سياسة

جولة بايدن في الشرق الأوسط .. حدود النجاح والفشل -مقالات مختارة-

جولة بايدن في الشرق الأوسط .. حدود النجاح والفشل في استدراك نفوذ واشنطن المتراجع

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

أجرى جو بايدن أول زيارة له، بوصفه رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، إلى منطقة الشرق الأوسط، في الفترة 13-17 تموز/ يوليو 2022، شملت إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة والمملكة العربية السعودية. وشارك أيضًا من إسرائيل في قمة افتراضية مع قادة المجموعة الاقتصادية الجديدة I2U2، التي تضم كلًا من الولايات المتحدة والهند والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل. وقد تفاوتت التقديرات بشأن نجاح زيارته أو فشلها في تحقيق أهدافها، في ضوء غياب معطياتٍ كثيرة تساعد في الجزم بذلك.

إطار الجولة وأهدافها

من الواضح أن جولة الرئيس الأميركي في منطقة الشرق الأوسط ما كانت لتتم، لولا الظروف التي أحدثتها الحرب الروسية على أوكرانيا مطلع هذا العام، والتي كانت لها تداعيات كبيرة، سواء على وضع بايدن الداخلي، أو على الاقتصادين، الأميركي والعالمي، أو على مصالح الولايات المتحدة في العالم. وقد عبّر بايدن عن ذلك بوضوح في المقال الذي نشره في صحيفة واشنطن بوست عشية الجولة، وحاول من خلاله تبرير زيارته إلى السعودية خصوصًا، التي كان وعد خلال حملته الانتخابية بأن يعاملها باعتبارها دولة منبوذة، قبل أن يفرج عن تقرير لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية يتهم ولي العهد محمد بن سلمان بالمسؤولية عن قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في اسطنبول عام 2018.

وتُعدّ زيارة بايدن إلى المنطقة تطويرًا لمقاربة إدارته في السياسة الخارجية، التي ركّزت على احتواء الصين، باعتبارها الخصم الاستراتيجي الرئيس للولايات المتحدة في آسيا، وقد جاء ذلك على حساب وجود واشنطن في مناطق أخرى من العالم، مثل أوروبا والشرق الأوسط. وقد كشف الغزو الروسي لأوكرانيا عن مدى تراجع النفوذ الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصًا في ضوء انكفاء واشنطن عنها وتراجع اهتمامها بها، ولا سيما بعد الانسحاب من أفغانستان؛ إذ رفض أغلب حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، بما فيهم السعودية والإمارات ومصر وإسرائيل، إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، وتجاهلت السعودية والإمارات طلباتٍ أميركيةً متكرّرة بزيادة إنتاجهما من النفط لخفض الأسعار، وتسهيل استغناء أوروبا عن النفط الروسي، في حين رفضت تركيا الالتزام بالعقوبات الغربية على روسيا، على الرغم من أنها دعمت الموقف الأوكراني في الحرب. ومن هذا الباب، أرادت إدارة بايدن أن تعلن عبر هذه الجولة عودتها بقوة إلى المنطقة وأنها “لن تنسحب منها وتترك فراغًا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران”، وخاصة في ضوء التقارب المتنامي بين هذه القوى الثلاث، وتصاعد مستوى التعاون العسكري والأمني السري والعلني بين إسرائيل وعدد من الدول العربية. ويبدو أن بايدن ظل متردّدًا بشأن زيارته إلى السعودية، حتى قبل الإعلان عنها بوقت قريب، إلا أن جملة أسباب دفعته إلى حسم موقفه في اتجاه القيام بها، أهمها تزايد التقارير الاستخبارية التي تؤكد تنامي نفوذ الصين الاقتصادي في المنطقة، وسعي بعض حلفاء واشنطن الخليجيين إلى تعميق الشراكات التجارية القائمة، والتوصل حتى إلى شراكاتٍ استراتيجية معها ومع روسيا، ومحاولة شراء أسلحة منهما، بسبب التعقيدات التشريعية والإجرائية الأميركية في هذا المجال، وفي ضوء وقف واشنطن مبيعاتها من الأسلحة الهجومية، خصوصا إلى السعودية، إضافة إلى أزمة الطاقة العالمية التي تهدّد حظوظ الديمقراطيين في الانتخابات النصفية القادمة وتراجع التأييد الشعبي للرئيس بايدن.

وتطمح إدارة بايدن عبر تبنّيها سياسة أكثر انخراطًا في الشرق الأوسط إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة:

(1): إبعاد حلفائها في الخليج، وعموم منطقة الشرق الأوسط، عن الصين وروسيا، والتأكيد على شراكاتها الاستراتيجية معهم. وفي هذا السياق، يفسَّر توقيت نشر واشنطن صور أقمار صناعية في أثناء وجود بايدن في جدّة، تظهر زيارة مسؤولين روس إلى إيران في حزيران/ يونيو 2022 لاستكشاف إمكانية الحصول على طائراتٍ من دون طيار إيرانية الصنع لاستخدامها في حرب أوكرانيا؛ إذ كان هدف بايدن كشف عمق التعاون بين روسيا وإيران للحلفاء العرب، وخصوصًا أن السعودية والإمارات تحتفظان بعلاقات قوية مع موسكو.

(2): دمج إسرائيل ودول عربية في منظومة أمنية إقليمية لمواجهة إيران، في حين تستمر إدارة بايدن في محاولات إحياء الاتفاق النووي معها. وفي هذا السياق، جاء تأكيد بايدن من إسرائيل أن إدارته ستُبقي خيار القوة العسكرية على الطاولة ضد إيران إن لم تفلح الجهود الدبلوماسية معها، لطمأنة الحلفاء بالتزام واشنطن بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي. وتُعدّ التغييرات التي اتُخذت داخل الجيش الأميركي، في أيلول/ سبتمبر 2021، بنقل إسرائيل من مسؤولية القيادة الأوروبية للقوات الأميركية إلى القيادة المركزية الوسطى التي تغطي المنطقة بين أفغانستان ومصر، خطوة في هذا الاتجاه. وتأمل إدارة بايدن قيام هيكل أمني إقليمي في المنطقة، بدعم أميركي، يخفّف من انخراطها المباشر في قضايا الشرق الأوسط الأمنية ومن أعبائه الاقتصادية.

(3): دفع دول الخليج العربية إلى زيادة إنتاجها من النفط والغاز لخفض أسعار النفط التي تُعدّ من أسباب ارتفاع الأسعار والتضخم في الولايات المتحدة، ولتشجيع دول أوروبا على الاستغناء عن الواردات من روسيا، وبما يؤدي أيضًا إلى إضعاف روسيا عبر حرمانها من عائدات النفط التي تمثّل مصدر الدخل الرئيس لها.

المبادئ الخمسة للالتزام الأميركي بمنطقة الشرق الأوسط

حدّد بايدن خلال قمة جدة خمسة “مبادئ توضيحية” للدور الأميركي في الشرق الأوسط في العقود المقبلة، هي:

(1): الشراكات: ستدعم الولايات المتحدة وتعزز الشراكات مع الدول التي تحترم النظام الدولي القائم على القواعد المؤسِّسة له، وستعمل على مساعدتها في الدفاع عن نفسها ضد التهديدات الخارجية.

(2): الردع: لن تسمح الولايات المتحدة للقوى الأجنبية أو الإقليمية بتعريض حرية الملاحة عبر الممرات المائية للخطر، بما في ذلك مضيق هرمز وباب المندب، ولن تتسامح مع جهود أيّ دولة للسيطرة على دولة أخرى، أو المنطقة، من خلال القوة العسكرية أو التوغلات أو التهديدات.

(3): الدبلوماسية: لن تكتفي الولايات المتحدة بردع التهديدات التي يتعرّض لها الاستقرار الإقليمي فحسب، بل ستعمل على تقليل التوترات، ووقف التصعيد، وإنهاء النزاعات حيثما كان ذلك ممكنًا من خلال الدبلوماسية.

(4): التكامل: ستقوم الولايات المتحدة ببناء روابط سياسية واقتصادية وأمنية بين شركائها كلما أمكن ذلك، مع احترام سيادة كل دولة وخياراتها المستقلة.

(5): القيم: ستعمل الولايات المتحدة على تعزيز حقوق الإنسان والقيم المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة.

وقد اتفقت الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، إضافة إلى مصر والعراق والأردن، على عدد من المبادرات، أهمها:

(1): ضمان الأمن الغذائي للفئات الأكثر ضعفًا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ إذ خصصت واشنطن مبلغ مليار دولار مساعدات، في حين تعهّدت دول الخليج العربية بتقديم 10 مليارات دولار، ولكن لا يبدو من الصياغة أنه تعهّد ملزم.

(2): وافقت دول مجلس التعاون على استثمار 3 مليارات دولار في المشاريع التي تتوافق مع أهداف مبادرة الشراكة في البنية التحتية والاستثمار العالمية PGII التي أقرتها مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى في قمتها الأخيرة في ألمانيا، أواخر حزيران/ يونيو 2022، لإنشاء بنية تحتية عالية الجودة لتحسين حياة الناس حول العالم، وتعزيز سلاسل التوريد وتنويعها، وخلق فرص عمل جديدة.

أما فيما يتعلق بـ “التعاون الدفاعي الجوي والبحري المتكامل” الذي من المفترض أن يضم إسرائيل، فقد أكد بايدن التزام الولايات المتحدة بتسريع العمل الجاري مع الحلفاء والشركاء في الشرق الأوسط لدمج وتعزيز التعاون الأمني فيما بينهم، وعلى وجه الخصوص تطوير بنية دفاعية جوية وصاروخية أكثر تكاملًا وشبكات إقليمية لمواجهة انتشار الأنظمة الجوية والصواريخ والطائرات من دون طيار إلى أطراف غير حكومية تهدد السلام والأمن في المنطقة.

وفي هذا السياق، قام بايدن بأمر غير مسبوق، وهو الدعوة الصريحة إلى فصل مساعي التطبيع العربي مع إسرائيل عن القضية الفلسطينية. ومما زاد من خطورة هذه الدعوة تصريحاته التي أدلى بها في فلسطين، وأكد فيها أنه يدعم حل الدولتين، ولكنه لا يرى أفقًا لتحقيقه في الحاضر؛ وهذا يعني أنه يدعو الدول العربية إلى التطبيع ليس فقط من دون تحقيق أيّ تقدّم في حل القضية الفلسطينية، بل يسلّم، ويدعو عمليًا إلى التسليم، بأنه لا يوجد حل قريبًا.

تحديات أمام المقاربة الجديدة

تواجه مقاربة إدارة بايدن تحديات كبيرة في إطار سعيها لاستعادة الولايات المتحدة مكانتها ونفوذها في المنطقة، واحتواء تداعيات انكفائها عنها خلال العقد الماضي، وأهم هذه التحدّيات:

(1): احتواء الصين

على الرغم من تأكيد بايدن أن الولايات المتحدة لا تنوي ألبتة ترك فراغ في منطقة الشرق الأوسط تملؤه الصين أو روسيا، ورغبتها في أن تحذو دول الخليج حذو أوروبا في تقليل اعتمادها على الصين، خاصة في مجال التكنولوجيا والبنية التحتية، فإن الواقع القائم يوحي بصعوبة تحقيق ذلك. فقد باتت الصين الشريك التجاري الأول لدول مجلس التعاون منذ عام 2019، بعد أن أزاحت الاتحاد الأوروبي عن هذه المرتبة، بقيمة إجمالية بلغت 180 مليار دولار. وفي حين بلغت قيمة التجارة بين الولايات المتحدة والسعودية 19.7 مليار دولار عام 2020، بلغت قيمة المبادلات التجارية بين الصين والسعودية 65.2 مليار دولار في العام نفسه. ويعود ذلك إلى أن السعودية ظلت حتى الغزو الروسي لأوكرانيا تحتل المرتبة الأولى في صادرات النفط إلى الصين. وقد نجحت الصين في ضمان تعاون عدد من دول الخليج مع مبادرة الحزام والطريق، وتعمل على تنفيذ عقود كبيرة لنشر شبكات الاتصال في المنطقة عبر شركة هواوي Huawei. ولا تقتصر العلاقات الخليجية – الصينية على الجوانب الاقتصادية فحسب، بل تعدّتها إلى جوانب استراتيجية؛ ففي كانون الأول/ ديسمبر 2021، تدخّلت الولايات المتحدة لوقف بناء ميناء رئيس في أبوظبي من جانب شركات صينية، وفي نيسان/ أبريل 2022، تدخلت لوقف صفقة كبيرة تشتري بموجبها السعودية أسلحة صينية. وكانت الرياض وبيجين أبرمتا “شراكة استراتيجية” في عام 2016 مرتبطة بـ “تعاون مستقر طويل الأجل في مجال الطاقة”. ونجحت بيجين في إقناع الرياض، في عام 2021، لتصبح “شريكًا في الحوار” في منظمة شنغهاي للتعاون. والواقع أن دول الخليج تُبدي ارتياحًا أكبر في التعامل مع الصين؛ لأن ذلك يأتي من دون شروط أو محاضرات عن حقوق الإنسان.

وعلى الرغم من ذلك كله، تبقى السعودية ودول الخليج الأخرى معتمدة على نحو كبير على الأنظمة الدفاعية الأميركية، ولن يكون تغييرها سهلًا. وقد تبيّن خلال ما تعرّضت له السعودية والإمارات أخيرا من هجمات صاروخية أن الصين وروسيا لا تمثّلان بديلًا على الإطلاق. وإضافة إلى ذلك، لا تطمح الصين إلى أن تؤدي دورًا أمنيًا في المنطقة أو منافسة واشنطن في هذا المجال، بل تركّز على تطوير علاقاتها الاقتصادية فيها، فضلًا عن أن علاقة الصين القوية بإيران تثير شكوكًا لدى الرياض وأبوظبي، الأمر الذي يمنع أيّ رهانات على دور لها في أيّ صراع مستقبلي مع طهران.

(2): التعامل مع إيران

على الرغم من حرص إدارة بايدن على طمأنة حلفائها، بأنها لن تسمح لإيران بالحصول على سلاح نووي إن فشلت المفاوضات، وبأنها ستعمل معهم لمواجهة سياساتها “المزعزعة للاستقرار”، فقد كان لافتًا الاختلاف الكبير بين لغة “إعلان القدس للشراكة الاستراتيجية الأميركية – الإسرائيلية” الذي صدر في ختام زيارته لإسرائيل، والبيان الختامي لقمة جدة. ففي الأول، كان هناك تأكيد من الولايات المتحدة على “استخدام عناصر قوتها الوطنية جميعًا” لمنع إيران من الحصول على سلاح نووي، أما بيان جدة فقد فشل في تشكيل جبهة موحدة ضد إيران، ولم يُشر إلى قيام اتفاق أمني يشمل دولًا عربية وإسرائيل، كما ذهبت العديد من التحليلات الإعلامية المتسرّعة التي أسقطت ما جرى بين الإمارات والبحرين والمغرب وإسرائيل، وهو خطير في حد ذاته، على الدول العربية كافة.

(3): إمدادات الطاقة

مثّلت زيادة إنتاج النفط أحد الأهداف الرئيسة لجولة بايدن الشرق الأوسطية، لكن السعودية والإمارات أكّدتا أنهما تضخّان بأقصى طاقة لديهما. ومع أن بايدن حرص على تأكيد أنه حصل على تعهّدات بضخّ البلدين مزيدًا من النفط لخفض أسعاره عالميًا، فإن البيان السعودي حول الاتفاقيات المشتركة مع الولايات المتحدة لم يُشر إلى ذلك، في حين ذكر بيان البيت الأبيض أن من المتوقع اتخاذ خطوات “خلال الأسابيع المقبلة” من شأنها “المساعدة في استقرار الأسواق”. وترهن السعودية والإمارات ضخّ مزيد من النفط في الأسواق العالمية بالتنسيق مع الدول المنتجة للنفط في “أوبك بلس”.

(4): دمج إسرائيل في المنطقة

لم تفتأ إدارة بايدن تردّد عزمها على دمج إسرائيل ضمن إطار أمني إقليمي، وتوسيع دائرة التطبيع العربي معها ضمن “اتفاقات أبراهام”. ومع ذلك، كانت “النجاحات” المعلنة في هذا الصدد محدودة، وكانت غالبًا بمبادرة الدول العربية الثلاث المعنية وإسرائيل.

ويجري تنسيق أمني وسياسي مع دول عربية أخرى، بعضها طبّع علاقاته في السابق، مثل مصر والأردن، وبعضها لم يطبّع علاقاته بعد مثل السعودية. وفي هذا السياق، نجحت إدارة بايدن في إقناع السعودية بفتح مجالها الجوي “أمام جميع شركات النقل الجوي”، بما يشمل إسرائيل، إلا أن الرياض قالت إن هذه الخطوة لا تعني تطبيعًا مع إسرائيل، الذي يبقى مرهونًا بقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. كما أعلن بايدن أن قوات حفظ السلام المتعدّدة الجنسيات ستغادر جزيرة تيران الواقعة في البحر الأحمر، التي كانت مصر قد تنازلت عنها للسعودية في عام 2017، وهو ما عدّه مراقبون مؤشرًا على أن الرياض وتل أبيب تتجهان نحو التطبيع. والجدير ذكره هنا أنه توجد قوات دولية، بما فيها أميركية، في الجزيرة منذ عام 1981، باعتبارها جزءًا من اتفاق السلام المصري – الإسرائيلي في عام 1978، ما يعني قبول السعودية بالالتزامات المصرية نحو الجزيرة في ذلك الاتفاق.

خاتمة

ما زال مبكرًا الحكم على مدى نجاح زيارة بايدن إلى المنطقة أو فشلها، خاصة في ضوء وجود مؤشرات متضاربة حولها. وعلى الرغم من وجود تنسيق أمني إماراتي – بحريني واسع مع إسرائيل، فإن واشنطن لم تنجح في إنشاء منظومة أمنية إقليمية تضمّ دولًا عربية أخرى، على الأقل في العلن حتى الآن. ومع أن بايدن تحدّث عن تأكيداتٍ خاصة بزيادة الشركاء الخليجيين، وتحديدًا السعودية، لإنتاجهم من النفط، فإنه لا توجد دلائل على حصول زيادة كبيرة تُحدث فارقًا في سوق النفط العالمية. أما فيما يتعلق بالتصدّي للنفوذ الصيني المتصاعد في الخليج، فلا شك في أن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بالأفضلية هناك، إلا أن الصين أصبحت واقعًا لا يمكن تجاوزه في المنطقة، على الأقل من الناحية الاقتصادية.

العربي الجديد

—————————

قمتا جدّة وطهران والرد الروسي/ عمار ديوب

فشل الرئيس الأميركي، بايدن، في الحصول على وعود إيجابية بخصوص زيادة واردات الطاقة أو تعزيز التنسيق الأمني والعسكري مع إسرائيل. وبالتأكيد، ليس هناك تغيير في سياسات دول الخليج التي خرجت عن التبعية للولايات المتحدة. صحيح أن اثنتين من هذه الدول تشهدان علاقات متسارعة مع إسرائيل، ولكن أن يقول الرئيس الأميركي إنه ليس من الضرورة أن يكون المرء يهودياً ليكون صهيونياً، وإنه صهيوني، فهذا يعني أن أميركا ليست معنيةً بالدفاع عن دول المنطقة، أو أنها ستقيم معها علاقاتٍ متساوية، بل تريدها خاضعة لإسرائيل، وهذا ما قاله بايدن بأنه يريد لإسرائيل أن تكون متفوقة.

أفكار بايدن هذه لا تشجع مطلقاً دول المنطقة، وتحديداً دول الخليج، على الانتقال من عدم الثقة إلى الثقة المفرطة بأميركا، كما كان يشتهي بايدن. عكس ذلك، بدت تلك الدول مهتمةً بإعادة العلاقات مع إيران، وقد صرحت كل من السعودية والإمارات بخصوص ذلك في أثناء الزيارة، وبالتالي، التنسيق مع إسرائيل لا يعني مواجهة إيران؛ تختلف إسرائيل في ذلك، حيث تريد تلك المواجهة، وحتى أميركا لا تتفق مع إسرائيل حيث تستمر بالمفاوضات النووية، رغم تعثرها أخيراً. دول الخليج واعية لهذا الأمر، وقد طالبت، سنوات طويلة، بإيقاف ذلك الاتفاق، كما فعل الرئيس السابق، ترامب، وبالتالي، وما دامت أميركا ساعية نحو إيران، فالأحق بتلك الدول أن تُحسّن هي علاقاتها مع إيران، وهذا ما تريده الأخيرة عبر الوساطة العراقية للتقارب، وعبر العلاقات التي تعقدها دول الخليج وإيران مع روسيا والصين، وتجدان في ذلك بديلاً من العزلة والغطرسة الأميركية وسياساتها الانتقادية بخصوص ملف حقوق الإنسان والديموقراطية.

لم يتأخر بوتين عن زيارة طهران، رغم الحديث عن كونها مبرمجة منذ أشهرٍ. بوتين، المعزول أوروبيّاً وأميركيّاً، سيذهب إلى كل قمّة يدعى إليها، فهو بذلك يعيد الثقة لنفسه، فكيف إن كان مكان اللقاء طهران، حيث بين الدولتين مصالح مشتركة كثيرة، ووقعتا اتفاقيات اقتصادية وعسكرية وأمنية كثيرة، وهما معاقبتان أميركياً وأوروبياً، وهما توجدان في اتفاقيات عديدة، بريكس وشنغهاي مثلاً، وهذا يأتي بعد العلاقة الوثيقة بين طهران والصين، والاستنتاج المباشر هنا أن بوتين يريد تشكيل حلف قويّ، رأسه روسيا والصين وإيران والمحيط الأوراسي ودول البريكس وشنغهاي، وهذا بدوره يعزّز عسكرة العالم وتحويله إلى أحلاف.

أن تنعقد قمة بين الرؤساء، التركي والروسي والإيراني، رغم أن دولة الأول ضمن حلف شمال الأطلسي، ولم يستطع الأخير جذبها إلى تطبيق العقوبات على روسيا كما فعلت دول الحلف، بل وعزّزت تركيا علاقاتها مع روسيا، وتحاول الاستمرار بسياسة الحياد بين أوكرانيا وروسيا، ولعب دور الوسيط بينهما، ونجحت في عقد اتفاقٍ لنقل الحبوب، وقد يضع بوتين توقيعه عليه بطلب من أردوغان في طهران. أكثر من ذلك، يسعى الرئيسان، أردوغان ورئيسي، لأن تكون العلاقة بين بلديهما تعاوناً استراتيجياً، وأن تتجاوز العلاقات التجارية الـ30 مليار دولار. الموضوع الأوكراني أحد مواضيع النقاش في طهران بين التركي والروسي، ورغم أن اللقاء ينعقد بصورة أساسية استكمالاً لمسار أستانة، الخاص بمتابعة الشأن السوري، ومناقشة العملية العسكرية التركية المحتملة.

أن يأتي بوتين إلى طهران، فهذا مؤشّر على فشل بايدن، ورد مباشر على الأخير في جدّة، وليس على دول الخليج، التي زارها قبل أزيد من شهر وزير الخارجية الروسي، لافروف، من أجل تعزيز العلاقات، وهو ما تحبّذه تلك الدول، حيث تخلت أميركا عن رعايتها، وتعاملت مع سياساتها برفضٍ كبير، وحتى ترامب ابتزّ تلك الدول، وأساء إلى أنظمتها بصورة كبيرة. وبالتالي، في ظل أزمة عالمية كبيرة، كالحرب الروسية على أوكرانيا، استغلت تلك الدول الحاجة الأميركية للمهادنة معها، ولا سيما أن بايدن أتى من أجل حل مشكلة نقص موارد الطاقة في أوروبا خصوصاً، واستبدال الخليجية منها بالروسية. يعي قادة الخليج ذلك جيداً، وثقتهم منهارة بالأميركان، وبالتالي، لم تكن زيارة بايدن، التي كثرت فيها الاتفاقيات بين أميركا والسعودية، أكثر من محاولة لتداول الأراء، لتتمكّن واشنطن من التفكير العقلاني والهادئ، ولتُدفَع إلى انتهاج سياسة أميركية جديدة وجادّة تجاه الخليج. وبالتأكيد، يجب أن تطوي أخطاء بايدن باعتبار نفسه صهيونياً، وإيجاد حل للقضية الفلسطينية، وتهميش إعلان القدس الذي يتجاهل الحقوق الفلسطينية، وفي مقدمتها أن تكون القدس عاصمة فلسطين وتنفيذ حل الدولتين.

تبدو دول الخليج غير راغبة في الانخراط بالتحالفات الدولية، وحتى إسرائيل لديها انتقادات للسياسات الأميركية، ولا سيما رؤية الأخيرة عن ضرورة الاتفاق النووي. تركيا أيضاً تتحفّظ على تلك السياسات، ولا سيما بما يتعلق الأكراد في سورية، وتتبنّى الحياد رغم أنّها عضوٌ في حلف الناتو، وترفض استمرار العقوبات على إيران. الرئيس الأميركي يطلب من دول الخليج الانخراط ضمن سياسات حلف الناتو وعزل روسيا، حيث أكد أن أحد أهداف زياراته عدم ترك المنطقة لروسيا أو الصين، وبالتأكيد ليس لإيران، أي بعكس سياساته السابقة، ومنذ ترك الأميركان المنطقة بأكملها بفم طهران، ولكن ليس من ثقة خليجية في السياسات الجديدة هذه.

يعزّز مؤتمر طهران علاقات الدول الثلاث، ودول الخليج لا ترى هذا إيجابياً؛ لم تناقش محاور النقاش في طهران التدخل الإقليمي لإيران في الدول العربية، ولم تناقش تدخلية الدور التركي في سورية أو العراق، ولم تعمل من أجل إنهاء الملف السوري أو اليمني، وهي قضايا عربية بامتياز، وتهمّ كل الدول العربية وليس فقط الخليج. سياسات الدول الثلاثة وكذلك سياسات بايدن المحابية لإسرائيل تدفع الدول العربية إلى إعادة علاقاتها مع الدول المحيطة بها، من زاوية مصالحها. ولهذا تنامت العلاقات بين الدول العربية وتركيا وإسرائيل وإيران.

مشكلة الدول العربية في غياب سياسات متحدة فيما بينها، وكمرجعية في العلاقة مع الدول الإقليمية، وبالتالي، “تصطادها” إسرائيل تارة أو إيران أو تركيا، وتكون عرضة لعلاقاتٍ غير متكافئة مع أميركا أو روسيا. في الأزمة التي تتصاعد عالمياً، تتجه الدول العربية إلى عدم الاصطفاف مع روسيا أو الصين أو أميركا. ولهذا، لن تستجيب لرغبات بايدن في الانحياز إلى حلف الناتو أو تطبيق العقوبات على روسيا، وعلى الضفة الأخرى، لن تستجيب لرغبات بوتين في الوقوف معه ضد أوكرانيا. الحياد سياسة معقدة للغاية في عالم يتعسكر بقوة شديدة، ولكنه الخيار الأفضل للدول “الضعيفة”.

هل ستتمكّن روسيا من تشكيل قطبٍ جديد مع إيران وتركيا؟ لإيران مصالح كبرى مع روسيا، والآن تتجه الدولتان إلى إقامة علاقات استراتيجية بينهما، وهذا لن يتغيّر في حال الوصول إلى الاتفاق النووي، ولكنه سيسمح لإيران بالقدرة على “الحيادية” في العلاقة مع دول العالم الأساسية، وبالتالي، ستباشر سياسة دولية أقرب إلى دول الخليج؛ طبعاً إن أعيد العمل بالاتفاق النووي.

مشكلة إيران مع دول المنطقة، وكذلك تركيا ستظل قائمة، رغم كل محاولات التقارب معها، وحتى روسيا لن تكون بديلاً لأميركا، ولكن الأخيرة تحتاج سياسات جديدة تدفع الدول الخليجية نحو علاقات أكثر موثوقية. إذاً، رغم القمتين الأساسيتين في جدّة وطهران، الهامتين، ورغم الاتفاقيات التي عقدت، والكلام عن علاقات استراتيجية، لا تزال المنطقة تعاني من المشكلات السابقة لزيارة الزعيمين؛ فلا رغبة عربية في التطبيع الكامل مع إسرائيل، ولا الخليج المتّجه نحو علاقاتٍ مع دولٍ وازنة عالمياً عزّز ثقته بأميركا من جديد، ولبى الحاجة الأميركية للطاقة، والعقوبات مستمرّة على طهران، والاتفاقات الصينية والروسية ليس بمقدورها حل المشكلات المستعصية في إيران، ولم تغادر تركيا موقعها البيْن بيْن، بين روسيا وحلف الناتو.

العربي الجديد

—————————

عودة إلى المنطقة أم جولة كاشفة لتراجع الهيمنة الأميركية؟/ حسن نافعة

انتهت جولة الرئيس الأميركي، جو بايدن، أخيراً، في منطقة الشرق الأوسط، وزار خلالها إسرائيل وبيت لحم والسعودية، وحضر قمة أميركية عربية، شاركت فيها دول عربية، يفترض أنّها حليفة: مصر والأردن والعراق ودول مجلس التعاون الخليجي. ولأنّ الهدف الرئيسي من الجولة تأكيد العودة الأميركية إلى منطقةٍ تعتبرها الولايات المتحدة ذات أهمية جيوسياسية حيوية، كي لا تصبح في حالة “فراغ” يخشى أن تتمكّن قوى دولية منافسة من ملئه، فمن الطبيعي أن نتساءل عمّا إذا كانت قد تمكّنت من تحقيق الهدف المرجو منها، وما إذا كان يمكن القول إنّ الولايات المتحدة أصبحت الآن في وضعٍ يسمح لها بالاطمئنان إلى عودة نفوذها القديم في المنطقة؟

لتقديم إجابة دقيقة قدر الإمكان على هذا السؤال المحوري، ربما من المفيد أن نحاول أولاً استعادة الصورة التي كانت عليها علاقة الولايات المتحدة بالمنطقة إبّان فترة إدارة الرئيس السابق ترامب، ونقارنها بالتغييرات التي وعد بايدن بإدخالها على شكل هذه العلاقة ومضمونها، إبّان حملته الانتخابية، كي يكون بمقدورنا قياس حجم التغيير الذي تمكّنت جولة بايدن في المنطقة من تحقيقه بالفعل، مقارنة بحجم التطلعات التي هدفت إلى تحقيقها قبل انطلاق هذه الجولة في 13 يوليو/ تموز الحالي… ومعروفٌ أن ترامب كان قد نجح في إدخال تغييراتٍ عميقة على سياسة أميركا الخارجية تجاه منطقة الشرق الأوسط، شملت بعدين رئيسيين:

الأول: يتعلق بالموقف من قضايا حقوق الإنسان، حيث اعتقد أن ربط سياسة أميركا الخارجية بحقوق الإنسان يشكّل عائقاً كبيراً قد يحول دون تمكين الولايات المتحدة من تحقيق مصالحها على الساحة الدولية على النحو الأكمل، خصوصا حين تكون المنافسة محتدمةً مع قوى عالمية لا تؤمن أصلا بالديمقراطية، على الأقل في صيغتها الليبرالية الغربية، مثل روسيا والصين. ولأن ترامب رفع شعار “أميركا أولا”، فقد بدا مستعدّا للتعامل مع أي نظام سياسي في العالم يُبدي تجاوبا مع المصالح الأميركية، بصرف النظر عن موقف هذا النظام من قضايا حقوق الإنسان، وما إذا كان متّهما بانتهاكها داخل بلاده أم لا، وهو ما قوبل بارتياح شديد من معظم النظم العربية، خصوصا من النظامين السعودي والمصري، اللذين اعتمد عليهما ترامب اعتمادا رئيسيا في تمرير سياسته الخارجية تجاه المنطقة. لذا يلاحظ أن ترامب لم يتردّد مطلقا في تقديم غطاء سياسي لحماية ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، عقب تورّطه المباشر في اغتيال جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، ولحماية الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، المتهم بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، قبل وصوله إلى السلطة عام 2014 وبعده، من معظم منظمات المجتمع المدني العالمي.

كان هذا البعد في سياسة ترامب الخارجية محلّ انتقاد شديد من بايدن إبّان حملة انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2020، وفيها تعهد بجعل النظام السعودي “منبوذاً”، وبعدم وضع يده مطلقاً في يد محمد بن سلمان، الملوثة بدماء خاشقجي، كما تعهد بعدم إعطاء شيك على بياض للرئيس السيسي الذي كان يحلو للرئيس ترامب أن يطلق عليه “دكتاتوري الصغير”. وفي سياق كهذا، كان من الطبيعي أن يتوقع بعضهم أن تشهد العلاقة الأميركية بالنظامين، السعودي والمصري، فتورا كبيرا بعد دخول بايدن البيت الأبيض.

البعد الثاني: يتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية، بصفة خاصة، ومن الصراع العربي الإسرائيلي، بصفة عامة، فقد اعتقد ترامب أن الوقت قد حان للتعامل مع المسألتين بنهج مختلف كليا، ومن هنا إقدامه على طرح “صفقة القرن” التي استهدفت تصفية القضية الفلسطينية. وعندما رفضت السلطة الفلسطينية هذه “الصفقة”، لم يتردّد في إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وفي قطع مساعدات أميركية مقدّمة للسلطة ولوكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، في الوقت نفسه، بل ونقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس التي اعترف بها “عاصمة أبدية موحدة لدولة إسرائيل اليهودية”. ولم يكتف بذلك كله، وإنما سعى أيضا إلى الالتفاف حول مبادرة السلام العربية والعمل على إسقاطها أو إفراغها من مضمونها، وذلك بالضغط على دول عربية عديدة لإيرام “اتفاقات إبراهام” من انتظار انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وقيام الدولة الفلسطينية، وهو ما تنص عليه المبادرة. تعرّض هذا البعد في سياسة ترامب الخارجية للانتقاد أيضا من بايدن إبّان حملته الانتخابية، فقد وعد بالعمل على إعادة إحياء صيغة “حلّ الدولتين”، وبإعادة المساعدات الأميركية المقدّمة للسلطة الفلسطينية، وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير، بل إنه ذهب إلى تأكيد أنه سيفتح قنصلية أميركية في القدس الشرقية، في خطوة بدت كأنها محاولة لإعادة التأكيد على أن إدارته ما تزال ترى في القدس الشرقية أرضا فلسطينية محتلة. لذا توقع كثيرون أن تشهد السياسة الخارجية الأميركية تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي تغيرا كبيرا في عهد بايدن، مقارنة بما كان عليه الحال في عهد ترامب.

عقب دخول بايدن البيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني 2020، بدت السياسة الخارجية الأميركية وكأنها في حالة بحثٍ عن مبرّرات تتيح لها إعادة التموضع، وتحاول العثور على نقاط ارتكاز جديدة، تتسق مع المواقف التي جرى التعبير عنها إبّان حملة الانتخابات الرئاسية، غير أن حدثين مفاجئين ساعدا على ضخّ الرياح في اتجاه معاكس لكل التوقعات: الأول: اندلاع حرب جديدة في قطاع غزة (مايو/ أيار 2021)، استمرت 11 يوما، اضطر خلالها بايدن، على عكس ما كان متوقعا، لإجراء اتصال مباشر بالرئيس السيسي، طالبا منه المساعدة على التوصل إلى وقف لإطلاق النار، وبذل مساعيه الحميدة لإبرام هدنة طويلة الأجل تعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل اندلاع القتال. الثاني: اندلاع الحرب في أوكرانيا في 26 فبراير/ شباط الماضي، ولأن قرار الرئيس الروسي، بوتين، استخدام القوة المسلحة ضد دولة أوروبية حليفة للولايات المتحدة شكّل تحديا سافرا ومباشرا للهيمنة الأميركية المنفردة على النظام الدولي، فقد بدت كل ردود أفعال إدارة بايدن كأنها مدفوعة بهاجس واحد، المحافظة على هذه الهيمنة بكل الوسائل الممكنة. وفي هذا السياق، أقدم بايدن على فرض عقوبات شاملة على روسيا، من نتيجتها اشتعال أسعار الطاقة، ما دفعه إلى إعادة حساباته مع كل الدول المنتجة للطاقة، سواء كانت النظم الحاكمة فيها حليفة أو غير حليفة. وفي تقديري، كان هذا الحدث في مقدمة الأسباب التي دفعته إلى تغيير موقفه من النظام السعودي والقيام بجولة في منطقة الشرق الأوسط.

في سياق ما تقدّم، يمكن القول إنّ الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والحرب الروسية على أوكرانيا، ساهمتا في إعادة تشكيل رؤية بايدن تجاه منطقةٍ لم تكن تحتل موقعا متقدّما على جدول أعمال إدارته في بداية عهده, وكان يظن أن بمقدوره الانسحاب التدريجي منها، وإعادة تركيز جهوده على مناطق أخرى، في حالة تماسّ مباشر مع الصين، منافسه الأخطر على قيادة النظام الدولي. صحيحٌ أنّ الهدف الرئيسي من جولة بايدن في المنطقة تمكين الولايات المتحدة من استعادة نفوذها التقليدي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه بدا هدفا مستحيل التحقيق، في ظل الأوضاع الإقليمية والعالمية السائدة، فالولايات المتحدة العائدة إلى المنطقة بدت مختلفة كليا عن الولايات المتحدة التي اعتادت أن تتعامل معها النظم العربية الحاكمة في المنطقة. ويكفي في هذا الصدد أن نقارن بين الاستقبال الذي حظي به دونالد ترامب في زيارته السعودية عام 2017 والاستقبال الذي حظي به بايدن في السعودية الأسبوع الماضي، لندرك أن الفرق بين الحالتين كان شاسعا. وقد لفت أنظار المراقبين بشدة غياب الملك أو ولي عهده في مراسم استقبال بايدن في المطار، بعكس الحال عند استقبال ترامب، فلم يسبق في تاريخ العلاقات الأميركية السعودية، في حدود علمي على الأقل، أن استُقبل رئيس أميركي في زيارة رسمية للسعودية بهذا المستوى المتدني الذي استقبل به بايدن، ما يدل على أن لدى معظم الأنظمة الحاكمة في العالم العربي، وليس النظام السعودي وحده، قناعة بأن الرئيس الأميركي يجيء إلى المنطقة مضطرا هذه المرّة، وأنه يحتاج دعمها بأكثر مما تحتاج دعمه.

على صعيد آخر، يمكن القول إن الشعوب العربية كانت تتطلع إلى تلمّس، ولو بعض الاختلاف الطفيف بين سياستي بايدن وسلفه ترامب، خصوصا تجاه القضية الفلسطينية، لكن جولة بايدن في المنطقة أكدت لها بما لا يدع مجالا لأي شك أن السياسة التي يمارسها بايدن حاليا تجاه القضية الفلسطينية هي نفسها التي انتهجها ترامب، أي أنها ترامبية بدون ترامب. لذا يمكن القول، من دون تردّد، إن جولة بايدن في منطقة الشرق الأوسط تعد كاشفةً لوصول الهيمنة الأميركية المنفردة على النظام العالمي إلى قرب النهاية بأكثر مما هي كاشفة عن قدرة الولايات المتحدة على ملء فراغٍ يعتقد بايدن أنّ منطقة الشرق الأوسط تشهده في المرحلة الراهنة، وهذا هو، أقله في تقديري، الدرس الذي يبدو أنّ الأنظمة العربية الحاكمة استخلصته بمجرّد أن صعد بايدن على سلم الطائرة عائداً إلى بلاده!

العربي الجديد

—————————

بايدن وسلّته الفارغة/ علي العبدالله

لم ينجح الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، في تقديم موقف واضح وحاسم عن أهدافه، والسياسة التي سيتّبعها في التعاطي مع ملفاتٍ تهم دول الإقليم، بحيث يقنع مضيفيه ويفتح الطريق لتفاهمات مرحلية ودائمة معهم. فقد شهدت جولته الشرق أوسطية، التي استمرّت أربعة أيام، بمحطاتها الثلاث، القدس وبيت لحم وجدة، طرح مواقف وتصورات توافقية عامة وأخرى خلافية تتعارض مع ما أعلن خلال التحضير للجولة العتيدة، جاعلة التوافق المعلن غير ذي شأن؛ لم تجد معها محاولاته تقديم هدايا سياسية وعسكرية ومالية هنا وهناك.

لم يدّخر الرئيس الأميركي جهدا في مواقفه وإعلاناته المتتالية خلال لقاءاته مع قادة الكيان الصهيوني، من الإعلان عن صهيونيته إلى تعهداته الالتزام بأمن الكيان والمحافظة على تفوقه النوعي على دول الإقليم، وعمله على دمج الكيان في الإقليم عبر دعم التطبيع وتشجيعه وتوسيع اتفاقات إبراهيم، والتوسّط بين الكيان والسعودية للاتفاق حول الوضع الأمني لجزيرتي تيران وصنافير عند مدخل خليج إيلات بعد عودتهما إلى سيادة الأخيرة، مرورا بدعم صناعاته العسكرية تقنيا وماليا، بـ38 مليار دولار، لتطوير منظومة الدفاع الجوي الليزرية، وترويج أسلحته في أسواق الإقليم. وقد توج مواقفه بتوقيعه مع رئيس وزراء الكيان، يئير لبيد، إعلانا تحت عنوان “إعلان القدس”، تعبيرا عن التزامه باعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة للكيان، وتجاهله ما يحصل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، من تسارع وتيرة الاستيطان والاستيلاء على البيوت والأراضي في القدس وهدم البيوت في الضفة الغربية وترحيل سكان قرى فلسطينية بذرائع أمنية وعسكرية، إلى الاعتداءات المتصاعدة على المسجد الأقصى تنفيذا لخطة تدميره وإقامة الهيكل الثالث مكانه، وإعلانه عن كسره المحظور بالسفر من الكيان إلى جدة مباشرة. وقد أرادت المملكة رفع الحرج الذي سيشكله ذلك ففتحت أجواءها للطائرات المدنية لكل الدول، لكنها لم تُحسن إخراج الموقف عبر تبريره بتنفيذ اتفاقية شيكاغو للطيران المدني التي مضى على صدورها عام 1944 قرابة القرن، عله يسترضي الكيان ويحتوي رفضه العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، “خطة العمل الشاملة المشتركة”، وضبط تحرّكه ضد البرنامج وتأجيل التحرّك الميداني ضده إلى ما بعد معرفة نتيجة المفاوضات، فالتباين بين الطرفين بشأن هذا الملف كبير وجذري، بين تقييد البرنامج، بالنسبة للإدارة الأميركية، ووقف البرنامج، بالنسبة للكيان.

في بيت لحم، حيث ما زالت جريمة العصر ماثلة؛ ليس في الاغتصاب الصهيوني لفلسطين فقط، بل وفي إنكار حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة على جزء من فلسطين التاريخية تجسّد هويته الوطنية، وتمنح أبناءه فرصة الأمن والاستقرار والازدهار، لم يلمس الرئيس الأميركي، في لقائه السريع مع رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، محمود عبّاس (استغرق نصف ساعة) جوهر الملف، ولا الممارسات الوحشية التي يواجهها الفلسطينيون في حياتهم اليومية. اكتفى بكلام تلغرافي عن إيمانه بحل الدولتين وصعوبة تحقيقه في الوقت الراهن، ووعد بمساعدات مالية لمشافي القدس الشرقية ووكالة أونروا، ولفتة رمزية بإزالة العلم الإسرائيلي المرفوع على سيارته عند توجهه إلى القدس الشرقية، ما يعني أن وضع القدس الشرقية ليس محسوما. اتضح من خلال عدم صدور بيان مشترك وفحوى بياني كل من الرئيس الأميركي ورئيس السلطة اتّساع الشقة بين موقفيهما، وعدم وجود مشتركات أو حتى تقاطعات في الرؤية، فزيارة بيت لحم والاجتماع برئيس السلطة الفلسطينية محاولة للإيحاء بموقف أميركي متوازن بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتقديم مبرّرات للدول العربية عامة، والسعودية خصوصا، للانخراط في التطبيع مع الكيان الصهيوني تحت شعار إيجاد مناخ موات للتوصل إلى اتفاق إسرائيلي فلسطيني، خدمة للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.

في المحطة الثالثة، جدة، يمكن ملاحظة الإحراج الذي اكتنف لقاء الرئيس الأميركي بولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بدءا من المصافحة بقبضاتٍ مغلقة إلى تبادل الانتقادات عبر حديث الرئيس الأميركي عن قتل الصحافي السعودي، جمال الخاشقجي، وتحميله ولي العهد المسؤولية، ورد الأخير بتذكير الرئيس بما فعلته الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، وتصرّفها غير المنطقي بمحاولتها فرض قيم أميركية على شعوب أخرى. إلى البيان المشترك، الطويل والتفصيلي، شمل الشراكة الاستراتيجية وأمن الطاقة والمناخ والشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار والأمن والدفاع والتعاون في مجال الاتصالات والأمن السيبراني واستكشاف الفضاء ورؤية 2030 واليمن والعراق والقضية الفلسطينية وسورية ولبنان وليبيا والسودان وأفغانستان وأوكرانيا ومكافحة الإرهاب، الذي يؤكد حصول اتفاق ولملمة الخلافات السابقة؛ من دون أن يعني ذلك تطبيق بنود الاتفاق بسلاسة ومن دون عقبات أو عراقيل، حيث بقي الخلاف بين وجهتي نظر الطرفين حول سبل التعاطي مع إيران، بين وجهة نظر الإدارة الأميركية، التي تكتفي بردع إيران، ووجهة نظر القيادة السعودية، التي تريد كسر إيران وإجهاض تطورها التقني والعسكري، قائما ومستمرّا، وبقاء موقف السعودية من اتفاق أوبك + حول إنتاج النفط وحصص المنتجين مع روسيا والتصنيع العسكري مع الصين من دون تغيير يذكر، وربط المملكة موقفها من التطبيع العلني مع الكيان الصهيوني بتقدّم الحل على المسار الفلسطيني.

كشف الاتفاق السريع وطي صفحة الخلافات على معظم الملفات العالقة بين الطرفين عن رغبة سعودية في الاتفاق، وتطلع نحو وجود غطاء سياسي وعسكري أميركي، من الاعتراف بالأمير محمد بن سلمان وريثاً شرعياً للمملكة إلى بيع المملكة أسلحة متطوّرة إلى تبنٍّ واضحٍ وحاسمٍ للدفاع عن أمنها وحمايتها من كل عدوان، فذلك يعزّز أمن المملكة ويدعم دورها ووزنها في المعادلات الإقليمية، في ضوء رغبة ولي العهد والحاكم الفعلي بلعب دور قيادي في الإقليم وصياغة تحالفاته وتوازناته.

أما قمّة جدّة التي جمعت الرئيس الأميركي مع قياديي دول مجلس التعاون الخليجي الستة ومصر والعراق والأردن، فشهدت مستوى آخر من الاختلافات حول مشروع إقامة هيكل عسكري إقليمي لمواجهة إيران والحدّ من تغوّلها على دول الإقليم الذي عملت الإدارة الأميركية على ترويجه وتمريره على شكل خطوات وتفاهمات مرحلية، ففي حين سرّب الإعلام الصهيوني أنباء عن لقاءات واتفاقات مع دول عربية على التعاون الأمني والعسكري، فقد أطلقت جهات رسمية وإعلامية عربية، بدءا بالأردن والإمارات ومصر والعراق، مرورا بالمملكة ذاتها، مواقف مخالفة للتوجه الأميركي الصهيوني، فالأردن مسكون بهواجس ومخاوف عن وصايته على الأماكن المقدسة في القدس الشريف، وعن الوطن البديل الذي يتبناه تيار رئيس في الكيان، والذي يقضي بطرد الفلسطينيين إلى شرق نهر الأردن. والإمارات تخاف تحوّل أرضها ساحة للحرب وبناها التحتية ومشروعاتها الضخمة للدمار. وموقف مصر مرتبط بعوامل جيوسياسية واستراتيجية، أولها الحساسية المصرية من موقع التابع لرؤية غير مصرية، على خلفية قيادتها الإقليم في مراحل سابقة، وثانيها نفور القيادة المصرية من النظرة الاستعلائية التي تنظر بها دول الخليج إليها، وثالثها حاجة مصر لبقاء إسرائيل تحت ضغوط أمنية وعسكرية، كي تبقى بحاجة إلى الدور المصري، وتمنحها فرصا وامتيازات في العلاقات الثنائية، وتدافع عن سياساتها الداخلية، وعدم احترامها حقوق الإنسان لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ورابعها حاجة مصر لبقاء دول الخليج تحت ضغوط أمنية وعسكرية إيرانية، كي تبقى في حاجةٍ إلى دعم مصري وتقديمها دعما ماليا لها، وتنازلات في ملفات ثنائية معها.

استثمرت السلطة المصرية، والأرجح أنها دفعت وشجّعت، تنفيذ نشاطات شعبية وحزبية معارضة للمشاركة في مثل هذا التحالف، ووظفتها في رفضها المشاركة. العراق يعاني من وطأة الهيمنة الإيرانية وأذرعها المحلية المتجسّدة بالفصائل الولائية، ما يجعله غير قادر على تبني مشروعٍ كهذا، لما فيه من استفزاز لإيران وأذرعها. المملكة التي يتطابق موقفها من البرنامج النووي الإيراني مع الموقف الصهيوني لا تستطيع العمل العلني والمباشر مع الكيان، لاعتبارات سياسية، رؤيتها إلى ذاتها زعيمة للعالمين، السني والعربي، ما لم تحصل على مبرّرات في الملف الفلسطيني؛ ولا تريد الانخراط في صراع مفتوح مع إيران لا تطيقه بنيتها الاجتماعية وخبراتها العسكرية، صراع سيضعها في موقفٍ حرج ويحوّلها إلى محمية وتابع بالضرورة. .. ولذا جاء البيان الختامي لقمة جدّة للأمن والتنمية عاما وخاليا من التزامات محدّدة في مجالي التطبيع وإنشاء محور أمني إقليمي يشمل الكيان الصهيوني.

جاء بايدن إلى الإقليم مدفوعا باعتبارات جيوسياسية واستراتيجية، لاستعادة الحضور الأميركي فيه وتجديد العهود والاتفاقات مع دوله بعد ما كشف الغزو الروسي لأوكرانيا وتعزيز التحالف الروسي الصيني الإيراني، وتمدّده إلى مناطق نفوذ أميركية تقليدية في الخليج عن قدرة الخصوم على احتواء خطط بلاده وتدميرها، كُشف عن بند في الاتفاق الاستراتيجي الصيني الإيراني يقضي بالسماح بوجود عشرة آلاف جندي صيني على الأرض الإيرانية، عن أهميته الشديدة لاستراتيجية بلاده المعروفة بـ “التنافس بين القوى العظمى”، لكنه عاد بسلةٍ فارغة، لانعدام الثقة العميق بالولايات المتحدة في هذه الدول، وقد زاد انعدام الثقة رسوخا تبنّيه المعلن هدفين متعارضين: الحرص على الاتفاق مع إيران على برنامجها النووي والتعبئة ضدها، ومع تقديمه تعهدات بالبقاء في الإقليم والدفاع عن أمن دوله والالتزام بعلاقات استراتيجية راسخة ودائمة معها إلا أنها تعهدات لفظية بحاجة إلى تأكيد عملي. لذا لم يحصل على التزامات محددة بالسير في تصوره برفع إنتاج النفط والتراجع عن علاقات التعاون الخليجية مع روسيا والصين، ومشاركة الكيان الصهيوني في التصدّي لإيران.

العربي الجديد

———————-

الفلسطينيون: الخاسر الأكبر من زيارة بايدن/ ماجد كيالي

بدت القيادة الفلسطينية، لزوم ما لا يلزم في هذه الزيارة، وفي حالة انفصال عن الواقع، والمشكلة أنها لا تريد أن ترى الأمور على حقيقتها، وتفضل الاستمرار في بيع الأوهام لشعبها.

ظهر الفلسطينيون بمثابة الخاسر الأكبر من زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمنطقة، في حين بدت إسرائيل الرابح الأكبر من هذه الزيارة، فقط ثمة “ربتة” على كتف الرئيس الفلسطيني، ومجرد تعاطف مع مشاعر ألم عند الفلسطينيين، وطلب صبرهم لحين ظهور أفق يسمح بإقامة دولة لهم، في مقابل ذلك خاطب الرئيس الأميركي إسرائيل باعتبارِه صهيونياً، وإن لم يكن يهودياً، متحدثاً عنها بإعجاب، وباعتبارها دولة يهودية، مؤكداً العلاقات الاستراتيجية التي تربط بلاده بها، والحرص على أمنها وتفوقها النوعي في المجالات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية. وفوق كل ذلك فقد أبدى الرئيس الأميركي تفهمه لحاجات إسرائيل الأمنية، ومنها إطلاق يدها في الدفاع عن نفسها، في ما يخص البرنامج النووي الإيراني، كما أبدى حماسة كبيرة لتسهيل دمجها في المنطقة، في مجالي الاقتصاد والأمن، وهو أمر يتم الاشتغال عليه، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ظاهرة أو مبطنة.

هكذا بدت القيادة الفلسطينية، لزوم ما لا يلزم في هذه الزيارة، وفي حالة انفصال عن الواقع، والمشكلة أنها لا تريد أن ترى الأمور على حقيقتها، وتفضل الاستمرار في بيع الأوهام لشعبها، لأن ذلك وحده يبرر إصرارها على بقائها كسلطة، إزاء شعبها، كما يبرر الخيار الذي انتهجته بتحولها من حركة تحرر وطني إلى سلطة تحت الاحتلال، أو قبل زوال الاحتلال، وضمن ذلك تهميشها منظمة التحرير الفلسطينية، ككيان جامع للفلسطينيين، وتحولها عن الرواية الوطنية المؤسسة القائمة على النكبة (1948) إلى رواية تفيد بأنها تصارع إسرائيل على الأراضي المحتلة عام 1967، ظنا منها أن ذلك يرضي الأطراف المعنية عنها!

هكذا، ثمة أوهام كثيرة عند القيادة الفلسطينية، قوضتها زيارة بايدن، ضمنها:

أولا، أنها أضحت بمثابة دولة فلسطينية لكنها “دولة تحت الاحتلال” (في الأراضي المحتلة عام 1967، وهو الوهم الذي تحاول القيادة الفلسطينية إشاعته في خطاباتها السياسية وفي مقررات اجتماعات المجلس المركزي الفلسطيني، في دوراته الأخيرة، كأن إعلانها ذلك هو براءة لها من “فخ” نصوص اتفاق أوسلو (1993)، الذي لم يلحظ ذلك البتة، ولا في أي اتفاقات لاحقة، لا بل إنه لم يأت ولا مرة على ذكر أراض محتلة، أو على ذكر إسرائيل كدولة احتلال. والفكرة هنا أن هذا العالم يتعاطى مع الكيان الفلسطيني ككيان أقل من دولة، أي ككيان حكم ذاتي على الشعب مع تمثيل خارجي (فلسطينيي الضفة وغزة)، وبدون سيادة، لا سياسية ولا قانونية ولا عسكرية ولا اقتصادية. ولعل هذا هو معنى كلام الرئيس الأميركي عن أن الدولة الفلسطينية بعيدة، وأن الأجدى يتمثل بتقديم تسهيلات معيشية للفلسطينيين ودعم مالي للسلطة الفلسطينية، أي أن الخيار المتاح هو “سلام اقتصادي” فقط؛ وطبعاً فإن ذلك ليس مجاناً وإنما هو مشروط بضمان التنسيق الأمني ومراعاة الاستقرار والأمن لإسرائيل، وفي ذلك تبن أميركي خالص للرؤية الإسرائيلية.

 ثانياً، تبين، قبل الزيارة وبعدها، أن البوابة الفلسطينية لم تعد ضرورية للتطبيع مع إسرائيل، إذ باتت لإسرائيل علاقات أكثر من طبيعية، ومع علاقات اقتصادية بل وأمنية متميزة، بأكثر من دولة عربية، حتى إن الأمر بات يتعلق بدمج إسرائيل في المنطقة، في منظوماتها الاقتصادية والأمنية والبني التحتية، أي بما يتجاوز كثيراً متطلبات مشروع النظام الشرق أوسطي الذي طرح في التسعينات، أو متطلبات “المبادرة العربية للسلام” (2002)، وذلك بسبب الاختلاف الحاصل في الظروف والحسابات والتحديات الداخلية والإقليمية والدولية. ومعنى ذلك أن مقولة أن السلام العربي ـ الإسرائيلي يبدأ من فلسطين، التي تشرعها القيادة الفلسطينية، لم تعد واقعية، ولم تعد تشتغل، وهي أصلاً اشتغلت في السابق في المزايدات العربية، وفي ابتزاز هذا الطرف لذاك، لا أكثر، مع كل الاحترام للعبارة المتضمنة في البيان الختامي الصادر عن مؤتمر جدّة في شأن القضية الفلسطينية، والتي بدت كعبارة للمجاملة أو للاستهلاك، لأن الواقع الجاري يقول بغير ذلك.

ثالثاً، من كل التطورات يتبين، أيضاً انكشاف مقولة أن “فلسطين قضية مركزية للعالم العربي” فهي لم تكن كذلك أصلاً، من الناحية الفعلية، في أحسن أوقاتها، سوى كمقولة لتوظيف تلك القضية في الأوضاع الداخلية والعلاقات البينية، أي كوسيلة للتغطية على الشرعية والمزايدات البينية وتبديد الموارد ومصادرة الحريات، في معظم البلدان العربية. وللأسف فإن القيادات الفلسطينية كانت تبنت تلك المقولة، أو استهوتها، فقط لتعزيز مكانتها، كنظام، أو كسلطة، مثلها مثل بقية الأنظمة والسلطات في العالم العربي، من دون أن يعود ذلك باستثمارات سياسية لمصلحة قضية فلسطين أو لتحسين أحوال الفلسطينيين في الداخل والخارج. هكذا لم يعد ثمة اليوم نظام عربي لا يعترف بإسرائيل، أو يحتضن حقاً كفاح الفلسطينيين من أجل حقوقهم، وهو أمر يفترض ملاحظته ومعرفة كيفية التعامل معه، ودرء مخاطره. 

طبعاً ثمة عوامل كثيرة ساهمت في كل تلك التحولات السلبية ضمنها هشاشة وضع الفلسطينيين، وعدم قدرة قيادتهم على تقديم نموذج لكيان سياسي أفضل، في خياراته السياسية وطريقة إدارته الصراع مع إسرائيل، كما إدارته لأحوال الفلسطينيين في الداخل والخارج، لا سيما مع اختلافات الفلسطينيين، وانقساماتهم، كما تأتي ضمن ذلك التحولات الدولية، والإقليمية، وصعود خطر النفوذ الإيراني في العالم العربي، خصوصاً في المشرق العربي وفي اليمن.

درج

——————–

قمة جدة” تكرس هدوء المنطقة.. مفاوضات إقليمية تطول لبنان/ صهيب جوهر

انتهت القمة الخليجية العربية الأميركية في جدة منذ أيام، والخلاصة التي يمكن الحديث عنها أن لا تصعيد في المواقف، ولا إعلان عن إنشاء تحالفات عسكرية أو ناتو إقليمي، وهذا الموقف شدد عليه وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان حول نفيه لإنشاء السعودية لتحالف ناتو عربي لمواجهة إيران. ما يعني أن السعودية حريصة في الوقت الحالي على إنجاح مساعي الهدنة مع إيران واستكمال الحوار الجاري معها في بغداد.

لكن هناك إشارات سياسية واقتصادية ودبلوماسية يمكن استخلاصها من قمة جدة أهمها مشاركة العراق بشخص رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي وهو الذي يعتبر رجل التسوية الأميركية-الإيرانية في العراق، والكاظمي وضع الإيرانيين في كواليس القمة والنقاشات التي دارت فيها والكلام التهدوي لكل قادة المنطقة حيالها، في حين الإيرانيون اكتفوا عبر بعض وكلائهم بمواقف سياسية تعبر عن الموقف الرسمي الإيراني حول الدعم المفتوح من واشنطن لإسرائيل، أما ميدانياً لم تصدر إيران أو أي من حلفائها أو ميليشياتها أي ردود فعل أمنية في العراق أو سوريا لتشكل رسائل اعتراض أو غضب.

في حين كان بالمقابل موقف رئيس الإمارات محمد بن زايد يدفع باتجاه خفض التصعيد وهو الذي أعلن عن قُرب إعادة السفير الإماراتي إلى طهران في ظل الزيارات المتزايدة بين الطرفين والتي يهندسها مستشار الأمن الوطني طحنون بن زايد، وهذه الاندفاعة الإماراتية بتخفيض أي توتر مع طهران انطلاقاً من السياسة الجديدة للإمارات تجاه أطراف الإقليم (إيران وإسرائيل وتركيا)، بالمقابل كانت لافتة الدعوة التي وجهها بايدن لبن زايد لزيارة واشنطن قبل نهاية العام الجاري وهو ما يوحي بأنّ واشنطن تؤيّد تهدئة الجبهات مع طهران في المرحلة الراهنة.

وما بعد زيارة الرئيس الأميركي إلى السعودية وإسرائيل، تشير المعطيات والمؤشرات إلى أن التفاوض الأميركي الإيراني في قطر سيعود في ظل الاتصالات القطرية مع كل أطراف الصراع الإقليمي ونشاطها الدبلوماسي اللافت، مع إمكانية تحقيق تقدم جدي في المفاوضات انطلاقاً من اقتراح فرنسي-قطري ينطلق من موافقة الجانب الإيراني بعدم رفع الحرس الثوري عن لائحة العقوبات، فيما تتحول البوصلة الإيرانية باتجاه رفع العقوبات عن عدد من المؤسسات التي يستفيد منها الحرس وتضخ أموالاً للميليشيات المذهبية حول العالم.

وتشير معاودة المفاوضات النووية إلى قطر إلى إحداث بعض التغييرات في السياسة الأميركية بعد زيارة بايدن إلى المنطقة، والتساهل في بعض الشروط. وهذا لا يمكن أن ينفصل عن رفض السعودية والكويت والإمارات لإنشاء الناتو العربي، والذي كان يمكن أن يؤدي إلى حدوث توترات عسكرية وأمنية في الإقليم، لذا فإن الأوساط السياسية في المنطقة تلقفت هذا الموقف أنه إيجابية عربية تجاه الإيرانيين، ولكن في المقابل الوقائع الأخرى تعاكس ما يقال في الغرف الكبرى ففي ظل تنامي التنسيق الإسرائيلي مع عدد من الدول العربية وتحديداً أبوظبي والمنامة وكان لافتاً الحلف الرباعي (الهند وإسرائيل والإمارات والولايات المتحدة) والذي في ظاهره حلف اقتصادي لكنه تحالف عسكري وأمني في خلفياته ومنطلقاته.

بالتوازي بات واضحاً أن زيارة بايدن للمنطقة لم تحقق أهدافها المرجوة ما يعني أنها لن تعكس أي تأثيرات سريعة  ما يؤكد أن الجميع سيعود إلى التفاوض، والتي ستسهم في تهدئة المنطقة أولاً عبر الحوارات الأخرى كالحوار الإيراني مع الأردن ومصر والإمارات، أما لبنانياً فسيعود ملف ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل إلى الواجهة.

    بات واضحاً أن زيارة بايدن للمنطقة لم تحقق أهدافها المرجوة ما يعني أنها لن تعكس أي تأثيرات سريعة  ما يؤكد أن الجميع سيعود إلى التفاوض

عدا عن ذلك فإن البيان الذي جاء على ذكر لبنان في ختام القمّة يتضمن مواقف متكررة، منها تطبيق القرارات الدولية، والحفاظ على اتفاق الطائف والدستور وإنجاز الاستحقاقات في مواعيدها وحصر السلاح بيد الدولة. كل هذه المواقف ليست جديدة، أهم ما فيها أن مضمونها لا يقود إلا إلى البحث عن تسوية داخلية برعاية دولية وإقليمية عبر طاولة حوار وطني إما برعاية فرنسية – مصرية أو قطرية بغطاء عربي وموافقة إيرانية.

نفطياً تضغط واشنطن عبر سفيرتها أولاً وعبر مبعوثها آموس هوكشتاين لإنجاح التسوية على ضفاف المياه المتوسطية الدافئة، في أسرع ما يمكن وقبل الخريف، ضمن خطتهم الهادفة إلى تنويع مصادر الطاقة للأوروبيين تعويضاً عن الوقف التدريجي لتدفقات الغاز الروسي على أبواب الصقيع الأوروبي. وهذا هدف أساسي من زيارة الرئيس بايدن للمنطقة. ولذلك، هم يتحدثون عن استئناف وساطتهم قريباً مع عودة آموس هوكشتاين للبنان والمنطقة.

في حين تسعى الدولة اللبنانية بكل أركانها على إظهار حرصها على إنجاز الاتفاق والمسارعة في العودة إلى التفاوض مقابل عدم التنازل عن سقف معين للثروة الوطنية في إطار أهداف سياسية وشعبوية، وتشير مصادرهم وأوساطهم جميعاً من الرؤساء الثلاثة وصولاً لقادة القوى السياسية، بأن الإنجاز بات ممكنا في ترسيم الحدود، ويصر رئيس الجمهورية ميشال عون مستعجلا التسوية وإظهارها كإنجاز سياسي واقتصادي قبل انتهاء عهده الذي لم يحقق سوى النكسات الاقتصادية والسياسية، وهو أشار في كل الاتصالات التي أجراها عقب إطلاق حزب الله المسيرات باتجاه كاريش أن ما فعله الحزب يندرج في إطار عناصر القوة اللبنانية في هذا الملف، فإنه بذلك يضعها في سياق تحصين عملية التفاوض لا جزءا من محاولة نسفها.

لذا تشير كل الأوساط المتابعة لملف الترسيم أن المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين على اتصال مباشر مع كل المسؤولين اللبنانيين وتحديداً عون وميقاتي، فيما شخصيات أمنية وسياسية حرصت على التواصل معه عقب المسيرات وخطاب نصر الله التصعيدي، فجرى إبلاغهم أنه وعلى الرغم من كل التصعيد والتهديدات المتبادلة بين إسرائيل وحزب الله فإن إدارته ستستكمل مساعيها للوصول إلى حلّ وهناك إمكانية لتحقيقه قبيل أيلول المقبل، وأنه حريص على الاستكمال بهذا الملف بعد لمسه إيجابية إسرائيلية جعلته متفائلاً، مشدداً أن بايدن حاول إقناع الإسرائيليين بالموافقة على المقترح اللبناني من دون فرض شروط جديدة.

والجانب الأميركي أبلغ كل من يعنيهم الأمر في بيروت أنه وفي حال جرى تحقيق التفاهم حول الترسيم فإن مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط بابرا ليف ستحط رحالها في لبنان لرعاية إنجاز اتفاق الترسيم الحدود البحرية، وأيضاً للدفع في ملف استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية التي باتت الشغل الشاغل لكل الأطراف اللبنانية، ولو أنّ حصولها في مواعيدها الدستورية ما يزال غير واضح وجلي.

تلفزيون سوريا

———————-

حمولات جولة بايدن في المنطقة ما بين التوقعات والنتائج

قسم الدراسات

أولًا: توطئة

 أثار الإعلان عن نيّة بايدن زيارة المنطقة، منتصف تموز/ يوليو 2022 الجاري، كثيرًا من التوقعات والتكهنات، حول الهدف منها في هذا التوقيت الحساس، وذلك من حيث التداعيات التي تركتها الحرب الروسية على أوكرانيا، وما استدعته من استقطابات دولية على المستوى الجيوستراتيجي، ومن حيث وقف إمدادات الطاقة الروسية إلى دول الاتحاد الأوروبي، كردة فعل على العقوبات الأميركية والأوروبية على روسيا، والبحث عن مصادر تعويض مستعجلة لتهدئة القلق الأوروبي على هذا الصعيد، ويبدو أن السعودية ودولة الإمارات هما المرشحتان الرئيسيتان للاستجابة لهذا الهدف، بحكم قدراتهما الإنتاجية، في حال التجاوب مع الطلب الأميركي، والتملّص من توزيعات حصص الإنتاج، التي تتحكم فيها اتفاقية (أوبك – بلاس) الموقعة في الجزائر عام 2016، التي نظمت التدخّل في سوق الطاقة العالمي، ومنع تدهور أسعار النفط، كلما ازداد العرض عن حاجة السوق.

البند الثاني على جدول زيارة بايدن كان البعد الأمني في المنطقة، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى إعلان ما سُمي (ناتو شرق أوسطي)، يضم عشر دول عربية، إضافة إلى إسرائيل، وتقوده الولايات المتحدة، ويبدأ بتنسيق أمني ومعلوماتي على مستوى الإنذار المبكر، ويربط وسائط الدفاع الجوية في الدول المشاركة، بغية التصدي المشترك لقدرات إيران المتعاظمة باطّراد، في مجالي الصواريخ والطائرات المسيرة، بحيث يمكن التعامل مع هجماتها حال حصولها من خطوط جغرافية متقدمة، وهذا يستدعي العمل على البند الثالث، وهو دفع عملية التطبيع بين بقية الدول العربية المدعوة وإسرائيل، وبخاصة المملكة العربية السعودية، في سياق “مشروع إبراهيم” للتطبيع، بعيدًا عن ربط عملية التطبيع بمسيرة حل الصراع “الفلسطيني الإسرائيلي المتعثرة”.

عمليًا، باستثناء موافقة السعودية ودولة الإمارات على زيادة إنتاجها لكامل طاقتها الإنتاجية والوعد بتطوير هذه القدرة لتوفير مزيد من النفط، وهذا هو المطلب الأهم لزيارة بايدن، فإن النتائج على مستوى التحالف، أو تسريع عملية التطبيع، كانت جدّ متواضعة، وربما كانت أيضًا مشروطة بمدى التزام الولايات المتحدة بتعهداتها، ويبقى الأهمّ من كل ذلك هو البحث عن دلالات قد تشير إلى تَغيّر في السياسة الأميركية واستراتيجيتها تجاه المنطقة، والعمل على خفض توتراتها الأمنية، وأيضًا تجاه صراعها مع الدول الساعية لتغيير معادلات السيطرة في العالم، وفي مقدمتها روسيا والصين، وما سوف يستلزمه ذلك من إحياء لسياسات الأحلاف، وإن بحلة ومضامين جديدة.

ثانيًا: ما قبل الزيارة

نقلت صحيفة (واشنطن بوست) قولًا للرئيس بايدن: “سأسافر إلى الشرق الأوسط، لبدء فصل جديد واعد”، و “إنّ الرحلة تأتي في وقت حيوي بالنسبة إلى المنطقة، وستعمل على تعزيز المصالح الأميركية المهمة”، و”إننا نسعى إلى شرق أوسط أكثر أمنًا وتكاملًا، وإنّ تحقيق الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة يأتي بفوائد للأميركيين”. والهدف ذاته عبّر عنه جون كيربي، الناطق الرسمي باسم مجلس الأمن القومي، إذ صرّح بأن الزيارة “سيتخللها نقاش مسألة تعزيز التعاون الإقليمي، ولا سيما في الدفاع الجوي بين حلفاء واشنطن في المنطقة (إسرائيل ودول عربية)، بسبب القلق الذي تثيره السياسات الإيرانية، وقدراتها الصاروخية المتنامية، وكذلك لخلق سد في وجه الصين”. لكن زيارة بايدن واجهت كثيرًا من الانتقادات في الداخل الأميركي، لتراجعه عن مواقفه وتعهداته السابقة، بمحاسبة وليّ العهد محمد بن سلمان، إذ اتهمه بالوقوف خلف مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول عام 2018، وكذلك تصريحاته بأن السعودية دولة منبوذة وأنه سيوقف إمدادها بالسلاح، وتعهده بإيقاف التحالف العربي الذي يقاتل في اليمن، وقد أوقفه فعلًا، لكنه سرعان ما تراجع عن ذلك.

أما في إسرائيل، فقد كانت التوقعات الإسرائيلية حول نتائج الزيارة أقلّ تفاؤلًا، ورأت أنها ستكون ذات بعد رمزيّ لإسرائيل وللسلطة الفلسطينية، على حد سواء، بخاصة أن إدارة بايدن لم تمارس ضغوطًا على الحكومة الإسرائيلية، بخصوص إحياء مفاوضات الحل النهائي واستكمال مسار أوسلو، مراعيةً الظرف الحسّاس الذي تمر به إسرائيل والانتخابات المقبلة عليها، وهذا الاستعصاء السياسي الذي عبّر عنه عجزُ النخب السياسية الإسرائيلية وأحزابها عن تحصيل أغلبية مستقرة تُفضي إلى حكومات قوية، والذي يحمل رسالة إلى اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، بما يخدم حزبه في الانتخابات النصفية القادمة، كما كثر الحديث حول “وثيقة القدس”، التي سيوقعها بايدن مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ليبيد يائير، وهي وثيقة سوف تُجمع فيها كلّ الاتفاقات والتفاهمات الموقعة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، في المجالات السياسية والأمنية، خلال السنوات الأخيرة، وفضلًا عن أن الإعلان يؤكد -حسب المصادر الإسرائيلية- تجديدَ التزام الولايات المتحدة الأميركية بأمن إسرائيل وازدهارها ورفاهيتها، والتزام واشنطن بالعمل مع تل أبيب والشركاء لتغيير المنطقة، فإنه يشكل خارطة طريق للتحرك المشترك أو الانفرادي الإسرائيلي ضدّ إيران ومشروعها النووي، ويمنح إسرائيلَ حرية التصرف واتخاذ القرار بعمل انفرادي، حيال ما ترى أنه يهدد أمنها، وقد حصل بايدن على تأكيد من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بألا تُفاجِئ إسرائيل الولايات المتحدة بأي تصرف.

على الجانب السعودي، نجد أن بايدن لم يُقدِم، عمليًا، على أي إجراء يضرّ عميقًا بالعلاقات السعودية الأميركية، على الرغم من الضجيج الذي أثاره من قبل، حول قضية الخاشقجي والتهديد والوعيد بمحاسبة السعودية والقيم الأميركية على صعيد حقوق الإنسان، بل اكتفى بنشر تقرير وكالة الاستخبارات المركزية CIA السرّي، حول مجريات تصفية الخاشقجي. والسعودية، من جهتها، على الرغم من التحييد الذي مارسه عليها الرئيس السابق باراك أوباما وانحيازه إلى جانب إيران من أجل تمرير اتفاقه النووي معها عام 2015، هي حريصة على استمرار العلاقة مع الولايات المتحدة، كحليف ثابت، مع شيءٍ من الحذر من أجل ضمان أمنها، وكل ما أثير من تحليلات وتكهنات، حول سعي المملكة لتغيير مواضع اعتمادها وتحالفاتها وتنويع مصادر تسليحها وتوجهها نحو روسيا أو الصين، لا يعدو أن يكون أكثر من تعبير عن غضب في الوقت الضائع. ويهمّ ولي العهد السعودي بأنّ يقدم بلاده على أنها صاحبة قرار وقادرة على جمع الدول، ويذكّر الآخرين من الدول الفاعلة بذلك، ومن المؤكد أنها كانت تنتظر أجوبةً حول منبع قلقها من أن تحمل السياسات الأميركية تجاه المنطقة تغييرًا عما كانت عليه سياسات أوباما، وغير ذلك من الأمور التي يأتي في مقدمتها اطمئنان السعودية إلى وجود توجّه أميركي، لا يعترض -على أقل تقدير- على انتقال العرش إلى محمد بن سلمان، بعد رحيل والده بشكل سلس.

ثالثًا: محطات الجولة

1-القدس والأراضي المحتلة

وصل بايدن إلى القدس في 13 تموز/ يوليو الجاري، وأجرى هناك مباحثات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي. ولم يصرّح بايدن بما بحثه معه سوى قوله: “سنعمل مع إسرائيل لمواجهة إيران وطموحاتها، والأمر الوحيد الذي يوقف طموحات إيران هو القوة”، مضيفًا: “إذا لم تقبل إيران بالعودة للاتفاق، فلن نسمح لها بامتلاك السلاح النووي”، وفي لهجة تحذيرية، قال: “بالنسبة إلى إيران، دائمًا كنا نؤكد لهم أننا نعني ما نقول، ولن نسمح لهم بامتلاك السلاح النووي”. وفي اليوم التالي، زار بايدن “رام الله”، والتقى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وقد أظهر في مؤتمره الصحفي مع عباس صلفًا لم يُظهره رئيس أميركي سابق؛ إذ لم يعطِ أي وعد، ولو على سبيل الوعود المعتادة، بأن تبذل الولايات المتحدة جهدًا لاستئناف مسار السلام المتوقف، بل قال: “إن المناخ حاليًا غير ملائم لاستئناف مفاوضات السلام”. وهذا موقف لا يُغطي عليه إعلانُه تمسّك بلاده بحل الدولتين، أو تقديمَ مساعدات للسلطة بقيمة مئة مليون دولار لتحسين الوضع الصحي في أراضي السلطة، أو الوعد بأنه سوف يحث السعودية على الاستثمار في الأراضي الفلسطينية في مجال المياه والبنية التحتية، وهو يريد أن تكون هذه الجزئية خطوةً على طريق التطبيع بين السعودية وإسرائيل، الأمر الذي دعا عبّاس إلى تذكيره بأنه من الآن إلى حين يتوفر فيه مناخ ملائم لاستئناف التفاوض، سوف يكون حل الدولتين قد تلاشى.

2-محطة جدة

وصل بايدن إلى مدينة جدّة السعودية، قادمًا مباشرة من مطار تل أبيب، في 15يوليو/ تموز 2022، بعد أن فتحت السعودية أجواءها أمام النقل الجوي المدني لكل دول العالم حتى إسرائيل، الأمر الذي يتوافق وتعليمات هيئة الطيران المدني السعودية، ووفقًا لاتفاقية شيكاغو حول الملاحة الجوية الموقعة عام 1944، حيث صرح بأنه أول رئيس أميركي يطير مباشرة بين تل أبيب والأراضي السعودية، وقد التقى بايدن الملكَ سلمان، وعقَد والوفد المرافق له اجتماعًا موسعًا مع ولي العهد السعودي وبعض المسؤولين السعوديين، حيث أُعلن التوقيع على العديد من الاتفاقات في مجال الطاقة والتقنيات الحديثة، مثل إدخال (ج5) إلى السعودية، وكذلك في مجال البيئة والمناخ والطاقة النظيفة وغيرها، وتعزيز الهدنة في اليمن، ونوقشت في الاجتماع الاحتياجات الدفاعية السعودية. ويمكن تلخيص أهم ما ورد في هذا البيان، في النقاط الآتية:

    تأمين تدفق الطاقة إلى أسواق العالم لدعم النمو الاقتصادي في العالم، والسعودية تشاطر الولايات المتحدة هذا المطلب، حيث وافقت على رفع إنتاجها إلى 14 مليون برميل، متجاوزة حصتها المحددة بـ 10663 ألف برميل، يوميًا.

    ناقش الطرفان مسألة حقوق الإنسان، وهناك حاجة إلى إصلاحات على هذا الصعيد، وهذا لا يُحرج وليّ العهد الذي اتخذ كثيرًا من خطوات الانفتاح على الصعيدين الاجتماعي والثقافي، دون أن يواجه اعتراضًا ذا معنى، على العكس مما كان متوقعًا.

    ربط الشبكة الكهربائية العراقية بالشبكة السعودية ولاحقًا بالكويتية وبقية دول مجلس التعاون الخليجي، ثم في خطوات لاحقة بالشبكتين المصرية والأردنية، وهذا يعدّ خطوة على طريق تخليص العراق من براثن إيران.

    تصريح بايدن: “سوف أحدّد إطارًا لدور أميركا في الشرق الأوسط، ولن نترك فراغًا في الشرق الأوسط لتملأه روسيا والصين”. ولعل هذا البند أهم ما تريده دول المنطقة، إذا كانت الولايات المتحدة عازمة على تنفيذه.

3-قمة جدة للأمن والتنمية

ضمّت القمة، إضافة إلى دول مجلس التعاون الخليجي، كلًا من مصر والأردن والعراق والولايات المتحدة، وهدفت القمة -حسب نص الدعوة- إلى تأكيد الشراكة التاريخية وتعميق التعاون المشترك في جميع المجالات، وقد رحّب القادة المشاركون -حسب البيان المشترك- بتأكيد الرئيس بايدن على الأهمية التي توليها الولايات المتحدة لشركائها الاستراتيجية الممتدة لعقود في الشرق الأوسط، والتزام الولايات المتحدة الدائم بأمن شركاء الولايات المتحدة، والدفاع عن أراضيهم، وإدراكها للدور المركزي للمنطقة في ربط المحيطين الهندي والهادي بأوروبا وإفريقيا والأميركيتين.

احتوى البيان الختامي أكثر من عشرين بندًا، وعرّج بعموميةٍ، تشي بعدم التعويل عليها، على الملفات الساخنة التي تعني الدول المشاركة أو ما يرتبط بأي منها، من اليمن وتثبيت الهدنة والحل السياسي، إلى العراق والربط الكهربائي، إلى وضعية القدس والدور الهاشمي التاريخي فيها، إلى الملف اللبناني وضرورة تمرير الاستحقاق الرئاسي القادم وفق الدستور، وأهمية تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة لجهة حصر السلاح بيد الدولة، ولم تغب ليبيا والسودان وسدّ النهضة عن البيان، وكذلك الإدانة غير المسماة للحرب الروسية على أوكرانيا، من خلال التشديد على سيادة الدول ورفض استخدام القوة أو التهديد بها، أما بخصوص الملف السوري، فقد أكد القادة ضرورة تكثيف الجهود للتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، يحفظ وحدة سورية وسيادتها، ويلبي تطلعات شعبها، ويتوافق وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 لعام 2015، مع توفير الدعم اللازم للاجئين السوريين.

رابعًا: استنتاجات

    في كل محطات جولة بايدن وتصريحاته، كان هناك ثابت واضح أنها موجّهة إلى الداخل الأميركي، وأنها حققت مصالح تهمّ الأميركيين على صعيد إمدادات الطاقة التي تحتاج إليها أوروبا بالدرجة الأولى، مما يسهم في إعادة تأكيد الدور القيادي والمسؤول للولايات المتحدة على مستوى العالم، وكل إنجازات بايدن في جولته كانت تصبّ في رفع رصيده ورصيد حزبه الديمقراطي، وعينُه على الانتخابات النصفية، تشرين الثاني/ نوفمبر القادم.

    يُرجح أن تكون هناك عودة أميركية لسياساتها التقليدية، وإعادة تأكيد حضورها المباشر، وإن بأساليب جديدة، تعتمد فيها على القوى الرئيسية في الإقليم، ما يمثل نكوصًا عن سياسة أوباما الانسحابية من الشرق الأوسط، والمفتقرة إلى منطق المصالح، وذلك عندما تنسحب لمواجهة الصين في جنوب شرق آسيا، وتترك لها المجال لملء الفراغ الذي أحدثته في الشرق الأوسط الحيوي.

    على الرغم من عدم بناء إسرائيل آمالًا كبرى على زيارة بايدن، فإن الإنجاز الرئيسي هو الإقرار الأميركي بحريّة التصرف الإسرائيلي المنفرد ضد إيران، في حال ارتأت أن هناك ما يهدد أمنها، شريطة ألا تفاجئ الولايات المتحدة.

    على صعيد التطبيع مع الدول العربية، حيث يتحمّس له سكان إسرائيل، فإن ما أنجزه بايدن في جولته كان متواضعًا ومتوقعًا، فالدول العربية ليست مستعجلة على تطبيع شامل، بخاصة المملكة العربية السعودية، وربما تريده تدريجيًا، بقدر ما يتحقق من تقدم على طريق حل الصراع العربي الإسرائيلي، ومع ذلك حقّق بايدن إنجازين على هذا الصعيد: أولهما فتح الأجواء السعودية أمام الطيران الإسرائيلي، وتمهيد الطريق أمام عودة جزيرتي تيران وصنافير الاستراتيجيتين في البحر الأحمر إلى السيادة السعودية، بعد أن وافقت إسرائيل على إطار الترتيبات الأمنية فيهما، وضمان حرية الملاحة.

    بخصوص تطلّع الولايات المتحدة إلى إنضاج تحالف إقليمي يضمّ دُول قمة جدّة إلى إسرائيل لمواجهة إيران، ويشكّل سدًا في وجه الحضورين الروسي والصيني في المنطقة، فالدول العربية المعنية غير مستعدة لإجراء تنسيق وتحالف علني مع إسرائيل في المدى المنظور، ولدى بعض الدول اعتراض صريح، فالعراق تمنعه قوانينه من الدخول في أي تحالف، أما الكويت فإن كثافة الوجود الإيراني والشيعي في تركيبتها الديموغرافية تثقل تحركاتها، والدول العربية ربما لا تمانع بتنسيق سري وغير مباشر مع إسرائيل، عبر الولايات المتحدة، وربما يكون مثل هذا التنسيق قائمًا بالفعل مع بعض الدول، لكن الأهم، على هذا الصعيد، يتحدد بأن الولايات المتحدة تريد مساعدة أطرافه في حماية أمنهم بأنفسهم وعلى نفقتهم، أما من جهة الدول العربية، فإنها تريد اختبار مدى جدية الالتزامات الأميركية.

    كان حضور الملفّ السوري على طاولة القمّة هامشيًا، وعلى ما يبدو أن الولايات المتحدة ما زالت تربط الملف السوري بذيل الملف النووي الإيراني، مما يعني أن الحلول لصراعه ما زالت مؤجلة.

إن التهديدات المتبادلة، بين إيران وإسرائيل، تدلل على أن الولايات المتحدة، على الرغم من فشل مفاوضات فيينا -في الوقت الذي لم ترشح فيه توافقات عن المباحثات الجانبية ما بين الولايات المتحدة وإيران الجارية في سلطنة عمان- لم تيأس بعدُ من عودة إيران إلى الاتفاق النووي، لأسباب عديدة، منها ضغوط لوبي النفط في واشنطن من أجل هذه العودة، وتمثل هذه التهديدات المتبادلة استعراضًا لقدرات كلا الطرفين، وليس استخدامها، حيث يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي إن على إسرائيل أن تستعدّ لشنّ حرب مباشرة على إيران، ولكن هذا يحتاج إلى تحضير الرأي العام، وإلى سنوات من التحضيرات اللوجستية والعسكرية.

مركز حرمون

———————-

حينما يتصارع الكبار ينفرج الصغار/ جلبير الأشقر

إن حكومات دول الصفّ العالمي الثالث، بمعنى الدول غير تلك الحائزة على العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي وغير تلك المصنّفة بأنها مصنّعة أو متقدّمة اقتصادياً، أي الغالبية العظمى من دول العالم، حنّت إلى زمن الحرب الباردة بُعيد زواله إذ كان زمناً ملائماً لاستقلالها النسبي. فإن تصارع المعسكرين العالميين بقيادة الولايات المتحدة من جهة والاتحاد السوفييتي في الجهة المقابلة، خلق هامشاً واسعاً من الاستقلالية استفادت منه دول الصف الثالث غير الخاضعة لسيطرة مباشرة من إحدى دول الصفّين الأول والثاني، أي غير دول أوروبا الشرقية التي تحكمت موسكو بمصيرها وغير الدول الخاضعة لسيطرة مباشرة استعمارية الطراز من إحدى الدول الغربية.

فإن تصارع القوتين العظميين في لعبة عالمية ذات مجموع صفري، أي في تنافس يشكّل فيه أي مكسب يحققه أحد الخصمين خسارة يُمنى بها الآخر والعكس بالعكس، إن ذلك التصارع كان من شأنه أن يجيز لدول الصف الثالث أن تناور بين الخصمين وتستفيد من استعداد كل منهما على تحمّل ما لا يروقه من أي من دول الصف الثالث ما دامت لم تنتقل إلى معسكر الخصم. لا بل تمكّنت تلك الدول من أن تخوض في اللعبة ذات مجموع صفري تلك بحيث انتزعت من كلتا القوتين العظميين تنازلات جمّة لقاء عدم تعاونها مع الخصم.

ومع انهيار الاتحاد السوفييتي دخل العالم في ما أسماه أحد المعلقين الأمريكيين «البرهة أحادية القطبية» إذ لم يبق في ساحة القوة العظمى سوى قطب واحد، ألا وهو الولايات المتحدة. وقد عرفت البرهة أوجّها خلال العقد الأخير من القرن المنصرم، بما تجلّى في المنطقة العربية، على سبيل المثال، بانهيار النظام «الشيوعي» في اليمن الجنوبية واندماجها بالشطر الشمالي على غرار انهيار النظام «الشيوعي» في ألمانيا الشرقية واندماجها بألمانيا الغربية. والحال أن الاندماج الأخير وحده يأتي في بال معظم الناس عندما يفكّرون بنهاية الحرب الباردة وانهيار المنظومة السوفييتية بينما تنتمي الحالة اليمنية إلى السياق ذاته.

    أخذت الأوضاع العالمية والإقليمية تتبدّل في السنوات اللاحقة مع صعود القوة العسكرية الروسية بفضل عودة أسعار النفط إلى الصعود، وصعود قوة الصين الاقتصادية بفضل وتائر النموّ المذهلة التي شهدتها منذ التسعينيات

كما تجلّت «البرهة أحادية القطبية» في المنطقة العربية بالتحاق نظام حافظ الأسد، حليف موسكو القديم، بالبيت الأمريكي لبعض الوقت في التسعينيات، إثر مشاركته بالحرب التي قادتها الولايات المتحدة ضد العراق. شهد ذلك العقد الأخير من القرن العشرين ذروة الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط، بما سمح لإدارة بوش الأب أن تتحدّث في عام 1992 عن «نظام عربي جديد» يندرج في إطار «النظام العالمي الجديد» الذي أعلنه قُبيل انقضاضه على العراق. وحتى النظام الإيراني، ولو بقي مستعصياً على الهيمنة الأمريكية، إنما ارتاح لتدمير خصمه العراقي وتصرّف بحذر شديد، بل وتودّد، طوال تلك المرحلة التي توّجها تعاون المعارضة العراقية الموالية لطهران مع واشنطن وعودتها إلى بغداد ومشاركتها بالحكم في العراق تحت إشراف المحتلّ الأمريكي.

ثم أخذت الأوضاع العالمية والإقليمية تتبدّل في السنوات اللاحقة مع صعود القوة العسكرية الروسية بفضل عودة أسعار النفط إلى الصعود، وصعود قوة الصين الاقتصادية بفضل وتائر النموّ المذهلة التي شهدتها منذ التسعينيات وخلال العقد الأول من قرننا الراهن. وقد انعكس ذلك التبدّل انعكاساً ساطعاً في منطقة الشرق الأوسط يحكمه فارقٌ عظيم يميّزه عن زمن الحرب الباردة وثنائية القطبية، فارقٌ يكمن في أن نظام روسيا ما بعد السوفييتية لم يعد متعارضاً بطبيعته مع أنظمة الدول الخليجية، العربية منها كما والإيرانية، مثلما كانت الحال في زمن «الشيوعية». وينسحب الأمر ذاته على الصين التي باتت منفتحة انفتاحاً كاملاً على السوق الرأسمالية، وإن كان اسم حزبها الحاكم لا يزال «شيوعياً».

أما نتيجة هذا الفارق فهي مفارِقة للنمط العالمي إذ إن هامش المناورة تعاظم لدى الدول الخليجية عمّا كان عليه زمن الحرب الباردة. ذلك أن تلك الدول باتت قادرة على الدخول في لعبة المجموع الصفري أكثر بكثير مما كان الأمر عليه عندما كانت موسكو «مكّة الشيوعيين» كما كان يُقال. فعندما انتهى شهر العسل بين واشنطن وطهران، بعد أن بلغ أوجّه تحت رئاسة باراك أوباما، وانحطّت العلاقات بينهما مع اعتلاء دونالد ترامب سدّة الرئاسة الأمريكية، تمكّنت طهران من شدّ أواصر تعاونها مع كلّ من روسيا والصين.

جرى ذلك بينما روسيا والصين تشدّان كلتاهما أواصر علاقاتهما بدول الخليج العربية في الوقت ذاته، بما أتاح لهذه الأخيرة توسيعاً كبيراً لدائرة استقلال قرارها عمّا كانت عليه في القرن العشرين. وقد رأيناها تناور بين الأقطاب العالمية بعدما حلّ جو بايدن محلّ ترامب وهو يعد بمواصلة سياسة أوباما القائمة على الازدراء بعرب الخليج، بل أن يفاقمها في ضوء ما ترتّب على قضية اغتيال جمال خاشقجي.

وها أن شنّ روسيا لعدوانها الغاشم على أوكرانيا أجّج الصراع العالمي إلى ما عادل أكثر مراحل الحرب الباردة حدّةً أو كاد يفوقه، بحيث باتت الدول الخليجية كافة مستفيدة رئيسية، لاسيما أن ظروف الحرب أدّت إلى ارتفاع في أسعار المحروقات التي هي مصدر أهمّية الخليج الاقتصادية الأوحد، مع ازدياد حاجة أوروبا الغربية إلى استيرادها من غير روسيا بعد أن فرضت عليها عقوبات اقتصادية قاسية.

وقد انجلى تصاعد أهمية الدول الخليجية في مشهدين لم يكنا بالممكنين لولا الحرب الدائرة في أوكرانيا: رئيس أمريكي يبلع المرّ ويزور المملكة السعودية بعد أن وعد بمعاملة وليّ عهدها معاملة المنبوذ، ورئيس روسي يزور طهران في ثاني زيارة له خارج بلاده منذ جائحة كوفيدـ19 بعد زيارته لبكين قُبيل اجتياح قواته لأوكرانيا.

والحال أن تغلّب فلاديمير بوتين على هاجسه الأقصى من الوباء بذهابه إلى بلد انتشر فيه هذا الوباء خلافاً للصين، إنما يشير بذاته إلى احتياج روسيا لمعونة إيران مثلما تحتاج أمريكا لمعونة عرب الخليج.

كاتب وأكاديمي من لبنان

القدس العربي

——————————-

بايدن في المنطقة: ترامب خجول/ مهند الحاج علي

لو قارنّا بين زيارتي الرئيسين الأميركيين للشرق الأوسط، جو بايدن الأسبوع الماضي، ودونالد ترامب العام 2017، لما لاحظنا فارقاً كبيراً سوى في تفاصيل تافهة، كمثل بعض التصريحات غير المهمة عن حل الدولتين وحقوق الإنسان، ومساعدات مالية للفلسطينيين (هزلية مقابل ما يحصل عليه مَن يحتلهم).

المفارقة أن الرئيس بايدن استخدم أعمدة سياسة ترامب لبناء زيارته، أكان لجهة التركيز على توسيع دائرة دمج إسرائيل في المنطقة من خلال اطار الاتفاقات الإبراهيمية، أو عبر رفع منسوب التوتر مع إيران وتقديم ضمانات أمنية وعسكرية في مواجهتها للحلفاء. في الموضوع الأول، أي اتساع دائرة العلاقات العربية لإسرائيل، هذه سياسة المُستهدف فيها ليس إيران أو النظام الإيراني، بل يُستهدف بها الفلسطينيون بما أن القمة العربية في بيروت العام 2002 أقرت بمقايضة التطبيع الشامل مع حل للقضية الفلسطينية. وبالتالي، أي تقدم باتجاه التطبيع يقضم من القدرة الفلسطينية على التفاوض، وهذا يُفسر الميل أو القناعة الغالبة لدى الفلسطينيين بالعودة للعمل المسلح ضد إسرائيل.

وهذا من إنجازات الرئيس ترامب نتيجة سياساته الاقصائية التي يُتابعها الرئيس بايدن.

أي كلام عن التزام أميركي بحل الدولتين لا قيمة له، إن لم يكن مقروناً بضغط على الجانب الإسرائيلي، أكان لجهة وقف كل التوسع الاستيطاني، أو لناحية إطلاق مفاوضات على أساسها أو اتخاذ إجراء أحادي كمثل افتتاح قنصلية في القدس الشرقية والاعتراف بالحق الفلسطيني فيها.

ما هو مسار السياسة الأميركية الحالية؟

إطار التطبيع مع إسرائيل يفتح المجال، بطبيعة الحال، أمام دور إيراني أكثر فاعلية في القضية الفلسطينية، وهذا مرتبط بمسار السياسة القائمة حيال إيران، لجهة عدم العودة للاتفاق النووي واستئناف التصعيد الأمني والعسكري من حيث توقفت الأمور في نهاية حقبة الرئيس ترامب، بما أن المنطقة بأسرها تسير في اتجاه التصعيد، بغض النظر عمّا إذا كان شاملاً أو موضعياً، وهذا التصعيد سيشمل بالتأكيد الأراضي الفلسطينية بأسرها. بالتأكيد، مثل هذا الواقع الجديد سيتبلور في الداخل الإسرائيلي في اتجاه من اثنين: إما تطرف أكبر كما نرى في صعود التيار الكاهاني، أو ميل نحو التسوية والواقعية في التعاطي مع القضية الفلسطينية. الميل المرجح هو الأول، وهذا غير قابل للتصالح، لا مع الدول العربية ولا مع الإدارة الأميركية، حتى لو عاد ترامب الى البيت الأبيض.

السؤال الأهم هنا يبقى في تفاعل المنطقة العربية مع القضية الفلسطينية والمواجهة العسكرية فيها، والخطاب الناشئ منها، أكان الديني الذي تُمثله حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، أو غيره مما قد ينشأ من معركة وراثة الرئيس الفلسطيني محمود عباس في حركة “فتح”. من الخطأ نفي الحراك السياسي عن منطقة تشهد أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة، تترافق مع قمع المعارضات وإقفال مساحات التعبير. وهذا يشمل الشرق الأوسط وإفريقيا كذلك، ولن ينحصر في المشرق.

هذا مسار عبّدته الإدارة الأميركية السابقة بالتوافق مع إرادات محلية. لكن الإدارة الحالية لا تملك القدرة على تبديل واقع يتطور، بل باتت تتعامل معه على القطعة، وقد تُضطر الى المشاركة لاحقاً في تصعيد لا ترغب فيه. ومن هذا المنطلق، في الإمكان القول إن الزيارة مثّلت علامة فارقة على وهن القدرة الأميركية في صياغة السياسة في منطقة يُعاد تصميم النفوذ فيها بشكل مغاير عمّا كانت عليه منذ نهايات الاتحاد السوفياتي قبل ربع قرن.

——————————–

المنطقة بين قمتي جدّة وطهران/ غازي دحمان

هل هي مصادفة أن تختار الولايات المتحدة مدينة جدة لعقد قمّة، أقلّ ما يقال فيها إنها ستؤسّس لمساراتٍ جديدة في مستقبل المنطقة، ويختار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، طهران لما يمكن أن يكون رداً على الحراك الأميركي في المنطقة؟

لهذه الأماكن رمزية كبيرة، فلو أنّ أميركا وأصدقاءها مثلاً عقدوا قمتهم في أبوظبي، وفي المقابل عقد الطرف الآخر قمته في أنقرة، هل سيكون لهاتين القمّتين كلّ تلك الحمولات السياسية، فلا الإمارات تطرح نفسها قائدة للشرق الأوسط، ولا تركيا تطالب بنظام دولي جديد تتراجع فيه الهيمنة الأميركية.

يطرح الحراك الدولي الذي تشهده المنطقة السؤال عمّا إذا كان الشرق الأوسط عاد ليصبح بيضة القبّان في السياسة الدولية، بحيث تصبح مساحة النفوذ ودرجة التأثير التي يمتلكها الفاعلون الدوليون في هذه المنطقة مقياساً وانعكاساً لتراتبية القوى في النظام الدولي، أم أنّ الأمر لا يعدو كونه مسألة ظرفية متعلقة بأزمة الطاقة، وعندما تنتهي هذه الأزمة، برفع العقوبات عن روسيا أو إيجاد بدائل طاقوية، سينفضّ المولد ويتابع الشرق الأوسط مساراته القديمة، بوصفه قوة هامشية خارج سياقات التأثير العالمية؟

لا يمكن نكران حقيقة وجود فاعليةٍ عربيةٍ، لكنها لا تزال في طور الولادة، إذ استطاعت الدول العربية، الخليجية تحديداً، صناعة ديناميات جديدة وضعتها في قلب المعادلات الدولية؛ تحرّكات قطر في ملف الاتفاق النووي، والمواقف من الحرب الأوكرانية، وأزمة تراجع كميات النفط في السوق الدولية، وهذه الفاعلية هي التي دفعت الفاعلين الدوليين الكبار إلى محاولات استقطاب الدول العربية إلى جانبها. لكن يبدو أن الأطراف العربية لم تصل بعد إلى فهم جوهر السياسات الدولية الحقيقي، ولا الأهداف المتوسطة والبعيدة التي تسعى تلك الأطراف إلى تحقيقها، في وقتٍ تركّز غالبية الأطراف على تحقيق مكاسب سريعة وآنية، في الغالب، ستحصل عليها، لكنها لن تكون ذات قيمة كبيرة بعد مرور وقتٍ قد لا يكون بعيداً. ويستدعي فهم ذلك، بدرجة كبيرة، فهم المعادلات المُراد صناعتها من تحرّكات واشنطن وموسكو في المنطقة، ومعرفة ما إذا كانت هذه المعادلات تتناسق مع السياقات التي ترسمها دول المنطقة لمستقبل فاعليتها وأدوارها الإقليمية والدولية.

تسعى إدارة الرئيس جو بايدن من حراكها الشرق أوسطي إلى تحقيق جملة من الأهداف، التي لم تعد خافية على أحد: إعادة ضبط إيقاعات المنطقة، التي باتت تشكّل الفوضى إحدى أهم سماتها، على وقع الصراع الدولي الذي باتت نُذره ترتسم في أفق السياسة الدولية. دمج إسرائيل، بأي شكل، ضمن النسق الأمني للمنطقة، في مرحلة أولى، على أن تكمل دول المنطقة نفسها استكمال الاستحقاقات الأخرى. إضعاف أوراق إيران ودفعها إلى خفض سقف طلباتها في مفاوضات النووي، وسيترك الباب موارباً بشدّة لعبور إيران منه إلى هذه البنية قيد التشكّل، بسبب الحاجة الأميركية إلى عودة النفط الإيراني إلى الأسواق الدولية.

على الطرف الآخر، يقرأ الرئيس الروسي بوتين الحراك الأميركي، بالإضافة إلى كونه محاولة لإعادة هندسة الشرق الأوسط، أنه استراتيجية أميركية تهدف إلى حرق أوراق روسيا وإضعاف تأثيرات قوّة ورقة الطاقة التي تمنحها هامش مناورة واسعاً في حربها الأوكرانية، وتعطيها القدرة على الاستمرار في الحرب حتى تحقيق أهدافها في أوكرانيا، وربما على صعيد إعادة بناء موازين القوّة في أوروبا والعالم.

بالطبع، ثمّة فرق كبير بين قدرات واشنطن وموسكو وأدواتهما التأثيرية في الشرق الأوسط، إذ يقتصر التأثير الروسي على الحضور العسكري في سورية، والذي يشكّل محور فعاليتها، وارتكازاً على هذا الحضور نسجت موسكو تفاعلات واسعة مع دول الإقليم، وتحديداً مع تركيا وإيران، في حين تتغلغل واشنطن في نسج المنطقة وبناها الأمنية والعسكرية والتقنية والاقتصادية، الأمر الذي يضعها في موقع تفضيلات أطراف المنطقة في أي علاقة تحالفية.

لكن، ثمّة ما يجب قراءته تحت سطح التحرّكات الجارية، وخصوصاً في شقها الأميركي، حيث يمهّد التحرك الأميركي إلى الخروج من المنطقة، بعد أن يُصار إلى ضبط إيقاعاتها وضمان عدم استقطابها من الصين وروسيا، مؤشّرات عديدة تؤيد هذه الفرضية، إذ يبدو أن الإدارات الأميركية استسلمت أمام فكرة استحالة تغيير الأوضاع السياسة في المنطقة، وضعف احتمالات نجاح برامجها في الديمقراطية، وخصوصاً بعد الفوضى التي صنعتها الأنظمة الاستبدادية بعد الربيع العربي.

أما روسيا، ورغم ما يطرحه إعلامها من أن النظام الدولي مقبلٌ على تغيرات هيكلية، وأن زمن الأحادية القطبية إلى الزوال، لكن سلوكها، وخصوصاً على صعيد علاقاتها الخارجية، ينطوي على إحساسٍ بالضعف والتراجع، وهي لا تملك سوى الرهانات، أو حتى التمنيات، للإبقاء على صيغ العلاقات مع دول المنطقة كما كانت عليه في مرحلة ما قبل الحرب الأوكرانية.

بين قمّتي جدّة وطهران، ثمّة متغيرات متوقعة على صعيد التحالفات والعلاقات بين الفاعلين في المنطقة، لكنّ المؤكّد أن زخم قوّة اللاعبين الكبار في تراجع، وهو ما يمنح دول المنطقة فرصة للخروج من ظل العلاقات التبعية التي طالما وسمت علاقات دول المنطقة باللاعبين الخارجيين، لكن ثمّة فرصة مهمة تنطوي عليها هذه التطورات، إذا أحسنت دول المنطقة استثمارها، واستطاعت تثبيت أنفسها فواعل مؤثرة في النظام الدولي الحالي، أو الذي على قيد التشكّل.

العربي الجديد

——————————-

الخطأ البنيوي في جولة بايدن الشّرق أوسطية/ راغدة درغام

تتعرقل رؤية إدارة جو بايدن للشرق الأوسط بالدرجة الأولى في محطة انطلاقها، أي في تصوّرها أن في وسعها حياكة منظومة أمنية واقتصادية وسياسية، تضم حليفها الإسرائيلي ودولاً عربية خليجية وشرق أوسطية بموازاة، استثمارها في المفاوضات النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية لإبرام صفقة أميركية – إيرانية تؤدّي إلى رفع العقوبات الشاملة عن طهران.

إذا كان أركان إدارة بايدن يعملون ببالغ السريّة والدّقة على تفاهمات إيرانية – إسرائيلية استراتيجية خفيّة، توافق بموجبها طهران على مثل هذه المنظومة وتقبل بموجبها إسرائيل بأن تكون إيران ركناً في نظام أمني جديد يضمّها إلى جانب دول مجلس التعاون الخليجي واليمن والعراق، عندئذٍ يمكن الانحناء أمام براعة الرئيس جو بايدن وفريقه.

يمكن أيضاً الحلم بشرق أوسط جديد تتصالح فيه الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإسرائيل اليهودية علناً، بدلاً من تلك الرقصة التهادنية التاريخية بينهما، فيما حروبهما بالنيابة تنهش الدول والشعوب العربية. لكن الواقعية السياسية تفيد بأن مشروع النظام في طهران لا يسمح لإيران بأن تتخلى عن عقيدتها، ولذلك لا يمكنها أن تقبل علناً بإسرائيل ولا أن تكفّ عن تصدير نموذج “الحرس الثوري” إلى الدول العربية، ليس فقط لتسيطر على هذه الدول، بل أيضاً لمنعها من سلوك مسار مستقلّ عن طهران في علاقاتها الثنائية مع إسرائيل. وكما يفيد إيران كثيراً أن تكون إسرائيل بكل جشعها وبرفضها حل الدولتين مع الشعب الفلسطيني، ترى إسرائيل في مشروع إيران النووي ذلك الوقود الذي تحتاجه للتّأجيج عندما تشاء وللحصاد عندما ترتئي. كلتاهما حكم ثيوقراطي، مهما تظاهرت إسرائيل بأنها ديموقراطية، أقلّه لأنها تصرّ أولاً وأخيراً على أنها دولة يهودية.

النقص في رؤية بايدن وفريقه هو التظاهر بغير هذا الواقع وبلا واقعية وبكثير من الفوقيّة، بالذات مع الدول العربية، ومن جهل بالعقلية والعقائدية في إسرائيل وإيران على السواء. وبالتالي، إن الرئيس الأميركي الرقم 46، جو بايدن، لن يتمكّن من بناء عالم جديد أو شرق أوسط جديد أوّلاً، لأنه بدأ البناء متأخّراً فيما كانت إسرائيل وإيران قد شيّدتا الحصن الذي تريده كل منهما، وثانياً، لأن الدول العربية، الخليجية منها بالذات، صاغت نهجها وخياراتها على وتيرة تحررها من التوقعات الأميركية بعدما فاجأها الرئيس الأميركي الرقم 44، باراك أوباما ونائبه عند ذاك جو بايدن، بسياسة الاستغناء والاستهتار المريرة. فماذا الآن؟

زيارة الرئيس بايدن الشرق الأوسط كانت مُستَعجَلة، دفعت بها الحرب الأوكرانية واحتياجات أوروبا إلى النفط والغاز تعويضاً عن انقطاعها من روسيا. لو لم يقم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باجتياح أوكرانيا وتغيير المعادلة الدولية الاقتصادية والنفطية منها بالذات، لما أسرع الرئيس الأميركي إلى السعودية للقاء قادتها وللمشاركة في قمّة جدّة مع الدول الخليجية الست الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي زائداً مصر والعراق والأردن. فالرئيس جو بايدن كان منصبّاً تماماً على المفاوضات في فيينا مع إيران لإحياء الصفقة النووية JCPOA وإبرام صفقة ثنائية كتلك التي أبرمتها إدارة أوباما التي خدم بايدن وفريقه فيها.

زيارة بايدن السعودية أتت في إطار الاعتذار والاعتراف غير المباشر بالأخطاء والإهمال، زيارة الـ”مياكولبا” تقريباً وليست زيارة للبناء. كان لا بد للرئيس الأميركي من أن يكون مكبّلاً بإيران طوال محادثاته في المحطة الإسرائيلية كما في المحطة السعودية. ذلك لأنه لم يكن قد انتهى من مفاوضات فيينا، ولم يكن قد أنهى التزامه وإصراره على صفقة مع إيران. فالخلل في ترتيب الزيارة كان بنيوياً، افتقد أدوات بناء العلاقات الطويلة الأمد وصقل الاستراتيجيات.

بكلام آخر، يصطدم تصوّر الرئيس بايدن وفريقه لشرق أوسطٍ مستقر بالعقدة الإيرانية – الإسرائيلية، وبالسلوك الإيراني في المنطقة العربية كما ترتئيها العقيدة الإيرانية، وإلى درجة أكبر يصطدم بالعداء الإيراني نحو الوجود الأميركي في المنطقة. بكلام آخر، إن الخلل هو في اعتقاد بايدن وفريقه أن لديه العصا السحرية لتغيير سلوك إيران وفكرها وعقيدتها. الخلل أيضاً هو في افتراض هذا الفريق أن “ترقيع” المسألة الفلسطينية – الإسرائيلية كافٍ للقفز إلى واقع جديد، وأن مجرد اللفظ بـ”حل الدولتين” وقيام الرئيس بايدن بزيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس مسكِّنٌ فعّال لجبهة المقاومة التي لإيران ذراع طويلة فيها. الخلل هو في عزم إدارة بايدن، كما الإدارات الأميركية التي سبقتها، على حجب العدالة عن الفلسطينيين وسحق حقِّهم بدولة مستقلة لأن إسرائيل في صميمها لا تريد قيام تلك الدولة.

بالأمس، كان السياسيون الأميركيون يخشون أن يُغضِبوا إسرائيل بسبب نفوذها في ساحة الانتخابات الأميركية. اليوم، الخوف يبقى من نفوذ إسرائيل وغضبها، لكنه يتفاقم عند التفكير بغضب إيران إذا ما فشلت المفاوضات النووية.

الى حد ما، أوقع الرئيس جو بايدن نفسه في مصيدة مفاوضات فيينا الرامية إلى إحياء الاتفاقية النووية مع إيران، والتي مزّقها سلفه دونالد ترامب احتجاجاً على النقص فيها. بات سجيناً لها في الوقت الذي عليه أن يُبحِر بين الشروط الإيرانية التعجيزية والمسيرة الإيرانية المستمرة نحو اقتناء السلاح النووي. يجد الرئيس بايدن نفسه غير قادر على استئناف سياسة ترامب القائمة على مبدأ “الضغوط القصوى” على إيران، لأن الفكرة تثير اشمئزازه مع أنه لم يتردّد في تبنّي سياسة ترامب التي أطلقت “اتفاقيات أبرامز” للتطبيع بين العرب وإسرائيل.

فريق بايدن أراد إنشاء وضع جديد في الشرق الأوسط استطراداً لسياسة ترامب المعنية بإسرائيل، لكنه وجد أن انغماسه في تمزيق ما مزّقه ترامب مع إيران بات العرقلة الكبرى التي تحول دون بناء ما تصوّره.

فطهران لن تسمح بقيام نظام أمني إقليمي يضم العرب وإسرائيل تبقى هي خارجه. قدراتها التخريبية ضخمة وهي لن تتردد في استخدامها. الثمن الذي تطالب إيران به هو أن تنفّذ إدارة بايدن التزامات رفع كامل العقوبات عنها طبقاً لشروطها في إطار مفاوضات فيينا. وإدارة بايدن في مأزق.

إدارة بايدن في مأزق لأنها تحاول إحياء الوجود الأميركي والعلاقات المتينة مع الدول الخليجية العربية، وبناء منظومة تعايش وتطبيع مع إسرائيل بسرعة من أمرها، وهي تعتقد أن ما تبنيه دائم بغضّ النظر عما يحدث في المفاوضات مع إيران والتي تثق بأنها ستؤدّي إلى نتيجة في نهاية المطاف.

مثل هذا التفكير هو رهان وليس سياسة. مثل هذا التصوّر والتصرّف يوحي بأن فريق بايدن يرتجل سياساته، ويفتقد رؤية البناء، ويقع في تخبّط وارتباك استراتيجيين يثيران القلق.

ما تحتاجه الولايات المتحدة اليوم هو إعادة بناء نفسها في منطقة الشرق الأوسط بوضوح وبراغماتية. اليوم تبدو صبيانية بعض الشيء وهي تتبنّى سياستين شبه متضاربتين، إحداهما تهادنية مع إيران توحي بالعزم على تلبية شروطها ورفع العقوبات عنها، وأخرى استفزازية توحي بأن إيران مُستَبعَدة من الشبكة الأمنية والاقتصادية الشرق أوسطية التي تضم دولاً خليجية عربية وإسرائيل.

صوغ دور جديد للولايات المتحدة في منطقة الخليج أمر في غاية الأهمية والخطورة إذا ارتكبت إدارة بايدن أخطاءً استراتيجية. لقد تأخرت إدارة بايدن في إيضاح معالم سياساتها نحو الدول الخليجية ونحو المنطقة العربية ككل. وذلك بسبب انهماكها بإيران. في هذه الأثناء، صاغت الدول العربية نهجها واعتمدت سياسات مستقلة عن تقاليد العلاقات الأميركية – الخليجية لكن من دون طلاق منها. هناك مجال لإصلاح ما أفسده العطّار، ولكن  الثقة القاطعة والاعتماد التام ولّى عهدهما. وبالتالي ستكون مهمّة إدارة بايدن صعبة، ليس فقط مع إيران وإسرائيل بل أيضاً مع الدول العربية.

بناء المحاور لم يعد كما كان في زمن الحرب الباردة، وعملية الاستقطاب باتت أكثر تعقيداً. هذا لا ينفي أن المحور الثلاثي الذي يضم الصين وروسيا وإيران يراقب عن كثب ما تحاول أن تقوم به إدارة بايدن في إطار بناء محورها. في رأي روسيا، لن تتمكن الولايات المتحدة من بناء محور جدّي لأنها أخطأت في الفحوى وفي التوقيت. رأي الكرملين هو أن الاستقرار ليس المهم اليوم بل الأهم هو عملية تشييد المحاور والاستراتيجيات والهياكل الأمنية ذات الجذور القوية.

النهار العربي

———————–

في العودة الأميركية إلى الشرق الأوسط/ رانيا مصطفى

عاد الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط على وقع الحرب الروسية على أوكرانيا وما تسببت به من أزماتٍ عالمية في الطاقة والمواد الغذائية، وعلى وقع تعثّر العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وما يعنيه من رفع العقوبات عنها وعودتها إلى أسواق الطاقة العالمية، وكذلك تصاعد النفوذين الروسي والصيني في المنطقة، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية الأميركية الداخلية من تضخم بلغ 10%، وارتفاع سعر البنزين، ومديونية أميركية ضخمة وصلت إلى 30 ألف مليار دولار، وقبيل الانتخابات النصفية في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. كانت استراتيجية الإدارات الأميركية المتعاقبة، منذ أوباما ثم ترامب وحتى بايدن، تتجه نحو تركيز الاهتمام بالصعود الاقتصادي للصين، وتقليص حجم وجودها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وآسيا الوسطى؛ تجلت في قرارات الانسحاب من العراق وأفغانستان، ولم تكن واشنطن في قيادة حلف الناتو المتدخل في ليبيا، وعدم اكتراثها بسورية، وتقليص حجم وجودها العسكري فيها شرقاً، والسكوت عن مطامح إيران التوسّعية في المنطقة ومليشياتها، وعن اعتداءاتها المتكرّرة على المنشآت المدنية للحلفاء في السعودية والإمارات، وعلى منشآت الطاقة والسفن، وهذا مخالفٌ للاتفاقيات الأمنية التي تلزم واشنطن بحماية أمن حلفائها في الخليج العربي.

بدت الإدارة الأميركية مكبّلة بتصريحات بايدن السابقة وشعارات حملته الانتخابية، التي جاءت حينها على النقيض من سياسات ترامب؛ وهي مثقلةٌ بالضغوط الإسرائيلية التي دفعتها إلى العودة إلى تبنّي سياسات ترامب؛ بالتخطيط لاستمرار التطبيع العربي مع الكيان الإسرائيلي، وعلى حساب الفلسطينيين، عبر دمج إسرائيل في النسق الأمني للمنطقة مرحلة أولى. فشل بايدن في العودة إلى إحياء الاتفاق النووي مع إيران، وكان انسحابه من أفغانستان دراماتيكياً وغير مسؤول، ويؤلمه رفض السعودية طلبه بزيادة إنتاج النفط؛ وهو في جولته في الشرق الأوسط، أراد تبييض ماء الوجه بإنجازات جديدة، تصبّ في صالح شعاره الانتخابي “عودة أميركا” دولة عظمى وصاحبة النفوذ الأكبر في الشرق الأوسط، ولتعزيز فرص الحزب الديمقراطي في الانتخابات النصفية المقبلة قبل نهاية العام.

وحملت جولة بايدن في المنطقة مغزىً مهماً لإسرائيل، عبر “إعلان القدس”، وهو تأكيد المؤكّد، أي استمرار الدعم العسكري للكيان الصهيوني، والالتزام بأمنه أولوية، وأخذ المبادرات الإسرائيلية على محمل الجدّ، سواء تلك المتعلقة بناتو شرق أوسطي، أو إدماج إسرائيل ضمن سوق اقتصادي للمنطقة، ما يعني الاعتراف بالكيان الصهيوني على نطاق عربي واسع. هذا جلّ تصريحات بايدن في محطته الثانية في الضفة الغربية تبدو منافقة، بالحديث عن تمسّكه بمبدأ حلّ الدولتين وفق حدود 1967، وحقوق الفلسطينيين، وتهرّبه من إحراجات الصحافيين حول الممارسات الإسرائيلية العنصرية ضد الفلسطينيين، والتحقيق في مقتل الصحافية شيرين أبو عاقلة، وهذا يعني أن زيارته الجانب الفلسطيني رمزية، وبمحصلة تكاد تكون صفرية، لولا تعهده باستمرار تقديم المساعدات لمشافي القدس.

وكانت إنجازات بايدن في جدّة محدودة بدورها، وليست بحجم قمّة يعقدها رئيس دولة عظمى مع دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق؛ فرغم تطبيع أربع دول (الإمارات والبحرين والسودان والمغرب) مع إسرائيل، ووجود علاقات سياسية واقتصادية بين الأخيرة وكل من مصر والأردن، إلا أن السعودية رفضت بوضوح أية اتفاقات مع الكيان الصهيوني، واشترطت حلّ المسألة الفلسطينية وفق القرارات الدولية. هذا ينسف فكرة إنشاء منظومة أمنية واقتصادية وسياسية تضم إسرائيل، والاكتفاء بتبادل معلوماتٍ استخباراتية، وبمقايضة فتح الأجواء السعودية أمام حركة الطيران المدني الإسرائيلي مقابل قبول إسرائيل بسيطرة السعودية على جزيرتي تيران وصنافير الاستراتيجيتين في البحر الأحمر. وفشلت واشنطن في الحصول على وعود من الرياض بزيادة إنتاج النفط في اجتماع “أوبك+” المقبل، خصوصا أن روسيا لن تقبل بهذا القرار، وكذلك السعودية مستفيدة من ارتفاع أسعار النفط، وهناك وفرة اقتصادية بنمو 10% من الناتج المحلي الإجمالي في النصف الأول من عام 2022، وهذه الوفرة ضرورية لتنفيذ سلة المشاريع التنموية التي يعد بها ولي العهد محمد بن سلمان في السعودية والخليج، سواء على صعيد البيئة والطاقة النظيفة، وتقنيات خفض الانبعاثات وإزالة الكربون، ومشروع “السعودية الخضراء” و”الشرق الأوسط الأخضر”، إضافة إلى استثماراتٍ واسعةٍ في مجال التكنولوجيا. تتطلع إدارة بايدن إلى حصول الشركات الأميركية على هذه الاستثمارات، وعدم تركها للصين؛ ولعل هذا أفضل ما أنجزه بايدن في قمة جدّة. ورغم ذلك، ما زالت بكين تنافس واشنطن في الاستثمارات في منطقة الخليج العربي في مجالات التكنولوجيا والطاقة المتجدّدة، كما أن الصين أكبر مستورد للنفط السعودي.

تطمح السعودية إلى الحفاظ على دورها القيادي ضمن مجلس التعاون الخليجي، والمنطقة العربية، وهذا يجعلها، بوصفها دولة وازنة، ترفض التطبيع، وترفض أي تنسيق أمني تقوده إسرائيل، أو حتى أميركا، ولا ترغب في كشف منظوماتها الدفاعية حتى أمام دول مجلس التعاون. وكانت قضية مقتل الصحافي جمال خاشقجي قد أضرّت بمكانة السعودية تلك، وزاد هذا الضرر مع تراجع العلاقات الأميركية السعودية بعد مجيء بايدن رئيساً؛ وهو الذي كان قد اعتبرها دولة منبوذة، ورفع جماعة أنصار الله (الحوثيين) من قائمة الإرهاب، وجمّد مبيعات أسلحة للسعودية مؤقتاً، وأوقف الدعم العسكري للتحالف الذي يقف إلى جانب الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً. وقد استفادت الرياض كثيراً من زيارة بايدن، بإعادة الاعتبار لها دولة لها دور مهم في المنطقة وفي أسواق الطاقة العالمية؛ وهذا يعني، في الوقت نفسه، تراجعاً، لدى إدارة بايدن، في ملف حقوق الإنسان والانتهاكات، ونشر الديمقراطية.

في المجمل، لا وعود سعودية مؤكّدة بزيادة إنتاج النفط إلى المستوى الذي يُحدِث فرقاً في تقليص استفادة روسيا من عائدات النفط، ولا وعود أيضاً بالابتعاد عن الصين وروسيا، ولا اتفاقيات أمنية مع إسرائيل، عدا عن تنسيق استخباراتي محدود فيما يخصّ التصدي للصواريخ والطائرات الإيرانية، ولم تعد السعودية ودول الخليج تثق بالضمانات الأميركية لأمنها عموماً. قد تربح الرياض صفقات أسلحة، وعليها في الوقت نفسه تهدئة الساحة اليمنية.

ويمكن تلخيص ما أنجزه بايدن في جدة بمحاولة لتهدئة الجبهات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وإبعادها عن الصين وروسيا، واستغلال فشل إعادة إحياء الملف النووي الإيراني في الضغط على دول المنطقة للقبول بتنسيق أمني سياسي اقتصادي مع إسرائيل، ولو بالحد الأدنى، وكذلك الضغط على إيران للقبول بالعودة إلى الاتفاق، وعودة نفطها إلى الأسواق الدولية، واهتمام أميركي عالي المستوى بحزمة الاستثمارات الخليجية المقبلة، وعدم ذهابها إلى الصين.

العربي الجديد

——————

زيارة بايدن .. رشّ الملح على الجرح/ مصطفى البرغوثي

بدأ الرئيس الأميركي، جو بايدن، زيارته المنطقة بالإعلان أنه صهيوني، وقال له القائم بأعمال رئيس وزراء إسرائيل، يائير لبيد: بل أنت صهيوني كبير. ثم جاء البيان الإسرائيلي – الأميركي، الذي سُمّي استفزازاً “بيان القدس” صهيونياً بامتياز، ومتبنّياً الرؤية الإسرائيلية بشكل تام. ولم يخف بايدن أن الهدف الأهم والأول لزيارته، دعم إسرائيل سياسياً، واقتصادياً، وعسكرياً، وتكنولوجياً، والعمل ليس على تحقيق التطبيع لها وحسب، بل ودمجها في المنطقة. وعند قراءة البيان، يصعب على الإنسان إيجاد فرق كبير بين المواقف الإسرائيلية والأميركية، وكأنه أراد القول إن إسرائيل هي أميركا، وأميركا هي إسرائيل.

ويمكن تلخيص زيارة بايدن فلسطين والكيان الإسرائيلي وجدّة في النقاط الآتية:

أولاً – الدعم المطلق لإسرائيل، وتأكيد التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والاستعداد لزيادة الدعم العسكري الذي يصل إلى حوالى أربعة مليارات دولار سنوياً ملياراً جديداً.

ثانياً – الشيء الوحيد الذي استطاع إيجاده المصّرون على التمسّك بوهم التدخل الأميركي لإطلاق عملية سياسية، كان إشارته إلى أنه يدعم “حل الدولتين”. ولكن هذا “الشيء” يحتاج إلى تمحيص، فالبيان الأميركي الإسرائيلي، تحدث بصيغة طرفين متفقين في جميع النقاط، إلا في نقطة “حلّ الدولتين”، حيث لم يدعم الطرفان هذا الأمر، بل قال البيان إن بايدن وحده “يدعم ذلك الحل”. ومعنى ذلك أن بايدن لم يستطع أن يفرض على الحكومة الإسرائيلية مجرّد ذكر “حل دولتين”، واعتذر عنها باستحالة وجود عملية سياسية. ولكن هل هناك قيمة سياسية فعلية لما أعلنه بايدن عن تأييده “حلّ الدولتين”؟ بالقطع لا، لأنه في كل مرّة ذكر فيها “حلّ الدولتين” أصّر على الإشارة إلى أن ذلك هدف بعيد المنال، ولا يمكن أن يطبّق في القريب العاجل.

وإذا جمعنا هذا التأجيل المفتوح مع حقيقة أن بايدن لم يمارس، ولم يرغب في ممارسة أي ضغط على إسرائيل لوقف الاستيطان الذي يلتهم كل ساعة، وكل يوم، إمكانية قيام دولة فلسطينية، مفترساً على رؤوس الأشهاد “حلّ الدولتين”، فإن الخلاصة الحقيقية لسياسة بايدن وإدارته إطلاق يد إسرائيل، ومنحها كل الوقت الذي تحتاجه، لتكريس منظومة الاحتلال، والأبارتهايد في فلسطين، والتغطية على ذلك بوهم عمليةٍ سياسيةٍ لن تحدُث، وتدخل أميركي لن يتم.

ثالثاً – حاول بايدن استبدال حقوق الفلسطينيين بوصفهم شعباً يسعى للحرية وتقرير المصير، وإنهاء الاحتلال والتمييز العنصري، بقضايا حياتية يومية، تمثل حقوق إنسان أساسية، ولا تحتاج إلى جهد رئيس دولة كبرى كالولايات المتحدة، مثل حقّ الفلسطينيين في ساعات عمل أطول لإنهاء الازدحام القاتل على منفذهم الوحيد للعالم، الجسر المؤدّي إلى الأردن، أو حصولهم على خط 4G، وكأن الرئيس الأميركي قبل على نفسه أن يؤدّي دور ضابط إدارة مدنية في جهاز حكم الاحتلال العسكري، في منح الفلسطينيين بعض الفتات، مما هو حق إنساني لهم. وكأن الإسرائيليين أصرّوا حتى على إهانة بايدن، رغم ولائه المطلق لهم، في إطار تأكيد أنهم القوة المهيمنة والمسيطرة، إذ ساء وضع العبور على جسر الأردن بعد وعود بايدن بالفرج، حتى اختنق بالمسافرين وأغلق.

رابعاً – كان البيان الإسرائيلي – الأميركي نموذجاً للنفاق، إلى درجة أضحكتنا، وشرّ البلية ما يضحك، إذ تحدث البيان عن التزام الديمقراطية وحكم القانون. ولكن أين كان حكم القانون في التستر الأميركي على جريمة اغتيال شيرين أبو عاقلة، وأين التمسّك بالديمقراطية مع استمرار معارضة الطرفين حق الفلسطينيين في انتخابات حرّة ديمقراطية، بما في ذلك في مدينة القدس المحتلة. وأين حكم القانون، في معارضة البيان المشترك لحقّ الفلسطينيين في اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية والقانون الدولي.

خامساً – واصل البيان المشترك أسلوب النفاق، عندما تحدّث عن حق إسرائيل في استخدام القوة لحماية ما سمّاها الديمقراطية (استمرارالاحتلال والأبارتهايد)، ولكنه قرّر حرمان الفلسطينيين حقهم في مقاومة الظلم والاضطهاد، إذ هاجم ليس الكفاح المسلح فقط، بل وأكثر أشكال المقاومة الشعبية سلمية، مثل حركة المقاطعة (BDS)، واللجوء للقانون الدولي.

ولم يكن ذلك معلم الانحياز الأميركي الوحيد، بل بدا جلياً في المغزى الرمزي لتخصيص ثلاثة أيام للجانب الإسرائيلي، مقابل أقلّ من ساعة ونصف ساعة للجانب الفلسطيني. كذلك بدا واضحاً في رفض السماح للصحافيين بطرح أي سؤال على بايدن لدى الجانب الفلسطيني، على عكس ما جرى في المؤتمر الصحافي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي.

سادساً – كما أكّدت الأحداث، لم تكن الأهداف المركزية لزيارة بايدن تحقيق السلام، بل دعم إسرائيل أولاً، وتطبيق (وتوسيع) ما بدأه الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، بالتطبيع، والدمج، مع المحيط العربي على حساب قضية الشعب الفلسطيني، وفي محاولة لعزلها وتصفيتها، في إطار تطبيق “صفقة القرن”.

وبناء حلف عسكري + استخباراتي ثانياً، يضم دولاً في الخليج العربي وإسرائيل ودفع هذه الدول إلى صدام مع إيران، يدمّر مقدراتها، ويجعلها أسيرة للهيمنة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، ويضيف ملياراتٍ جديدة، لأرباح المجمع العسكري – الصناعي في الولايات المتحدة وشريكه الأصغر إسرائيل، ومحاولة الحدّ من علاقات دول الخليج بأطراف أخرى كالصين وروسيا. وضمان تدفق إضافي من نفط المنطقة، ثالثاً، يساعد في حل أزمة بايدن الاقتصادية، بارتفاع أسعار الطاقة، وتصاعد التضخّم في الولايات المتحدة بصورة غير مسبوقة منذ الثمانينيات، لإبعاد خطر السقوط المنتظر لحزب بايدن في انتخابات الكونغرس النصفية المقبلة، وربما الانتخابات الرئاسية أيضاً.

وهذه الأهداف لم تتحقق كما أرادت إسرائيل، وكما أراد بايدن. فباستثناء فتح أجواء الجزيرة العربية لإسرائيل، ضمن معادلة جزيرة تيران – مقابل الطيران، رفض المجتمعون في قمة جدّة فكرة التحالف العسكري جملة وتفصيلاً، وكانوا أكثر ذكاءً من أن يجروا إلى تدمير مقدّرات دولهم في مجابهة مع إيران، لخدمة إسرائيل، ولم يبدوا استعداداً لوقف تنويع علاقاتها الاقتصادية مع دول كالصين.

وعلى عكس التطبيع الموسّع والبرامج المنتظرة، فرضت فلسطين نفسها على القمة، من دون أن تحضر، فكانت الكلمات واضحة في التأكيد أن إنهاء الاحتلال وإقامة دولة مستقلة شرط مسبق لكل تطبيع، بل عاد التمسّك بالمبادرة العربية إلى الظهور، بعد أن هدرته بعض الدول بالدخول في تطبيع مع إسرائيل، وكان ذلك كله انعكاساً لإدراك معظم القادة والحكام المجتمعين لما تكنّه قلوب شعوبهم من مشاعر تضامن مع الشعب الفلسطيني ونضاله العادل. وفي موضوع التدفق النفطي، لم يحصل بايدن إلا على مواقف غامضة ربطت أي زيادة في الإنتاج بموافقة دول “أوبك +” بما فيها روسيا.

وللأسف، بدا الرئيس الأميركي ضعيفاً، بلا رؤية خاصة ببلده، في سياق اندفاعه وراء الرؤية والخطط الإسرائيلية، وبدا ضعيفاً في انحيازه المطلق إلى إسرائيل، وإطلاق يدها لتواصل الاحتلال والأبارتهايد، وبدا أكثر من ضعيفٍ في عجزه عن فرض الأهداف الأميركية في المنطقة، الذي وصفه الكاتب الإسرائيلي، تسفي برئيل، في مقاله بصحيفة هآرتس، بعنوان “بايدن اكتشف أن قواعد اللعبة الإقليمية تغيرت، يُصغون ولكن لا يُنفذون”.

ولم يرَ الشعب الفلسطيني في سلوك بايدن ومواقفه إلا رشّاً للملح على جرحه المفتوح منذ 74 عاماً، وتبديداً مفيداً لوهم المراهنين على دور أميركي لإطلاق “عملية سياسية”، ونهاية لحلم مَن ما زالوا يعيشون على أمل “مفاوضاتٍ” لن تتحقق، بعد فشل مشاريع التسوية والحل الوسط، على يد غول الغطرسة والتوسع العنصري الإسرائيلي.

العربي الجديد

————————-

أميركا العالقة خليجيًا في الحرب الباردة/ محمد العزير

يقول المثل الأميركي “لا يمكنك أن تعلم كلبًا عجوزًا خدعًا جديدة”. كم ينطبق هذا القول على علاقة الغرب عمومًا، والولايات المتحدة الأميركية على وجه التحديد بالعرب عمومًا ودول الخليج بالتحديد، وهو ما ظهر خلال الزيارة الأخيرة للرئيس جوزيف بايدن الى المملكة العربية السعودية ولقائه مع مسؤوليها ومع القادة الخليجيين والعرب الذين حضروا قمة مجلس التعاون الموسعة في جدة. بيّنت الزيارة عمق الهوة التي تفصل بين الواقع المستجد في الشرق الأوسط وبين المقاربة الغربية لهذا الواقع الذي شهد خلال ثلاثة عقود فقط تقلبات وثورات وتغييرات جذرية لا يبدو أن النخب الغربية تدرك أثرها ومداها أو أنها مستعدة للتعامل مع تبعاتها. لا تقتصر النخب هنا على المستوى السياسي بل تتعداه الى المستويات الإعلامية والأكاديمية والإقتصادية والدينية.

تمثل زيارة بايدن الى المملكة أنموذجًا راهنًا وواضحًا عن تلك الهوة. أحاط بالزيارة، وحتى قبل حصولها، لغط كثير سببه الأول بايدن نفسه منذ كان مرشحًا عام 2019، وحبس نفسه في موقف لا يمكن الدفاع عنه، عندما أعلن في مناظرة انتخابية داخل الحزب الديمقراطي أنه سيتعامل مع المملكة العربية السعودية كدولة “منبوذة”، على خلفية مقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي. عن بعد، فاجأ إعلان بايدن الكثيرين، فهو قبل أن يترشح لمنصب الرئاسة شغل منصب نائب الرئيس من 2009 الى 2017، وقبلها كان ولفترة طويلة رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، أو الرئيس الرديف منذ العام 1997، وعضو في المجلس منذ العام 1973. ينبغي لمن في سيرته هذه المناصب أن يكون أكثر حكمة من “نبذ” حليف موثوق لأميركا منذ الحرب العالمية الثانية.

لكن ما فاجأ الكثيرين تفهمته القلة التي تعرف أن سيرة بايدن تكبله بمنطق الحرب الباردة. تصوّر بايدن في حينه، أن السعودية لا تزال في حاجة لاغية الى أميركا ولا يمكنها البقاء بدونها. لم ينتبه الى أن الأحداث تجاوزت الحرب الباردة ومقتضياتها. مات عبد الناصر ولم تعد المملكة تخاف من شعبوية الخطاب القومي، صارت هي سند مصر ولم تعد تتوجس من مقال افتتاحي في صحيفة أميركية مرموقة، ولا تتلمس موقفًا ايجابيًا من أي سياسي أميركيي. لم يكن على بايدن أكثر من الإعتبار من حقيقة أن دولة قطر جعلت من انسحابه من أفغانستان ممكنًا وتستضيف في عاصمتها الدوحة مفاوضاته النووية مع ايران، بعدما تعثرت في فيينا. لم تعد السياسة تحتسب بمواقع القواعد العسكرية. لم تعد القاهرة مركز ثقل القرار العربي، وشارف العراق بفضل جيران السوء على الإندثار كدولة بعدما كان صدّام حسين “بعبع” النفط وأهله، وصار النظام السوري الواقف على قدمين إيرانية وروسية يستجدي القبول الخليجي.

ملفت جدًا ومعبّر ما رافق زيارة بايدن وتلاها. سعت واشنطن الى الظهور كمسوّق ناجح لإندماج إسرائيل في المنطقة ومدافع شرس عن حقوق الإنسان لدى العرب. لم تتأخر الرياض في إحباط ذلك المسعى. سارع وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان الى تسفيه الهمروجة الإعلامية عن تقدم دبلوماسي إسرائيلي ناجز على يد بايدن وقال قبل مغادرة بايدن إنه ليس لديه علم بأي مناقشات بشأن إقامة تحالف دفاعي خليجي-إسرائيلي، مشددا على أن السعودية لا تشارك في مثل هذه المحادثات. وأكد أن قرار الرياض فتح مجالها الجوي أمام جميع شركات الطيران، ليس له علاقة بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل وليس مقدمة لخطوات أخرى. وفي خطوة أكثر تعبيرًا نفى وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير الملّم بحسابات السياسة الداخلية الأميركية، بطريقة دبلوماسية ما أعلنه بايدن عن طرح قضية مقتل الصحفي المعارض وتحميله (MBS) المسؤولية وأكتفى ردًا على سؤال على شبكة “فوكس نيوز” أنه لم يسمع ما قال بايدن أنه ابلغه لولي العهد.

ساهم تبلّد النخب الأميركية، والإعلامية منها على وجه التحديد، في تعميق الهوة بين الغرب والخليج. لا تفوت المتابع لوسائل الإعلام البريطانية والأميركية والغربية عمومًا ملاحظة كمية الحسد والإفتئات والتحامل التي تنضح بها تقارير المراسلين من الخليج العربي. تحرص الصحف والمواقع الإنكليزية اللغة على إظهار مساوئ الخليج والعرب عمومًا وتدير الأذن الصماء لأي إنجاز أو تقدم أو نجاح. وبدل التزام الأصول المهنية في تغطية المونديال الذي تستضيفه قطر هذا العام، أو مشروع “نيوم” السعودي في البحر الأحمر، لا تزال عالقة في إعادة تدوير ادبيات الحرب الباردة، فيما تقتفي المستويات الأكاديمية خطى السياسة وتركز على قضايا الحوض الباسيفيكي تاركة الشرق الأوسط لآخر بدع صموئيل هانتغتون عن صراع الحضارات، وتتبارى المؤسسات الدينية في الترويج لـ”القيامة” التي تتطلب إعادة تجميع اليهود في أرض الميعاد من اجل حرقهم كافة ليظهر المسيح المخلص بعدها، وحتى ذلك الحين لا هم يشغلها سوى “قانون الشريعة” الذي لم تذكر أية كنيسة أنه يؤول الى الزوال من الخليج أولًا.

عندما أراد باراك أوباما الفائز برئاسة أميركا مخاطبة العرب اختار القاهرة، وفي القاهرة التي صدّقت رومانسياته الديمقراطية وثارت اكتشف أن للواقعية الأميركية رأياً آخر، وأن مصالح إسرائيل أهم وأبقى. بعدها كان عليه أن يلحس الخط الأحمر الذي رسمه لبشار الأسد في سوريا لأن لإسرائيل رأياً آخر. ذُبح الربيع العربي في عهده وصار حكم العسكر أمنية من بقي على قيد الحياة من الشعوب، ومع ذلك لم تتغير الصورة النمطية في اذهان النخب الغربية عن العرب. آن لهذه النخب أن تستفيق، وأن توقن أن الواقع ليس رهنًا بما تراه.

المدن

————————–

بايدن والرجوع إلى «التانغو»…/ غسان شربل

يقول خبراء «التانغو» إن هذه الرقصة تبدو بسيطة للوهلة الأولى لكنها ليست كذلك. نجاحها يستلزم قناعة راسخة بالحاجة إليها، ولياقة نفسية وجسدية، وقدرة على الاستماع بعمق إلى الشريك، إلى تطلعاته ومخاوفه وهواجسه. لا ينفذ الرقصة واحدٌ من طرفيها، بل تحتاج إلى الاثنين، وإلى توقيع الخطوات في اللحظة المناسبة، والمسارعة إلى التصحيح واستعادة الانسجام. ومن شروط النجاح ألا تملي إرادتك على شريكك، أو تطالبه بأن يكون مجرد نسخة منك. الاختلاف يثري الرقصة، والالتزام هو الضمانة. ليس من حقك أن تستقيل من الشراكة عند المنعطفات، ففي هذا العالم تتضاعف الحاجة إلى «التانغو». وما يصدق على العلاقة بين الأفراد يصدق أيضاً على العلاقة بين الدول. تقوم الرقصة على قراءة دقيقة للمصالح المتبادلة، وكل رقصة تحتاج إلى صيانة دائمة، على قاعدة المصالح وحسابات المسافات الطويلة.

الولايات المتحدة عملاق اقتصادي وسياسي وعسكري وتكنولوجي، تتأثر خطواتها أحياناً بتبدل الإدارات والاجتهادات. وترتبك الرقصة معها أحياناً لكن الحسابات الواقعية تعود إلى التغلب على ما عداها. الكلمة الأخيرة هي للمصالح، مصالح الحاضر ومصالح المستقبل. لا يستطيع أي عملاق أن يرقصَ منفرداً، بل لا بد من شركاء، ولا بد من شراكات قابلة للعيش والاستمرار، لا مفر من العودة إلى أصول التانغو.

من حق المتابع للشأن الدولي أن يطرح أسئلة صعبة ومتأخرة: هل كان العالم سيصل إلى ما وصل إليه لو حرصت الولايات المتحدة على تنفيذ رقصة التانغو مع روسيا الوافدة من الركام السوفياتي؟ وهل كانت روسيا ستشعر بالحاجة إلى مشروع كبير للثأر كُلف فلاديمير بوتين بحمله رداً على تغليب الشريك هاجس الانتصار على أصول «التانغو»؟ وماذا يبقى من الرقصة حين يحرك حلف «الناتو» بيادقه باتجاه الحدود الروسية؟ أوليس أول شروط الرقص أن تستمع بعمق إلى هواجس شريكك؟ أسئلة متأخرة فقد وقع الزلزال.

سياسات ما بعد الزلزال لا تشبه ما قبله. ويتأكد الأمر حين يكون الزلزال شاملاً وينذر بعواقب وخيمة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وفي مناطق بعيدة عن مسرحه الحالي. وبهذا المعنى يمكن القول إن الزلزال الأوكراني غير مسبوق، ليس فقط في عالم ما بعد انهيار جدار برلين، بل أيضاً في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

منذ اللحظة الأولى اقتحمت الحرب الروسية في أوكرانيا مكتب الرئيس جو بايدن. لا يمكن اعتبارها نزاعاً حدودياً، وهي أخطر من مجرد إعادة لغة الحرب إلى القارة الأوروبية. إنها انقلاب واسع على النموذج الذي هزم الاتحاد السوفياتي ودمره. ولا يقتصر الأمر على انخراط دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن في حرب لتغيير الخرائط والمعالم. إنها حرب تخاض بالترسانة العسكرية لدولة نووية، فضلاً على أسلحة الطاقة والقمح. وقد وجد بايدن نفسه في وضع صعب. الاستقالة من مصير أوكرانيا أكبر من قدرة أميركا والغرب على الاحتمال، والانزلاق إلى مواجهة مباشرة بين حلف «الناتو» والجيش الروسي أكبر من قدرة العالم على الاحتمال. وكان الخيار الأميركي والأوروبي قد دعم أوكرانيا لجعل الغزو الروسي باهظَ التكاليف وغير قابل للتكرار. وسرعان ما اتضح أن العالم وقع في فخ حرب طويلة يصعب حسمها ويصعب الخروج منها.

في ظل هذه اللوحة تنعقد هذا الأسبوع على أرض السعودية لقاءات جدة التي تعني مستقبل الشرق الأوسط. قمة أميركية – سعودية وأخرى أميركية – خليجية – عربية. مجرد انعقاد اللقاءات هذه يعني عودة الشرق الأوسط إلى موقع الاهتمام لدى واشنطن، التي كانت قد بدأت منذ سنوات رحلة الابتعاد عن هذه المنطقة للتفرغ لاحتواء الصعود الصيني. اكتشفت واشنطن أن الشرق الأوسط لا يزال (حاجة)، وأنه لا يزال يمتلك مفاتيح استقرار أسواق الطاقة، على رغم التبدلات التي طرأت على حاجة الولايات المتحدة إلى نفط المنطقة.

ولم تكن الإدارة الأميركية تحتاج إلى جهد كبير لتتذكر أهمية استقرار الشرق الأوسط وسلامة إمدادات الطاقة منه، في وقت تطل ملامح خريف أوروبي صعب بفعل تبعية القارة القديمة للغاز الروسي. ولا يقتصر الأمر على الحسابات المتعلقة بروسيا وحدها، بل يتعداها إلى الملفين الصيني والإيراني أيضاً. لا تستطيع أميركا الاستقالة من مصير الشرق الأوسط حين يتبين أن ما يجري على أرض أوكرانيا هو جزء من برنامج كبير يعتبر انقلاباً كاملاً على التوازنات التي كانت قائمة في العالم قبل خمسة أشهر.

ولا غرابة أن تنعقدَ هذه المواعيد المهمة على أرض السعودية وبمشاركة خليجية ومصرية وأردنية وعراقية. ثقل السعودية العربي والإسلامي والدولي تضاعف في السنوات الأخيرة بفعل النهضة التي أطلق شرارتها الأمير محمد بن سلمان، وحولت بلاده قاطرة استقرار وازدهار. السعودية الجديدة شريك لا بد منه في التطلع إلى شرق أوسط مستقر ومزدهر. فمنذ سنوات انخرطت السعودية في ورشة لتحسين مستوى حياة مواطنيها، وهو ما جعلها مصدر إلهام على امتداد العالمين العربي والإسلامي. شراكات وجسور وعلاقات على قاعدة المصالح المتبادلة ومسؤولية في التعامل مع الملفات الإقليمية والدولية. وحركة تقدُّم طوت صفحة الأيام التي كانت فيها الأفكار المتشددة قادرة على البلبلة والاستدراج وشل المجتمع وكبح الطموحات.

اجتازت علاقات أميركا مع أصدقائها العرب في المنطقة، بمن فيهم السعودية، امتحانات صعبة. شعرت دول كثيرة أن أميركا ابتعدت عن أصول التانغو وقواعد الاستماع العميق إلى الشركاء وتفهم هواجسهم فيما يتعلق بملفات قديمة وأخرى جديدة تمتد من النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي إلى اليمن، مروراً بفصول الاتفاق النووي مع إيران، وإصرار طهران على مواصلة تصدير سياسة زعزعة الاستقرار. لا بد من انتظار النتائج، لكن الواضح أن إدارة بايدن تحاول العودة إلى أصول «التانغو». ما بعد الزلزال الأوكراني ليس كما قبله.

الشرق الأوسط

———————-

=================

تحديث 27 تموز 2022

—————————

البوصلة الأميركيّة والفرز الاستراتيجي في الشّرق الأوسط/ راغدة درغام

الاصطفافات الجغرافية – السياسية في منطقة الشرق الأوسط، لها نكهة أوكرانية نتيجة إفرازات الحرب الروسية ذات العلاقة بالنفط والغاز والصناعة العسكرية، وبالذات الصواريخ والمسيّرات، لكنها في صلبها محليّة المخاوف والتطلعات الأمنية. إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن قلقة من تداعيات احتمال انهيار المفاوضات النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لأنها تعرف تماماً أن طهران تستعدّ للانتقام، ولأن فشل مفاوضات فيينا التي انتقلت إلى الدوحة، سيبدو فشلاً لها، لأنها استثمرت كثيراً في إحياء الصفقة النووية JCPOA التي سبق ومزّقها الرئيس الأسبق دونالد ترامب باعتبارها غير صالحة.

الأسوأ، أن عدم التوصل إلى اتفاق مع إيران سيكون، في رأي إدارة بايدن، ذخيرة في أيادي ترامب الذي يتربّص لها بكراهية متبادلة. لذلك تبذل واشنطن جهداً في إطار خطة لمنظومة متكاملة لدفاعات جوية في الشرق الأوسط تتزامن مع زيارة الرئيس بايدن للشرق الأوسط، وتحديداً في محطة الرياض، حيث من المفترض أن يجتمع بالعاهل السعودي وولي العهد، كما يشارك في قمّة تضم دول مجلس التعاون الخليجي الست ومصر والأردن والعراق تكون فيها إسرائيل وإيران غائباً – حاضراً.

صفحة جديدة في العلاقات مع دول الشرق الأوسط والخليج يفتحها الرئيس بايدن، فرضتها التطورات بأبعادها الأوكرانية والإيرانية وليس بمبادرة وديّة منه نحو الدول الخليجية العربية استفاق عليها، ولذلك ستتميّز زيارته بالإرباك الاستراتيجي. أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإنه واثق جداً من نفسه، أو هكذا يريد للعالم أن يراه، يخطط لاصطفافٍ في الشرق الأوسط ضمن الترويكا الصينية – الروسية – الإيرانية، ويلعب الورقة الإسرائيلية بمغامرة وبحسابات.

البداية مع فلاديمير بوتين الذي ظهر هذا الأسبوع متحدّياً “الناتو”، وبالذات الولايات المتحدة، من منطلق العزم على إثبات فشل رهان الفشل الاستراتيجي لروسيا. بوتين، بعكس العالم، لا ينظر إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على أنه ينصر أوكرانيا وينتصر شخصياً بدعمٍ غربي خارق وقد أصبح في نظر الكثيرين أيقونة العزم والقيادة والصمود في وجه خطة روسيا لإطاحته. زيلينسكي، في رأي بوتين، خاسر حرب وإن ربح معارك، ساهم في تدمير بلاده بإيحاء من الغرب، والتاريخ سيسجّل له، ليس إنقاذ أوكرانيا من روسيا بل تقديم أوكرانيا فدية لحرب الناتو على روسيا. حرب روسيا في أوكرانيا، في نظر بوتين، ستؤدّي إلى انتصار روسيا مهما كانت الكلفة ضخمة بكل المقاييس، وضمنها العزلة الدولية.

من بين أدوات إبراز استعادة روسيا حيويتها، الوضع في سوريا، حيث قرّر الرئيس الروسي إبلاغ الحكومة الإسرائيلية جدّية الإنذارات الروسية وإبراز عواقبها، وقد فعل ذلك تكراراً في الآونة الأخيرة. إصدار موسكو أمر التوقف عن كامل نشاطات “الوكالة اليهودية” لتأهيل اليهود في إسرائيل إجراء له دلالات سياسية مهمّة، وقد تقوم موسكو بإغلاق الوكالة بأكملها لأول مرة منذ إنشائها قبل حوالي 30 سنة.

الرسالة الروسية إلى الحكومة الإسرائيلية هي أن على إسرائيل التوقف عن عملياتها العسكرية في سوريا ضد إيران و”حزب الله” وليس فقط ضد سوريا. الإنذارات، إذا تجاهلتها إسرائيل، قد تكون “بداية لقصة سيئة”، حسب تعبير روسي مخضرم، ذلك أن موسكو قد تلجأ إلى استخدام قدراتها العسكرية كتلك المضادة للصواريخ الإسرائيلية المتوجِّهة نحو سوريا.

ترى موسكو أن حكومات إسرائيل التي توالت منذ انتهاء ولاية رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لم تفِ بالوعود والتفاهمات.

رأي موسكو أن في وسع روسيا أن تسبّب الضرر الجدّي لإسرائيل إذا تصرّفت عسكرياً نحوها لإيقافها، إذا لم تتوقف بنفسها عن عملياتها العسكرية في سوريا، والتي باتت تعتبرها موسكو خطاً أحمرَ. فالكرملين يريد إبراز عضلاته في سوريا وهو لا يمانع أبداً أن يساهم في عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم، علماً أن علاقة شخصية متينة دامت لسنوات بين بوتين ونتنياهو.

“الحرس الثوري” الإيراني يستعد بدوره للقيام بعمل ما ضد إسرائيل من الجبهة السورية، باعتبارها الأكثر “شرعية” لضربات انتقامية من الهجمات الإسرائيلية. فإذا انخرطت روسيا وإيران و”حزب الله” معاً في التصدّي لإسرائيل في سوريا، فليس واضحاً ما ستكون عليه آفاق هذا التطور داخل سوريا وخارجها، وتحديداً في لبنان. فليس أمراً بسيطاً أن تنخرط روسيا في عمليات عسكرية مباشرة ضد إسرائيل حتى ولو بصورة محدودة لإبراز هيبتها وجدّية إنذاراتها. ثم إن لجم تطوّر المواجهة العسكرية المباشرة بين إيران وإسرائيل ليس أمراً يستهان به حتى ولو كانت المعادلة التاريخية الثنائية بينهما تهادنية على مر العصور، وبالتالي يُستبعد وقوع مواجهة إيرانية – إسرائيلية مباشرة.

الخط العريض لسياسات روسيا في الشرق الأوسط هو الاعتماد على الشراكة الاستراتيجية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتنمية القدرات الإيرانية في الشرق الأوسط كي تكون طهران ركناً ثابتاً في الترويكا الصينية – الروسية – الإيرانية. عدا ذلك، يعتبر الكرملين علاقات روسيا الجيدة بالدول الخليجية العربية ضرورية، لكنه يدرك أن العلاقة الاستراتيجية الأساسية هي بين هذه الدول والولايات المتحدة مهما شابها من نكسات، بغضّ النظر إن كان جو بايدن أو دونالد ترامب في البيت الأبيض.

وللتأكيد، إن الكرملين يتوقع أن تؤدي حرب أوكرانيا إلى إخراج الحزب الديموقراطي الأميركي من السلطة، وانتهاء ولاية بايدن عبر الانتخابات وعبر غضب الأميركيين من سياساته الاقتصادية، غير آبهين إن كان قد حقّق لحلف الناتو انتصار توسيع عضويته أو التصدّي لفلاديمير بوتين. وبحسب القراءة الروسية للمشهد الانتخابي الأميركي، إن دونالد ترامب عائد إلى البيت الأبيض، وهذا موسيقى جميلة في الآذان الروسية.

إدارة بايدن لا تستهتر بالحسابات الروسية، لكنها لن تدعها تحوّل مسيرتها أو مسارها. في أوكرانيا، لن تتمكن إدارة بايدن أو حكومات دول الناتو من التلكّؤ في دعم أوكرانيا، لكنها تعي خطورة الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع روسيا. لن تتمكن من التملّص من وعود تحقيق الفشل الاستراتيجي لروسيا، لكن المشاهد الميدانية تجعلها تفكّر ملياً، وتتردد قليلاً. تدرك أن فلاديمير بوتين لن يقع في حفرة على نسق تلك التي وقع فيها الرئيس العراقي صدام حسين، بل إنه ينصب المصيدة لأكثر من عدو له، رافضاً أن يكون وحده من وقع في الفخ.

لعلّه لم يكن في بال إدارة بايدن الانقلاب على نفسها وعلى ما فعلته إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما للعلاقات الأميركية مع الدول الخليجية العربية، وبالذات السعودية. حرب بوتين على أوكرانيا دفعت بأقطاب إدارة بايدن – وكثير منهم هم أقطاب إدارة أوباما – إلى إعادة العقارب إلى الوراء والتفكير الجدّي بأهمية العلاقات الأميركية الاستراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي، الأمنية منها والاقتصادية والنفطية والسياسية وتلك التي تدخل في خانة بيع السلاح. والمؤسسة الفائقة النفوذ المعنية بصناعة الأسلحة وتصديرها واختبارها في الحروب، أي “المجمع الصناعي العسكري”، تسير بخطى تكاملية أو تنافسية مع شركات أخرى ذات نفوذ قاطع داخل الولايات المتحدة وخارجها، أي الشركات النفطية. وفي هذا المنعطف، تتلاقى مصالح الصناعتين في الحرب الأوكرانية كما في منطقة الشرق الأوسط.

سيرتبك الرئيس بايدن عند اجتماعه بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وقد يرتكب خطأً أو يقع في زلّة لسان بسبب كراهية غريزية نحو السعودية عامة ونحو محمد بن سلمان خاصة، بسبب الجريمة المروّعة ضد الصحافي جمال خاشقجي. سيتنبّه إلى الحملة الإعلامية ضد مثل هذا اللقاء بالذات من الإعلام اليساري الأميركي الذي سيراقب كل خطوة من خطواته في السعودية، والذي بدأ يطالب الرئيس بايدن بعدم تغيير سياساته الباردة نحو السعودية وتلك الجافة نحو ولي العهد.

حلف الناتو الذي يضم تركيا له مصلحة الآن في إصلاح العلاقات مع الدول الخليجية العربية، ليس فقط بسبب احتياج أوروبا للنفط تعويضاً عن النفط الروسي، بل أيضاً بسبب إمكان انتهاء المفاوضات النووية مع إيران بفشل يحول دون تمكّن أوروبا من استيراد النفط الإيراني. تركيا مهّدت لعلاقات جيدة مع الدول التي كان لها علاقات معقدة وصعبة معها، ففتحت صفحة جديدة مع مصر والإمارات ومع السعودية وإسرائيل، وكان ذلك بمثابة نقلة نوعية في إطار التموضع والاصطفافات الشرق أوسطية. ثم إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حرص كثيراً على الاستفادة من حاجة دول الناتو إليه في زمن الحرب الأوكرانية. فهو ضَمنَ إعادة تأهيل تركيا في الناتو في أعقاب معاقبتها بسبب إقبالها على شراء شبكة S-400 الروسية المضادة للصواريخ. وهو وجد في الحرب الأوكرانية فرصة لمبيعات “الدرونز” أي المسيّرات التركية المتفوقة إلى أوكرانيا، بالرغم من حرصه على الظهور بمظهر الوسيط بين روسيا وأوكرانيا.

ملامح الشبكة الشرق أوسطية لما يُطلق عليه لقب الناتو العربي ما زالت غير واضحة تماماً، لكن القمة التي سيشارك فيها الرئيس بايدن في جدّة تشكّل دعامة أساسية ذات دلالات أمنية واقتصادية. القمة ستضم دول مجلس التعاون الخليجي، وهي السعودية والإمارات وقطر وعُمان والكويت والبحرين، والأمين العام لمجلس التعاون نايف الحجرف، وستشمل كلاً من مصر والعراق والأردن. وستكون إيران وإسرائيل حاضرتين غيابياً.

إسرائيل لها علاقات رسمية مع كل من مصر والأردن بموجب اتفاقات سلام ثنائية، وهي بدأت بالتطبيع مع دول خليجية، في طليعتها الإمارات وعُمان والبحرين، وهي تأمل أن تستمر إدارة بايدن بما بدأته إدارة ترامب في إطار اتفاقات أبراهامز، وفي ذهنها الجائزة الكبرى، أي السعودية.

إيران قلقة من زيارة بايدن واجتماعاته، لأنها ستكون خارج النظام الأمني الإقليمي، وستنقلب كل حساباتها رأساً على عقب إذا توطّد التوافق الأميركي – العربي والشراكات الاستراتيجية. طهران سعت تكراراً لأن تكون في مقعد القيادة لنظام أمني جديد مع دول مجلس التعاون واليمن والعراق. اليوم، إن العراق يحاول الاستقلال بقدر الإمكان عن الإملاءات الإيرانية، ومشاركته في القمة فائقة الأهمية.

لكن إيران تعرف أيضاً أن دول مجلس التعاون الخليجي لا تريد العداء معها، بل تودّ تطبيع العلاقات شرط ألا تتدخّل في شؤونها. الحوار السعودي – الإيراني مثال على هذه الرغبة، وما تتمناه الدول الخليجية العربية هو أن يحدث تغيير في العقيدة الإيرانية، وهذا يبدو اليوم مستبعداً تماماً، لأن “الحرس الثوري” الإيراني لن يتخلى عن شركائه وأدواته ومشروعه في سوريا ولبنان والعراق واليمن.

الفرز الإستراتيجي بدأ في الشرق الأوسط، ونتائجه تعتمد إلى حد كبير على البوصلة الاستراتيجية لإدارة بايدن وللولايات المتحدة الأميركية.

النهار العربي

————————-

سوريا في ثلاجة بايدن/ عمر قدور

سرعان ما تراجعت إدارة بايدن عن الاهتمام البسيط الذي أبدته تجاه سوريا إثر بداية الغزو الروسي لأوكرانيا. حينها، كما نذكر، عاد الحديث عن جرائم الأسد، ولو من بوابة نبش جرائم بوتين في سوريا بهدف الضغط عليه بسبب غزوه أوكرانيا. أيضاً، برز الاعتقاد بأن لحظة واشنطن مواتية لإضعاف موسكو في سوريا، ولو لم يتعلق ذلك بتحقيق مكاسب مهمة للسوريين، أو توقف عند عدم تقديم المزيد من التنازلات للأسد وحلفائه.

نظرياً، كانت الشهور الخمسة الماضية هي الأنسب لإظهار تصلب أمريكي في سوريا من أجل زيادة الضغط على موسكو، رغم أن مركز الضغط هو في الجبهة الأوكرانية، ولإبداء شيء من الضغط على طهران من جملة إشارات لدفع مفاوضات الملف النووي. إلا أن سياسة بايدن أخذت تتضح، وتتراجع عن التوقعات المحيطة بها، لتصل أخيراً إلى ما يشبه رضوخاً تاماً لموسكو في مجلس الأمن، عندما وافقت على التمديد لإدخال المساعدات الأممية إلى الشمال السوري لمدة ستة شهور فقط، في تراجع عن مطلب التمديد لمدة سنة، ما يعطي موسكو فرصة قريبة جداً للابتزاز بالفيتو لمنع التمديد لآلية المساعدات مجدداً.

بل إن إدارة بايدن أعطت موسكو ما تريد، لجهة ممارسة الابتزاز في أقصى وأشنع حالاته مع انتهاء العام، أي في ذروة فصل الشتاء، حيث تشتد حاجة حوالى ثلاثة ملايين لاجئ في الشمال إلى مختلف أنواع المساعدات. القول أن واشنطن عاجزة أمام الفيتو الروسي يتوقف عند الشكل فحسب، لأن إدارة بايدن مدركة جيداً أبعاد الكارثة الإنسانية المقبلة، ولم تبذل من الجهود أو الضغوط ما ينفع لتلافيها مؤقتاً، على الأقل لتأجيلها حتى الصيف القادم كي تكون أخف وطأة.

كان في وسع إدارة بايدن التشدد، والتلويح بالعمل مع حلفائها على نحو مستقل لإيصال المساعدات، لو امتلكت النية حقاً. ذلك، كما نعلم، يتطلب التنسيق مع أنقرة، وهو خيار ربما تتمناه الأخيرة لتحسين علاقاتها مع واشنطن، العلاقات المتعثرة بسبب ملفات عديدة، قد لا يكون ملف الإدارة الذاتية الكردية في طليعتها سوى إعلامياً. ومن المرجح أن تكون أنقرة تواقة إلى علاقة أفضل مع واشنطن تجعل موقفها أقوى في العلاقة ذات الدفء الملغوم بين أردوغان وبوتين، وهي بمثل هذا التنسيق مع واشنطن تتخلص أيضا من الضغط الروسي عليها في موضوع اللاجئين المهددين بالكارثة ضمن مناطق نفوذها.

لا تريد إدارة بايدن، بخلاف التوقعات التقليدية، إبعاد أنقرة عن موسكو. الأقرب إلى الواقع أنها تريد الإبقاء على موقع أنقرة الذي قد يكون مفيداً للتوسط بين روسيا والغرب. إنها بهذا أيضاً تترك نافذة مفتوحة لبوتين، فلا تستفز الدب إلى أقصى حد بأن تغلق عليه جميع النوافذ. لدينا في مثال اتفاقية تصدير الحبوب الروسية والأوكرانية نموذج عن الدور التركي المطلوب أمريكياً وغربياً، وأهميته على هذا الصعيد تفوق اهتمام الغرب باللاجئين السوريين المفترض بهم الاعتياد على الكوارث.

لقد كان الموقف الأمريكي من التلويح التركي بعملية عسكرية ذا دلالة مزدوجة، فقد كان في وسع إدارة بايدن وضع ضوء أحمر حازم أمام أنقرة يكفي لردعها عن العملية، وهذا ما حدث إلى حد ما، إلا أن واشنطن أعطت بالتوازي ضوءاً أخضر لقسد ومسد للتنسيق مع الأسد. لقد حصل ذلك بالتوازي أيضاً مع مناقشات مجلس الأمن الخاصة بالمساعدات، وكأنها قدّمت رشوة لموسكو حتى من أجل الموافقة على مشروع الأخيرة الخاص بالتمديد لمدة ستة شهور، إذ يكاد يكون التنسيق بين قسد والأسد مطلباً روسياً أكثر مما هو مطلب أسدي.

بينما يحدث ذلك التهاون كله على المقلب السوري، تواصل واشنطن بكثافة إرسال الأسلحة ومختلف أنواع المساعدات إلى أوكرانيا، مع بذل جهود لدى الحلفاء ليحذوا حذوها. وتيرة إرسال المساعدات، والتصريحات الأوكرانية الخاصة ببدء هجوم مضاد لاستعادة مناطق سيطرت عليها روسيا، يعنيان أن واشنطن عازمة على وضع ثقلها لإنزال الهزيمة بروسيا هناك، وهذه الروحية في التعاطي تختلف كلياً عن التنسيق الذي تعلو وتيرته أو تنخفض “من دون أن تنعدم كلياً” في سوريا.

يفسّر بعضاً مما سبق عدم وجود خلاف جوهري بين واشنطن وموسكو في سوريا؛ الثانية تدخلت بهدف معلن هو إنقاذ الأسد، والأولى تدخلت مرغمةً بسبب داعش، وهدفها المعلن الضغط من أجل تغيير في سلوك الأسد لا تغييره. إسرائيل أيضاً، بتأثيرها على واشنطن، مع بقاء الأسد، وقد طوت شرط إبعاده عن طهران منذ تولت بنفسها مهمة ضرب الأهداف الإيرانية.

لكن عدم وجود خلاف جوهري في سوريا لا يفسر وحده عدم استخدامها ضد موسكو، ما لم نأخذ في الحسبان أن التدخل الروسي أتى بموافقة تامة من واشنطن، في حين لا يحظى غزو أوكرانيا بالموافقة ذاتها، وإن كان الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم قد حصل على نصف موافقة غربية. ما يخص سوريا في اللوحة الإجمالية بقي بلا تغيير، والدور الروسي فيها هو حتى الآن بالحفظ والصون أمريكياً.

لا تبذل واشنطن أي جهد لتنغص على الوجود الروسي في سوريا، ولا الغرب بمجمله يطالب موسكو بالانسحاب أو بتحسين أدائها. موسكو هي التي تذكّر بين الحين والآخر بأنها موجودة بطلب من بشار الأسد، بينما الوجود الأمريكي “والتركي من دون تسميته” غير شرعي لأنه لم يأت بطلب من الأسد. صحيحٌ أن أداء موسكو هذا مجرد فقاعات إعلامية، أما ما ليس صمتاً إعلامياً فقط فهو عدم تنويه واشنطن ولا لمرة واحدة بأن الوجود الروسي أتى بطلب من سلطة مشكوك في شرعيتها على الأقل، وكذلك هو حال الصمت الأمريكي إزاء التدخل الإيراني قبل التدخل الروسي وحتى الآن.

أوكرانيا على نار حامية، سوريا في الثلاجة. والتفسير الأقرب أن بايدن يضع سوريا في ثلاجته، تماماً على خطا أوباما الذي قيل أنه كان يحتفظ بالملف السوري لنفسه في درج مكتبه، تاركاً إياه خارج الخطط العامة للسياسة الخارجية، ليستخدمه للمقايضة وقت الحاجة. المصيبة في ذلك كله ليست سياسية وعسكرية، هي إنسانية أولاً، وفيها تهريج فوق أرواح السوريين عندما ستقف مندوبة بايدن في الأمم لتلقي مسؤولية عدم إغاثة اللاجئين على موسكو وحدها.

المدن

————————-

قمم الشرق الأوسط .. لا توازنات ولا ترتيبات/ غازي دحمان

السؤال بعد انقشاع غبار القمم التي شهدتها المنطقة: ما الهدف من انعقاد هذه القمم، التي كشفت مخرجاتها أنه كان في الوسع إجراؤها في إطار مستوياتٍ أدنى من الرؤساء، حتى إن لجاناً فنية كان يمكنها الوصول إلى النتائج نفسها، ولكن بضماناتٍ تنفيذية أكبر؟ ألم يكن بالإمكان استبدال البيانات الرنانة، التي لم تأت بجديد، بتصريحاتٍ لمسؤولين برتب أصغر، ألم يكن ذلك أكثر إكراماً للمنظومة الشرق أوسطية، بل للنظام الدولي الحالي!

استقبلت طهران قمة زعماء مناكفة الغرب، وعينها، وعيون ضيوفها، على واشنطن. لم تكن القمة سوى شكل من التحرّش بواشنطن لم يجد عاقدوها سوى هذه الطريقة، لإيصال مطالبهم لها، ثلاثتهم، إيران وروسيا وتركيا، يقفون على خط الانطلاق صوب مفاوضاتٍ ترفض واشنطن فتح بابها في هذه اللحظة، وترفض إجراء التسويات المطلوبة إلا وفق شروطها، أو لتقديرها أن الظروف لم تنضُج بعد، ما دامت الأطراف الأخرى غارقةً في الأزمة، وتحاول كتم ألامها إلى حين.

لم تكن سورية سوى الذريعة للقاء طهران، فمعلوم أن الأمور دخلت مرحلة الستاتيكو منذ زمن، ووضعت أطراف اللعبة، موسكو وطهران وأنقرة، قواعد وقوانين إدارة هذا الستاتيكو، ولن تؤثر في هذه الوضع محاولات تركيا إجراء تغيير بسيط في خريطة السيطرة، ضمن مناطق منبج وتل رفعت، لا تقع بالأصل ضمن النفوذين الروسي والإيراني. واللافت أنه على الرغم من تركيز البيان الختامي على الوضع في سورية إلا أن الأطراف بقيت على مواقفها من العملية التركية؛ فلا تركيا تراجعت عن القيام بالعملية ولا روسيا وإيران تراجعتا عن رفضهما العملية التركية!

والمفارقة، أيضاً، أن النتيجة الوحيدة العملانية التي تمخّضت عنها اجتماعات بوتين أردوغان كانت سماح روسيا لأوكرانيا بتصدير المواد الغذائية المحاصرة في موانئ البحر الأسود، وهي خطوةٌ أرادت منها روسيا فتح ثغرةٍ في باب التفاوض مع الغرب، ما يعني أن روسيا استثمرت قمة طهران، لإيصال رسالة إلى الغرب عن طريق تركيا .. أين الشرق الأوسط من ذلك كله؟

وكانت قمة جدة قد انتهت إلى بيانٍ ليس له طعم التحالفات، ولا يحمل نكهة الاستقطابات، فلماذا أجهد بايدن الثمانيني نفسه للحضور إلى المنطقة، ولم يحقق حتى أدنى مطالبه الملحّة التي تتمثل بزيادة تصدير نفط المنطقة لامتصاص غضب الناخب الأميركي، من ارتفاع أسعار البنزين، قبل الانتخابات النصفية لتجديد الكونغرس، وكل ما جرى إنجازه في هذه القمة بيان ختامي يدعو، مجرّد دعوة، إلى الحفاظ على المعادلات القائمة في المنطقة، ورفض محاولات التأثير على الاستقرار “الهش” الذي هو في الأصل ناتجٌ من توافقات وتفاهمات بينية إقليمية، وليس بحاجة لحضور الرئيس الأميركي.

في قمة جدة أيضاً كانت عيون الحاضرين صوب أميركا، لكن ليست أميركا جو بايدن، بل أميركا التي ستأتي بعد أول انتخابات رئاسية أميركية، وكأن عهد بايدن قد استنفد أدواته وإمكاناته، ليس بسبب سن الرجل، بل لأن أميركا، وحتى قبل عهده، تنتظر وصول إدارة أكثر إبداعاً من الإدارات السابقة التي لم تفعل شيئا طوال العقود الأخيرة سوى الفرجة على صعود الصين إلى مركز القوّة الأولى عالمياً، وربما انتظار هذا الوصول، رغم ما تبديه تلك الإدارات من ممانعة، لتسليمها قيادة العالم الذي أتعب أميركا والأميركيين، لكن لا الصين وصلت أو ستصل إلى هذا المركز، ولا الأميركيون اجترحوا أدوات ورؤى جديدة لقيادة العالم.

لم تنتج قمتا جدة وطهران أي معطياتٍ جديدة يمكن البناء عليها لصنع مساراتٍ جديدة في السياسات الإقليمية والدولية، لا هياكل ولا أطر أمنية وعسكرية وسياسية جرى التوافق عليها، ولا مؤشّرات عن توافقات وتسويات فيما يخص أكبر قضيتين متفجرتين في الشرق الأوسط، الفلسطينية والسورية، حيث لا ترتيبات جديدة بخصوص عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية المجمدة، بل أعلنت قمّة جدة رسميا موت القضية الفلسطينية، بوصفها محرّكاً للسياسات العربية، فيما دفنت قمّة طهران القضية السورية، وشرعنت التقسيم الحاصل بحكم الأمر الواقع!

إذاً، ما الداعي لانعقاد هذه القمم على أرض الشرق الأوسط؟ ثمّة ما يلفت الانتباه في التوازنات الدولية الحاصلة في هذه اللحظة؛ فأوروبا باتت منحازةً كليّة لجانب واشنطن. أما آسيا، فتكاد التوازنات تكون فيها متساوية، حيث تتعاطف الصين والهند مع روسيا فيما تتبع اليابان وكوريا النسق الغربي، وقد أثبتت الحرب الأوكرانية اهتمام الفاعلين الدوليين بهاتين المنطقتين بدرجةٍ كبيرة. إما لتعزيز التوازنات أو خلخلتها وإعادة بنائها على ضوء تغيير المعادلات لصالح واشنطن وموسكو أو ضدّهما.

ظلت منطقة الشرق الأوسط خارج هذه المعادلات، فلا واشنطن بقيت حارسة لحراكاتها وضابطة لتفاعلاتها، ولا موسكو، بقدراتها التكنولوجية والمالية المتواضعة استطاعت إغواء هذه المنطقة للانضواء تحت تبعيّتها، حتى لو أرادت هذه الدول، فإن موسكو لا تملك الأدوات اللازمة للقيام بهذا الفعل، كما أن المنطقة نفسها لم تستطع التوصل إلى صيغ توافقية وتسويات دائمة تؤهلها لتشكيل منظومة، أو شبه منظومة، قادرة على الاكتفاء أمنياً وسياسياً بدون مساعدة الآخرين على احتواء أزماتها.

قمّتا جدة وطهران هما التعبير الأكثر دلالة عن منطقةٍ تعيش على حافة الفراغ، وتتعيش أنظمتها على الخلافات، التي لم يعد أحد يعرف مصادرها، بهذا المعنى، فهذه المنطقة تصلح لأن تكون منابر للفاعلين الدوليين، ليقولوا من خلالها ما يرغبون بقوله لبعضهم، من دون أن يترتب على ذلك أية التزامات على هؤلاء الفاعلين تجاه هذه المنطقة التي تشدّ الرحال إلى مساراتٍ مجهولة.

العربي الجديد

————————

القضية السورية بين استعلاء بايدن وأنياب بوتين/ محمود الوهب

وصل الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى منطقة الشرق الأوسط بعد حملة إعلامية واسعة عن مضمون زيارته، ولكنه لم يحمل غير استعلائه على حكام المنطقة، وشغفه بما لديهم من براميل نفط وصفقات اقتصادية تنعش اقتصاد بلاده وتنقذه في الملمّات، وتدعم مواقفها قوةً وحيدةً عظمى. وأميركا إذ تربطها علاقاتٌ حميمة ببعض دول المنطقة تعود إلى أكثر من سبعة عقود، ترى أنّ ثمّة فراغًا عسكريًا واقتصاديًا تحاول إيران أن تملأه، بينما تفترض الرؤية الأميركية أن تشغله إسرائيل التي تخشى التمدّد الإيراني، ويتملكها الرعب من امتلاك إيران القدرة على تصنيع القنبلة النووية. وعلى الرغم من أنَّ في مجرّد مجيء بايدن نوعا من الاعتذار عن تصريحات سابقة بحق أكبر دولة نفطية في المنطقة، العربية السعودية، إلا أنَّ نظرة الاستعلاء كانت بادية في ما خصّصه من وقت لكل من إسرائيل ولرئيس فلسطين، محمود عبّاس، وفي أولوية الموضوعات التي قاربها، وهي زيادة ضخ النفط وتحجيم إيران والضغط عليها للعودة إلى الاتفاق النووي. ولم ينس أن يعرِّج على حقوق الإنسان المفقودة في المنطقة، من دون الإشارة إلى إسرائيل التي تمارس أشكال العنصرية كلّها ضد الشعب الفلسطيني قتلًا وسجنًا واقتطاع أراض وبناء مستوطنات وتجاهلًا لقرارات الأمم المتحدة التي تبلغ، بحسب الرئيس عباس، نحو 700 قرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة و87 قرارًا عن مجلس الأمن. وإذا ما تمرّد أحد المعتدى عليهم محتجًا على السياسة الإسرائيلية التي لا وجود فيها لأي شرط من حقوق الإنسان، يتهم بالإرهاب!

وإذا كان الرئيس الأميركي قد تعرَّض لجريمة قتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، بحسب إعلاميين، فإنه تجاهل أيّة إشارة إلى جريمة قتل الصحافية الفلسطينية، شيرين أبو عاقلة، حاملة الجنسية الأميركية. ومع ذلك، حظي بعدة صفقات اقتصادية، فيما لم تحظ القضية السورية منه بغير إشارات عابرة، وإنْ تعرّض زعماء عرب لها في كلماتهم الرسمية، وخصوصا أميرَيْ الكويت وقطر، كما أكَّد بعضهم أن َّأسباب التوتر في المنطقة بقاء الاحتلال الإسرائيلي الأراضي الفلسطينية في حدودها قبل 1967.

في مقابل تلك القمة، سارع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الغارق اليوم في أوكرانيا، وما خلفته في العالم من أوجاع إلى عقد قمة أستانة في طهران، غايتها القول إنه موجود، وإنَّ أوان قيادة القطب الواحد قد ولَّى (بغض النظر عمّا سوف تؤول إليه نتائج الحرب على أوكرانيا) إذ لم تكن القمة بعيدة في محتواها عن موضوعات قمة “أميركا – دول الخليج”، وخصوصًا تجاه النفط والغاز وتخلخل الأمن الغذائي. ورغم أنّ أقطاب هذه القمة قد تآلفوا بشأن القضية السورية، إلا أنّ سورية لم تأخذ منهم غير عبارات عامة ومكررة، فالرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، أكد فكرة إيجاد حل للقضية السورية من داخلها، “أن إيران تدعم التوصل إلى حل سياسي للأزمة في سورية. ومصير سورية يجب أن يقرّره شعبها من دون أي تدخل أجنبي”، وكلك فعل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين إذ “أكَّد ضرورة إيجاد الظروف اللازمة لتمكين السوريين من تقرير مصير بلادهم، بمعزل عن أيّ تدخل خارجي”، وأشار إلى أهمية وجوب الاتفاق “على خطوات محدّدة لتعزيز الحوار السياسي الداخلي السوري الشامل، لتقرير مصير بلدهم دون أي تدخل خارجي”.

لكنَّ الجانبين الإيراني والروسي لا يعدان دولتيهما ضمن المتدخلين الخارجيين، فكلاهما يؤكّد ضرورة أن يكون الحل السوري شأنًا داخليًا، فمن هم الأغراب في سورية إذًا؟ هل هي تركيا التي تستقبل منذ عشر سنوات نحو أربعة ملايين داخل بلادها وتؤمن لثلاثة ملايين آخرين خدمات ضرورية يفتقر إليها السوريون الذين هم بحماية الروس والإيرانيين، ثم إنّ الروس والإيرانيين شجّعا، منذ البداية، النظام على ما سمّي الحل الأمني، وأخذ الروس يستخدمون حق النقض منذ المبادرة الأولى عام 2011 وما تلاها مرورا بقرار مجلس الأمن 2254 الذي اختصر باللجنة الدستورية (تحاول روسيا اليوم إخراجها، وبعد ثلاث سنوات، من تحت عباءة الأمم المتحدة) وإلى أحدث “فيتو” في 9 يوليو/ تموز 2022 ضد مشروع قرار مجلس الأمن الذي يوصل المساعدات الغذائية إلى ثلاثة ملايين سوري في المخيمات، والغرض تجويع هؤلاء، أو جعلهم تحت رحمة النظام ليتحكّم بلقمة عيشهم، ويأخذ أولادهم إلى الموت بعد أن كان هجَّرهم بقصف الروس أنفسهم.

ثم أليس الأوْلى بمن يدعو إلى وحدة الأراضي السورية أن يسهل عودة السوريين كافة، وبذلك يؤكد وحدة الشعب السوري في الداخل والخارج، أم إنّ هؤلاء المهجرين الذين نزحوا عن دمشق وحمص وحلب وإدلب والرقة ودير الزور ليسوا سوريين؟! وما الغاية من إطالة أمد هذا التجاهل غير تأكيد لرغبةٍ دفينة غامضة، فإن من يريد خلاصاً للشعب السوري يناقش قضيته أمام الملأ، وقد اتخذت الأمم المتحدة قرارها في هذا الشأن، رغم استخدام روسيا حق النقض مرارًا، ودونما وجه حق سوى المماطلة وتعميق الأزمة السورية للحصول على مكاسب خاصة.

أما النظام فلم يرد الانعزال عن تلك القمة، وإن شكليًا، فأرسل وزير خارجيته، فيصل المقداد، إلى طهران، ليقول إن للنظام حصة في القمة (بحسب المقداد نفسه) “لم يكن وجودي في طهران مستبعدًا” وقال إن الرئيس حمّله تحياته إلى المرشد علي خامنئي، وشكر الإيرانيين على موقفهم تجاه “تأكيدهم وحدة الأراضي السورية واستقلالها”. وأشار إلى موقف تركيا من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) واحتمال إبعادها عن حدودها، فقال: “لا فائدة لتركيا من دخول حدود سورية”، وبيَّن ذلك بقوله إن ذلك سوف يؤدّي إلى “صراع بين الحكومة السورية وتركيا، ويؤثر على الشعبين الصديقين والشقيقين”. ورغم الإحالات الإيجابية المستقبلية لهاتين الصفتين، إذ ارتبطا بقوة العلاقات السابقة بين سورية وتركيا ومساهمتها في نمو اقتصادي البلدين، إلا أنَّ المقداد عاد ليحمِّل تركيا مسؤولية دخول الإرهابيين، متجاهلًا دور تركيا الديبلوماسي، آنذاك، ونصائحها بعدم الانجرار إلى الحلول الأمنية التي نقلها عبر رحلات مكوكية وزير الخارجية التركي آنذاك، أحمد داود أوغلو، لكن الأسد لم يكترث، وربما كان لأعوانه، ولأخيه قائد الفرقة الرابعة، ماهر الأسد، بالذات، والمتهم بتصفية خلية الأزمة في يوليو/ تموز 2012، دور رئيسي في ذلك.

أما المعارضة السورية (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة)، فلم يبد منها أي موقف من تلك القمة يظهر موقفها ويشير إلى وجودها، أو ما تأمله من القمة، وهي التي انجرَّت قبل ذلك إلى مجموعة أستانة، وأدارت الظهر إلى الأمم المتحدة، ومسؤولياتها تجاه قراراتها المتعلقة بإنهاء عذابات السوريين، واستصدارها القرار 2254 الذي تساوق، على نحو أو آخر، مع توجهات جنيف السابقة، وتقاطع عنده جميع المعنيين بالقضية السورية.

العربي الجديد

————————

بين مساوئ الرعب وفوائد الخوف البنّاء في بلاد الشام/ راغدة درغام

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أبلغ نظيره الروسي فلاديمير بوتين أثناء لقائهما الأسبوع الماضي في طهران، أنه ليس مُعجَباً أبداً بفكرة الكرملين بإيكال سوريا الى إيران ولن يقبل بها على الإطلاق. بل أكثر، حسبما نقلت مصادر وثيقة الاطلاع على القمّة الثلاثية الروسية – التركية – الإيرانية التي تظاهرت وأنها تُحيي عملية آستانة للسلام في سوريا. السيد أردوغان لطّف إنذاره لإيران بأن أنقرة لن تقبل بما تصمّمه طهران لنفوذٍ عارمٍ لها في سوريا ومدّها الدعم على طريقتها للرئيس السوري بشار الأسد، قائلاً إنها مجرّد تمنيات لا مستقبل لها. وعندما أراد أن يوضح أكثر، قال إن أي محاولة لبسط سيطرة إيران على سوريا إنما تتناقض مباشرة مع المصالح القومية لتركيا- وأنقرة جدّيّة جدّاً عندما يتعلق الأمر بمصلحتها القومية.

أما القيادة الإيرانية، فإنها أبلغت السيد بوتين أنها جاهزة ومستعدة وقادرة على السيطرة على سوريا وإنقاذ الأسد. السيد بوتين اعترف أن سُلّطة وقوة روسيا في سوريا تتآكل بسبب انشغال موسكو بالعمليات العسكرية في أوكرانيا وأن موسكو ليست متحمّسة اليوم لزيادة نفوذها في سوريا. تقبّل السيد بوتين إنذار السيد أردوغان لإيران على مضض، وأخذ علماً أن الرئيس التركي يلعب أوراقه اليوم بثقة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي تنتمي اليه تركيا، وعبر تقديم نفسه وسيطاً بين روسيا وأوكرانيا. إنما ما أبلغه الرئيس الروسي الى القيادات الإيرانية هو أن روسيا ستبقى حليف الجمهورية الإسلامية الإيرانية الاستراتيجي، وأن الكرملين يقدّم الى القيادات الإيرانية كامل الدعم لصلاحيات واسعة لها في سوريا تحلّ مكان روسيا في هذا المنعطف، بغض النظر عن رأي وتهديد السيد أردوغان. بل أكثر. ما أكده السيد بوتين هو موافقته على أن لبنان مرتبط مئة في المئة بالقرار الإيراني، وأن الكرملين يتفهّم ويفهم المصالح الإيرانية في لبنان ويقرّ بأن مستقبل لبنان لا يمكن فصله عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

لم تكن قمّة طهران ردّاً على قمّة جدّة كما ظن البعض. كانت قمّة محاولة التفاهم ثلاثياً على الأدوار في سوريا، ولم يتم الاتفاق. الإيجابي الوحيد الذي صدر عن قمّة طهران هو الاتفاق على استمرار الحوار. فلا اختراق لجهة تقريب وجهات النظر أو تنظيم نفوذ الدول الثلاث في سوريا، ولا تراجع في خطط أي من الأطراف الثلاثة العسكرية منها أو الاستراتيجية.

أردوغان تمسّك بمواقفه ولم يبدِ أي استعداد للتعاون مع روسيا في سوريا مؤكداً أن تقويم مصالح تركيا لم يتغيّر، وأن تركيا لن تتراجع عن القيام بعمليات عسكرية داخل سوريا عند الحاجة. طلب من نظيره الروسي ألاّ يضغط عليه أو على تركيا، لأن لا مجال لأخذ خطوة الى الوراء.

ما أكده أردوغان لبوتين هو أنه يأمل ويتمنى كثيراً بألاّ تقع مواجهة بين تركيا وروسيا في سوريا، وأنه يعتزم أن يجد دائماً لغة مشتركة بين الدولتين والقيادتين لتجنّب المواجهة، حسبما أكّدت المصادر المطلِعة على اللقاء. أما إيران، فإنها أمرٌّ آخر وأسلوب التعاطي مع أدوارها في سوريا مختلف وهو ينطلق من اعتبار أنقرة أن محاولات طهران للسيطرة على سوريا تتعارض تماماً مع مصالح تركيا القومية.

فكرة بوتين أن يجعل من إيران اللاعب الأقوى في سوريا والضامن للنظام في دمشق اصطدمت برفضٍ قاطع من أردوغان وصعّدت الشكوك التركيّة من المخططات الإيرانية. هذه الفكرة لا تعجب الولايات المتحدة ولا إسرائيل لكن إيران تريدها بشدّة وتعتبرها حيويّة لمشروعها الإقليمي أتت “هدية” لها من الحرب الروسية على أوكرانيا.

نصْب الجمهورية الإسلامية الإيرانية حاكم الأمر الواقع في سوريا قد يكون مشروع توريط لإيران، لكن القيادة الإيرانية تعتبره إنجازاً استراتيجياً تريده طهران لأنه يضعها على البحر المتوسط. امتداد خطوط المواجهة الإيرانية المباشرة مع إسرائيل من لبنان الى سوريا أمرٌ تريده طهران في زمن السلم كما في زمن الحرب لأنه يشكّل لها أدوات مقايضة وجبهات مواجهة. وهذا يناسبها تماماً اليوم لا سيّما أن القيادة الإيرانية واثقة تماماً من نفسها في وجه إسرائيل عسكرياً وليس فقط تهادنياً. ثم أنها لا تفكّر بمجرّد معطيات اليوم، فإيران تبني لبنة لبنة دورها في ذلك الحلف الثلاثي أي الترويكا الصينية – الروسية – الإيرانية.

أثناء لقاء الرئيسين الروسي والإيراني في طهران، طلب الرئيس إبراهيم رئيسي تصعيد الضغط الروسي في موضوع المحادثات النووية في فيينا والهادفة الى إحياء الاتفاقية النووية JCPOA لعام 2018 والتي وقّعتها الولايات المتحدة والصين وروسيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا مع إيران. لكن رئيسي أكّد لبوتين أن إيران لن تتخذ أيّة خطوات تجعلها تبدو ضعيفة في نظر الولايات المتحدة والعالم. قال إن طهران جاهزة لبعض التنازل إنما ليس في مسألة إصرارها على شطب “الحرس الثوري” الإيراني من قائمة الإرهاب، ولا في إصرارها القاطع على عدم السماح للولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى بأن تسيطر على مستقبل الصناعات النووية في إيران. فالأمل يتضاءل والضوء في نهاية نفق المحادثات النووية بات باهتاً.

ما تحدّث الرئيسان في شأنه بكل شغف واهتمام هو تلك المعاهدة الثنائية الشاملة بين روسيا وإيران والتي بدأ الإعداد لها لأن إتمامها بأسرع ما يمكن مهمّ جدّاً للطرفين لأسباب عديدة. وبحسب المصادر المطلِعة تحدّث الرئيسان عن قيام بوتين بزيارة رسمية الى طهران في أواخر هذه السنة بهدف توقيع تلك المعاهدة الثنائية التي تشابه المعاهدة الاستراتيجية التي وقعتها إيران مع الصين.

فالتقويم الروسي والإيراني لمستقبل المحاور في الشرق الأوسط هو أن الولايات المتحدة تتراجع في لغة وإجراءات المحاور فيما الترويكا تتقدّم ببراغماتية وعناية وحذر وعزم وتصميم. زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن الشرق أوسطية لم تفلح في محو تطوّر بالغ الأهمية في الدول الخليجية العربية وفي مقدمها السعودية وهو الاستقلالية التي تبنّتها هذه الدول في أعقاب تجربتها مع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ونائبه حينذاك جو بايدن. وطالما أن السعودية لم تعد الى الفلك الأميركي بالطريقة التقليدية، فإن المحور المرجو بقيادة أميركية يبقى ضعيفاً. زيارة بايدن لم تحقق اختراقاً في هذا الأمر، ولذلك موسكو وطهران ليستا قلقتين كثيراً، لا أمنياً ولا نفطيّاً.

ما يثير قلق موسكو هو مستقبل “أوبك+” لأن ذلك سيؤثِر في روسيا بصورة مباشرة. وموسكو تتطلّع بحذر واهتمام الى الاجتماعات المقبلة لمنظمة الـ”أوبك” في أيلول (سبتمبر) المقبل.

عودةً الى تركيا، تَقلق روسيا من رؤية ومشروع رجب طيب أردوغان بشمولية وليس فقط في سوريا. تدرك أن الحزام الأمني الذي يريده أردوغان لتركيا داخل الأراضي السورية بات موضع إصرار أكبر من أردوغان لأنه يرى أن الفرصة مواتية جدّاً لتنفيذه، أولاً بسبب إنشغال روسيا بأوكرانيا، وثانياً بسبب انشغال أميركا بروسيا وبأوكرانيا وبإيران، وثالثاً لأنه استعاد نفوذه وتموضعه داخل حلف شمال الأطلسي لأن “الناتو” في حاجة اليه.

هذا لا يعني أن الرئيس التركي بات محصّناً ومقبولاً تماماً لدى دول “الناتو” أو لدى جيرته لا سيّما عندما ترتكب تركيا أخطاء فادحة ناتجة من عجرفة أردوغان كما حدث في آخر عمليات اقتحام الأراضي العراقية بالذات في مأساة قصف المنتجع العراقي بكردستان الذي أسفر عن مقتل مدنيين. بغداد حمّلت أنقرة مسؤولية القصف لكن أنقرة نفت مسؤوليتها.

المشكلة أعمق وهي تكمن في ثقة أردوغان أن تركيا فوق المحاسبة فيما تلاحق ما تصنّفه الإرهاب الكردي في العراق وسوريا، وأنها نجحت في إخضاع الدول الأورويية مثل السويد بإصرارها على رفض عضويتها في “الناتو” ما لم تتخذ استوكهولم إجراءات طالبت بها أنقرة.

كلمة أخيرة عن قمّة طهران التي حضرها غيابياً “حزب الله” بصفته الذراع الأقوى لإيران داخل سوريا وفي لبنان. الرئيس التركي لا يتعرّض مباشرة لـ”حزب الله” تقليدياً لكنه سيفعل إذا ما اضطر في سوريا حين تبدأ إيران تنفيذ مشروع بوتين هناك.

“حزب الله” يتربّص ليتموضع، إما بجانب إيران أو بالنيابة عنها- حسبما تتطلّب الظروف. إنه يهادن عندما تحتاج طهران المهادنة، ويصعِّد عندما ترتأي القيادة الإيرانية أن الوقت حان. أجندته ليست من أجل استفادة لبنان، ولذلك حوّل مستقبل ثروة الغاز والنفط الى ذخيرة لـ”المقاومة” بدلاً من أن تكون وسيلة انتشال اللبنانيين من كارثة الانهيار الاقتصادي التي تدمّرهم.

“بارومتر” “حزب الله” اليوم يفيد بأنه قد يعرقل ترسيم الحدود البحرية اللبنانية – الإسرائيلية ليس فقط بموجب مراقبته لنتائج المفاوضات النووية الإيرانية، وإنما أيضاً لأنه يريد أمرين أساسيين آخرين هما: أولاً، ضمان حصته من الثروة بدلاً من اعتبارها ثروة سيادية ذلك لأنه لا يعترف بسيادة الدولة ولا حتى بالوطن لبنان. وثانياً، “حزب الله” يرفض أي ترسيم أو مراقبة لأيّة حدود لبنانية – سورية، ولذلك، إنه يخشى فكرة ترسيم الحدود البحرية لأنها تكبّل تحركاته البحرية والبرية وبالذات عمليات التهريب التي يتطلّبها المشروع الإيراني المدعوم روسياً في سوريا بمباركة فلاديمير بوتين شخصياً.

لمن سخرية القدر أن يكون خيار صفقة أميركية – إيرانية – إسرائيلية نووية وأمنية وتهادنية أفضل بكثير لبلادٍ مثل سوريا ولبنان بكل ما تمنحه لإيران ولإسرائيل من أدوات هيمنة واستقواء، مما هو خيار المواجهة العسكرية. فواضح أن روسيا وإيران اتخذتا قرار مصادرة سوريا ولبنان لغاياتهما ومصالحهما القومية وفي حساباتهما التصدّي لإسرائيل هناك حسب الحاجة. أما إدارة بايدن، فإنها ما زالت تتأرجح بين التمنيات بصفقة مع إيران، وبين التردّد بالضغط على طهران وعلى “حزب الله” خوفاً من الانتقام، وبين التهديد باستعادة عقوبات الضغوط القصوى على إيران التي تبناها دونالد ترامب، وبين إلقاء كل اللوم على ترامب لأنه مزّق الاتفاقية النووية مع طهران.

الفرز مستمر، وسط بلبلة سياسية عالمية، يرافقه كثيرٌ من الرعب وقليلٌ من الأمل والخوف البنّاء. لربما أفضل الأحوال في هذا المنعطف هو استمرار الوضع الراهن Status quo في المنطقة العربية بكل سيّئاته في بلاد الشام.

 النهار العربي

 ———————-

هجوم غير مسبوق لكبرى الصحف الأمريكية على بايدن بسبب سوريا: زعامتنا في خطر حقيقي

اعتبرت صحيفة واشنطن بوست(Washington Post) أن الرئيس الأمريكي جو بايدن تخلّى عن الملف السوري لمصلحة روسيا وإيران، الأمر الذي يُظهر فشل بايدن في إدارته بمعالجة الأزمة السورية وملفات الشرق الأوسط، خلافاً لبرنامجه الانتخابي، إضافة لدوره لترك الساحة السورية لروسيا وإيران.

وقالت الصحيفة الأمريكية في مقالها أمس، إن رحلة بايدن إلى الشرق الأوسط الأسبوع الماضي، أظهرت تخلّيه عن أي دور للقيادة الأمريكية في معالجة الأزمة في سوريا، معتبرة أن “سياسة الإهمال هذه تقوّض المصالح الأمريكية والإقليمية، وتهدّد بترك أمن المنطقة في أيدي روسيا وإيران”.

وأشار كاتب المقال إلى أن بايدن لم يذكر سوريا علناً خلال رحلته التي استغرقت أربعة أيام إلى الشرق الأوسط، “والتي وُصفت بأنها دليل على مشاركة الولايات المتحدة في منطقة تحقّق فيها قوى مثل روسيا والصين تقدماً”، إلى جانب أنه -أي الرئيس الأمريكي- لم يأت بأفكار جديدة لحل الأزمة السياسية السورية و”لم يوجّه أي تحذيرات علنية لدول الخليج التي كانت تُنهي ببطء ولكن بثبات الوضع المنبوذ للرئيس السوري بشار الأسد، الذي يواصل ارتكاب الفظائع الجماعية ضد شعبه”، لكن في الوقت ذاته جاء ذكر سوريا على لسان بايدن أثناء الترويج لعملية أمريكية استهدفت زعيم تنظيم داعش في منطقة عفرين بريف حلب شمال سوريا.

روسيا وإيران هما من يقرر!

وعاد المقال إلى الفترة الانتخابية التي سبقت تولّي بايدن الرئاسة الأمريكية، وذكّر الكاتب بأن بايدن وخلال ترشيحه تعهّد بمنع هجمات إضافية من قبل تركيا تجاه حلفائهم الأكراد (ميليشيا PKK) لكنه في الوقت الراهن ترك ملف الميليشيات الكردية في سوريا في أيدي إيران وروسيا لتقرّرا مصير المنطقة مع تركيا في القمة التي عُقدت أمس في العاصمة الإيرانية طهران، وغابت عنها واشنطن.

كما إن المقال أشار إلى أن روسيا وإيران تعملان على توسيع الشراكة العسكرية التي أقامتاها في سوريا لاستخدامها للحرب في أوكرانيا، وقال: “تستخدم روسيا الأسلحة التي جرّبتها على المدنيين السوريين لقتل المدنيين الأوكرانيين. كما تهاجم روسيا الآن حلفاء الولايات المتحدة في سوريا – القوات المحلية التي تساعد القوات الأمريكية في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية”.

وأشارت الصحيفة الأمريكية إلى أن العديد من السوريين يرون أن إدارة الرئيس بايدن “مفقودة في العمل”، مستشهدة بخطاب الناشط الحقوقي السوري “عمر الشغري” في مجلس الأمن في 29 من الشهر الماضي، حين هاجم سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا واتهمها بـ “نكث عهودها” تجاه الملف السوري، حيث قال الشغري: “الولايات المتحدة، اقتصرت حكومتكِ مؤخراً على التصريحات الجوفاء، ولا تتخذ أي إجراءات.. من المفترض أن تكوني قائدة العالم الديمقراطي. لم أعُد أراكِ في هذه الساحة العالمية بعد الآن”.

تعطيل قانون قيصر

وفيما يخص العقوبات الأمريكية على نظام بشار أسد وميليشياته قال كاتب المقال: “في حين أنه من الصحيح أن إدارة بايدن لم ترفع أي عقوبات عن الأسد، إلا أن فريق بايدن لم ينفّذ أياً من العقوبات المنصوص عليها في القانون المعروف باسم قانون قيصر، والذي ينص على فرض عقوبات على أي دولة أو شركة تتعامل مع الأسد. النظام الحاكم. في الواقع، نظرت الإدارة في الاتجاه الآخر بينما يستفيد الأسد من صفقة غاز إقليمية جديدة”.

واعتبرت الصحيفة أن المكان الوحيد الذي نشط فيه فريق الرئيس بايدن كان في أروقة الأمم المتحدة، “حيث قاتل الوفد الأمريكي للحفاظ على ممر المساعدات الإنسانية الوحيد المتبقي الذي يوفر الغذاء والدواء الحيوي لملايين السوريين الذين يعيشون خارج سيطرة النظام في محافظة إدلب، وحتى هناك، وافقت الولايات المتحدة على نسخة روسية من القرار تقيّد تمديد طريق المساعدات بستة أشهر”.

وأشار المقال إلى أن مسؤولي إدارة بايدن ما زالوا يجادلون في أن الحفاظ على مستويات منخفضة نسبياً من العنف والإرهاب والتركيز على المساعدات هو أفضل ما يمكن أن تأمله الولايات المتحدة في سوريا، وأضاف: “لكن مستويات العنف تبدو منخفضة فقط إذا تجاهل المرء حقيقة أن روسيا والأسد يتعمّدان تجويع الملايين من الأبرياء وتعذيب عشرات الآلاف من المدنيين في الحجز”.

وتؤكد الصحيفة الأمريكية أنه طالما أن حلفاء نظام أسد روسيا وإيران يسيطرون على الدبلوماسية “فلن تحقّق سوريا أبداً سلاماً مستداماً”، وأنه بدون دفعة دبلوماسية جديدة بقيادة الولايات المتحدة ستستمر سوريا في كونها دولة مصدِّرة للإرهاب والمخدرات واللاجئين، خاصة أن مسؤولي إدارة بايدن أقرّوا قبل تولّيه منصبه بذلك.

ونقلت عن مستشار السياسة الخارجية للمرشح بايدن، أنطوني بلينكين قوله: “لقد فشلنا في منع خسارة مأساوية في الأرواح وتحوّل ملايين الأشخاص إلى لاجئين أو نازحين داخلياً، وهذا شيء علينا جميعاً أن نتعايش معه.. هذا هو أحد الأشياء التي نتطلع إليها بجدّية، وبعد ذلك، إذا تم تكليفنا بالمسؤولية، فهذا شيء سنحتاج إلى العمل بناءً عليه”.

وختم كاتب المقال بأن على الرئيس الأمريكي جو بايدن تحمُّلَ المسؤولية والتصرف تجاه الأزمة السورية، معتبراً أنه “لا يمكن للولايات المتحدة أن تكون زعيمة في الشرق الأوسط بينما تترك الأزمة السورية تتفاقم إلى ما لا نهاية وتترك الشعب السوري يعاني بلا نهاية”.

أورينت نت

—————————–

قمة بايدن بجدة.. 4 أزمات دولية بلا حل وعقيدة أوباما تُفسد عليه زيارته

“أن تأتي متأخراً، خير من ألا تأتي أبداً” مقولة تصح في كل المناسبات إلا في وصف جولة بايدن في منطقة الشرق الأوسط قبل أيام، فسرعان ما سيكتشف الرئيس الأمريكي و فريقه – إنْ لم يكونوا قد اكتشفوا بالفعل- أنه قد فات الأوان على إمكانية إصلاح ما أفسدته عقيدة أوباما، تلك العقيدة التي مثلت دليل عمل لإدارة بايدن وكان قد صرح بها أوباما في سلسلة لقاءات مع الصحفي جيفري غولدبيرغ ونشرتها مجلة “The Atlantic” في 2016.

 وقد بدأ بايدن جولته من إسرائيل التي تصرف فيها و كأنه يزور ولاية أمريكية في أوج حملته الانتخابية، ثم لينتقل للقاء المسؤولين الفلسطينيين رفعاً للعتب‘ ولينتهي به المطاف أخيراً في محطته الأصعب في السعودية مطارداً سراباً كان يحسبه ماءً لكن لم يجده شيئاً.

إلا أن انتقال بايدن من إسرائيل إلى السعودية كان الأكثر إثارة للجدل بين الأمريكيين، بين من فسره تراجعاً عن وعوده الانتخابية، وبين من يرون أن السياسة الأمريكية تكيل بمكيالين.

فبعضهم تساءل: ألَم يكن الدفاع عن حقوق الإنسان ومعاقبة من قتل الصحفي جمال خاشقجي أحد أهم ذرائع بايدن لمعاداة السعودية والتلويح بفرض عقوبات عليها؟ بينما كرر آخرون : ألم تكن شيرين أبو عاقلة إعلامية تحمل الجنسية الأمريكية تماماً مثل خاشقجي؟ فلماذا لم يتخذ بايدن الموقف ذاته من قادة إسرائيل التي تمرغ فيها بتراب الهولوكوست دون أن يتذكر هولوكوست الفلسطينيين بسبب إسرائيل؟

أما السؤال الرئيسي فهو: ما الذي غيّر موقفه من السعودية ليقرر زيارتها في هذا التوقيت، أمْ إنّ اللوبي الإيراني المعادي للدول السُنّية لم يعد قادراً على مواجهة الأصوات الأخرى داخل الإدارة الأمريكية التي تحمّل هذا اللوبي مع فريق الأمن القومي، تبعات المآزق التي ما زال يوقع أمريكا فيها منذ أيام أوباما وحتى الآن؟!

اللافت ورغم ما اعتُبِر تنازلاً من بايدن عندما قرر زيارة السعودية، إلا أن الرئيس الأمريكي بدأ يتلقى “لَكَمات” الأمير محمد بن سلمان بمجرد هبوط طائرته في جدة، حتى قبل أن يلتقيا وجهاً لوجه في قصر السلام لاحقاً. فابتداءً بعدم استقبال الأمير ابن سلمان له في المطار وانتهاء بتأكيد الأمير بأن المملكة وصلت لسقف إنتاجها البالغ ١٣ مليون برميل وأنها لن تجاوز هذا السقف، يمكن أن نقول بأن بايدن قد عاد بخُفّي حُنين. ولعلّ أكثر ما يلخص محطة بايدن في السعودية هي ابتسامة الأمير ابن سلمان الساخرة وهو ينظر إلى بايدن العاجز عن الإجابة على سؤال الصحفية الأمريكية له: “هل لا تزال السعودية منبوذة؟!”.

عقيدة أوباما

لكن إحجام زعماء المنطقة وحلفاء أمريكا التقليديين عن المشاركة في حلف ناتو شرق-أوسطي مزعوم لمواجهة إيران كان كفيلاً بالجواب على سؤال الصحفية بأن المنبوذ هو بايدن وإدارته، فسياسة إدارة بايدن الخرقاء الموالية لإيران والمستمدة من عقيدة أوباما تسمح لإيران باستخدام عشرات المليارات لتموِّل بها وكلاءها لاستكمال تدمير ما تبقى من بلدان المنطقة وتهجير أهلها، بينما ترفع الجاهزية ضد الدول الأخرى إلى ذروتها!

لابد أن بايدن قد أدرك خطأه الإستراتيجي بمعاداة الدول السُنية إرضاء للوبي الإيراني داخل إدارته، فالسعودية هي أكبر مصدِّر للنفط في العالم، وهي الوحيدة القادرة على تعويض فقدان النفط والغاز الروسيين من الأسواق العالمية، وبضخ السعودية مزيداً من النفط يمكن المحافظة على تماسك التحالف الغربي المناهض لروسيا في معركة عض الأصابع بين المعسكَرَين ويساعد في تحقيق الهزيمة الإستراتيجية لبوتين كما تعهّد بايدن.

لكن إمكانية تحقيق هذا الهدف الإستراتيجي بدأت تتلاشى مع إصرار فريق بايدن للأمن القومي، وعلى رأسهم بريت ماكغورك على تجاهل مطالب حلفائهم في المنطقة، وفي مقدمتهم السعودية، طوال محادثات الاتفاق النووي مع إيران. فبينما يمنح هذا الاتفاق عشرات مليارات الدولارات لإيران، فإنه لا يشترط عليها وقف كافة أنشطتها العابرة للحدود والتي تزعزع الاستقرار في المنطقة. فالميليشيات الطائفية المدعومة من إيران لاتزال تعيث فساداً في سوريا وتعطل الحياة السياسية في لبنان والعراق وتستهدف المنشآت المدنية والنفطية في السعودية واليمن وتهدد سلامة الممرات البحرية الحيوية لأمن الطاقة العالمي..لذلك كانت محطة بايدن في السعودية هي الأصعب في رحلته رغم أنه اعتبر توجه طائرته من إسرائيل إلى السعودية بشكل مباشر إنجازاً تاريخياً!

فشل في 4 أزمات دولية

لقد غادر بايدن المنطقة تاركاً خلفه العديد من النزاعات الإقليمية دون أن يطرح رؤيته في حلها، فلم يتطرق بايدن مثلا في خطاباته لنزيف الدم السوري، ولم يطرح خطة طريق لإنهاء معاناة ملايين السوريين على أيدي نظام الأسد، كما أنه لم يكلف نفسه عناء زيارة تركيا -حليفة أمريكا التقليدية- لترميم ما دمره هو وأوباما من قبله، أو ليحاول إنقاذ حلفائه المدللين -قوات سوريا الديموقراطية- من عملية تركية وشيكة، وترك الأزمة اليمنية تراوح مكانها في ظل عدم رغبة إدارة بايدن بالضغط على الحوثيين لعدم إغضاب إيران.

وفيما بدا وكأنه حرب بين الإمبريالية التقليدية والواقعية السياسية، فشل الإمبريالي بايدن بالحصول على الحد الأدنى من تأييد حلفائه التقليديين، في حين ينجح الواقعي بوتين بانتزاع مكاسب كبيرة حتى من حلفاء أمريكا التقليديين، كتركيا ودول الخليج، وحتى إسرائيل، مع محافظته على علاقات متينة مع الأنظمة اليسارية. وفي رد واضح على سياسات واشنطن، تنعقد في طهران قمة تجمع رؤساء روسيا وتركيا وإيران لمناقشة النزاعات في المنطقة وعلى رأسها الأزمة السورية، حيث من المتوقع أن يصل الرؤساء الثلاثة لحدود دنيا من التفاهم فيما بينهم.

تحديات بايدن الداخلية

كما إن بانتظار بايدن في بلاده تحديات كان يعتقد أن التغلب عليها يمر عبر نجاحه في جولته خارجياً في المنطقة، فالتحدي الأول الذي يمس الأمريكيين بشكل مباشر يتمثل بتراجع الأداء الاقتصادي لإدارة بايدن، حيث ارتفع معدل التضخم السنوي إلى 8.6 في المئة حسب وزارة العمل الأمريكية، إضافة إلى ارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية لمستويات لم تشهدها البلاد منذ ٤٠ عاماً، ويسهم الوضع الاقتصادي المتدهور ببروز تحدٍّ ثانٍ يتمثل بانخفاض شعبية الرئيس، خاصة قبيل خوضه للانتخابات النصفية في تشرين الثاني القادم، حيث تشير استطلاعات الرأي في أواخر حزيران إلى أن ٣٩% فقط من الأمريكيين يمكن أن يصوتوا لصالحه كما أوردت وكالة بلومبيرغ.

ويبدو أن هذه النسبة مرشحة لمزيد من التدهور بعد فشل بايدن بجولته في المنطقة، كما إن صور بايدن في السعودية وهو يجتمع بقادتها، متجاهلاً تصريحاته السابقة المعادية للمملكة بسبب ملف حقوق الإنسان، لابد أن تسبب خسارته لثقة الناخب الأمريكي، وبذلك ينطبق على بايدن وصف المُنْبَتّ الذي “لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى”، فلا هو استعاد علاقة أمريكا المميزة مع السعودية، ولا هو حافظ على ثقة الأمريكيين كمدافع مبدئي عن حقوق الانسان، لا بل إن قادة السعودية كسبوا تأييد شريحة كبيرة داخلياً وخارجياً لموقفهم الرافض للانصياع للإملاءات الأمريكية، خاصة مع عودة استخدام النفط كسلاح للدفاع عن مصالح دول المنطقة كما فعلت المملكة خلال حرب تشرين ١٩٧٣.

و بذلك غادر بايدن المنطقة تاركاً حلفاء أمريكا يبنون تحالفات جديدة مع خصومها -روسيا والصين- كما توقّع ترامب ذات يوم فيما لو تخلت أمريكا عن حلفائها. وإذا لم تحصل مراجعة سريعة و شاملة لعقيدة أوباما في السياسة الخارجية والتي يسير بايدن على نهجها، فستتجه مكانة أمريكا وقوتها لمزيد من الانحدار.

—————————

====================

تحديث 29 تموز 2022

——————–

ما أبرز الدلالات والخلاصات التي حملتها زيارة جو بايدن إلى الشرق الأوسط؟/ مايكل يونغ

مهى يحيَ | مديرة مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت.

قد يكون من المبكر لأوانه استقراء النتائج الكاملة لجولة الرئيس الأميركي جو بايدن في الشرق الأوسط، لكن الانطباع العام هو أن جهوده لم تُفضِ إلى تحقيق إنجازات تُذكر. الاستنتاج الأول هو أن دول المنطقة ستتصرّف بناءً على أولوياتها. فالفكرة القائلة بأن الشرق الأوسط هو مجرّد ساحة مفتوحة على مصراعيها أمام تجاذبات القوى الدولية العظمى، باتت تتغاضى فعليًا عن دور القوى الإقليمية التي حصدت نفوذًا واسعًا أتاح لها التأثير في سير الأحداث سواء في داخل المنطقة أو خارجها. والأهم أن زيارة بايدن رسّخت فكرة أن الدول الإقليمية قادرة ببساطة على التصرّف وفق ما تُمليه مصالحها الخاصة، حين تتعارض هذه الأخيرة مع أهداف الولايات المتحدة. وقد تجلّى ذلك بأوضح صوره على مستويَين: أولًا، اختتم بايدن جولته في الشرق الأوسط من دون انتزاع وعود واضحة من دول الخليج بزيادة إنتاج النفط؛ وثانيًا، نفت السعودية أن قرار فتح أجوائها أمام الطائرات الإسرائيلية يشكّل مقدّمة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. فالقوى الإقليمية لا ترغب في خوض حرب مع إيران، بل تفضّل الجلوس على طاولة المفاوضات للوصول إلى صيغة تعايش تجمع بين مختلف دول المنطقة.

في هذا السياق، تراجع بايدن عن قراره بنبذ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ذلك أن السعودية أكّدت على أهمية دورها كلاعب إقليمي بارز قادر على إرساء ترتيبات سياسية مع إيران وفي دول المشرق وغيرها، سواء في ما يتعلّق بالتطبيع مع النظام السوري أو بالصراع العربي الإسرائيلي. ومع أن المملكة فتحت مجالها الجوي أمام عبور الطائرات المدنية الإسرائيلية، لا يبدو أنها على وشك توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، وسبب ذلك إلى حدٍّ بعيد هو طريقة تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين. وفي هذه القضية، اكتفى بايدن بتجديد دعمه لحل الدولتَين “حتى وإن كان بعيد المنال في المستقبل المنظور”، وبتقديم مساعدات لمستشفيات القدس، مُتغاضيًا عن سياسات الفصل العنصري التي تمارسها إسرائيل بحق الفلسطينيين.

يبقى أن زيارة بايدن ضربت عرض الحائط بكلامه الشائع عن محورية حقوق الإنسان لأجندته الخارجية. فقد ساهمت المواقف الأميركية حول عملية السلام وحول السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين وأراضيهم في تعزيز الانطباع السائد في المنطقة بأن واشنطن عاجزة عن ترجمة أقوالها إلى أفعال في مجال حقوق الإنسان، وبأنها ستعطي دائمًا الأولوية لمصالحها على حساب قيمها. وقد أدّى هذا الواقع إلى تقويض النفوذ الأميركي بصورة متزايدة، مبرِّرًا مساعي الدول العربية إلى تبنّي موقف محايد من النزاعات الدولية وعدم الانحياز إلى طرف دون الآخر.

زها حسن | محامية في مجال حقوق الإنسان وباحثة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي

أجرى بايدن زيارته إلى الشرق الأوسط بعد أن طمأن الأميركيين إلى أن القضايا المرتبطة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية ستكون على جدول أعماله في كلٍّ من الضفة الغربية وإسرائيل والسعودية. لكن محطة بايدن الفلسطينية التي تم الإعداد لها بدقة اتّسمت بطابع سياحي وإنساني أكثر منه سياسي. زار بايدن كنيسة المهد ومستشفى يقدّم الرعاية للفلسطينيين ويديره الاتحاد اللوثري في القدس الشرقية. وعلى الرغم من الجهود التي بذلها، لم يستطع تجاهل قضية حقوق الشعب الفلسطيني حين استقبلته في بيت لحم لافتة تقول: “سيدي الرئيس، هذا أبارتايد”. كذلك، لا بدّ أنه لاحظ الصحافيين الذين كانوا يرتدون قمصانًا تعبّر عن مطلب تحقيق العدالة لزميلتهم الصحافية الفلسطينية والمواطنة الأميركية شيرين أبو عاقلة التي اعتبرت الولايات المتحدة على نحو غير مفهوم قبل أيام قليلة من تاريخ الزيارة أن مقتلها خطأ إسرائيلي مأساوي.

ومع أن بايدن ألمح إلى حقوق الفلسطينيين ودعا إلى تحقيق المحاسبة عن مقتل أبو عاقلة، لم تتمتع هذه التصريحات بمصداقية كبيرة نظرًا إلى أنها صدرت بعد توقيعه “إعلان القدس بشأن الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل” الذي يلزم واشنطن بمعارضة الجهود الفلسطينية الدبلوماسية والقانونية في الأمم المتحدة وفي المحكمة الجنائية الدولية، وبمحاربة جهود منظمات المجتمع المدني الرامية إلى محاسبة إسرائيل عن انتهاكات حقوق الإنسان.

حاول الرئيس الأميركي أن يسلّط الضوء على قضية مشتركة تجمعه مع الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال من خلال التحدث عن جذوره الإيرلندية الكاثوليكية وتلاوة قصيدة إيرلندية عن يوم سترتفع فيه موجة العدالة العارمة “فيتوافق التاريخ مع الأمل”. لكنه تفادى الرد على ممرّضة شكرته على تقديم مساعدات مالية بقيمة 100 مليون دولار إلى مستشفيات القدس الشرقية، قبل أن تضيف أن الفلسطينيين بحاجة إلى “المزيد من العدالة”.

إحدى الخلاصات المهمة الكثيرة التي يمكن استنتاجها من الزيارة الأولى التي أجراها الرئيس بايدن إلى المنطقة منذ تولّيه منصبه هي أن الولايات المتحدة ستواجه صعوبات متزايدة في التعامل مع نفاقها في مجال حقوق الإنسان فيما تسعى إلى تحقيق أهدافها على مستوى السياسة الخارجية. وبدا ذلك جليًّا حين تطرّق الرئيس بايدن إلى مسؤولية السعودية في مقتل الصحافي في صحيفة واشنطن بوست، جمال خاشقجي، فردّ ولي العهد السعودي متسائلًا ]عمّا قامت به الولايات المتحدة بشأن[ مقتل أبو عاقلة وسجن أبو غريب”.

آرون ديفيد ميلر | باحث أول في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.

لم تعكس زيارة الرئيس جو بايدن الخاطفة إلى الشرق الأوسط عملية إعادة ضبط استراتيجية تجاه منطقة مضطربة، بقدر ما كانت استجابةً للأزمات والحاجات التي فرضها الغزو الروسي لأوكرانيا، ولا سيما مسألة كيفية زيادة إمدادات النفط وإحراز تقدّم أميركي في مواجهة المنافسَين الروسي والصيني.

إسرائيل: حتى وفق المعايير المؤيدة لإسرائيل، كانت الزيارة ودية جدًّا بين بايدن والجانب الإسرئيلي، ومليئة بالمشاعر الإيجابية والمشاريع التعاونية والشراكة المتجسّدة في إعلان القدس. وإن برزت خلافات حول الشأن الإيراني، فهي لم تظهر إلى العلن. ومع تحديد الأول من تشرين الثاني/نوفمبر موعدًا للانتخابات الإسرائيلية، لم يكن بايدن ليضغط على حكومة تصريف الأعمال، ولا سيما إن كانت برئاسة يائير لابيد الذي يفضّله بايدن (وإن لم يُعلن ذلك) على بنيامين نتنياهو لرئاسة الحكومة المقبلة.

الفلسطينيون: إذا حصلت إسرائيل على العسل، فسيتحمّل الفلسطينيون في الغالب إبر النحل. لقد تحدّث بايدن علنًا عن حل الدولتين على أساس حدود العام 1967 مع تبادل متفق عليه للأراضي ووعد بتقديم مساعدات إضافية بقيمة 300 مليون دولار. لكن بايدن ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي ما زال في منصبه للسنة السابعة عشرة في ولاية يُفترض أن مدتها أربع سنوات، لا يعتقدان أن الولايات المتحدة جادة في الترويج لمثل هذا الحلّ.

العلاقات الأميركية السعودية: حصل ولي عهد السعودي محمد بن سلمان على ما ابتغاه من الاجتماع: صور، واجتماع قصير وجهًا لوجه، وتأكيد على أن بايدن أغلق ملف مقتل جمال خاشقجي، واعتراف بقيادته. ومن المفترض أن بايدن وتلقّى وعودًا بأن تعمد السعودية إلى زيادة إنتاجها من النفط، وتقديم المساعدة في اليمن، والموافقة على اتخاذ تدابير متواضعة لبناء الثقة في العلاقات السعودية الإسرائيلية. لكن ما من انطباع حقيقي (على الرغم من التعاون لاستبعاد شركة هواوي من تطوير شبكات الجيل الخامس) بأن السعوديين كانوا مستعدين للابتعاد بشكل كبير عن روسيا أو الصين.

إيران: أُحرز تقدّم في مسألة كيفية دمج إسرائيل ودول الخليج بشكل أفضل في منظومة دفاعية لصدّ التهديدات الجوية الإيرانية من صواريخ وطائرات وغيرها. لكن لا يبدو أن السعودية والإمارات ومجلس التعاون الخليجي على استعداد لأن تصبح رأس الحربة في المواجهة الأميركية مع طهران.

كريم سجادبور | باحث أول في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي

يميل طلاب التاريخ إلى تجنّب الخوض في التكهنات، ولا سيما حول الشرق الأوسط. فالأحداث الإقليمية الأكثر تأثيرًا خلال العقود الخمسة الماضية – بدءًا من الثورة الإيرانية في العام 1979، ومرورًا بهجمات 11 أيلول/سبتمبر، ووصولًا إلى الانتفاضات العربية في العام 2011 – كلها لم تكن متوقعة. على ضوء هذا التحذير، ها هي بعض الدلالات التي قد تحملها زيارة الرئيس بايدن في المدى القريب:

الواقعية الأميركية: لم تنجح الولايات المتحدة بعد صرفها تريليونات الدولارات ونشرها مئات الآلاف من الجنود في بناء حكومات مستقرة يُعتد بها في أفغانستان والعراق. كذلك، لم تتمكن الانتفاضات العربية في العام 2011 من تحقيق نتائج أفضل. وكما قال منسق شؤون الشرق الأوسط في إدارة بايدن، بريت ماكغورك، للباحث في مؤسسة كارنيغي آرون ديفيد ميلر في كانون الثاني/يناير الماضي: “نحن لا نحاول إحداث تحوّل في هذه المنطقة، بل نسعى إلى تحقيق مصالح أميركية حيوية وبالغة الأهمية بما يتوافق مع غاياتنا ووسائلنا والتزاماتنا وقدراتنا”.

الواقعية العربية: سيواصل شركاء واشنطن الإقليميين التشكيك في التزامات الولايات المتحدة حيال الشرق الأوسط. وستدفعهم مصالحهم الوطنية إلى الاستمرار في تعزيز علاقاتهم التجارية والعسكرية مع الصين وروسيا. لكن العلاقات الاستراتيجية والثقافية والاقتصادية التي بنوها مع الولايات المتحدة على مدى العقود الخمسة الماضية لا تستطيع أن تحل محلها بيجينغ وموسكو.

وقائع الطاقة: تدور أسعار الطاقة كما هو معلوم في حلقات، وقد تعمد إلى تصحيح مسارها قريبًا، لكن وجود عالم لا يرتبط فيه النفط وسعره بالشؤون الاقتصادية والسياسية ما زال أمرًا بعيد المنال. ففي العام 2021، أوضح أفشين مولافي هذه الفكرة قائلًا: “منذ لحظة استيقاظنا وحتى خلودنا للنوم، نحن نعيش في عالم من النفط، ومن المستبعد أن يتغيّر ذلك قريبًا”.

إيران توحّد: لم يكن أرسطو أول من اعتبر أن “الخطر المشترك يوحّد حتى ألدّ الأعداء”. فمنذ انتخاب بايدن، حاولت الولايات المتحدة والسعودية والإمارات تخفيف حدّة النزاع مع إيران دبلوماسيًا، لكن محاولاتها إما باءت بالفشل أو لم تحقّق سوى نجاح محدود. لذا يمكن القول إن الفضل الأكبر في إبرام الاتفاقات الإبراهيمية وصمود الشراكة بين الولايات المتحدة ومجلس التعاون الخليجي يعود إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

مهنّد الحاج علي | باحث أول في مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت

المُلفت في زيارة بايدن أنها كشفت عن مدى ضيق هامش المناورة المتاح أمام أي رئيس أميركي في الشرق الأوسط اليوم. فقد فشلت الإدارة الأميركية في العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، ويبدو أن المنطقة تسير نحو مزيدٍ من التصعيد العسكري والأمني بين إيران ووكلائها من جهة، وبين إسرائيل وأصدقائها العرب من جهة أخرى.

فشل بايدن أيضًا في تحقيق إنجاز يصب في صالح الفلسطينيين، بل بدت زيارته إلى إسرائيل والسعودية في معظم جوانبها امتدادًا لسياسات ترامب في المنطقة. سعى بايدن إلى توسيع نطاق الاتفاقات الإبراهيمية وطمأنة حلفاء واشنطن بشأن طهران، لكن الفلسطينيين يعتبرون أن توطيد العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل خارج إطار عملية السلام عبارة عن سياسة ترمي إلى عزلهم. ونتيجةً لذلك، أصبح الرأي العام الفلسطيني ينحو بشكل متزايد نحو إيران، في ظل الدعم المتنامي للكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي. وإذا وضعنا جانبًا المساعدات المالية التي قدّمها بايدن وتعبيره عن دعم حل الدولتين الذي يزداد تطبيقه صعوبة في الوقت الراهن، يبدو أن الرئيس الأميركي يتبنّى فعليًا ركائز سياسة ترامب في الشرق الأوسط، أي: بناء سلام إقليمي مع إسرائيل يستثني الفلسطينيين؛ ودعم تحالف عربي-إسرائيلي ناشئ ضدّ إيران؛ واعتماد نهج قائم على سياسات جزئية وغير متكاملة تعطي الأولوية للمصالح الأميركية القصيرة المدى في الشرق الأوسط على حساب حقوق الإنسان.

ولا يبدو مسار إدارة بايدن مؤكدًا حتى بما يتعلّق بأهداف الطاقة. صحيحٌ أن الولايات المتحدة قد تنجح في 3 آب/أغسطس المقبل في دفع أصدقائها وحلفائها في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) إلى زيادة إنتاجها وخفض أسعار النفط على المدى القصير، إلا أن التوترات المستمرة مع إيران قد تؤدّي إلى أحداث مشابهة لهجمات العام 2019، أو إلى تجدّد الأعمال القتالية في اليمن، ما من شأنه تقويض المكاسب التي تحقّقت.

في غضون ذلك، لا تبدو الخيارات السياسية البديلة المتاحة واضحة جدًّا، كما أنها لا تخلو من المخاطر. لذا، يكمن أبرز ما حقّقته زيارة بايدن في إظهار محدودية السياسة العامة. فقد زار الرئيس الأميركي الشرق الأوسط، لكن أقصى ما يمكن أن يطمح إليه هو الحفاظ على مظهر النفوذ أو الدور الأميركي في منطقة لم تعد واشنطن تلعب الدور الرئيسي في إدارة دفّتها.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.

————————–

بعد “قمة جدة”: أبعاد الحراك الدبلوماسي في طهران/ فاطمة الصمادي

على وقع محاولات عزلها سياسيًّا، تنشط طهران في ساحات دبلوماسية موازية وتستضيف قمة بين ثلاث دول يسعى قادتها لتعزيز المصالح المشتركة وتعظيم أدوارها في القضايا والأزمات الدولية والإقليمية. من طهران، تؤكد أنقرة وقوفها ضد العقوبات على إيران وسعيها لتعزيز التبادل التجاري مع جارتها التي تنافسها في ساحات عدة، وتسمع رفضًا إيرانيًّا لنيَّتها القيام بعمل عسكري في شمال سوريا، وتجتمع مع روسيا وإيران بغية بحث قضايا معقدة في مقدمتها سوريا. أما روسيا فتتقدم نحو إيران مدركة حاجتها لتعطيل تأثير العقوبات الأميركية وتدخل سوق الطاقة الإيرانية باتفاقية ضخمة

بعد يومين على انعقاد قمة جدة للأمن والتنمية، كانت طهران تستقبل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. وعلى الرغم من سعي بعض التحليلات إلى الفصل بين الحدثين، والقول ببرنامج زيارات معد بصورة سابقة على جولة بايدن شرق الأوسطية، إلا أن طبيعة النشاط السياسي والدبلوماسي الذي شهدته وتشهده المنطقة يقول بعكس ذلك، ورغم تشابك الملفات بالنسبة لدولة مثل تركيا إلا أن هذه الزيارة وتوقيتها يقولان بمصالح ترجحها تركيا وتسعى من أجلها إلى تعزيز العلاقة مع طهران في القمة التي جاءت ضمن إطار “عملية أستانا للسلام” الرامية لإنهاء النزاع السوري المتواصل منذ العام 2011، وعقب توعد أنقرة بالقيام بعملية عسكرية في شمالي سوريا. أما روسيا، فتأتي زيارة رئيسها، فلاديمير بوتين، إلى طهران باعتبارها ثاني زيارة خارجية له بعد شنِّ الغزو الروسي على أوكرانيا، في فبراير/شباط 2022.

هناك معطيات عديدة تجعل من “قمة طهران” ردًّا جيوسياسيًّا قويًّا، على زيارة الرئيس الأميركي لشركائه الأساسيين في الشرق الأوسط، بعد الإعلان الأميركي عن عزم واشنطن على عزل روسيا وإيران سياسيًّا. وفي القمة الثلاثية التي تجمع بوتين بالرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ستكون سوريا وأوكرانيا وصادرات الحبوب من أبرز الموضوعات التي ستناقشها المحادثات في طهران.

جولة بايدن واستهداف إيران

حمل المقال الذي كتبه بايدن في الواشنطن بوست مفاتيح شرحت أهداف زيارته قبل أن تبدأ من إسرائيل، وكان من أهمها:

    عزل إيران ودفعها للعودة لتطبيق الاتفاق النووي.

    العمل مع الشركاء والحلفاء في المنطقة لضبط الأنشطة النووية الإيرانية.

    دعم وحماية إسرائيل والدفع نحو تعزيز وتيرة التطبيع.

    مواصلة الضغط الاقتصادي والدبلوماسي على إيران.

وسعت إسرائيل إلى توظيف الزيارة لتعزيز التعاون الأمني ضد إيران، وهو ما قد يشير إلى تصاعد الهجمات وحروب الظل بمشاركة ومباركة أميركية.

بوضوح، سعى الرئيس الأميركي، جو بايدن، خلال جولته شرق الأوسطية ليقدم تطمينات أمنية وسياسية لإسرائيل، لكن ما جرى الحديث عنه بشأن بناء تحالف أمني شرق أوسطي -كان من الواضح أنه يستهدف إيران بصورة أساسية- لم يصل إلى نتيجة. فقد سارعت الإمارات لنفض يدها من مثل هذا التحالف وخرجت من الأردن تصريحات مشابهة، وأرسلت العربية السعودية رسالة مفادها أنها تمد يدها إلى طهران. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل تسارع وتيرة التطبيع بين إسرائيل ودول عربية وفي مقدمتها السعودية، وهو ما ترى فيه طهران تهديدًا أمنيًّا مباشرًا علَّق عليه وزير الدفاع الإيراني، العميد محمد رضا آشتياني، بقوله: إن إتاحة موطئ قدم للكيان الصهيوني في المنطقة لن يؤدي إلا لزعزعة الأمن. ووصف الوجود الأميركي في المنطقة بأنه “استفزازي وأن جولة بايدن الأخيرة في المنطقة لا تأتي في إطار تعزيز الاستقرار والأمن المستدام الإقليمي”.

وبمواجهة السعي الأميركي لـ”عزل إيران”، تواصل طهران تكرار رفضها للمفاوضات المباشرة مع واشنطن ولا ترى جدوى في ذلك، وكشف رئيس المجلس الإستراتيجي للسياسات الخارجية في إيران، كمال خرازي، للجزيرة أن بلاده لا قرار لديها بتصنيع قنبلة نووية رغم أن لديها القدرات الفنية لذلك، وأنها أجرت مناورات موسعة بهدف ضرب العمق الإسرائيلي في حال “استهداف منشآتنا الحساسة”.

تدرك طهران أن سؤال الأمن والاستقرار سؤال محوري في الخليج ولذلك فهي ترى أن “منطقة الخليج بحاجة إلى آلية أمنية تحول دون هيمنة أية قوة، سواء إقليمية أو عالمية. ويتطلب تحقيق هذا الهدف وضع جميع دول المنطقة على جدول أعمالها إجراءات لبناء الثقة في مجالات مثل إدارة موارد المياه، وحماية البيئة، والأمن النووي، والأمن الطاقوي، والسياحة، والتعاون الاقتصادي، والتجارة، والاستثمار، والقضاء على الفقر، وتمكين المواطنين”. ويتحدث رئيس المجلس الإيراني الإستراتيجي للسياسات الخارجية، كمال خرازي، عما يسميه “تعزيز الحوار الأخوي والصريح بين دول المنطقة، بمنأى عن الوجود والتدخل الأجنبي، مفتاحًا لحل المشاكل”. ولذلك، فإن المحادثات السعودية-الإيرانية التي أنجزت عدة جولات في بغداد ويُتوقع أن تنتقل إلى المستوى الدبلوماسي قد تكون هي المنشودة لتعزيز هذا الحوار.

تركيا والعقوبات على إيران

حال وصوله إلى طهران، اجتمع الرئيس التركي مع القائد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران وكذلك مع الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، ورغم مسحة التعاون الاقتصادي البارزة في المحادثات؛ حيث جرى توقيع اتفاقيات تعاون اقتصادي بين البلدين وجرت إعادة التأكيد على الهدف القديم/الجديد برفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 30 مليار دولار، رغم ذلك فقد برزت الأبعاد الجيوسياسية في هذه الزيارة بصورة كبيرة.

في هذا اللقاء وقبله، أكد خامنئي على مجموعة من القضايا، أهمها:

    لقد دافعنا على الدوام عن مواقف تركيا الداخلية ووقفنا ضد التدخل في شؤونها.

    القضية السورية تُحل بالتفاوض.

    وحدة الأراضي السورية وأن عملًا عسكريًّا في الأراضي السورية لن يصب في مصلحة أمن تركيا ولا سوريا.

    الترحيب بعودة قرة باغ إلى أذربيجان، لكن الجمهورية الإسلامية قطعيًّا ستعارض سياسة إغلاق حدود إيران وأرمينيا، لأن هذه الحدود هي طريق اتصال يعود لآلاف السنين.

    فلسطين هي قضية المسلمين الأولى وتوجه بعض الدول نحو الكيان الصهيوني لن يقف في وجه الشعب الفلسطيني الذي ستؤول الأمور  إلى صالحه.

أما أردوغان، فقد صرح من طهران:

    كنا -ولا نزال- ضد العقوبات على إيران.

    ندعم توقعات إيران المشروعة في الاتفاق النووي.

    نشجع الشركات التركية على الاستثمار في إيران.

    موقف تركيا من وحدة أراضي سوريا واضح.

    في قمة أستانا، الموضوع السوري مطروح بصورة خاصة على جدول الأعمال ونأمل أن نحقق نتائج طيبة.

روسيا: الأمن والاقتصاد

وصل بوتين إلى طهران واستقبله وزير النفط الإيراني، وجاءت زيارة بوتين بعد يوم على إعلان شركة النفط الوطنية الإيرانية (NIOC) وشركة غازبروم الروسية عن توقيع مذكرة تفاهم تبلغ قيمتها حوالي 40 مليار دولار، وُصفت بأنها أكبر صفقة وقَّعتها إيران في مجال النفط، وتختص بتطوير ثلاثة حقول غازية و6 حقول نفطية إيرانية، وبذلك تدخل روسيا رسميًّا وبقوة على سوق الطاقة الإيرانية. وأعلن المتحدث باسم الرئاسة الروسية، ديمتري بيسكوف، أنه قد يتم بعد فترة وجيزة، التوقيع على معاهدة تعاون شاملة بين روسيا وإيران. وفي منتصف يونيو/حزيران 2022، تم تسليم النسخة الروسية من نص هذه المعاهدة الشاملة إلى الجانب الإيراني. ويتوقع بعد إجراء بعض التعديلات الإضافية “مع مراعاة رأي الجانب الإيراني، أن يتم الاتفاق عليها، سيكون من الممكن التوقيع عليها في المستقبل القريب”.

ويحضر أيضًا ما تحدثت عنه الولايات المتحدة الأميركية من سعي روسيا لشراء طائرات مسيرة إيرانية وهو ما نَفَتْه إيران في وقت سابق. وقد توعدت واشنطن طهران في حال ثبت بيعها مسيَّرات إلى موسكو.

وفي اجتماعه مع الرئيس الروسي، ركز خامنئي على عدد من القضايا:

    التعاون طويل الأمد بين إيران وروسيا.

    الناتو كيان خطر.

    “إيران ليست سعيدة بما يحدث للناس العاديين في الحرب، لكن، في قضية أوكرانيا، لولا الخطوة الروسية لقام الطرف الآخر بإشعال فتيل الحرب”.

    أنَّ “دول الناتو لا تعرف حدودًا، ولو فُتح الطريق أمامها، ولم تتم مواجهتها في أوكرانيا، لأشعلت فتيل الحرب بعد فترة بذريعة شبه جزيرة القرم”.

    التعامل بحذر مع “السياسات الخادعة للغرب”.

    يجب طرد الأميركيين من شرق الفرات.

    يجب حذف الدولار تدريجيًّا من المعاملات المالية العالمية.

أما الرئيس الروسي، فقد أشار خلال لقائه الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى أن العلاقات الثنائية تشهد تطورًا كبيرًا وتسير بوتيرة جيدة وهناك أرقام قياسية لحجم التجارة بين موسكو وطهران. ولعل تطورات أوكرانيا وموجة العقوبات غير المسبوقة على روسيا جعلتها تتقارب مع إيران وتجد كثيرًا من المشتركات مع الجمهورية الإسلامية. وكان من الواضح أن الموقف من حلف الناتو يتصدر المواقف السياسية للبلدين. وفي الربع الأول فقط من العام الحالي، ارتفع حجم التجارة البينية بين البلدين بنسبة 10%، وبلغ 4 مليارات دولار.

وبدا تركيز طهران على قضية الإرهاب في علاقتها مع روسيا، وهو ما برز في حديث الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، خلال اجتماعه مع بوتين؛ حيث قال: “الآخرون يدَّعون أنهم يحاربون الإرهاب لكن التعاون الثنائي أثبت أننا صادقون في وعودنا”. وإضافة إلى الأبعاد السياسية، تعوِّل طهران على دور اقتصادي من خلال منظمة شنغهاي، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وتقدم نفسها ميدان تعاون حيوي ومتعدد المجالات.

البيان الختامي المشترك

في البيان المشترك، أعرب رؤساء إيران وروسيا وتركيا عن التزامهم الراسخ بسيادة سوريا ووحدة أراضيها، رافضين الجهود المبذولة لخلق حقائق جديدة على الأرض بذريعة مكافحة الإرهاب، بما في ذلك “مبادرات الحكم الذاتي غير المشروعة”، ومواجهة أجندات انفصالية تهدف إلى إضعاف السيادة، وسلامة أراضي سوريا. وأدان البيان استمرار الهجمات العسكرية الإسرائيلية على سوريا، وأكد البيان على ضرورة الحفاظ على الهدوء من خلال تنفيذ جميع الاتفاقات المتعلقة بإدلب، داعيًا المجتمع الدولي لتحمل مزيد من المسؤولية في تقاسم أعباء إسكان اللاجئين السوريين الراغبين في العودة إلى بلدهم.

 خلاصة

على وقع محاولات عزلها سياسيًّا، نشطت طهران في ساحات دبلوماسية موازية واستضافت قمة لثلاث دول مؤثرة يسعى قادتها لتعزيز المصالح المشتركة وتعظيم أدوارها في القضايا والأزمات الدولية والإقليمية. تؤكد الدول الثلاث أنها صاحبة القول الفصل بالنسبة لسوريا وترسل رسائل بمعارضة السياسة الأميركية في الإقليم. من طهران، تؤكد أنقرة وقوفها ضد العقوبات على إيران وسعيها لتعزيز التبادل التجاري مع جارتها التي تنافسها في ساحات عدة، وتسمع رفضًا إيرانيًّا لنيتها القيام بعمل عسكري في شمال سوريا، وتجتمع مع روسيا وإيران بغية بحث قضايا معقدة في مقدمتها سوريا. أما روسيا، فتتقدم نحو إيران مدركة حاجتها لتعطيل تأثير العقوبات الأميركية وتدخل سوق الطاقة الإيرانية باتفاقية ضخمة، وهي السوق التي سبق لشركة “توتال الفرنسية” أن هجرتها بفعل ضغط العقوبات الأميركية، حين انسحبت رسميًّا، عام 2018، من مشروع بملايين الدولارات وذلك بعد انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي. 

نبذة عن الكاتب

فاطمة الصمادي

باحثة وأستاذة جامعية أردنية مختصة في الشأن الإيراني، حاصلة على درجة الدكتوراه من جامعة علامة طباطبائي في إيران. لها عدد من الكتب والأبحاث المتعلقة بالشأن الإيراني. تعمل حاليا باحثا أول في مركز الجزيرة للدراسات وتشرف على الدراسات المتعلقة بإيران وتركيا ووسط آسيا.

—————————

من جدة إلى طهران.. قمم عابرة فوق حرب متناسلة/ منير الربيع

يحتاج تقييم القمة العربية الأميركية في جدّة إلى مرور وقت لقراءة نتائجها وانعكاساتها. من حيث الشكل لم تخرج القمّة بسياقات واضحة حول استعادة تعزيز العلاقات أو بناء عناصر الثقة الأميركية الخليجية والسعودية تحديداً. واشنطن في ظل إدارة جو بايدن لا تبدو قادرة على تقديم الكثير. والسعودية لا تبدو مضطرّة لتقديم أي هدية لهذه الإدارة الأميركية طالما أن كل المؤشرات تفيد بأنها من أضعف الإدارات وستمنى بخسارة مدوّية في الانتخابات النصفية، بينما يبقى الرهان على عودة الجمهوريين وتعزيز العلاقات معهم. لكن أيضاً من حيث المضمون ثمة مؤشرات تفيد بأنه قد حصلت بعض الاتفاقات في مندرجات القمة وهي التي تحتاج إلى وقت لتبدأ بالظهور.

ما بعد ذلك، ثمة مساع متعددة لدى الأطراف المتناقضة لاستعادة طريق الحوار. فواشنطن وطهران تريدان العودة إلى تجديد المفاوضات، الإدارة الأميركية تبدو حريصة على توقيع الاتفاق النووي، في حين إيران تنقسم إلى رأيين، رأي يؤيد تحصيل الاتفاق، وأبلغ الأميركيين باستعداده للقبول بعدم رفع العقوبات عن الحرس الثوري مع القبول برفع العقوبات عن المؤسسات التي يستفيد منها الحرس مالياً. بينما ثمة رأي إيراني آخر يرفض الذهاب إلى توقيع الاتفاق طالما أن الإدارة ضعيفة وأي اتفاق لن يوافق عليه الكونغرس وسيتم نقضه من قبل الجمهوريين فيما بعد، يفضل أصحاب هذا الرأي في إيران إبرام الاتفاق مع الجمهوريين وضمان الموافقة عليه في الكونغرس كي لا تعمل أي إدارة جديدة على نقضه كما  حصل مع دونالد ترامب.

لم تخرج قمّة جدّة بمواقف واضحة أو ذات سقف مرتفع ضد إيران، لا بل إنها استبقت بمواقف اعتبرت ليّنة  تجاه طهران من خلال إعلان مسؤولين خليجيين رفض الانخراط في أي تحالف أمني أو عسكري بمواجهة طهران. ما يعني إسقاط ما كان سُمي بالناتو العربي. هذا من شأنه أن ينعكس في تجديد جولات الحوار الإيرانية السعودية، والتي ستنتقل من الطابع الأمني إلى الطابع السياسي والديبلوماسي وصولاً إلى التمهيد لعقد لقاءات بين وزيري خارجية البلدين، والبحث في استعادة فتح السفارات. كل ذلك يؤشر إلى الاتجاه نحو مرحلة من الحوار السياسي، بين إيران ودول الخليج، في محاولة للتأسيس لنوع جديد من التعاطي السياسي والإقليمي. أي حوار من هذا النوع، سيشمل البحث في ملفات متعددة، أبرزها اليمن وتجديد الهدنة فيها مع استمرار البحث بالوصول إلى حلّ سياسي، ولا يمكن إغفال الواقع العراقي والوضعين اللبناني والسوري عن أجندة هذه المفاوضات.

    اللافت أنه في ظل الإيجابيات الخليجية تجاه طهران ولو من حيث الشكل، تبقى العبرة في النتائج وفي ما يمكن تحقيقه وتحصيله من طهران ويتعلق بالحفاظ على أمن المنطقة

اللافت أنه في ظل الإيجابيات الخليجية تجاه طهران ولو من حيث الشكل، تبقى العبرة في النتائج وفي ما يمكن تحقيقه وتحصيله من طهران ويتعلق بالحفاظ على أمن المنطقة. ما تزال اللهجة تصعيدية من قبل الإسرائيليين تجاه إيران، أولاً من خلال الإعلان الدائم والمستمر لرفض وصول إيران إلى مرحلة امتلاك سلاح نووي، وثانياً استمرار التهديدات الأمنية والعسكرية بتوجيه ضربة للمشروع النووي الإيراني. مع الاستمرار الإسرائيلي في توجيه ضربات إلى مواقع وقواعد إيرانية في سوريا. هنا لا بد من السؤال عن ماهية الموقف الإسرائيلي من الحوار الخليجي الإيراني، وإذا ما سيكون هناك عناصر تخرّب هذا الحوار وتمنع حصول أي تقارب. لا سيما أن هناك قناعة لدى جهات متعددة في منطقة الشرق الأوسط أن كل هذا التصعيد الكلامي والسياسي والأمني بين إيران وإسرائيل لا بد أن يؤدي إلى انفجار في أي لحظة من اللحظات، في هذه الحال، تلعب دول الخليج ورقة قوية، تقوم على عدم الدخول في المواجهة أو تحفيزها أو المشاركة بها مع محاولة الحصول على المزيد من التنازلات الإيرانية في هذا الوقت. وتوفر مقومات الحماية لنفسها في حال تدهورت الأمور بين إيران وإسرائيل.

في هذا السياق، برز موقف لملك الأردن عبد الله الثاني ولا بد من التوقف عنده، عندما أشار إلى العمليات الإرهابية التي تتعرض لها الحدود الأردنية من قبل ميليشيات إيرانية، من حيث المضمون فإن هذا الموقف يترطب بما قاله الملك الأردني سابقاً عن الحاجة إلى تشكيل ناتو عربي، وكان هذا التصريح غداة لقائه مع الرئيس الأميركي جو بايدن. حالياً يندرج موقف ملك الأردن بالسعي إلى فرض نفسه على طاولة التفاوض ومع إيران خصوصاً من خلال الإشارة إلى العمليات التي تقوم بها فصائل تابعة لها، هذا من جهة. أما من جهة ثانية فإن أبعاد هذا الحديث ترتبط بالبحث عن إقامة منطقة آمنة في الجنوب السوري، على غرار المنطقة الآمنة التي تسعى تركيا إلى إقامتها وتعزيزها في الشمال السوري.

ختاماً، من غير المنطقي وضع معادلة قمّة جدة في مقابل قمّة طهران. لا سيما أن دول الخليج لن تتخلى عن علاقاتها بروسيا، وهي تستمر بالتحاور مع إيران، والعلاقة مع تركيا ما تزال جدية في مرحلة ما بعد استعادتها. قمة طهران كان لها مهمات وظيفية أخرى، ترتبط بمحاولة روسيا تحصيل عدد من المواقف الإقليمية، في مقابل سعي تركيا للحصول على ضمانة بشأن المنطقة الآمنة، مقابل تلويح إيران بأن لديها العديد من الأوراق والعلاقات القادرة على استخدامها. مهمة القمم والحوارات التي ستفتح، أنها ستفرض إيقاعاً جديداً في التفاوض السياسي من خلال البحث عن حلول وعن تنازلات متبادلة، إذ لم يعد من الممكن استيعاب المزيد من فترات أو إطالة أوقات الاستنزاف الزمني دون نتائج، وما لم يكن هناك نتائج واضحة وجدية، فلا بد من توقع الانفجار، لأن تداعيات حرب أوكرانيا لن تبقى فيها.

تلفزيون سوريا

———————–

الولايات المتحدة وروسيا في حاجة إلى بدء الحديث قبل فوات الأوان/ صموئيل شاراب وجيريمي شابيرو.

خدمة «نيويورك تايمز»

في الأشهر الخمسة التي انقضت منذ أن شنت روسيا حربها على أوكرانيا، تعهدت الولايات المتحدة بتقديم نحو 24 مليار دولار مساعدات عسكرية لأوكرانيا، وهو مبلغ يتخطى 4 أضعاف ميزانية الدفاع الأوكرانية لعام 2021. وتعهد شركاء أميركا في أوروبا وخارجها بمبلغ إضافي قدره 12 مليار دولار، وفقاً لـ«معهد كيل للاقتصاد العالمي».

ومع ذلك، فإن هذه العشرات من المليارات لا تزال أقل من القائمة الطويلة التي تحوي الأسلحة التي ترغب الحكومة الأوكرانية في الحصول عليها، والتي أعلنتها حكومة الرئيس فولوديمير زيلينسكي الشهر الماضي. يعكس هذا الاختلاف بين ما تريده أوكرانيا وما يستعد شركاؤها الغربيون لتقديمه حقيقة أن القادة الغربيين ينجذبون في اتجاهين؛ الأول أنهم ملتزمون بمساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها ضد العدوان الروسي، والثاني أنهم يحاولون أيضاً منع الصراع من التصعيد إلى حرب قوى عظمى.

لكن هذا التصعيد، على الرغم من تصاعده واحتوائه حتى الآن في أوكرانيا، فإنه جارٍ بالفعل، إذ يقدم الغرب مزيداً من الأسلحة القوية، وروسيا تطلق المزيد والمزيد من الموت والدمار. وما دام كل من روسيا والغرب عازمين على التغلب على الآخر في أوكرانيا ومستعدين لتكريس احتياطياتهما العميقة من الأسلحة لتحقيق هذا الهدف، فإن مزيداً من التصعيد يبدو أمراً مقدراً.

بكل تأكيد، يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها الاستمرار في تزويد أوكرانيا بالمواد التي تحتاجها، ولكن ينبغي عليهم أيضاً – بالتشاور الوثيق مع كييف – البدء في فتح قنوات اتصال مع روسيا. ويجب أن يكون وقف إطلاق النار في نهاية المطاف هو الهدف، حتى مع بقاء الطريق إليه غير مؤكد.

إن بدء المحادثات أثناء احتدام القتال سيكون محفوفاً بالمخاطر السياسية، وسيتطلب جهوداً دبلوماسية كبيرة، خاصة مع أوكرانيا، والنجاح ليس مضموناً على الإطلاق. لكن الحديث يمكن أن يكشف عن المساحة المحتملة للتسوية وتحديد طريقة للخروج من المتاهة. خلاف ذلك، قد تؤدي هذه الحرب في النهاية إلى دخول روسيا وحلف شمال الأطلسي في صراع مباشر.

يفترض النهج الأميركي الحالي أن هذا لن يحدث إلا إذا تم منح الأوكرانيين أنظمة أو قدرات معينة تتجاوز الخط الأحمر الروسي. لذلك عندما أعلن الرئيس جو بايدن مؤخراً عن قراره تزويد أوكرانيا بنظام الصواريخ المتعدد الإطلاق الذي تقول كييف إنها في أمس الحاجة إليه، فقد تعمد حجب الذخائر الطويلة المدى التي يمكن أن تضرب روسيا. كان منطلق القرار أن موسكو لن تصعّد – أي لن تشن هجوماً على «ناتو» – فقط حال تم توفير أنواع معينة من الأسلحة أو إذا تم استخدامها لاستهداف الأراضي الروسية. الهدف هو توخي الحذر للتوقف عن هذا الخط مع إعطاء الأوكرانيين ما يحتاجون إليه «للدفاع عن أراضيهم ضد التقدم الروسي»، بحسب بايدن في بيان في يونيو (حزيران).

المنطق مشكوك فيه حيث ينصب تركيز الكرملين تحديداً على إحراز تقدم في الأراضي الأوكرانية. ولا تكمن المشكلة في أن تزويد أوكرانيا ببعض الأسلحة المحددة قد يتسبب في حدوث تصعيد، بل تكمن في أنه إذا نجح دعم الغرب لأوكرانيا في وقف تقدم روسيا، فإن ذلك سيشكل هزيمة غير مقبولة للكرملين. والنصر الروسي في ساحة المعركة غير مقبول بنفس القدر بالنسبة للغرب.

إذا استمرت روسيا في التوغل أكثر في أوكرانيا، فمن المرجح أن يقدم الشركاء الغربيون أسلحة أكثر وأفضل. إذا سمحت هذه الأسلحة لأوكرانيا بقلب مكاسب روسيا إلى خسائر، فقد تشعر موسكو بأنها مضطرة إلى مضاعفة حجمها، وإذا كانت تخسر حقاً، فقد تفكر جيداً في شن هجمات مباشرة ضد «ناتو». بعبارة أخرى، لا توجد نتيجة مقبولة للطرفين في الوقت الحالي. لكن المحادثات يمكن أن تساعد في تحديد الحلول الوسط اللازمة لإيجاد حل وسط.

إن تصميم الغرب وروسيا على القيام بكل ما يلزم للفوز بأوكرانيا هو المحرك الرئيسي للتصعيد. يجب أن يفهم القادة الغربيون أن خطر التصعيد ينبع من عدم التوافق التام لأهدافهم مع أهداف الكرملين. قد تكون معايرة الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا بعناية أمراً معقولاً، لكن من المحتمل أن يكون خارج الموضوع. ما يهم هو تأثير تلك الأسلحة على الحرب، الذي يكاد يكون من المستحيل معرفته مسبقاً.

قد يعني عدم وجود خطوط حمراء روسية دقيقة أن إمداد بايدن بالذخائر الطويلة المدى التي يحجبها لن يكون مشكلة كما كان يُخشى. لكن لو لم يتسبب أي نظام سلاح محدد في حدوث تصعيد كبير، فإن مجرد إلقاء مزيد من الأسلحة وأفضلها من غير المرجح أن يحل المشكلة. من الواضح أن الأسلحة الغربية دعمت الجيش الأوكراني في ساحة المعركة، لكن الروس كانوا على استعداد لمواجهة أي مستوى من الموارد والدمار لتحقيق الانتصار أو على الأقل عدم الهزيمة.

إننا نشهد دوامة كلاسيكية يشعر فيها كلا الجانبين بضرورة بذل المزيد بمجرد أن يبدأ الجانب الآخر في إحراز بعض التقدم. وأفضل طريقة لمنع هذه الديناميكية من الخروج عن نطاق السيطرة بدء الحديث قبل فوات الأوان.

الشرق الأوسط

————————–

محاولة بايدن بناء نظام إقليمي جديد “تكرار لأخطاء الإدارات الأمريكية.. والشرق الأوسط القديم حاضر بالديكتاتوريين

إبراهيم درويش

نشر موقع مجلة “فورين أفيرز” مقالا لمارك لينتش، استاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن قال فيه إن النظام السياسي الجديد الذي تحاول واشنطن بناؤه في الشرق الأوسط هو القديم نفسه.

 وقال إن زيارة الرئيس جوي بايدن للشرق الاوسط لم  تنته بانفجار صاخب ولكن نشيج. وكانت تحيته بالقبضة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان غير مهمة، فلم تعبر السعودية عن التزام بزيادة معدلات انتاج النفط، ولم يتم الإفراج عن المعتقلين السياسيين. ولم يتم التطرق إلى حقوق الإنسان إلا عندما رفض إبن سلمان انتقادات الصحافيين له بقتل الصحافي جمال خاشجقي، وعندما أشار لاهتمام الأمريكيين بمقتل خاشقجي وصمتهم على مقتل الصحافية الفلسطينية – الأمريكية شيرين أبو عاقلة. ولم تعلن السعودية عن خطوات للتطبيع مع إسرائيل ولم يظهر تحالف أمني جديد.

وكان لدى إدارة بايدن طموحا أوسع من سجل النقاط قصير المدى، فقد اعتقدت واشنطن بأهمية إعادة ضبط العلاقة مع السعودية وبقية الحلفاء بالمنطقة والعمل من أجل صالحها لكي تكون قادرة للتعامل مع كم واسع من القضايا. وزاد من إلحاح الزيارة إمكانية فشل المحادثات مع إيران بشأن ملفها النووي والتداعيات المدمرة لاجتياح القوات الروسية أوكرانيا.

وفي الوقت الذي ثبت خطا الشائعات حول تحالف عربي- إسرائيلي ضد إيران إلا أن هدف الزيارة كان بناء نظام عربي- إسرائيلي لمواجهة إيران برعاية أمريكية. وحققت الزيارة نوعا من التقدم البسيط في هذا الإتجاه، لكن ليس بالطريقة التي أرادتها أمريكا، لكن المعمار الأمني الذي تصورته الإدارة لن يكون جديدا.

فالتعاون العربي- الإسرائيلي ضد إيران قائم منذ عقود وأخرجته اتفاقيات إبراهيم للعلن، وهي اتفاقيات التطبيع التي وقعتها دول عربية مع إسرائيل برعاية إدارة دونالد ترامب وأخرجت رسميا فلسطين وحقوق الإنسان من المعادلة.

ويرى لينتش أن الولايات المتحدة تقوم بالرهان على قدرة الدول العربية المستبدة تبني نظاما إقليميا يضم إسرائيل بدون الإهتمام بردة فعل الرأي العام في الدول هذه. ولكن المخاطرة وسط أزمات اقتصادية واجتماعية واقتصادية ستترك آثارا عكسية كما هو الحال في الماضي. وكان اهتمام الولايات المتحدة بإقامة نظام أمريكي- شرق أوسطي بمثابة  هواية أمريكية منذ عام 1991 وعندما احتل صدام حسين الكويت. ولكن الشرق الأوسط لا تتوفر فيه الظروف التي تجعله يتبع أوامر أمريكا.

ويحبذ قادة الشرق الأوسط تحويط رهاناتاتهم فيما يرون أنه عالم متعدد الأقطاب، كما هو واضح من رفضهم اتخاذ مواقف داعمة لامريكا وأوروبا في المواجهة مع روسيا.  ولو نجح بايدن بجمع الحكام العرب المتسلطين وإسرائيل في تحالف ضد إيران، فإنه يقوم بتكرار أخطاء الماضي، وهو ما سيزيد من انهيار النظام الإقليمي ويعكس الإنجازات التي تحققت باتجاه خفض التوتر وسيزيد من القمع  ويعبد الطريق لانتفاضات شعبية.

وقال لينتش إن الرغبة بإنشاء تحالف إقليمي تقوده الولايات المتحدة تسري في الحمض النووي لواشنطن. وبالتحديد، هناك جيل من صناع السياسة الأمريكيين ينظر لعام 1991 والنظام الذي أقيم في الشرق الأوسط في ذلك الوقت بأنه النموذج الواجب تقليده.

ومن السهل تفسير هذا، فالعصر جاء مباشرة بعد انهيار الإتحاد السوفييتي مباشرة وكانت القوة الأمريكية في أوجها. وبعد التدخل الأمريكي لإنهاء الإحتلال العراقي للكويت بالفترة ما بين 1990- 1991، قامت إدارتي جورج هيربرت بوش وبيل كلينتون واعتمادا على القطبية الأمريكية الأحادية، بسلسلة من  الجهود الإقليمية الطموحة  وأنشأتا نظاما إقليميا يخدم المصالح الأمريكية. ولفترة قصيرة، بدا وكأن الطرق تؤدي إلى واشنطن. وأطلقت الإدارة الأمريكية محادثات مدريد لحل النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي ولإنشاء نظام إقليمي يضم العرب وإسرائيل. وحاول حلفاء الإتحاد السوفييتي السابق مثل سوريا البحث عن طرق للدخول في النظام الجديد من خلال المفاوضات مع إسرائيل. وحتى إيران المتعبة من الحرب الطويلة مع العراق تطلعت لتحسين علاقاتها مع أوروبا ودول الخليج وأطلقت “الحوار بين الحضارات” في الأمم المتحدة وقامت بخطوات بسيطة للتواصل مع واشنطن وخففت من تدخلاتها بالمنطقة.

وظهر في الأجواء ضوء إيجابي بالإضافة إلى أرضية عسكرية لنظام تقوده أمريكا في المنطقة، ولو لفترة وجيزة. فقد كانت جهود استعادة الكويت متعددة وصادق عليها مجلس الأمن والقمة العربية. وأدت الجهود الأمريكية في عمليات السلام العربي- الإسرائيلي ما بعد 1991 وإدارتها لمحادثات أوسلو برؤية إيجابية لمستقبل الشرق الأوسط. إلا أن الأسس المعيارية لم تتجذر وبدا النظام الإقليمي عصيا على الإدارة. ويظل حنين أمريكا للشرق الأوسط بنهاية القرن العشرين عميقا ولكنه الفترة لم تكن منظمة كما تقول الأسطورة.

ويقدم فشل النهج الذي تبنته الولايات المتحدة في انتاج نظام إقليمي مستقر وشرعي وحتى في عز القوة الأمريكية العالمية دروسا لليوم.

فلم تدر مرحلة ما بعد 1991 نفسها بنفسها، فما أطلق عليه الإحتواء المزدوج لكل من العراق وإيران اقتضى وجودا عسكريا شبه دائم وإقامة قواعد عسكرية أمريكية في دول الخليج. وهذا تحول عن العقود الماضية عندما قامت الولايات المتحدة بإدارة المنطقة من وراء البحار معتمدة على حلفائها المحليين  وتجنب إقامة قواعد عسكرية ضخمة ودائمة. واقتضى منها أن تخصص جهودا دبلوماسية غير متناسبة وطاقة لمشاكل المنطقة، حيث تطلبت كل أزمة اهتماما أمريكيا كبيرا. وأدى التعامل مع الأزمات اللامتناهية لتجاهل بل والترويج للأنظمة المستبدة التي ستقوض في النهاية النظام. وكان في قلب الإدارة الأمريكية المصغرة للمنطقة هو احتواء العراق، والذي اقتضى الحفاظ على عقوبات قاسية وغير مسبوقة. وكان قطع العراق عن الإستيراد والتصدير سببا في أعداد لا تحصى من الوفيات والبؤس الإنساني والتي قوضت المزاعم الأخلاقية الأمريكية في عيون العرب. وأدت المواجهات حول مفتشي الأسلحة إلى أفعال عسكرية مستمر مثل عملة ثعلب الصحراء، وهي عملية عسكرية استمرت أربعة أيام ضد أهداف عراقية نفذتها الولايات المتحدة وبريطانيا في كانون الأول/ديسمبر 1998. وفي النهاية لم تنجح الجهود، فقد استعل صدام برنامج الطعام مقابل النفط من أجل الحفاظ على نظامه وانهار الإلتزام الإقليمي بالعقوبات.

ورغم الجهود التي أنفقتها إدارة كلينتون لحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني إلا أنها فشلت، وبالتأكيد بذلت إدارة كلينتون جهودا إلا أنها لم تستطع التغلب على تداعيات اغتيال اسحق رابين عام 1995 وعمليات حماس والتوسع الإستيطاني. كما وفشلت الإدارة في تحقيق تقدم على المسار السوري- الإسرائيلي. وشهدت سنوات التسعينات من القرن الماضي تقليلا من أهمية الديمقراطية  خوفا من انتصارات الإسلاميين في صناديق الإقتراع. وبدلا من ذلك تظاهرت واشنطن بأن المستبدين العرب سيدعمون المجتمعات المدنية وتحضير المواطنين يوما ما للديمقراطية الحقيقية. وهذا بالطبع، هو نفس الجدال الذي طرحته معظم الأنظمة العربية المستبدة اليوم، وهو زعم لم تقدم إدارة بايدن بتحديه. وكانت نتيجة مقايضة الديمقراطية بنظام مستقر هي تمكين الإستبداد العربي بكل أمراضه. ولم تكن مصادفة أن تكون فترة التسعينات هي فترة التمرد الإسلامي في مصر والجزائر والتي كانت فترة حضانة للقاعدة. وفي النهاية فالأيام المجيدة للنظام الذي قادته أمريكا بالمنطقة ليست كما تبدو. فقد فشلت محاولات احتواء العراق وتحقيق التسوية العربية- الإسرائيلية. ولم يؤت التعاون مع الأنظمة المستبدة لبناء الديمقراطية أكله. وكان الدور الأمريكي في مظاهر الفشل سببا في جعل واشنطن هدفا جذابا للقاعدة التي بدأت بالتحول عن “العدو القريب” إلى “العدو البعيد” وفي النهاية 9/11.

وتبعت الإدارات بعد كلينتون خططها الخاصة لبناء معمار للشرق الأوسط يؤكد التفوق الأمريكي، فبعد 9/11 أعلن جورج دبليو بوش عن استراتيجية للمنطقة مركزها “الحرب على الإرهاب”، وعنت في الشرق الأوسط تعاونا قريبا مع أجهزة الإستخبارات وتطفلا أـمريكيا واسعا بالمنطقة. وكان غزو العراق والإطاحة بصدام حسين كارثيا وخلق فراغا في الشرق الأوسط. وأطلق احتلال العراق العنان للحرب الطائفية التي قوت إيران والجماعات الجهادية السنية وبخاصة الدولة الإسلامية الناشئة. وأنهكت حرب العراق قدرات أمريكا واستعدادها للتدخل عسكريا في الشرق الأوسط وادت بإيران كقوة مهمينة على الدولة العراقية. ووسط هذه الفوضى ظهر نظام أطلقت عليه وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس “الشرق الأوسط الجديد”، وفي ذروة الحرب الإسرائيلية بلبنان عام 2006. وكان نظاما عنيفا وتنافسيا بشكل جديد ومشابه من الناحية البنيوية  اليوم. وأطلق المسؤولون الأمريكيون اسم “محور المعتدلين” على إسرائيل ومعظم الدول العربية الخاضعة للمظلة الأمنية الأمريكية. وعلى الجانب الآخر أطلق “محور المقاومة” على إيران وسوريا ولاعبين غير دول مثل حزب الله وحماس. وتم تناسي أن الإعلام الذي تملكه السعودية دعم بداية الهجوم الإسرائيلي على حزب الله لكراهيتها له، قبل أن يجبرها الرد العام المعادي لتغيير الخط التحريري.

 وأدى عدم القبول بالجهود التي قادتها أمريكا لاستفادة كل من تركيا وقطر ولعب دور الدول المتأرجحة القريبة من نبض الرأي العام. وقدم باراك أوباما رؤية مختلفة للمنطقة لنظام إقليمي يقوم على خلق توازن مستقر وعملي بين إيران وجيرانها وعبر الدبلوماسية النووية وتخفيض الوجود الأمريكي.

ومن اللافت أن إسرائيل والسعودية والإمارات  عارضت تقريبا كل شيء عرضه أوباما بما في ذلك الإتفاقية النووية مع إيران. والسبب هو أن هذه الدول انتعشت في النظام الإقليمي الذي كان أوباما يحاول تغييره. فلم تكن دول الخليج راغبة، بالتعامل مع أفكار أوباما الداعية لمشاركة الجوار مع إيران واقل مع الأفكار المهرطقة عن الديمقراطية والربيع العربي. وعارض الإسرائيليون جهود أوباما لتحقيق تسوية بين الإسرائيليين والفلسطينيين وأن حل الدولتين سيقود لعلاقات مع الدول العربية. ولم تظهر إيران استعدادا لتعديل مواقفها في المنطقة واعتمادها على الجماعات الوكيلة في العراق وسوريا واليمن، وحتى بعد توقيع الإتفاقية النووية، كل هذا قوض جهود أوباما لخلق نظام إقليمي.

 ولهذا رحبت إسرائيل والسعودية والإمارات وبقية القادة العرب بوعودة إدارة ترامب لعصر جورج هيربرت بوش ونموذج “الشرق الأوسط”. وتبنى ترامب أراءهم وتوقفه عن متابعة حقوق الإنسان أو دفعهم لتسوية مع الفلسطينيين. وتخلت إدارته عن الإتفاقية النووية وتبنت “استراتيجية أقصى ضغط”. وأدى تبنيه لهؤلاء القادة العرب وإسرائيل لتشجيع أسوا الرغبات لدى هذه الحكومات بما فيها التدخلات القاسية والتي زادت من الحرب الأهلية والدول الفاشلة بالمنطقة، من اليمن إلى سوريا وليبيا. كما وزاد القمع في الداخل من مخاطر انتفاضات جديدة. وفي الوقت نفسه، خلقت عمليات استيلاء إسرائيل على الأراضي الفلسطينية الأزمات. لكن صداقة ترامب لهذه الأنظمة كانت لها حدود، فقد رفض القيام برد انتقامي عندما ضربت إيران منشأتين للنفط في السعودية عام 2019، مما أثار أسئلة حول الثقة بأمريكا وضماناتها الأمنية. ومن هنا فمفهوم بايدن عن المنطقة تظهر أن هذه الرؤية للنظام الإقليمي مستمرة داخل دوائر صناعة السياسة بواشنطن، رغم كل النزاعات والألام التي ولدتها. وقد كيفت الانظمة العربية نفسها  ودفعت بقوة كل محاولات واشنطن تغيير السياسات. وأعضاء إدارة بايدن هم في غالب الأحيان مخلوقات من إدارة كلينتون الذين يعتقدون أنهم تعلموا الدروس من سنوات أوباما وترامب. ومن المفارقة أن النظام الإقليمي الذي يحاولون تصميمه يشبه النظام الذي حاول بناؤه جورج دبليو بوش. وما يهم في تبني فريق بايدن نموذج بوش للنظام الإقليمي هو تخليهم عن “أجندة الحرية”. وربما تخلى بوش عن نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط بعد فوز  حماس في انتخابات عام 2006ل إلا أن خطابه عن الديمقراطية قدم على الأقل رؤية إيجابية للنظام. وفي رحلته الأخيرة إلى السعودية تخلى بايدن عن هذا بشكل كامل، وربما كان هذا مفهوما من زعيم أمريكي كان يريد إصلاح الجسور مع القادة العرب وعدم استعدائهم، ولكل هذا ثمن.  فالإستبداد العربي كان الغراء اللاصق للنظام الإقليمي الذي قادته أمريكا في التسعينات من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

 وبحسب الكاتب قامت انتفاضات الربيع العربي بكسر هذا بطرق لم يتم فهمها بشكل كامل. ولم تقدم تحولا ديمقراطيا كاملا، حيث وضع انقلاب قيس سعيد في 2021 الغطاء على التجربة الديمقراطية في تونس. واليوم يريد المستبدون العرب من واشنطن الإعتقاد أن النظام القديم عاد وأن الديمقراطية لم تعد مطروحة على الطاولة وانهم عادوا للسيطرة وبشكل كامل. إلا ان هذا الإعتقاد خاطئ في ظل السجل الإقتصادي الصارخ الذي تفاقم بسبب كوفيد والحراك الشعبي المتكرر في مناطق مثل لبنان والعراق والجزائر والسودان. وحتى لو استبعدنا انتفاضات شعبية واسعة فالشرق الأوسط اليوم يختلف عن الأنظمة الإقليمية السابقة. وبات الشرق الاوسط متعدد القطبيات من الناحية الداخلية حيث انتقل مركز الثقل من مصر والمشرق إلى منطقة الخليج.

وباتت الدول غير العربية مثل تركيا وإيران وإسرائيل تلعب دورا. ولأن الأنظمة تعاني من غياب أمن وجودي منذ ثورات عام 2011، والتي ترافقت مع الحروب الأهلية والدول الفاشلة فقد تغير منطق التدخل وغير ميزان القوة. وأدى رفض أوباما التدخل في سوريا ورفض ترامب الرد على الهجمات ضد السعودية وسحب بايدن القوات من أفغانستان لتغير مواقف الدول العربية من أمريكا كمزود للأمن. وفي نفس الوقت فهذه ليست فترة الهيمنة الأمريكية الأحادية، وهذا لا يعني القول أنها أمام نعيش ثنائية القطبية أو القطبية المتعددة، فروسيا ظلت مخربة أكثر من كونها قطبا منافسا لأمريكا وهي اليوم مستنفزة بالحرب في أوكرانيا. أما الصين فلم تقرر بعد أن تحول نموها الإقتصادي وهيمنتها إلى تأثير عسكري وسياسي. وهي تشترك في معظم الأحيان مع جوهر المصالح الأمريكية وهي الحفاظ على تدفق النفط من الخليج. وحتى بدون النظير المنافس، فلم يعد لدى الولايات المتحدة القدرات السياسية للعب دور المهيمن في الشرق الأوسط. وعلمت الإنتفاضات العربية الزعماء العرب أن أمريكا لن تتحرك دفاعا عن أنظمة عملت من أجل مصالحها. وهذه المواقف القومية والشكوى من الهجر الأمريكي ليست مجرد أوراق مقايضة للحصول على دعم سياسي وصفقات أسلحة، بل وتعكس قدرات الدول العربية وشعورها بعدم الأمن. ولن تنفع محاولات الطمأنة، فالقدرات السياسية والإرادة الأمريكية غير موجودة أو غير كافية.

وربما كان هذا أمر سيء، ولكن يجب ألا يكون هكذا، فبدلا من محاولة إحياء نظام إقليمي تأكلت أساساته بطريقة لم يعد قابلا للحياة، يجب تشجيع المبادرات الإقليمية والإعتماد على النفس وخفض التوتر. ففي العام الماضي أعادت الإمارات بناء علاقاتها مع قطر وتركيا ولا تزال اتفاقيات إطلاق النار قائمة في اليمن وليبيا. بل وبدأت السعودية محادثات مع إيران. ومحاولة أمريكا بناء تحالف إقليمي ضد طهران وزيادة صفقات الأسلحة قد يترك آثارا عكسية. فقد تفككت المنطقة منذ عام 2011 ومحاولة إعادة نظام عفا عليه الدهر سيسهم بالفشل ويزيد من المشاكل الكثيرة التي لا يمكن إحصاؤها. وأصبح الخليج اليوم مستقلا وقادرا ويمكنه التحرك بدون رعاية قوة عظمى.

 وخارج الدول النقطية الثرية فما تبقى من عالم عربي هو مجموعة المساحات التي تجري فيها حروب ومنطقة لم يعد فيها المستبد الأشرس قادرا على التمسك بالسلطة امام حجم المشاكل الاقتصادية. وهناك إمكانية لاندلاع الحروب في اليمن وسوريا وليبيا رغم وقف إطلاق النار فيها. ويقدم الملوك والمستبدون في المنطقة صورة عن الإعتيادية والإستقرار إلا أن الأوضاع الإقتصادية والسياسية أسوأ مما كانت عليه عشية الربيع  العربي عام 2011. وفي غياب أي أمل لحل الدولتين أو محاولة ضبط للإحتلال ومحاولات اسرائيل المستمرة للتوسع في الضفة وحصار غزة فهناك إمكانية لاندلاع أزمة في أي وقت. وفي نفس الوقت فالولايات المتحدة في حالة فوضى واستنفذها النزاع الداخلي والإستقطاب الحزبي، وتخلت حتى عن مظهر دعم الديمقراطية. ويقول المدافعون عن اتفاقيات إبراهيم في إسرائيل ودول الخليج أنها قد تكون أساسا لبناء نظام إقليمي. وكل الأدلة تقترح أن الرأي العام يرفض التطبيع مع إسرائيل في غياب  حل للقضية الفلسطينية. ونظام يعتمد على مستبدين ولقمع الرأي العام بدلا من بناء نظام يحظى بشرعية خارج القصور لن يستقر أو يدوم.

ومن المفارقة لو انتهى هذا النظام كما حدث لنظام كلينتون في التسعينات بحرب كارثية غير ضرورية. وكان قرار ترامب للإنسحاب من الإتفاقية النووية عام 2018 مدعاة لهدم جهود أوبامام بناء نظام إقليمي بديل.

 ولم يكن بايدن قادرا على تجاوز الآثار السامة هذه، ففي الوقت الذي تقترب فيه الإتفاقية النووية من الإنهيار، فإن الولايات المتحدة قد تنزلق نحو دعم جهود تغيير النظام. وكان بايدن حذرا من الحديث عن استخدام القوة. وأعطاه الإنسحاب من أفغانستان مصداقية وتجنب خوض حروب واسعة. لكن الضغوط للتحرك ستتزايد مع ضيق الخيارات بين قبول إيران نووية أو التحرك عسكريا. والطريق الذي يمضي فيه بايدن لاعادة بناء النظام الإقليمي يجعل من تلك النهاية الكارثية محتومة.

القدس العربي

———————–

رهان على مهمة مستحيلة: تغيير السلوك الإيراني/ رفيق خوري

 الغرب الذي يواجه روسيا في أوكرانيا يبدو خائفاً من مواجهة طهران بالقوة وعاجزاً عن الدبلوماسية

الغرب الذي أعادته الحرب الروسية إلى سياسة القوة مصاب في التعامل مع إيران بمرض لا شفاء منه: إدمان الضعف وتصنع السذاجة. يقول له رفاييل غروسي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية إن طهران جعلت الوكالة “عمياء” حول تطورات مشروعها النووي، ويعلن كبير مستشاري المرشد الأعلى علي خامنئي ورئيس المجلس الاستراتيجي للسياسة الخارجية كمال خرازي أن “طهران قادرة فنياً على صنع قنبلة نووية، لكنها لم تتخذ قراراً بعد لتنفيذ ذلك”، ويؤكد الخبير الاستراتيجي محمد جواد لاريجاني أنه “إذا قررت إيران صنع سلاح نووي فلا أحد يستطيع وقفها”، ويفاخر قائد الحرس الثوري الجنرال حسين سلامي بأن بلاده ستكون في المستقبل القريب بين “القوى العالمية”.

لكن واشنطن وباريس ولندن وبرلين لا تزال تراهن على إحياء الاتفاق النووي لمنع إيران من صنع القنبلة، ولا تزال تأخذ بكلام الملالي على “فتوى” من خامنئي تحرم حيازة سلاح نووي. وهي “فتوى” تحدث عنها الرئيس السابق حسن روحاني اقتباساً من خطاب للمرشد الأعلى، لا من نص فتوى، فضلاً عن أن أية فتوى تنسخها فتوى أخرى. فالقنبلة أمر واقع، وأوهام الحيلولة دونها عبر تلبية ما تطلبه طهران ينطبق عليها المثل الروسي القائل: “فات الوقت على تمني الصحة الجيدة لشخص وأنت تسير في جنازته”.

لا بل إن عواصم الغرب وبعض العواصم بالشرق الأوسط مستمرة في الرهان على “اعتدال” إيران، ومطالبتها بـ”تغيير السلوك والحد من النفوذ الإقليمي والتخلي عن البرنامج الصاروخي الباليستي”.

وهذه مهمة مستحيلة حتى في أية صفقة معروضة على طهران، فالعداء لأميركا من “أسس الثورة الإسلامية” حسب الإمام الخميني، و”نشر الثورة” في المنطقة هو مهمة الجمهورية الإسلامية والحرس الثوري بالذات حسب دستور الخميني. وقوة إيران ليست فقط بالأسلحة والحرس الثوري والجيش، بل أيضاً بالنفوذ في المنطقة. وما يسميه الغرب والعرب “السلوك المزعزع للاستقرار بالمنطقة” هو أعلى المراحل في صنع السياسة الإيرانية، فماذا تفعل جمهورية الملالي إذا تخلت عن دورها في العمل بكل الوسائل لإخراج القوات الأميركية من “غرب آسيا” وعن نفوذها الإقليمي؟ وكيف تغير سلوكها المزعزع للاستقرار من دون أن تخسر دورها؟ وكيف ترمي ورقة فلسطين والعداء لإسرائيل من يدها وهي الورقة الثمينة التي أدخلت دولة شيعية فارسية إلى قلب العالم العربي السني؟

يقول الخبير الأميركي من أصل إيراني كريم سادجادبور في مقال نشرته “فورين أفيرز” إن مشكلة إيران اليوم هي أن “عليها أن تنفتح بحذر، لكن الانفتاح يمكن أن يدمرها”. وهي في رأيه تحاول “إقامة إمبريالية عبر إنشاء ميليشيات تحت عنوان مقاومة الإمبريالية”، لكنه يتحدث عن “نصر إيران الفارغ، والثمن الكبير للهيمنة الإقليمية”.

ويروي ما قاله نوري المالكي حين كان رئيساً للوزراء في العراق لسفير أميركي: “أنت لا تعرف كيف يمكن أن يكون الأمر سيئاً إلى أن تكون عربياً مضطراً للعيش مع الفرس”. ويعتقد “أن قوة إيران التي تبدو صاعدة في المنطقة ستبرهن على أنها سريعة النزول”، لماذا؟ لأن “استراتيجية إيران العظمى ستهزم، لا بواسطة أميركا وإسرائيل، بل بواسطة الشعب الإيراني الذي دفع الثمن الكبير من أجلها”.

المفارقة أن خامنئي الذي يتصور أن إيران تقود العالم في مواجهة أميركا، ولها “اليد العليا في المنطقة”، لا يملك حلاً لأخطر أزمة اقتصادية واجتماعية في الداخل، ولا يجد علاجاً سوى قمع المتظاهرين على الرغم من الاعتراف بأنهم “أصحاب حق”. والمفارقة الأكبر أن الغرب الذي يواجه روسيا في أوكرانيا يبدو خائفاً من مواجهة إيران بالقوة وعاجزاً عن المواجهة حتى بالدبلوماسية.

اندبندنت عربية

————————

زيارة بايدن إلى المنطقة: إيران المرتاحة، وتركيا المتضررة/ إياد الجعفري

لماذا انقلب الموقف الإيراني، خلال ثلاثة أسابيع فقط، من تفهم لضرورات العملية العسكرية التركية من الناحية الأمنية، وفق تصريحات وزير الخارجية، حسين أمير عبد اللهيان في أنقرة، إلى اعتبارها تهديداً للمنطقة بأكملها، وفق تصريحات المرشد، علي خامنئي، في طهران، قبل أيام؟

ولماذا تظافرت مواقف أطراف متصارعة، الأمريكي – الإسرائيلي من جهة، والإيراني – الروسي من جهة أخرى، ضد المسعى التركي للتوسع المحدود في شمال سوريا؟ الجواب أن الأطراف الأربعة، على اختلاف أجنداتها، تراهن على ميليشيا “قوات سورية الديمقراطية – قسد”، ولا تريد لها أن ترتمي في “أحضان” المحور الآخر. ورغم ذلك، تبدو الحصيلة الأولية للتلويح التركي بعمل عسكري في شمال سوريا، لصالح المحور الإيراني – الروسي. ويبدو الفشل الأمريكي في المنطقة، إلى تفاقم.

إذ جاء “التصعيد” والتمترس الإيراني – الروسي، الذي يستهدف إجهاض العملية العسكرية التركية التي كانت مزمعة، في شمال سوريا، كنتيجة من نتائج زيارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، إلى منطقة الشرق الأوسط، أكثر مما هي نتيجة لقمة طهران.

فإيران تبدو مرتاحةً أكثر، وتركّز على تهديدات ثانوية تطال نفوذها، من قبيل تمدد محدود للنفوذ الميداني التركي على الرقعة السورية، وتسعى لتحقيق أهداف عَرَضية، من قبيل الحصول على مطار “منغ”، والحلول محل ميليشيا “قسد”، في بعض الجيوب الصغيرة.

قبل ثلاثة أسابيع، كانت إيران في حالٍ مختلفة تماماً. تترقب زيارة بايدن إلى المنطقة، وتحاول جذب تركيا بعيداً عن أي اصطفافات إقليمية مع الأمريكيين والإسرائيليين، إلى درجة أنها أبدت، على لسان وزير خارجيتها، تفهمها لضرورات العملية العسكرية في شمال سوريا، بالنسبة للأمن التركي. لكن زيارة بايدن مرت “برداً وسلاماً” على إيران. فلم يُولد “ناتو شرق أوسطي”، ولم يتحقق أي اختراق نوعي في العلاقة مع السعودية، فيما ذهبت الإمارات أبعد عن واشنطن، مؤكدةً أنها لا تريد التورط في تحالف ضد إيران، مشيرة إلى عزمها إرسال سفير لبلادها، إلى طهران.

واقتصرت زيارة بايدن على تأكيدات نظرية على “أمن إسرائيل”، وتأكيدات نظرية أخرى تخص بقاء النفوذ والدور الأمريكي في الشرق الأوسط، كغطاءٍ أمني للحلفاء في الخليج، الذين لا يبدو أنهم اقتنعوا بها. في المقابل، عقد الحليفان الروسي – الإيراني، قمة مضادة في طهران، عبّرت عن تعزيز تحالفٍ متصاعد بين الطرفين، تظهر إحدى ترجماته في شمال سوريا، هذه الأيام، إذ ينسق الحليفان ضد من يُفترض أنه شريك ثالث لهما، حضر القمة، لكنه خرج بنتائج مُخيّبة. فتركيا، التي حاولت وضع قدم هنا، وأخرى هناك، بين الأمريكيين، وبين الحليف الإيراني – الروسي، حصدت معارضة من جميع هذه الأطراف، لعمليتها العسكرية المزمعة، حتى من جانب الإسرائيليين، الذين كانوا قبل أسابيع يعملون جاهدين على تعزيز علاقاتهم مع أنقرة. وهكذا يبدو جلياً، أنّ هناك إجماعاً من جميع الأطراف الفاعلة بسوريا، باستثناء تركيا، على إبقاء خطوط التماس كما هي.

وفيما تحوم شكوك أكبر حول عزم أنقرة الذهاب قُدماً في عمليتها العسكرية المُعلن عنها منذ نحو شهرين، تبدو طهران أكبر الرابحين من التهديدات التركية، إذ حصلت على تنازلات ميدانية، وإن كانت محدودة، من جانب “قسد”، لصالحها. وقد تؤول بعض المكاسب لصالح نظام الأسد، أيضاً، وفق اتفاق لم تتضح معالمه، أعلن عنه القيادي في الميليشيا، مظلوم عبدي، قبل أيام. كما حصدت موسكو مزيداً من الارتماء “الكردي” في “حضنها”. في الوقت ذاته الذي تكون فيه واشنطن قد حققت هدفها بمنع العملية التركية، دون أي جهود، لكنها خسرت المزيد من نفوذها المعنوي على “قسد”، وأشعرت قادة هذه الأخيرة بالمزيد من الحاجة لإيران وروسيا.

—————————-

===================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى