سياسة

دعوات «الإصلاح» في مناطق النظام/ حسام جزماتي

منذ أن هدأت المعارك الكبرى في سوريا قبل سنوات، واستقرت سيطرة بشار الأسد على المساحة الأوسع من جغرافيتها والعدد الأكبر من سكانها؛ رفع مؤيدوه أصواتهم مطالبين بحصتهم من «النصر» بعد أن صبروا على تردي أوضاع البلد وقاتل بعضهم لتثبيت حكمه. غير أن ما حملته هذه الأعوام من اهتراء الخدمات والمعيشة فاق كل ما سبقه من سنوات «الحرب»، مما دفع هؤلاء إلى البحث عن مكمن الخراب، والذي يجب ألا يكون في القصر الجمهوري الذي دفعوا الغالي والنفيس للدفاع عن رأسه.

القول إن البؤس الذي يعيشونه ناتج عن «المؤامرة الكونية» عبارة تقادمت صلاحيتها لكثرة الاستخدام، وإن جرى تدعيمها بتجديد غير كاف هو «الحصار» و«العقوبات» المفروضة بعد قانون قيصر. إذ يفضّل الناس خصماً متعيناً يمكن «القبض» عليه، بالمعنيين المعرفي والأمني. ولهذا سادت بينهم دعوات «محاربة الفساد» بشكل شبه هيستيري، ملقين اللوم في ما يجري من خراب حياتهم على «دواعش الداخل». وهو مصطلح شديد الرواج في مناطق النظام، ويعني الفاسدين الذين كثيراً ما قيل إنهم أخطر من الدواعش الفعليين. ساد الاعتقاد أن محاسبة هؤلاء كفيلة بإصلاح الأوضاع بنسبة كبيرة مؤثرة. ونشطت في هذا الشأن صحف ومواقع إخبارية وصفحات فيسبوك حازت متابعة عالية بسبب التبطل وسيولة الوقت، وبدافع الفضول أكثر من الأمل.

وعلى اختلاف تركيزها على مفاصل الحياة المدنية أو العسكرية يمكن رصد ملامح مشتركة لدعوات «الإصلاح» هذه.

المعلم الأول هو أن الانتقاد يجب أن لا يطول حدود «السيد الرئيس» وشقيقه ماهر و«السيدة الأولى» ذات التدخل المتزايد في الحياة العامة. لا يعود هذا السلك المكهرب إلى الموروث السوري من عهد حافظ الأسد فحسب، ولا إلى الحذر الأمني فقط؛ بل إلى تناقض جوهري سينشأ في حال تناول رأس الهرم بشبهات الفساد أو حتى سوء الإدارة، لأن ذلك يعني أن الثورة محقة وأنهم كانوا مخطئين في خيار إستراتيجي مكلف. وهذا خط أحمر عريض في أذهان الموالين زادت السنوات تصلبه. وبالتالي بإمكانك أن تنتقد الوزراء ورئيسهم كما تشاء، لكن دون أن تشير إلى من اختارهم، أو ربما تسلك سبيل أنهم خانوا «الأمانة» التي حمّلهم إياها «سيد الوطن»، بالغ الحكمة وثاقب المعرفة، والذي يقع دوماً في براثن اختيار الفاسدين. تستطيع أن تكشف فضائح ضباط نافذين في الحرس الجمهوري أو حتى «حرس الموكب»، أو محوّلين للعمل في القصر، من دون أن تشير إلى أن مدى قربهم من الأسد الذي يلتقي بعضهم بشكل يومي! ويمكن أن تنتقد الإتاوات التي تفرضها حواجز الفرقة الرابعة على طول البلد وعرضه، والتي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وقد تصل إلى تحديد ارتباطها الشبكي بمكتب أمن الرابعة الذي يقوده اللواء غسان بلال، ثم تصمت عن أنه معتمدُ ماهر. بل إن عليك أن ترفع الشكوى إلى الأسدين الشقيقين وتستنجد بهما من «الحاشية»!

وهذا ما يقودنا إلى المعلم الثاني لهذه الدعوات. فإذا كان توجهها إلى بشار الأسد مفهوماً، متجاوزة التسلسل الإداري، لأنه رئيس الدولة والقائد العام لقواتها المسلحة وزعيم الحزب الحاكم؛ فإن مخاطبتها لشقيقه أو لزوجته دليل على خطل مفهوم «الدولة» لدى منتقدي الفساد هؤلاء إذ يقرّون، ضمناً، أن البلاد مزرعة عائلية. لأن أدنى حس قانوني يجب أن يحيل إلى أن حدود صلاحيات ماهر يجب ألا تتعدى حدود الفرقة التي يقودها، كما أن أسماء الأخرس لا تملك أي صفة وظيفية رسمية تخولها التدخل للإصلاح أصلاً.

ويتضافر هذا مع المعلم الثالث. وهو أن محاربي الفساد تائهي الرأي يطالبون الثلاثي الحاكم بالتدخل بشكل مباشر وحاسم لقمع فلان أو حل مشكلة كذا. وفراراً من المؤسسات الحكومية المنخورة بالفساد والبيروقراطية يقترح هؤلاء أجهزة الأمن كذراع تنفيذية محددين ضباطا «شرفاء» منها، كرئيس مكتب الأمن الوطني علي مملوك، ورئيس الفرع الداخلي الذي يحكم دمشق في المخابرات العامة أحمد ديب، ورجل المخابرات العسكرية الذي تولى أكثر من لجنة تفتيش آصف الدكر… إلخ. مطالبين هؤلاء بـ«شحط» المتهمين بالفساد إلى الفروع واتخاذ «الإجراءات» اللازمة للحصول على اعترافاتهم، أو الاكتفاء بالتلويح الصارم بالاعتقال في سبيل «تشليح» كبار المتمولين جزءاً من ثرواتهم لدعم خزينة الدولة المفلسة، كما باتت الممارسة الشائعة.

هذه أبرز معالم «الإصلاح» لدى المتذمرين من الفساد في سوريا الأسد. ليس فيها إشارة إلى تغيير في الأعلى، ولا تعوّل على القانون ومسالكه، ولا تأبه بأي من معايير الدولة الحديثة غير السلطانية.

ولكن هل تنحصر طريقة التفكير هذه بالموالين فقط؟ بالتأكيد لا وإن كانوا مركزها الصلب. فمن المعروف أن عموم السوريين يشكّون في أجهزتهم القضائية المختلفة لجهة التلاعب و«المطمطة»، ويفضّلون الحكم بإجراءات موجزة أو دونها ما دام «الحق» واضحاً. يحبون المستبد العادل الذي «ينزل إلى الشارع» وقد ينفّذ الأحكام بيده. ومن لا يعوّل على بشار في هذا، أو يستنجد بقبر أبيه المؤسس وذكراه؛ قد يكون مفعم الذهن، والموبايل، بصور صدام حسين الذي اشتهر بقتل «الخونة» على الملأ.

غير أن جمهور الثورة قال «لا» لكل هذا ذات يوم، ودعا إلى دولة العدالة والمساواة والقانون. ورغم أنه ما زال بعيداً جداً عن تطبيق ذلك على نفسه وفي أرضه وتجاه قادته، فإنه سيصل في المستقبل إلى ما ثار لأجله، فالبوصلة ذات قوة حاكمة ولو طال الزمن.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى