نقد ومقالات

شذرات ونصوص تُضيء على الوجه الآخر للتشكيلي السوري الرائد: فاتح المدرّس… «كافكا الجـبال» مطلّاً على فراغ الكون

ملف خليل صويلح

نعرف فاتح المدرّس (1922- 1999)، التشكيلي السوري الرائد، لكن ماذا عن فاتح المدرّس الآخر؟ نقصد تلك السيرة الأدبية الملتبسة التي كان يؤثّثها بعيداً عن مشغله التشكيلي وبقيت في الظلّ، بالمقارنة مع حضوره كرسّام متفرّد؟ سننتبه إلى أنّ اللون كان يتسرّب من اللوحة إلى الأوراق على هيئة شذرات ونصوص وأفكار يعلّقها على جدار مرسمه بما يشبه «حكمة اليوم»، قبل أن تضيع هذه الأوراق في فوضى المكان المزدحم، أو تتسلّل إلى دفاتره بوصفها مواد أوليّة للوحة أو قصيدة. في مناسبة مئوية ولادته، نستعيده اليوم شاعراً وفيلسوفاً، بما تبقّى من أوراقه. ذلك أن مذكراته التي لم تنشر إلى اليوم، بقيت حبيسة أدراجه، على الأرجح بسبب حجم المكاشفة والسخط والخشونة التي تنطوي عليها، وفقاً لإشارة غامضة من رفيقة دربه الراحلة شكران الإمام، وهو ما جعلها تتردّد في نشرها أثناء حياتها. اللعنة ستطارد أيضاً مخطوط نصوصه الأخيرة، التي فقدها ناشر سوري بعدما سلّمها إلى شاعر كي يشرف على تحريرها، لكنها اختفت بين أوراقه بعدما توفي فجأة. سنقتفي هنا أثر ما نجا من أوراقه المبعثرة، ورسائله الشخصية، وحواراته، بالإضافة إلى مختارات خاطفة من كتابين شعريين له، هما: «القمر الشرقي يسطع على شاطئ الغرب» المنشور باللغتين العربية والفرنسية (1962) بمشاركة الشاعر والمسرحي شريف خزندار، و«الزمن الشيء» (1984) بمشاركة حسين راجي. تشير خالدة سعيد في كتابها «يوتوبيا المدينة المثقّفة» إلى أن أول قصيدة نشرها فاتح المدرّس تعود إلى منتصف الأربعينيات في مجلة «القيثارة» الطليعية التي كانت تصدر في مدينة اللاذقية. كما تنوّه إلى ارتباطه الفكري بالسريالية التي بشّر بها الشاعر أورخان ميسّر أولاً، ثم تتساءل بدهشة حول تجربته مع شريف خزندار بقولها: «من سيحتضن هذا الكتاب الغريب الذي يخرج عن التيار السائد الجارف، من سيهلّل لما فيه من جنونٍ جميل؟». على المقلب الآخر سيحضر فاتح المدرّس ككاتب قصة من طرازٍ خاص في كتابه «عود النعنع» الذي استعاد فيه ذاكرته القروية الأولى في الشمال السوري، وكأن تلك الذاكرة الفجائعية هي المادة الخام لكل ما رسمه لاحقاً بخصوص وجوه الفلاحات والأمهات المسربلات بالحزن والشقاء، وبساتين أشجار الزيتون، والطفولة المقهورة. سنلحظ في قصصه الخمس سطوع اللون بين السطور مثل «ارتفع الأفق الشرقي كأنه من زجاج رمادي»، و«الأرض حمراء كالتنور»، و«طفا ثوبها الأحمر بنقاط بيضاء»، و«انتشلها من الماء ووجد في يدها عوداً من النعنع»، و«تراب أخذ من الدم لونه»، و«ظلمات كفر جنّة الزرقاء». «كفر جنة» القرية التي سيخلّدها في إحدى أشهر لوحاته، مستعيداً رائحة التراب، وغياب الأب الذي قُتل على مرأى من عينَي الابن، والكوابيس التي ستلاحق «كافكا الجبال»، في رحلته المضنية بين الدروب، واصفاً بمهارة عذابات الإنسان والبطش الذي يثقل كاهل الأفراد المهمشين. فهو عاش طفولة شقية محرومة، متنقلاً مع أمه الكردية في قرى الشمال السوري، وقد سلبه أعمامه حقه في الميراث الكبير، بعدما قتلوا والده خشية انتقال الثروة إلى أخواله. وستشهد مئويته الأولى صدور النسخة الإنكليزية من كتاب «حوار فاتح- أدونيس: الحدس والعقل» (دار كاف بوكس ـــ ترجمة رولا بعلبكي). هنا يحاول أدونيس جذب فاتح المدرس إلى «مملكة الكلمات» في حوار جدلي يسعى إلى ردم المسافة بين عقل الشاعر وحدس الرسّام في اشتباك معرفي حار، بالإضافة إلى نصوص موازية كتبها الشاعر السوري جولان حاجي خصيصاً لهذه الطبعة، والناقدة الفنية آمبرا دانتون. كأن فاتح المدرّس أبى أن يعيش قرناً آخر من العذابات، فغاب بأفول القرن، كي لا يشهد آثام الكوكب في القرن الحادي والعشرين. في هذا الملف، نستعيد بعضاً من أوراق الشاعر والفيلسوف، ونتفاً من رسائله الشخصية، وشذراته المجهولة التي توزعتها مخطوطات مفقودة، لم يبق منها إلا بعض الإشارات هنا وهناك

ستشهد مئويته الأولى صدور النسخة الإنكليزية من كتاب «حوار فاتح- أدونيس: الحدس والعقل»

شذرات

هذا العالم تأكله جرذان الكومبيوتر

قل لي هل يلد العقل جرذاً؟

■ ■ ■

الليلة كتبت اسمك على أرض غرفتي،

ومضيت أتسلّق الجدار ماشياً

كما لو أنَّ هذا الكوكب بلا أحذية.

■ ■ ■

ماذا سنفعل لو وقفنا جميعاً، تشكيليين، وشعراء، وموسيقيين، أمام مقبرة جماعية تحوي آلاف جثث البشر الذين قتلوا رشاً ودراكاً أمام بعضهم بعضاً؟ هل سنرسم زهرة في إناء؟ هل نرسم حبيبين في حالة عناق؟ هل سنرسم السماء الزرقاء الرائعة؟

■ ■ ■

رسمتُ كما تمشي السلحفاة المائية على الطمي بإصبعين، ثم رسمت سمكة كما أراها في النهر، كنتُ أرسم رائحتها، رائحة النهر الجبلي البرّاق تحت أشعة الشمس، عند السادسة صباحاً.

■ ■ ■

إننا نعاني من فيروس الغضب الجماعي الصامت الذي لا يسمح بتحريك عضلة واحدة من هذا الوجه الذي بحجم التابوت الإنساني الضخم.

■ ■ ■

إن آخر ما يموت في غابة الدهشة هو اللون

■ ■ ■

المطر لا يهطل على الفقراء!

■ ■ ■

أنا تلميذ صغير يدرس بحزن جمال أرضه، وإنسان أرضه، وكل ما يقال عني هو هراء

■ ■ ■

إذا سيطر الغباء على العالم تحلّ كارثة كبيرة، فالمذابح المنتشرة هنا وهناك في أرجاء العالم، يقف وراءها رجال لا يملكون ذكاء إطلاقاً… لا ذكاء في القتل

■ ■ ■

هي دائماً ملثّمة، أراها أحياناً بين صفصاف النهر، حتى إذا ركضت في برية تموز تصبح شفّافة وتغيب.

وكلما عصرت الرياح هذا القلب اسمع صوتها من الداخل.

لن أنساها إنها تشبه رغيف خبز لا ينتهي مهما قضمت منه!

■ ■ ■

ليت يدي تستطيع أن تلمس قلبك

إذن لدارت بي المجرّة

ووقعت على وجهي

يبدو لي أنه لم يبق منك

إلا صورة الهوية

■ ■ ■

إن احترق القلب

فليكن بلا خطايا

■ ■ ■

حبيبتي بلا أمتعة

في يدها آس من جليد

تذوب هي أيضاً

ما أكثر الأمطار

والطائر؟

الطائر قد مضى في السماء

■ ■ ■

اصنع شمساً

جميل أن تكون لك شمسك

تتمتع بها مع من تحب

دون أن يراها الآخرون

■ ■ ■

في كل ليلة

أمشي إلى أعلى

وأعبر منحدر التل

أنت أيضاً اغرس صليبك… هناك

■ ■ ■

إنني أبحث عن ذكاء نبيل يجعل الحياة ممتعة

■ ■ ■

أصدقاء الرماد

جاؤوا البارحة ليصحبوني

لنتحدث طويلاً في الطريق

لم يرغموني

لا زلت أسمع صفير القطار

إنه لا يكفّ عن الاهتزاز

ما أصعب السفر لوحدك

على درب التبّانة، قلت.

■ ■ ■

الإنسان جبل كآبة، تستطيع فأرة صغيرة أن تخلخله وتحوله إلى أنقاض!

■ ■ ■

غدت المخيلة الطعام الوحيد للعقل، الصورة حيوان والكلمة تجريد

■ ■ ■

بلا حبٍّ تنام أشجاري

انظروا

أورقتْ مساميرَ وحروفاً.

■ ■ ■

المحار صحون العشاق الموتى

■ ■ ■

البدء من الصفر يعني شيئاً واحداً، إلقاء جملة المعرفة وأحمالها في سلة القمامة.

■ ■ ■

ماذا نستطيع أن نفعل أمام حفرة تحوي آلاف جثث الآدميين الذين قتلوا رشاً ودراكاً أمام بعضهم بعضاً؟

■ ■ ■

إنَّ ماضي البشرية حتى هذه اللحظة لا يُشرّف أي حيوان، حتى الجرذ لا يشرّفه ماضي الإنسان

■ ■ ■

في قلب كل ملاك قاتل محترف

■ ■ ■

صوت العاصفة المدمّرة، أجمل أنواع الموسيقى

■ ■ ■

أقسى أنواع العقاب، الحرمان من جمال الطبيعة

■ ■ ■

الخلود هو أن تستطيع صُنع الزمن والتحكّم فيه

■ ■ ■

مرّ هولاكو من هنا، تبسّم ثم ولّى الأدبار

■ ■ ■

انظر الآن!

كيف يهتزَّ الخزي كبيرق

■ ■ ■

عاجلاً أم آجلاً

سيرتفع حدّ الشفرة

ثلاثة أمتار

وستهوي الشفرة بتناقض آخر

■ ■ ■

الكلام من حق الكهنة

الحيوان لا يحق له الكلام.

إذاً، أنا حيوان

■ ■ ■

يقف العقل بعدالته الجميلة حزيناً أمام صندوق الرشاوى في الذاكرة

■ ■ ■

لا يزالوا يبحثون عن سكين وملح!

■ ■ ■

الحقيقة تُصنع بأنفاس الأنبياء وبأيدي القتلة

■ ■ ■

رأيت جنرالاً يلتهم جثة، ولم يبق منها في صحنه سوى عينها فقلت له مشيراً إلى الصحن: وأين هي العين الأخرى أيها الجنرال؟

أجابني ببراءة وهو يمسح فمه بكم قميصه: كل الحقائق بعين واحدة!

■ ■ ■

الشعر أرقى أنواع النشاط الفكري، إنه وثيقة هامة تشير إلى إنسانيتنا لا إلى حيوانيّتنا، هناك فنون حيوانية، وأخرى إنسانية، الرسم فن حيواني لأنه يعتمد الصورة الواحدة، أما الشعر فيعتمد آلاف الصور

■ ■ ■

في وسخ الأرض أكتشفُ مغزى ارتفاع السماء

■ ■ ■

هل عاد إليك الزمن، مرة، كسرب من الكلاب الضالة، أو لنقل كضبع فتيّ يحاور رجلاً أعزل في منتصف ليلة شتائية؟

■ ■ ■

لا نريد أشباه رجال ينصبون أنفسهم أصناماً في الحرم المقدس، كي نعبدهم

■ ■ ■

الإنسان أعظم مخرّب للأرض، وهذا ما يحزنني

■ ■ ■

رجل واحد يمكن أن يقود أمة إلى الجحيم

■ ■ ■

الضياء خيوط نسيج

منديل من الشمس

سقط على الأخضر

أرفع المنديل

انظر، زهرة

■ ■ ■

من الصفر يولد رائع الواحد

■ ■ ■

كنت أسمع أغانيهم على حوافي المجرّات

■ ■ ■

هذا المغني قاطع طريق يرسم الجبال بصوته

■ ■ ■

أيتها الحرية لك في لحمي نشيد حزين آخر.

■ ■ ■

إني أعيش على برزخين، القدم اليمنى على برزخ، والثانية على برزخ ثانٍ، أو مرفوعة ككلب يبول على حجر.

■ ■ ■

اللون الأصفر؟

لعله الطفلة اليتيمة التي عثرت عليها الشمس بين حقول الزعفران.

■ ■ ■

السعداء هم الذين يغادرون هذا العالم القذر بطلقة رصاصة

■ ■ ■

كل ما أبذره في هذه الأرض اليباب التي عاشها المعرّي والسيّاب، لا تنبت إلا الأشواك الزرقاء المرّة، رغم أن أكثر مستأجري هذا الكوكب هم حفاة.

■ ■ ■

هل هناك أغبى من كلمة «العولمة»؟ كأن هذا الاكتشاف لم يكن متداولاً في الحروب الصليبية!

■ ■ ■

الألوان التي نستعملها ونطلق عليها أسماء أزرق، أصفر، أخضر، أسود، أبيض، إلى آخره، لا تستعملها الطبيعة إلى في حال عقد قران بين زهرة وزهرة، بين ثور وبقرة!

■ ■ ■

لست وحيداً، لأنه يوجد في ذهني عالم موازٍ للعالم الذي نعيش فيه

■ ■ ■

لم أحترم العقل في حياتي، اعتبره مجمع قاذورات، إنني أعتمد على الحدس.

■ ■ ■

عالم الكلمة واسع، أما الشكل البصري فهو تعس.

■ ■ ■

خنزير يسند الجدار

■ ■ ■

حيرة يمضغها النسيان، كما يمضغ الخريف أوراق شجر اللوز

■ ■ ■

لا تحزن.

كلُّ الملائكة بلا أحذية… بلا ظلّ

على كلّ حال، يمكنك أن تمرّ

أنت أيضاً بلا ظلّ

■ ■ ■

إليكِ كبِدُ هذا الملاك

■ ■ ■

هارب من مدخنة إلى مدخنة

■ ■ ■

فُكّ قيدي.

فكّه بخاتمك، يا سليمان الملك،

أنا مغلولك منذ ألف ألف عام.

شهادات في التجربة

عالم فجائعي

سعيد حورانية *

عالم فاتح المدرّس القصصي، كعالم كافكا، مأساوي ومظلم، ولكن كافكا يصل بنا إلى درجة اللاجدوى، بينما تحس بأن فاتح المدرّس، رغم كون الشرّ يطحن الخير في كل قصصه، ورغم أن أبطال أربعة من خمس قصص، ينتهون بالموت المجاني، نتيجة الظلم الاجتماعي وجبروت الطبيعة، فإن القارئ يحس بموجة عارمة من السخط والحقد، تتجاوز مرحلة التأثر إلى الفعل، فاللامعقولية عند كافكا يحل محلها عند فاتح آلية العلاقات الطبقية-الإقطاعية الشرقية الاستبدادية في القصص، فهي تضعك أمام العدو وجهاً لوجه. ورغم هزيمة الأبطال المحتومة، فهي هزيمة لا تضع القارئ على حافة اليأس، وإنما على طريق التغيير، فلا معنى هنا لاتهام فاتح بالتشاؤم، فمنطق الموت والمأساة في الفن يتجاوز اليومي ليصبح الرمز للنضال ضد عذابات الإنسان وضد مسببيها.

وإمعاناً في شحن المأساة بأكثر أعماقها حدة، يستخدم فاتح الطفولة المقتولة كذبح للبراءة في نظام لا إنساني مطلق الاستغلال. قصص فاتح كأفضل لوحاته، وبعضها كـ «عود النعنع» و«رشو آغا»، من أفضل ما كتب أدباء العربية على الإطلاق.

* كاتب سوري

صيّاد نور

نزيه أبو عفش *

الذين يعرفون فاتح المدرس يعرفون أنه، لشدة ما قدّس الحياة، آلمته الحياة. ولشدّة ما تألم، تألم كمسيح، لكن دون أن يأمل بيوم ثالث يقوم فيه، تألم لحساب أن تخلد قيمة الجمال ويعلو شأن الروح، لأنه بفطرة الحكيم البدائي، استطاع أن يميّز بين العدالة وبين الطنين الزائف للشعار الخبيث، وبالتالي عرف كيف يعثر على إجابات الأسئلة الكبيرة، من دون لجوء إلى القواميس.

فاتح المدرس ليس مسيحاً ليمشي فوق الماء… إنه قادر ـ في لحظة قنوط ما ـ أن يغرق في الصخر.

يقهر الليل بالتمائم ويخضع الخوف بالأغاني، ولكن.. دونما ادعاء، دونما أوهام بطولة، دونما جلبة قبل كل شيء. شاعر إبليس، مشعوذ خفيف العين واليد والعقل كمحطمي خزائن البنوك… لكنه لا يسطو – من أنقاض الدنيا – إلاّ على النور.. صياد نور.. ومشعوذ.. إنما لا يرقِّص السعادين أو الأفاعي، ولا يخرج من سلته أرانب أو حماماً أو مناديل حمراء للعاشقات.

* شاعر ورسّام سوري

شمس في حفرة

جولان حاجي *

مرسم فاتح المدرس، في ساحة النجمة الدمشقية، كهفٌ مكتظّ بالأزمنة، تسكن معه أرواح أطفال لم يُولدوا قطّ، أو دفنوا أحياء في أرحام أمهاتهم، أو ماتوا مثل ابنته هلفي التي انفجر قلبها، وأبقى حذاءها الصغير معلقاً إلى الجدار كالتعويذة. ينتشل من تحت ركام أوراقه مفكّرة. كتب أحدهم على إطارها: «لا يجوز لمن يحفر بئراً أن يحفر قبراً»، (شمس الأئمة السّرَخْسيّ). هل سيخطر للرسّام أنّ «حفر البئر» كناية شعبية عن «فضّ البكارة»؟ سيعثر لدى إمام الحنفيّة على صورة أخرى تتقاطع فيها المصائر. عُوقب السرخسي بالسجن داخل بئر معطّلة ذات أدراج، أمضى فيها كالمدفون حياً خمس عشرة سنة، محروماً من الكتب والضوء. وبرغم ذلك، أملى شروح كتابه الضخم «المبسوط» على تلامذته الذين كانوا يتحلّقون حول فم الحفرة، يدوّنون في قراطيسهم ما يلقّنهم إياه بالهتاف من الظلام تحت الأرض. كان زاد المحبوس ذاكرته. كانت غزارته نزالاً مع اليأس والظلم والنسيان. آلاف الصفحات عبر السنين. تداول الناس أن ربّه قد سخّر له جنياً في البئر يُعِينه على التذكّر والتأليف، ففيهما عزاؤه الوحيد.

«مَن سجنني؟» يتساءل فاتح المدرس، ويجيب نفسه: «الذي يحاصرني مجهول».

■ ■ ■

رباعيات الشعر الياباني نبّهت فاتح المدرّس إلى ما يُسمّى «الأبعاد السحيقة لمجالات الإحساس». لعله صادف حكاية التلميذ الذي ألقى على باشو قصيدة هايكو كتبها أثناء تجوالهما في الحقول محفوفين باليعاسيب: «يعسوب أحمر/ انزعْ جناحيه/ يصِرْ قرن فلفل»، فأجابه المعلّم الناسك المترحّل: «مات اليعسوب. أهكذا تخلق الحياة؟ قرون الفلفل الأحمر/ ضعْ لها الأجنحة/ وانظرْ: اليعاسيب». وصاياه مليئة بالمفارقات، وإحداها: «تجنّبْ أسماءَ التفضيل تزددْ حباً للعالم وتقلّ رغبتك فيه».

■ ■ ■

«أين اختفت تلك الأغنيات؟»

يرفع فاتح المدرس المنفضة البرتقالية، علبة سجائر الحمرا الطويلة، القداحة البيضاء، الهاتف الأخضر. يزيح صورة غوغول، الشمعدان ذا الشموع الثلاث البيضاء الذائبة، عدداً من الرسائل والمحابر الفارغة، إناء الزهور الميتة. يقلب الأشرطة: نصرت فاتح علي خان، بول بغداديان، محمد رضا شجريان، وديع الصافي، عارف صاغ… ولا يجد زكي مورِن.

«أين اختفت؟»

يجلس على كرسي الخيزران. لا يستطيع الآن أن يتذكّر أيّ زائر من زواره الكثيرين ترك له الشريط، وقد باغتتْ روحَهُ هذه الإشارة: الشبه الصريح بين وجهه ووجه المغنّي التركيّ. الحاجبان فاحمان طويلان أشعثان فوق مُقلتين مكحّلتين. نظرةٌ في بريقها مرحُ الغريزة وأساها، تتوقّد باللذّة والألم معاً كما تلتمع العيون المتيقّظة للجنّ الذين يقطنون الآبار والمفترقات والخرائب. خفافاً مثلَه يتنقّلون من عالمٍ إلى آخر، من سرّ إلى سرّ. في بحر الأخطاء المسمى «الحياة»، يلازمه عالمٌ آخر، لصيقٌ به ويتوقُ إليه. لا ينتهي قلقُ المتنقّلين بين عالمين. يخترق فاتح الجدار تلو الجدار. يزيح أولاً جدار العقل، فيطلّ على فراغ الكون الشبيه برحم كبير. اعتقاده أنّ الملتقى الحقيقي لأعماله هو زمان ومكان آخران غير مرئيين.

* شاعر سوري

ملحق كلمات

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى