين الأميركيين في المنطقة المفترضة للعملية. فإذا كانت الولايات المتحدة عازمة على عرقلة العملية التركية، فقد يؤدي ذلك إلى “القطيعة النهائية” بين تركيا والولايات المتحدة.

صحيفة الإزفستيا المخضرمة، وفي نص نشرته في 26 المنصرم، نقلت عن النائب الأول  لرئيس لجنة العلاقات الدولية في مجلس الدوما (البرلمان) قوله بأنه، على الرغم من أن تركيا تخرق  إتفاق العام 2019 مع روسيا، إلا أن مجلس الدوما يرى أن من الممكن معالجة المسألة بالحوار.

تنقل الصحيفة عن بروفسور تركي في الجامعة التركية الألمانية قوله بأن الهدف الرئيسي للعملية التركية هو إقامة منطقة آمنة للاجئين في شمال سوريا، والذين أصبحت قضيتهم مهمة في تركيا على خلفية الإنتخابات الرئاسية العام 2023. يقول البروفسور بأن الإتفاقية مع روسيا والولايات المتحدة آن الأوان لتعديلها لأن “الوضع يتغير على الأرض”. ويرى أن الظروف مناسبة لتركيا للقيام بعمليتها، وذلك لأن الأمر يتعلق بصوت تركيا بشأن ما إن كانت فنلندا والسويد ستنضمان إلى الناتو.

بوليتولوغ تركي قال للصحيفة أيضاً بأن العمليات التركية الثلاث السابقة جرت أيضاً من دون موافقة الولايات المتحدة التي لا تزال تركيا حتى الآن تعتبرها الممول الرئيسي للفصائل الكردية.

المدن

————————–

اللجوءُ الأوكراني  من منظور ِلبنانيٍّ عايشَ اللجوءَ السوري/ ايلي كلداني

آلية التدخل هنا مختلفة عن تلك المعتمدة في باقي الازمات وليس السبب أن هذه المنظمات تفرق بين لاجئ ابيض مع عيون ملونة وآخر أسمر او عربي  بل لأن الأزمة تحصل في بلاد مجهزة ومحضرة لجميع انواع الكوارث وتعرف جيدا كيفية إدارة الأزمات. يظهر ذلك جليّا اذا ما قارنّا بين كيفية تعامل لبنان او الأردن مع أزمة النزوح السوري وكيف تدير الدول الأوروبية أزمة النزوح الأوكراني.

“كل حقول القمح، كل السجونِ، كل القبور البيض، كل الحدودِ، كل المناديل التي لوَحتْ ،كل العيونِ كانت معي”.

لا أدري إن كان محمود درويش يعرف عندما كتب هذه الابيات انها تنطبق على كل اللاجئين في العالم في كل زمان ومكان.

أنظر في عيون اللاجئين الأوكرانيين، أمهات وأطفال، واتخيّلهم يردّدنوها. أرددها في رأسي واتخيّل حقول القمح التي تركوها خلفهم. اتخيّل الحدود التي عبروها واتخيّل لحظات الوداع التي عاشوها. يأتون بالمئات إلى المركز حيث أعمل في وارسو- بولندا، وهو مركز استقبال اللاجئين أنشئ على عجل بالقرب من محطة للقطارات يستقبل يوميا مئات العائلات الهاربة من جحيم الحرب. اغلب القادمين هم نساء واطفال وعجزة او اشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، نادراً ما نرى شبابا بين القادمين وذلك لانخراطهم في الحرب ضمن وحدات الدفاع.

بالرغم من ضخامة المركز والأعداد الكبيرة من اللاجئين والموظفين والمتطوعين الموجودين داخله لكن الهدوء مخيف، تكاد لا تصدق ان مئات الاشخاص موجودين في الداخل، كأنّهم أناس بلا أصوات، أقول لنفسي إنهم ربما تركوا أصواتهم في قراهم ومدنهم، داخل جدران منازلهم لعلها تبقي شيئا من ذاكرتهم هناك. حتى وجود الأطفال في المساحات المخصصة لهم وبالرغم من وجود عدد كبير منهم  تراهم يلعبون بصمت. الصوت الوحيد الذي يكسر صمت هذا المكان هو صوت عجلات حقائب السفر على الاسفلت الذي ينذرنا بقدوم أحدهم، وكلما ارتفع هذا الصوت استطعنا تقدير حجم الوافدين إلى المركز.

هذا كلّ ما يأتون به: حقيبة سفر تتكدس فيها الثياب وبعض الحاجيات الاساسية التي تساعدهم على تحمّل البرد والصقيع والرحلة الطويلة. اختلس النظر أحيانا عندما تفتح حقيبة، اتخايل رؤية ألبومات صور وذكريات وضّبوها معهم على عجل عندما دفعتهم الظروف إلى المغادرة. لا شيء من ذلك. تركوا خلفهم كل شيء، هذا الأمر تلاحظه على وجوه شاحبة، صفراء، سارحة، لا تنطق حرفاً، رؤوس مرخيّة الى الوراء وتنهدات. حتى الأطفال تراهم يتمسكون بامهاتهم رافضين حتى اللعب في الزاوية المخصصة لهم والتي من المفترض أن تكون مغرية لهم. حتى الطفل الذي يقتنع باللعب تراه يرافق أمه بعينيه أو يرفع رأسه كل ثانية ليتأكد أنها لا تزال موجودة.

اوّل شيء يسألون عنه لحظة وصولهم هو الانترنت، يريدون التواصل مع عائلاتهم لطمأنتهم و ليسمعوا عن أحوال من تركوهم خلفهم. مع انني لا افهم اللغة الاوكرانية ولكنني اتخايل محور الحديث الذي غالبا ما يترافق مع بكاء وتوتر. تراهم يمسكون بهواتفهم ويستمعون الى موسيقى او اناشيد، يبدو واضحاً من لحنها أنها اغاني وطنية وحماسية تبعث فيهم الكثير من الذكريات. أخبرتني المرأة الأوكرانية التي تعمل في المطبخ المخصص لإطعام النازحين انّ ولديها الاثنين بقيا في اوكرانيا وانضمّا الى وحدات الدفاع. تريني احدث صورة أرسلاها لها، مددّجين بالسلاح مع إبتسامة كبيرة تعلو وجهيهما وإشارة النصر تنظر الى الصورة وتقول لي انهم مجانين وسعداء، تعاود النظر مرة اخرى إلى الصورة وتمرّر اصابعها ببطء على وجهيهما وتنسحب بسرعة ربما لكي لا أرى دموعها.

في الحديث بين بعضهم يخبرونني أن السلطات الاوكرانية طلبت منهم حمل حقيبة واحدة وذلك لإفساح المجال أمام عدد أكبر من الهاربين في القطارات ووسائل النقل بالإضافة الى سهولة التنقل بحقيبة واحدة خصوصا انه في اغلب الاحيان الرحلة ليست سهلة، فهم يضطرون إلى المشي ساعات طويلة بسبب قصف القوات الروسية للجسور والطرقات وسكك الحديد بالاضافة الى خطورة المرور في بعض المناطق فيضطرون إلى سلوك الغابات أو الالتفاف حول المدن ليتمكنوا من الوصول الى الحدود الآمنة.

أخبرتني سيدة كانت برفقة ولدين وقطة أن رحلتها استغرقت 14 يوما من قريتها الواقعة قرب ماريوبول الى الحدود البولندية. اضطرت إلى السفر ليلاً وببطء شديد مخافة تعرضهم للقصف او الحجز من قبل ميليشيات موالية لروسيا. سبب آخر يدفعهم إلى السفر مع حقيبة واحدة هو اقتناعهم أن هذه الحرب ستكون سريعة وستنتهي مأساتهم قريبا وسيعودون الى بلادهم، هذا السبب هو الذي يدفع أغلبهم إلى البقاء في البلدان المجاورة لأوكرانيا كبولندا او رومانيا ورفض العروضات الكثيرة والتسهيلات التي تأتيهم للذهاب الى اسبانيا او فرنسا او فنلندا والكثير من الدول الأوروبية التي تعمل جاهدة على استقطابهم وتوزيعهم بعدل على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي كيّ لا تتحمل دولة واحدة عبء النزوح.

الاغلبية تريد البقاء بالقرب من أوكرانيا ليتسنى لها العودة السريعة وهذا الأمر تترجمه أرقام العائدين فمنذ أكثر من شهر انخفض عدد الوافدين بشكل كبير مع ارتفاع ملحوظ في أعداد العائدين إلى أوكرانيا الى مناطق تعتبر الى حد الآن امنة نسبيا ليرتفع عدد النازحين داخليا لحوالي  7 مليون  بالاضافة الى 6.5 مليون نزحوا الى دول الجوار حيث استقبلت بولونيا حوالي  3.7 مليون تليها رومانيا بحوالي مليون ونصف وهذه الأرقام بحسب مكتب التنسيق التابع للأمم المتحدة.

عقبات أخرى يواجهها زملاء في الفريق والذين يدخلون إلى أوكرانيا بشكل دوري لإجلاء المرضى او المصابين بامراض مزمنة وحتى بعض مصابي الحرب فبالاضافة الى المخاطر المرتبطة بالحرب والقصف هناك صعوبة في إقناع البعض بالمغادرة. يخافون إن غادروا أن لا يستطيعوا العودة ويأملون انه في القريب ستنتهي الحرب. إحدى السيدات التي استغرقت عملية نقلها حوالي يومين بسبب صعوبة الوصول الى قريتها وبالرغم من إصابتها بالسرطان وحاجتها الى استكمال العلاج المفقود في أوكرانيا بسبب الحرب كانت ترفض المغادرة قائلة إن الحرب ستنتهي وإنها تريد الموت في قريتها وعلى سريرها.

لاقت ازمة النزوح الأوكراني تعاطفا دوليا ومجتمعياً كبيرا اكثر من ايّ ازمة نزوح أخرى. تصلنا يوميا كميات كبيرة من المساعدات العينية من كل الدول، احيانا البعض يقود سيارته لأيام لإيصال شحنة من المساعدات. مثلاً مجموعة من البريطانيين اطلقوا حملة مساعدات لاوكرانيا وفي غضون أيام استطاعوا ملأ شاحنة قادوها من بريطانيا إلى وارسو لايصال المساعدات الى من هم بحاجة. مئات المتطوعين يوميا يأتون من مختلف دول العالم للمساعدة، اطباء، معالجون نفسيون، أشخاص بمجرد أن بدأت الحرب وجدوا أنفسهم على الحدود يعرضون أي مساعدة ممكنة. الأوروبيون الذين اعتادوا التعامل مع هذه الأزمات خارج حدودهم، يتعاملون معها اليوم في باحتهم الخلفية، ويكادون لا يصدقون انها تحصل. واغلب العاملين في المنظمات الدولية الذين يمتلكون الخبرة في التعامل مع هذا النوع من الأزمات في أفريقيا وفي الدول العربية لا ينفكون يرددون ان هذه الازمة شكلت لهم صدمة. آلية التدخل هنا مختلفة عن تلك المعتمدة في باقي الازمات وليس السبب أن هذه المنظمات تفرق بين لاجئ ابيض مع عيون ملونة وآخر أسمر او عربي  بل لأن الأزمة تحصل في بلاد مجهزة ومحضرة لجميع انواع الكوارث وتعرف جيدا كيفية إدارة الأزمات. يظهر ذلك جليّا اذا ما قارنّا بين كيفية تعامل لبنان او الأردن مع أزمة النزوح السوري وكيف تدير الدول الأوروبية أزمة النزوح الأوكراني.

اتذكّر الفوضى التي خلفتها موجات النزوح السوري الى قرى عكار والظروف اللاإنسانية التي عاناها هؤلاء لإيجاد مأوى أو اضطرارهم الى السكن داخل خيّم او مستودعات لا تصلح للعيش وصوّر الأطفال الحفاة في مخيمات البقاع التي تحولت إلى مستنقعات بسبب الأمطار والثلوج.

أقارن تلك الصوّر مع ما أشاهده هنا من استماتة المنظمات الدولية والجمعيات المحلية بالاضافة إلى الحكومات المحليّة لتأمين خدمات لائقة تحفظ كرامة النازحين. فتحت لهم المنازل، فعليا وليس وفق البروباغندا اللبنانية التي روّجت أن العائلات اللبنانية استقبلت النازحين في منازلها.

هنا العائلات الاوكرانية تعيش جنباً الى جنب مع العائلات البولندية. يتقاسمون معهم المنامة والمأكل والمشرب، يستعملون المواصلات العامة بالمجّان، أطفالهم التحقوا بالمدارس مع الاطفال البولنديين.

لحسن حظ الاوكران أن البولنديين لا يخافون من التغيير الديموغرافي، كما هي الحال مع بعض اللبنانيين، مع أن لنازح اورثوذوكسي والبيئة المستقبلة كاثوليكية، على سبيل المزاح!

درج

————————–

لعبة “السبع حجار” في سوريا؟/ سمير صالحة

قرَّب قرار تركيا القيام بعملية عسكرية جديدة في شمالي سوريا، المواقف الأميركية والإيرانية في رفض هذا التحرك. فهل يتحول ذلك إلى تنسيق وتفاهمات بينهما في سوريا؟ وهل تقبل أنقرة أن تتراجع عن قرارها هذا بسبب رفض واشنطن وطهران للعملية؟ وما الذي سيحدث إذا ما أعطت القيادات السياسية التركية الضوء الأخضر لقواتها بتنفيذ الجزء المتبقي من خطة المنطقة الآمنة على جانبي نهر الفرات، خصوصا وأن الميليشيات الإيرانية غير بعيدة اليوم عن منطقة تل رفعت تحت ذريعة دعم قوات النظام؟ هل تجد تركيا نفسها في ورطة مواجهة إيرانية بقرار أميركي في الشمال السوري؟ أم أن هناك أصابع تدير كل هذه اللعبة بالتنسيق مع إيران لإفشال الخطة التركية أولا. ثم لإخراج أميركا من العرس بلا قرص ثانيا؟

أعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، أن طهران تعارض أي نوع من الإجراءات العسكرية واستخدام القوة في أراضي الدول الأخرى بهدف فض النزاعات. وقال إن “الإجراءات العسكرية على أراضي الدول الأخرى تشكل انتهاكا لوحدة الأراضي والسيادة الوطنية لتلك الدول وستؤدي إلى مزيد من التعقيد والتصعيد”.

التصريحات الإيرانية جاءت مواكبة لتحذيرات أطلقها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وهو يحذر تركيا، من القيام بعمل عسكري في شمالي سوريا، لأنه “سيعرض المنطقة للخطر ويقوض الاستقرار الإقليمي ويعرقل خطط المواجهة مع تنظيم داعش” الذي تلعب “قوات سوريا الديمقراطية” حليف واشنطن دورا أساسيا فيه.

إعلان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن استعدادات لإطلاق عملية عسكرية خامسة في شمالي سوريا بهدف إكمال خطة المنطقة الآمنة، سيؤدي حسب طهران إلى أزمات سياسية وأمنية جديدة في سوريا ويهدد الاستقرار الذي تم التوصل إليه في تفاهمات أستانا وسوتشي. ويضعف الحرب المعلنة على مجموعات داعش في سوريا بالتنسيق بين القوات الأميركية ومجموعات قسد حسب واشنطن.

أسمع كلامك يعجبني، أشوف أفعالك أتعجب.

خطيب زاده لا علم له بوجود مئات “المستشارين” في صفوف الحرس الثوري وفيلق القدس والمقاتلين المحسوبين على إيران وميليشياتها من لبنان والعراق على الجبهات السورية منذ عقد.

وبلينكين لا علم له بالمطالبة التركية اليومية في حسم مسألة إرسال أطنان السلاح والتمويل لمجموعات قسد لأن ما تبقى من داعش لا يحتاج إلى كل هذه الاستعدادات، إلا إذا كان البعض يريد أن يلعب أوراق مئات السجناء من التنظيم في شرقي سوريا ضد تركيا ودول المنطقة وأمنها في مرحلة لاحقة.

تقلق العملية العسكرية التركية إيران:

– لأنها ستعزز النفوذ التركي في الشمال السوري. وتعطي أنقرة ما تريده من سيطرة ميدانية تحول دون التوغل الإيراني باتجاه الحدود التركية السورية عبر قوات النظام.

– وهي تقلق طهران أيضا لأنها قد تتم بالتفاهم المباشر بين أنقرة وموسكو صاحبة النفوذ العسكري والسياسي الأقوى على الأرض مما يعني تراجع الثقل الإيراني وتعطيل مشروع إيران القديم الجديد بالوصول إلى سواحل البحر الابيض المتوسط لتكون شريكا استراتيجيا اقتصاديا أمنيا وسياسيا في تقاسم النفوذ هناك.

– ولأن التمدد العسكري التركي سيترك إيران أمام خيارات محدودة أصعبها الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع القوات التركية والجيش الوطني للحؤول دون الانتشار العسكري التركي الجديد.

– ولأن العملية التركية ستضعف أكثر “شرعية” الوجود الإيراني العسكري نتيجة الانفتاح العربي الأخير على دمشق والذي كان بين شروطه الأساسية إخراج إيران من المشهد في سوريا.

– ولأن طهران قد تجد نفسها في موقف صعب وحرج أمام شريكها الروسي في سوريا، وهي تقترب من واشنطن في طروحاتها الرافضة للخطة التركية خصوصا إذا ما أشعل الكرملين الضوء الأخضر أمام أنقرة لتتحرك في مناطق النفوذ الروسي في غرب الفرات.

– ولأنها تدرك حجم ومخاطر التنسيق التركي الإسرائيلي المحتمل في الملف السوري بعد التقارب الأخير بين أنقرة وتل أبيب والذي سيكون الوجود الإيراني في سوريا في مقدمة أهدافه. خصوصا وأن هذه التطورات تزامنت مع مفاوضات إسرائيلية روسية جديدة من المحتمل أن تكون قد تحولت إلى تفاهمات على إنهاء الوجود الإيراني في سوريا وهو ما يؤيده العديد من العواصم الإقليمية والغربية.

وتقلق العملية العسكرية التركية واشنطن:

 – لأنها تضعف سياسة أميركا، الداعمة لمشروع قسد الانفصالي في سوريا.

– ولأنها تدرك أن تركيا ستسقط ورقة مجموعات داعش من يدها عاجلا أم آجلا، فأنقرة تستعد لمطالبتها بإنهاء هذا الملف وإغلاق السجون عبر إيجاد صيغة قانونية سياسية تسقط جرة العسل هذه من يد أميركا.

– ولأن تركيا قد تحرمها من خلال عملية عسكرية تقوم بها بموافقة الروس، فرصة التصعيد في الشرق الأوسط ومحاصرة النفوذ الروسي على خط البحر الأسود وشرق المتوسط.

– ولأنها تدرك أن تركيا في النهاية لن تعطيها ما تريده في موضوع التوسعة الأطلسية التاسعة عبر إدخال السويد وفنلندا دون إسقاط ورقة التنظيمات التي تتهمها هي بالإرهاب فيما تنسق واشنطن وغيرها من العواصم الغربية مع هذه المجموعات وتوفر لها الحصانة والرعاية السياسية والاقتصادية والدعائية فوق أراضيها.

من سيعطي إيران ما تريده في سوريا وهي في عزلة سياسية هناك؟ إدارة بايدن طبعا إذا ما شعرت أن الرياح السورية تجري بعكس ما تشتهيه واشنطن. فهل تقدم على خطوة انتحارية من هذا النوع لعرقلة التفاهمات التركية الروسية الإسرائيلية الجديدة بغطاء إقليمي في سوريا؟ وهل تضرم النار بلعبة تحالفات إقليمية بنتها بهدف منع العملية العسكرية التركية على حدودها الجنوبية فقط لإظهار أنها قوة عالمية فاعلة في المنطقة لا يمكن الخروج عن التوازنات والمعادلات التي أشرفت على تشييدها في الشرق الأوسط وشرق المتوسط وإيجه والبحر الأسود؟

كان السؤال دائما يتعلق بمعرفة موعد المواجهة الأميركية الإيرانية في سوريا، لكن يبدو أن مواجهة أميركية تركية في شمال شرقي سوريا هي الأقرب. الشراكة التركية الأميركية تشهد أصعب أيامها في هذه الآونة. الانفجار في مسار العلاقات بسبب الملف السوري كان دائما بين التوقعات لكن لحظة حدوث ذلك لم تكن جلية. التقارب التركي الروسي ورفض أنقرة الإصغاء لما تقوله واشنطن في سوريا يسرع الأمور ويحمل معه سيناريو بحث واشنطن عن خيارات بديلة تحمي مصالحها في سوريا فمع من وكيف ستفعل ذلك؟

هنا يبرز السؤال الآخر هو حول احتمال التنسيق الأميركي الإيراني في إطار صفقة سياسية إقليمية متعددة الجوانب لسد العجز المحتمل في سياستهما السورية نتيجة “التمرد” التركي بدعم روسي على الحليف الاستراتيجي فهل يحدث ذلك؟

رددت طهران ولسنوات أن تركيا هي من يدعم مجموعات داعش في سوريا. تقارب المواقف الإيرانية والأميركية هنا لافتة طبعا. التصعيد الإيراني هذا لا يمكن أن يكون سوى حلقة من خطة التقارب بين طهران وواشنطن، وخطوة تساعدهما على الانفتاح ما دامت لغتهما وأدواتهما بدأت تتوحد في الأشهر الأخيرة.

ترفض أميركا فتح الطريق أمام العملية العسكرية التركية. وترفض مساعدة أنقرة على إقامة المنطقة الآمنة لأنها تتعارض مع كل حساباتها ومصالحها في سوريا. فهل تواصل رفضها لما تريده تركيا وهي لا تملك الكثير من الخيارات هناك سوى البديل الإيراني التي كانت واشنطن تقول إنه بين أسباب تمسكها بالبقاء عسكريا في شرق الفرات وتنتقد أنقرة بسبب رفضها إعلان القطيعة الكاملة مع طهران في الملف السوري؟

قناعة تركية جديدة تعتبر أن التوتر التركي الإيراني في سوريا والعراق كان لا بد منه نتيجة التقارب والانفتاح التركي العربي والإسرائيلي الجديد. خصوصا وأن حلفاء تركيا في الغرب تركوها وحيدة في مواجهة أزمة شمالي سوريا وموضوع اللجوء. هدف الحدّ من النفوذ الإيراني في سوريا هو اليوم القاسم المشترك الذي يوحد الكثيرين في المنطقة. فهل الرد سيكون عبر التنسيق الأميركي الإيراني لحماية مصالحهما “المشتركة” في سوريا؟

دخلت الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا على الخط في آخر لحظة لتقول إن موسكو تتفهم مخاوف تركيا من تهديدات أمنها القومي في المناطق الحدودية. لكنها لم تتردد في دعوة أنقرة للامتناع عن الأعمال التي قد تؤدي إلى تدهور خطير في الأوضاع السورية. “تلقينا تقارير مثيرة للمخاوف عن مثل هذه العملية العسكرية.. ضمان الأمن على الحدود السورية التركية لا يمكن أن يتم إلا بنشر قوات الأمن السورية النظامية”.

ذكرتنا موسكو فجأة بزمن “زاروب كنيعو” في بيروت ولعبة “السبع حجار” هناك، حيث كنا نصف الأحجار ونسقطها لساعات دون ملل. مرة أخرى تخلط موسكو.. الأحجار في سوريا.

تلفزيون سوريا

——————————

===================

تحديث 08 حزيران 2022

———————-

ما سند كيسنجر ليقترح تنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها؟/ جورج عيسى

هو المعروف بـ”ثعلب السياسة” الأميركية وآخر مسؤول لا يزال على قيد الحياة من إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون. إنّه وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأسبق هنري #كيسنجر الذي بلغ في 27 أيار 99 عاماً.

بالاعتماد على هوية الشخص الذي تسأله، كما كتب دانيال دو بتريس في مجلة “نيوزويك”، إنّ كيسنجر هو إمّا “الواقعيّ الجوهريّ الذي نسّق الانقسام بين الصين الشيوعية والاتحاد السوفياتي أو مجرم حرب وافق على أكثر من 3800 غارة بالقنابل على كمبوديا”.

أثار كيسنجر جدلاً واسعاً مؤخراً، ولا يزال، حين نصح خلال منتدى الاقتصاد الدولي في دافوس الأوكرانيين بالاستعداد للتخلي عن بعض الأراضي لصالح #روسيا بغية التوصل إلى سلام معها وضمان “الاستقرار” في أوروبا.

“تحتاج المحادثات أن تبدأ خلال الشهرين المقبلين قبل أن تؤسس اضطرابات وتوترات لن يتمّ التغلّب عليها بسهولة. من الناحية المثالية، يجب أن يكون الخط الفاصل هو العودة إلى الوضع السابق”. وأضاف أنّ “السعي وراء الحرب أبعد من تلك النقطة لن يتعلق بحرّيّة #أوكرانيا، بل بحرب جديدة ضد روسيا نفسها”.

ينتمي كيسنجر إلى مدرسة “الواقعية السياسية” التي تشغل موقعاً نقيضاً للمدرسة “المثالية” في قراءة العلاقات الدولية. تستند الأولى إلى اعتبارات عملية عوضاً عن الاعتبارات الأخلاقية أو العقيدية. بهذا المعنى، تقوم الواقعيّة على التكيف مع الأمور كما هي بدلاً من مقاربتها ومحاولة تغييرها من زاوية القيم.

يمكن فهم نصيحة كيسنجر لأوكرانيا بأنّها نابعة من قراءة “موضوعية” لهواجس روسيا الأمنية من جهة ومن حجم ما تنوي الولايات المتحدة استثماره في دعم #كييف من جهة أخرى. بطبيعة الحال، يدخل عامل توازن القوى هذه المعادلة. مهما حصلت أوكرانيا على السلاح بنظر البعض فهي ستكون أعجز من دحر روسيا إلى ما وراء الحدود التي تخطتها روسيا بعد انطلاق الغزو في 24 شباط، على اعتبار أنّ هذا ما يقصده كيسنجر من خلال عبارة “الوضع السابق”.

من نابوليون إلى #بوتين

لقي كلام كيسنجر تأييداً ممّن يصنّفون أنفسهم في خانة الواقعيّة. أستاذ الممارسة في جامعة آدا الأذرية داميان ميسكوفيتش كتب مقالاً في موقع “ناشونال إنترست” دافع فيه عن كيسنجر مشيراً إلى أنّ الإدارة الأميركية وحلفاءها يرون الحرب كتمظهر “أبيض-و-أسود” للصراع العالمي بين مؤيّدي الديموقراطية والأوتوقراطية. يشرح الكاتب هذا الأمر على أنه رد فعل “عاطفي” مفهوم، لكنّه يحذّر من خلط التفسير الجيوسياسيّ بـ”الإسخاتولوجيّ” (علم الأخرويات ومآل النفس البشرية). على سبيل المثال، إنّ محاولة فرض “نظام ليبيراليّ دوليّ مبنيّ على القواعد” في ظروف تزداد التعدديّة حدّة ضمنها هو مؤشّر “غطرسة”. ويؤكّد أيضاً أنّ أوكرانيا هي موضوع العلاقات الدولية لا فاعل فيها، بصرف النظر عن شعور المراقب حيال ذلك.

لكن على الضفة الأخرى من التحليل السياسي، يعتقد البعض أنّ ما يتحاشى دعاة تخلّي أوكرانيا عن جزء من أراضيها التطرّق إليه هو الضمانات التي يمكن أن تحصل عليها كييف في أن تكون “حزمة التنازل” المطلوبة هي الأخيرة. طوال ثمانية أعوام، كانت روسيا قد حصلت بحكم الأمر الواقع على أكثر من ثلث منطقة #دونباس إضافة إلى القرم. لم يمنع ذلك موسكو من شنّ حرب إضافيّة لكسب المزيد من الأراضي.

هذا ما يكتبه أستاذ القانون في جامعة جورج تاون ديفيد سوبر في صحفة “ذا هيل” الأميركية: “لقد حاولت أوكرانيا بالضبط ما يقترحه كيسنجر في 2014، موافقة على وقف لإطلاق النار، مع سيطرة روسيا على أجزاء كبيرة من أراضيها في القرم ودونباس”. بحسب رأيه، “إنّ مكافأة المعتدين – معاقبة أولئك الذين يقاومونهم –يؤسّس لا للاستقرار بل للمزيد من الاعتداء”. ويرجّح أنّ ستالين كان سيطالب فنلندا بتقديم المزيد من التنازلات علاوة على تلك التي قبلت بها بعد حرب الشتاء (نحو 9% من أراضيها) لو لم ينشغل بالحرب على هتلر. كذلك، إنّ أوروبا القرن التاسع عشر التي يستشهد بها كيسنجر دوماً لم تحافظ على استقرارها إلّا بعد معاقبة نابوليون بونابارت على اعتداءاته.

ثمّة جملة قالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في آذار 2014 أمام المشرّعين الروس يمكن أن تعطي مناهضي كيسنجر حجّة لتحليلهم: “اصغوا إليّ أيها الأصدقاء الأعزّاء… لا تصدّقوا الذين يريدونكم أن تخشوا روسيا، صارخين أنّ مناطق أخرى ستتبع القرم. لا نريد تقسيم أوكرانيا؛ لسنا بحاجة إلى ذلك”. هذا التصريح وحده قادر على تقويض أيّ حجّة بأنّ روسيا لن تعيد غزو أوكرانيا في المستقبل. وعلى أيّ حال، ليس واضحاً أساساً أنّ موسكو تبحث عن مخرج للأزمة كي يتقدّم بعض الواقعيّين باقتراحاتهم.

أقل خطر وكلفة

في قراءة للتوازنات الدولية اليوم، ربّما هنالك عامل إضافي لم يكن موجوداً قبل الحرب العالمية الثانية وهو السلاح النووي. كغيره من المراقبين، يعتقد ميسكوفيتش أنّ المطالبات بدحر الروس واستعادة جميع الأراضي بما فيها القرم قد تؤدّي إلى استخدام موسكو سلاحاً نووياً أو أكثر. لكنّ بنجامين ويتيس من “معهد بروكينغز” يقلّل من هذا الاحتمال لأنّ روسيا والولايات المتحدة تلتزمان منذ عقود بالردع النووي وتفهمانه، كما أنّ التصعيد النوويّ لا يحدث بنقرة زر بل ينطلق من عمليّة احتكاك طويلة تعطي الطرفين وقتاً لإعادة المعايرة وتجنّب الخطر. لا يعني ذلك أنّ مخاطر التصعيد غير واقعيّة، لكنّها خاضعة للمبالغة كما غرّد.

من ناحية أخرى، ثمّة أفكار أخرى يعتنقها كيسنجر تساهم في خروجه بخلاصات كهذه. بحسب “وول ستريت جورنال”، يرى كيسنجر أنّ مهمة واشنطن هي الدفاع عن توازن قوى يحمي حريتها وحرية حلفائها بأقل خطر وكلفة ممكنة. بصورة عامة، ليس لدى الأميركيين مهمة لتحويل الروس والصينيين إلى اعتناق الديموقراطية مع ضرورة الاعتراف بأنّ القوى العظمى الأخرى تملك حقوقاً ومصالح يجب احترامها.

مع ذلك، لم يقل مناوئو تفكير كيسنجر العكس. قلّة ترى اليوم ضرورة نشر الديموقراطية كما فعل جورج بوش الابن. فقد بات هذا الهدف شبه مستحيل لأنّ الأنظمة الديموقراطية نفسها تعاني من تفسّخات داخليّة. من ناحية ثانية، لم يصمّ الغرب آذانه عن المطالب والهواجس الروسية بعدما عقد اجتماعات عدة معها في كانون الثاني الماضي. مجرّد جلوس الأميركيين مع روسيا لمناقشة هيكلية أمنية جديدة لأوروبا مؤشّر إلى أنّ واشنطن حاولت أن تلاقي موسكو إلى منتصف الطريق. لكنّ القبول بهدف روسيا القاضي بالسيطرة على أراضي دولة كاملة العضوية في الأمم المتّحدة، يقوّض النظام العالميّ أو أقلّه “استقرار” أوروبا الذي يريد كيسنجر الدفاع عنه.

النهار العربي

هذا ما توقّعه أيضاً

ربّما تنبع مقترحات كيسنجر من اعتقاده بأن روسيا ليست الخطر الأول على الولايات المتحدة بل الصين. وبالتالي، إنّ إغلاق الملفات العالقة مع روسيا يسهّل على واشنطن التركيز على بكين. لكنّ الإدارة الأميركيّة قد لا تكون بعيدة من هذه الرؤية. أحد أسباب إعفاء #بايدن السنة الماضية مشروع “نورد ستريم 2” من العقوبات لم يكن إرضاء ألمانيا وحسب بل أيضاً إرضاء روسيا، وبطريقة من الطرق، تحييدها عن الصراع الأميركيّ-الصينيّ. وألمانيا أيضاً كانت تجادل بأنّ هذا المشروع، والانفتاح الاقتصاديّ عموماً على روسيا، يجعل الأخيرة أكثر اندماجاً في أوروبا.

بمعنى آخر، ما اقترحه كيسنجر لجهة أخذ مصالح روسيا بالاعتبار ليس فكرة جديدة. جرّب الأوروبيون فكرته في السابق من دون نجاح. حتى اتفاقية #مينسك-2 هدفت بحسب محلّلين أوكرانيّين، وبفعل ضبابيّتها، إلى إعطاء الوقت لموسكو كي تستعيد المبادرة وتقلب موازين القوى في شرق البلاد. مع ذلك، يعتقد مراقبون أنّ لأفكار الواقعيين احتمالات كبيرة للنجاح.

رأى ديفيد هورسي في صحيفة “سياتل تايمز” أنّ الواقعيين على حق في أغلب الأحيان إذ إنّ الخيار العملي الوحيد في الديبلوماسية هو خيار غير مثالي أفضل من آخر سيئ. لكنّ هورسي يظهر أيضاً كيف أخطأ كيسنجر حين كتب في السبعينات أنّ الحرب الباردة ستسمرّ لعقود كثيرة وربما لقرن إضافيّ. غير أنّ الاتحاد السوفياتي تفكك بين ليلة وضحاها.

لغاية اليوم، يبدو أنّ الإدارة الأميركية ستترك الأوكرانيّين يقرّرون ما إذا كانوا يريدون التخلّي عن أراضيهم للتوصّل إلى اتّفاقية سلام مع الروس. كييف ليست حالياً في هذا الوارد على الإطلاق. تغيّرُ موقفها في المستقبل أمر محتمل. لكن كذلك موقف الروس بشأن مواصلة الحرب. لا تزال الضبابيّة سيّدة المشهد.

——————————-

كيسنجر وتشامبرلين وأوهام التنازلات أمام ديكتاتور يخطط لما هو اسوأ من الحرب/ محمد خلف

لا يخفي كيسنجر مخاوفه من انفلات الأوضاع الدولية نتيجة المواجهة القائمة بين روسيا والغرب، وفي هذا السياق اتى تحذيره من أن “مواصلة الحرب لن تكون متمحورة حول حرية أوكرانيا”، وإنما ستفتح الباب لـ”حرب جديدة ضد روسيا نفسها”.

تصريح وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر الذي أثار جدلاً واسعاً في أوروبا والذي دعا فيه أوكرانيا إلى تقديم تنازلات لروسيا، أعاد إلى ذاكرتي فيلم “ميونيخ حافة الحرب”، الذي كنت شاهدته على “نتفليكس”، ويتناول الأجواء التي سادت في أوروبا  خلال عام 1938، عندما لاحت إشارات تنذر باندلاع حرب عالمية في الأجواء، وهو ما يحدث الآن بعد الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية الذي بدأ قبل أكثر من أربعة أشهر ولم ينته بعد.

يبدو أن ما يحدث في العالم يعيد الاعتبار الى ما كان قاله ماركس، “التاريخ يكرر نفسه مرتين، المرة الأولى كمأساة والثانية كمهزلة”. فمشاهد حشود الجيش الروسي على الحدود مع أوكرانيا، واستعراض عضلات زعيم الكرملين فلاديمير بوتين أسلحته الفتاكة وتهديداته بالحرب النووية، يستنسخان كل ما فعله الزعيم النازي أدولف هتلر قبل عام من الحرب العالمية الأولى.

 يظهر هتلر في الفيلم وهو يستعرض قواته العسكرية الضخمة، ويُلوِّح بتغييرات سياسية وعسكرية كبرى تشهدها القارة، بينما رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين يتابع ويحلل ويتعمق في دراسة كل ما يقوله الزعيم النازي الذي يهدد باستخدام القوة العسكرية لغزو إقليم “السوديت”، في دولة تشيكوسلوفاكيا، بدعوى أن هذا الإقليم تسكنه غالبية ألمانية، وأن حكومة تشيكوسلوفاكيا تسيء معاملة هؤلاء. وهذا ما يقوله بوتين وتكرره آلة الدعاية الروسية عن دونباس والسكان الناطقين بالروسية، على رغم أن عددهم 800 ألف فقط، من أصل 4 ملايين نسمة.

 ينقل الفيلم اللحظات الحرجة والايام الكالحة التي فرضت على الحلفاء ان يقرروا: هل  يخوضون الحرب ضد ألمانيا من أجل تشيكوسلوفاكيا وحماية مصالحهم الدولية، أم يذهبون الى تسوية مع هتلر بالتنازل عن هذا الإقليم بهدف تجنُّب الحرب؟ أليس هذا  ما يدعو إليه كيسنجر؟ آنذاك اتخذ رؤساء وزراء بريطانيا وفرنسا وإيطاليا قراراً بالتنازل عن الأراضي التشيكوسلوفاكية، وتوجهوا الى ميونيخ لوضع تواقيعهم على اتفاق اعتبر لاحقا بأنه احد أسوأ الاتفاقات الدولية. وكان موسوليني باشر وبطلب من تشمبرلين بإقناع هتلر بعقد هذا اللقاء متجاهلاً أن الديكتاتور الإيطالي هو حليف الزعيم النازي. برر تشامبرلن والقادة الأوروبيون الآخرون تسليمهم الإقليم التشيكي طواعية وبدون موافقة الحكومة المعنية التي استبعدت أصلاً من المفاوضات، بهدف منع نشوب الحرب وتحقيق السلام. ومع أن هتلر تعهد في الاتفاق بأن تكون السوديت آخر مطالبه الإقليمية، إلا أن هذا لم يحدث بالطبع، إذ شهد العام الذي تلى إبرامه، أي 1939، اندلاع الحرب العالمية الثانية، عندما اجتاحت القوات الألمانية بولندا.

تشامبرلن- كيسنجر وحسن النيات

لم يتوقف المحللون والسياسيون منذ نشوب الحرب، وحتى الآن عن استحضار نموذج إقليم السوديت في تشيكوسلوفاكيا، وما حصل في مؤتمر ميونيخ، ومقارنته مع خطاب بوتين ومطالبه في أوكرانيا. إلا أن ذلك لم يمنع كسينجر من الدعوة الى تكرار الخطأ الشنيع نفسه، بهدف تهدئة بوتين وتبديد مخاوفه من توسع الأطلسي إلى حديقة بلاده الخلفية.

لا يخفي كيسنجر مخاوفه من انفلات الأوضاع الدولية نتيجة المواجهة القائمة بين روسيا والغرب، وفي هذا السياق اتى تحذيره من أن “مواصلة الحرب لن تكون متمحورة حول حرية أوكرانيا”، وإنما ستفتح الباب لـ”حرب جديدة ضد روسيا نفسها”.

تتمحور نظرة وزير الخارجية الأميركي الأسبق واستنتاجاته حول ما سيحصل في الوضع الجيوسياسي على مستوى العالم من تغييرات كبيرة بعد انتهاء حرب أوكرانيا، منبهاً إلى أنه ليس من الطبيعي أن تكون للصين وروسيا مصالح متطابقة في كل المشكلات المتوقعة. وأوضح كيسنجر في حوار أخير مع صحيفة “فايننشال تايمز” أنه بعد حرب أوكرانيا، على روسيا إعادة تقييم علاقتها بأوروبا، على الأقل، وموقفها العام تجاه “الناتو”، مضيفاً، “من غير الحكمة اتخاذ موقف معاد لخصمين بطريقة تقربهما من بعضهما، وبمجرد أن نتبنى هذا المبدأ في علاقاتنا مع أوروبا، وفي مناقشاتنا الداخلية، أعتقد أن التاريخ سيوفر فرصاً يمكننا من خلالها تطبيق نهجنا التفاضلي”.

لم يكن كيسنجر متهاوناً ولا ملتوياً في موقفه من الغزو الروسي، وكان واضحاً للغاية في توجيه اللوم إلى بوتين، مركزاً على التفكير في الحلول العسكرية التي لا بد أن تؤدي إلى اندلاع حرب باردة جديدة. وحدد نقاطاً يمكن أن تكون مدخلاً للحل، “أولاً، يجب أن تكون لأوكرانيا حرية اختيار روابطها الاقتصادية والسياسية، بما في ذلك روابطها مع أوروبا. وعليها ألا تلتحق بحلف شمال الأطلسي، وهو موقف اتخذته قبل سبع سنوات، حين طُرِح للمرة الأولى. ويجب منح أوكرانيا حرية إنشاء أي حكومة تتوافق مع الإرادة التي يعبر عنها شعبها قبل أن يختار القادة الأوكرانيون الحكماء سياسة مصالحة بين مختلف أجزاء البلاد. ودولياً عليهم السعي إلى موقف شبيه بموقف فنلندا التي لا تترك شكاً في استقلالها المتين وتتعاون مع الغرب في مختلف المجالات، لكنها تتجنب بحذر العداء المؤسسي لروسيا”.

سيناريو الحلول الوسطى القذرة

شن بوتين الحرب واعتراف روسيا رسمياً باستقلال منطقتَيْ دونيتسك ولوغانسك شرق أوكرانيا، عززا تكهنات زعماء الدول الأوروبية والولايات المتحدة والحلف الأطلسي، ومخاوفهم من نياته، واعتبروا قيامه بهذه الخطوة والقرارات اللاحقة بفصل مدن اخرى احتلها جيشه عن اوكرانيا واجراء استفتاءات صورية مفبركة، وفرض استخدام الروبل كعملة للتداول، خطوات تمهيدية لاجتياح كامل لأوكرانيا، وربما ابعد من ذلك،على غرار ما فعله هتلر في الحرب العالمية الثانية.

 إلا أن كيسنجر ليس الأميركي الوحيد الذي دعا زيلينسكي إلى التنازل لبوتين، كما أن الصحافي الشهير توماس فريدمان هو الآخر كرر هذه الدعوة في مقال له في صحيفة “نيويورك تايمز” بعنوان او ما سماه سيناريو “الحلول الوسط القذرة”، الذي يمكن اللجوء إليه في حالة فشل الجيش الروسي في تحقيق انتصار عسكري حاسم وسريع من جهة وفشل الأوكرانيون في الحفاظ على تماسكهم من جهة أخرى.

رد أوكرانيا على نداء كيسنجر في منتدى “دافوس” ومقال فريدمان المقرب من أوساط الديموقراطيين، لم يتأخر، إذ شن رئيسها فولوديمير زيلينسكي هجوماً عنيفاً وقال، “يبدو أن تقويم السيد كيسنجر ليس للعام 2022، بل عام 1938 حيث كانت عائلة السيد كيسنجر تفر من ألمانيا النازية، وكان عمره 15 عاماً”. وأضاف “بعد كل ما فعلته روسيا بأوروبا يخرج كيسنجر من الماضي السحيق ليقول إن جزءاً من اراضي اوكرانيا يجب أن يمنح لروسيا”.

تسونامي الغضب وعزيمة زيلينسكي

إلا أن تسونامي من الانتقادات اللاذعة انهالت على كيسنجر من جهات عدة، وقال المعلق في صحيفة “التايمز” البريطانية ديفيد آرنوفيتش “إن ما يدعو إليه كيسنجر يعني ان تقبل أوكرانيا بالاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم، وتوافق على ضم روسيا مقاطعتي دونيتسك ولوغانس اللتين ما زال النزاع عليهما محتدماً”. وتابع أن السياسي (الاجنبي التسعيني) الذي لم يسبق أن انتخبه أحد يحث الأوكرانيين على التحلي بالحكمة، فيما دخلت الحرب مرحلة جديدة بعد إجبار الروس على الانسحاب من المناطق المحيطة بالعاصمة كييف، بينما يشن الروس حرب استنزاف رهيبة يدمرون فيها كل شيء من أجل تثبيت الاحتلال”.

ليس أقل من الهزيمة المنكرة

 وجه روبرت تومبز عبارات قاسية لكيسنجر في مقال له بعنوان: “فلاديمير بوتين لا يستحق أقل من الهزيمة“، قال فيه “يرى كيسنجر ان أوكرانيا يجب ألا تخوض “حرباً ضد روسيا نفسها”. وذلك لأن روسيا كانت طوال 400 عام “جزءاً أساسياً” من “التوازن الأوروبي” ويجب أن تكون أوكرانيا راضية عن كونها “دولة محايدة”. ولكن هذا غير مقبول وغير أخلاقي وغير واقعي.

عرف كيسنجر بأنه أحد رواد ما يعرف بنظرية الواقعية السياسية منذ عام 1954، وموقفه هذا يعد مثالاً كلاسيكياً على النهج الواقعي للعلاقات الدولية منذ عام 1954، عندما كتب عن استعادة أوروبا بعد نابليون. من هنا فإن الواقعية  تنظر الى الدول على أنها جهات فاعلة عقلانية وطويلة الأمد، تعمل من خلال ديبلوماسية رفيعة المستوى تهدف إلى التخفيف من حدة الصراع.

وأجمع محللو الشؤون الدولية خلال العقود المنصرمة على أن استرضاء تشامبرلين لهتلر عام 1938، هو أسوأ مثال في التاريخ الحديث للواقعية، التي لم تنجح”، فلقد تبين أن رغبة التعامل مع هتلر بعقلانية، وفهم مطالبه وتقديم تنازلات معقولة لتجنب كارثة الحرب العالمية، أظهرت أنه لم يكن عقلانياً وأن التنازل لم يمنعه من شن الحرب والتوسع وحصول الكارثة. والسؤال إلى أي حد يمكن الوثوق بالزعيم الروسي الذي يكره بشكل علني الديموقراطية الليبيرالية، ويرغب في الانتقام لانهيار الاتحاد السوفياتي.

ينظر الغرب إلى الحالة الناشئة مع غزو روسيا لأوكرانيا على أنها صراع بين شكلين من الواقعية. والسؤال الأكثر تردداً الآن في الأوساط السياسية الأوروبية، “هل من الواقعي تقديم تنازلات للمعتدي على أمل تجنب ما هو أسوأ، أم المقاومة من أجل هزيمته وردع الآخرين؟”.

يرى تومبز أنه يتم الآن استغلال وجهة نظر كيسنجر من قبل أولئك الذين يريدون إنهاء الحرب في أسرع وقت ممكن.

ابتلاع التفاحة كاملة: الاختناق والفشل

يقول مثل شعبي أوروبي، “اذا ابتلعت تفاحة كامل، ربما ستختنق”. يبدو أن بوتين بعد سماعه هذا المثل لم يعد مستعجلاً في حربه على أوكرانيا، ووصل الى قناعة تامة بعد فشل حربه الخاطفة وامكانية احتلال هذه الدولة في ثلاثة أيام وتعيين حكومة من أتباعه الأوكرانيين لم يعد ممكناً، ولهذا انتقل الى اتباع استراتيجية جديدة لتحقيق أهدافه، عبر قضم تدريجي للأراضي الأوكرانية، واذا ما تيقن من خسارة اكيدة أمام الغرب الذي لن يوقف دعمه للاوكرانيين لأنها حربه ضد روسيا، قبل ان  تكون حربهم، فإنه سيتجه نحو التدمير المنظم على غرار ما فعله في غروزني وسوريا. وعندها فإن أوكرانيا في حال هزيمته ستخسر سكانها واقتصادها، وإذا استمر الغرب في عدم تدخله المباشر، فهذا يعني تدفق المزيد من اللاجئين غير القادرين على العودة، إلى تدفق موجات جديدة من الشرق الاوسط وافريقيا هربا من انهيار الاقتصاد العالمي وشحة التدفقات الغذائية.

من جهة أخرى، فإن سياسة الاسترضاء التي يدعو إليها كيسنجر وبعض المسؤولين منهم الرئيس الفرنسي تنطوي على مخاطر حقيقية تمس في الصميم معنويات المقاومة الاوكرانية الثابتة حتى الآن، فضلاً عن أنها تقوي المعتدين وتشجعهم، وفي أحسن الأحوال تؤخر الصراع بينما تجعل الحساب النهائي أسوأ. ولعل اسوأ ما يمكن ان يحصل هو تراجع الدعم الغربي للاوكرانيين في حال تواصلت الحرب وأحدثت انقسامات مجتمعية، واستقطابات سياسية وثورة اجتماعية بسبب الأزمة الاقتصادية.

بدأت طلائع ذلك تتبلور في الأفق، إذ نجد في الجبهة الامامية بريطانيا ومعظم دول أوروبا الشرقية والدول الاسكندنافية والولايات المتحدة الأميركية. وعلى الجبهة المقابلة نرى ألمانيا وفرنسا والمجر ومعظم دول عدم الانحياز التي تخشى بشكل مفهوم العواقب الاقتصادية لحرب ليست حربها.

ربما يكون كيسنجر قد دعا فعلاً الى تقديم تنازلات مؤلمة لبوتين، إلا أنه قال شيئاً  آخر لم يعره أحد الأهمية المطلوبة، وهو أن الحل يجب أن يكون في العودة إلى “الوضع الذي ساد قبل الغزو”. ما يعني “انسحاباً روسياً إلى نقاط البداية، وتحرير الساحل الأوكراني وترك بوتين من دون أي شيء في حربه المكلفة والمدمرة”.

درج

—————————

حرب أوكرانيا كمقدمة لحدث تاريخي روسي/ بسام مقداد

في الثالث من الشهر الجاري أنهت حرب بوتين على أوكرانيا يومها المئوي، أطل في آخره الرئيس الأوكراني محاطاً بفريق عمله، ليقول بأن كل الفريق “هنا”، لكن الأهم هو “أن الجيش الأوكراني، أوكرانيا، “هنا”. ويضيف 100″ يوم ونحن ندافع عن أوكرانيا، المجد للشهداء، المجد لأوكرانيا، سننتصر”. في المقابل قال الناطق بإسم الكرملين في هذه المناسبة بأن الهدف الأساسي لعملية الدفاع عن سكان جمهوريتي الدونباس الإنفصاليتين… وتم بلوغ “نتائج معينة”.

رمز حرب بوتين على أوكرانيا الحرف Z أصبح خلال المئة يوم خارج روسيا مادة سخرية عميقة، تجمع بين عمق الدلالة السياسية وشتيمة الشارع الروسية الشهيرة بتعابيرها الجنسية الفجة. فقد نشر موقع قناة التلفزة الأميركية  currenttimeالتي تبث من براغ نصاً بهذه المناسبة بعنوان تضمن شتيمة شارع مقزعة يتوسطها حرف Z  كبير المقاس”piZdets”، أو 100 يوم من الحرب”، أي الخروج خالي الوفاض من مئة يوم من الحرب. وأشار الموقع إلى أن بوتين، وفي مقابلة مع قناة تلفزة روسية بمناسبة مئة يوم من الحرب، قال بأنه لا توجد مشكلة في تصدير الحبوب من أوكرانيا، بل أوكرانيا نفسها إفتعلتها بمساعدة الشركاء الغربيين. وعلق الموقع ساخراً: والحرب كما يبدو إفتعلتها أوكرانيا بمساعدة شركائها الغربيين.

موقع Kasparov المعارض نشر يوم المناسبة نصاً بعنوان “أوكرانيا تقاوم، وهذا يزرع الأمل”. قبل أن يترك الموقع النص بكامله لمدونات الناشطين (ليس من المؤكد أنهم جميعاً من الروس)، قدم له بكلمات معدودة قال فيها بأن السلطات لم تحظر على الإعلام الروسي عدم ذكر كلمة حرب واستبدالها بتعبير “العملية الخاصة” فقط، بل حظرت عليه أيضاً ذكر طول مدة الحرب.

وبعض ومما جاء في عشرات المدونات من سخرية لاذعة أحياناً، وصور مخيفة أحياناً أخرى:

مدون: العدوان مستمر، لكن عملية الكرملين الخاصة إنتقلت منذ زمن بعيد من مرحلة “كل شيئ يسير وفق الخطة” إلى مرحلة “حدث شيئ ما لم يكن بالحسبان”.

مدون آخر: حل اليوم المئوي للحرب في أوكرانيا. “العملية الخاصة” تسير وفق الخطة إلى درجة أن الكرملين حظر على البروباغندا التطرق إلى مدتها.

آخر: يحظر التطرق إلى: مدة الحرب؛ عدد القتلى؛ تسمية الحرب حرباً ـــــ واضح أن “كل شيئ يسير وفق الخطة”.

مدونة: 100 يوم من حدث مرعب، حيث قام بلد بتشويه الواقع حتى العبث، أنجب شراً زلقاً عميماً يدمر النور والمحبة، يُكره الناس على التصديق بأن الموت أفضل من الحياة.

نصوص الإعلام الرسمي لا تؤكد كلام الموقع السابق عن حظر ذكر مدة الحرب. فقد نشرت وكالة نوفوستي نصاً بعنوان “مئة يوم على العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا: متى ينتهي كل ذلك”. كتب النص بيتر أكوبوف الذي شملته الرزمة السادسة من العقوبات الأوروبية، والتي أعلنها الإتحاد الأووبي يوم مئوية الحرب بالذات. يقول الكاتب بأنه مر مئة يوم على العملية العسكرية في أوكرانيا، ولا أحد يعرف كم ستطول بعد. لكن العملية الخاصة لم تصبح حرباً لروسيا: فلا تعبئة عامة، لا تغيرات مهمة في نمط الحياة اليومية (بإستثناء الوضع في بعض المناطق المحاذية للجبهة وإقفال المطارت في جنوب البلاد)، لم يًرفع شعار “كل شيئ من أجل الجبهة، كل شيئ من أجل النصر”. وحتى توقف الرحلات الجوية مع الغرب لم يؤثر على الغالبية العظمى، ولم يؤثر سوى على نسبة ضئيلة “من مواطنبنا”.

بعد الحديث عن هذه التأثيرات “البسيطة” للحرب على حياة الروس، يقول الكاتب بأن هذا لا يعني أن روسيا لا تتغير، بل تجري عمليات بالغة الجدية وتجري تحولات زلزالية في الوعي وفي نمط الحياة الروسي. لكن لم يتبلور معظمها بعد، ناهيك عن إضفاء الطابع الرسمي عليها في شكل توجيهات أو قرارات، غير أن حتميتها موجودة بالتأكيد، ويشعر بها المزيد من الروس.

“التحولات الزلزالية” التي يتحدث عنها أكوبوف ـــــــ التضامن والعدالة، الخدمة والمسؤولية، الإستقلالية والتركيز ـــــــ يرى أنها لم تصبح بعد الشعارات الرئيسية في  حياة الروس، لكنها هي بالذات ستشكل المكون الرئيسي لنمط حياتهم الجديد. وهم لن يبلوروها “بعد النصر”، بل ستكون شرطه الرئيسي، لأن “العملية الخاصة” لا تمس فقط أوكرانيا والعلاقات مع الغرب، بل تمس روسيا نفسها أيضاً. ويستدرك بأنه لا يعني بكلامه القمع وتسكير البلاد، كما يقول “مناضلونا ضد النظام”، بل يقصد تشكيل نخبة جديدة، هيكل إجتماعي إقتصادي جديد، سلم قيم جديد. ونعت كل هذا بالجديد لا يعني إختراعه من الصفر، بل تاريخ روسيا  “يمنحنا” خبرة هائلة “نستطيع” في حال إستيعابها الصحيح، صياغة ،معادلة روسيا” تلك التي ستكون على أقصى توافق مع “قيم حضارتنا، وتكشف عن إمكاناتها، وتجمع بين فرادتها والفعالية، والقدرة على الحشد مع الإبداع”.

الفرادة الروسية والتحولات الزلزالية في الوعي ونمط الحياة الروسي التي يتحدث عنها أكوبوف ويربطها ب”العملية الخاصة” في أوكرانيا، تمتد في جذورها إلى عالم الفاشيين الروس. فقد سبق أكوبوف بأشواط الدكتور في العلوم الفلسفية، مدير معهد  Dynamic Conservatism فيتالي أفيريانوف في الحديث عن عمق التأثيرات الزلزالية للعملية، ليس في الوعي ونمط الحياة الروسي فحسب، بل وفي تاريخ روسيا أيضاً. فقد نشرت صحيفة الفاشيين الروس Zavtra في5 نيسان/أبريل المنصرم مقابلة مطولة ( أكثر من 8 آلاف كلمة) مع الرجل بعنوان “أوكرانيا ذريعة فحسب لحدث جلل”.

للرجل تهويمات “فلسفية تاريخية” عديدة، كما لكل أصحاب الفكر القومي الفاشي، سيما وأنه، إضافة لكونه مدير المعهد المذكور، هو نائب رئيس نادٍ يضم زبدة الإمبراطوريين الفاشيين الروس، بمن فيهم رئيس تحرير الصحيفة عينها. وليست أقل تهويماته إعتبار حرب بوتين على أوكرانيا حدثاً تاريخياً جللاً، و”الأخوة” الأوكران جزء من نواة “العالم الروسي”، وليسوا مجرد إمتداد خارجي له وأمة سلافية خارج عالم بوتين الروسي.

بعد الحديث عن قرار بوتين بالغزو أوكرانيا، رغم تردد كبار قادة روسيا من محيطه، وجه له مندوب الصحيفة سؤالاً ما إن كان يعتبر أن بوتين يعمل وفق منطق الأحداث التاريخية والإرادة الإلهية، وما إن كان قرار “العملية الخاصة” حتمية فرضها الرد على تحديات ما. رد أفيريانوف بأن جميع الأسباب المعلنة للقرار مثل الدفاع عن الدونباس، توسع الناتو، القنبلة النووية القذرة والكثير سواها، لا يشكل أي منها عاملا محدِداً بذاته. إنها الحالة (إتخاذ القرار بالعملية العسكرية) التي يجري فيها حدث تاريخي جلل يمكن أن نعثر على عشرات الأسباب له، لكن أياً منها ليس هو المحدد، لأن السبب الرئيسي يقع “وراء حدود المنطق العقلاني”، يكمن في مسار التاريخ.

يرى أفيريانوف أن إستعادة الأوكران إلى حضن “العالم الروسي” ليس سوى البعد الخارجي لما يجري في أوكرانيا. فهناك اتجاه أعمق بكثير يكمن وراء هذا، يتمثل في أن روسيا قبل العام 2022 كانت لا تزال أسيرة إعتماد شبه إستعماري على حضارة أخرى، وليست دولة قومية منفصلة. ويتعلق الأمر بالدرجة الأولى بالأموال ـــــ حبل السرة الذي يربط المستعمرة بالمتروبول. وقطع حبل السرة هو ثورة، هو تغير زلزالي هائل في السياسة الدولية، والأهم بالنسبة لروسيا هو إنطلاق عملية تطهيرها، وهي ستبدأ قريباً جداً تتغير بشكل حاسم. وأوكرانيا ليست هنا سوى ذريعة للحدث الجلل. إلا أنه يستدرك بأن أوكرانيا الذريعة (للحرب عليها) هامة للغاية، فهي عشرات الملايين من البشر”إخوتنا”.

المدن

————————-

المأزق التركي في خضمّ المواجهة الروسية الأطلسية على الأرض الأوكرانية/ أنطوان الحاج

يرسم الواقع الجغرافي مسار التاريخ وملامح المستقبل للدول، ويفسّر الكثير من وقائع الحاضر. انطلاقاً من ذلك يكون النظر إلى الدور والموقف في كل مسألة من المسائل العالمية، وما أكثرها هذه الأيام وعلى الدوام…

ولّد ويولّد الغزو الروسي لأوكرانيا مجموعة كبيرة من التحديات لتركيا. فالدولة الأطلسية قريبة عموماً من حلفائها الغربيين في دعم كييف، لكنها في الوقت نفسه لا تنسف الجسور مع موسكو. فنراها تحاول الاضطلاع بدور الوسيط بين الطرفين المتنازعين من جهة، وتواصل تعاونها العسكري مع أوكرانيا (خصوصاً بيعها طائرات مسيّرة من طراز «بيرقدار») من جهة أخرى.

كيف ستتعامل تركيا مع هذه المعادلة الصعبة، وهل تنجح على المدى الأبعد في إرضاء الحلفاء الغربيين والجار الروسي في آن واحد؟

لا شك في أن تركيا عضو مهم في حلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي انضمت عليه عام 1952، لأنها دولة كبيرة وجيشها قوي، وتقع على الطرف الجنوبي لجغرافيا الحلف، وعلى تماس مع روسيا، الخصم الكبير للكتلة الغربية.

تحاول تركيا بقيادة رجب طيب إردوغان، صاحب الرؤى التوسعية الطموحة، الخروج من نطاق الدور الإقليمي إلى مدى عالمي أرحب. وفي هذا السياق، طوّرت صناعتها العسكرية وأصبحت مصدّرا لعتاد متنوع وخصوصاً للطائرات المسيّرة التي تكتسب في الميدان أهمية متزايدة. وقد اشترت أوكرانيا مسيّرات من طراز «بيرقدار تي بي 2» واستخدمتها بفاعلية لضرب القوات الانفصالية الموالية لروسيا في حوض الدونباس حيث قامت منذ العام 2014 «جمهوريتا» دونيتسك ولوغانسك، الأمر الذي أثار رد فعل غاضباً من موسكو. ومعروف أن هذه المبيعات مستمرة، وعمليات الصيانة كذلك، في تعاون عسكري يعزز مكانة تركيا في الناتو.

مسيّرة تركية من طراز «بيرقدار تي بي 2» (رويترز)

في المقابل، اعتمدت أنقرة موقفاً متحفظاً حيال العقوبات الغربية التي تنهمر على روسيا من كل حدب وصوب. وفي ما يخص مضيقي الدردنيل والبوسفور التزمت اتفاق مونترو (سويسرا) الذي عُقد عام 1936 ومنح تركيا السيطرة على المضيقين، مع ضمان حرية مرور السفن المدنية وتقييد مرور السفن الحربية في أوقات الحرب.

إلا أن المشهد ما لبث أن ازداد تعقيداً مع تقديم فنلندا والسويد طلبي انضمام إلى الناتو خروجاً عن مبدأ الحياد العسكري، علماً أن الانضمام لا يتحقق إلا بموافقة إجماعية من الدول الثلاثين الأعضاء. فقد رفضت تركيا انضمام الدولتين الأوروبيتين الشماليتين بدعوى دعمهما لقوى كردية تعتبرها أنقرة «إرهابية»، بالإضافة إلى أن فنلندا تمنع بيع تركيا أي عتاد عسكري بسبب المسألة الكردية. ولم تنجح المفاوضات المباشرة وغير المباشرة التي حصلت مع تركيا في تليين موقفها حتى الآن، إلى درجة أن الاتحاد الأوروبي أقفل الباب عملياً في وجهها بسبب هذا الموقف المتصلب من المسألة الأطلسية.

وليس من المستبعد، في عالم السياسة الواقعية والدبلوماسية الخفية، أن تستفيد تركيا من هذا الموقف للحفاظ على تقاربها مع روسيا الذي زخّمه إردوغان منذ العام 2016، وفي الوقت نفسه انتزاع المزيد من «التنازلات» الأطلسية والأوروبية.

ولا ننسى هنا الخلاف الكبير الذي حصل بين واشنطن وأنقرة بعد شراء الثانية منظومة صواريخ «إس 400» الدفاعية الروسية، واعتبار القادة العسكريين الأطلسيين أن وجود هذه الصواريخ في تركيا يخرق جدار المناعة لكثير من الأسلحة والمنظومات العسكرية الأطلسية ويكشفها أمام «الأعين» الروسية. وكانت النتيجة السلبية الكبرى لذلك إخراج تركيا من برنامج تدريب طياريها ولاحقا بيعها مقاتلات «إف 35» الأميركية المتطورة.

ثمة من يعتقد أن إردوغان سيليّن في النهاية موقفه من انضمام السويد وفنلندا إلى العائلة الأطلسية مقابل الحصول على بعض المكاسب. وفي المقابل، ثمة من يقول إن إردوغان لا يملك ترف التنازل في وقت حساس للغاية، كونه على موعد مع استحقاق كبير يوم 18 يونيو (حزيران) 2023 مع إجراء الانتخابات العامة التي تشمل منصب الرئاسة والمقاعد البرلمانية. والرجل يقترب من هذا الامتحان فيما الوضع الاقتصادي في بلاده لا ينفكّ يتراجع مع هبوط قيمة الليرة التي فقدت نحو 20 في المائة من قيمتها منذ بداية العام، وهو يتمسك بخفض الفائدة (لتشجيع الاستثمار) منقلباً على سياسته السابقة القاضية برفعها (حفاظاً على قيمة الليرة). لكن في الحالتين يستمر التعثر الاقتصادي ومعه الوضع المعيشي الذي يُعتبر عند أي ناخب في العالم المعيار الرئيسي لدى ملء ورقة الاقتراع…

وقد لا يجد إردوغان بداً لترميم وضعه الداخلي المتراجع من محاولة تعزيز صورته كلاعب عالمي، عبر إبداء التصلب في الشأن الأطلسي، والحفاظ على الموقف المتمايز من الحرب الأوكرانية، وصون الأمن التركي من خلال إطلاق عملية عسكرية على الحدود الجنوبية ترمي إلى إنشاء حزام بعمق 30 كيلومتراً داخل الشمال السوري لدرء «الأخطار الإرهابية» عن الأراضي التركية، بالإضافة إلى تشدده حيال اليونان واستعراضاته العسكرية في بحر إيجه، وإسباغ صفة المطار المحلي التركي على مطار تمبو (اسمه التركي إركان) في الشطر الشمالي من قبرص، وهو ما اعتبرته السلطات القبرصية اليونانية خطوة في اتجاه ضم جمهورية «شمال قبرص التركية» – التي لا تعترف بها سوى أنقرة – إلى تركيا.

يلعب الرئيس التركي لعبة معقدة منذ أن انطلق الهجوم الروسي على أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) الماضي: دعم عسكري بـ «صوت خافت» لكييف في موازاة إبقاء القنوات الدبلوماسية مفتوحة مع روسيا ومحاولة الاستفادة من الثروات المحاصَرة للأوليغارشيين الروس الذي يُعتبرون سنداً أساسيا للرئيس فلاديمير بوتين. إلا أن هذه اللعبة تزداد صعوبة مع مرور الوقت، وتَبَلور صورة الحرب كمواجهة أطلسية – روسية على الأرض الأوكرانية، وبالتالي سيضيق حتماً هامش المناورة لدى الرئيس التركي الذي سيكون عليه حسم موقفه من هذه المواجهة عاجلا أم آجلا، وهذا ما يراكم همومه قبل الاستحقاق الانتخابي المثقل بالعبء الاقتصادي الثقيل.

الشرق الأوشط

—————————–

توماس فريدمان: حرب أوكرانيا ما تزال تحمل مفاجئات.. أهمها لبوتين

إذا لم تفجر الحرب الروسية على أوكرانيا الكوكب عن غير قصد، فقد تساعد بدون قصد في استدامته.

يكشف التاريخ أن الحروب لا يمكن دائما التنبؤ بنهاياتها، إذ قد تتبع مسارات متوقعة، كما أنها قد تسير في اتجاهات لم تكن في الحسبان، ولا يبدو أن حرب أوكرانيا تمثل استثناء لهذه القاعدة.

هذا ما يراه توماس فريدمان الكاتب المخضرم بصحيفة “نيويورك تايمز” (New York Times) في مقال له استهله بحقيقة وصفها بالمفاجئة، وهي أن الأميركيين الذين لا يبدو أنهم متفقون في الوقت الحالي على أي شيء؛ أظهروا بغالبيتهم وبشكل مستمر أنهم يؤيدون “تقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية سخية لأوكرانيا في حربها ضد سعي (الرئيس الروسي) فلاديمير بوتين محوها من الخريطة”.

وهذا أمر مفاجئ بشكل مضاعف، وفق الكاتب، خصوصا أن “معظم الأميركيين لم يكونوا يعرفون مكان أوكرانيا على الخريطة قبل بضعة أشهر فقط، لأنها بلد لم تكن لنا معه علاقة خاصة من قبل”.

لكن الكاتب يرى أن أهم شيء هو أن يظل هذا الدعم مستمرا خلال الصيف الحالي الذي ستكون فيه أوكرانيا مسرحا “لمبارزة سومو” بين مصارعين عملاقين يحاول كل منهما قذف الآخر خارج الحلبة، وليس أي منهما مستعدا للانسحاب حتى وهو عاجز عن الانتصار”.

وبينما توقع فريدمان أن يتآكل هذا التأييد بعض الشيء عندما يدرك الناس دور هذه الحرب في دفع أسعار الطاقة والغذاء العالمية إلى الارتفاع، فإنه أظهر أنه ما زال يأمل في أن تبقى غالبية الأميركيين على موقفها من حرب أوكرانيا حتى يتمكن هذا البلد من استعادة سيادته عسكريا أو إبرام اتفاق سلام لائق مع بوتين، على حد تعبيره.

ولفت فريدمان إلى أن تفاؤله باستمرار ذلك التأييد على المدى القريب لا ينبع من قراءة استطلاعات الرأي، بل من قراءة التاريخ، وعلى وجه الخصوص، كتاب مايكل ماندلباوم الجديد “العصور الأربعة للسياسة الخارجية الأميركية: القوة الضعيفة، القوة العظيمة، القوة العظمى، القوة الجامحة”.

وبينما قد تبدو مواقف الولايات المتحدة من أوكرانيا غير متوقعة تماما وجديدة، فإن ماندلباوم يرى أنها ليست كذلك، مستشهدا بمواقف اكتسحت السياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ نشأتها.

وبحسب الكاتب يؤكد ماندلبالم أن سياسة أميركا الخارجية تأرجحت على مدار تاريخ هذا البلد بين نهجين عريضين أحدهما يركز على القوة والمصلحة الوطنية والأمن وهو نهج الرئيس الأسبق ثيودور روزفلت، والثاني على تعزيز القيم الأميركية ويتوافق مع نهج الرئيس الأسبق وودرو ويلسون.

ويبدو هذان النهجان متنافسين في كثير من الأحيان، وفقا لفريدمان، لكن ذلك لم يكن هو الواقع دائما، إذ “عندما يكون ثمة تحد للسياسة الخارجية يضع مصالحنا وقيمنا على المحك، فقد نصل إلى النقطة المثالية، فيحظى ذلك بدعم شعبي واسع وعميق ودائم”، على حد تعبيره.

ويرى ماندلبالم في كتابه الذي نشر بداية يونيو/حزيران الحالي أن هذا التأييد الشعبي المستمر هو الذي ساد الولايات المتحدة طيلة الحرب العالمية الثانية وكذلك الحرب الباردة، متوقعا أن يكون ذلك هو الحال بالنسبة لحرب أوكرانيا.

مسارات الحروب

لكن السؤال الكبير -وفق فريدمان- هو إلى متى سيستمر هذا التأييد؟، والجواب “لا أحد يعلم، لأن الحروب تتبع مسارات متوقعة وأخرى غير متوقعة”.

وأوضح الكاتب أن ما هو متوقع في حرب أوكرانيا هو أنه “مع ارتفاع التكاليف، ستزداد معارضة الحرب إما في أميركا أو بين حلفائنا الأوروبيين، بحجة أن مصالحنا وقيمنا قد خرجت عن التوازن في أوكرانيا”.

ولفت إلى أن هناك من سيجادلون بأن البلاد لا يسعها اقتصاديا دعم أوكرانيا إلى حد النصر الكامل، أي طرد جيش بوتين من كل شبر من أوكرانيا كما أنها إستراتيجيا لا يمكنها السعي لتحقيق النصر الكامل، لأن بوتين في مواجهة هزيمة مدوية يمكن أن يلجأ للسلاح النووي.

وقال فريدمان إن بعض المؤشرات بدأت تتكشف، مثل تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن التحالف الغربي ينبغي ألا “يذل روسيا”، وهو ما أثار غضبا هائلا في أوساط الأوكرانيين.

لكن ماندلبالم قال في كتابه إن جميع الحروب عبر التاريخ الأميركي قوبلت ببعض المعارضة، بما في ذلك الحرب الثورية، عندما انتقل المعارضون إلى كندا”.

وشدد الكاتب على أن ما ميز الرؤساء الأميركيين الذين حكموا خلال فترات الحروب هو تمكنهم من إبقاء البلاد ملتزمة بكسب الحرب، على الرغم من المعارضة.

وقال فريدمان إن التحدي الذي يواجه الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن -خصوصا في ظل غياب إجماع بين الحلفاء أو مع أوكرانيا حول شكل “الانتصار”- هو هل الحل استعادة كييف جميع أراضيها أم قبولها بالتخلي عن بعضها؟ وهل بوتين قرر أنه لا يريد أبدا أي حل وسط، وبدلا من ذلك يريد أوكرانيا أن تتحمل موتا بطيئا ومؤلما؟.

أما ما لا يمكن توقعه بشأن هذه الحرب، فهو -وفق فريدمان- أنه بعد 100 يوم من اندلاعها لا تلوح في الأفق نهاية لها، إذ إنها “بدأت في رأس بوتين، ومن المرجح أن تنتهي فقط عندما يقول بوتين إنه يريدها أن تنتهي.. لكن الحروب الكبيرة لها أطوار غريبة، فأيا كانت الطريقة التي بدأت بها يمكنها أن تنتهي بطرق غير متوقعة على الإطلاق”، وفقا لفريدمان.

فمثلا، يقول فريدمان، أجبرت حرب أوكرانيا بالفعل كل دولة وشركة على تطوير خططها لاستخدام الطاقة النظيفة، وإذا لم تفجر هذه الحرب الكوكب عن غير قصد، فقد تساعد بدون قصد في استدامته، وبمرور الوقت، سيتقلص المصدر الأساسي للمال والسلطة لبوتين”.

المصدر : نيويورك تايمز

————————–

الغزو الروسي وتشكل الهوية الأوكرانية/ سليمان الطعان

كثيرة هي العائلات السورية (والعربية أيضا) التي تضم بين أفرادها امرأة (روسية) تزوجها الشاب في أثناء دراسته في الاتحاد السوفييتي السابق، أو في أوكرانيا وروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. التفصيلات الإثنية الدقيقة حول عرق الزوجة، الروسي أو الأوكراني، لم تكن تعنينا؛ فغالبا ما يكون رد أحدنا على توضيح بأن المرأة أوكرانية لا روسية بجواب: لا فرق بينهما، أو هل يوجد فارق كبير بينهما؟

هذا الالتباس في رؤيتنا للفارق بين الروس والأوكرانيين عبّر عنه الرئيس الروسي بمقالة نشرها في تموز من العام الماضي، وفي المقالة يحاجج بأن الأوكران والروس هم شعب واحد، وأن الأراضي الأوكرانية هي أراض روسية، ويضيف في مقالته بأن أوكرانيا نفسها لم تظهر كدولة مستقلة إلا حين ارتكب البلاشفة خطيئة تاريخية، فشكلوا الكيان الأوكراني الحالي. وفق هذه الرؤية لا تغدو الحرب الروسية على أوكرانيا حرب مصالح ونفوذ، هدفها انتزاع تنازلات أو الرضوخ لمطالب روسيا، فالحرب من وجهة النظر الروسية تصحيح لخطأ تاريخي، وحرب معلنة على وجود أوكرانيا نفسها.

مثلها مثل أغلب الحركات القومية، نشأت الحركة القومية الأوكرانية في القرن التاسع عشر، في الوقت الذي كانت فيه الأراضي الأوكرانية الحالية موزعة بين روسيا القيصرية والإمبراطورية النمساوية المجرية. كانت الحركة ردا على السيطرة الخارجية، ولهذا عمل المفكرون والكتاب الأوكرانيون على إذكاء الشعور القومي وإحياء اللغة الأوكرانية، والبحث عن الاستقلال وحق تقرير المصير، والتنظير لوجود أمة أوكرانية مستقلة تعود إلى القرن التاسع الميلادي. باختصار حاولوا إيجاد سردية قومية تشابه كل السرديات القومية الأخرى. هكذا تشكلت “الجمهورية الأوكرانية” في أعقاب الحرب العالمية الأولى، في سياق مشابه لقيام مملكتنا السورية العربية المغدورة، ومثلها أيضا لم تعمر الجمهورية الأوكرانية أكثر من ثلاث سنوات (1917-1920).

على امتداد الحقبة الشيوعية، حاول الاتحاد السوفييتي أن يزيل الفوارق بين الروس والأوكرانيين، وعلى الرغم من أن النسخة السوفييتية من روسيا اعترفت بالتعدد الإثني والفوارق الثقافية، فإنها عملت على التوكيد على وحدة الشعبين، والمصير التاريخي المشترك بين الروس والأوكرانيين، دون بقية القوميات التي تكون منها الاتحاد السوفييتي.

ومع أن كلا من روسيا وأوكرانيا، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، تبنت السردية التاريخية السابقة للعهد السوفييتي، فإن أشد المتشائمين لم يتوقع أن يصل الصدام بين السرديتين إلى الحرب في نهاية المطاف، ولاسيما أن الهوية القومية الأوكرانية، على خلاف الكثير من القوميات في العالم، لم تتشكل ضد آخر معين، فلم تكن روسيا هي الآخر في الوعي الجمعي الأوكراني، بل كان ينظر إليها على أنها الشقيق الأكبر.

غير أن كل هذا تغير مع ضم روسيا للقرم في عام 2014م. لقد تحول الخلاف أو الخصومة إلى عداوة، أطلقت السلطات الأوكرانية على إثرها حملة ضد كل ما يمت للحقبة السوفييتية التي نظر إليها على أنها حقبة روسية، فأعيدت تسمية ما يقارب خمسين ألف شارع، وألف قرية ومدينة في عموم أوكرانيا، ووصل الأمر إلى حد تشريع قانون يساوي بين الرموز السوفييتية والرموز النازية، ويجرم استعمالها في الفضاء العام.

وعلى الرغم من كل هذه الإجراءات، فإن جزءا لا يستهان به من الأوكرانيين ظل على ولائه لروسيا، أو لرغبته في الانضمام إليها، وخصوصا في الأجزاء الشرقية من البلاد التي يشكل فيها المنحدرون من أصول روسية والمتكلمون بها أكثرية السكان. الأمر الذي ظهر في سهولة ضم القرم، والحركات الانفصالية في إقليم الدونباس. واتضح هذا جليا في انقسام البلد والنخبة بين من يؤيد البقاء تحت المظلة الروسية، ومن يريد التوجه غربا وقطع الصلة كليا بحقائق الجغرافيا والتاريخ. ولكن كل هذا الزخم الذي كسبته الحركات المؤيدة لروسيا تراجع في السنوات الماضية، ولاسيما بعد معاينة حجم الفارق بين أولئك الذين يخضعون للحكم الروسي في القرم، أو لحكم الانفصاليين في الدونباس، وبين من بقي تحت السيادة الأوكرانية، في الحريات وفي النمو الاقتصادي والخدمات الاجتماعية وغيرها. أزالت المعايشة سحر روسيا، سحر الأخ الأكبر.

الغزو الروسي أدى إلى زيادة مستوى الشعور القومي. يظهر هذا في الدعوات للتخلي عن اللغة الروسية والاتجاه نحو اللغة الأوكرانية في العائلات ثنائية اللغة، وفي المناطق التي يتكلم فيها الناس اللغة الروسية لغة أم. لقد شرع الناس الذين يتكلمون اللغة الروسية بالتحول نحو اللغة الأوكرانية في رد فعل يهدف إلى إيجاد مسافة لغوية وفكرية عن لغة العدو الروسي. هذا التحول إلى اللغة الأوكرانية التي تفتقر إلى تراث فكري وأدبي يماثل في عراقته التراث المكتوب باللغة الروسية، هو جزء من هذه الرحلة نحو هوية أوكرانية متمايزة عن الهوية الروسية. هذا يعني في المستقبل خسارة كبيرة للغة الروسية وانكماش رقعتها الجغرافية في مناطق كانت تعد ضمن الحيز الجغرافي لها.

وإضافة إلى الذاكرة الجمعية الأوكرانية حول المجاعة (الهولودومور) في الثلاثينيات من القرن المنصرم، والتي أدت إلى موت الملايين من الأوكرانيين، فإن استمرار المجازر التي ترتكبها القوات الروسية، واستهداف المدن، وتدمير البنى التحتية، والتشريد والتهجير، يشكل حلقة أخرى في السردية الأوكرانية نحو تشكيل هوية أوكرانية متمايزة.

في هذا السياق الهوياتي الصاعد، تتكاثر الفوارق على مستوى الرموز التي تحتل الفضاء العام. تنتشر الآن الوشوم الوطنية: العلم الوطني بلونيه الأزرق والأصفر، الزي الرسمي للجيش الأوكراني، رموز المدن الأوكرانية ولا سيما تلك التي تواجه القوات الروسية. أما أولئك الذين كانوا يصرحون علانية بوقوفهم إلى جانب روسيا حتى قبيل الغزو الأخير فقد اختفوا من المشهد: أصبح تبني وجهة النظر الروسية خيانة.

الفضاء الأوسع الذي تتشكل فيه الهوية الأوكرانية يشكل قطيعة مع ما تمثله الرؤية الروسية في السلطوية والعزلة والارتداد نحو الماضي والعيش داخل أساطيره ورؤاه التي تتحكم بذهنية النخبة الروسية الحالية. بمعنى ما فإن الرؤية الروسية للصراع تبدو أسيرة ماض لا يريد الموت، في حين تسعى الهوية الأوكرانية لوضع نفسها في سياق عالمي يسعى نحو احترام المؤسسات المنتخبة، واحترام حقوق الإنسان، والتداول السلمي للسلطة، ويتطلع نحو المستقبل.

على الأرجح، لن يجد أبناؤنا التباسا في هوية أمهات أصدقائهم الأوكرانيات على نحو يماثل الالتباس الذي كنا نعبر عنه بقولنا: لا فرق بين الروس والأوكرانيين. هل ثمة حدث يستطيع أن يمنح هوية معينة لمجموعة ما أكثر من الحرب؟

تلفزيون سوريا

——————-

محاذير “إذلال” روسيا/ سميح صعب

الصراع يدور في الغرب حالياً بين مدرستين: الأولى تدعو إلى عدم الذهاب في المواجهة الدائرة في أوكرانيا إلى الحد الذي تشعر به روسيا بالإذلال، والثانية تدعو إلى انتهاز الفرصة المتاحة الآن، لإلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، بحيث لا تعود قادرة في المستقبل المنظور على شن حروب على جيرانها.

المنادون بعدم إذلال روسيا، وبينهم سياسيون حاليون وسابقون وأكاديميون، يرون أن تدمير روسيا سيولد روح الانتقام عند الروس، فضلاً عن أن الرئيس فلاديمير بوتين قد يقدم على استخدام السلاح النووي إذا ما رأى أن الهزيمة المدوّية تلوح في الأفق، كما أنه لن يسمح للغرب بتحويل أوكرانيا إلى أفغانستان أخرى، في وقت يجتهد الروس لنسيان التجربة الكارثية في أفغانستان، وكيف قادت إلى تفكك الاتحاد السوفياتي في نهاية المطاف، وتتويج أميركا على زعامة العالم. ومن أبرز دعاة تيار مهادنة روسيا وتحبيذ دخول أوكرانيا في مفاوضات مع موسكو، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير الخارجية الأميركي سابقاً هنري كيسنجر، فضلاً عن معلقين بارزين في وسائل الإعلام الغربية.

أما دعاة إنزال الهزيمة الاستراتيجية بروسيا فيرون أن الفرصة مواتية بعد التورط الروسي في أوكرانيا لتحقيق هذه الغاية. ومنهم من يذهب إلى حدود المطالبة بالدفع في اتجاه إسقاط بوتين نفسه أو حتى جعل روسيا تلاقي مصير الاتحاد السوفياتي، بحيث يجري تقسيمها على أساس عرقي. ويدعو هؤلاء إلى تكثيف عملية تسليح أوكرانيا بأسلحة هجومية نوعية قادرة على ضرب العمق الروسي وتسريع عملية انضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.

وإذا كان أصحاب المدرسة الأولى ينطلقون من فكرة أنه لا يزال في الإمكان استيعاب روسيا في أوروبا، إن هي انسحبت من أوكرانيا، فإن أصحاب المدرسة الثانية لا يتصورون أن روسيا يمكن أن تكون جزءاً من النظام العالمي، وأنه يجب تحويلها إلى دولة منبوذة تشبه كوريا الشمالية.

لا ريب في أن الحرب الروسية – الأوكرانية بقدر ما كشفت عن الارتياب الروسي بالغرب، أثبتت أيضاً أن الكثيرين في الغرب لا يريدون لروسيا أن تعود دولة قوية مرة أخرى، وأن شرط قبولها في النظام الغربي، هو أن تكون دولة مطيعة على غرار أي دولة من دول أوروبا الشرقية في ما بعد انتهاء الحقبة السوفياتية. إن أقصى ما يمكن القبول به غربياً أن تكون روسيا دولة يقودها رئيس على غرار بوريس يلتسين، وليس فلاديمير بوتين.

الغرب لن يقبل بدولة روسية شديدة الوعي بمصالحها في محيطها الجغرافي أو على النطاق الأبعد. وعندما بدأت أميركا ضم دول أوروبا الشرقية إلى حلف شمال الأطلسي، كانت ترى أن لحظة الصدام مع روسيا آتية لا محالة، ولذلك وجب تطويقها بالحلف. وفي المقابل، كانت روسيا التي خسرت مكانتها الدولية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، تنظر دائماً بعين الشك إلى توسع الأطلسي، وترى أن المواجهة مع الغرب لم تنته يوم سقط جدار برلين وانهار الاتحاد وربحت أميركا الحرب الباردة.

كان الروس يتوجسون من أن المواجهة لم تنته بعد، وأن سقوط الاتحاد السوفياتي يبقى نصراً منقوصاً في نظر الغرب إن لم يستكمل بإضعاف روسيا نفسها أيضاً.

تكشف الحرب الروسية – الأوكرانية، أن الأعوام الثلاثين الماضية، لم تكن إلا عبارة عن هدنة بين الغرب وروسيا، وأن الصراع يتجدد اليوم دفعة واحدة، عسكرياً واقتصادياً وثقافياً.

ولهذا لا تلوح في الأفق أي مبادرات لحوار أو تسوية سياسية توقف دويّ المدافع التي يتردد صداها في أنحاء العالم، منذرة بحرب أوسع لا تبقي ولا تذر، حرب قد تضع حداً للحضارة البشرية قاطبة.

لذلك، يبدو أن صوت دعاة الاستمرار في الحرب حتى “إذلال” روسيا، لا يزال مسموعاً أكثر.

النهار العربي

————————-

سوريا التي وقعت وتتكاثر سكاكينها/ موفق نيربية

هذا مثل» قومي عربي» ضارب في أرض العروبة من أدناها إلى أقصاها، مع أنه يتلوّن قليلاً بين بلدٍ وآخر وبيئة وأخرى. هو في البوادي المشرقية» الجمل إذا طاح» أو» اليَمَل» أحياناً؛ والبقرة في الحواضر والأرياف، وقد تغدو ثوراً أيضاً. كلّها تتحدّث عن» عزيز قومٍ ذَلّ»، وعن نذالة فطرية تحثّ القوم على شحذ سكاكينهم حين يقع ويتعثّر أحدهم، لينهشوا في لحمه.

سوريا لم تكن» عزيزَ قومٍ» في عام 2011، بل كانت تتعثّر باستمرار منذ حكمها حزب البعث عام 1963، واستبدّ بها آل الأسد منذ 1970. وبمستوى ذلك التعثّر السابق، كانت الناس تنهش في لحم البلاد ودهنها. لكنّ مستوى ذلك النهش وحجم وصوت السكاكين وهي تُشحذ وتُجهز عليها ازداد بشكل لوغاريتمي منذ عام 2011، عام الثورة السورية، حين استفحل الأمر وأصبح استمراره مستحيلاً، مهما كانت العواقب.

بالطبع لا يُمكن إعذار أهل السكاكين، مهما رأى البعض أنهم معذورون في كون من سبقهم برمي الجمل أرضاً وتعثيره هو المؤتمن عليه رسمياً. حسب الشرائع الدولية أو القانون الدولي: هو من يمسك بالبقرة ويحلبها، ثمّ يقوم بكلّ ما من شأنه إيقاعها أرضاً، منفتحة على سكاكين الأرض. يصف صندوق السلام الدولة الفاشلة بأنها الدولة التي تصل إلى الخصائص التالية: فقدان السيطرة على أراضيها، أو احتكارها الاستخدام المشروع للعنف، إضافةَ إلى تآكل القدرة الشرعية في اتخاذ القرارات العامة، كذلك العجز عن تقديم الخدمات العامة، ويعتمد تصنيف الدول الفاشلة أو الهشة على درجة» التماسك» التي يُعبّر عنها بحالة الأمن والنخب المختلفة وحجم تذمّر الجماعات البشرية؛ وعلى الحالة الاقتصادية من تدهور وتطور غير متكافئ ونزوح بشري أو نزيف الكفاءات؛ وعلى الحالة السياسية من حيث درجة شرعية الحكم والخدمات العامة وأوضاع حقوق الإنسان وسيادة القانون؛ وعلى الحالة الاجتماعية من حيث الضغوط الديموغرافية وحجم لجوء ونزوح السكان، وأخيراً مقدار الدور والتدخّل الخارجي في الدولة المعنيّة.

في مؤشّر 2021 لهشاشة دول العالم، حلّت سوريا في المركز الثالث اعتباراً من آخر قائمة من 179 دولة. كان قبلها اليمن والصومال، وبعدها جنوب السودان فالكونغو الديمقراطية وأفريقيا الوسطى وتشاد.

ربّما يبرّر هذا أو يفسّر ما فعلته قوى عديدة حين نفضت يدها من هذه البلاد، لكنه لا يكفي لمنع تأثيرات الحالة السورية في الأمن الإقليمي والدولي، مع كلّ الإعراض الذي نراه عن سلوك درب المتطلبّات المتوازنة والاستراتيجية، من أطراف ترتبط مباشرة بالحالة تلك وما وصلت إليه. بعض تلك القوى ينطلق غالباً من اعتبارات انتخابية محضة، وبعضها من أخرى «جيوستراتيجية» ترى في سوريا والشرق الأوسط كله ورقة فات زمانها، وانزاحت أهميتها إلى أماكن أخرى من «المعمورة». آخرون ربّما من الاعتبارين معاً، أو من مسائل عابرة. كلّ الخبرة الدوليّة تركّز على مقولة مشتركة، إنّ السياسة الخارجية في ذيل اهتمام الناخبين، وأمور المعيشة والاقتصاد في مقدمّته، وبين الحدّين هناك الأمان وراحة البال. ولكنّ هذا ليس مطلقاً، فقد حدثت شروط مختلفة في التاريخ المعاصر، أيامَ حرب فيتنام ثمّ حرب العراق، على سبيل المثال. يتعلّق الأمر بدرجة التفاعل الاجتماعي مع الحدث عينه، لكنّ تلك النظرة تتحرّك مؤخّراً، ليس لاهتمام مباشر بالسياسة الخارجية، بل لتأثير ذلك في السياسات الداخلية. لمسائل الهجرة وموجات اللاجئين أثر في ذلك التحوّل، وللوباء- أو الأوبئة- وقضايا البيئة التي أخذت تزداد فعلاً وأثراً.

حرب روسيا على أوكرانيا، في قلب أوروبا، تؤثّر مباشرة في التوقّعات والسياسات الانتخابية، من خلال عامل الاستقرار والأمن والخوف، وكذلك من الانعكاسات الدرامية وغير المحسوبة بدقة على استراتيجيا الطاقة، وعلى الاقتصاد عموماً. بالطبع أيضاً على حركة اللجوء المليونية الجديدة والطارئة، التي كانت رادارات الغرب تراقبها من الشرق فجاءت من» الغرب»، إلى الغرب.

بغضّ النظر مؤقّتاً عن انعكاسات الحرب في أوروبا على هشاشة سوريا وآفاقها، هنالك انعكاسات – كما يبدو- للانتخابات القريبة جغرافياً، وعليها أيضاً؛ ومن ذلك الانتخابات اللبنانية مؤخّراً، لكنّ الانتخابات التركية في العام المقبل تبدو منذ الآن ذات مفاعيل جذرية إلى هذا الحدّ أو ذاك، لا نستطيع إهمال دور العامل الانتخابي ذاك، في التصعيد التركي الجديد المهدّد باجتياح أجزاء جديدة من «المنطقة الآمنة» على الحدود بعمق 30 كيلومترا، ما يقارب ثلاثة أضعاف مساحة لبنان. بلغة مختلفة، يجري الحديث عن إبعاد قوات سوريا الديمقراطية تلك المسافة، وإسكان أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في ذلك الشريط، في تكرارٍ حديث للحركات الديموغرافية في تركيا وحولها، منذ قرن مضى، وقتذاك في أجواء الخروج من «سفر برلك» ونتائجها السلبية، والدخول في الحرب الوطنية بقيادة أتاتورك، التي أوقفت تمدّد مفاعيل التفتيت نحو ما أصبح تركيا المعاصرة.

في العقود الأخيرة، استحوذت المسألة الكردية على الكرد الأتراك والأتراك، وهاجرت قيادات «حزب العمال الكردستاني» مع نواة قواته الصلبة إلى جبال قنديل شمال شرق العراق، وأصبحت مواجهته هناك أصعب لأسباب متنوعة. ولكن، بغضّ النظر عن مجريات الأمور في العراق، تتقدّم المسألة السورية اهتمامات السياسة الخارجية والأمنية منذ فترة، من خلال مسألتي اللاجئين والكرد معاً، عن طريق التدخّل العسكري من جديد في أجواء انشغال العالم بما يجري في أوكرانيا، لإقامة المنطقة الآمنة المفترضة التي تتعامل مع المسألتين بضربة واحدة. أفزع ذلك كلّ السوريين، خصوصاً كردهم ونازحيهم في شمال سوريا، الشرقي والغربي. لا يريد المهجّرون من قبل النظام من مناطق شتّى في البلاد، كان تجمعها تسمية» مناطق خفض التصعيد»، وهم أكثر من مليوني نازح، أن يتمّ «توطينهم» في مُجمّعات سكنية قبيحة تقيمها الحكومة التركية. يعني لهم ذلك مباشرة انتهاءَ حلمهم بالعودة إلى مساكنهم الأصلية، بل يرون في ذلك ما يشبه النكبة، وابتدأوا حراكاً شعبياً مستنكراً ومضاداً لها. كما- بالطبع- لا يريدها الكرد، الذين تعني لهم إحياءً وتجديداً وتوسيعاً لفكرة «الحزام العربي» التي استنّها حزب البعث منذ عقود لإبعاد الكرد عن الحدود وفرط تجمعاتهم. وهي، بتصميمها المعمّم والمعلن تكاد تنهي، لو تمّ تنفيذها مستقبلهم الذي يريدونه أكثر ضماناتٍ وأقلّ هواجسَ.

إضافة إلى وعد الناخبين الأتراك بحلّ جزء رئيس من مشكلة اللاجئين التي ظهر القلق بسببها، خاصة بعد تزايد استخدامها من قبل المعارضة هناك.. فإن الحكومة التركية تعلن استهداف حزب العمال الكردستاني- المصنّف إرهابياً- في شمال شرق سوريا وفي منبج وتل رفعت. توجد على الأرض في تلك المناطق قوات سوريا الديمقراطية، التي ترى فيها تركيا جسماً مقنّعاً يخفي وراءه حزب العمال وقواه الإرهابية. كذلك يوجد التحالف الدولي ضد الإرهاب، الذي هزم إلى حد كبير قوى «داعش» – بالتعاون مع قسد- ولم يُجهز عليها؛ وقوات روسية. لم تلغِ قسد وجود النظام السوري إدارياً هناك، وإلى حدٍّ أقلّ أمنياً، وأقلّ منه عسكرياً. وهي بذلك تحاشت حروب احتلال المدن جزئياً ومنعت انهيار مؤسسات الدولة وخدماتها الرسمية، ليس بشكل ناجز وكامل.

يشكّل حزب الاتّحاد الديمقراطي النواة الصلبة سياسياً وعسكرياً لمسد وقسد، وهو بالفعل حزب نشأ على أفكار وأيديولوجيا عبدالله أوجلان مع تحديثاته وتكييفاته الخاصة، لكنّه يبتعد بالتدريج عن الصلة المباشرة بكلّ الأشكال عن حزب العمال المذكور، وما زال أمامه طريق محتّم في ذلك الاتّجاه. تؤكّد بعض الدراسات الواقعية ذلك – ما صدر عن مركز جسور في إسطنبول مثلاً- لكنّ الجماعات الأقرب إلى الصلة العضوية بجبال قنديل على الأرض تجهد للتشويش على كلّ ما يبعد مسد عن النظام السوري، وعن كلّ ما يشغلها عن بقاء أعينها وأسلحتها على حذر ومواجهة مع الأتراك، وكذلك لتعطيل أيّ محاولة للحوار الكردي- الكردي، كما حدث مؤخراً بإحراق مجموعات شبه عسكرية لمقرات المجلس الوطني الكردي. ذلك يعني توافق سياسات قنديل وأنقرة بشكل غير مباشر، وخدمة كلّ طرف لاستراتيجية الطرف الآخر، رغم العداء العضوي العميق بالأساس.

هنالك أجواء تنذر بالمزيد من التفتّت والبعد عن حلّ القضية السورية سياسياً حسب قرار مجلس الأمن رقم 2254. وهناك معارك انتخابية – بأسلحتها المستخدمة- تهدّد وجود سوريا ذاته. يلتقي ذلك مع النشاط الإيراني المحموم لملء الفراغ الروسي والتمدّد في كلّ الاتّجاهات… وهو يلتقي أيضاً – كذا- مع ما يريده ويعمل له نظام الأسد الذي أصبح مجمّعاً للعصابات لا يرتقي حتى إلى مستوى الجريمة المنظمة؟

.هي البقرة التي لم تكن» لا شِيةَ فيها»، حين عمل نظام الأسد على تأمين عثارها، فاجتمعت عليها الآن السكاكين!

كاتب سوريا

القدس العربي

——————————

لوموند: أهداف الحرب في أوكرانيا تحيي الانقسام بين شرق الاتحاد الأوروبي وغربه

قالت صحيفة “لوموند” الفرنسية، إنه بينما تدافع دول البلطيق وبولندا عن استمرار الحرب في أوكرانيا على أمل هزيمة روسيا، تريد فرنسا وألمانيا وإيطاليا مساعدة أوكرانيا والتفاوض مع روسيا على أمل وقف إطلاق النار.

وأوضحت الصحيفة أن السؤال التالي بعد آثار التوترات مع الولايات المتحدة، هو بصدد تقسيم أوروبا إلى قسمين: بالنسبة لحلفاء كييف، ما هي أهداف الحرب في أوكرانيا بمواجهة الغزو الروسي؟ ففي حين استمر الصراع لأكثر من 100 يوم، فإن الجملة القصيرة الأخيرة لإيمانويل ماكرون بشأن “عدم إذلال روسيا” في سياق مفاوضات ما تزال غير محتملة، قد وسّعت الفجوة بين المعسكرين الحاليين. من ناحية، فإن دول البلطيق وبولندا دون أن ننسى المملكة المتحدة، تؤيد استمرار الحرب. ومن ناحية أخرى، فإن فرنسا وألمانيا وإيطاليا، التي تتخذ خطاً أكثر اعتدالاً، حريصة على مساعدة أوكرانيا والتفاوض مع روسيا لتسهيل وقف إطلاق النار.

وتابعت “لوموند” التوضيح أنه بعد ثلاثة أشهر من الحرب، لم تعد عواصم البلطيق تتردد في تحديد خلافاتها مع أوروبا الغربية. ولسبب وجيه، يزرع إيمانويل ماكرون وأولاف شولتس وماريو دراغي نهجا متعارضا تماما، إذ يعتبرون أنه من الضروري الحفاظ على قناة اتصال مفتوحة مع الرئيس الروسي، من أجل تشجيعه على التفاوض على وقف إطلاق النار واتفاقية سلام، على أمل تحقيق استقرار دائم في أوكرانيا واستعادة الأمن الأوروبي الذي دمرته الحرب.

بالنسبة لهم، لا يمكن تصور هزيمة كاملة لأوكرانيا. والهزيمة الكاملة لروسيا دون تدخل غربي مباشر أمر غير مرجح، على الرغم من تسليم الأسلحة للأوكرانيين. لهذا السبب، وفقا لباريس وبرلين وروما، يجب أن الاستمرار في الحديث مع بوتين إذا كنا لا نريد للحرب أن تطول. وهو السيناريو الذي يعدّ مخاطرة بالقضاء على أوكرانيا. وهو تقييم يخالف تقييم مؤيدي الأسلوب القوي.

واعتبرت “ لوموند” أنه على عكس الولايات المتحدة، تعرف دول أوروبا الغربية أيضا أنه محكوم عليها بالتعايش مع الروس، لأسباب جغرافية على الأقل.

ومضت الصحيفة مذكّرة أنه منذ بداية الصراع، تمكنت الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من توحيد الصفوف من أجل معاقبة روسيا بوتين قدر الإمكان. وقد دعمت فرنسا وألمانيا وإيطاليا هذا المسعى من أجل زيادة تكلفة الحرب على موسكو، وتشجيعها عبثا في هذه المرحلة على وقف القتال. كما زادت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من شحنات الأسلحة إلى كييف، مع البقاء بعيدة خلف الولايات المتحدة في هذا المجال. وفعلت كل شيء لعزل روسيا على الساحة الدولية، وواجهت مثل واشنطن، عدم انحياز جزء كبير من الدول غير الغربية.

ورأت “لوموند” أن مخاطر تعثر الحرب بين عدوين لا يستطيعان فرض نفسها بشكل نهائي ولا خسارة كل شيء، تساهم الآن في توتر المناقشات. وتنقل الصحيفة عن دبلوماسي من بلد في جنوب أوروبا قوله: ”نشهد استيقاظ المحافظين الجدد الأوروبيين المرتبطين بنظرائهم الأمريكيين، مؤيدي مقاربة الحرب. أجندتهم أيضا إبقاء أوروبا تحت الحماية الأمريكية، في وقت تسعى فيه إلى تعاون أفضل في مجال الدفاع من أجل الاعتماد بشكل أقل على الولايات المتحدة وعودة دونالد ترامب”، في إشارة إلى الرئيس الجمهوري الأمريكي السابق، الذي اعتبر أن الناتو “عفا عليه الزمن”.

وحذر دبلوماسي غربي من أن “الأوروبيين الشرقيين الذين عانوا من هيمنة موسكو هم أكثر هجوما في خطاباتهم، لكن هناك نوع من السخرية في وضع المسؤولية على عاتق الأوكرانيين وحدهم. ليس رعايا هذه الدول هم الذين يقاتلون ضد الجيش الروسي على الأرض ويموتون بالآلاف. ومع ذلك، فإن هذه الاختلافات في الخطاب لا تسمح للاتحاد الأوروبي بالتصرف على هذا النحو”.

وهي ملاحظة للعجز النسبي تشاركها السلطات الأوكرانية، التي تعطي أحيانا شعورا بالتعب من الانقسام الذي ظهر في أوروبا بشأن الأهداف ضد روسيا. يلاحظ مسؤول أوكراني أن غموض المستشار الألماني شولتس والرئيس الفرنسي ماكرون ليس جيدا لأنه يغذي شهية الروس.

القدس العربي

—————————-

إشكالية الأغلبية في سوريا/ عمار ديوب

أصبحت سوريا دولة وشعباً مؤقلمة ومدولة؛ أصبحت سوريات وشعوب.

المحيط الإقليمي والدول العظمى يفرضان سياساتهم وتدخلاتهم في الشؤون السورية، وبما لا يحقق مصلحة السوريين، وإنهاء مأساتهم بحلٍّ سياسيٍّ؛ يجد تسوية لكافة مشكلاتهم.

لم يستطع النظام تشكيل أغلبية في مناطق سيطرته، ويحكمها بالحديد والنار؛ وكذلك بقية مناطق سيطرة قوى الأمر الواقع.

تستغل الدول المتدخلة ذلك للإمعان في عدم تشكل أيّة أغلبية سوريا، تعطي السوريين القدرة على المناورة والرفض وتشكيل مشروعٍ وطني، يؤسس لسوريا واحدة ولشعبٍ واحد، متعدد القوميات بالضرورة.

سهولة أن تسيطر تركيا على فصائل مسلحة، وكتل شعبية، أو إيران أو روسيا أو أمريكا تتأتى من رفض النظام لتشكيل تلك الأغلبية، وهي لا تنحو نحو هوية وطنية دون أن تنال حقوقها، وكذلك الأمر في بقية مناطق قسد والفصائل وهيئة تحرير الشام.

الآن تركيا تعدّ العدّة لعملية عسكرية جديدة وبدأت بمناوشات هنا وهناك، وتعلن أنها ستغزو تل رفعت ومنبج، وتقف الفصائل معها، وكذلك الائتلاف الوطني، وهناك كتل اجتماعية خارجة عن سيطرة النظام تؤيد العملية، وبالطبع هناك كتلة أخرى ترفض العملية.

ماذا ستفعل قسد ومسد إزاء ذلك، ستستعين بالتأكيد بأمريكا وروسيا وبالنظام حتى، وهذا سياق طبيعي في ظل غياب تلك الأغلبية، واصطفاف قطاعات شعبية مع العملية أو ضدها، ولكن ليس على أسس “وطنية”.

مشكلة قسد الآن ليس في دعم الإدارة الأمريكية لها، بل في غياب التأييد الشعبي الواسع في مناطق سيطرتها، والأمر عينه في مناطق سيطرة الفصائل، التي لا تتوقف عن الصراع فيما بينها، ويتضرّر الشعب في مناطق سيطرتها، وهذا يؤدي إلى انفكاك قطاعات شعبية عنها وعن السيطرة التركية، باعتبار الأخيرة، هي المسيطرة الفعلية هناك، وسياساتها هناك تساهم في غياب تشكيل إدارة “ذاتية” موحدة لتلك المناطق، وتوحيد للفصائل.

التوجه الوطني سيعني بالضرورة قوة حقيقية للفصائل، وهو ما ترفضه تركيا، وتريدها فصائل تحت الطلب، و بها تشن الغزوات ضد الداخل السوري، ولا سيما مناطق سيطرة قسد.

إذا كانت الفصائل تتصارع فيما بينها، ولا تملك أصلاً مشروعاً وطنياً للنهوض بمناطق سيطرتها، وتنتظر الأوامر التركية، ومثلها الائتلاف وكافة مؤسساته، فكذلك قسد ومسد؛ فهما لا تستوعبان الخلاف مع أحزاب المجلس الوطني الكردي، وبالتالي، كيف ستمثلان مصالح الشعب بتنوعاته القومية في مناطق الإدارة الذاتية إذاً.

إن مصلحة السوريين تكمن في مشروعٍ وطني يمثل سوريا بأكملها؛ الإدارة هناك تتلاقى مع الفصائل في عدم البحث في المشتركات، والأمر عينه لدى الائتلاف الوطني، والأخير بكافة مؤسساته، يُكفر قسد ومسد، وهو بالأصل لا يمثل المناطق التي تسيطر عليها الفصائل.

تُركت هيئة تحرير الشام لتسيطر على الفصائل في منطقتها، وهي تسيطر هناك بمعرفة كل من تركيا وروسيا ولم تسع الإدارة الأمريكية إلى محاربتها كما داعش! وهي أيضاً لا تحوز على أية أغلبية في إدلب ومناطق سيطرتها.

النظام بدوره، لا يبحث عن تلك الأغلبية، التي يقمعها ويجوعها، ويتحالف مع روسيا وإيران لنهبها.

إن اللحظة الوحيدة التي كادت أن تتشكل فيها أغلبية سورية هي لحظة الثورة في 2011، بعدها، ومع سيطرة قوى الأمر الواقع، وانقساماتها لم يعد الأمر ممكناً، ومنذ ذلك الحين بدأت الدول الإقليمية والعظمى تسيطر على الداخل السوري وتحارب أية مشاريع وطنية شعبية، ساعية نحو تشكيل تلك الأغلبية السياسية الوطنية.

لا إمكانية لتشكيل أغلبية وطنية بمشاريعٍ إسلاميّةٍ أو قومية أو أهلية أو طائفية وسواها.

الخارج لا يريد ذلك، فهذا سيشكل كتلة وازنة، استقلالية، وقوى الأمر الواقع تشكلت على أرضية رفض تلك الأغلبية، ولنقل لم تتمكن حواراتها النادرة مع بعضها، من إيجاد أية مشتركات وخلق تلك أغلبية، وبذلك أصبحت رهينة هذه الدولة أو تلك.

 وقبل ذلك، وقعت مناطق واسعة “محررة” تحت سيطرة القوى السلفية والجهادية، حيث طرحت الأخيرة نفسها ممثلة للسنة، وللثورة، وتلاقت مع النظام في تفكيك الأغلبية  الثورية في 2011، واستند النظام إلى محاربة الأخيرة بأيديولوجيات، وأفكار وسياسات تخوينية، كالطائفية، والتبعية للخارج، واجتثاث الأقليات ولا سيما العلويين، وهذا بدوره عزّز أشكال من الوعي غير الوطني، والمستعد للتبعية للخارج، وسهل سيطرة القوى الطائفية على الأغلبية الثورية، وهذا بدوره ما تعزز مع الوقت، وصارت سوريا، كما قلنا سوريات وشعوب.

رغم هذا الميل، هناك تضرّر واسع من السوريين تحت ظل قوى الأمر الواقع، ومن الدول الداعمة لها، وهذا سيقود منطقياً إلى التفكير وطنياً برفض ذلك الواقع والبحث عن مشتركات وطنية.

هذه الفكرة في صلب الوعي السوري، وفي كافة المناطق، وهي أحد أشكال وعي “الشعوب” السورية.

إن عدم تراكم هذا الوعي يتعلق بقمعية تلك القوى، والتأزم المستمر بين مناطق قوى الأمر الواقع، وبسبب الحروب التي لا تتوقف، وبالتالي هناك ضرر واسع يقع على شعوب المناطق المقسمة، ويدفعها نحو تفكيرٍ وطنيٍّ وضرورة الخلاص من الأزمات و الاحتلالات.

يريد صاحب المقال هنا التنبيه إلى وجود أغلبية سورية فعلية، وليست من بنات خياله.

نعم، هناك متضررون كثر من ممارسات قوى الأمر الواقع، وهي قوى متهمة بالتقسيمية والتبعية، وممارساتها مليئة بالفساد والنهب وإذلال الناس، وإذا كانت الأغلبية السورية لا تدافع عن هذه الفكرة نظراً لما أوردناه من أسباب، فإنها أيضاً تجد نفسها متضررة من استمرار تلك القوى ومن التداخلات الخارجية، وهذا استعصاء حقيقي.

لا يمكن أن تتشكل أغلبية سورية على أسس قومية أو دينية. يمكن أن تتشكل فقط على أسس وطنية، وبلحظة الثورة كان الميل الشعبي نحو ذلك.

لحظة الثورة ليست لحظة هامشية، أو أن التطورات اللاحقة اجتثتها كلية.

إن ممارسات قوى الأمر الواقع، وبعكس ما قد يتوهم كثيرون أنها فرضت رؤيتها وسياساتها، وهي فعلت ذلك نسبياً، وفي بعض المراحل من سيطرتها ولا شك، ولكنها ومع تحولها إلى سلطات قمعية، وتابعة، وناهبة، وتماثل ممارساتها ممارسات النظام فإن الأغلبية التي أدافع عنها، أرى أنها في وجدان ووعي السوريين في مناطقهم المقسمة، وذاكرتهم عن 2011 سبباً إضافياً لوجودها.

المشكلة تكمن في رفض هذه الفكرة من قوى الأمر الواقع والدول الداعمة لها، وبالتأكيد يتحمل النظام المسؤولية الأولى عن استمرار هذا “المقسمات” وعن غياب أغلبية سورية.

لا إمكانية لإيقاف تركيا عن محاولة فرض هيمنتها على المناطق الحدودية وتشكيل منطقة آمنة دون تشكل تلك الأغلبية، وهناك أربع غزوات قامت بها تركيا، وحققت لنفسها أهدافاً منها، والأمر عينه بالنسبة للأكراد، فلا يمكنهم مواجهة تركيا عبر الدعم الأمريكي فقط، وقد رأينا كيف أعطى الأخير تركيا عفرين وسواها.

 وأيضاً لا يمكن للنظام أن يحوز على أية كتلة حقيقية ودعم فعلي من الشعب دون الاعتراف للشعب بحقوقه، ودون التخلص من عقليته التكفيرية للشعب وإعطائه حقوقه.

 هيئة تحرير الشام وأية فصائل إسلامية مرفوضة بالكامل، وممارساتها السلفية والجهادية لا تجعلها تسيطر على “السنة”، هذه بدورها محض أوهام.

بإمكانها السيطرة على بعض القطاعات الشعبية، ولكنها مرفوضة من أغلبية من تسيطر عليهم تلك الفصائل.

ننهي بالقول، هناك قطاعات شعبية متضررة من قوى الأمر الواقع، ودون أن تغير الأخيرة من ممارساتها القمعية والنهبية للشعب، ستظل القوى هذه رهينة الدول الداعمة لها، وستجد نفسها لاحقاً على مذبح أية تسوية قد تتوصل إليها الدول المتدخلة في الشأن السوري؛ الآن ستظل قوى الأمر الواقع رهينة سياسات الدول المتدخلة، وتركيا قد تتمكن من السيطرة على تل رفعت ومنبج وربما لاحقاً عين عرب أيضاً، وهذا لن يكون خارج التوافق مع الإدارة الأمريكية والروسية!.

———————-

تركيا والسير وسط حقل ألغام/ علي العبدالله

أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تنفيذ عمليةٍ عسكريةٍ في سورية لاجتثاث ما أسماه الإرهاب، ما أثار طائفة متنوّعة من ردود الأفعال المحلية والإقليمية والدولية، تجسّدت بمواقف سياسية وتحرّكات ميدانية واسعة، على خلفية تأثير العملية العسكرية المزمعة بالتوازن القائم على الأرض السورية، وانعكاس ذلك على مصالح الدول المنخرطة في الصراع في سورية وعليها، وبالتوازن الجيوسياسي العام.

جاء الإعلان التركي مترافقاً مع حملة إعلامية وسياسية على منظّمات كردية، حزب العمال الكردستاني (التركي)، المصنف منظمة إرهابية في تركيا ودول غربية، بما فيها الولايات المتحدة، وربيبه حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي السوري) وجناحه العسكري، وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، باعتبارها تهديداً للأمن القومي التركي؛ ومع تحرّك عسكري متصاعد، قصف مدفعي وصاروخي وغارات بالمسيَّرات، على طول خطوط التماسّ مع “قسد”، شمال شرق وشمال غرب نهر الفرات، وقد ربط الإعلان العملية العسكرية بإقامة منطقة آمنة على طول الحدود السورية التركية بعرض 30 كيلومتراً، وبعدم تنفيذ الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية بنود اتفاقيتي عام 2019 معهما، القاضيتين بإبعاد هذه القوات عن الحدود المسافة المتفق عليها، 30 كيلومتراً، واستغلال “قسد” الموقف لتنفيذ اعتداءات على الأراضي التركية واستهداف المدنيين، وبإعادة مليون لاجئ إليها، عودة طوعية، وفق النظام التركي، بحيث تضمن سلامة المنطقة الحدودية والأمن القومي التركي.

لا يعكس الإعلان تغيّراً في الموقف التركي، فالدعوة إلى إقامة منطقةٍ آمنةٍ على طول الحدود السورية التركية أطلقت، منذ عام 2013، باعتبارها أولويةً تركية، في ضوء ما تعتبره خطراً وجودياً تمثله وحدات حماية الشعب، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي السوري)، ورفضها اعتبار إعادة تحويل وحدات حماية الشعب، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي، إلى قوات سوريا الديمقراطية، حلاً مناسباً، لأن الأخيرة خاضعةٌ لسيطرة وحدات حماية الشعب، وحزب العمال الكردستاني بالتالي. ولمّا لم تنجح في تحقيق اختراقاتٍ في مواقف الدول المنخرطة في الصراع على سورية من طلبها، اندفعت نحو الدخول في مساوماتٍ ومقايضاتٍ مع القوتين المهيمنتين في الشمال السوري، الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، في إطار تبادل المصالح، وحصلت على موافقاتٍ على تنفيذ عمليات عسكرية “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”، احتلت عبرها مساحات واسعة هناك، حوالى 10% من الأرض السورية. ولكن من دون أن تعتبر ما تحقق كافياً لأمنها، في ضوء الدعم العسكري والمالي الأميركي الكبير والمتواتر لـ”قسد”، وهيمنة حزب العمال الكردستاني التركي على مفاصل القرارين، السياسي والعسكري، في “الإدارة الذاتية” الكردية شرق الفرات.

دفع الإعلان التركي الدول والقوى السياسية والعسكرية المحلية إلى التعبير عن مواقفها من العملية العسكرية المزمعة، وإلى القيام بخطوات ميدانية على الأرض، من استنفار قواتها، إلى نقل قوات وأسلحة وذخائر إلى نقاط التماسّ والمواقع التي يتوقع أن تكون هدفاً للهجوم الموعود، وتعزيزات تركية لمواقعها على خطوط التماسّ، واستنفار قوات الجيش الوطني السوري، الموالي لتركيا، وإجرائه مناوراتٍ بالذخيرة الحية استعداداً للمشاركة في العملية العسكرية، واستنفار “قسد” على خطوط التماس، واستقدام قوات النظام تعزيزات إلى منطقة عين عيسى شرق الفرات، وتل رفعت ومنبج غرب الفرات، وتحريك مليشيات إيرانية نحو مواقع متقدّمة على خطوط التماسّ في ريف حلب الشمالي الغربي، إرسال عتاد أميركي من كردستان العراق إلى القواعد الأميركية شرق الفرات، وإرسال تعزيزاتٍ عسكرية روسية إلى شرق الفرات (مطار القامشلي بشكل رئيس)، وقاذفات قنابل ومروحيات قتالية وصواريخ مضادّة للطائرات متوسطة المدى من طراز بانتسير- إس1، مع تسيير دوريات برّية وأخرى جوية على طول الحدود السورية التركية، تعبيراً عن مواقفها من العملية العسكرية، وتحسباً لانعكاساتها المحتملة على مصالحها في سورية والإقليم.

جاء الإعلان التركي في لحظةٍ سياسيةٍ حبلى بالفرص والمخاطر، حيث أتاح لها موقعها الجيوسياسي وعضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وعلاقتها القوية بروسيا وأوكرانيا التحرّك لالتقاط الفرصة التي فتحها الغزو الروسي لأوكرانيا وحاجة دول الحلف لمشاركة تركية أكبر في محاصرة روسيا وتطويقها، من جهة، وحاجة روسيا إليها لإضعاف العقوبات الغربية عليها عبر إبقاء أبوابها مفتوحة لها، اقتصادياً، وتوظيف العلاقة معها في الاتصالات الدبلوماسية مع أوكرانيا، من جهة ثانية، والمناورة بأوراقها لتحقيق مكاسب في أكثر من ملفّ، بدءاً من قبول طلبها شراء 40 طائرة أميركية من طراز إف 16، وتحديث ما تملكه منها من الأجيال القديمة، والسعي للعودة إلى المشاركة في إنتاج طائرة إف 35 وإتمام صفقة المائة طائرة التي طلبتها منها، ودفعت جزءاً من ثمنها، 1.5 مليار دولار، ومحاصرة حزب العمال الكردستاني وجماعة الخدمة، التي يتزّعمها فتح الله غولن، بالضغط على دول في الحلف، لوقف التعاطف والتعاون معهما، عبر ربط سحب اعتراضها على انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف بتحقيق هذه المطالب، والضغط على الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية لقبول فكرتها بإقامة منطقة آمنة على طول الحدود السورية التركية، عبر الحصول على ضوء أخضر لتنفيذ العملية العسكرية. غير أن الفرص المتاحة قابلتها مخاطر كثيرة، حيث استدعى التصعيد التركي ردود فعل الدول الأخرى التي عبّرت عن مواقفها مما يحصل، ومما قد يحصل، إذا نُفِّذ التهديد التركي، وتحرّكت لاحتواء التحرّك التركي السياسي والعسكري للحفاظ على التوازن القائم، والحدّ من فرص تركيا في فرض مطالبها وتكريس نفسها قوة دولية. من هنا جاء الاعتراض الأميركي المباشر والصريح على تنفيذ العملية العسكرية، عبر كلام صريح وعلني، وحشد قوات وتسيير دوريات على الحدود السورية التركية، والتعبير عن دعمها القوي لانضمام فنلندا والسويد إلى الحلف، مع التلويح بتقديم جائزة ترضية لتركيا بتمرير صفقة طائرات إف 16.

لم تكتفِ روسيا بالتحرّك الميداني لردع التحرّك التركي، على خلفية الحفاظ على التوازن القائم، خصوصاً أن أي تغيير في التوازن سيجيّر لمصلحة الولايات المتحدة، بل توسّعت في الإجراءات من أجل تجيير نتائج تحرّكها لمصلحة النظام السوري، عبر إشراكه في المساومات على مستقبل المنطقة، بدفعه إلى إرسال قواتٍ إلى نقاط التماسّ وتسيير دورية مشتركة مع قوات النظام و”قسد”، ودفع الأخيرة إلى التفاهم معه، ونشر موارد عسكرية روسية كبيرة، طائرات قاذفة ومروحيات قتالية ومسيّرات وأسلحة ثقيلة ومتوسطة، وتسيير دوريات برّية وجوّية على طول نقاط التماسّ، وإرسال وفد سياسي وعسكري إلى تركيا، سيصل اليوم (8 يونيو/ حزيران)، بمشاركة وزير الخارجية، سيرغي لافروف، للتفاهم على الموقف، والضغط على تركيا للتخلي عن العملية العسكرية، عبر مطالبتها بتنفيذ بنود اتفاق سوتشي القاضية بالفصل بين الفصائل المسلحة المعتدلة والمتشدّدة وفتح طريق إم 4 من دون استبعاد حصول مقايضة بين تل رفعت وجبل الزاوية. إيران هي الأخرى لم تقف مكتوفة الأيدي، حيث حشدت مليشياتها إلى جوار قوات النظام و”قسد” في شمال ريف حلب، قرب تل رفعت، و”قسد” بدورها حشدت قواتٍ وسرّعت عمليات تحصين المواقع عبر حفر أنفاق وإقامة سواتر ترابية. وهذا دفع النظام التركي إلى تحديد المساحة المستهدفة بالعملية في تل رفعت ومنبج الواقعتين غرب الفرات، واللتين تحسبان على مناطق النفوذ الروسي، في محاولة لإضعاف التحفظ الأميركي الذي لن يعترض على أي تحرّك ضد المصالح الروسية. غير أن فرص نجاح هذه المناورة غير واضحة، في ضوء التوجّه الروسي لتفنيد الدعاية الغربية حول انهيار القوات الروسية تحت وقع ضربات الجيش والمقاومة الأوكرانية، وإثبات عدم صحة ذلك، عبر لعب دور في الاشتباك بشأن العملية العسكرية التركية، واستغلال سخونة الموقف بتعزيز حضورها شرق الفرات لمنافسة الحضور الأميركي فيه، والبرهنة على قدرة قواتها من خلال الانخراط في أكثر من معركة في الوقت نفسه.

رجّح محللون ومعلقون سياسيون أن تكتفي تركيا بالضغط السياسي والقصف البري والجوي للدفع بمطالبها إلى الطاولة وتحقيق مكاسب معينة على طريق إقامة المنطقة الآمنة من دون اجتياح برّي. فيما رأى محللون ومعلقون آخرون أن تراجع فرص تحسّن الاقتصاد دفع النظام التركي إلى تحريك ورقة المنطقة الآمنة، لتحقيق مكسب “قومي” يسجّل لمصلحته، فيحسّن صورته ويزيد شعبية رئيسه، قبيل الانتخابات الرئاسية عام 2023، ما رجّح لديهم تنفيذ العملية العسكرية المزمعة.

أياً كان الرأي الراجح، فإن عملية عسكرية محدودة أو واسعة لن تغلق ملف القضية الكردية، لا في تركيا ولا في الدول الأخرى، بل سيُبقيها اعتماد الحل العسكري جرحاً نازفاً يستنزف جهود دول المنطقة وشعوبها وإمكاناتهما؛ يفقدها استقرارها وفرص ازدهارها، وإن الحل بالجلوس إلى طاولة التفاوض والتفاهم مع القادة الكرد على حل توافقي. وهذا يستدعي من هؤلاء إدراك مخاطر اللحظة السياسية ودقة خياراتهم وممارساتهم التي قادت إلى وقوعهم تحت ضغوط كبيرة من أكثر من طرف، وأن ينحازوا إلى خيارات واقعية، حتى لو كانت لا تلبّي كل تطلعاتهم المشروعة.

العربي الجديد

————————–

سورية في بازار الدول/ مروان قبلان

بعد اندلاع أزمتها مطلع عام 2011، لم يأخذ الأمر وقتا طويلا لتتحوّل سورية إلى “حالة لبنانية كبيرة”، تتم على أرضها تصفية حسابات أو عقد “صفقات” بين القوى الإقليمية والدولية ذات الشأن على حساب السوريين ومصالحهم. أول الصفقات الكبرى أبرمت في أثناء المفاوضات التي بدأت سرًا في سلطنة عُمان بين واشنطن وطهران في أواخر عهد “المتشدّد”، أحمدي نجاد، وأثمرت، في بداية عهد “المعتدل”، حسن روحاني، عن اتفاق جنيف المرحلي، وافقت إيران، بموجبه، على التنازل عن برنامجها النووي في مقابل توقف واشنطن عن محاولات تقويض مشروعها الإقليمي، في سورية تحديدًا. المرة الثانية التي ارتهنت سورية فيها لصراعٍ دوليٍّ كبير ارتبطت بأزمة القرم وحرب دونباس في أوكرانيا عام 2014، إذ أدّى رفض الرئيس الأميركي، باراك أوباما، التفاوض مع روسيا بشأن أوكرانيا إلى دفع هذه الأخيرة إلى تعطيل مفاوضات جنيف 2 بشأن التسوية السياسية في سورية، تطبيقا لقرار مجلس الأمن 2118 الذي جرى التوصل إليه بتوافق روسي – أميركي بعد اتفاق الكيماوي في سبتمبر/ أيلول 2013. في ربيع عام 2015، ومن أجل الحصول على دعمها الاتفاق النووي مع إيران، سمح أوباما لدول الخليج العربية برفع مستوى تسليح المعارضة السورية، لكنه تسامح، في المقابل، مع التدخل العسكري الروسي في سورية في خريف العام نفسه، لأن من شأن ذلك ضبط الاندفاع التركي نحو إنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري، ووضع حد للطموحات الانفصالية الكردية، ما يعقّد حرب أوباما التي بدأها على تنظيم الدولة الإسلامية في سبتمبر/ أيلول 2014.

في عام 2019 – 2020، ارتبط التنافس الروسي – التركي في الشمال السوري بالصراع في ليبيا، حتى صار مستقبل إدلب مرتبطا بنتائج المعارك حول طرابلس بين قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر وحلفائه من مرتزقة فاغنر الروس، من جهة، وقوات حكومة الوفاق التي تدعمها المسيرات التركية ومقاتلون سوريون جنّدتهم أنقرة للدفاع عن طرابلس، من جهة ثانية. في خريف العام 2020، ارتبط اسم سورية بقوة بحرب القوقاز بين أرمينيا وأذربيجان، والتي اتهم في أثنائها كل طرف الآخر بتوظيف “مرتزقة” سوريين للقتال معه، في وقت ازدادت المخاوف من حصول ارتدادات لهذه الحرب في شمال غرب سورية، في حال فشلت التفاهمات الروسية – التركية بشأن إقليم ناغورنو كاراباخ. ومع استئناف مفاوضات إحياء اتفاق 2015 النووي بين إيران وإدارة الرئيس بايدن في إبريل/ نيسان 2021، برزت سورية من جديد باعتبارها أكثر الساحات الإقليمية تأثرا بنتائج هذه المفاوضات، سواء ارتبط الأمر بمصير المواجهة الإسرائيلية الإيرانية في سورية أو بالوضع الاقتصادي – الاجتماعي للنظام الايراني، وانعكاسه على الحليف السوري. ومع اندلاع الحرب أخيرا في أوكرانيا، عادت سورية مادة لتسويات ومقايضات محتملة، أركانها الأساسيون تركيا والولايات المتحدة وروسيا، لكنها تشمل أيضا إيران وإسرائيل، نظرا إلى ارتباط مفاوضات إيران النووية بتداعيات الحرب الأوكرانية، سواء في موضوع إمدادات النفط أو الجهة التي ستتسلم مخزون إيران من اليورانيوم المخصّب في حال التوصل إلى اتفاق (كانت روسيا في اتفاق 2015). وكانت تركيا وروسيا عقدتا سابقا مقايضات ثنائية عديدة في سورية بدأت صيف عام 2016، عندما وافقت روسيا على عملية درع الفرات التركية (تشمل مثلث جرابلس – أعزاز –الباب) في مقابل سحب أنقرة قوات المعارضة السورية من شرق حلب في الشتاء. وأعقب ذلك سلسلة تفاهمات حول عفرين (فبراير/ شباط 2018) وإدلب (سبتمبر/ أيلول 2018) وشرق الفرات (أكتوبر/ تشرين الأول 2019) وأخيرا اتفاق سوتشي (مارس/ آذار 2020) والذي رسم مناطق نفوذ الطرفين في شمال غرب سورية. الآن، تغتنم تركيا حاجة الطرفين، الروسي والأميركي – الأوروبي، إليها في المواجهة الدائرة في أوكرانيا، سواء بشأن عدم/ تطبيق العقوبات المفروضة على موسكو أو منع/ توسع “الناتو”، لفرض إقامة المنطقة الآمنة التي طالما طالبت بها على الحدود للتخلص من عبء اللاجئين السوريين في سنة انتخابية حاسمة، وتوجيه ضربة جديدة للمليشيات الكردية.

إذا استمر الوضع على هذه الحال، واستمر السوريون في تناحرهم وانتحارهم بعيدًا عن أي رؤية وطنية جامعة للحل، واستعادة زمام المبادرة، فالأرجح أنه لن يبقى من سورية، في بازار المقايضات الدولية والإقليمية، سوى أشلاء، خصوصا مع احتمال دخول الصين على الخط. عندها سيغدو مصير سورية مرتبطا بالصراع على بحر الصين الجنوبي، أو “بالواق واق” ربما، فهل فينا رشيد؟

العربي الجديد

——————————

=====================

تحديث 09 حزيران 2022

———————-

أوكرانيا تزيد سوريا تعقيداً/ روبرت فورد

تتضافر الصراعات في أوكرانيا وسوريا راهناً أكثر من أي وقت مضى. والحسابات في الكرملين والقصر الرئاسي التركي معقدة الآن بشكل خاص، إذ يجب على العاصمتين النظر في ثلاث زوايا مختلفة.

أولاً، يجب على مجلس الأمن الدولي التصويت في غضون شهر للموافقة على استمرار إيصال المساعدات الإنسانية من تركيا إلى إدلب والمناطق شمال حلب. وتقتضي المصلحة الوطنية التركية الحيوية ألا يحاول 3 ملايين مدني سوري في تلك المنطقة دخول تركيا. وكان نائب السفير الروسي في نيويورك قد حذر قبل أسبوعين من أن موسكو قد تستخدم حق النقض (الفيتو) ضد تمديد عملية المساعدات عبر الحدود، ما يهدد المدنيين. بيد أن مجموعة من الخبراء الروس الذين التقيت بهم في نهاية مايو (أيار) أقروا بأن مشاكل روسيا مع الحرب الأوكرانية ستدفعها إلى تجنب صراع جديد ومرير مع تركيا حول شمال غربي سوريا حالياً.

وقامت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، للتو، بزيارة إلى جنوب تركيا، ومن هناك لمحت لأنقرة إلى أن إدارة بايدن تدعم وقف إطلاق النار في سوريا. وتهدف واشنطن، بشكل خاص، إلى منع التصعيد في شمال سوريا، الذي من شأنه تحويل اهتمام مقاتلي ميليشيات «وحدات حماية الشعب» الكردية السورية من العمليات ضد «داعش» إلى القتال ضد القوات التركية وحلفائها في «الجيش الوطني السوري». والرد التركي على واشنطن بأن «وحدات حماية الشعب» تنتهك بالفعل وقف إطلاق النار في شمال سوريا، وتستخدم بلدتي تل رفعت ومنبج كنقطتي انطلاق للهجمات ضد تركيا وحلفائها.

من الناحية النظرية، أبرم إردوغان اتفاقاً مع روسيا سنة 2019 لنقل عناصر «وحدات حماية الشعب» من هاتين البلدتين، لكن الروس لم يلتزموا بتعهداتهم. ومع اندلاع الحرب الأوكرانية، غادرت القوات الروسية المنطقة، وتمركز «الحرس الثوري» الإيراني بالقرب من «وحدات حماية الشعب» (تذكروا أن الإيرانيين يتعاونون أيضاً مع «حزب العمال الكردستاني»، أي المنظمة الأم لـ«وحدات حماية الشعب» في سنجار بالعراق). والأتراك لا يريدون قوات «حزب العمال الكردستاني» أو القوات الإيرانية بالقرب من حدودهم الجنوبية.

ومن ثم، يعد إردوغان بالاستيلاء على تل رفعت ومنبج في غزو عسكري تركي رابع للأراضي السورية، وهو يحتاج إلى اتفاق روسي بعدم استخدام الطائرات الحربية الروسية ضد قواته. كما يأمل إردوغان في الحصول على طائرات حربية أميركية جديدة، وبالتالي، فهو يريد تجنب حدوث أزمة جديدة مع واشنطن. لذا، فإن توقيت عمليته العسكرية لا يزال محل نظر.

وتشتمل الحسابات النهائية على روسيا وتركيا والولايات المتحدة وحلف «الناتو». وعقب العدوان الروسي على أوكرانيا، ستُقدم السويد وفنلندا طلبيهما الرسميين للانضمام إلى «الناتو» في قمة الحلف التي ستعقد في مدريد في نهاية يونيو (حزيران) الجاري. وبسبب السياسة الداخلية ذات الصلة بالقضية الكردية، يتعهد إردوغان بعرقلة دخولهما الحلف، إذ تمتلك تركيا حق النقض لذلك. ويطالب إردوغان السويد وفنلندا برفع الحظر عن صادرات الأسلحة إلى تركيا الذي فرضته الدولتان إثر الغزو التركي لشمال شرقي سوريا سنة 2019، الذي أعاق ترسيخ أقدام «وحدات حماية الشعب» في شمال شرقي سوريا. وقد لمحت هلسنكي إلى أنها قد تقبل بحل وسط بشأن الحظر الفنلندي. ومع ذلك، فإن الغزو التركي الجديد لشمال سوريا سوف يُصعِّب على فنلندا والسويد تقديم تنازلات لإردوغان. وفي الأثناء ذاتها، يتعين على الرئيس التركي أن يدرك أن الرئيس الروسي يرحب بالتأخير في توسيع حلف «الناتو»، وأن توقيت الخطوات مهم للغاية.

وتؤثر الحرب السورية والتصرفات التركية على استقرار الحكومة السويدية في استوكهولم. وقد تسفر السياسات الداخلية في السويد عن اقتراع بطرح الثقة بوزير داخلية الحكومة. ويبدو أن مصير الوزير يعتمد على تصويت نائبة مستقلة من أصل كردي. وترفض هذه النائبة الضغوط التركية على السويد بسبب القضية الكردية، وتصر على تحسين استوكهولم علاقاتها مع «وحدات حماية الشعب». وقد وعد رئيس الوزراء السويدي بالاستقالة إذا ما أطاح البرلمان السويدي بوزير الداخلية. وسوف تضطر الحكومة السويدية لاستباق الانتخابات الجديدة التي ستجرى في أغسطس (آب). وهذا من شأنه تأخير انضمام السويد إلى حلف «الناتو». ولن تقوم السويد بطرد اللاجئين الأكراد وقطع جميع علاقاتها مع الجماعات السياسية الكردية إرضاء لإردوغان.

بالإضافة إلى ذلك، تشعر واشنطن بالقلق لأن تركيا تؤخر انضمام الدولتين الشماليتين إلى حلف «الناتو»، ومن غير المرجح أن تتخذ مبادرات لاسترضاء إردوغان.

وفي اجتماع عُقد الشهر الماضي مع مجموعة من الخبراء والساسة الأتراك البارزين، طرح بعض الساسة الغربيين تساؤلات عما إذا كان يتعين على حلف «الناتو» طرد تركيا من الحلف بُغية تبسيط قبول فنلندا والسويد. واعترض زملائي الأتراك بغضب. فبالنسبة لهم، المشكلة هي أن حلف «الناتو» يتجاهل المخاوف الأمنية التركية. وسوف تتنامى الضغوط التي يمارسها حلف «الناتو» على أنقرة، وسيتعين على إردوغان، غير المسرور، قبول التسويات الصعبة. وفي النهاية، سوف تنضم السويد وفنلندا إلى حلف «الناتو». أما الحجج بشأن القضية الكردية والاستراتيجية المستقبلية في سوريا، فتضمن أن بوتين سيجد فرصاً جديدة لاستغلال الانقسامات داخل الحلف.

* خاص بـ«الشرق الأوسط»

الشرق الأوسط

—————————

سوريا تدفع في شمالها وجنوبها ثمن ترنح روسيا في أوكرانيا/ حازم الأمين

سوريا ستدفع في شمالها لتركيا وفي جنوبها لإسرائيل ثمن ترنح روسيا في أوكرانيا. أما نظام البعث، فهو خارج حسابات الربح والخسارة، وشرطه الوحيد بقاء رئيسه في قصر المهاجرين، حتى لو اقتصرت سلطته على محيط القصر.   

من المستحيل ضبط إيقاع الدور الروسي في سوريا على فكرة أو موقف أو حساب غير حساب المصلحة العارية من أي التزام. واليوم جاء دور تركيا، ذلك أن موسكو ستدفع لأنقرة في سوريا ثمن عدم انحيازها في أوكرانيا. سنحصل جراء ذلك على مشهد سوري غريب عجيب. فموسكو راعية ومسهّلة الدور الإسرائيلي في سوريا، ستقوم بالمهمة نفسها مع تركيا! لن تعيق إنشاء “المنطقة الآمنة” التي تتحضر تركيا لإقامتها في عمق ثلاثين كيلومتراً على طول حدودها مع سوريا!

المهمة التركية بالغة الفداحة، فهي تتطلب نوعاً من “الترانسفير” سيكون ضحيته السكان الأكراد، ونوعاً موازياً من “الاستيطان”، إذ أنها ستدفع بنازحين سوريين يقيمون فيها إلى هذا الحزام. وسيتكرر مشهد “المستوطنات” العربية التي أشادها نظام البعث في مناطق سكن الأكراد في شرقي وشمالي سوريا.

وفي هذا الوقت بدأت تصدر أصوات “استغاثات” كردية بالنظام السوري، يعتقد أصحابها أن مصلحة مشتركة بينهم وبين النظام تقتضي مواجهة الخطوة التركية. النظام في سوريا لا تربطه مصلحة مع غير رعاته الروس والايرانيين، وهو وإن “استجاب” لإستغاثات كردية، فسيتولى في اليوم الثاني خنقها بيديه.

روسيا، بوصفها صاحبة نفوذ كبير في سوريا لن تمانع على ما يبدو الخطوة التركية، مع ما يترتب عليها من تبعات ليس أقلها تمرير النظام السوري لهذه الخطوة.

النظام السوري مرر لموسكو ما هو أفدح من “المنطقة الآمنة”. مرر لها صمتاً على الغارات الإسرائيلية اليومية على معظم مناطق انتشار قواته وقوات حلفائه الإيرانيين. وهو اليوم يشعر بمرارة حيال انسحابات جزئية روسية من مناطقه، بسبب مساعي طهران إشغال هذه المساحات. ففي اعتقاده أن فقدان توازن النفوذ بين طهران وموسكو لمصلحة الأولى لن يكون لصالحه.

سوريا صارت فعلاً مساحة عصية على التفسير. الثورة هُزمت لكن ليس من منتصرٍ. النظام نجا إلا أنه يتخبط بما لا يحصى من الوقائع. لا أحد يمكنه أن يحدد لمن الكلمة في دمشق. كل “الحلفاء” يملكون القرار، لكن كلهم أيضاً عاجزون عن الذهاب بنفوذهم إلى حد الإطاحة بنفوذ خصومهم أو شركائهم.

ما هي المنطقة الآمنة التي تزمع تركيا إقامتها على طول حدودها مع سوريا؟ ما هي وظيفتها؟ لم يسبق أن سمعنا أن الأمن داخل تركيا كان عرضة لخروقات عبر هذه الحدود! المخاوف الكردية تبدو في مكانها، فالمسألة تتعلق بتغيير ديموغرافي عبر إحلال سكان عرب مكان السكان الأكراد.

المدن والبلدات الكردية على طول الحدود لها امتدادات سكانية داخل تركيا. المهمة قطع هذا الامتداد، مع ما ينجم عن هذه المهمة من مآسٍ، ومن تأسيس لضغائن جديدة هي امتداد لضغائن أسهمت فيها امبراطوريات ما قبل الحرب العالمية الثانية وأنظمة ما بعدها.

لن يضير موسكو طبعاً تزخيم الضغائن العربية الكردية وشحنها بمادة جديدة. أما رجب طيب أردوغان، فهو بصدد زج النازحين السوريين في معضلة أخرى غير معضلة نزوحهم القصري من بلادهم.

وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف في تركيا لمناقشة قضية ممر آمن لتصدير الحبوب الأوكرانية، وعلى هامش هذه المهمة ستناقش أنقرة معه “المنطقة الآمنة” في سوريا، والثمن عدم انخراط أنقرة في منظومة العقوبات الدولية على موسكو. روسيا ليست في أحسن أحوالها، وهي ستقبل أن تدفع الثمن في سوريا. وقريباً سيزور لافروف تل أبيب وسيفاوض على ثمن في سوريا لقاء عدم قبول إسرائيل بيع منظومة القبة الحديدية إلى أوكرانيا.

سوريا ستدفع في شمالها لتركيا وفي جنوبها لإسرائيل ثمن ترنح روسيا في أوكرانيا. أما نظام البعث، فهو خارج حسابات الربح والخسارة، وشرطه الوحيد بقاء رئيسه في قصر المهاجرين، حتى لو اقتصرت سلطته على محيط القصر. 

درج

—————————–

زيلنسكي الذي انفتح باب القدر عليه وعلى شعبه/ دلال البزري

المقارنات لا تتوقف بين الرئيس الأوكراني، فلودومير زيلنسكي، وغيره من القادة “التاريخيين”. ربما رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، هو أول من أجراها، فقال إنه يشبه قائد الحرب البريطانية ضد النازية في الحرب العالمية الثانية، ونستون تشرشل. تلاه الفرنسيون الذين نبشوا من تراثهم كلاً من شارل ديغول والكوميدي كولوش. فحكوا كيف أن كولوش أوكرانيا، أي زيلنسكي، أصبح ديغولها. أغرب المقارنات كانت بينه وبين ترامب. الخلفية التلفزيونية، الحضور الإعلامي الدائم..

والحال أن المقارنات الثلاث لا تصحّ. صحيحٌ أن ثمّة ما يجمع بين ترامب وزيلنسكي، وهو حضورهما الإعلامي الدؤوب. ولكن كل ما بقي، يفرّقهما. بدءاً من الدور، وانتهاءً بالشخصية الفردية لكل منهما. أما تشرشل وديغول، فبالعكس. خلفية الأول أرستقراطية، وتجربة برلمانية عريقة. والثاني، ديغول، رجل عسكري، خرّيج كلية سان سير. ونقطة اللقاء الوحيدة بينهما وبين زيلنسكي، خوضهما حرب تحرير بلادهما.

لم يخطر ببال الإعلام الغربي، المأخوذ بجاذبية هذه المقارنات، استحضار شخصيات تاريخية أخرى أقل اختلافاً مع الواقع الخاضع للمقارنة. لم يحضر في ذهنه جمال عبد الناصر مثلاً أو بن بيلا، وللاثنين خلفية عسكرية، ولكنهما خاضا حرباً، هي الأقرب إلى الحرب الأوكرانية من الحرب ضد النازية. مع أن الاجتياح الروسي يضع نصب عينيه أوروبا، يهدّدها ويضعفها جيوسياسياً، لكن حرب الأوكرانيين حتى الآن حرب تحرّر وطني من استعمار روسي، يتلطّى خلف “الهيمنة الإمبريالية الأميركية”. والأرجح أن غياب قادة الاستقلال العالمثالثيين في ذاكرة المقارِنين هو أيضاً تمحور حول الذات وتاريخها. فلو قيل لهم إنّ عبد الناصر أو بن بيلا أشبه بزيلسنكي، لاضطروا إلى أن يعودوا إلى الحفر في تاريخهم الاستعماري القريب. وهذه نقطة ضعف أساسية في التجنيد الإعلامي الغربي ضد غزوة بوتين: أنه لا يستثير غير تاريخه، وينسى تاريخ العالم الثالث، الذي يؤيد بوتين بغالبيته، فقط نكاية بالاستعمارَين السابقَين، الفرنسي والبريطاني، وبالإمبريالية الأميركية.

زيلنسكي شاب عمره 44 سنة. خرّيج كلية حقوق، يهودي، من أقلية الأقليات. إذ تبلغ نسبة اليهود الأوكرانيين 0,2%. أي إنهم أقل من المسلمين الذين يبلغون 1,1%. وقبل أن يُنتخب رئيساً للجمهورية بأكثرية ساحقة في انتخابات ديموقراطية، كان قد غيَّر مهنته من محامٍ إلى كوميدي ونجم تلفزيوني لعب دور الرئيس المنتخَب في أحد مسلسلاته الأشهر، وأسّس شركة إنتاج تلفزيوني لاقت رواجاً. إذاً، من دون تجربةٍ سياسيةٍ، ولا برنامج واضح، صار رئيساً.

عشية الاجتياح الروسي لأوكرانيا، حصل ما لا ينبئ أبداً بما سيأتي. الصحافة الأوكرانية سرّبت أخباراً عن صلةٍ قويةٍ تربط زيلنسكي بالأوليغاركي المعروف هناك، أيهور كولومويسكي. لكن الذي أشعلَ هذه الصحافة بسجالٍ لم يوقفه إلا الضربة الروسية، ما كشفته أوراق “بارادايز” عن أموالٍ كان يخبئها زيلسنكي في الجزر “الحرّة”. فبحسب الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية، كان لشركته “كرافتال 95” التي أسّسها عام 2012، شبكة “أوفشور” ساعدته على امتلاك شقق وبيوت فخمة في لندن، ثم بقية أخبار عن “نشاطات” ألِفْناها لسياسيينا النجباء في مدرسة “باندورا” و”باراديز”. الرأي العام الأوكراني كان صداه مباشراً. سحب تأييده الرئيس، بعدما فشل في محاربة الفساد، كما وعد، بل انكشف تورّطه به، حتى قبل انتخابه. هكذا، عشية الضربة الروسية، كانت شعبية زيلنسكي قد هبطت، وبلغت أدناها.

إذاً، زيلسنكي، بفضل حرية الإعلامين، الغربي والأوكراني، لم يظهر ملاكاً طاهراً كامل الأوصاف، ولا قائداً مغواراً، ولا خرّيج فنية عسكرية، ولا مفكراً، أو مناضلاً، أو “رئيساً مؤمناً”، أو سجيناً سابقاً، أو قائد جيش، أو برلمانياً صبوراً تدرّج من البلدية إلى النيابة فإلى الوزارة، لينتهي رئيساً، ولا ابن “الأكثرية” الدينية، والأرثوذكسية هي الغالبة (65%)، ولا هو القائد المثالي الماكيافيلي، الذي يجمع بين الأسد والثعلب، ولا تشي غيفارا، المناضل الذي خاض حرب عصاباتٍ في بوليفيا ضد الإمبريالية الأميركية.

ولا هو وريث عرش أو جمهورية. لا هو بشار الأسد، مع أنّ الاثنين تعرّضت بلادهما لهجوم روسي مسلّح شرس، واحد حسب رغبته وتوسّل الإيرانيين لإنقاذه، والثاني ضد إرادته وإرادة شعبه. ولا هو قائد عسكري، أو قائد مليشياوي، يزرع شبّيحته الرعب باسم مقاومتهم لعدوّ ما. ولا هو الأخ التوأم لبوتين، كما تذهب بروباغندا غير معروفة المصدر، وبرهانها تَشارُك بوتين وزيلنسكي بالاسم الأول (وربما “تعديل” اسم الثاني، فلوديمير، بدل الأول، فلاديمير، ردّ على هذا التشبيه).

حسناً، إنه نمط جديد من القادة، لا شرّ مطلق ولا خير مطلق. إعلام وكاريزما، وتجربة صفر في ميدان القتال، وبروفايل لا يساعد على توقّع ما سيحصل لاحقاً، من تحوّل هذا الزعيم الجديد إلى زعيم من النوع النادر الذي لا يمكن تصنيفه في أية خانة من الخانات. ما الذي حصل لكي يتحول زيلنسكي هذا إلى رجل يضاعف من فرادته، فتظهر له طبائع جديدة، مفاجئة، لم يتوقعها له أحبّ محبِّيه؟

حصل أن الهجوم الروسي فتح أبواب القدر على زيلنسكي وعلى شعبه. وقوف الأوكرانيين، في غالبيتهم العظمى، بوجه هذا الاجتياح. من دون انتظار خطط ولا اتصالات، فقط بإرادة شعبٍ تبلورت هويته الوطنية في لحظة عدوان، فقرّر أنه “أوكراني”، يتعرّض لمقتلة هي “الأشد مضاضة”، على يد ذي القربى الروسي، يجمعه به التاريخ والدين والأبجدية. كان يجدُر بهم، كأبناء تنوّع ديني ولغوي، أن ينقسموا، مثلاً، بين أكثرية أرثوذكسية متمسّكة بالكنسية الأم، الروسية، المذعنة لبوتين، وترحّب بـ”الأخ الأكبر”، أو بين من ينطقون بالروسية ومن ينطقون بالأوكرانية، أو بين أهل مدن وبلدات وقرى .. فحصل العكس. مثل رجل واحد وقف الأوكرانيون، بقيادة رجل من الأقلية. وكأن وثبتين تلتقيان في نهر هادر.

أيهما سبق الآخر؟ وَثبة الأوكرانيين أم وَثبة رئيسهم؟ مثل كل المعجزات، ولا جواب على سؤالها غير القدر، رفعت الحرب الروسية على أوكرانيا رجلاً، ما كان مفترضاً أن “يقبضه” رجال العالم، لكثرة “عاديّته”، وخفّة الوسط الآتي منه، لكثرة مداخلته المرئية، والانفضاح السريع لفساده، بفضل صحافة حرّة، كانت المساهِمة الأولى بصعوده إلى الرئاسة. هذا هو فلوديمير زيلنسكي الجديد: شاب لا يخلو من العيوب، وربما من الرذائل، يلتقي مع شعبه في لحظة قدرٍ مع توق الحرية، فيكون بطلاً وطنياً، يتناتشه التسويق السياسي، أينما حلّ.

هل انتهى التاريخ عند هذا الحدّ بتكرّمه على قائد وطني، ينصهر مع شعبه في لحظةٍ روحيةٍ واحدة؟ الحرب ما زالت في بدايتها، وقد تتطلب هدنة، أو اتفاقاً أو تسوية، أو حتى ربما صفقة. وزيلنسكي ما زال يعاتب الغرب على عدم مساعدته بما فيه الكفاية لصدّ بوتين عن بلاده، فعشرون بالمئة من أوكرانيا صار محتلاً من الجيش الروسي ومليشياته، من حوض الدونباس الشرقي. والخسائر العسكرية جسيمة بين العسكرَين، والدمار والتهجير في أوكرانيا خُرافيَان. والغرب نفسه دخل مرحلة ما بعد الصدمة، وهو الآن يلهث تعَباً. والصين تثبت قدمَيها أكثر فأكثر، إذ يضعف منافساها في هذه الحرب، روسيا وأميركا.

إذاً هدنة .. أية هدنة؟ أي اتفاق؟ أية تسوية؟ وأية ضغوط من أجلها؟ هل ينفصل زيلسنكي عن شعبه، ويغلق أبواب القدر، فتنتهي الرواية، ويتحوّل إلى بطل لحظة من لحظات مقاومة أوكرانيا لجيش بوتين؟ أم تعود الوثبتان تلتقيان، ويكون زيلنسكي ساعتها بطل الفصول كلها؟

العربي الجديد

—————————-

روسيا “مستعدّة” مع تركيا..لضمان سلامة سفن الحبوب الأوكرانية

أكد وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف الأربعاء، أن روسيا “مستعدّة” لضمان سلامة السفن التي تنقل حبوباً والتي تغادر الموانئ الأوكرانية، بالتعاون مع تركيا.

وقال خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره التركي مولود تشاووش أوغلو: “نحن جاهزون لضمان سلامة السفن التي تغادر الموانئ الأوكرانية (…) بالتعاون مع زملائنا الأتراك”.

ووصل لافروف مساء الثلاثاء إلى أنقرة، للبحث في إنشاء ممرات آمنة لتسهيل تصدير الحبوب إلى البحر الأسود. وعرضت تركيا، بناءً على طلب من الأمم المتحدة، مساعدة لمرافقة هذه القوافل من الموانئ الأوكرانية، رغم وجود ألغام كُشف عن بعضها قرب السواحل التركية، وسط الغزو الروسي لأوكرانيا.

واعتبر تشاوش أوغلو أن “خطة الأمم المتحدة منطقية وقابلة للتحقيق. على أوكرانيا وروسيا قبولها”. وأضاف أن الخطة تشمل الاتفاق المشترك بين جميع الأطراف، وهي روسيا وأوكرانيا بالإضافة إلى تركيا، مشيراً الى استعداد تركيا تمهيد الطريق أمام العالم لاستيراد هذه المنتجات من أوكرانيا وروسيا.

وبحسب أوغلو، فإنه “يجب مناقشة الإجراءات من أجل إنشاء خط ملاحة آمن للسفن”، مشيراً الى استعداد تركيا استضافة الاجتماع في اسطنبول. وأوضح أيضاً جاهزية تركيا لاستضافة المحادثات بين البلدين من جديد، في حال استعداد الطرفين للجلوس الى طاولة الحوار.

وأضاف أن بلاده تعتبر أن طلب موسكو رفع العقوبات عن الصادرات الزراعية الروسية لتسهيل الصادرات الأوكرانية “مشروع”.

وقال: “إذا كان علينا فتح السوق الأوكرانية الدولية، نعتقد أن إزالة العقبات أمام الصادرات الروسية أمر مشروع”. وتحدث تحديداً عن صادرات “الحبوب والأسمدة” التي لا تتأثر بالعقوبات الغربية المفروضة على موسكو، لكنها في الواقع تمنعها من التبادلات المصرفية والمالية مع الخارج.

من جهتها، أعلنت أوكرانيا ترحيبها بالمفاوضات المتعلقة بتصدير الحبوب الأوكرانية من موانئ البحر الأسود، مؤكدة أن أي قرار بشأن هذه المسألة يفترض تسليمها أسلحة “لحماية أوديسا”.

وقال وزير الخارجية الأوكرانية دميتري كوليبا في مؤتمر صحافي الأربعاء، إن كييف تتفاوض لحل أزمة الغذاء وفك الحصار عن الموانئ الأوكرانية، في المقام الأول من خلال الأمم المتحدة، مؤكدا أن “جميع المسارات والجهود الأخرى نرحب بها، ولكن بشرط واحد: يجب أن يأخذ القرار النهائي في الاعتبار مصالح أمن أوكرانيا بنسبة 100 في المئة”.

وأضاف كوليبا أن أمن أوكرانيا بنسبة 100 في المئة، يعني توفير “كمية كافية من الأسلحة القادرة على حماية أوديسا وهذا الجزء من ساحل البحر الأسود من البر”، فضلاً عن إنشاء “مهمة للقيام بدوريات لحماية ممر توريد الحبوب من قبل سفن الدول التي يمكن أن تثق بها أوكرانيا”. وأضاف “في هذا الصدد، يمكننا، على وجه الخصوص، أن نثق في القوات البحرية التركية”.

وكانت أوكرانيا، وهي رابع أكبر مصدّر للذرة في العالم، على وشك أن تصبح ثالث أكبر مصدّر للقمح في العالم قبل أن يبدأ الغزو الروسي. وأدى النزاع في أوكرانيا منذ 24 شباط/فبراير إلى رفع أسعار المواد الغذائية، ما يهدّد بحدوث مجاعة في الدول التي تعتمد على الصادرات الأوكرانية، خصوصًا في إفريقيا والشرق الأوسط.

وكانت كييف قبل الحرب تُصدّر 12 في المئة من إجمالي القمح و15 في المئة من الذرة و50 في المئة من زيت عباد الشمس في العالم.

وقال الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي الاثنين: “في الوقت الحالي، 20 إلى 25 مليون طن من الحبوب عالقة، وقد ترتفع الكمية في الخريف إلى ما بين 70 إلى 75 مليون طن”.

وبحسب وزير الزراعة التركي وحيد كيريشتشي، “تحمي أوكرانيا موانئها التجارية حاليًا بالألغام” وتخشى أن “تتعرض لهجوم روسي” إذا انسحبت.

————————–

=====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى