من ذاكرة صفحات سورية

بمثابة وداع لـ “محمد عفيف الحسيني”

أي رثاء أو مقالة أو نص يخص الراحل سترحب “صفحات سورية” بإضافته إلى هذا الملف الذي يعتبر بمثابة وداع للشاعر “محمد عفيف الحسيني”، أي رابط غفلنا عنه، يمكن مراسلة الموقع على الايميل الخاص بالموقع

syrian.safahat@gmail.com

أو ارساله إلي على الخاص إلى الفيس بوك

https://www.facebook.com/hussain.elshaikh

مع الشكر الجزيل سلفا

————————-

إلى محمد عفيف الحسيني في رحيله/ خضر سلفيج

“يقفُ الغريب على قلبه

يعزفُ في ناي الموتى مراثيه

كأنهم قد رقدوا فيه.”

إلى محمد عفيف الحسيني في رحيله:

كأنه الزمنُ ينتعل الوحشة

لم يكن الطريقُ سهلًا

والحكايات لم تكن تشبه حزن قائليها

في الأناشيد القديمةِ

وأعمارنا.

*   *   *

الشجن عزاء في محنة فرار الزمن

وأنت تتطلع إلى روحك البعيدة

تحنُّ إلى البعيدِ..

قامتي مُرَّةٌ

ما أكثر الكلام الدّالّ على جثتي.

*   *   *

كأنه الزمنُ ينتعل الوحشة

أخرس يترجم للعميان

شجن الغريب

قبل أن يدخل ايثاكا

ويودعنا.

*

*

*

لو نحتّ نصبا للمتاه، وجعلته يُدْمِنُ التبغ وكتابة الوحدة، لكنت بهجة الوحشة وعَشم الفوضى البريئة في مشكاة الغريب، وما ترتب من أزرار المعرفة وقمصان السعادة المستعملة.

لكنك كنت تخشى النزول وحيدا إليه.. وأنت تكره تمارين البكاء اليومية.

لو نحتّ للاستذكاريين جنديا رخاميا، رغم أن حسّاً بالخيبة، وسقوط الوهم، كثيرا ما يبرز في تأويلهم، لكنت بصيرة الأعمى.

وأنت العارف بحسب ما يكون الرخام مراداً وفيه من الصفات يستغرق بالبكاء المحسوس واللامرئي كمطر الله ، ستشاهد فيه فم الغياب وتسمع منه ما تحتاج إليه، ويكون الكلام فيه كثير وأنت الغريب حتى يألفه ويتداومه، ويعتزل بالحلم ولا ينام حتى تغلبه عيناه، ويغتسل بالشهوات وصحة الحال.

دع لنا قلبك وإلى الغريب من حيث هو يشتاق، ينحت الشوق وشما على نهد النبالة، رغم أنك تعرف أن لا شيء يشتاق إلى أناقة السعادة التذكارية ، صديقي.

*

*

*

خرجت من طفولتك كهلاً مثقلاً بالمراثي

كمثل كمنجة بقلبٍ ثَمِلٍ .ما أن تَهبطَ بك ، حتى تتجلى المراثي بالغناء عن الحمى وشجن المسرات.

وهي المسرّات لا تنبت بين أضواء المدن الباردة

منذ سفر التكوين ، حتى سفر الرؤية

منذ تفاحة الحقيقة،

حتى حقيقة العزلة

وموت العافية.

*   *   *

غدا، سيلقي بك رماة الشجن ورعاة الحزن إلى برّيتهم

إلى عامودة حوزة النص ومراهقة الأنين الأبيض

إلى يد العارف بالقسوة العاطفية

وهم يمارسون الطواف حول صدرك الهزيل

زارعين بتراب مرقدك بذور الحنين إلى نُوتات “شرمولا”

بكل ما مضى من تلك المسرات القديمة

وسعال الأحصنة

حتى بكاء الشعر

وهو ينشدُ أغنيةً جديدةً للوعل المغادر

لنساء الغريب والجدائل الميتة على الضفة الحجرية .

خاص -صفحات سورية

=====================

محمد عفيف الحسيني.. رحيل بعيداً عن عامودا

رحل منذ أيام الشاعر الكردي السوري محمد عفيف الحسيني (1957 – 2022)، المقيم في السويد منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، إثر نوبة قلبية، تاركاً العديد من المجموعات الشعرية، وسيرة ذاتية تتناول حياته في محطّاتها المختلفة وتأمّلاته الفكرية حولها، ومحاولات في السرد.

وُلد الراحل في مدينة عامودا (شمال شرق سورية)؛ المدينة المتعدّدة في الكتابة والدين والذاكرة الشجية للغات، كما يصفها في مقابلة سابقة، حيث وجد نفسه فيها “ملموماً بين شيئين: الكتب والفقر”، ومشدوداً للأدب الحديث وكذلك إلى التراث في مؤلّفات الكتنبي وابن الفارض والكتّاب الأكراد المتصوّفة، وفي مقدّمتهم ملا جزيري (1570 – 1640)، والذي ترك تأثيراً كبيراً على كتابته في ما بعد.

ينتمي الحسيني إلى جيل شعري كتَب قصيدة النثر باللغة العربية حول مأسأة الكرد في لحظة معقّدة من تاريخ هذا الشعب، ولم يكتب بالكردية رغم معرفته العميقة بها، لخوفه أن تأخذه إلى مساحات لا يجيد التعامل معها، وربما كان ذلك دافعاً لإصدار ديوانه الأول بالاشتراك مع أحمد حسيني الذي كتب قصائده بالكردية، بينما كتبها محمد عفيف بالعربية.

في عام 1993، أصدر مجموعته “بحيرة من يديك” التي تضمّنت نصوصاً تحمل غرائيبة نوعاً ما في تراكيب الجمل الشعرية التي لا تترابط في ظاهرها، لكنها تبني نسقاً خاصّاً بها، إذ يدوّن في أحد المقاطع: “أنا الكمنجات الحزينة لك/ في الريح أنحني/ مثلما رجال غائبون/ ترتعش منهم الساعات/ ورائحة أمّي/ كمنجات مكسورة على قبري/ وردٌ ذابل من يديك/ رعاةٌ يراقبون مغيب الشمس/ أصابعهم بالريح/ والموسيقيين وآلاتهم الميّتة/ مثلي”.

أصدر بعدها المجموعات الشعرية “الرجال”، و”مجاز غوتنبرغ” و”نديم الوعول”، وكتاب “كولسن”، إلى جانب “جهة الأربعاء: شطحات روائية”. كما صدرت أعماله الشعرية مطلع هذا الشهر، عن دار “هُنّ”، تحت عنوان “تحدّث معي قليلاً أيها الغريب”.

وفي عام 2020، نشر كتابه السردي “بهارات هندو ـ أوربية”، الذي نثر فيه سيرته الذاتية منذ نشأته في مدينته عامودا، وإقاماته في العديد من الجغرافيا، العربية منها والأوربية؛ والمناخات التي عاشها الكاتب حياتياً وعاطفياً ومشاهدات روحانية يغلب علىيها الطابع التصوّفي المتقشّف.

يشير الكاتب السوري إبراهيم محمود في منشور على صفحته في “فيسبوك” إلى أنه لم يُكتشف رحيل الحسيني إلّا بعد يومين من إصابته بالنوبة القلبية، مضيفاً: “كنت منغمراً بشهوة نص غرائبي من طراز عامودا الغرائبية وشاهدها شرمولا، وشارعك الشعبي المأهول والمنسوج بحكايات وخيالات لطالما أدمنتَه”.

———————–

لا لن أسامحك يا محمد عفيف الحسيني في رحيلك الأبدي

    إبراهيم محمود

في منتصف المسافة بين الظهر والعصر: الثلاثاء في 24-8/ 2022، وأنا على وشك الاستسلام لسلطان القيلولة الاضطراري بعد دوام جامعي مجهد، فوجئت برنّة واتْسابية، شبه مغمض العينين تمعنت فيها بوهن.جسمي ارتد إلى صحوته المضاعفة، في سؤال سريع بعد التحية من الصديق الكاتب صبحي حديدي من باريس، عما إذا كان نبأ وفاة محمد عفيف صحيحاً أم لا. لا أدري أين حل مقام سلطان النوم. قلت سريعاً مرتبكاً: سأتأكد.. سريعاً، ومضطرباً اتصلت تباعاً بالأصدقاء: ابراهيم يوسف، جان دوست، حسن مجيد، إدريس عمر، حين يبطىء الجواب..قشعريرة خاصة تملكتني: الخبر …صحيح..وهكذا أعلمت الصديق صبحي بذلك..وبدأت بالاستفسار عما جرى من الصديق يوسف..لقد بقي الراحل الكبير يومين، دون أن يعلَم بأمره أحد.. أو هكذا قيل لي.. أي كان رحيله الأبدي: الأحد في 22-8/ 2022 .

فاجأني الخبر، واستغربته، فقد أرسلت اليوم إلى أحد المواقع الالكتروني ةنصاً مترجماً حول جاك دريدا وكتابه: الحقيقة في الرسم، عبْر” أحذية فان غوخ ” وله صلة مباشرة بالحياة والموت، وتداعيات المشهد الفنية، ووجه العلاقة بين إرسال هذا المقال، رغم أنني اشتغلت عليه منذ أشهر ولم أرسله إلا اليوم، وهذا الرحيل الشديد الوطأة بأكثر من معنى، كما يقال !!!؟

لا لن أسامحك يا محمد عفيف الحسيني الشاعر، الكاتب، غرّيد عامودا الشعري، في هذا التوقيت الثقيل حيث البقاء يومين في ذمة موت لا يعرف سوى قانونه، ومسلَّماً من حياة لا حيلة لها بأمر قانون ما صار ويصير ..ألعلك كنت منغمراً بشهوة نص غرائبي من طراز عامودا الغرائبية وشاهدها شرمولا، وشارعك الشعبي المأهول والمنسوج بحكايات وخيالات لطالما أدمنتَه. أم هل هي لحظة غفلة ربما ما كنت تعلم أن ثمة نصوصاً لا تنتهي بمقدار ما تنهي مبدعها، لوحات لا تنفد بمقدار ما تُتَرك دون إكمال، ليكون في ذلك التعبير الحي والصادم عن فعل الفن بمبدعه،بفعل النص بفاعل إبداعه، وقد رهنت له روحك الحسينية .

ثقيل هو التفكير فيما سمعتُ وفيما حاولت تخيله، وفيما جاهدت في استرجاعه عن عقود من السنين بيننا. وأنا الذي أتنفس وئيد الروح، رغم استماتة إرادة متبقية، على تخوم عمر نزف الكثير من مضاء المأمول فيه. كما لو أن هاتيك السنين لم تكن شاهدة على جفاء ما، على قسوة قطيعة ما، على ظنون لا أظنها كانت تصمد على وقع ما كان بيننا قبل ذلك، بمقدار ما كانت مشددة على جغرافيا لا خطوط تماس فيها، ولا نقاط تفتيش نفسية ، ولا أنفاق نختبىء داخلها ونحن نرصد بعضنا بعضاً. ليس بين قامشلو وعامودا سوى الطريق الرئيس المعبَّأ بالهواء الطلق ووثبات قلوب تعيش وحدة حال، توأمتيْ أرض واحدة، جرح واحد، نفَس واحد، شهقة إبداع واحدة، رحابة حضن واحد، بشهادة ذاكرة المكان المشترك وأبعد: سليم بركات يا محمد عفيف الحسيني نسيب طرافة في الشعر، والخفة في الروح في الصميم .

قطيعة لا أعتقدها فصلت بيننا، إلا إذا اعتبرنا أن طريق عامودا- قامشلو، ومتفرعاته ليس واحداً ميمنة وميسرة. لم يكن هناك يا صديق الكتابة المأخوذة بعالم الجنيات، وأحلام الكراكي، ونبيذ الزهور اليانعة، ووميض أجنحة الفراشات، سوى ما يعلم به أحدنا عن الآخر. ونحن خرّيجو الجرح الواحد، القلق الواحد، المبتغى الواحد، رغم تنوعه الفولكلوري. ونحن منتسبو العمر الواحد، والوجع المشترك الواحد، أكبر من أي نزق حالة، أو كرب لحيظة، وقاماتنا مشدودة إلى بعضها بعضاً. لا أظن أياً منا اضطر على مدار هذه القطيعة المحتسبة اضطر إلى أن يخفض رأسه ولو قليلاً، أن يرفع هامته ولو قليلاً، أن يمد يده له ولو قليلاً، أن ينظر ببعض جهد ولو قليلاً، إشعاراً بمكان الآخر ومكانته، حيث الظلان يرتسمان في دفق منشود روحي أبعد من حدود الكوردية الضيقة، والفئوية الضيقة، والشللية الضيقة. لم يكن أي منا بحاجة لأن يسقف على عين له بيده ليرى الآخر كما هو، أو يشنف بأذنيه ليصغي إلى وقار المعنى في حشاشة روح نظيره، تعزيزاً لتلك الخاصية المؤممة والتي يتكفل بديمومتها خط الأفق الصاعد بنا وبسوانا، بعيداً عن أي مَيل أو كيل جانبي .

أيها الطيوب الناعم بلحيته المشعة ذؤابات ضوء رغم وقدة نهاياتها، أعني الصديق الدقيق الرشيق للمعنى المشتهى، والمختلف، أي محمد عفيف الحسيني.. ليس سراً، ليس تواضعاً مزيفاً، ليس اعترافاً بما هو مخبأ، إن قلت، كنت محمد عفيف الذي رأيتك وكلمتك وشاركك الطعام والشراب، وأطايب القول في براري العناوين الطليقة، وأصداء صمت المكان، في رحاب كتب حملتها مكتبتك الوادعة حينها في عامودا، في غرفتك الطينية التي لم أنس مساحتها الصغير والواسعة بمتنها جداً، وكذلك الحال في بيتنا الطيني. نعم، نحن سلالة الطين والعجين، لهذا صادقتنا النار كثيراً وسريعاً في إنضاج الكثير مما نشدناه من خبز الكلام الآخر، ومشتهى الكتابة الأخرى، ولو أننا كنا في مقتبل عمر فوران روح الكتابة داخلنا.

لا لن أسامحك يا محمد عفيف الحسيني، وقد رحلت أبدياً فجأة، دون أي كلمة، دون التفاتة، دون إيماءة يد شلالية الأثر، دون حركة جانبية شجرية المشهد، تشغل الروح ببعض من أطيافها العميقة. لن أسامحك في رحيلك الثقيل هذا، إلا إذا استرجعت ولو جزءاً من ثانية، تنتمي إلى ” وقت ضائع ما ” لأسمعك صوت روحي، أنا إبراهيم محمود الذي تعرفه جيداً جداً، كما أعرفك جيداً جداً: لكم أتمنى احتضانك، بصمت طويل، بمقدار سنّي القطيعة بيننا، وتذرف أختا روحينا: عامودا وقامشلو دمعة فرح تتجمع في مؤق العين، عزاء لمَا كان، ولمن يبكيك الآن، ويرثيك بصوت موحد من أهليك ومحبيك ومعارفك وأهل الإبداع..

هل لروحك المضيافة ذات المدى الجزراوي الطليق أن تسمعني في أدق نبرات صوت وحشرجة روحي: أن تسامحني بعد الذي تقدَّم ؟

———————-

محمد عفيف الحسيني.. ترحل بعيداً لتكتب الشعر/ محمود الحاج

نُفاجأ، ونحن نحسب عُمْر محمد عفيف الحسيني بعد تلقِّينا خبر رحيله، بأنه كان في الخامسة والستّين. صورته الثابتة في بالنا، نحن الذين لم نعرفه إلّا من بعيد، هي صورةُ ذاك الشاب الذي يرسل قصائد من الشمال الأوروبي إلى بلاد بعيدة ينشر في دوريّاتها ويكتب لقرّائها. هناك اكتشفناه: على صفحات مجلّات عربية اقتنيناها أو استعرناها بعد أكثر من عقدٍ من صدورها في التسعينيات. وهناك بقيت صورتُنا عنه. صورة شابٍّ غادر مدينته، عامودا، وبلده، سورية، مثل كثير من الأكراد، بحثاً عن حرّية عيش لا توفّرها سورية، أو نظامها السياسي، لأمثاله.

من غوتنبرغ، جنوب غربي السويد، كان الشاعر السوري الكرديّ يكتب: عن ابنته، عن كردستان، عن أساطير وشخصيات كردية، عن البرونز والمعادن والأحجار الكريمة، عن الأشجار والحدائق والجدران، عن الموت والعزلة والكآبة، عن الحبّ والرغبة، وبالتأكيد عن محيطه السويديّ الذي سيتمدّد، مع السنوات، على مساحة أكبر من شعره.

لا بدّ أن الحسيني ــ الذي وُلد عام 1957 ورحل قبل أيام في غوتنبرغ ــ قد بدأ الكتابة في سورية. لكنّه لن ينشر إلّا بعد مغادرته البلد، عام 1989. “المنفى أعطاني الشعر. في السويد كتبتُ الشعر. في عامودا، كتبتُ الشعر العجول”، سيقول، مرّة، في حوار معه. ولن يكون في وسعنا، كقرّاء، الاطّلاع على أمثلةٍ من تلك الكتابة “العجولة” في شبابه، والتي قوبلت إمّا برفض المنابر السورية الحكومية نشرها، أو بتمزيق الشاعر لها، لعدم قناعته بها.

سيصدر أوّل ديوان “فعليّ” للحسيني عام 1993 (“بحيرةٌ من يديك”، دار أزمنة). ونقول “فعليّ” لأن الشاعر نشر، في السويد، عام 1990، كتاباً مشتركاً، بالعربية والكردية، مع أحمد الحسيني، تحت عنوان “قليلاً من رثاء، بقية من مجزرة”. كتابٌ لم يوزَّع، كما يبدو، على نحو واسع، ولم يبق له أثرٌ تقريباً، إلّا أنْ يجعلنا نفكّر، انطلاقاً من عنوانه، بأنه كان من المستحيل أن يجد ناشراً في بلد يحكمه الاستبداد مثل سورية. هكذا، كان على محمد عفيف الحسيني أن يبتعد عن بلده ليصبح شاعراً، أو على الأقلّ ليصبح حُرّاً في تفكيره وفي انتقاء كلماته وتسمية الأشياء كما يريد تسميتها.

في السويد، ستتوطّد صداقةٌ بين الحسيني وسليم بركات. ورغم فارق العمر الضئيل نسبياً بينهما (ستّ سنوات ـــ سليم بركات من مواليد 1951)، إلّا أن هذه الصداقة ستأخذ، أدبياً على الأقل، شكْل إعجاب: إعجاب شاعر دخل عالم القصيدة للتوّ بشاعر آخَر يبدو له كمعلّم. ذلك أن بركات، الذي وصل إلى السويد عام 1990، كان منذ ذلك الوقت المبكّر صوتاً معروفاً (كان قد نشر، حتّى ذلك الحين، نحو عشرة كتب، بين شعر ورواية)، صوتاً مختلفاً ومؤثِّراً في غيره، ولا سيّما في الشباب من الشعراء السوريين الأكراد.

وقد يكون محمد عفيف الحسيني، من بين الشعراء السوريين الأكراد، أكثر مَن عايشوا “معضلة سليم بركات” هذه: معضلة أن تكون معجباً إلى حدّ بعيد بصاحب “المعجم”، وأن تُحاول، في المقابل، ألّا يؤثّر صوته الفريد على كتابتك إلى حدٍّ تتحوّل معه إلى صدىً لصوته ذاك… وعلى أيّ حال، لم يُخفِ الحسيني، يوماً، إعجابه بشعر بركات، ومن ذلك، مثلاً، احتفاؤه به أكثر من مرّة في مجلّة “حجلنامة” التي أسّسها لدعم الأدب الكردي، ورأس تحريرها عدّة سنوات، قبل أن تنطفئ مع غياب الدعم.

إلى جانب أعماله الشعرية (خمس مجموعات) التي جُمعت وصدرت هذا العام في كتاب (“تحدث معي قليلاً أيها الغريب” ــ الأعمال الشعرية”، دار “هُنّ”)، ترك محمد عفيف الحسيني كتابين في السرد، هما “جهة الأربعاء ــ شطحات روائية” (1997)، الذي يُعيد تخيّل حكايته الشخصية، من عامودا إلى المنفى السويدي، و”بهارات هندو-أوروبية” (2018)، الذي يجمع بين السيرة وأدب الرحلات.

العربي الجديد

————————-

======================

قصائد ونصوص مختارة

————————-

نوروز/ محمد عفيف الحسيني

Newroz- 1993

نوروز ولدتْ قبل الميلاد، بسنوات كثيرة، كانت تعجن أسطورة اسمها مع العجين اللدن المطواع الضاحك الفاتر المخلوط مع الدارشين المطحون وصفار بيضة واحدة لامعة زنخة وخيال ناريٍّ قادم من خيال أبيها؛ كانت تعجن مع إسمها اسم ميتان، وهي تنتظر أن يأتيها، هذا الأخ الغريب قريباً، ليأكل من تلك الكعكة الأميرية، الكعكة الرقيقة مثل جرح، أو مثل رجل من البرونز، أو مثل جرح في البرونز؛ كانت نوروز تعد المائدة بقلق، وتتمتم:

ـ سأحتفي به هذا القادم الغريب، قائد الوسيمين مثله، من قرون بعيدة وصعبة، أعرف أنه سيجلب لي أشباحه التي رافقته، وسيجلب لي عقداً من الخرز الأزرق الحي، وأعرف أنه سيكون زعراناً، وسيظل يتردد مابين المطبخ و”واشوكاني”، أعرف أنه سيتأفف من السويد، سيتأفف من العجين الذي طهوته له على نار الحياة التي تبعثرتْ، مثلما تبعثرنا ـ نحن أبناء ذلك الصامت الحيران ـ، أعرف. وأعرف أن البضعة من العجين الذي صنعته على شكل وعل، سيفرُّ من بين يدي، وأنا أسمع صرخة أخي ميتو.

كانت نوروز، تعجن اسمها عصر يوم الأحد، في عام 1993، عندما جاءت إلى غوتنبورغ العظيمة، فسمعتْ صرخةَ أخيها ميتان:

(ـ نوروز، أين أنتِ، ياأختي؟).

ـ لقد انتظرتكَ قروناً، بين يدي العجين اللدن، أصنع لك أحصنةً ودراجاتٍ ولأصدقائك الجحوش الضاحكة، لتضحك، ياأخي. لتنامَ ياأخي. أخي الأوقيانوس الذي لم أعد أراه، ياأوقيانوس العجين.

لقد جهزت سماط الأكل لك، ولمرافقيك المغبرين، الوسيمين مثلك. تفضلوا وكلوا.

***

خلعوا نعالهم التي من جلود العجول المذبوحة وهي لما تكمل عامها، صقَّلوا حناجرهم المعذَّبة بماء الأخت الأسطورية، ورموا بستراتهم البنية المهفهفة على الدكة في الحوش، ومن زمزمياتهم رشوا الماء على أصابعهم الخشنة المتشققة، تأملوا الأفق البرتقال ـ فقد وصلوا في أول المساء ـ، شطحوا مع قائدهم “ميتان”، نحو أختهم، نثروا على عتبة الباب بذور تاريخهم الجسور، وتلك المواجع وأولئك اليتامى والبتلات الخشنة المجففة وظلالهم العذبة وأرقهم ونشوتهم وماضيهم وسطورهم بلغتهم الكردية الترابية وحنينهم وأقمشتهم الخشنة المصبوغة بدم تلك العجول والمعطرة بدم الورد في “واشو كاني”.

ـ سنأكل من طهوكِ، أختي نوروز.

ردد ميتان الأسطورة، وهو يبوس أخته نوروز الأسطورة. فضحكتْ له، مررتْ بيديها الحنونتين على شعره البني الفاتح المجعد، ضمته إلى ثدييها الصغيرتين الشفيعتين؛ سقطت من عينيها ثلاث ساعات وخمس دقائق، انحدرتْ من وجنتيها على شَعْر أخيها القديم.

سقطتْ سنتان وثلاثة أشهر من عينيها البنيتين الحنونتين، على أخيها ميتان، الذي غاب عنها، بقوة العماء.

***

في غوتنبورغ ولدتْ، وفيها، اشتاقت، وفيها أينعت مثل رمانتين، ومثل سطرين من الألم، كانت ترى العماء القادم ـ عماء الانتظار:

ـ متى سيصل أخي ميتان، أيها الأب الحيران؟.

***

لحمٌ خاروفٌ، قطراتٌ من إلية خاروف، سمّاق مجفف مطحون، توابل ذهبية، ملح، فلفل أسود، فلفل حار أحمرُ، رشة من بهارات ماوراء البحار، شهودٌ على الغدر، غمامٌ سويدي، حمىً الذبيحة وأنينها ـ الخاروف، قطرات من نبيذ إسبانيا، بصل ذهبي، وبقدونس مبارك، وزقزقة الطير ـ الشاهد، الطير بقنزعته التي تشبه التاج، وبذيله الذي يشبه لاشيء، حفنة صغيرة من الخبز الأسمر المدعوك بين أصابعها الرقيقة النحيفة الطويلة، غواية الدهن وهو يتقطر على الفحم، غواية الأسماء الأسطورية، من قرن إلى قرن، ومن عجلةٍ خشبية، إلى عجلاتِ المترو في غوتنبورغ.

لحم مفروم بقدرة الأخت صاحبة العينين البنيتين الكليمتين:

ـ لقد غاب أخي ميتان عن عيني؟.

تسائل نفسها، وهي تعجن قدَرها مع قدر أخيها، فقد ولدا على أرض واحدة: الفايكنغ.

بقدونس مفروم بخشونة، بصل أحمر مفروم بشرائح رقيقة تشبه شرائح العماء، سماق قطيعة، ليمون مجفف، أو عذاب، ملح، قلق، حنين، وأغنية ظلت ترددها نوروز لأخيها الضيف:

way li min, tu birê min

way li min, tu Mitanê bavê min

أغنية خلطتها مع جناحيها الرهيفتين، ومع الفحم الثقيل بذاكرته المشتعلة، أوقدت لأخيها الزيز الزعران انتظارها له منذ قرون.

لحمٌ، تقطر منه الدهن الكثيف اللزج، الذي يشبه ماء الأنثى الشبقة، التي تريد.

سَلَطةٌ عشواءُ، سلطة مملحة بمقادير العلماء والرسل والهراطقة والمنفيين والموسيقيين والنجارين وأصحاب العلوم الاثني عشر المندثرة والحقيقة.

أكل الضيوف، ومسحوا أيديهم الخشنة المتشققة بأردان عباءاتهم الخفيفة من وبر الماعز، وتمتموا لأختهم الكبيرة بلغة المديح:

way li min, tu birê min

way li min, tu Mitanê bavê min

***

ـ لفَّ رجليكَ على رجلي الصغيرتين، بابا، وترجم كل هذا البرد القادم. تقول نوروز. وتقول نوروز:

ـ على جبيبني، غبار المحاربين، وغفوتك البعيدة، ونسيانك، وحنينك، وقرنفلتك التي أضعتها، في انتظار أخي الشقي “ميتان”، على جبيبني، وداعتك التي شاحبة، عندما ذهبت؛ فلم تعد رجلاك تحتضنان رجلي اليتيمتين، مثلما كنتَ تفعل في موسم الكرز والخيار والشمام والبطيخ والنعناع واليانسون والباذنجان والكوسا والألم وزهرة الشهداء والبامياء وزهرة عباد الشمس الدائخة المتعبة آخر المساء، وهي تركض وراء الشمس،

على جبيني قهرك، بابا.

يأتي موسم، ويذهب موسم، وتظل نوروز المشعشعة، تنتظر أخاها الميتيُّ القديم، فلا يأتي، فلايصل؛ لقد غدر به وبرهطه الكليمين، الوقتُ والغدرُ. كانوا يُذبحون: ميتان العظيم ورهطه النورانيين.

ـ ضعْ رجليكَ العابثتين بدون حساب، على رجليَّ النحيفتين الغارقتين في النعاس مثلك، ياأخي ميتان. ضع تاريخك القليل مع تاريخي القليل:

ـ سنتان، وثلاثة أشهر، ياأختي نوروز. يرد الميتيُّ على أخته التي نامت قبله، على سرير السويد ـ المنفى؛ سرير غطس الاثنان في دِعته ووبره وخيانته وريش بطاته وجلبة الماء الحار، وهو يسلق لهما البطاطا والبيض الأحمر والتدابير الصباحية الحزينة والأقلام والولادة في المنفى، فهما ـ الأخ الشقي، وأخته الشقية ـ، وُلدا في غوتنبورغ.

سرير، غطسا فيه، كل منهما يبتسم للآخر، ويؤنب الآخر:

ـ ميتان، نَمْ.

ـ نوروز، نامي.

فلاينام الاثنان. يقتسمان السطر المتوتر في حياتهما، يقتسمان القوس التي تكسرت، والنبال التي بقيت مرمية على الأب. تكسر السرير أيضاً.

ولدت نوروز.

فقرأ لها الأب يوسف سعيد، الشاعر السرياني والسريالي، دعاء المقدسين؛ وجمَّلها بهدوئه، ومسح بيديه النسّائتين على بكائها، في ذلك الفجر الذي حليب الأمهات:

يرتل لها أبونا من صلواته السريانية:

“لقد اكتمل يارب وعد رحمتك الذي وعدتنت به ـ يكرر ـ، إسألوا تعطوا، إطلبوا تجدوا، إقرعوا يفتح لكم. الفعل خير من القول، والعمل من الوعد. ليس فقط للحكماء والفهما، أُعطيتْ مواهبك، وفُتح بايُ مراحمك، لكن أيضاً للآخرين الذين هم في بداية عمرهم وضعهم جنسنا في خانة الجهلاء. ومنهم هؤلاء الطفال الماثلون أمامك، الذين اختارتهم نعمتك في شبكة الحياة”.*

كانت نوروز المؤتلفة الوديعة، نائمة بين سعوط الأب يوسف سعيد وقصائده ورسوماته ومخطوطاته السريانية التي كانت غارقة في حبر القديم ـ الهجران، نائمة، وتبتسم للأب الشاعر، ولاتفهم:

ـ لستُ سريانية، أبونا، أنا من سلالة الميتانيين.

ـ خذي خبزي، ونبيذي، وحكمتي، وهدوئي، وأجراسي القديمة في كركوك. خذي أن تحبي أخوتك المنهوبين، ومعهم، خذي هذا الخبز من الخورية العجوز، ياابنتي نوروز.

مرَّ فصلٌ بعد فصلٍ، وهذا الكتاب لن ينتهي، كتاب التوابل للخمسة الذين يشبهون الحدائق الخمس في الفصول الخمسة، في الشؤون الخمسة لجرح الزعران الذي جرحته الظلال؛ وجرحته السكين الخفية، وهو يكشط بالسكين السويسرية الزرقاء المشرقة تخوم عامودا الخمسة: الأبناء.

نوروز العذوبة. نوروز التي طبخت لأخيها ورهطه الحمى مع لحم العجل مع الغضب وبعضاً من الكزبرة الخضراء.

ـ ياأبي، سيصل ميتان، جائعاً، ياأبي، سأفرم له البصل والثوم والبقدونس وبعضاً من خيالك الحنون، وأنيناً، وحديداً من زهرة القنبيط، ولزوجة الياقوت عندما يموت، وسأفرم ضجري وضجرك، وضجر الغد الذي لن يأتي. سأفرم لميتان ورهطه المنفي، ياأبي، لوعتك.

***

كان ميتان الأسطورة، ينام بجانب الأسطورة نوروز.

***

يغلي ماء الطنجرة.

بيض مسلوق، وبرغل مسلوق، وتاريخ مسلوق، ورحلة مسلوقة.

يفور الماء والحياة والنبيذ والحجل والثمرة الحامضة للخيانة والأجنحة القوية التي ترفرف على سماء المنفي.

ينام الاثنان، كل قبل الآخر. وتظل الأغنية الجارحة تدور على نفسها، بالقرب من المخدتين من ريش البطات:

way li min, tu birê min

way li min, tu Mitanê bavê min.

نفسها، الأغنية، التي بدأت تدور على الخزّافِ القلقٍ: سيبان.

    عن صفحات، بعنوان: طقس سرّ العماد المقدس، كتبه مار إيشوعياب البطريرك الحديابي، وأعاد تنظيمه مار إيليا الجاثاليق البطريرك. كنيسة أم الله ـ ساوثفيلد، 1997.

    الصورة المرفقة نوروز، إبنة الشاعر، الزخرفة الكتابية حول الصورة، من عمل خليل عبدالقادر.

http://www.jehat.com/ar/ArabatAlnaar/Pages/21-10-2008.html

————————–

عن سليم بركات

(سوريا/ السويد)

سليم بركات أخاف الكتابة عن أخي، وابن عمي، وصديقي، وشريكي، وابن بلدي، وقريبي أيضاً: سليم بركات.

أزعم بأنني قارئه الأول، قبل أيٍّ آخر ـ منذ انتقاله إلى السويد، وأزعم بأنني متذوقه الأول لطهوه ـ متاهة التوابل الضيفة على النار والجرجير واللحم المكتنز بنعمة عشب السويد.

في مطار ستوكهولم نهايات 1998، كنا في قلقِ وصول طائرته القادمة من قبرص: أحمد حسيني، علي جفجي، يحيى بركات، وأنا؛ كان ثمت ثلج بأختامه على المطار، وعلى أرض المطار، بيدين من مشيئة الرب على أرض السويد. مطار تدفق منه كثيرون: حاملو جائزة نوبل. حاملو الرقة والدبلوماسية والانحياز وموازين علوم شركة فولفو، ومهاجرون عديمو الحيلة، هربوا من بلدانهم السعيدة بنعمة الدكتاتوريات السعيدة في بلدانهم!.

كنا ننتظر سليم بركات القادم من قبرص، إذاً، ظهيرة ذلك اليوم، من ضباب وكآبة السويد نهاية 1988، ثمت صاحب المطبعة علي جفجي، أدار له دورة الدعوة لأمسية، ستتدبر بمقادير جوازه المزور، باسم آخر، وليبقى تالياً، يعود إلى قبرص، ثم يحصل على منحة تفرغ لمدة عام، من نادي القلم السويدي؛ ثم جائزة “توخولسكي”، التي حصل عليها، ذات يوم الشاعر الصيني المقيم في أمريكا، والمرشح لجائزة نوبل: “بي داو”، حصل سليم على الجائزة عام 2000، في مهرجان الشعر العالمي، والذي كان سليم بركات، الضيف الأول عليه؛ ثم ليستقرَّ نهائياً، في السويد.

رحلة طويلة في الزمن والمكان: موسيسانا، عامودا، قامشلي، الشآم، بيروت الاجتياح، قبرص، وستوكهولم أخيراً ـ السويد الاسكندناف.

***

صعوبة الكتابة عن “سليمو”، أتخيّلها، تأتي أولاً، من طبعه العنيف ـ المرن، هكذا، أيضاً؛ تتفجر الطباع، في الكتابة، طباع الرهافة مع العنف، الهدوء والصخب، الحياة وشقاء الموت، الحجر والحرير، البهارات والخناجر والسكاكين المعلقة فوق طاولته ـ طاولة العمل اليومي النظامي، من السابعة مساء، إلى الثامنة، كل يوم، ساعة واحدة مخصصة للجلوس أمام تلك الطاولة، بدقة ساعة من رمل وإلكترون.

صعب سليم في الغضب، صعب أيضاً في الراحة الشديدة الحنونة: محمدو بيتنا القديم في القامشلي، ربما اختفى؛ أساءله، أين كان يقع هذا البيت؟، فيتذكر اسم الشارع، وغبار الشارع وصخب الشارع، قبل أكثر من أربع وثلاثين سنة، غادر هذا البيت ولم يره ثانية.

كيف خرج من القامشلي، إلى عراء حدود قتّالة، سيظل يتذكر ذلك، وسأتذكر أيضاً، مَمْ الحزين العاشق، الذي يعوي مثل إبن آوى على الحدود في روايته “االريش”، التي ترجمت إلى السويدية، قبل مدة، ترجمة ذكية من البرفسور السويدي “تيتس”؛ تيتس الذي نام على سطوح بيوت عامودا، غارقاً في عواء بنات آوى، يسيل من الحدود، وينام على مخدته القلقة، في بيت قلق، في عامودا، وهو يترجم السيرتين.

***

في ظهيرة كل يوم، تماماً في الثانية عشرة، أسمع إليه، ويسمع إليّ، في تدوين كل منا لرائحة الطهو الكتابي، ومذاق الظهيرة بما أسميناه: “نوش الظهيرة”، كل يحتسي كأسه في ستوكهولم وغوتنبورغ.

المدينتان الغارقتان في لوعة المنفيين.

***

عازف أوكورديون روسي، يحتسي الهواء الخارج من حنجرة آلته ـ آلة الملائكة؛ في النفق القصير من السوق المركزي في غوتنبورغ، إلى محطة القطارات، أمر به، أنسى موعد قطاري إلى ستوكهولم حيث سليم، أقف، أسند جسدي النحيل المنفي إلى حائط النفق، وأسمع إلى نفخات العازف الروسي، وهو في شحوبه إلى روسيا الكبيرة ـ الحزينة. عازف روسي في متاهة البشر: عجولون إلى مقام محتمل لمساء السويد المبكر. سليم بركات هو في مقام السويد. افتخرتْ به بلدية ستوكهولم، وجعلته مواطناً شرفاً أولَ، في حين كان ينتظر أختام الحصول على الإقامة.

الإقامة التي أتت متأخرة جداً، بالنسبة لكاتب مثل سليم.

***

شرف خان بدليسي، عاش في القرن السادس عشر، أميراً محارباً، مطارداً، مؤرخاً، فذاً، ورسامَ منمنماتٍ كبيراً، على جهات وان، سليم بركات، هو شرف خان الكورد المعاصر، اكتشف الأوربيون ـ وليس الكورد شرف خان، واكتشف العرب سليم بركات؛ أين الكورد، الذين يعاتبون شرفخان الأول، لأنه كتب بالفارسية، ويعاتبون شرفخان الثاني، الذي يكتب بالعربية.

***

ثمت في محطات الأنفاق، في ستوكهولم، يعزف الموسيقي على بوقه الكليم؛ لم يكن بوقاً، بل نفيراً للحركة الضاجة في ذروة الانتقال من العمل إلى البيت؛ ذهبتُ إلى بيت سليم بركات، وهو المقيم في ضيافة القلم السويدي: بيت ـ بناء موحش، بناء قديم كئيب وأرستقراطي، بناء متفجر وقريب من خط قطارات، ومن ساحة، تحت جسر، وتحت الجسر، ينفخ عازف البوق، الثلج والحمام وطيور العقعق السوداء اللامعة، والرجفة الشتائية لعام 2001؛ كان سليم يطهو، وكنت أقترب من طهوه، على منضدة واطئة، أقترب من روحه القلقة ـ أنا القلق أبداً ـ، وسليم القلق أبداً.

جمعنا ذلك اليوم البارد، في ستوكهولم، قوانص الدجاج المقلية بروح المنفى.

ـ محمدو، أكتب الموت.

ـ سليمو، أكتب عن الموت.

كنا، نكتب عن الحياة.

***

الحياة التي أخذت سليم من موسيسانا ـ القرية الواقعة بين عامودا والحسكة، لا أعرف ما اسمها الجديد ـ التعريب، إلى ستوكهولم.

الحياة التي أخذتني، من عامودا، إلى غوتنبورغ.

كيف يمكن التماهي مع سليم بركات، شعراً وحياة وشجناً وكتابةً وطهواً؟

شرفخان بدليسي الأول، كان رساماً وخطاطاً ومؤرخاً فذا، بلغة فذة ـ بالفارسية

شرفخان البدليسي الثاني، كان كذلك.

أين يلتقي الاثنان؟

***

شرفخان الأول، شرفخان الثاني: نوش لكما معاً، في ظهيرة غيابي عنكما.

***

سليم في كل كتاباته: يدوّن الموتَ، هكذا أرى. حيلةٌ ـ طهو الحياة تدويناً.

غوتنبورغ 5 ـ 5 – 2004

————————–

زهرة النقشبنديين/ محمد عفيف الحسيني

(في مدائح النبات، والثمار، والأعشاب، ثم الزهور)

إلى Roz، التي نَمَتْ في أرضٍ منفىً.

النبتة الأولى، أو العشبة الأولى

نبتة جلجامش، التي لم يصل إليها، غير جلجامش، فمضغها؛ ثم من مرارتها، لفظها؛ نبتة كلكامش التي يبحث عنها القادة السياسيون في العالم الثالث، ويبحث عنها، الجاموس في مستنقعات القامشلي، الجواميس التي تجترُّ نبتة المستقعات القريبة من حلكو، وتراقب قطار قامشلي ـ حلب، وهي تحمل المخابرات، والمساجين الكرد، الذي يأكلون قشدة نفس الجواميس، في السوق المسقوف الذي بناه الفرنسيون، يأكلون القشدة مع الشاي مع الظلال الصباحية الفائرة من نبتة فرن الأرمني. العشبة المباركة السهلة الممانعة القزمة الشحيحة،. لم تكن من نبتة، بل سيقان القاميش في القامشلي. يقول بعض مؤرخي الكورد بأن كلكامش مفردة مشتقة من كاميش ـ الجاموس ـ وفي ربط هؤلاء بين المفردتين، دون أسانيد مدونة: القوة والبطش: كلاهما الكاميش وكلكامش يطأآن النبت والعشب والشجر والزهر والصيغ التورية، بحثاً عن المنفيين في أوربا: أعني في البحث عن الزمن، منذ زمن الأسطورة في بلاد مابين النهرين، إلى بلاد مابين حلكو وحلب، حيث تراقب الجواميس الثخينة، العربة المغلقة الحديد، وهي تقلُّ بضعة شباب كورد، يتعرقون تحت جنبات القيود الحديد التي يرسفون فيها، ويتذكرون القشدة ـ النبتة. ويتذكرون شجرة ما، لتكن تلك الشجرة، شجرة “القزوان”. لتكن شجرة التين المغبرة، التي كانت تتفرع من بيت مجحم والد “الرياضياتي” فهد بن مجحم”،؛ البيت الذي اشتراه شيخنا محمدنور، وتحت تلك الشجرة المغبرة التي تفرز الحليب والظلال، كتب ماكتب شيخنا. فكتب: “خالتي القامشلي”، مثلاً في ظل خالتي القامشلي وهي تراقب شجرة التين.

شجرة التين

منذ خمسة عشر عاماً، لم أر شجر تين، ولم أذق التين، إلا في مرات نادرة يبيعه السويديون وكأنه تفاحة آدم في الجنة: صندوق صغير يحوي بضعة حبات إما ذابلة، وإما صلبة غير ناضجة، أتذوق حبيباتها، أبلع واحدة، أمضغ واحدة، في مضغتين سريعتين، لاتشبه مضغات جواميس قامشلي لعشبة قامشلي، بل مضعة العِجول، ثم أستدير من الصندوق، إلى شجر التين، تلك، قبل سنتين، أو أكثر، أستدير إلى الشجرة المحرورة، في صيف “آلانيا” المحرور، في تركيا القاهرة؛ كان لقاؤنا عاصفاً، آخين ولات، وأنا صاحب شجرة التين لشيخنا النوراني؛ في كل صباح في تلك المدينة البحرية، في الشهر التاسع، كنا نسير من البانسيون المشرقاني الكوردي، إلى أشباح الأوربيين السائحين المتمددين على البحر الأزرق ـ وليس الأبيض، أشباح ثمرة التين الناضجة، والمتآكلة، هناك، من جهة الجبل، استقرت بضعة شجيرات من التين، كانت شمس آلانيا، قد أنضجت ثمارها، وأسقطتها على الحافة الحجرية القصيرة، وتكفلت أعشاب الأرض بتفسخها على الأرض، أربع شجيرات تين مصطفة على فراغ مكاني وزماني، بالنسبة لي، لم تكن آخين تعرف بأنني أحب التبن، كنا نصعد المنحدر البسيط الصاعد من البانسيون والبحر والأوربيين، إلى الجهة الشعبية من المدينة السياحية، نصعد الوقت الذي سنسرقه من الشمس، قبل أن تُغرق الجميع بلهيب لايُطاق، الساعة العاشرة والنصف، رأيت على شجيرة من تلك االشجيرات النوارنية حبتي تين، ناضجتين ممتلئتين متشققتين حمراوين ومكتنزتين بالشراب، شراب التين المقهور لنا نحن الاثنين الشاعرين، في وقت قبل ظهيرة آلانيا؛ هو نفسه الوقت الذي رأيت تين شجيرة الشيخ محمدنور، لكن، في الحلم: كان يلتهم الثمرة الطرية المعجونة بشمس عامودا التي لاتطاق، وعلى أوراقها الكبيرة الهائلة يدون (خالتي القامشلي)؛ هذا قبل نبتة البعث السوداء على عشب ملعب قامشلو، العشب الذي سمع صوت ارتطام أجساد الكورد بدمهم من طلقات الجنرال سليم كبول الفاتح. كان العشب أخضرَ، وكان الدم أخضرَ، لم يكن التين قد نضج بعد، على تلك الشجرة، في بيت “مجحم”، في الشهر الآذاري ذاك، بل كان زهر العندكو، يفور في حقول عامودا، في باحة عامودا الشاسعة.

زهر العندكو

زهر لم أجد مصطلحه ـ تواتره بالعربية، ربما لندرة هذه الزهرة في مفردات اللغويين العرب الأرضية واللغوية، هكذا سأبرر؛ زهرة ـ عشبة، تتفجر في بدايات الربيع بين حقول القمح والشعير، تندلع رائحتها علينا، نحن الذين نقترب منها، نبصر نسوة الكورد المزهوات بثيابهن المزهوة، وهن يقطعن الحقول والزهر والأنوثة المتفجرة والخَفر غير المتفجر، الخفر الضاحك على كمال أنوثتهن في صدورهن النافرة، وحركات الضحكات التي تقترب من روح العندكو المتفجرة؛ هن شيطانات الكرد، لشياطين الكورد، في حقول العندكو التي جاءت الطائرات الزراعية البعثية (الاصلاح الزراعي) فرشَّت على تلك الحقول سموم الشمولية، فذبحت الحقول والزهرة والأنوثة ونحن، أولئك المبتدئون بالكتابة ومراقبة النبات ـ الزهر، على الجهة الجنوبية من عامودا، جهة الطريق الى مدينة الحسكة، مروراً بقرية أجاتا كريستي “جاغربازار”، وقرية سليم بركات: موسيسانه، وقرية المهاجرين من زهر العندكو، إلى زهر النسيان والوحل في قرى يُغرق أهاليها إلى آذانهم في وحلها شتاء، وإلى آذانهم في غبارها صيفاً؛ القرى التي ستغرق في الاحصاء الاستثائي على نبتات البعث الصفراء الجافة القاحلة الفاجرة إلى آذانها في إلغاء أن زهرة اسمها “عندكو”، تنبت فقط في زهرة الحب.

زهرة الحب

أعمامي الإيزديون، هم أبناء الملك الطير المهاجر من الجنة إلى “مزار لالش المقدس”؛ أعمامي أولئك، الذين يشفع لهم طيرهم المهاجر “طاووس ملك”، لهم بضعة قرى متناثرة، حول حقول عامودا العندكو الشاسعة، ولهم شيوخهم ومريديهم، فقراؤهم وأمراؤهم، شواربهم وطقوسهم، حيواتهم الوجلة وتاريخهم ـ القتل، ولهم شيخهم الذي هو عمي: “الشيخ حِتُّو”، بعباءته النورانية، ونحافته النورانية، وأصابعه النحيلة الرؤوفة، وخاتمه الغامض، ولفافة تبغه من نبتة تبغ “قُرْدِيسي”، البعيدة القريبة الملغومة، عمي الشيخ الإيزدي “حِتُّو”، كان يهرع إلى عمي الكبير الشيخ سليم، من قريته “كندور”، إلى قرية شيخه الكبيرة، أعني “عامودا”، يهرع إليه، تسبق خطواته العجولة، عجلات سيارة الجيب، ذات الدفع الرباعي، وهي تخوض وحل قرى ملوك الطواويس، إلى جمهورية المدينة ـ مدينة زهر العندكو، حيث كنا العصبة، نراقب شهيق الزهرة، وهي تذبل تحت قصف السموم البعثية؛ ونراقب الشيخ “حتو”، وهو ينزل من سيارة الجيب، ذات الدفع الإلهي، من الشارع الفرعي لشارع رئيسٍ، يلف عباءته على نباتات جسده النحيلة الخشنة العصبية، لكن الرقيقة أبداً، مثل نبتات زهور الأنهار المرتعشة أبداً، يهبط بسلام ووداعة، يدفعه حبه للشيخ، أن يستعجل إليه، فيستعجل، شارع، شارعان، ويكون عنده:

الدرجات الثلاث لمكان الشيخ الكبير، الدكان المجاور للمعلم السري في دفع نباتات أرواحنا إلى لغتنا الكردية “صدقة ملا رشيد”، المعلم العصبي الآخر “أوسي حرسان”، مراسل وموزع هاوار، قبل ألف سنة، والجار الأخير السرياني، إسحق، والعتبة الصغيرة للبيت المقابل، حيث يستقر فيه شرطي فظ، جهم، جميل، الشرطي الذي عكس صفاته على ابنته المتفجرة أنوثة ورغبة وفجوراً، الحائط من اللبن، والعريشة النازفة على الحائط من اللبن، وزاوية الشارع، وشارع الفاتورة، والقمة العريضة البادية من “كري شرمولا”، والمنارة القديمة لجامع سيداي “ملا عبداللطيف النقشبندي”، والسماء المتجهمة من شتاء نباتات الغيوم الثقيلة، والبيت النص المدون المهجور للسيد إبراهيم مهاجر، والجن الذي يسكن هذا البيت، وأشباحه، والبيت الترابي المجاور بطبقتين، حيث يسكنه أولئك، الذين خلقوا، بعيون كليمة مذبوحة، فوهبهم الله، طاقة لاتقدر: زهرة الحب؛ زهرة الحب مكررة ثانية، والمدفأة الثقيلة بفتيلتة العريضة، تشتعل، ولاتنوس، وأوراق الشيخ، وآلة الفوتوكوبي الكبيرة، وأقلام الشيخ الذهبية الغالية، وأناقة الشيخ العم، وقلق المجردين من جنسيتهم الوطنية السورية! وديوان القطب الكبير الملا جزيري، والكلس المتقشر في زاوية ما، وأيضاً أنا: نرحب بشيخنا الإيزدي: “شيخ حِتُّو”.

زهرة الحب، هما الشيخان العمان الكبيران.

شيخ مسلم متنور، يجعل من الكلس فكاهة.

شيخ إيزدي متنور، يجعل من الكلس فكاهة.

كانا يحرسان زهرة الحب، ويتبادلان مدائح مدونة على أعشاب الحياة المديدة لهما.

ميتان، زهر حب، بيني وبين الشاعرة آخين ولات، أناديه أحياناً: شيخ حِتُّو.

هل أعني به الشيخين وهما في نبات الحب؟. أناديه بالحب، منذ نزول الشيخ حتو الإيزدي من سيارة الجيب ذات الدفع الرباعي من قرية كندور، إلى قرية عامودا الكبيرة، إلى لحظات وصوله إلى الشيخ سليم المسلم. يراقبهما أيضاً الشرطي ـ ذلك الجميل، ويشاركهما في دعاباتهما الثقيلة المتسامحة لوجوده أمامهما، يضحك الشرطي، يبوس يدي الشيخين، ويدلف إلى بيته المستأجر، حيث العريشة، عريشة شجر العنب.

كروم العنب

العنب من ثمار الله الحارة القابضة؛ يتفرع عنه الزبيب ـ تقول كتب الطب القديمة الشعبية، بأن لعُجْْْْمِ الزبيب فوائد قابضة لفرج المرأة، إذا طحن هذا العجم طحناً صفيقاً، ثم دهن به الفرج، دهناً خفيفاً بلواعج الجنس، فيكون الباه أشدَّ وأكثر دفقاً ـ، هكذا تقول الكتب بنباتاتها الفاجرة القديمة، والباستيق والسنجوق والمربى، والعصير، والخل، ويتشكل منه، الأشْهرُ قاطبة: إبنة الكروم، النبيذ بألوانه الأحمر والروز والأبيض، كل نوع حسب نوع العنب المنكوب بمهرة الصنَّاع والحياة، العنب ثمرة الغبار والحرارة والسُّكر، كان صديقي الأحمر الملا سيف الدين، من قرية أخوالي “سيمتك”، ينقل سلة من عنب أبيه الملا، على دراجته الأرضية القلقة في البنزين، يختم السلة بورق العنب، ويختم المكان ـ القرية، بتلك الحجرة الصغيرة التي بناها لي جدي في بيت جدي القديم، الحجرة التي ذقنا فيها عنب سيف الدين، لكن، مخمراً إلى نبيذ رديء، تذوقنا العنب وأوراق العنب وغبار العنب وشهقة العنب عند مرور دوريات المخابرات، وهي تقطف العناقيد الأكثر امتلاءً بماء الحياة الحار القابض. الحار الذي يقبض على روح ساكني تلك الكروم ـ نواطيرها الأبديين، على عرائشهم من الخيش والزهر وعشبة جلجامش، وخوار أرواحهم، مثل خوار جواميس قامشلو، فهي نفسها الدورية الأمنية التي ألقت القبض على شباب الكورد في عامودا، بعد عقدين من الزمن، فلوت أذرعهم النحيلة وراء ظهورهم، وشدت رسغهم، بنبتةٍ بلاستيكٍ مثل شفرات الآلهة، وكانت ركبهم متورمة، وكانوا يمضغون ورق العنب، تلك بطعمها الحامض ـ المزّ؛ الطعم الحامض الذي ينتقل من الكروم إلى طعم التوت الذي كان يتساقط من السماء على البركة، فيتشقق، التوتُ، ويتشقق الزمن على شجرتين من التوت.

شجرتا التوت بحواشيها من العم والجد الميتيْن

شجرة مباركة، هي شجرة التوت، ترقد عليها آلاف من طيور الدوري الصغيرة، تظل طيلة الليل تحلم وتتسافد وتبيض وتفقس وتموت، وتعود فتحلم مجدداً: إنها طيور الجنة، فترتطم أجنحتها الصغيرة بأغصان ثقيلة، ملآى بالتوت، يسقط التوت الممتلىء ماء سكراً، ماء مسهلاً، ماء ليناً وحلواً مثل عمي، صاحب الشجرة، الشجرة التي لها جذور سميكة رطبة ممتدة في منتصف البئر المباركة تحتها، وتحتها يمتد صف من شجيرات الرمان الشعثاء الزعرانة، وكذلك الإوزات، البضعة البيضاء الموحلة دائماً من ماء بركة البئر، وبمناقيرها ـ مناشيرها، تغضب فتهجم على ضيوف الشجرة، ونحن نتسلقها، لنراقب آثار الطيور المسائية على الأغصان، وفي الأعشاش الصغيرة الأليفة، لفراخها، ونتأمل الوقت الظهيرة الجافة الراكدة على التوت، التوت اللزج، المتساقط من حرارة عامودا في شهر تموز بأذياله النارية، التوت المتساقط على أرواحنا وهي تطحن قصائد جكرخوين الشاعر، مرتلة بلغة التصوف لشيخ النعناع، شيخ صدرالدين، صاحب تلك الشجرة العملاقة، وصاحب أشجار الرمان الشعثاء، والإوزات الشرسة، والبئر، وصاحب البضعة من السنونوات، الراقدة في عشها من نبات عامودا، في سقف الصالون المفتوح الجهتين: الشمال الألغام، الجنوب: سينما عامودا التي كانت النيران قد غمرتها، وجاءت النيران على كل زهور الرواد الطلاب، الذين دفعته السلطات الوحدوية دفعاً، لحضور الفلم الحريق.

كانت شجرة التوت، تبكي، وتبكي؛ هي الشجرة نفسها، تبكي منذ خمس وثلاثين سنة، ولاتجف.

***

شجرة التوت التي في ملعب “نيشان”، في جهة من عامودا، ليست جنوبية تماماً، ولاشرقية، هي في الجهتين غير السعيدتين. جهة خنثى. الشجرة تلك، من أشياع الشيخ الجد المتجهم أبداً، الشيخ شيخ موس، اسم يدل على متونه في هوامش توتره أبداً، طباعه طباع الموس، رهيف وجارح، بارق ونحيف، هادىء ويقظ أبداً، لاتنام روحه؛ وإن نامت فهو الموت وقد بسط على جناحي الشيخ، جناحيه. تاركاً الشجرة، تقترب من جفافها، فلاتثمر، وإن أثمرت، فهو التوت الذي يشبه الشمولية البعثية: توت خردل، توت جاف، توت يغطي الحوش بشعاراته، ويغطي السماء بالعدم.

لكن، ثمت ماهو أكثر فصاحة: النبات الذي يشبه سيوفاً قصيرة.

النبات الذي يشبه سيوفاً قصيرة

“آراكسي” إسم أرمني، لمغنية ورسامة أرمنية، ذُبح أهلها في مذابح الترك، منذ سنوات بعيدة، وهاجر من أفلت من الذبائح، أهلوها، من مشارف وان، والحدود الهجينة بين كوردستان وأرمنستان، إلى قامشلي، ومنها إلى حلب، استقر الأهلون في حلب، وسيطروا على الحديد المنجور في معاملهم المنجورة من ذاكرتهم المذبوحة، على حجر الفاشية، تناسل الأهلون المهاجرون أولاً، وتناسلوا، ثانية، فكانت “آراكسي”، المغنية، سليلة الجيل الثالث من الهاربين، من أرمنستان، إلى مطابع اللغة الأرمنية في حلب، بقيت اللغة تحافظ على أصولها، لكن تكسرت النبرة والروح والدعابة، بسبب هيمنة العربية في بلد عربي مثل حلب.

استطراد خارج السياق الحكائي؛ لكن له علاقة بالسياق اللغوي، والنسق الأرمني

الجيل الأرمني الأول الفالت من المذابح، االجيل الذي هرّبه الكورد من شفرات القتل، عاش بين الكورد، ونما بين نباتات الكورد، تعلم لغته، واستقر بعضه في عامودا، الجيل الأول، لم يكن يتحدث مع بعضه البعض، تحت ظلال بيوتاتهم الدفيئة، إلا بالكوردية. رواية اللبناني، بجذوره السريانية: إلياس خوري، “يالو”، تتحدث عن يالو السرياني، الذي أنقذه ملامصطفى الكوردي، من القتل العثماني، ثم انتقاله الى القامشلي، ثم إلى بيروت، يالو الكوردي المسلم، يالو السرياني المسيحي، يالو الغريب، في النباتات الغضة، في رواية واقعية، الواقع الذي هو السحرية، في سياق النباتات الشرقية الشمولية.

“آراكسي”، هي المغنية بنقرات أصابعها على روحها، المهاجرة من حلب إلى غوتنبورغ، قبل عقدين، غنت تلك الليلة الكليمة، للشيخ أحمد حسيني، أغنية، متداخلة اللغات: الأصل الأرمنية، والفرعان: العربية والكردية، غنت أغنية عن الأنهار ونباتات الأنهار، غنت لبحيرة وان، وللخيول القليلة التي تصهل على حوافها ـ خيول الرغبة، وغنت لنباتات خضراء متصلبة، وغنت للزمن الذي دوَّنه مير شرفخان بدليسي، وغنت لذلك المساء المثلج في شقتها الدافئة الأرمنية، في مدينة غوتنبورغ السويدية.

غنت آراكسي، لسيوف ـ نباتات قصيرة خضراء متصلبة في آنية بنفسجية، على حافة النافذة الشمالية، حيث يرقد البخارُ من أنفاسنا، ومن أنفاس النباتات المطمئنة، كانت السيوف الصغيرة، تهدأ على صوتها بالأرمنية، وكانت نقراتها على الدف الصغير، بأصابعها الملونة، هي نقرات ماء مطري ينقر سطح بحيرة وان، ماء تورية، تورية ماء. وسيوف قصيرة تورية. أعني النبات الذي في النافذة طيلة الوقت، يراقب. يراقب النبات ذلك القطار السميك الأزرق المنطلق من القامشلي، يحمل في الفاركون رقم 4 الرقم الضائع في الهباب، بضعة شباب كرد مقيدي الأيدي من الخلف، من عشب ملعب قامشلي، إلى عشب ملوث قحط.

آراكسي، لم تغني أبداً، بل غنى النبات، الذي احتفظتُ به قرناً، ثم اختفى النبات، والسيوف، واللغات، والنافذة، والبخار على نافذة بيت آراكسي. واختفت آراكسي، تلك الأرمنية.

كان بخار القطار ـ هبابه الكثيف، يغمر قرى الكورد، وتهدر العجلاتُ المعدن، على أرض آذار الحرير.

زهرة الحرير

خيط الحرير من أمتن الخيوط، كان كهول الكرد يصنعون منه، شراشير ملونة، يعلقونها على رأس الإمام، إمام سبحاتهم من خشب البلوط أو من نواة الزيتون، وكان هؤلاء الكهول يتباهون ببضعة من تلك الخيوط، وهي تتدلى من رأس الإمام، على أعمارهم الخشنة، التي قضوها في لبس الخيش الناشف، واللباد الثقيل، يقتعدون مساءات كردستان، وبأعينهم الزائغة، يحملقون في الأزل، يحملقون في زهرة الحرير المستغلقة. الزهرة المجلوبة من آفاق الكرد الشمالية، حيث تعتكف النسوة االكرديات في عمليات التعقيد والفصل والنسج، والحياكة، والصباغة والفتل بمغازل بدائية، لخيوط عريقة، مجلوبة من الصين العريقة، الدودة الصينية العريقة، وهي تتكاثر على أشجار توت آفاق الشمال الكردي، هناك، على أطراف السهول، من طور عابدين، إلى كنائس السريان، ومعابد الإيزديين، ومساجد الأئمة من علماء الكرد وشعرائهم الكلاسيك ـ الحرير.

ـ “أللحرير زهرة؟”، يتساءل، أحد الكهول.

ـ هو زهر، ياهفرميش ـ Hevirmesh. يرد عليه، جاره الأعمى.

تعود السبحات إلى طقطقاتها، ترتطم حبة بأختها، وأختها برأس الإمام الحريري. لم يكن من غير الجدل بينهم حول فتنة الحرير الذي لايعرفونه، ثم يغيبون واحداً بعد آخر، يدخلون في الحرير، أخيراً، لبسوا زهرة الحرير المرن الخفيف، الحرير النقشبندي. زهرة الحرير النقشبندية، وهي تتدلى من نعوشهم: بضعة خيوط من حرير، من زهر الحرير الذي لاوجود له في حيواتهم الحسية، بل في مكان آخر قصيٍّ، مكان لاتصل إليه أياديهم الخشنة، وهم يعدون في تذكاراتهم التي لاتنتهي، على سبحاتهم، أسماء أنواع نبتة التبغ.

كنت أملك شالاً نحيفاً حريراً من أولئك الكهول؛ وكنت املك زمناً حريراً، قريباً من زمنهم، غير الحريري، في عامودا، حيث تخفق رايات البعث فيها، خفَّاقة من عشب شوكي، يلتصق بالجسد، عكس الحرير، الملمس الناعم الطري ـ من شجرة الديمقراط.

شجرة الديمقراط

شجرة جففها العالم الثالث.

وفي وصف تجفيف شجرة، حسب علوم المجففين:

اللبن الرائب ـ العيران، سطل واحد منه، يجف شجرة عليها ألف ععصفور، ومليون حبة من التوت، وثمانية آلاف من دودة القز، وبضعة طيور من أبناء وبنات السبيل ـ الذكر والأنثى ـ، وسماء صافية، والمساء الذي يتراكم على شجرة الديمقراط؛ المساء الثقيل العنيف الشعاراتي، الشجرة المتعثرة بماء اللبن.

زهرة الحب ثانية

ليس لها تعريف؛ ولم يكتب عنها أحدٌ، هي زهرة كلكامش التعيسة، هي زهرة أوفيليا، هي زهرة عطيل، هي وردة أمبرتو إيكو، هي زهرة القطارات، كل قطارات العالم، ماعدا قطار قامشلي ـ حلب، هي زهرة النهر الفاجرة الصفراء، هي زهرة الشيخ حتو، وزهرة الشيخ سليم، هي زهرة الزمن والمكان، هي زهرة الخالات، زهرة الأخوال، زهرة مربى المشمش، ومربى المنفى.

زهرة الحب، زهرة النقشبنديين.

OPHILIA

“على الماء الراكد والأسود، حين تغفو النجوم،

تعوم أوفيليا مثل زنبقة كبيرة،

تعوم بهدوء كبير, مستلقية في غلائلها الطويلة.

أوفيليا البيضاء عائمة, مثل زنبقة كبيرة”.

ماكتبه رامبو، عن زهرة النقشبنديين.

اشارة:

في الدخول، ثم الخروج من شرنقة الحرير ـ حرير المعلومات، من زهرة الجوجول الإلكترونية:

(تمر اليرقة الناتجة من بيضة دودة الحرير التي تضعها الفراشة خلال دورة حياتها بالمراحل التالية:

– بيوض الحرير.

– اليرقة أو دودة الحرير.

– الخادرة أو الزيز.

– فراشة.

تبيض دودة القز 500 بيضة تقريباً. ويبلغ طول خيط الحرير 1500 متر تقريباً.

شرانق الحرير ثلاثة ألوان: أبيض، أصفر، وبرتقالي. الأبيض يعطي خيط حرير باب أول، والأصفر باب ثان، أما البرتقالي فباب ثالث. تتغذى دودة القز من ورق التوت فور خروجها من البيضة، ولكي تفقس تتعرض لحرارة 24 درجة “مئوية” مدة عشرة أيام حيث تخرج منها اليرقات (الدود) وتستمر بأكل ورق التوت حتى تصبح قادرة على نسج الشرنقة. تمر دودة الحرير، منذ خروجها من البيضة الى أن تصبح شرنقة، بخمس مراحل تسمى “أعمار الدودة”. يفصل بين العمر والعمر فترة انسلاخ، تسمى “الصومة”، وعددها أربع، تتوقف خلالها الدودة عن الأكل، لتخلع عنها جلدتها القديمة كي تتكون لها جلدة جديدة تمكنها من النمو. وعندما تباشر الدودة نسج الشرنقة تتوقـف عن الطعام وتبحث عن مكان مرتفـع تثبت نفسها علـيه بواسـطة أرجلها الثمانية الخلفية، وتبدأ بفرز خيط الحرير من فمها وتغلف نفسها به تدريجياً. عندما تكتمل الشرنقة، تتحول الدودة تدريجياً الى (خادرة) أو (زيز) وبعد مرور أيام عدة تتحول الى فراشة. وحين يكتمل نموها تفرز مادة آكلة للحرير تمكنها من ثقب الشرنقة والخروج منها. بعد خروجها من الشرانق تتلاقح الفراشات وتضع الإناث بيوضها لتعيد دورتها الحياتية مجدداً.

ـ للاحتفاظ بالشرانق كما هي توضع في أكياس نايلون داخل الثلاجة حيث يتم خنق الزيز في داخلها.

ـ للحصول على خيط الحرير توضع الشرانق في ماء مغلية، ويسحب خيط الحرير على مغزل خاص.

ـ للحصول على البيوض تترك الشرانق في علبة مفتوحة وبعد 20 أو 25 يوماً تصبح فراشات ويتم التزاوج وتؤخذ البيوض منها.

ـ يحفـظ البيض داخل ورق أبيض ناعم في البراد للسنة القادمة، وعندما يأتي موسم التوت القادم يخرج من البراد ويوضع في مكان دافئ (24 درجة مئوية) لمدة عشرة أيام تقريباً، حيث تخرج من كل بيضة يرقة (دودة) ، وبسرعة يفرم لها ورق التوت على قياسها. وكلما ازداد حجمها يفرم الورق بقطع أكبر حتى تصبح الدودة بقياس الورقة نفسها، وتتغذى منها مدة 40 يوم تقريباً لتغدو قادرة على نسج الشرنقة.

– نحتاج الى 110 شرانق تقريبـاً لصـنع ربطة عنـق مـن الحـريـر.

– نحتاج الى 630 شرنقة تقريباً لصنع قميص من الحرير.

– نحتاج الى تربية 3000 دودة قز تأكل 65 كلغ من ورق التوت لصنع كيمونو من الحرير السميك.

– 8000 دودة قز تأكل 170 كلغ من ورق التوت وتمكننا من صنع عشرة قمصان من الحرير.

– إن شرنقة متوسطة الحجم تحتوي على 300 أو 400 متراً من خيط الحرير.

– إن الشرنقة الأنثى تزن أكثر من الشرنقة الذكر.

ميزات الحرير

ـ له لمعية ينفرد بها عن بقية الخيوط الكيمائية والطبيعية.

ـ يمكن صبغه وطبعه بمعظم أنواع الصباغ ويعطي ألواناً جميلة وجذابة.

ـ ملمسه ناعم وطري يزيد لابسه رونقاً وجمالاً.

ـ عازل ممتاز للحرارة لذا فهو دافئ في الشتاء وبارد في الصيف.

ـ يمتص الرطوبة حتى معدل 30% من وزنه ومع ذلك تشعر به جافاً فهو يمتص العرق ولا يلتصق بجسد من يرتديه.

ـ أمتن الخيوط على الإطـلاق فإذا أخــذنا على سبــيل المثال خـيطاً من الحــرير وخــيطاً مـن الفـولاذ بالقــطر نفسـه فإنهـما فـي هــذه الحـالة بالمــتانـة نفســها).

غوتنبورغ ـ السويد 20 ـ 09 ـ 2005

——————————

(الهايكو)

محمد عفيف الحسيني

(الزر الياقوتي الذي يتلألأ على قميصك الحرير،

قطرة من دمي).

نور جاهان

تهتز الأشجار،

لقد جاء الربيعُ.

دربوا أحصنتهم على الصهيل،

كلما مرتْ بها، كولسن.

الآجر صامتٌ،

وكذلك الجرح الخفي، للعاشق.

لسانُ ناقوس كنيسة السريان مكلوم،

هَجَره طائره الأبيض.

لم تكن من بحيرة، ولانهر،

فقط، بضعة شجيرات في عامودا.

تحت تلك الشجيرات المعذبة،

نام الزائرُ الغريبُ.

في المغيب،

خرج مار يعقوب الرهاوي، إلى العقيق.

ثمرةٌ غريبة،

هي ثمرة نصيبين.

الزر الياقوتي، الذي يتلألأ على قميصك الحرير،

قطرة من دمي.

قطرة، قطرة، قطرة

لاشيء آخر في هذا الكون.

لقد تشققتْ ثمرةُ الفريز،

كان ميتان، يأكلها، العام الماضي.

ܐܶܥܳܐ ܟܪܳܚܰܡܥܳܐ ܠܶܟܼܝܸ

أنا أحبكِ. بالسريانية، تقول ثمرة الفريز.

ـ ماذا يعني هايكو، ياسيد؟.

ـ أيقظتَ البرونز، ياسيدي.

ـ هو ألمي، ياسيدي الكبير الرهاوي.

ـ لقد وصل الهراطقة.

ـ هل معهم، صديقي، نسطوريوس؟.

اخضرتِ الأشجارُ.

هي عباءة بافي كال الخضراء، منذ خمسمئة سنة.

اقطفني، فقد أينعتُ،

يقول الهايكو الكردي، المجهول.

اشربني يانسطوريوس،

تقول زهرةُ الأقحوان.

أتوا بمخطوطاتهم، وآلاتهم النحاسية، في التنجيم،

وقرؤوا، فيها الهجرانَ،

أولئك، أبناء أعمامك، الكلدان.

تنام بتلتان من الختمية

على أذني كولسن.

حطتَّ طيورُ الفلامنكو، من جديد، في البحيرة.

طيور، حمراء، مثل نبيذ الروز.

سائقو الشاحنات الرهيفون،

يتمددون، بجانب طيور الفلامنكو، ويزعقون بأبوابقهم القوية.

أصابعُ رجلي متشققة،

عليهما أثر وحل عامودا.

جاء الغرابُ،

جاء معه، الأبيضُ الميتُ.

ـ ماذا تسمع؟

ـ أسمع، كيف يسقط رنينُ الناقوس، على الأرض؛

على أرض عامودا.

الزيزفون،

يشبه رحلة زينفون الأغريقي، عبر كوردستان.

كانتْ أزهارُ الحندقوق، تكبر

فتتحول إلى قطط بيضاء.

ـ هل نسيتَ ناقوسك، يامارُّ، في قطار ضواحي غوتنبورغ؟.

ـ نعم، تركته، فقد كان نائماً.

كولسن.

كانتْ نائمةً، في قطار الضواحي.

يهتز عقيقها، ويغفو بجانبها الليل.

حافياً، ببردعته المتقشفة،

قطع، مشياً، بعلبك، حتى لالش،

ترافقه، ألف وسبعمائة، من الطواوييس.

مات هناك.

ـ امتلأ الحوشُ، بزهور صغيرة بيضاء؟.

ـ حنيني، لكَ، أيها الزائرُ الغريبُ.

ـ لمن كل هذه البيارقُ الخاسرةُ؟.

ـ إنها لكَ، أيها الزائرُ الغريبُ.

على شفتي، نامتْ،

تلك النورانية، المشعشعة.

هي لازالتْ، نائمة.

مقطع من كتاب، بالعنوان نفسه، قيد الطبع.

***

——————————-

الشوارعُ ـ الأمهاتُ

الشارعُ ـ الخانُ الأممي

الشارع الأول

محمد عفيف الحسينيتمر الباصاتُ، الحصادات، المنجنيقات، العربات التي تجرها البغال، الدراجات الهوائية والموتورات، السيارات، العربات الرومانية ذوات العجلة الواحدة الأمامية، تمر الشاحنات الكبيرة والصغيرة، تمر قطعان الماشية، والإوزات القديمة، تمر الأبقار القليلة، يمر المشاة: نسوة ورجال يحملون حافظات الهجران، تمر البيك آبات، تمر سيارة مدير الناحية، وسيارات المخابرات، وسيارة رئيس البلدية، وسيارات اللصوص ـ القطط المتخمة في الدوائر الرسمية: الزراعية، التموين، الجمعيات، البلديات، الجمارك، مؤسسة الحديد ومشتقاته البنائية. تمر أحمال المهربين الغنية بالخطورة والجسارة والموت. تمر الألغام والحديد الصدأ التركي. مرَّ أيضاً منذ زمن قديم جملٌ واحد، وكان يضحك. بنات آوى، الضباع، العقارب الصغيرة الصفراء القتَّالة. الهوامش من الحيوانات، والهوامش من النبتات الصيفية القوية الجافة، أو بعضها الخضراء، والبنية، بثمارها “خصية القط”، أو “خصية الثعلب”. ربما لم تمر خصيتا الثعلب من هناك. فتمر الحنطورات.

تمر ناقلات الجنود، وعربة صانع شعيرية الخريف، وعربة صانع “شامو شكر”، وعربة الكعك المحلى المرشوش بالزعتر أو السمسم، عربات نقل القش الذهبي المتفجر، أو عربات الفجل والخيار والبندورة والسبانغ الكبير الورق، والبقدونس والبصل.

لاتمر عربات الفواكه والزيتون.

تمر مراكب المسؤولين الأنيقين، وهم خمائل الشارع ومتونها ورب أرباب الشارع، فينتهكونه.

تمر مصفحات ومراكب ومدافع (الهاونات)، وعجلات ونياشين ومسدسات وكابلات العذاب وعصي الفلقات الخيزران اللدن الذي له فحيح مثل فحيح لاأعرف ماذا، والكراسي الألمانية، التي تمدد فقرات نجوم الظهيرة، ويمر المؤنسون والسمّار، وشاربو الكأس، وأبناء المزارعين بعد موسم مليء بالحنطة والعدس والشعير. يمر السائقون ـ دون مراكبهم ـ، في سيارات أجرة خاصة بهم، من أول المساء، إلى آخر المساء، حيث يغنون بصخب وجلبة، في طريق عودتهم من إبنة الكروم، إلى إبنة النوم القهار.

يمر الكرد، العرب، الآشوريون، الكلدان، السريان، الأرمن، الجاجانيون، الإيزديون، الملائكة، جبرائيل وعزرائيل، وملكا الموت، والبراق العجيب، وتمر نفرتيتي، في رحلتها من واشو كاني، إلى لعنة الفراعنة، يمر الميتانيون، الحثيون، تجار الفينقيين ـ تجار خشب الأرز، تجار ماردين الجلود والنعال والحدوات والحلاوة المخلوطة بالسمسم وماء الزهر والحلويات المكتنزة بماء السكر القطران، يمر الحسحسوك من فصيلة خصيتي الثعلب، وليس من فصيلة البشر. مر أيضاً ديغول رئيس فرنسا، كما قال خالنا أوسي شارو. ومر جمال عبدالناصر، كما قال صلاحي، ومر صلاحي، في مشواره اليومي القلق الذي يقطعه في ثلاثين كيلومتراً، وهو يرتجف من لثغة المخابرات والبرد بلغاته المتعددة. مر أيضاً بائع زهرة الخشخاش المدوخة قريباً من الجسر، ومرت جياد المنورين، وجياد الآغاوات، وجياد الآمر الفرنسي، والآمر البعثي، والناهي. مرت أيضاً ليلاً سترةً “مريمكي”، عاهرة الزمان والمكان. ومر الأيوبيون والعثمانيون والسلاجقة وأصحاب المجازر، والناجون من المجازر، حواريو المسيح، والذين يحبون الزبيب والنبيذ والخبز المدلل في أعياد الميلاد، مر هذا الخبز الذي صنعه الكلدان من ماء صورهم القديمة، وطحين نزوحهم المندهش، مرت “حبة البركة”، الحب الأسود الذي يُرش على هذا الخبز الأصفر المهاجر.

لم يمر خالد بكداش.

تمر الألوانُ. والمتون والصخب وأكياس الحناء، وبالات شوالات الحبوب المشدودة بالمعدن الثقيل بأسوده الذي يشبه الباذنجان، ويشبه القهوة التي على حافات نساء الفالات في الأمسيات الحارة، وبرائحته التي تشبه رائحة الأصطبلات. وبثقله الذي يعادل ثقل المنفى.

تمر أكياسُ التمر المستوردة من العراق. توابل الهند. سبحات الحجاج الكرام. أمطار العائدين من منافيهم القسرية أو الطوعية. وقد تلوثت ذاكرتهم بنسيان المرور.

تمر أكياس الصخب، وهبريات موصل الأصلية، وتبغ خرسي الأصلي، وسكاكين الكباس بمقابضها العقيق المزور. تمر الحركة الخاطفة لتلك السكاكين، فتقتل من تقتل في قهوة مقهى كوي، وتذبح الديكة الرومية على مشارف العيد والشارع والقيامة والسوق القديمة القيصرية التي عالج فيها بوزو برازي عضلاته بصنع اللباد، اللباد الذي يفرش على خيال المارين، وعلى مساء المارين، ليرتاحوا، أخيراً، من المرور والسفر الذي جعلهم منكوبين حيارى وحيدين ويابسين، مثل الحرمل الخشخاش.

تمر النوارجُ، تدور شفراتها الفولاذ.

فلا يمر أحد.

هو الشارع من نزلة هليلكي، إلى الحارة الغربية في قامشلي.

راكب واحد.. فقط راكب، وتنطلق سيارة الصالون الروسية الصفراء، من عامودا إلى قامشلو.

راكب واحد.

فلا يركب أحد.

تمر المنجنيقاتُ الخشب، المغموسة بالبترول في صيف كامل. والدجاج والبط والديك الرومي والخراف وأمهاتها والثيران والبغال وسيارات العائدين من المريخ، وعلب الحمص بالطحينة، والحدبة الخفيفة لأشواق العائدين، والحدبة الخفيفة لمرثية الشارع المنسي.

لايعود الميتُ أبداً.

كان الميت يتذكر الشارع.

الشارع الذي تدور فيه شفرات الفولاذ النورج.

يمر في الشارع الكلاسيكي لاأحد.

ختم الختّامُ الشارع.

مادة حمراء، تسيح في الحرارة، تسيل، ثم تجف بسرعة، وبين الجفاف والحرارة، تتصلب، فيأتي الختام ليختم الشارع. يذوب القصدير اللدن على الشارع وعلى الختم، يلف القصدير والمادة السخام الأحمر، الشمع الأحمر بسلك من القصدير. يلفه جيداً، يبرم السلك كثيراً.

فيختنق الشارع.

فيموت الشارع.

الشارع الذي فيه أشواق المحاربين والمنفيين وضيوفه الملونين بماء جغجغ.

تمر “مريمكي”.

تتهادى “مريمكي”.

السكين الكباس، بمقبضها العقيق المزور، السكين الكباس تذبح مريمكي، من البئر الفرنسي، إلى آخر عضلة في أنوثتها التي سفحتها كثيراً بالقرب من الشارع الذي مر فيه جمال عبدالناصر، كما يقول صلاحي.

Hagakyrkan

الشارع الثاني

1

من ساحة Järntorget، إلى كنيسةHagakyrkan ، ثمت معابر ثلاثة: الشارع الرئيس المنتهك بالترامات والباصات والسيارات والدراجات والمشاة مع كلابهم وسيارات الاسعاف المرعبة وسيارات البوليس غير المرعبة، وأحياناً مركبات الاطفائية، والأشجار وقنال البحر وأسماك البحر، وبضعة تماثيل برونز، منها تمثال صيادي السمك، وهم يقدمون طرائدهم في أوائل القرن العشريني، حسبما كتب السبّاك البرونزي ـ الأسماكَ التي تتلوى على صحن من برونز، ثمت صبي، وثمت كلب أيضاً، وثمت كنيسة السمك، في نفس الشارع الرئيس، الصخاب ليلاً نهاراً. وثمت مستشفى لاستقبال حالات الاسعاف. الشارع الرئيس فيه مبنى للمسرح، ومبنى لطلبة تعليم اللغة السويدية، وكنيسة Hagakyrkan، الشارع فيه ظلال السنوات القديمة والحديثة، للمظاهرات الصخابة الضاجة باللافتات والنكران والاحتجاج، والبيارق التي تهدأ بعد المرور. لماذا تقوم المظاهرات؟. يحتشد القطيع، يتململ القطيعُ، يسير ويسير ويصرخ ويصرخ القطيع. الساحة فيها تماثيل الكون الأرضي المتمثلة بخمس قارات نزلت من أماكنها إلى أماكن الحجر المنحوت، وهي التماثيل البرونز، ستظل تعاني صيفاً من ماء النافورة التي تسقسق على مؤخراتها البرونزيات، ومن ذرق النوارس الهائلة الحجم، تذرق على رؤوسها، وتراقب المارة والجالسين وحركة الترامات والدراجات، ومواعيد بضعة عشاق قلقين في ساحة المقهى، ثم في الولوج إلى المقهى الدافىء الحار، العابق برائحة الطمأنينة والسيكار.

ثمت أيضاً في الشارع الأول، المعبر إلى الكنيسة، رائحة سكارى من بدايات القرن العشرين، حيث كانت الساحة، هي مركز المدينة، قبل انتقال المركز، إلى مركز آخر. الرائحة القديمة لمخمورين، أكلوا من تلك الأسماك البرونزية، ورموا ببقايا الحسك واللحم الأبيض العالق به للنوارس التي كانت ترتطم ببعضها البعض بجانب القنال ـ الشارع.

الشارع الساحة مفروم مثل بصل وبقدونس مطعم آل طاووس، الساكنين في عامودا، البصل والبقدونس مرشوشاً عليهما الملح والسماق، ويقدم مع الكباب المتخم بإلية الخراف وطزاجة شوي اللحم الشاب على الفحم الشاب المستقدم من أمكنة الشمال: قرى نصيبين، أشجار أنهار منسية، في مدن وقرى وقصبات كردية منسية. كباب فخم. كباب لاوصف له، ولاوجود له في الشارع الأول ـ المعبر.

يؤكل مع كباب آل طاووس، رمّان الخريف الرمز، وقرنان من الفلفل العصبي الرمز.

على الجانب الثاني من الشارع، القنال، بعد القنال، شارع حرام. قبل عشر سنوات كانت تقف فيه القحبات الحرام، اليائسات من أزواجهن، الصخابات، يلبسن السراويل الحمراء الشفافة المغرية على أفخاذهن الملساء الصلبة المتخمة بالقات، يدخن، يغمزن، يشرن بإشارات من الفجور إلى المكتنز نعمةً وغير نعمة.

أشارت إحداهن. في الجانب الثاني من الشارع، بالقرب من الأسماك البرونزية التي تتقلى في الزيت، دون رأس، دون زعانف، دون خيال، دون أحشاء، دون الحسك الفضي اللامع. كانت تشبه تلك السمكة البرونزية، قحبة شارع القنال.

تالياً، القانون السويدي الراقي، منع العهر في السويد..

2

المعبر الثاني المعزول، إلى الكنيسة، لايمر أحد فيه، ولايعيش أحد فيه. غير كردي حيناً وحيناً، في الظهيرة يقطعه، في ظهيرة أجراس الكنائس الأحد. معه لاشيء. فقط يتأمل أوراق الخريف في الربيع. أو يتأمل الممكن في نقائصها: الأجراس الأجراس، ثم أجراس المدارس في عامودا. يقطع المعبرَ عجائز السريان التاريخ، من طور عابدين، وكلس ومديات وحلب وعامودا.

ثمت في الشارع العزلة الأممية، لاشيء في الصباح، قرميد نائم، في صباح الأحد. مقهى نائم. عشب نائم مستيقظ، ومواء قط كبير في نافذة الشارع الضخمة. نساء سويديات، عجائز ذهبيات في التسعينات، لكن بأناقة الثلاثينيات، ذهب أزواجهن إلى موتهم الهادىء في السبعينات، وهن يقضمن ذكراهم القديم منذ أكثر من ثلاثين سنة، يمررن بأحجار قبورهم، يسقين الذكرى الميتة بماء الذكرى الأنثوي الجاف، ويسقين الشموع بالزيت، والزهر بالحركة المرتجفة من أصابعهن، فيدلقن الماء على رؤوس النائمين تحت الحجر والزهر والشمع، فيغضب الأزواج الموتى منهن، وهم يراقبون التوشيحات النقوش الدانتيللا القديفة الغربول الأطلس اللامع البرتقالي أو الأحمر المنطفىء، أو الأسود الأكثر فجوراً بين الألوان على الأبيض، أو الأخضر الباهت، مثل أخضر جذوع تلك الأشجار، التي تحرس أولئك الموتى الحزانى، عندما تغادر تلك الثلة من التسعينيات إلى الشارع الثاني ـ المعبر الثاني، ليصلين بأناقة وبطمأنينة العناكب التي ستقتنص فريستها في كنيسة عامودا القديمة. يتحركن إلى ماكنة القهوة، يشربن القهوة، ويتأوهن على ذاكرتهن التي بدأت تخون حركاتهن الأنيقة المشغولة بأعمال الدانتيللا اليدوية، والتي احتفظن بها، حتى اهترأت من الذكرى والحركة الخفية القديمة في مصاحبة الرجال الذين كانوا معهن قبل عشرين أو ثلاثين سنة.

تتمزق الذكرى الهادئة، لإحداهن، وهي تسقط على الأرض، في الشارع الثاني، من الحركة الثانية. بعد عودتها من الصلاة، إلى الشارع الذي لايمر به أحد، ولايعيش فيه أحد. فقط سيارة مرعبة من سيارات الإسعاف تحمل سقوطها، إلى الشارع الثالث، تعبر السيارة إلى المستشفى. تشتعل الأضواء البنفسجية الفاضحة، لتشعل جسد الميتة، في الشارع الميت في يوم الأحد.

آمين.

يتلو القس في كنيسة Hagakyrkan.

(طوبى للحزانى،

لأنعم سيُعزَّون.

طوبى لأنقياء القلوب،

لأنهم سيعاينون الله.

نذرع إليك يارب،

برائحة هذه البخور.

الآن، وإلى الأبد.

آمين…).

فينطفىء الشارع الثاني المعبر إلى كنيسة Hagakyrkan.

فيشتعل الشارع الثالث.

3

الشارع الثالث، يقع في عامودا، وليس في السويد. يمر عبر كنيسة الأرمن القديمة المبنية من الطوب غير المشوي، وسينما عامودا الأولى، التي انطفأت، قبل حريق الثانية الشهرزادية، وقبل بناء المركز الثقافي العربي في تلك الساحة، التي ركن فيها آل أبو حديد حديدهم الخردة، من الحصادات بجرومها الضخمة، والتراكتورات بعجلاتها الممزقة، وآلات مكائن تحرث الأرض الكردية المباركة حرثاً بالفولاذ. فيلعب الأطفال مع الخردة، فتموت إبنة أب وأم جيران لخردة آل حديد، من النزول من الحديد إلى إنغراز الحديد في رأسها الطري الشقي، القصير العمر.

الشارع الثالث، هو شارع العبور الصعب ـ الامتحان. منكر ونكير في آخره، كل منهما اختطف من قوات حفظ النظام البعث، هراوة من خشب العماء، لينهالا بهما على رأس المار المارق.

الشارع الثالث، هو شارع الزيزفون أيضاً، والخاتون والمشوار اليومي إلى الحب البسيط؛ شارع الرقة والعذوبة والخيال، والخبز السرياني، والعمة السريانية، والخالة السريانية، والأيقونة السريانية التي تحتها ستكبر نبتة المنفى في الشارع الثالث، في غوتنبورغ، في المعبر الثالث. إلى الكنيسة الخضراء، التي دخلتها فضولاً، فكان نعش الرقيقة السويدية، يرقد بطمأنينة على المذبح، وأبونا، يقول آمين، أقف منذهلاً خجولاً، أجلس على المقعد عند البوابة، يمد جاري السويدي بكراس لي، أتابع فيه صلوات الأب. وأتمتم: آمين.

آمين.

أسدان ذكران، متجهمان.

الأول على اليمين، الثاني على اليمين أيضاً، في انحراف الشارع، من عامودا إلى غوتنبورغ. أسدان من برونز، يجلسان على قاعدتين من حجر، على الحجر خشب سويدي، هما مقعدان من الخشب، يظلان مقرورين طيلة شتاء السويد وعامودا. يتفرج الأسد الأول على حامية السويد القديمة، حيث كنتُ هناك؛ يتفرج الأسد الثاني علي في نزولي من الحامية، إليه، فينفخ علي، مثل قط، عندما أمسك بذيله البرونز، أشد ذيله أكثر، الذيل الغليظ، الذي ينتهي بعقدة من الخرز، تشبه عقدة أوديب. تشبه جسارة أن تكون منفياً في الشارع الثالث الأخير المؤدي إلى كنيسة Hagakyrkan. يزأر علي هذه المرة، الأسد المتصلب من البرونز.

آمين. ياأمي.

الشارع الأخير في غوتنبورغ.

لايؤدي إلى أي مكان.

شارع عدم؛ غابت عنه أمي.

ليس آمين,

لاآمين.

في شارع مشتْ أمي فيه قبل إثنتي عشر سنة. وكانت تردد: ألاتشبه هذه الكنيسة جامع عامودا محمدو!.

آمين.

الشارع الثالث

I love you

دهن أحد الليلين المغامرين الصعبين الناطقين بعلوم الحب الصبغ، قاعدة برج كنيسة السريان، بخط خطاط: شارع الحب.

القاعدة بعلو بناء، من باتون وحديد وبقوائم من رنين الناقوس. القاعدة قوية حارة عريضة عالية ومشبعة بالصلوات. الساهرون السريان يقطعون اللحم القديد المفلفل، والكعك المبكر المخبوز في فرن عمنا جرجيس، وإبنه مروان العضلي، الذي يعجن عجيناً لربع سكان مدينة كنيسة السريان القديمة التي بناها أحفاد سمعان العامودي. ومسجد الشوافع العتيق الذي بناه سيدانا ملا عبداللطيف بمعية النقاشين من داري ونصيبين وخرسي.

I love you

جملة بالإنكليزية، كنا نطبعها بالصبغ على تي شيرتاتنا المراهقة, ونمشي بها، في شارع الحب، متباهين مثل ديكة صغيرة.

شارع أخير اختفى، من حكايتي.

الشوارع، هي الحكايات. وهي السرد الشاعري لشاعر مرَّ، ذات يوم في هذه الشوارع، فكتبها، لئلا تموت.

غوتنبورغ

2006 ـ 2010

————————

خالد بابان ، زيت على قماش المنفى

(خالد بابان، هذا الحائر مابين الهندسة والكيمياء والقصة وطائر مالك الحزين)

محمد عفيف الحسيني

(سوريا/السويد)

خالد بابانيرسم خالد بابان، مثلما يكسر الصحون الفرفورية، أويبني بناء يوتوبيا، أو يكتب قصة عن رعب القتيلة؛ يلون القماش بألف قلق، ومائة حقيقة، وثلاثة طوطمات، وجرعة طبية من الخل، وبضعة يقظات لشهوة الذي قبل أن يموت بيوم واحد، ونباتات صامتة متألمة طيلة حياتها الصاخبة في البيوتات المظلمة، ومثلثات متألقة يانعة ومتهتكة؛ مثلثات تستقبل بذور الحياة أينما كانت هذه الحياة، في المنفى، أو في الغد المتشقق، حلزونات نائمة بهدوء الطاولات، وكائنات من أسطورة النسيان، كائنات صخّابة، صعبة، متداخلة، متأملة ذواتها العارية، أو ذواتها التي تختزن كل هذه الكمية من ألم الحياة.

يقيناً، أن خالد بابان يرسم، مثلما يعيد تركيب الصحون الفرفورية، التي كسرها قبل قليل.

ويقيناً، أن تلك الخطوط المتماوجة في بعض أعماله، هي ذكريات تلك الصحون، عندما كانت جزءاً من رمل الشاطىء، أو حجراً قديماً في زقورة من زقورات بابل العظيمة. ليس من مشهد في زيتيات الفنان، غير مشهد مرآة كافافيس، والتعمق في هذه المرآة: إمرأة عارية، ذاكرة برتقالتين، صحن ـ غير مكسور ـ، فيه الانتظار، نساء مستحمات في العراء، عاريات مكتنزات عمياوات، وغارقات في الأزرق المندهش، أخلاط الله والبشر الهندسية، حيث تتراكم طبقة طبقة، وقصة قصة، فتتكون اللوحة عند خالد بابان. سليل اللون الأميري القديم.

***

ـ لكن، أين طائر مالك الحزين؟.

ـ هو يختبىء في التصوف الذي يرسمه خالد بابان: عارياً، مملحاً، مكتملاً، مشعشعاً، أخضرَ، أحمرَ ملتهباً، أو هادئاً رضياً ممتلئاً، منطفئاً، مثل الأمس.

ـ لكن، أين طائر مالك الحزين، الملون بالأبيض فقط؟.

ـ هو الفنان نفسه. الفنان خالد بابان. بهندسته للكيمياء والقصة على قماش المنفى الصامت.

***

نقطة واحدة من الأحمر القاني، انسكبت على القماش الأبيض، هي دم طائر مالك الحزين، الذي عاد أخيراً.

غوتنبورغ السويد، نهاية صيف 2008

ببيوغرافيا

خالد بابان:

    من مواليد، نهاية النصف الأول من القرن الماضي.

    خريج كلية الهندسة المعمارية، كراكوف ـ بولونيا، سنة 1970

    اشتغل في: بغداد، الجزائر، والسويد.

    يقيم حالياً في غوتنبورغ السويدية.

    له معرض في أوائل الشهر التاسع 2008، في مقهى Gerkstrand ـ Centrum Angered في مدينة غوتنبورغ، للوصول إلى مكان العرض، أخذ الترام رقم 4، أو رقم 9.

————————

 جكرخوين، الذي أشار لي من نافذة بيته

    محمد عفيف الحسيني

    الحوار المتمدن-العدد: 2348 – 2008 / 7 / 20 – 08:16

    عندما توفي سيداي جكرخوين، كنتُ في عامودا؛ خرجتُ مع مَنْ خرج، إلى جانب

    المطار، لاستقبال جنازته ـ روحه الشاعرية التي ماتتْ في ستوكهولم، ودفنت

    في منزله، حيث أنتم الآن، ولستُ أنا، ولا السيد الكبير.

    في غرفتي في عامودا، كانت صورة كبيرة له، بالأبيض والأسود، معلقة، لاأعرف

    أين راحت، بعد نزوحي إلى السويد.

    كان جكرخوين، يحتضر، وأنا كنت أفكر بالذهاب إلى الدولة التي مات فيها منفياً.

    كلانا من عامودا، كلانا نكتب الشعر، كلانا عشنا في المنفى السويدي، هو

    مات فيها، وأنا لازلتُ أعيش فيها.

    تلك السنة، بعد وفاته، وفي ستوكهولم، كنا ثلة من الكتاب في حارة تينستا

    Tensta، التي تعج بالمهاجرين والمنفيين من أمثالنا، مررنا أمام بناء،

    أشار لي أحدهم، بأن جكرخوين، كان يسكن هنا، وأشار بأصبعه على شقة ما،

    للحظات خيل لي بأن الشاعر ناداني، بحركة مبهمة، لم أفهمها، لكن، وكأنني

    رأيت زناراً معلقاً على الحائط، مضفوراً بألوان علم كوردستان، تلك هي

    المرة الوحيدة، التي مررت بها أمام بيته.

    لكن، في ستوكهولم، وأيضاً في كل زيارة لي، لها، لابد أن أذهب إلى مقهى ـ

    قبو، خاص بالشعراء والتشكيليين والموسقيين، أخلاط الله المبدعة، كلها

    تجتمع هناك، في هذا المقهى، أتخيل بأن هذا المنفي الشاعر، كان يتردد

    إليه. وقد كتبتُ، وقتها فصلاً كاملاً عن وجود الشاعر هناك، كتابة

    الفانتازيا حوارياً مع عمي الشيخ صدرالدين، الذي كان يلقي قصائده في

    المجالس، غيباً، وفي عامودا، وأيضاً في القامشلي، لكن، ليس في السويد.

    لاأعرف كثيراً عن فعاليات مهرجانكم، لأنني انقطعتُ منذ حوالى العشرين

    سنة؛ لكن، راقتْ لي الفكرة كثيراً، خاصة وجود جائزة باسم الشاعر الريادي،

    مادام ليس له إسم في أي شارع من شوارع قامشلي أو عامودا، أو حتى في قرية

    هيمو!؟، بالطبع الممنوع، واضح؛ الممنوع الشمولي، الذي لايرى إلا نفسه في

    المرآة.

    أتمنى، لو قام أحد النحاتين الكرد، بصنع تمثال يليق بهذا الكبير، ينصب في

    بيته، مع ضريحه المبارك، أسوة بما يجري في العالم.

    لكم التقدير، أتمنى لكم الموفقية.

    محمد عفيف الحسيني، الذي يعيش في البلد الذي مات فيه، سيداي جكرخوين.

—————————–

ته رزه جاف (*)

عند تمثال شرفخان بدليسي

محمد عفيف الحسيني

(سوريا/السويد)

عند تمثال شرفخان بدليسيشرفخان، ياأبي القديم الذي من الحبر.

شرفخان، ياأبي من الزمن،

لم ألتقِ بك،

لكنني رأيتكَ،

كنتُ معك أُشعل لك تاريخي المنفي، في أوربا.

مررتُ، بجانبك، ولم تعرفني، ياأبي الكبير.

كنتُ إبنك اليتيم، الوحيد، العذب، الصافي مثل البرونز،

وكنتُ معك، أسأعدك في تاريخك وفي رسوماتك للنساء الحافيات.

ساعدني، ياأبي، لأنساكَ، ياأبي.

***

من دار ابنك “عبدال خان”, مخفية في أوراقك،

عن نشوة أعدائي بالدمار

إمراة منسية من حبر؛

إمراة كما لاأزال،

متمرغة في ألوانٍ،

تحمل ذكريات شجر،

اختبأتْ تحت ظلالها قبلاتٌ هاربة ٌ.

مخفية أنا

كما اللاشيء، كما اللاأحد،

لأكونَ

شاهدةً على تاريخٍ

لستُ فيه غير حبر وورق.

***

المنمنمات، هي تاريخك، وتاريخي.

والهجرة،

والقلق، والصعب، والفضول، واللذائذ، والهجران، والمجادلات الخفيفة بين صياديك، والرهط المكسور، والفضة، والشهيق، والدم، والنفخ في الأصابع من شدة اللون المتهتك النافر، والعلوم الضائعة، واللغة الضائعة، والعلامات الضائعة، والتاريخ الضائع.

ليكن، ياسيدي، لتكن رسوماتك، هي رسوماتي في المنفى، وفي الذين غدروا بك، وغدروا بي. لتكن أنت البعيد الميت، تقرأ تاريخي المقفل، المجلجل بألف وداع وزفير.

أحصنتك تتدرب على الإمارة،

وأشواقك تقترب من أشواقي، ياأميري القديم.

لتكن أختامك، هي أختامي، فأنا حفيدك، ياسيدي المشعشع.

***

من تاريخ اللامكان، واللازمان

هو رجل يحمل بين يديه

“أنا”.

أنا, بأخطائي, بألمي وقلقي،

وكل ذلك التاريخ الذي خبأني في ذكريات كؤوس نبيذ،

لم أشرب منها غالباً.

أنا

بتاريخي المنساب على العدم كساعة “دالي”،

على خارطتي التي اختار لها الرب أن تكون للآخرين.

هو رجل من اللامكان،

وأنا

محملة بألمي،

منتشية بمواساة قبلات مثلجة،

أقِفُ عندَ تمثالكَ،

أبحثُ عني.

***

هايكو كردي للسيد البعيد: شرفخان بدليسي

لقد سقط حجرُ خاتمك، السندروس،

هو الخريف ياحفيدي.

جاءتك حفيدتُك، السندوروس،

هي ربيعك، ياحفيدي.

نضج تاريخك، السندروس،

هو تاريخك المكسور، ياحفيدي.

تساقطتْ أوراق شجرة السندروس،

هي إمارتي القديمة، يابني.

***

كانت الحفيدةُ، والحفيد، يتحاوران حول الحقائق البنية، والسندروس الضائع، والتاريخ المسوّر بالقيشان، ونقوش الألم، وصناعة الحكمة، وكيفية طبخ “ميافارقين”، وصناعة كتاب شرفنامه؛ الكتاب الذي أضاعه الحفيدان، وهما تحت شجرة السندروس، نائمان، مثل هايكو ياباني؛ هايكو ياباني، رسمه الجد، شرفخان بدليسي على جلد إمارته الضائعة: حفيدان عاشقان وقحان.

***

تولى مسند الحكم، بعد وفاة والده، الطائرُ الرقيق، الذي رفرف بخياله على خيال حفيدته الشقية، وحفيده الذي ينحف كل يوم، مثل جوقة من عازفي الأبواق القديمة النحاسية، وهي تنفخ للسيد: يمر بها، هادئاً، يفرك أصابعَه ـ ألمَه، فهو يريد أن يرسم، أكثر من أن يكون أميراً.

يريد أن يكتب عن بدليس، أكثر وأكثر، وعن طيور البازي والشاهين والدجاج الغبي، والحب الغامض، الذي أتاه من بعيد؛ الحب المرتجف، مثل أحصنته المرتجفة، وهي تصهل له، عندما يذهب إليها، عصر كل يوم، يطعمها من روحه، ويمازحها:

ـ كوني قوية ياأحصنتي، تحملي إمارتي التي ستتلاشى، كوني قوية ياأيتامي، بعدي.

***

مائة وسبعة عشر، من أحصنة السيد كانت تصهل، ترافقها، سبع عشر مهرة طائشة، في الغروب،

ومن الغروب، حتى الغروب، عطش الأمير، فنادى حفيدته: أين أنت أيتها العذوبة القلق؟.

كانت حفيدته تطبخ له البرغل الناشف، وبيديها المرتعشتين النحيفتين، تطعم أحصنته الشعيرَ؛ كانت حفيدته، مهجورة مثله.

***

وحفيده؟.

هو المدوِّخ من ولايته ـ ولاية الطيش، التي ألّفها بالفارسية، وترجمها بنفسه، إلى الشجن، وإلى لغة أن يصغي بنفسه إلى صوت جده القديم، وهو جالس تحت تمثاله، يسمع لهاثه، ويسمع أغنيته الملونة عن المزاج والصحة والضجر والجبن الأبيض والكافيار المقوي والندماء الهائجين والخرائط الثلاث لـ كوردستان وغضب أحد أحصنة الأمير وهو يحمحم، يلوك أوراق الأمير، ويأكل الإمارة كلها، والحب كله، فيطيش الأمير، وتطيش معه إمارته:

ـ لنذهب أيها الثرثار، ياحصاني.

تحمحم المائة والسبعة عشر من أحصنته، تراقبها المهرات الحزينة؛ فهي ستبقى.

لقد سافر الأمير مع حفيده إلى قلعة دياربكر، ليغسل حجرها بماء الحب، ويمسح عنها التطاحن؛ يجعل حجرَها أكثر هدأة في الحب، ولتكون صامتة عندما يمر بجانبها: الحفيدة والحفيد، اللذان من نسل شجر السندروس الذي ينتعش الآن؛ ينتعش، ويرتعش مثل الأمير شرفخان، وهو في طريقه إلى تدوين شرفنامه.

***

ـ هل تحبها، ياحفيدي؟.

ـ نعم، ياجدي الهايكو.

ـ هل تحبيه، ياحفيدتي؟.

ـ نعم، ياجدي الهايكو.

***

في الحلم،

شجرةٌ,, ضمتها, ابتسمتْ حالمة، تنهدت..

استيقظت.

كتب الله على الشجرة: ماكان يجدر بها أن تستيقظَ.

من منفاها الذي هو قريب من كل شيء، إلا هي, جلست تراقب وتستمع.

هو لم يفسح لها المجال للتفكير, للندم, لذرف الدموع, أو حتى لايجاد الكتاب الذي أضاعته الأيام,

كانت مجرد لحظة “كم تشبهين أنتِ بشعرك المموج”؛ استيقظت منها بسرعة لتجد الغضب والاتهام,

سألت: ماالذي يجلب كل هذا الألم؟.

سألت, سألت, وسألت، حتى قررت أن تتوقف عن السؤال..

وفي خضم ارتجاف القلب وفقر الدم وقلة الحيلة، نسيتِ الحفيدةُ جدَّها، وبدأت تغني.

المستمعة الوحيدة لغنائها

كانت القطة الجائعة,

وحين جلستْ بهدوء تنظر إليها

أدركتْ أن الله راضٍ عنها.

***

لم تكن ضائعة، كانت مدهوشة. لم تكن صامتة، كانت تسمع إليه. لم تكن خرساء، كانت نائمة. لم تكن ميتة، كانت تحت البنج القوي. لم تكن دون ألوان، كانت حيلةً. لم تكن دون قرون، كانت قرونُها مكسورة. لم تكن دون ألم، كانت هي نفسها الألم.

هي خواتمك، ياجدي، التي معي الآن، أيقظتُها، بعد أربعمائة سنة، خواتمك المقهورة عليكَ، تناديك.

وتنادي على أصابعك الملوثة الميتة، منذ عام 1604، وأنت تمهِّد خيالك، للذين سيكتبون عنك.

***

(ولما كان الشاه إسماعيل هذا في الواقع متلون المزاج، لا يستقر على قرار، وقد أثّر عليه أيضاً إدمانه تعاطي الأفيون أثناء ما كان محبوساً في القلعة، تأثيراً سيئاً، بحيث لايمكنه مصادقة أو مجالسة أحد أكثر من شهر واحد، فلذا وجدتْ هذه السعايات والوشايات من أهل الغيرة والحسد مجالاً فسيحاً ومرتعاً خصيباً لديه، فأقدم على قتل البعض، وحبس البعض الآخر، وعزله، وأما أنا الفقير إلى الله تعالى، فقد أمر بإخراجي من البلد بحجة إسناد حكومة نخجوان إلي، فأرفقني بقوة عسكرية، تخفرني حتى “آذبيجان”).

***

كنتَ، مهجوراً، ياأميري، لم تكن معك أحصنتك ـ عذابك، ولم تكن ألوانك معك، كنتَ أنت الأفيون. ياسيدي، ماهو الأفيون؟. ومن بيازيد حتى السويد، كنتُ معكَ، وتوقفتُ معك، عندما سلخوا لك تاريخك، وكانت معك حفيدتك المجنونة الخافتة مثل رقة شال على كتفيها، وهي تقف بجانبك؛ تقف أمامك، وهي تنتشي مثل حبة فاصولياء، تنتشي مثل رهطك المتوقد، مثل حب، ومثل عينين في الانتظار، ياسيدي، ياشرفخان. مثل عيني قطة في الظلام، تبرق وتبرق.

***

وكأنه كان موجوداً منذ الأزل،

وكأنني احتضنته حين ولادته.

واليوم..

أبحث عن كتاب جاءني في زمنٍ

فاتتني فيه كتابة رسائل شغوفة، كانت صديقاتي تكتبها, في وقت كنت الوحيدة.. أبحث في تاريخ, ربما عن نفسي, ولا أزال..

غريب أمر صفحاتٍ.. ترشدني اليوم إلى رسائل كانت دوماً هنا..

شرفخان

ياجدي الذي مزجني بالألوان فبعث فيَّ الشعر..

شفافةٌ أنا اليوم, كنبع عشق وألم، أبحث عن نسيم عذب, كان دوماً هنا، وأنا لاأزال ..

الكتابة،

ليس لها مكان،

والحب لايعترف بالزمن

وهو يتدفق كزمزم بين الإثنين.

***

الترسُ العسكري، اللحية الناشفة، الأنشوطتان الجلديتان من أعمال هولير، والسبحة الزهر من أعمال البحار، العينان اللتان ليستا في الأمان، والقلق مثل خزانة النبي نوح، قبل أن يرسو بسفينته على جودي، الحصار الأبدي على خصلات شعر كثيف في الحناء.

سأعذبك ياسيدي، تحملني ياسيدي القديم مثل طغرائك بحبره الأسود. تحمل أشواقي للثديين المتفجرين، لثديي أمي التي فطمتني مبكراً، ياأبي.

الترس العسكري، السيف الذهبي المنور، البردعة السوداء المنقطة بالتاريخ، الرُسل الإثني عشر ـ العلوم، الخف الجلدي، الحفيدة الشاحبة، الأقفال التي ترتجف في غيابك، الشرود والشرود.

تعوي كلاب الصيد، فقد لمحتك، تعوي لك، تهز بأذيالها، تركض إليك، فتطعمها من إمارتك الضائعة، مثل حبك الضائع.

تخلع الترس العسكري، تخلع الأنشوطتين، وتذهب إلى منمنماتك ـ حبك، ياجدي.

***

شرفخان، ياجدي النبيل

كنتُ سأضع عمامة “شاه بك”، وأخطو, خطوة خطوة وراء أثرك, لولاه هو!.

كنتُ سأجمع من خلف عباءتك الحرير لآليءَ الكلمات وعطر الألوان وصدى الحكمة, لولاه!.

حمامة رقيقة, أنا حفيدتك, سحرني ريش شاهينك الجبلي، عشقت الطيران في حضن مخالبه الحنون.

كنتُ, ياجدي الجليل، لولاه, لأشعلتُ شموعاً أضيء بها طرقاً، ربما فاتتك.

كنتُ سأفعل أيها النبيل.

لولا أن خطواتي بدأتْ منه.

سحرتُ ياجدي في اللامكان, تسمرت يا جدي في اللازمان، واقتنعت بسرعة بأن الشمس لاتغيب!.

حلمتُ ياجدي العظيم “إنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ”.

لقد وقعتُ في الحب.

وقعتُ في تلك الحلكة، فاشتعلتُ بألوان قوس قزح, سعيدة بتعاستي.

لقد عشقتُ ياجدي العظيم.

كوردستان ـ غوتنبورغ، 2008

———————————-

غوتنبورغ ـ فاس (كنتُ سليلَ البخور، وكنتِ سليلةَ القيشان النبيلة)

لطيفة المسكيني ـ محمد عفيف الحسيني

غوتنبورغ

1

صمتُ الشتاءِ،

وزفرةُ الخطا

إشراق.

عوسجُك ربيعٌ لامنتهٍ.

2

نساؤكِ ـ غوتنبورغ

تماثيلُ ودمىً.

حدائقك عري ليالٍ

متعبدةٍ في أجسادٍ.

3

حراً كريشة

أو مقيداً

كقطرةِ ماءٍ

لك الموائد

بنبيذها.

4

نبتةٌ

تزين شرفةَ

الأمس القريب.

ضوءٌ كأنه

صوتٌ دانٍ بعيدٌ،

وطرق يبللها

دَهَشُ الراحلين.

5

كم حلماً شَيد

حصنَه

واكتفى

بالكلمات سهاماً

رمى بها الأمكنة!؟.

وكم ورقاً بنينا به

بيتاً لهذا الوقت!؟.

هنا ذاب مطرٌ

وانصرفَ النديمُ.

6

صمت

بلل عماي.

والبريقُ السابلُ للأعين

لمَّع بؤبؤَ الأشياء،

إليكَ عادتِ

الغريبة.

7

ثمة نغمةٌ تلوِّح

منا،

لرحيق الورد

لصخب الغجر الذاهبين.

باقٍ أثرُك

أثري.

8

عارٍ

إلا من صفاتكَ،

صخبي

زعفرانٌ مرتجفٌ.

9

لغاتنا عديدة

والنبيذ واحد.

فاس

1

في الطريق إلى فاس

كان حفيد سيدي أحمد التيجاني،

في النور، ينتظر حفيد بافي كال.

وكان الإشراق.

2

النهدان في الغفوة

العسل على الطاولة

ومطر أخضر على المرأة الغريبة.

الغريبة تشرب الغفوة

فتستيقظ غوتنبورغ.

3

يفوح الجفاف منها

يفوح الجفاف منه

بينهما تين متشقق.

4

أصابعي لغفوته،

الذهب بعيد

ثمة رائحة البحر والقواقع

والأنوثة.

الأبيض

يتدفق على النمش.

5

الرذاذ الذهبي

في الطريق إلى فاس

الرذاذ الذهبي

على مخطوطة بارام.

6

بارام

في مسام التيه.

7

أسمع القواقع تنام

الأسماك

نظارات كافافيس

وإليوت

ثمة حب ينمو بجانب

المساجد والقواقع النائمة.

8

في رشفة النبيذ

تساقط القلق على

الشراشف وزجاج

نافذة البارحة اليوم.

9

طير ينام في فاس؛

طير يراقب الحب، كيف ينتش.

1 0

كنتُ سليل البخور،

وكنتِ سليلة القيشان النبيلة.

غوتنبورغ

فاس 2010

————————-

محمد عفيف الحسيني … عن فرهاد، عن الرماح الضوئية للموت

محمد عفيف الحسيني

عن فرهاد، عن الرماح الضوئية للموت

1

لم أفكر بأنني سأكتب يوماً رثاءً، في الرحيل المفجع للديناميكي مثل مولِّد كهربائي متحرك أبداً؛ هو فرهاد جلبي (1961 ـ 2004)، شقيق الحياة المتشظية لي، بدءاً من تلك الصيدلية الصغيرة في تلك الزاوية الصغيرة في تلك المدينة الصغيرة. كنت أستحصل منه الدواء والضحكة، وتالياً من شقيقه شيركو الثقافة، الذي كان أردهاناً لمكتبة صغيرة في الزاوية الثانية الصغيرة في تلك المدينة التائهة، أعني عامودا.

لم أعرف فرهاد السياسي، ولم أكن أعرف بأنه في تنظيم كوردي سياسي أصلاً، كنت أعرف بأنه ينتمي إلى مملكةٍ أكثر وسعاً، من مملكتي؛ مملكتي هي الزاوية الصغيرة في تلك المدينة الصغيرة، للشعر؛ مملكته امتدتْ أكثر، وربما هذا الامتداد جعلتْ من فرهاد يتذوق مرارةَ أن يكون تائهاً في تخوم مملتكه الثقافية، والسياسية التي لم أعرف بها. في تلك الزاوية، كنتُ أُخرجه من بين آثام القوارير ومملكتها، إلى مملكتنا الشعر ـ مملكة المشي الليلي في شوارع عامودا المبللة بالرماح الضوئية للموت، الرماح التي تئزُّ في عبورها، تشقُّ الأشجار الخفيفة للحياة، وتستقر في بطون الكتب الكوردية المصورة سراً، والمتداولة سراً، والمقروءة سراً في تلك الأماسي التي تستقر فيها النجوم على مشارف الزاوية الصغيرة للحياة الصغيرة التي في تلك المدينة الصغيرة.

2

درَّسنا سوياً، دروساً مختلفة طائشة: الرياضيات له، والعربية لي.

ذهبنا إلى جيش الوطن السعيد سوياً، أخذنا ورقة سعيدة من التجنيد الوطني السعيد، وذهبنا إلى ثكنة هنانو السعيدة في حلب، ومنها ذهبنا إلى مدينة النبك السعيدة، حيث الفرز السعيد في جهات الوطن السعيد.

ومررنا في نفس الطريق، الذي أزّت فيه الرماحُ الضوئيةُ للموت على فرهاد وشقيقيه زبير وشيركو.

ولم نلتقِ بعد تسريحنا من الجيش السعيد في الوطن السعيد.

3

قبل عشرين سنة، كانت قوارير فرهاد جلبي تداوي الجرحى. ألم يخبىء له قارورة من أطايب الموتى، ألم يمرَّ البلسمُ على الجرح، فيقوم، فيداوي الجرح، فيقوم القتيل؟. إذاً ، لم تكن من قارورة تلك الصيدلية في جيبه، حين دَهَمَ الجرادُ الحديدي الهائل بأنفاسه الهالكة رئة فرهاد وصوت فرهاد وشعر فرهاد الذي لم أقرأ منه إلاَّ الشذرات التي تتحدث عن الموت، والحبيبة والوطن وأشياء أخرى مثل أعشاب النسيان، وباطنية الكتابة بالكوردية في محيط قاسٍ يشبه الشيطان.

أستعيد قصيدة، جاك بريفير، التي ترجمها فرهاد إلى لغتنا الجريحة:

عائلي

“الأم تصنع التريكو، والابن يقوم بالحرب، الأم.. تجد ذلك طبيعياً، والأب..؟ ماالذي يفعله الأب؟ انه يتعاطى التجارة. امرأته تقوم بعمل التريكو، وابنه الحرب، هو التجارة. الأب.. يجد ذلك طبيعياً تماماً، والابن.. الابن، ماالذي يجده؟ الابن.. لايجد شيئاً على الاطلاق.. لاشيء. الابن.. أمه تصنع التريكو، أبوه يتعاطى التجارة، وهو يقوم بالحرب. وحين ستنتهي الحرب، سيعمل مع أبيه. الحرب تستمر، الأم تستمر.. انها تواصل الحياكة، الأب يستمر.. انه يتعاطى التجارة، والابن وحده لايستمر… لقد قُتل.

الأب والأم يذهبان إلى المقبرة.

انهما.. يجدان ذلك طبيعياً تماماً. الحياة تستمر مع التريكو، الحرب، التجارة، التجارة، الحرب، التريكو، الحرب. التجارة، التجارة، التجارة الحياة تستمر مع المقبرة”.

لم يكن فرهاد ذلك القتيل في قصيدة الفرنسي.

4

أنظر إلى الصور التي التقطها محمدنور شيخ باقي، ـ الصور القبر ـ، الصور الفانتازيا، الحنين، العيدان التي اشتعلت عليها الزهور، ثم خبتِ الزهور. الغُمامُ الذي يلف الشواهدَ العجولةَ ـ غمامُ بلوكاتٍ شاهداتٍ ـ سيأتي معماريُّ، يبني على تراب شرمولا، رخاماً شاعرياً، سيأتي الملاَّط، ويملِّط الحوافَّ بالشعر، ويأتي الشعراء، ويأتي الأهلون، وستأتي القوارير الصغيرة، في تلك الصيدلية الصغيرة، في تلك الزاوية الصغيرة، في تلك المدينة الصغيرة، ستسفح روحها على روح الياقة الدموية لقميص فرهاد الذي هتكته الرماحُ الضوئية للموت.

5

في عامودا الآن، قبر كبير يسع لثلاثة من الذين ينزفون: فرهاد، زبير، وشيرو، الدم طري، والأجساد طرية، والقلوب لازالت تخفق، والقلق يخفق، والمساء الخائف يخفق، والزهر المرمي على التراب يخفق، يجفّ الزهر، وتجفُّ الأجساد أيضاً.

6

شاعران غائبان شابان راحلان: فصيح سيدا العشريني ـ الذي أحرقته عقاقير التنظيف من شحوم الحصَّادات ـ؛ فرهاد جلبي الأربعيني ـ الذي مزَّقه الجرادُ الحديديُّ الهائلُ؛ شاعران يضمها تراب عامودا؛ يتحدثان الآن عن الرماح الضوئية للموت، والعقاقيرِ التي علينا ألا نتجرَّعها، لئلا ننساهما.

7

تحت تراب شرمولا، يرقد بطمأنينةِ الموتِ، شاعران، كانا لنا، فأخذهما الهتْكُ ـ الموت. السلام لهما.

عن أي سلام أكتب؟!

السلام، أعني الإبر الضوئية للموت.

—————————-

 الإيزيديون

كلمات محمد عفيف الحسيني السبت 5 كانون الأول 2015

أخوالي من جهة الطاووس ملك. بروقٌ تتناثر على آلاتهم الملكوتية، بروقٌ تتناثر على سمائهم المضطهدة، بروقٌ وبروقٌ واضحة في الجبل، بجانب كولسن، بجانب شيخي البروق ـ شيخ آدي؛ شيخي الذي أغرقوه في الترف واللغة الكليمة، في الحجرة، في الزمن، في الأناشيد التي رتلوها لها، تلك التي البتول كولسن. يتلفت شيخي الكبير المعطر بعطر من اليعاقبة والنسطوريين والحقول الذبيحة والقلق والدخان الذي يتصاعد من الحب الكبير في معسكرات المنفيين أمثالي؛ يلتفت شيخي الكبير الإيزيدي إلى كولسن، يدهن جسدها بطيب من الظلام والمقدس والخيانة، وعلى تخومها يستنجد بالآلام، يستنجد بالملك الكبير الطاووس الذي ذبحوه، هناك على الأرض: قيدوا رجليه الرقيقتين بشريط من حرير قامشلي، نتفوا ريش ذيله المبارك، طووا جناحيه الثقيلين على الطيران، بقبضة السكين الخشبية، أشعلوا في روحه الحب: سوف نذبحك أيها الطائر الملك. كان الطائرُ القدوسُ يبكي، لأنه لن يغني بعد، فقد ذُبحتْ حنجرتُه بسكين تشبه شفرات الحلاقين، أو المطهرين. ثمت في غوتنبورغ، طائر الطاووس. ثمت في غوتنبورغ، طائر المنفي. يعزف الروسي الأيزيدي صباحاً مساءً على آلته الأكورديون، عزفاً يتحدث عن ذلك الطاووس الذبيح. في غوتنبورغ، تعيش كولسن مع الأيزيديين، يبحثون معاً عن ريش الألم؛ الألم الذي ينام على الأرض، ويسيل على الأرض مثل قهوة لن يشربها ضيوف المنفي، الذي يبحث مثلهم، عن الريش ـ طاووس ملك الذبيح. Mon Amour Mon Amour يعزف السيد الروسي على آلته السيدة الأكورديون، يعزف أيضاً، نفس الأغنية ـ العذاب، الشيخ الكبير قبل مئات السنوات كان يهرب من بعلبك، إلى كوردستان، وهناك أنشأ المطلق الكهنوتي: Mon Amour. ـ Mon Amour ـ ماذا قلتَ؟ أسأل السيدَ عازف الأكورديون، الذي في نفق غوتنبورغ، شجياً، وقاسياً، وبارداً من نفحة هواء قامشلي. ـ هل تحبها، ياسيدي؟ ـ هل تحب الغيتار؟ ـ هل تحب البرتقال؟ ـ هل تحب عامودا؟ ـ هل تحب الطريق الذي يمتد من عامودا، إلى كولسن؟ ـ هل تحب الألم؟ ـ هل تحب أخوالها النساطرة؟ الطريقُ الذي يمتد من عامودا إلى توبس، هو طريق نوراني، هو طريق الملك “غوستاف الأول”، الذي مات مثلي في المنفى؛ الطريق الكثيف الذي مشتْ فيه كولسن، وهي تتذكر جدها «بافي كال»، ذلك الذي كان يقطع شهوته الوقحة بالمشي، فيمشي ويمشي، من لالش حتى قامشلي، ومن الحروب حتى الطمأنينة، بجانب الحجارة الناصعة التي على روحه المنفية، مثل روح حفيده المنفية. في لالش، رأيتُ شيخ آدي، رأيتُ حجرته المرتجفة، رأيتُ نورَه الذي على الصباح الرؤيا. سألني شيخي المهاجر آدي بن مسافر: ـ أين بافي كال؟ سألني شيخي المهاجر: ـ أين كولسن؟ سألني شيخي المهاجر: ـ أين تقيم يا بني؟ سألني شيخي المهاجر: ـ أين حفيدي ميتان؟ سألني شيخي المهاجر: ـ هل قرأتَ لي ماكتبته عن كولسن؟ شيخ آدي، هناك، يتأمل عازفَ الأكورديون الفقير. جاءتِ البروقُ، جاء الرسولُ، جاء ضبابُ الصباح، جاءتْ تراتيلُ الأيزيديين، جاء الغد الكبير السيد، جاءت كولسن ـ سيدة المنفى، جاءت Mon Amour، العتبُ يتبعها، ويتبعها الأورانج والفضة والكهرمان والفجر والسكين التي ذبحت الطاووس والرنة الذهبية لصوتها الذهبي، وجاء المحتشدون، وجاء المساء والنكهة بطعم فلامنكو، جاء درَج الشيخ «حتو»، الذي من سلالة الطائر الذبيح، جاء عازف الأكورديون. الجميع أتوا؛ وغابت كولسن، شقية المحاربين، شقية أخوالي من جهة الطاووس ملك. تعزف آلة الأكورديون للبتول كولسن: Mon Amour كان عازف الأكورديون أعمى، مثلي. Mon Amour * شاعر كردي/ سوري مقيم في السويد ** النص من كتاب معد للطبع بعنوان «كولسن: Gulsen»

——————————

الألمُ على المرآة

‫- محمد عفيف الحسيني – شاعر كردي سوري يقيم في السويد | مارس 1, 2017 | شعر, نصوص

الألمُ على المرآة         

كان يحملُ كشْكُولًا، ويركبُ نَوْرَجًا، يدرس به قشّ الشمال، وكُرْكُمَ شيخوختِه.

وهي -العاشقةُ- تراه بمرآتِها:

الألمُ-على-المرآة-٢له رائحةُ التّيسِ الجبليِّ، وعنادُ كبشٍ مدللٍ.

هلالُه أخضرُ على زِنده الأيسرِ.

نقّاشُ الخافقيْنِ.

نقّاشُ الألمِ.

قابسُ الفضّةِ من مرآتِها.

وهو -العاشقُ- ببرونزه، يراها:

لها رائحةُ العسلِ، وعناد الكريستال.

لها نجمةٌ، أسقطتْها بين أصابِعه، فأخذها.

نقّاشةُ الليلِ.

قابسةٌ بنفسج شفتيه الراعلتين.

قابسةُ هلاله الأخضر، البرونزيّ.

كَفَلُ حصان يرتجفُ.

كفلُ حصانِ غوستاف أدولف الثاني، البرونزيّ، يرتعشُ.

صهيلٌ ذهبيٌّ، يسمعه الغريبُ في غوتنبورغ.

صهيلٌ أخضرُ، تسمعه الغريبةُ، وهي تراقبه في مرآتِها.

أسيوفٌ قصيرةٌ تلمعُ في ظلامِ شيخوختِهما؟

https://www.alfaisalmag.com/?p=4385

—————————

قصائد ونصوص و مقالات منشورة

كوكب مضرح بالأسماء-مواقف     أبريل – 1991

https://archive.alsharekh.org/Articles/11/15766/351408

ستصنع أزاهير صفراء.. منطفئة- الناقد يناير – 1992

https://archive.alsharekh.org/Articles/168/15816/353092

كتاب العميان نزوى يونيو – 1995

https://archive.alsharekh.org/Articles/232/17829/398633

الغائبون برنينهم وخشخشة مفاتيحهم البيان_الكويتية يناير – 1997

https://archive.alsharekh.org/Articles/219/19365/436503

شيزوفرينا تافوكت فبراير – 1997

https://archive.alsharekh.org/Articles/191/16676/374906

شيركو بيكه س في”مضيق الفراشات” نزوى أكتوبر – 1997

https://archive.alsharekh.org/Articles/232/17916/402295

مجاز غوتنبورغ-نص البيان_الكويتية يناير – 1998

https://archive.alsharekh.org/Articles/219/19376/436725

أكورديون أعمى في غوتنبورغ عازف- شعر البيان_الكويتية يونيو – 1999

https://archive.alsharekh.org/Articles/219/19392/437007

انتظار-شعر البيان_الكويتية ديسمبر – 1999

https://archive.alsharekh.org/Articles/219/19397/437109

من منا يرتجف أكثر في المنفى؟ البحرين الثقافيةيناير – 2006

https://archive.alsharekh.org/Articles/187/16759/377196

الألم علي المرآة الفيصل مارس – 2017

https://archive.alsharekh.org/Articles/285/20557/467252

==========================

حوارات مع “محمد عفيف الحسيني”

——————————-

محمد عفيف الحسيني: أنا سليل شرفخان بدليسي. وسليل جيل شعري ضائع.

كنتُ أريد أن أكون نجَّاراً، وليس كاتباً

(في هذه اللحظة أشتاق إلى عامودا)

حاوره: مسعود خلف

1

محمد عفيف الحسينيمحمد عفيف الحسيني، مواليد عامودا 1957، والنزيف منها عام 1989 إلى السويد. مزيج من الهجرة والفقدان؛ مزيج الدين القديم والشعر الحديث؛ أشعر أحياناً بأنني الابن الوحيد للسيد الكبير: “شرفخان بدليسي”، وحيناً الأب الصغير للشعر الكوردي، أشعر بأنني إبن فقط، للسيد الشيخ عفيف حسيني. أنتمي إلى جيل شعري كوردي ضائع: كتبنا بالعربية عن قيامة الكورد. وبقيتْ روحي دائماً، تلتفت لأن أستطيع الكتابة بلغتي، لكن، لم أفعل حتى الآن، لأنني أخاف أن تأخذني اللغة الكوردية، إلى تخوم لا أجيدها. بدأت الكتابة، منذ حوالي العقدين، ووجدتُ أن الكتابة بالنسبة لي، هي المنقذ من ضلالة التعريب، والحياة ـ القسوة لأهل عامودا. لم أكتب، لأجد اسمي في قِدْرِ الركاكة السريعة، كتبتُ، لأعرف نفسي أولاً، ولأعرف معنىً بسيطاً، لسؤالٍ بسيطٍ: في أي مكان سأفرش لضيوفي ـ ضيوف القدر، ما أظنه الجدير بالكتابة؟.

2

ولدتُ في بيئة هي خليطة من أعراق الكتابة والدين والذاكرة الشجية للغات. وجدتُ نفسي ملموماً بين شيئين: الكتب والفقر. الكتب هي التوابل اليومية للذاكرة، والفقر هو توابل الطفولة الشقية التي منعتنا من الإحساس الباذخ بمعنى هذه الكتب. أينما انتقلتُ من منازل الأهلين، كانت الكتب هي التي تفور من الجدران، الكتب التي كان الفانتازي الأرجنتيني “بورخيس” يتحدث عنها، وهو في عماه البصير. الولادة، ثم الحبو، ثم أن تجد نفسك، فجأة في حضرة الأقطاب: الملا جزيري، المتنبي (الفاشي العربي الكلاسيكي)، إبن الفارض، المتون التي لاتنتهي لكتب تدون السيرة الأليمة للكتابة. في الوسط الذي عجَّت به الكتبُ، وعلى مبعدة القليل دياربكر، حيث في المدينة الجد الكبير المقدس “بافي كال”، وأيضا النزيف الهجراني للسلالة من أطراف آمد، إلى نعمة الله، نعمة الأرض، دون ألغام حدودية، ونعمة الكتب ـ الفقر. جدي “الشيخ محمدى موزا”، الذي ارتقى “كري موزا”، كان بإمكانه، أن يدون الأراضي المباركة باسمه، لكن، التفت، إلى المباركة الأشد كثافة: الكتب. كان يقتني الكتاب ـ المخطوطة، في حين التفت الآخرون، إلى الأرض. مات الجد مبكراً، وأغلب كتبه احترقت في “حريق عامودا” ـ طوشا عامودي؛ الحريق الذي أشعله الفرنسيون عام 1937، في المدينة، الحريق الذي أتلف كل تلك الكتب ـ الثروة. مات الجد صغيراً، في الثالثة والخمسين من عمره، وكان ثمت منزل له، منزل قريب من الجامع الكبير، ومن السوق الصغيرة الأليفة “العرصة”، تقاسم الأبناء البيت القديم، توزع الأبناء من البيت القديم، وبقي الشيخ عفيف، قريباً، من أنفاس ذلك البيت، قريباً من تقاسيم المساحة المباركة التي تضم رفاة الثروة من الكتب، بنى له منزلاً فقيراً، وتزوج، ثم ولدتُ، كنا نحفر أرض الحوش، لنخفي فيها مواردنا الطفولية الممنوعة: صور الممثلات، والدحاحل، والشجن الطفولي المراهق. نحفر مقدار شبرين، فتخرج مقدار شبرين من مصكوكات جدي الحريق. الكتب. الأغلفة الجلدية المزينة، الأوراق، ليس من أوراق، بل الصحائف الحريق. أرسلت لي الأقدار الأرضية، بيئة، ربما لم أكن أريد أن أكون فيها، كنت أريد أن أكون نجَّاراً، وليس كاتباً؛ لكن الأقدار في العائلة، جعلت من مسار منشاري وقلمي الرصاص العريض، المركون على أذني اليسرى، والنشارة الخشبية التي تتكوم أمام أقدامي، وأزيز الخشب، والطلاء اللامع على نوافذ بيوتات عامودا، والجروح الصغيرة المستديمة على أصابعي. كنتُ أريد أن أكون نجَّاراً، وليس كاتباً. ولازلتُ أشعر بأنني ذلك النجار الذي يريد من الخشب اللغوي، أن يكون خشب الغابة الطري، وخشب التاريخ الفاجر ـ الملهاة الكوردية.

ربما العائلة، هي التي دفعتني إلى ذلك، عبوراً بجلال الأشجار التي نزحتْ مع جدي الأول: “أوركيش”. وانتهاء بالحجرة المنوَّرة للشيخ عفيف، التي فيها درستُ أن الحياةَ هي الكتب. ودرستُ فيها أن الحياة ليست فقط الكتب، بل النجارة أيضاً؛ أهملت النصيحة الثانية، أهملت النجارة، فظللتُ ذلك الفقير القديم. لكن الكتب ظلت ثروتي التي لن تحترق، مثلما احترقت ثروة جدي؛ لستُ في عامودا الآن، وليس ثمت من يحرقها ـ الكتب الممكنات، وبلاغة أنني لازلتُ أدون شيئاً واحداً أحداً: أريد أن أعرف الظاهر من الوجود، أريد أن أعرف كيف سأبدأ بحياة تلك الحجرة القديمة، التي انذهلتُ فيها، وشردتُ فيها، وأنا أسمع رخامة الأصوات الكوردية، بدفوفها ـ دفوفِ الشجن والريحان والتصوف والتأويل والذبح والوله والجفاف المتراكم على جلود المغنين ـ العازفين الفقهاء الشدو. في حجرة الشيخ، لم أبحث عن أي شيء، ولم أفقد فيها أي شيء؛ لكنني فقدتها أبداً؛ يقيناً هي مثل كتبي القديمة ـ كتب الحياة، ستظل بأثرها الكتوم تدون معي، ما أريد نقله من الحياة إلى الكتابة، ومن الكتابة إلى الحلم، ومن الحنين إلى المنفى.

3

أنا، منفي عن تلك الحجرة: الوقت، البعث، البطالة، النزيف من الحجرة إلى حضرة أصحاب العيون الشقر الجميلين الرائعين الخجولين (السويديين)، الذين جعلوا حياتي أكثر متعة في الكتابة والحياة والحنين أيضاً إلى بواطن الحياة في عامودا القديمة. لم أذهب من الرواية إلى الشعر، بل، ذهبتُ من الشعر إلى الرواية، كتبتُ شعراً كثيراً، أتلفتُ معظمه ـ معظم البدايات، وأيضاً مالا أرضاه إلى اليوم، لأكون في صرامة النشر، وفي صرامة نقدي لكتابتي، لم أبحث عن الاستسهال، بحثت عن الصعب، الصعب الذي يأتي بسيطاً واضحاً وفاجراً، مثل ألم الأسنان مثلاً، ومثل أن يستدعيك رجل مخابرات ثقيل.

4

في السويد، أعدت توازني الشعري إلى نفسي، كتبتُ القليل القليل، وغامرنا سوياً: أحمد حسيني، وأنا، في ديوان مشترك، هو بالكوردية، وأنا بالعربية؛ كانت حلبجة تقصف بـ “علي كيماوي”، وكان المغني الفذ “محمد شيخو”، قد توفي قهراً من المخابرات، وكان حنيني إلى تمثال سينما عامودا طازجاً، بعد تركي للسينما والحريق والنصب والله المشدوه، والعصافير المشدوهة، طبعنا ديواناً فانتازياً آنذاك، أحمد تجربة طباعية أولى، له، وأنا كذلك، بلغتين مختلفتين. مع ذلك جاء الشعر، وجاء الديوان، وهي البدايات الطباعية، في بدايات التسعينات. اللغة اقتربتْ من الحنين، وشعر الكتاب الأول الهادئ. لكن، بقي الشعر بيقين الصرامة. اشتغلتُ تالياً، على أن أدون الشعر ـ الشعر، والحياة في المنفى. طبعت كتابين شعريين أخريين، ثم في حلم من أحلام الله، كان علي أن أكتب نصاً نثرياً أقرب إلى الحلم، من الواقع، أردتُ فيه أن أعيش تجربة المنفيِّ كتابياً، بعد أن عشتُ التجربة حياتياً، فكانت “جهة الأربعاء”. موازنة بين الحياة والحلم، وبين المنفى وعامودا، وبين النساء والجنس، وبين اللغة الكوردية والعربية، وبيني القديم العامودي، والذي يقيم في السويد؛ موازنة أردت منها أن أعرف أين أعيش. كنتُ بحاجة للنثر، في حياة جديدة عليَّ، فيها القتامة والاختزال، فلم أختزل، اختزلتُ حياتي إلى كتابتي. لكن، ظل الشعر بمصكوكاته في روحي. مثلما الأزل. في مجاز غوتنبورغ، وهو كتابي الشعري الرابع المطبوع، كنتُ قد تخلصت من مجازفة ورطة الشعار مع النص الشعري، الذي بدأت به؛ كانت تجربتي الشعرية، قد أخذت منحاها الهادئ، وكان المكان السويدي قد استقرَّ في وجداني وبصري أيضاً، المكان السويدي، الذي تكثّف في روحي، عبر مدينة غوتنبورغ البحرية، المشهد البصري للمدينة، والتآلف معها، خلقا عندي مايشبه الحوار مع المدينة: منفي مع مدينة؛ وكان الدخول في التجربة، يشبه تخوم الحدود الملغومة. لم أكن قد كتبت عن المدن، غير عامودا. وها أنذا في امتحان الأعجمي في لغة أعجمية، في روح تتآلف مع برونزها أكثر من أي شيء آخر. دخلتُ الامتحان، بخفيَّ الرياضيين، وزانتي، كما يقول صديقي سليم بركات، دخلت، ولغتي العربية ـ بلائي ـ تساعدني في ذلك، عندي اللغة الكلاسيك القوية، المشبعة بالفانتازيا، وإلى حد ما الوقحة، أي، أن أكون واضحاً فيما سأكتبه، بعيداً عن التهويمات الشعرية، بعيداً عن غير الذي أعيشه، لأدوِّن المدينة، إذاً؛ فدونتها. فكان التدوين ـ الكتاب، شعراً ألماً. ليس أكثر من ذلك. اقتربت من روح البرونز النائم في روح الملوك والشعراء والرعاة والمهندسين والغزلان والقديسين، الروح الخضراء لهذه الأنصاب الخضراء، المنتصبة في غوتنبورغ. كان علي أن أجعل العنوان أيضاً: مجاز غوتنبورغ.

5

حجلنامة، كانت مجلةً، مشروعاً حياتياً كبيراً لي. أردت فيه أن أنقل عبارة الجنرال ملا مصطفى البارزاني، رسالة الحجل. الذي سألوه مرة: أين تنتهي حدود كردستان؟ فأجاب: حيث يحط الحجل. أردت فيها أن أنقل الحجل الكوردي، إلى حدود أخرى، إلى الحدود خارج كوردستان، سأقول بدون أي تواضع، أنني فعلت ذلك؛ نقلت الثقافة الكوردية إلى الآخر. ثم فشلتُ، في تأمين تمويل ثابت للمجلة، تمويل نظيف واضح، وبالطبع كوردي. قدمت فيها ثراء ثقافياً، قلما استطاعت مجلة كردية ـ بالعربية ـ فعل ذلك، ورغم تجربتها الزمنية الخاطفة، وفي إلقاء مسح سريع على الألف والمئتين من صحائفها: الشعر الكردي، استقراءات نقدية مسؤولة، النثر، الرحّالة إلى كردستان (أجاثا كريستي) اللطائف، الأدعية الإيزيدية القديمة، الحكاية، الأسطورة، القص، الكرد في لغة الآخر غير الكردي، المعتقدات، التشكيل، التاريخ (وهو عدد مزدوج خاص)، وأخيراً إبداع المرأة الكردية بكافة تجلياته (أيضاً العدد الخاص المزدوج)، لم يكن الأمر بهذه الانسيابية في التعداد، بل تجاوز إلى محنة الجمع والترجمة من لغات عديدة: الكردية، التركية، الفارسية، الانكليزية، الفرنسية، الألمانية، الروسية، ومادوّن أصلاً بالعربية. حجلنامة، لم تعد الآن.

6

لم أعد أشتاق ـ حقاً، إلى عامودا. غادرتها شبه مطرود منذ أكثر من عقد ونصف، ثم التجأت إليها مرتين. غادرتها شبه مطرود، بسبب الفقر، ولزوجة المخابرات، وحقائق العملاء لهؤلاء، سأتقدم مرتين إلى مسابقة لتدريس اللغة العربية ـ حيث اختصاصي الجامعي ـ ستأتي تقارير لزجة، وواضحة: يرفض الطلب، بسبب الخطورة على أمن الدولة!. لم أكن أشكل خطراً على أحد. كنتُ أحب القطط والكتابة والحياة. الطرد الأول كان من طباعة كتاب لي، أولاً كتاب شعري مشترك: محمد نور الحسيني، زردشت محمد، وأنا، ثم الرفض. ثم الكتاب الأول الشعري لي، المرفوض من سدنة الثقافة في وزارة الثقافة السورية. تالياً. بعد سنوات كثيرة، ربما بعد قرن، ستطبع لي الوزارة نفسها “مجاز غوتنبورغ”، مع منحة خاصة للديوان المتميز المطبوع تلك السنة.

المرة الثانية التي ذهبت فيها إلى عامودا، كان قبل عام. منها انسللت إلى كوردستان، ومنها استدعاني الأمن العسكري، أولاً، ثم السياسي، ثانياً؛ في الاستدعاء الثاني، جاء رئيس المفرزة في عامودا، إلى حيث أكون، طلب ورقاً أبيض، جلبتُ له ورقاً أبيض “كومة من الورق”، وكان بمعيتة أحد الناطقين اللزجين، الشبيهين بكائنات الشمع، السيد سجل بهدوء كل شيء عني، والسيد اللزج الثاني، كان ينوّر الطريق للسيد الأول الأنيق الركيك.

عامودا، لم تعد مدينتي التي كانت. نزح منها أصدقائي. وتغيرت معالمها. البناء المدهش الجميل المرمر بلون سرقات الموظفين فيها، وتخمة البناء الفخم المسروق، وفخامة الفقر. وفخامة أن عامودا لاتعرفني. وفخامة أنني كنت أتيه في الوصول من بيتي إلى بيت الله. هل أقول أشتاق إلى عامودا؟ نعم. هي عدوانيتي تجاه كل شيء، لأنني فقدتها، مثل صديقي الإغريقي “قسطنطين كافافيس”، صديقي الأعمى مثلي.

7

المنفى أعطاني الشعر. في السويد كتبتُ الشعر. في عامودا، كتبتُ الشعر العجول. في المنفى كتبتُ بهدوء أشد.

8

الأيديولوجيا تقتل الشعر. لننظر إلى بابلو نيرودا في شعره الأيديولوجي، وشعره الآخر البعيد عن ذلك، ولننظر كذلك إلى ناظم حكمت. ولننظر إلى نزار قباني، وأيضاً أراغون، ومايكوفسكي، شعرهم الأيديولوجي مات في المناسبة، لكن، بقي الشعر الخالص. ولننظر إلى مدائح الشعراء الكورد لزعماء الكورد.

9

لم تعد المشاريع الحماسية تغريني، كما في السابق؛ لقد تمرّنتْ حياتي على الهدوء في الكتابة؛ وروحي البرية هدأت، والخيال صار يختزل ويكثف. صرت أكتفي بكتابة أسئلة الحياة، في تجريب لغوي شعري، أبداً. وقد سهتْ بي السنوات الأخيرة، إلى التقشف الشديد في كتابة الشعر؛ والاستقرار في النثر، النثر الذي يغطي مساحة من حياتي ورغبتي في هذه الحياة. أشتغل ببطء شديد على عمل روائي آخر. وأنجزت في كتابة يومية منتظمة، عمل شعري، نحوتُ به نحو التاريخ الكوردي الشعري والتصوفي هذه المرة. ذهبت فيه إلى شاعر كوراني مات في القرن التاسع عشر. العمل ربما صدر الآن، عن دار المدى في دمشق. لازلتُ أحب البرونز وروح البرونز الراكدة في خيالي. مشاريعي الآن، هي الكآبة: في هذه اللحظة أشتاق إلى عامودا.

غوتنبورغ ـ السويد

***

محمد عفيف الحسيني

قصيدةُ حبٍ، تتألف من بذورٍ ثلاثٍ للريحانِ، وقطتين

ولدتُ في بدليس، وغرقتُ في بحيرة وان

1

في بدليسَ ولدتُ. وغرقتُ في شهوةِ بحيرةِ “وان”.

ولدتُ في حلبجه، وفيها اختنقتُ بغازِ التخيَّل ـ الصباحيِّ.

في دياربكر ولدتُ، وفيها سقطتُ جريحاً.

في مهاباد ولدتُ، وفيها حلجتُ القطنَ وصوفَ المواثيقِ، ومنها هاجرتُ إلى صورةِ الأزلِ؛ في مهاباد استقام ضلعي، واشتدَّ الألمُ في مفاصلي الأربعة ـ مفاصلِ النقوشِ على مخدةِ الذي سيولد في متاهة الألم.

2

ولدتُ في عامودا. رافقتْني الطيورُ والحروفُ ومرآةُ الإغريقِ ـ مرآةِ زينفون العريقة؛ رافقني الألمُ، والسطرُ المتشكِّلُ من القوسِ الشمسيِّ ومن الحجر الشمسي، فركتُ ـ كحجر الخفَّان ـ بالحجرِ ركبتي الجريحة في المنفى. أنا ذلك الحجر المقتول، الذبيح، المدوِّم في تدحرجه من اللغةِ إلى الأرضِ ـ المرآةِ، يرتطم بالمرآة، فيهشِّم المرآةَ؛ مرآة الإغريق الذي وصفه سيدي كافافيس في قصيدته المثلية.

ولدتْ تلك المرآةُ بالقرب من أنفاس الآلهة بألوانهم الزرقاء، لوني أيضاً أزرقُ وباردٌ، لوني شاحبٌ وقلقٌ، لوني يشبه علمي؛ علمي الذي لم يخفقْ بعدُ في أروقةِ الرخامِ؛ علمي الذي خفق في خيالي، وفي خيال قاضي محمد المبجل، نبي الخيال والواقع والرخام.

3

ولدتُ في بدليس.

حملتُ ريشَ السيدَ الكبير الملوِّن الطاغية في المنمنماتِ؛ جبرتُ اللونَ، وكنتُ قاضي الماء ـ ماء وان ـ بحيرة قلبي الشفيفة، فولدتُ مرة ثانية قريباً من الشيخ آدي، رفرفرتْ عباءتُه البيضاء من وبر الماعز الجبلي، ورفرفت لحيته النبوية، ورفرف ذيلُ طائره القدوس: طاووس.

حملتُ معي ريش السيد البدليسي العذب، الأمير بعينيه المنتهكتين من المنفى؛ إلى المنفى.

4

كان إسمي شرفخان، قبل أربعمائة سنة؛ ثم صار إسمي قامشلوكي، بعد أربعمائة سنة.

كان إسمي ريشاً طائراً، ثم صار إسمي ليس ريشاً ولا طائراً.

5

لم أُولد في بدليسَ، بل جبتُ بعينيَّ المنتهكتين العصيتين، ماءَ منمنمات الأمير، وساءلتُه ـ الأميرَ، عن لوني الذي غمرَ الحجرَ القتيلَ، الحجرَ النبويَّ في عتبة شيخ آدي، مرَّّ عليه نبضي بلونِ الذهبِ، مرَّ على جناحيه القتيلين، شبحي القديم.

6

ولدتُ في بدليس.

وغرقتُ في بحيرة وان.

7

تتدافع في الماءِ آلهةُ الخساراتِ.

تنجو آلهةُ الخساراتِ.

ليقلْ لي السيدُ الغارقُ، ما اسمه؛ ليقلْ لي الغارقُ الطافحُ فوقَ الماء، مثل سمكةٍ كبيرةٍ ميتةٍ، إسم النحَّاتَ الذي صبَّ البرونزَ في المنفى؛ وصبَّ النارَ في السؤالِ الكورديِّ للكورديِّ:

ـ “أيهما يشتدُّ أكثرَ: النارُ، أم كاوا؟”، في سؤالٍ عدمٍ.

8

ولدتُ من أسطورة؛ ومتُّ فيها.

9

حمل الغرباءُ أختامَهم، وغرقوا في النسيان؛ لم يولدوا، مثلي؛ بل أغرقتْهم الحياةُ في المنفى، مثلي.

10

تتفتَّح الزهرةُ على شفةِ كوردي ولد في بدليس، ومات فيها.

تتفتح الزهرةُ على بدليس وعلى منمنمات بدليس، وتغرق في تاريخ بدليس الدم.

تتفتَّح الزهرةُ الثلجيةُ في الثلجِ، تمطر الغرباءَ بالشحوب.

يموت الغرباءُ

أموت أيضاً

بعد أن ولدتُ في الختمِ الملونِ المنحوتِ على جهات عامودا.

11

ولدتُ في بدليس.

استدرجني الموتُ إلى أن أموتَ، استدرجني إلى مصاطبه الجميلةِ العذوبةِ، فاستدرجت، إلى مصاطبه الجميلة العذوبة: كانت شفتايَ داميتين، وقلبي ينبض بالآلهةِ الكثيرةِ التي كانت تنظر إليَّ من سماواتها، تنظر بعينين كليلتين إلى الكوردي الكليل.

بذور ريحان

1

بذورُ الريحانِ، في كيسين من النايلون.

بذورُ ريحانِ الحُبِّ،

أهداني صديقي “فلمز”، الكيسين الريحانين.

2

البطانيةُ البيضاءُ الناعمةُ على الأرضِ الخشنةِ،

القطُّ البرتقاليُّ الكبيرُ النائمُ على البطانية.

القطةُ الصغيرةُ ـ الأنثى، تمد بمخالبها الطرية إلى الريحانِ الشجيرةِ الصغيرةِ، النائمةِ في نافذة عامودا.

بذورُ الريحانِ تنتش على وبرِ البطانية البيضاء الصريحة.

ينمو، للتو حبي.

3

أرتشفُ ماءً مغلياً من كأسٍ، يستقرُّ في قعرها بذرُ ريحانِ المنفيِّ.

***

آخين ولآت

1

الريحانُ في الشباك،

الريحان ظلال أمي على الشباك،

آخين أمي،

آخين الريحان، في شباك أمي، في عامودا.

2

ولدتُ في عامودا.

غوتنبورغ، أواخر 2004 ـ أوائل 2005

——————————

حجلنامه جزء من ولع الكوردي بالعربية

(وغايتها التدوين الثقافي والاقتراب من التخوم الممنوعة)

حاوره: قيس قاسم – غوتنبورغ

محمد عفيف الحسيني”حجلنامة”، مجلة متميزة بكل المقاييس الابداعية، كشفت من خلال زمنها القصير عن رؤية منفتحة على الآخر، الجارالعربي، متخلصة من عقدة النقص إلى رحابة الأفق الانساني، أمسكت بالهاجس الثقافي وتركت السياسي بعيداً، معتمدة على فهم يغلب التقارب الحضاري على صراعه، وهذا ما يتلمسه قارئوها بوضوح. غير أن المجلة، وبسبب من هذا التوجه، تعاني من صعوبات، وتعيقها حواجز كثيرة تمنعها من أداء دورها كاملاً، عن كل ذلك حدثنا رئيس تحريرها، الشاعر محمد عفيف الحسيني.

ـ لقد كتب حتى الآن، باللغة العربية، نصف الشجن الكوردي! ومساهمة الكرد في تدوين اللغة العربية وآدابها، لايخفى على أحد؛ وبالتالي، حجلنامه هي جزء من هذا الولع اللغوي، وجزء من ولع الكوردي بالعربية؛ لكن، هذا لايعني، أن حجلنامه، احتكرت الكتّاب الكرد بالعربية فقط، بل، حاولت أيضاً، نقل آدابها مباشرة من الكوردية إلى العربية، للجار العربي، الذي أَهمل نهائياً، وربما تجاهل هذا الشجن وهذه اللوعة. بالطبع، لم تكن غاياتنا في المجلة، غير هدف بسيط جداً، لكنه صعب جداً أيضاً: كيف يمكن تعريف الآخر بالثقافة الكوردية؟ لم تكن المهمة يسيرة، وماكان الهوى يترقرق كثيراً بين أيدينا، في ظل التشرذم الكوردي البليغ، لغة ووطناً وتشتتاً في المنافي؛ أيضاً يمكن القول بأن حجلنامه لم تتبنَ أبداً ترسيخ لغتها القومية، وهذه من مهام الأحزاب أولاً، والمؤسسات ثانياً، والإعلام الكوردي (بالكوردية) ثالثاً. وليس في اليقين أن مجلة ثقافية تستطيع فعل ذلك.

ـ صحيح، لكن، لم تهمل المجلة الجوانب الأخرى من الثقافة الكوردية، بل أزعم، أنه قلما استطاعت مجلة كوردية بالعربية فعل ذلك، رغم تجربتها الزمنية الخاطفة. وفي القاء مسح سريع على الألف والمئتين من صحائفها حتى الآن، ستجد ذلك: الشعر الكوردي، استقراءات نقدية، النثر، الرحّالة إلى كوردستان، الأدعية الإيزيدية القديمة، الحكاية، الأسطورة، القصة، الكورد في لغة الآخر غير الكوردي، المعتقدات، التشكيل، التاريخ، وأخيراً ابداع المرأة الكوردية بكافة تجلياته. الأمر ليس بهذه الانسيابية في الإعداد، بل تجاوز إلى محنة الجمع والترجمة من لغات عديدة: الكوردية، والتركية، والفارسية، والانكليزية، والفرنسية، والألمانية، والروسية، ومادوّن أصلاً بالعربية.

أين المعمار الكوردي على أرض الواقع في كوردستان الحقيقية المذبوحة، وحجرها المذبوح؟! في الظن أن هذا المعمار أيضاً تجلى في السرقة من قبل الغير، أو لم تظهر معالمه جلية، أو لم تظهر معالمه الأركيولوجية تماماً، ماعدا مكتشفات الجزيرة في أوركيش تحديداً: كري موزا، وتل الفخارية، وهذا ما عالجناه، ولم نفته، لكن المعمار بمفهومه المعاصر، لم نجد له من أثر كتابي نشط؛ فقط في الفترة الأخيرة، صادفنا كتاب المهندس “آزاد أحمد” عن القرى الطينية في الجزيرة، وهذا علم بدأ يتشكل كوردياً شيئاً فشيئاً. أما السينما، فأيضاً، هي من الفنون المستجدة، وإذا استثنينا الفذ “يلماز غوني”، فان السينما الكوردية، ظلت تعاني من الأيديولوجيا الفادحة الدعائية السطحية والفجة، ومن ندرة الخبرات الفنية الاحترافية، وبالتالي، لم نستطع الاقتراب من هذا الفن المتشكل حديثاً في الابداع الكوردي المشتت. يلماز كان في خطة المجلة، من حيث تهيئة ملف شامل عنه، والتنقيب عن حياته المغامرة الخاسرة الأليمة، لكن، كان الأمر يحتاج إلى تواجد في باريس، والنبش عن ملفات مركومة ضائعة، كان الأمر يحتاج إلى مساعدة من مؤسسة عتيدة موجودة في باريس، لاأدري ما شأنها هناك!، فلم نستطع أن نحقق رغبة دفينة في تقديم يلماز بما يليق به، دون صخب، ودون شطحات مبالغة عن عبقريته.

ـ لاأظن أننا طرحنا الغاية بهذه الحدة والزهو المبالغ، فالمجلات الكوردية الثقافية في كوردستان وفي المنافي، أكثر من أن تحصى، وقد توقف الكثير منها، أعني المجلات بالكوردية المهتمة بالشأن الثقافي، لكن، بالعربية، هي نادرة، إن لم أقل معدومة، وميزة حجلنامه ـ أزعم ـ أنها ربما سدت هذا الفراغ. أعني أنها فصلت السياسي عن الثقافي، ولم تلتفت كثيراً إلاّ إلى الغاية التي حددتها، أي التدوين الثقافي فحسب. وإلى حد ما، الاقتراب من التخوم الممنوعة (الإيروسية)، والأدب الشفاهي وما اندثر، أو الموشك على الاندثار في أرجاء كوردستان (الحجرات الفقهية العلمية) على سبيل المثال.

ـ لاأدري تماماً موقف الآخر الكوردي الحزبي منها، الأمر متروك لوجدان هذا السياسي الحزبي، وصحافته ومتابعته لأمر حجلنامه. لكن، المجلة لم تتلقَ أي دعم عيني من أي حزب، القادر منه، وغير القادر. وبسبب اختناقها المادي، تم العمل من أجل تدوينها الكترونياً في موقع ما. وطموح بهذا الحجم الكبير، بالتأكيد يتأثر قبل كل شيء بالمال، المال الذي افتقدته حجلنامه، ورافقها هذا الشح إلى الآن، ليس في الأمر مايدعو إلى الأكثر من الأسى: أن تثبت المجلة موقعها بامتياز ابداعها، ثم يتنازعها الافلاس. ويتأخر اصدار كل عدد بسبب من عدم توافر أثمان الطباعة، وهي ليست بالقليلة، في بلد يعاني من غلاء فاحش مثل السويد.

ـ هي الموازنة تتأتى في بلاغة النص وقوته، سواء بسواء في اللهجتين الأساسيتين، لم يكن لنا من ميثاق مع الكاتب الكوردي، غير ميثاق جرأة اللغة مسجلة في أعراف الابداع، ومنتسبة إلى روح هذا الكوردي وهويته التي تتجرأ وتقول مبادلاتها وحرائقها وإيروسيتها وحيواتها الغاضبة وقلقها الجبلي وكيانها وجغرافيتها الشاسعة المنهكة والمنتهكة، لم نكن رقباء/ مخابرات في فقه العذاب الكوردي بلهجتيه الشقيقتين، كانت حجلنامه مصانة من هذا الانشقاق، وفعلت ذلك بيقين عش كوردي في المنفى السويدي.

ـ نعم. بامتياز، هي مجلة نخبوية. وكانت صارمة في ألا تتحول إلى المشاع، المبذول.

ـ ربما هنا، يقين حجلنامه بأنها، اقتربت في مسلكها من عدوانية خجولة غير مفهومة، وكذا من حب منبسط، مثل ظلال وديعة جريئة. وأنا أستعيد استقبال الكرد والعرب للتجربة، أستذكر برفاهية اللغة، حادثتين، الأولى: قام شاعر كوردي في سوريا باستعراض احتفائي بصدور العدد الأول من مجلة كوردية اسمها حجلنامه، في جريدة الكفاح العربي اللبنانية، فتعرض للمساءلة الشديدة. لكن، بالمقابل الثقافي العربي الرقيق والنادر جداً: الصحافة العربية في المنفى ـ استثناء الزمان بعدائها ـ ، الصحافة الخليجية، المواقع الالكترونية العربية، المواقع الكوردية الالكترونية ـ استثناءً المبتدئين المشرفين على بعضها ـ، كانت المتابعة من لدن هذا الإعلام مسراً للرغبة في آفاق أكثر ولعاً بالجديد الابداعي الكوردي، وبالجديد اخراجاً ولغة وموضوعاً.

والثانية: ثمة صحافي كوردي موسوعة في تدوين تاريخ الصحافة الكوردية منذ بداياتها القاهرية الرائدة، إلى اليوم، إسمه جمال خه زندار، العاكف منذ سنوات على إنهاء مجلداته الكثيرة حول هذه الصحافة ـ بالكوردية تحديداً ـ، أضاف حجلنامه إلى موسوعته، وهي ـ أعني حجلنامه ـ بالعربية.

ـ نعم، وبالضبط ماسنحاول انجازه في العدد القادم، بالرغم من أننا لم ننسَ هذا الجانب، بل نشرنا قصيدة لشاعر ورائد من هناك اسمه “جاسم جليل”، كذلك مقالة مفصلة وشاملة ودقيقة عن الوضع الكوردي الثقافي ـ في إطاره السياسي التاريخي ـ في جهات روسيا المعذبة النافرة القاسية الفظة، الأكثر بطشاً بالكورد وثقافتهم، زمن ستالين، أيضاً مقالة ممتعة عن الكورد الأسرى هناك، زمن حرب القرم.

بالتأكيد يجب تقديم هذا الأدب الرائد هناك، والذي يتعرض الآن للنسيان المطلق؛ ويتعرض كتابهم إلى اهتراء قمصانهم من العوز والجحود والبطالة، كما تعرضوا سابقاً إلى منافي سيبريا في الزمن الشيوعي السعيد!. سندون كل هذا في العدد القادم من حجلنامه.

ـ المؤسسة هي أموال، وإدارة بليغة في الأداء. لا نملك المال، ولا بلاغة المدراء.

ـ حجلنامه: رسالة الحجل. سألوا مرة الجنرال ملامصطفى البارزاني: أين تنتهي حدود كوردستان؟ فأجاب: حيث يحط الحجل. مدى حجلنامه، حيث يحط الحجل.

المدى

—————————-

محمد عفيف الحسيني.. ظلت الكتب ثروته التي لن تحترق

خاص: إعداد- سماح عادل

“محمد عفيف الحسيني” شاعر كردي سوري يقيم في السويد، من مواليد عامودا 1957، رحل  إلى السويد عام 1989. بدأ الكتابة، منذ حوالي عقدين.

جيل شعري كوردي ضائع..

في حوار معه أجراه “مسعود خلف” يقول “محمد عفيف الحسيني” عن نفسه: “أنتمي إلى جيل شعري كوردي ضائع: كتبنا بالعربية عن قيامة الكورد. وبقيتْ روحي دائماً، تلتفت لأن أستطيع الكتابة بلغتي، لكن، لم أفعل حتى الآن، لأنني أخاف أن تأخذني اللغة الكوردية، إلى تخوم لا أجيدها. بدأت الكتابة، منذ حوالي العقدين، ووجدتُ أن الكتابة بالنسبة لي، هي المنقذ من ضلالة التعريب، والحياة ـ القسوة لأهل عامودا. لم أكتب، لأجد اسمي في قِدْرِ الركاكة السريعة، كتبتُ، لأعرف نفسي أولاً، ولأعرف معنىً بسيطاً، لسؤالٍ بسيطٍ: في أي مكان سأفرش لضيوفي ـ ضيوف القدر، ما أظنه الجدير بالكتابة؟”.

احتراق الكتب..

وعن طفولته والكتابة يقول: “ولدتُ في بيئة هي خليطة من أعراق الكتابة والدين والذاكرة الشجية للغات. وجدتُ نفسي ملموماً بين شيئين: الكتب والفقر. الكتب هي التوابل اليومية للذاكرة، والفقر هو توابل الطفولة الشقية التي منعتنا من الإحساس الباذخ بمعنى هذه الكتب. أينما انتقلتُ من منازل الأهلين، كانت الكتب هي التي تفور من الجدران، الكتب التي كان الفانتازي الأرجنتيني “بورخيس” يتحدث عنها، وهو في عماه البصير. الولادة، ثم الحبو، ثم أن تجد نفسك، فجأة في حضرة الأقطاب: الملا جزيري، المتنبي (الفاشي العربي الكلاسيكي)، إبن الفارض، المتون التي لا تنته لكتب تدون السيرة الأليمة للكتابة.

في الوسط الذي عجَّت به الكتبُ، وعلى مبعدة القليل دياربكر، حيث في المدينة الجد الكبير المقدس “بافي كال”، وأيضا النزيف الهجراني للسلالة من أطراف آمد، إلى نعمة الله، نعمة الأرض، دون ألغام حدودية، ونعمة الكتب ـ الفقر. جدي “الشيخ محمدى موزا”، الذي ارتقى “كري موزا”، كان بإمكانه، أن يدون الأراضي المباركة باسمه، لكن، التفت، إلى المباركة الأشد كثافة: الكتب.

كان يقتني الكتاب ـ المخطوطة، في حين التفت الآخرون، إلى الأرض. مات الجد مبكراً، وأغلب كتبه احترقت في “حريق عامودا” ـ طوشا عامودي؛ الحريق الذي أشعله الفرنسيون عام 1937، في المدينة، الحريق الذي أتلف كل تلك الكتب ـ الثروة. مات الجد صغيراً، في الثالثة والخمسين من عمره، وكان ثمة منزل له، منزل قريب من الجامع الكبير، ومن السوق الصغيرة الأليفة “العرصة”، تقاسم الأبناء البيت القديم، توزع الأبناء من البيت القديم، وبقي الشيخ عفيف، قريباً، من أنفاس ذلك البيت، قريباً من تقاسيم المساحة المباركة التي تضم رفاة الثروة من الكتب.

بنى له منزلاً فقيراً، وتزوج، ثم ولدتُ، كنا نحفر أرض الحوش، لنخفي فيها مواردنا الطفولية الممنوعة: صور الممثلات، والدحاحل، والشجن الطفولي المراهق. نحفر مقدار شبرين، فتخرج مقدار شبرين من مصكوكات جدي الحريق. الكتب. الأغلفة الجلدية المزينة، الأوراق، ليس من أوراق، بل الصحائف الحريق. أرسلت لي الأقدار الأرضية، بيئة، ربما لم أكن أريد أن أكون فيها، كنت أريد أن أكون نجَّاراً، وليس كاتباً؛ لكن الأقدار في العائلة، جعلت من مسار منشاري وقلمي الرصاص العريض، المركون على أذني اليسرى، والنشارة الخشبية التي تتكوم أمام أقدامي، وأزيز الخشب، والطلاء اللامع على نوافذ بيوتات عامودا، والجروح الصغيرة المستديمة على أصابعي.

كنتُ أريد أن أكون نجَّاراً، وليس كاتباً. ومازلتُ أشعر بأنني ذلك النجار الذي يريد من الخشب اللغوي، أن يكون خشب الغابة الطري، وخشب التاريخ الفاجر ـ الملهاة الكوردية”.

ويواصل: “ربما العائلة، هي التي دفعتني إلى ذلك، عبوراً بجلال الأشجار التي نزحتْ مع جدي الأول: “أوركيش”. وانتهاء بالحجرة المنوَّرة للشيخ عفيف، التي فيها درستُ أن الحياةَ هي الكتب. ودرستُ فيها أن الحياة ليست فقط الكتب، بل النجارة أيضاً؛ أهملت النصيحة الثانية، أهملت النجارة، فظللتُ ذلك الفقير القديم. لكن الكتب ظلت ثروتي التي لن تحترق، مثلما احترقت ثروة جدي؛ لستُ في عامودا الآن، وليس ثمة من يحرقها ـ الكتب الممكنات، وبلاغة أنني مازلتُ أدون شيئاً واحداً أحداً: أريد أن أعرف الظاهر من الوجود، أريد أن أعرف كيف سأبدأ بحياة تلك الحجرة القديمة، التي انذهلتُ فيها، وشردتُ فيها، وأنا أسمع رخامة الأصوات الكوردية، بدفوفها ـ دفوفِ الشجن والريحان والتصوف والتأويل والذبح والوله والجفاف المتراكم على جلود المغنين ـ العازفين الفقهاء الشدو. في حجرة الشيخ، لم أبحث عن أي شيء، ولم أفقد فيها أي شيء؛ لكنني فقدتها أبداً؛ يقيناً هي مثل كتبي القديمة ـ كتب الحياة، ستظل بأثرها الكتوم تدون معي، ما أريد نقله من الحياة إلى الكتابة، ومن الكتابة إلى الحلم، ومن الحنين إلى المنفى”.

اختزال الحياة..

وعن مسيرته في الكتابة يقول: “في السويد، أعدت توازني الشعري إلى نفسي، كتبتُ القليل القليل، وغامرنا سوياً: أحمد حسيني، وأنا، في ديوان مشترك، هو بالكوردية، وأنا بالعربية؛ كانت حلبجة تقصف بـ “علي كيماوي”، وكان المغني الفذ “محمد شيخو”، قد توفي قهراً من المخابرات، وكان حنيني إلى تمثال سينما عامودا طازجاً، بعد تركي للسينما والحريق والنصب والله المشدوه، والعصافير المشدوهة، طبعنا ديواناً فانتازياً آنذاك، أحمد تجربة طباعية أولى، له، وأنا كذلك، بلغتين مختلفتين. مع ذلك جاء الشعر، وجاء الديوان، وهي البدايات الطباعية، في بدايات التسعينات. اللغة اقتربتْ من الحنين، وشعر الكتاب الأول الهادئ. لكن، بقي الشعر بيقين الصرامة. اشتغلتُ تالياً، على أن أدون الشعر ـ الشعر، والحياة في المنفى.

طبعت كتابين شعريين أخريين، ثم في حلم من أحلام الله، كان علي أن أكتب نصاً نثرياً أقرب إلى الحلم، من الواقع، أردتُ فيه أن أعيش تجربة المنفيِّ كتابياً، بعد أن عشتُ التجربة حياتياً، فكانت “جهة الأربعاء”. موازنة بين الحياة والحلم، وبين المنفى وعامودا، وبين النساء والجنس، وبين اللغة الكوردية والعربية، وبيني القديم العامودي، والذي يقيم في السويد؛ موازنة أردت منها أن أعرف أين أعيش. كنتُ بحاجة للنثر، في حياة جديدة عليَّ، فيها القتامة والاختزال، فلم أختزل، اختزلتُ حياتي إلى كتابتي. لكن، ظل الشعر بمصكوكاته في روحي. مثلما الأزل.

في “مجاز غوتنبورغ”، وهو كتابي الشعري الرابع المطبوع، كنتُ قد تخلصت من مجازفة ورطة الشعار مع النص الشعري، الذي بدأت به؛ كانت تجربتي الشعرية، قد أخذت منحاها الهادئ، وكان المكان السويدي قد استقرَّ في وجداني وبصري أيضاً، المكان السويدي، الذي تكثّف في روحي، عبر مدينة غوتنبورغ البحرية، المشهد البصري للمدينة، والتآلف معها، خلقا عندي مايشبه الحوار مع المدينة: منفي مع مدينة؛ وكان الدخول في التجربة، يشبه تخوم الحدود الملغومة”.

ويواصل عن التأقلم مع المنفى والكتابة: “لم أكن قد كتبت عن المدن، غير عامودا. وها أنذا في امتحان الأعجمي في لغة أعجمية، في روح تتآلف مع برونزها أكثر من أي شيء آخر. دخلتُ الامتحان، بخفيَّ الرياضيين، وزانتي، كما يقول صديقي سليم بركات، دخلت، ولغتي العربية ـ بلائي ـ تساعدني في ذلك، عندي اللغة الكلاسيك القوية، المشبعة بالفانتازيا، وإلى حد ما الوقحة، أي، أن أكون واضحاً فيما سأكتبه، بعيداً عن التهويمات الشعرية، بعيداً عن غير الذي أعيشه، لأدوِّن المدينة، إذاً؛ فدونتها. فكان التدوين ـ الكتاب، شعراً ألماً. ليس أكثر من ذلك. اقتربت من روح البرونز النائم في روح الملوك والشعراء والرعاة والمهندسين والغزلان والقديسين، الروح الخضراء لهذه الأنصاب الخضراء، المنتصبة في غوتنبورغ. كان علي أن أجعل العنوان أيضاً: مجاز غوتنبورغ.”

بحيرة من يديك..

في مقالة بعنوان (“بحيرة من يديك” وحالة الحزن الخريفي) كتب “رائد الحواري”: “مجموعة شعرية من إصدارات آلاء / أزمنة، عمان، عام 1993، ما يميز هذه القصائد اللغة البسيطة والحزينة التي استخدمها الكاتب “محمد عفيف الحسيني”، فالنص خريفي بامتياز، حيث تسود حالة الحزن، الحزن الموجع الذي يحمل الحنين لشيء مفقود، فمن خلال النص لم يكن الكاتب سوداويا، رغم وجود ألفاظ الموت ومشتقاته في العديد من القصائد، ومع هذا لا يشعر القارئ بالسواد في النص، بل بحالة حزن عميق، فالشاعر يغدق علينا بتلك العاطفة التي تحن إلى المفقود، إن كان وطن أم إنسان.

فنكاد لا نجد قصيدة إلا وفيها ذكر للوجع أو للألم أو الافتقاد لشيء أو لإنسان أو ذكر للموت أو للمطر الذي يواكب معنى الموت. ما يميز النص هو التكثيف الذي يتقنه الشاعر، فهو يستطيع أن يوصل فكرته بأقل الكلمات، وأيضا بصور شعرية جميلة، مفعمة بالعاطفة وتثير المشاعر، وتجعل المتلقي ينحاز إلى جانب الشاعر ويستمتع بما يقرأ، وهنا تكمن حالة التميز في النص، فالنص من المفترض أن يكون سوداويا، لكن استطاع كاتبه أن يطفي عليه حالة الحزن، و يجعل المتلقي يتجاهل ذكر الموت، ويتماهى مع فعل الحنين”.

بهارات هندو ـ أوربية..       

في مقالة بعنوان (قراءة في كتاب: بهارات هندو ـ أوربية “رواية الوجع الكردي، للشاعر والروائي محمد عفيف الحسيني”) كتب “مهدي شاوي”: “الخلطة السحرية الغرائبية للعطّأر الماهر وصانع التوابل المشهية في كل أدبياته. يأخذنا الحسيني في روايته ـ مدونته اللامتخيلة الجديدة إلى حنينه للمكان، وذلك الوجع، وهي حقاً رواية الوجع الكردي، النوستالجيا والبحث عن الوطن المفقود؛ وطن وتاريخ شعب يحمله الجبل على مر الأزمنة التي عاشها ويعيشها.

في لغة من البساطة والألفة!، لغة خالية من التصنّع والاستعراض اللغوي، وهو الشيخ الضالع في اللغة العربية وقواعدها، وكنتُ أخشى أن يثقلها، أقصد لغة السرد بالشعر، وهو الشاعر، فتضيع تفصيلاتها على القارىء، لكن، وكما يبدو هو لايريد أن يضحي بالقارىء على حساب اللغة، لأن لروايته مهمة أخرى وهمّ آخر، إلى جانب آخر أنها لم تُكتب باللغة الكردية، فتبقى محصورة ضمن الناطقين بها، وهو كما يتمناه الحسيني أن يكتب بالكردية، لكنه، نسي أنه يترجم روحة الكردية إلى اللغة العربية”.

ويضيف: “مادة الكتاب هي تاريخ وطن وشعب يمتد على مساحة جهاته الأربع، وكان عليه إيصال عوالمها وتفاصيلها لمن لا يدري ما حدث ويحدث هناك، وقد تكون هي رواية التوثيق.

سردية “عامودا” نعم عامودا (ربما قد يكون هو الاسم المناسب للرواية، فقد جاء على ذكرها في أكثر من 360 مرة، من عمر الكتاب (513 ص)؛ عامودا هي أيقونة الحسيني؛ هي الجزء النازف من روحه، أينما حلّ هناك عامودا، وأينما كان، كانت عامودا هي شغاف قلبه النابض بكرديته، حلبجة الحاضرة أيضاً، تلك البلدة الهادئة الناعمة المكتظة بالمزارعين والرعاة؛ حلبجة، لقد أرادها الحسيني ـ وهو الرائي والروائي ـ أن تكون أماكنه التي عبث بها النازيون، من حريق سينما عامودا حتى دمار حلبجة، أن تكون مزاراً يتفقد فيها الجميع حجم الفواجع والكوارث التي عاشها؛ مثلما جعل بدر شاكر السياب ذلك النهر الصغير “بويب”، وقرية جيكور مزاراً للشعراء والأدباء”.

ويؤكد: “جاءت الرواية بروح كردية خالصة ومطحونة بتوابل وأعشاب، تلك هي خلطة الحسيني، وهو الأديب والشاعر والعطّار الماهر، الذي يجعلك تعشق بهاراته، هو العارف في الخلطة الأدبية في الشعر والرواية؛ إنها رواية أماكن عاشها في طفولته، وامتدت معه في التشرد والتسكع عبر منافيه البعيدة والمتعدد. يشدك للأماكن التي تنقل بينها: كردستان، حلبجة، حاج عمران، عامودا، قبرص، دمشق، بيروت، بولونيا، باريس، كازبلانكا، وغوتنبورغ التي يقول عنها إنها أجمل مدينة في العالم ـ طبعاً عامودا هي الأجمل ـ؛ غوتنبورغ لها خصوصيتها في كتاباته والتي يعشقها حد الثمالة، وهو الحافظ لكل تفاصيلها كجسد أنثوي: معالمها، أبراجها، ساحاتها، تماثيلها وشوارعها. خصص لها الكاتب سابقاً كتاباً شعرياً تحت عنوان “مجاز غوتنبورغ”، فهو عندما يكون حاضراً في غوتنبورغ، تكون عامودا الغائبة حاضرة في غوتنبورغ، وهو حسب اعتقادي أجمل من كتب عنها”.

وفاته..

توقف عن النبض قلب “محمد عفيف حسيني” أمس، 23 أغسطس 2022 في منزله في إحدى مدن السويد. إثر نوبة قلبية.

الألمُ على المرآة

نص ل “محمد عفيف الحسيني”

كان يحملُ كشْكُولًا، ويركبُ نَوْرَجًا، يدرس به قشّ الشمال، وكُرْكُمَ شيخوختِه.

وهي- العاشقةُ- تراه بمرآتِها:

الألمُ- على- المرآة- له رائحةُ التّيسِ الجبليِّ، وعنادُ كبشٍ مدللٍ.

هلالُه أخضرُ على زِنده الأيسرِ.

نقّاشُ الخافقيْنِ.

نقّاشُ الألمِ.

قابسُ الفضّةِ من مرآتِها.

وهو- العاشقُ- ببرونزه، يراها:

لها رائحةُ العسلِ، وعناد الكريستال.

لها نجمةٌ، أسقطتْها بين أصابِعه، فأخذها.

نقّاشةُ الليلِ.

قابسةٌ بنفسج شفتيه الراعلتين.

قابسةُ هلاله الأخضر، البرونزيّ.

كَفَلُ حصان يرتجفُ.

كفلُ حصانِ غوستاف أدولف الثاني، البرونزيّ، يرتعشُ.

صهيلٌ ذهبيٌّ، يسمعه الغريبُ في غوتنبورغ.

صهيلٌ أخضرُ، تسمعه الغريبةُ، وهي تراقبه في مرآتِها.

أسيوفٌ قصيرةٌ تلمعُ في ظلامِ شيخوختِهما؟

https://kitabat.com/cultural/%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%B9%D9%81%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D8%B8%D9%84%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A8-%D8%AB%D8%B1%D9%88%D8%AA%D9%87-%D8%A7%D9%84/

—————————–

الكتب المتوفرة للتحميل مع الشكر لمجموعة “أبو عبدو البغل” بتوفيرها

يرحب موقع “صفحات سورية” بأي رابط لأي كتاب من كتب “محمد عفيف الحسيني” وسيكون بمثابة شكر وتحية له وبمثابة وداع

ديوان “بحيرة من يديك”

https://drive.google.com/file/d/1hSi5tmpkuaLJBd35AIUKby6WiCT2CIUm/view

ديوان “الرجال”

https://drive.google.com/file/d/1V96d4I8XC_BkeuvDb1LiybfAgVqvrVcT/view

كتبه ودواوينه تجدها على الرابط

https://www.neelwafurat.com/locate.aspx?mode=1&search=author1&entry=%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF+%D8%B9%D9%81%D9%8A%D9%81+%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%8A

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى