سياسة

موقع إلكتروني لحلّ القضية السورية!/ عبدالناصر العايد

عقد سوريون أميركيون، الأسبوع الماضي، مؤتمراً في واشنطن، بهدف وضع “ميثاق” وطني للدولة السورية، وفق مبادئ الديموقراطية والمواطنة وسيادة القانون. لكن المؤتمر لم يأت بجديد، ولم يفلح في تجاوز أخطاء المحاولات السابقة لتنظيم صفوف المعارضة أو حتى تقليص تلك الأخطاء، وأبرزها: الإملاء من أعلى، ادعاء التمثيل المستفز، المراوحة في دائرة التنظير، وإطلاق التوصيات دونما إجراء فعلي يكسر الجمود الذي بدأ يخنق القضية السورية.

لعله من غير المجدي أن ندخل في الحلقات المفرغة لسؤال: مَن قَبل مَن؟ الدولة أم المبادئ التي تقوم عليها؟ لكن البيّن تاريخياً أنه ما من شعب أو جماعة صمّمت شكل الدولة على الورق ثم بنتها، فالدول تنشأ بعد قيام سلطة حقيقية، يستتب لها الأمر ثم يحدد القائمون عليها الظروف المحيطة بها الشكل المأمول والممكن. بل إن غالبية الدول التي نرغب في الحصول على مثلها اليوم، لديها بدايات تختلف كلياً عن المواصفات التي استقرت عليها، ومعظمها نشأ على خلفية غزو أو حروب أهلية متفاوتة العنف والوحشية، وبعضها نشأ على أساس الحكم الفردي المطلق، وبعضها بدأ دينياً. ما أقصده أن الرؤى الفكرية للدولة المقبلة ليست ما يحتاجه السوريون لبناء دولتهم المنشودة، وإنما النضال الفعلي لإقامتها، وبناء القوة السياسية القادرة على إنجاز المهمات المطروحة، ولاحقاً تحقيق الرؤى المُثلى أو حتى فرضها إذا اقتضى الأمر، إذ ما من رؤية هي محل إجماع أي جماعة.

وإذن، بدلاً من بناء الدول المتخيلة في وثائق المؤتمرات والندوات واللقاءات، يجدر بالنخب السورية بناء القوة والتأثير والنفوذ، وكان الأجدر بالنخبة السورية المجتمعة في واشنطن أن تتصدى للقضية الحالية التي تشغل السوريين، وهي تراجُع دورهم في تقرير مصير بلدهم وتلافي تقصير المعارضة التقليدية، وتقديم المعارضة المقيمة في الغرب خطة مقترنة بآليات التنفيذ للخروج من هذا الوضع على محوري عمل رئيسيين. الأول، دفع العمل السياسي المعارض قُدماً، بعدما علقت المعارضة التقليدية في براثن الدول الإقليمية وهيمنتها. والثاني، إعادة وضع الملف السوري في سياقه الرئيسي، كصراع بين شعب وسلطة قاتلة، وتخليصه من الزوائد التي تضعفه إذ تأخذه في اتجاهات ثانوية. بعبارة أخرى، كان يجدر بنخبة واشنطن اتخاذ قرار سياسي، لا كتابة رؤى وتصورات ومحاولة فرضها على الجمهور عبر بهلوانيات كلامية لا تقدّم ولا تؤخّر، وهو الخطأ الجسيم الذي ما زالت المعارضة السورية تكرره، خصوصاً تلك ذات التوجه الوطني الديموقراطي، إذ تكتفي بإصدار توصياتها وما تعتقد أنه يجب فعله، إلى جمهور وهمي، غالباً ما يردّ على تلك المقترحات بالسّباب والشتائم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لينتهي الأمر هناك.

تتوافر للسوريين المقيمين في الولايات المتحدة، والعالم الغربي عموماً، عناصر الفعل الرئيسية التي تفتقر إليها بقية السوريين، لا سيما المقيمون في دول الجوار، مثل حرية العمل والحركة واتخاذ القرارات من دون تدخل أو وصاية الدول حيث يقيمون فيها. أي أنهم سادة قرارهم، كما أنهم يتمتعون بالإمكانات المادية الكافية لمباشرة العمل السياسي، وربما التفرغ له، من دون الحاجة لرعاية وتمويل هذا المحور أو ذاك. وهم يقيمون حيث تتركز المؤسسات الدولية الفاعلة، وفي دول لها كلمتها على الصعيد العالمي، ولديهم القدرة على الوصول إلى وسائل الإعلام والتأثير المستقلة. وأخيراً، يتمتع معظمهم بتاريخ “نظيف” نسبياً، نتيجة عدم انغماسهم في الأحداث العاصفة التي ألمّت بسكان البلاد. لكن كل هذه الإمكانات لم يجرِ استثمارها لتحقيق التميز، وانتزاع حق التمثيل السياسي بدلاً من ادعائه، وإثارة إعجاب وقبول الجمهور بدلاً من استفزازه.

لقد طرح المؤتمر المذكور ميثاقاً من عشر نقاط، تدور، كما فعلت كل المؤتمرات السورية منذ المؤتمر السوري الأول العام 1919 إلى يومنا هذا، حول دولة القانون والمواطنة المتساوية وحقوق الإنسان والديموقراطية. وعندما جاء بجديد، في نقطة واحدة، كشف انعدام حساسيته السياسية، وانفصاله عن الواقع والجمهور ومشاغله وتطلعاته. فإلى جانب المبادئ الكبرى، كالاستقلال والسيادة وضمان الحريات وفصل السلطات، عرج المؤتمرون على بند غريب هو منح الجنسية لكل المولودين على الأرض السورية. وهو “مبدأ”، إذ جاز وصفه كذلك، لا تقرّ به غالبية دول العالم، بما فيها تلك الأكثر ديموقراطية مثل فرنسا، كما أنه على الأغلب من اختصاص مجلس تشريعي يضع قانون الجنسية، وليس مبدأ فوق دستوري. كما أن حشره في وثيقة المؤتمر، بدا كما لو أنه “كرمى” لعيون مشاركين أكراد، لكنه يتجاهل واقعة التغيير الديموغرافي التي تعمل عليها إيران والمليشيات المنقولة إلى سوريا، والتي لا تحلم بقانون مثل هذا اليوم، حتى من أقرب حلفائها وهو نظام الأسد.

تحتاج المعارضة السياسية السورية إلى أن تكون أكثر سياسية، وإلى إعادة النظر في آلياتها وطرق عملها التي تقربها من هدفها، مثل إعادة تجميع جيش الثائرين الذي يكاد ينفرط عقده، وحشد الدعم وتوفير الإمكانات له ليستأنف معركته على المحور الاستراتيجي للنضال، وتوفير البدائل العملية والحلول للمشكلات التي تنجم كل يوم في الميدان السياسي، مثل أزمة المعارضة الحالية المقيمة في تركيا بعد توجه أنقرة للتصالح مع نظام الأسد. إذ كان يمكن للسوريين الأميركيين العمل، أو مجرد الدعوة، لتوفير مكان لمقر جديد للمعارضة يجعلها في منأى عن الارتهان للتحول والتوجهات التركية الجديدة. لكنهم، بدلاً من ذلك، أعلنوا العزم على إنشاء “موقع إلكتروني” يتحدث للسوريين عن المؤتمر وأهدافه ورؤى القائمين عليه وتصوراتهم.

عندما انطلقت الثورة السورية العام 2011، أخذ الثائرون زمام المبادرة وتفوقوا على غريمهم لسببين. الأول، هو عملهم الميداني على الأرض. والثاني، هو انفصال النظام عن الواقع وغرقه في عسل السيطرة الشاملة. لكن الآية انقلبت بعد عقد من الزمان. فالنظام غارق اليوم في تفاصيل الواقع ويحاول التعامل معها بأقصى واقعية تضمن له الفوز في الصراع، فيما عادت المعارضة إلى الركون إلى وهم العمل عبر التنظيرات الجوفاء، التي ميزت أداءها العقيم طوال عقود قبل الثورة.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى