أبحاث

ما الذي ينتظره جمهور الثورة من النخبة؟/ حسن النيفي

في الوقت الذي يبدو فيه التكرار – على الغالب الأعم – أمراً ممجوجاً وباعثاً على الملل، إلّا أنه يكون في حالات كثيرة أمراً موجباً، ليس بقصد التكرار ذاته بل لأنّ المُكرّر ذاته يصبح حقيقة لا بدّ من الانطلاق منها للحديث عن أي جديد آخر، علماًَ أن الكلام على أمر جديد – فيما يخص المشهد السوري – لا يخلو من المجازفة، بل ربما حمل في طياته شيئاً من المبالغة، ولكن يبدو أن كثيرا من السوريين باتوا يجدون في لا وعيهم الجمعي أن التفكير في أية مسألة لا بدّ أن تكون الحالة السورية، بما تشهده من واقع ملموس، منطلقاً له.

ولئن كانت حالة الانسداد السياسي تزامناً مع استمرار وجود سلطات الأمر الواقع الأربع هي الحالة التي تجسّد ما هو قديم ومكرّر، إلّا أن التداعيات التي تتوالد من هذا المشهد لا يمكن أن تكون كذلك، إذ ثمة من يرى أن تنامي قوة تلك السلطات المذكورة ونفاذ سطوتها في الواقع السوري، موازاةً مع استمرار كيانات المعارضة الرسمية على عدم تجاوز دورها الوظيفي، إنما يترك تداعيات شديدة الأثر على شريحتين تحظيان بحضور رمزي أو قيمي في المشهد السوري، الأولى هي شريحة ما يُدعى بـ(النخب الثقافية والسياسية)، والثانية تتمثل بالجمهور العام للثورة.

ولعل كلتا الشريحتين لا تمتلكان حضوراً فاعلاً في الشأن العام إلّا على المستوى الأخلاقي أو القيمي، لافتقارهما إلى أدوات التأثير الفعلي في الواقع، ولئن كان ما يجمع بين هاتين الفئتين هو افتقادهما التأثيرَ المباشر على ما يجري على الأرض السورية، مما يجعلهما فاقدين لمقوّمات أي مبادرة فعلية، إلّا أن ثمة ما يشير إلى افتراقهما بردّة فعل كلّ منهما حيال هذا الإفلاس أو الافتقاد إلى وسائل النفوذ والقوة.

ففي حين بدا عدد ممن ينتمي إلى فئة (النخب) سواء أكانوا أفراداً أم أحزاباً يعيد التفكير بجردة حسابات جديدة حيال الواقع السوري، ويرى أن لحظة تغيير (المناظير) باتت ضرورية، وأن البقاء في حوزة الأفكار والمفاهيم مهما كانت على درجة من الصوابية لن تجدي شيئاً أمام عوامل السطوة والنفوذ، الأمر الذي دفعها للعودة إلى استلهام مفهوم (الواقعية السياسية) الذي يبدو أنه قد فقد الكثير من محدّداته وملامحه بسبب إخضاعه لمقدار كبير من (النسبية)، ذلك أن التخوم العازلة بين ما هو واقعي وما هو غير واقعي تبدو غائمة في أكثر الأحيان.

وعلى أيّة حال، ربما كانت التجليات الملموسة لهذا الضرب من التفكير (الواقعي) لدى فئة النخبة هو إعادة النظر في طبيعة العلاقة مع سلطات الأمر الواقع، انطلاقاً من اعتبارها أمراً قائماً، فضلاً عن كونها هي التي تضع يدها على الأرض تتحكم بسيرورة ما يجري، وبالتالي لا إمكانية للتعاطي مع المشهد الميداني السوري –سياسياً- دون التعاطي الإيجابي مع السلطة الفعلية القائمة، إلّا أن التعاطي مع تلك السلطات، فضلاً عن تحديدها واختيارها، لا بدّ أن يخضع لمعايير ما، ولو أن هذه المعايير لمْ يُفصح عنها أصحابها، ولكن ليس من العسير معرفتها.

إذ غالباً ما اتجه الإسلاميون نحو الفصائل والكيانات العسكرية الموجودة في الشمال السوري، سواء المنضوية منها تحت ما يسمى (هيئة تحرير الشام) التي تسيطر على مدينة إدلب وبعض أريافها، أو تلك التي تسيطر على مناطق (عفرين – اعزاز – الباب – جرابلس – رأس العين – تل أبيض) وهي التي تنضوي تحت مسمّى (الجيش الوطني السوري)، إذ يجد الإسلاميون في تلك الكيانات العسكرية الحاكمة جامعاً مشتركاً إيديولوجياً بينهم وبينها، ولعل هذا ما تفصح عنه العلاقات الوطيدة بل المتداخلة بين الإخوان المسلمين وبعض الفيالق العسكرية في الشمال، وكذلك العلاقة التي يمكن تسميتها بالرمزية بين المجلس الإسلامي السوري وتلك الكيانات ذاتها.

أمّا الشطر الثاني من الفئة النخبوية (اليساريون أو العلمانيون) فغالباً ما كان يوجّه الاتهامات القاسية لفصائل الشمال الإسلامية باعتبارها حاملة لإيديولوجية ظلامية لا تنسجم مع المشروع الوطني للثورة، وكذلك بسبب سلوكها تجاه المواطنين وفقاً لليسار النخبوي، فضلاً عن تبعية تلك الفصائل لجهات إقليمية خارجية، إلّا أن شعور اليساريين المشابه لخصومهم الإسلاميين بالحاجة الضرورية إلى التفاعل مع سلطة فعلية ما، جعلهم يتجهون نحو “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، الأداة التنفيذية لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي – pyd”.

ولعل هذا التوجه بدأت تتجسّد معالمه الفعلية من خلال لقاء استوكهولم، في شهر نيسان الماضي، والذي جمع بين شخصيات من (مسد) وهو المجلس السياسي لـ”قسد”، وبين عدد من الشخصيات السياسية والثقافية الأخرى من قوى وأحزاب سورية يسارية مختلفة، وبحضور لممثلين عن الحكومة السويدية والأميركية، مع الإشارة إلى أن اللقاء كان برعاية منظمة أولف بالما والحكومة السويدية.

بالمقابل ثمة ما يمكن تسميته بالجمهور العام، ويتمثل بشريحة عامة من المعنيين بالشأن العام وقضايا الثورة، إذ ينظر هؤلاء إلى ما تقدم عليه فئة النخبة بشطريها، الإسلامي والعلماني، بمزيد من التساؤلات التي تصل إلى درجة الريبة، ولئن كان من الممكن أن يتفهّم المرء المحدّدات الإيديولوجية التي ترسم لكل طرف معالم طريقه، إلّا أن ارتفاع حدّة التساؤل من جانب الجمهور العام تنبع من موقف كلا الطرفين (الإسلامي والعلماني) من الممارسات والسلوكيات التي تمارسها السلطتان اللتان تستقطبان فئة النخبة.

فلئن كان ثمة اتهامات كثيرة تتوجه إلى فصائل الشمال تتعلق بالفساد المالي وانتهاكات بحق المواطنين والفلتان الأمني، فإن ثمة ما يماثلها لدى “قسد”، علماً أن الاختلاف أو التفاوت في حجم تلك الاتهامات لدى كل جهة لا يلغي التقاءها في المحددات والثوابت، ولئن كانت الفصائل والكيانات العسكرية في الشمال تعمل ضمن سيرورة خارج مظلة المشروع الوطني للثورة –وفقاً لاتهامات العلمانيين– فإنه من جهة أخرى، لا يمكن الذهاب إلى أن (قسد ومسد) قد انبثقت من رحم ثورة السوريين، بل إن أرباب “قسد” أنفسهم لا يقولون ذلك، بل يمكن الذهاب إلى النقيض، ودون الدخول في التفاصيل، تكفي الإشارة إلى استعداد “قسد” الدائم للتفاهم حول مشروعها الخاص مع نظام الأسد، بعيداً عن السوريين بكل مكوّناتهم.

ومن جهة أخرى، إذا كانت تهمة التبعية للخارج باتت تتلبّس فصائل الشمال السوري، فلا أحد بإمكانه التأكيد أن “حزب العمال الكردستاني – PKK”، مّمَثّلا بجناحه (pyd) هو حزب سوري المنشأ، وبالتالي ما هي الدوافع التي تجعل السمات العامة لكل من “قسد” وفصائل الشمال مقبولة عند هذا الطرف ومقبولة عند ذاك؟

ربما يفضي هذا التساؤل إلى طرح سؤالين آخرين يُثار حولهما كلام ونقاش كثير بين الجمهور العام: يتمثل الأوّل في إمكانية الاستمرار بالتعويل على ما يمكن تسميته بـ(النخب السورية)، وهل ما تزال تلك النخب تحظى بثقة الجمهور العام ذاته؟ ويتمثل الثاني في إصرار تلك النخب على الاعتماد على الإيديولوجيا كأداة للتفكير بدلاً من المعرفة، أم إنَّ فشل تلك النخب في إنتاج مشروع وطني يوازي عطاءات الثورة هو ما دعاها إلى النكوص نحو إرثها الإيديولوجي العتيد؟

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى