قصة

صفحة من “كيومٍ مشمسٍ على دكّة الاحتياط” لمازن معروف

حياة لا يحدث فيها شيء

قبلة

أول قبلة طبعناها أنا وجوانا على شفاهنا، كانت ونحن نشاهد كارتونز نينجا ترتلز. كان عمري تسعة وجوانا في الحادية عشرة، وكنّا جالسَيْن على الكنبة في صالون بيتهم. والدتها سخّنت لنا عروستَي جبنة حمراء في الفرن وتركتنا للذهاب مع والدها وأخيها إلى مبنى البلدية لاستصدار بعض الأوراق. جوانا هي من أنهى القبلة. الحقيقة أنّها أوّل ما فكَّتْ فمها عن فمي شعرت باسترخاء وبأنّني شبه دائخ لكنّي لم أعرف معنى ذلك أو ما إن كان جيّدًا أم سيّئًا.

أمّا جوانا فمسحتْ فمها قائلة «تفه! التقبيل من الفم مقزّز»، بل إنّ أكثر شيء مشمئزّ في القبلة هو أنّ على المرء أن يحفَّ شفتيه بشفتَي الشخص الآخر. قلت لجوانا إنّني أشعر بدوخة. «أنا أيضًا»، قالت، و«بقشعريرة»، مضيفة. «أنا أيضًا أشعر بقشعريرة»، قلتُ مذعورًا. «ربّما سنصاب ببردية أو التهاب في اللوزتين»، قالت قبل أن تصمت لوهلة ثمّ تقول «معدتي تحرقني. ربّما تسمّم، مثلما حدث لأبيك». كان من المفروض أن أشعر بحزن إذ لم يكن مضى على تسمّم أبي وقت طويل، ولم أره من وقتها. إلّا أنّ ما قالته أصابني بالهلع، فهرعتُ فورًا إلى الحمّام ولحقت بي جوانا ورحنا نبصق معًا في المغسلة. بصقنا كلّ ما في فمنا من لعاب، ثمّ قالت لي جوانا: «علينا أن نضغط على أمعائنا لكي نخرج كلّ ما ابتلعه أحدنا من ريق الآخر أثناء القبلة».

ولأنّنا لم نكن نعرف أين موقع الأمعاء في الجسم بالتحديد، فقد ضغط كلّ منّا على النقطة في بطنه التي شعر بأنّ أمعاءہ عندها. ضغطت جوانا أولًا بقبضة يدها ومن بعدها راحت تسدّد ضربات خفيفة على أسفل بطنها. أمّا أنا فضغطتُ على سرّة بطني بإصبع واحد فقط من أصابع يدي. أظنّني في تلك اللحظة بالتحديد، أُصِبتُ بالفتاق. والسبب هو أنّني لفرط توتّري، أقحمتُ إصبعي أكثر من اللزوم داخل سرّة بطني. لم أكن أريد أن أموت تسمّمًا. فقد يُفَسَّر الأمر انتحارًا، ما سيحمل أمّي على الاعتقاد بأنّني أوجّه لها اتّهامًا. رغم أنّها من ذلك النوع من الأمّهات اللواتي قد يدفعن طفلًا للتفكير بالانتحار.

    المجموعة القصصية (كيومٍ مشمسٍ في دكّة الاحتياط)  تصدر قريباً عن دار  نوفل -هاشيت أنطوان، يستحضر فيها الكاتب اللبناني مازن معروف ذاكرة الحرب على لسان أطفال يفكرون كالكبار

علوك مفرقِعة

كانت جوانا قد أرسلتني قبل بدء حلقة النينجا ترتلز، لأشتري من الدكّانة شيئًا للتحلية بعد عروسة الجبنة. «شيء طيّب»، قالت: «اختر أنتَ». لهذا أمضيت وقتًا طويلًا عند الدكنجي، أتفحّص كلّ غرض بعناية. كان عيد البربارة قد اقترب. وفي لحظة ما، انتبهت إلى أنّ خمسة أو ستّة أولاد، يرتدون بربارات لوجوه سياسيّين، بتعابير مروّعة كما لو أنّهم مشنوقون، يقفون عند باب الدكّانة. لم يكن بيننا أيّ ضغينة.

لم نتشاجر قبلًا. لكنّي لسببٍ ما شعرت بأنّ عليّ أن أركض بأقصى سرعتي عند خروجي من الدكّانة. بقيت أماطل وأتفحّص كلّ غرض محاولًا كسب الوقت. إلّا أن الدكنجي قال لي «لا يمكنني الانتظار أكثر. يجب أن أغلق الدكّانة. انتقِ شيئًا أو انقلع». كانت الساعة قد قاربت السادسة مساءً، فتناولت كمشة علوك، من تلك التي تفرقع في الفم، آملًا أن تطلّ والدة أحد الأولاد من شبّاك بيتهم وتنادي «اطلع إلى البيت يا ابن الشرموطة»، ما يحرجه فيغادر مبتعدًا ومعه باقي الأولاد مخافة أن تفعل أمّهاتهم الأمر نفسه. إلّا أنّني سمعتُ الأولاد يقولون وأنا أمرّ بينهم مغادرًا الدكّانة «إنّه فعلًا شبه أمّه»، ويقهقهون.

    صفحة هي مساحة خاصة بالكتب يتعاون فيها رصيفـ22 مع دور النشر العربيّة والعالميّة، عبر نشر صفحة من كتاب صدر حديثًا أو سيصدر قريباً

كان صحيحًا ما قالوه. أنا وماما نسختان متطابقتان. حين يأتي التحرّي إلى البيت تقول لي أن أدخل إلى المطبخ وألوِّن مع ابنه. لا ينظر إليّ إطلاقًا أو يكلّمني. في المرّات الأولى لم يستطع النوم مع ماما لشدّة شبهي بها. كان يخيَّل له أنّه نائم معي وهذا جعله يفكّر بابنه طوال الوقت، بسبب أنّ عيد ميلادنا في نفس اليوم. هكذا تعرّفت ماما إلى التحرّي. في المدرسة. يومها أتى ليسجّل ابنه، والمدير خاف أن يقول له إنّ ابنه يحتاج إلى مدرسة خاصّة، إلّا أنّه وهو يكتب في الدفتر تاريخ ميلاد ابن التحرّي قال «لحظة. هل قلت 6 يناير؟ لدينا صبيّ آخر في الصفّ عيده في 6 يناير». وهو يدلّه عليّ. فبدأ التحرّي يتحدّث مع ماما.

بعد مطاردة قصيرة، طوَّقني الأولاد ليقتادوني – من دون أن يلمسني واحد منهم – إلى كاراج بنايتنا. أدركت ونحن ندخل الكاراج أنّهم لن يتعرّضوا لي بأذى. فهم لا يفعلون ذلك خارج مجال بنايتهم. كما أنّ ماشو، الفتاة التي كان يخافها الجميع، كانت تجلس متّكئة على إحدى السيّارات وتراقبنا ببرود. قال لي أحد الأولاد من خلف قناعه «ألا تريد أن تنتقم لأبيك، أم تريد أن تكمل حياتك باسم «ابن الكبّوت»؟». أطلِقَتْ التسميةُ عليّ عند دخول أبي المستشفى. لم أكن أعرف معناها. لكنّي شعرت بأنّها شيء سيّئ له علاقة بماما. فلم أجرؤ على أن أسأل جوانا عنها. جاوبت «ولماذا انتقم؟».

«لأنّ التحرّي هو الذي تسبّب بكلّ ذلك لأبيك»، قال الولد الذي كان لابسًا بربارة تحمل وجه مسؤول حزبي متّهم بسرقة أسواق وسط بيروت في الحرب، واضعًا في يدي نبريجًا قصيرًا وغالون 25 ليترًا: «اذهب واشفط البنزين بفمك من خزان سيّارة التحرّي. واملأ الغالون. لكن حاذر أن تبتلع شيئًا». قلت لهم إنّني لا أريد أن أفعل ذلك. ثبّتني الأولاد إلى الحائط وبدأوا يفتّشون جيوبي. إضافة إلى العلوك المفرقِعة، لم يجدوا غير صورة أبي الشمسية. أخذتها من باسبوره بعد أن أدخل المستشفى وأبلغنا الطبيب أنّه في غيبوبة ولا نعرف متى سيفيق. نظر أحد الأولاد ببربارة جنرال قصف حيّنا مرّة، إلى الصورة قائلًا: «أنت لا تستحق الاحتفاظ بها». سيعطيني الصورة فقط إذا نفّذت ما طلبوه. نظرت إلى ماشو، التي لم تحرّك ساكنًا. يداها مكتّفتان. ولاحظت أنّها تقول من دون صوت: «ابن الكبّوت».

    أنا وماما نسختان متطابقتان. حين يأتي التحرّي إلى البيت تقول لي أن أدخل إلى المطبخ وألوِّن مع ابنه. لا ينظر إليّ إطلاقًا أو يكلّمني. في المرّات الأولى لم يستطع النوم مع ماما لشدّة شبهي بها. كان يخيَّل له أنّه نائم معي وهذا جعله يفكّر بابنه طوال الوقت-مازن معروف

كنت خائفًا من أن يكون أحد الجيران يراقبني. لكنّي حين نظرت إلى البلاكين لم أرَ أحدًا. فتحت غطاء البنزين وأدخلتُ طرف النبريج في الخزان. أخذت أشفط وأبصق رائحة البنزين حتى ملأت فمي وأنفي وكادت أنفاسي تنقطع. كرّرت المحاولة إلى أن أخذ البنزين يتدفّق فسكبته في الغالون إلى أن فرغ خزّان السيّارة. غير أنّي حين أنهيت، ولأثبت للأولاد أنّني راغب حقًا في الانتقام من التحرّي، فككت بنطلوني وتبوّلت في خزّان سيّارته. حين رآني الأولاد أفعل ذلك فرّوا، بما في ذلك ماشو التي قالت «وْنَيْكِة». فقد أشيع عن التحرّي أنّه تلقّى تدريبًا خاصًّا في أميركا لدرجة أنّ باستطاعته معرفة هويّة الشخص من رائحة بوله. أولاد البربارة، أرادوا فقط مضايقته بإفراغ البنزين من سيّارته. أمّا التبوّل في خزّان وقوده فهذا مستوى آخر. بسبب ذلك، تناولت كلّ العلوك دفعة واحدة ورحتُ أمضغها بسرعة. كانت قديمة وفاقدة معظم نكهتها ولونها وجافّة كحصى. الكلاب نفسها قد تعاني بمضغها. وحين التهمتُها في مدخل البناية، الأرجح أنّ ما نفذ إلى معدتي لم يكن إلّا الموادّ الكيميائية الحافظة التي هي كلّ ما بقي من مكوّناتها والمُرّة الطعم.

قلت لجوانا إنّ النقود ضاعت في الدكّانة وإنّني بقيتُ أفتّش عنها من دون أن أجدها ولهذا تأخّرتُ. قالت إنّها لا تصدِّقني لأنّ وجهي مُصفَرّ، لكن لا فرق، بما أنّني خائف دومًا. طلبتُ منها أن تشمّ فمي وإذا وجدت فيه رائحة سكاكر من أيّ نكهة فلتطردني فورًا. كنّا جالسَين جنبًا إلى جنب على الكنبة فمالت نحوي من دون أن تزيح عينيها عن التلفزيون، وحين شمَّتْ فمي قالت «رائحة فمك مثل أعشاش الحمام التي على سطح البناية»، ثمّ عادت لتشاهد كرتونز نينجا ترتلز. كانت الحلقة على وشك الانتهاء. وكنت مرهقًا وخائفًا مِن أن يعرف التحرّي من رائحة البول التي في خزّان سيّارته أنّني أنا الفاعل. فكّرت في أنّ أفضل طريقة لأموّه الأمر هي أن أجعل ابن التحرّي يبول في خزّان سيّارة أبيه هو الآخر، إذ إنّه الوحيد الذي لا يستطيع النطق. لكنّنا بينما كنّا نشاهد النينجا ترتلز، قلت لجوانا «هل يمكنني أن انام عندكم اليوم؟». «ولماذا تريد أن تنام عندنا؟». «لأنّني أحبّ بيتكم كثيرًا… وأتمنّى لو كنتُ أخاكِ». كانت تلك اللحظة حين قبّلتْني جوانا في فمي. قالت لي لاحقًا إنّها لم تقبّلني في فمي لأنّها تحبّني بل لأنّ ما قلته كان عذبًا للغاية ولامسها، ولم تعرف كيف تعبّر عن ذلك إلّا بتقبيلي رغم أنّها لم تكن فعلت ذلك من قبل كما أنّ رائحة فمي غريبة، إذ لا أحد من أصدقائها تمنّى لو كان أخاها.

الغلاف الخلفي للكتاب

يمكن قراءة القصص في (كيومٍ مشمسٍ في دكّة الاحتياط) ، كل على حدى، ويمكن قراءة المجموعة كما لو أنّها قصّة واحدة ومتسلسلة، إذ تتوالى الأحداث بسرعة وتنتقل بسلاسة بين الفصول، ويبقى الخيال ركيزتها الأساسية. هكذا، سنقرأ عن أولاد يحملون أسماءً أخذوها من الشوارع التي نشأوا فيها، ويستعرضون يومياتهم بعد نهاية القتال الأهلي في بيروت، فيكتشفون الملاكمة والدراجات الهوائية والرصاص وغرفة الكراكيب. يوميات تعبّر عن مزيج فريد من الأحلام، الخوف، وانتظار حدوث شيء ما.

مازن معروف

قاصّ وشاعر ومترجم فلسطيني. من مواليد بيروت عام 1978، حائز إجازة في الكيمياء من الجامعة اللبنانية. كتب للصحافة اللبنانية والعربية في الشأن الثقافي. له ثلاث مجموعات شعرية هي «كأنّ حزننا خبز»، «الكاميرا لا تلتقط العصافير» و«ملاك على حبل غسيل»، ومجموعتان قصصيتان هما «نكات للمسلّحين» الفائزة بجائزة الملتقى للقصّة القصيرة عام 2016 و«الجرذان التي لحست أذني بطل الكاراتيه»، ورواية قصيرة صدرت بالإنكليزية بعنوان «لعنة صبيّ كرات الطين». حاز عام 2004 جائزة «لانا ليتيراتورا» للشعر، كما وصلت مجموعته «نكات للمسلّحين» بطبعتها الإنكليزية إلى القائمة الطويلة لجائزة مان بوكر الدولية عام 2019.

 جميع الحقوق محفوظة لـنوفل-دمغة الناشر هاشيت أنطوان ©.

المجموعة  القصصية  متوافرة في أفرع نوفل-هاشيت أنطوان في لبنان، والعالم، ومتوافرة على نيل وفرات.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى