صفحات الثقافة

الرأسمالية الروسية في عهد بوتين: مثال عن «أولوية السياسة»؟/ جايروس بناجي

نشر النص لأول مرة في نيسان/أبريل ٢٠٢٢

الأوليغارشية

لا تضليل أكبر من إعادة التأكيد على رأسمالية الدولة، بمعناها الواسع، كتعريف للسنوات العشرين التي قضاها فلاديمير بوتين في السلطة. فهنا المكمن الذي يسمح بنقد النظرية. على سبيل المثال، يشير كريس ميلر في كتابه «بوتينوميكس» (٢٠١٨) إلى «الأوليغارشية التي تسيطر على الشركات المملوكة من الدولة في الطاقة وقطاعات رئيسية أخرى»، ما يدلّ على أن رأسمالية الدولة في حدّ ذاتها لا يمكن أن تكون وصفًا دقيقًا للطرق المُعقّدة التي تتمظهر فيها سلطة رأس المال الخاص في عهد بوتين.

لنأخذ الحالة الأبرز: يُنظَر إلى الشركات الحكومية التي أنشأها بوتين على أنها مؤسّسات فاسدة وسيّئة الإدارة، لا سيّما أنّ «المقرّبين منه يديرون أكبر الشركات الحكومية وهم مسؤولون أمامه فقط». يُعدّ كلّ من إيغور سيشين من شركة «روزنفت»، وفلاديمير ياكونين من شركة السكك الحديدية الروسية، مثالين معبّريَن عن الرؤساء التنفيذيين في القطاع العام الذين يتعاملون مع الشركات المملوكة من الدولة كما لو أنّها ملكٌ لهم. تبرز أيضًا دائرة لرجال أعمال مؤلّفة من أصدقاء بوتين الشخصيين في مرحلة طفولته وشبابه في سانت بطرسبرغ، والذين «أصبحوا مليارديرات بحصولهم على صفقات تفضيليّة مع الحكومة الروسية، لا سيّما عقود الشراء الضخمة المُبرمة من دون مناقصات مع شركة «غازبروم»، وعبر شراء أصولها بثمن بخس». هنا يبرز أيضًا الأخوان أركادي وبوريس روتنبرغ اللذان بنيا خطوط أنابيب الغاز لشركة «غازبروم»، وهما صديقان مقرّبان من بوتين ومن زملائه في رياضة الجودو وهما عضوان في «دائرته المقرّبة»، فضلاً عن جينادي تيمشينكو الذي تقدّر ثروته الصافية بنحو ٢٢ مليار دولار، ما يجعله سادس أغنى ملياردير روسي على قائمة مجلة «فوربس» لعام ٢٠٢١.

حقّقت شركة تابعة لروتنبرغ مليارات الدولارات من خلال العقود التي أبرمتها مع «غازبروم» ولم تخضع لأي مناقصة تنافسية، ويُقال إن هذه الأخيرة تُفرِط في الاستثمار في بناء خطوط أنابيب غير «مُجدِية تجاريًّا». أيضًا، أضيفت دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي إلى لائحة المشاريع التي مُنحت لأعضاء حاشية بوتين بعد أن وثّقت مؤسّسة نافالني [لمكافحة الفساد (أف بي كاي)] العديد من حالات الفساد المُتعلقة بمشاريع البناء، فضلاً عن فوز أركادي روتنبرغ في العام ٢٠١٥ بعقد إنشاء جسر «كيرتش» الضخم الذي يربط شبه جزيرة القرم بروسيا.

تواطؤ الغرب

على الطرف الآخر من التدفّقات المالية التي تنطلق من الإدارة الفاسدة في المؤسّسات الحكومية والخاصة، يوجد المصرفيون وسلطات الملاذات الخارجية في الغرب الذين يتواطؤون في غسل الأموال لصالح بوتين وأقرب أصدقائه. إن الحجم الهائل لرأس المال الروسي المهرَّب، والمقدّر بأكثر من تريليون دولار، يجعل من «حكم السرّاق» (الكليبتوقراطية) بُعدًا أساسيًّا للرأسمالية الروسية. وكما هو الحال في دول مثل الهند، من المستحيل دراسة الطرق التي تُنظَّم بها الشركات الكبرى، وتلك التي تعمل بموجبها، من دون اعتبار هذا البعد بعدًا محوريًّا في طبيعة هذه الأنظمة الاقتصادية. بالتعريف، وبطبيعة الحال، يقلّل رأس المال المهرَّب من كتلة فائض القيمة المتاحة للتراكم محلّيًّا، فيغذّي تاليًا الركود الاقتصادي. وإن ملاحقة الحسابات الخارجية للأوليغارشية الروسية تعني فتح ملفّات كاملة عن تهريب رؤوس الأموال وتداولها، وهو ما يورّط البلدان ذات معدّلات هروب رأس المال المُرتفعة كما يورّط الأنظمة المصرفية في الغرب. لذلك لن تكون هذه الحسابات محور الهجوم المُضاد الذي قد يفكّر فيه الرئيس الأميركي جو بايدن، أو غيره، عبر استهدافها بالعقوبات. يمتلك بوتين نفسه أصولاً بعشرات مليارات الدولارات في الخارج، ولقد انزعج من نشر «وثائق بنما». يقدّر الاقتصادي السويدي أندرس أسلوند بأنّ بوتين حوّل ما بين ١٠٠ و١٦٠ مليار دولار إلى حسابات خارجية منذ العام ٢٠٠٦، وهو ما يقلّ عن تقديرات بيل براودر، رجل الأعمال الأميركي الذي ينشط في كشف الأوليغارش الروس وفضائح عهد بوتين، والذي يشير إلى تحويله ٢٠٠ مليار دولار.

صفقة بوتين مع الأوليغارشية

طالما أن أوليغارشيي بوتين حقّقوا ثرواتهم من الدولة، فإن ذلك يشير إلى وجود تكافل بين قطاعين رئيسيين من رأس المال الروسي هما الأوليغارشية الجديدة من جهة، والشركات الحكومية المختلفة التي أنشأها بوتين في مجالات الطاقة والنقل والمصارف وإنتاج الأسلحة من جهة أخرى. لكنّه تكافل بعيد جدًّا من نموذج التنافس بين رأس المال الحكومي والخاص الذي سيطر على التوسّع الصناعي في الهند خلال الخمسينيات. تجادِل كارين دويشا في كتابها «كليبتوقراطية بوتين» بأن الرئيس الروسي بوصوله إلى السلطة أراد أن يُفهِم الأوليغارشية أنهم سيحصلون على ريوع من هذه الشركات (خصوصًا شركات الصناعات الاستخراجية التي تتصدّر مراتب قيادية في الاقتصاد) كمكافأة على موالاتهم للدولة وخدمتها. بالنسبة إلى الأوليغارشية الموالية لبوتين لن تكون هناك قيود على الأرباح التي يمكن تحقيقها. وهذا ما يجسّد الصفقة ويشرح سبب تكوين هذه الثروات الهائلة واختلاسها في فترة زمنية قصيرة. أمّا ثمن هذا الولاء فقد تجسّد بابتعاد الأوليغارشية عن المعارضة، وهو ما يستحضر صورة تروتسكي عن الطابع الميت للّيبرالية الروسية والطبيعة البائدة للبرجوازية الروسية.

بين الاقتصاد والسياسة

يُعبَّر عن الصراع بين الاقتصاد والسياسة، الذي يقع في قلب الاقتصاد الروسي، على أنه صدام بين المنطق التكاملي لرأس المال و«أولوية السياسة» المُتجسّدة في دولة بوتين. ويُمثّل عليه في السعي إلى تدمير سيطرة ميخائيل خودوركوفسكي على شركة «يوكوس» واستيعاب أصولها المجدية اقتصاديًّا ضمن شركة «روزنفت» العملاقة المملوكة من الدولة، والتي كانت، مثل «غازبروم»، مجرّد بقرة نقدية حلوب لطموحات بوتين الجيوسياسية.

كانت «يوكوس» أكبر شركة نفطية خاصّة في روسيا وأكثرها توحشًّا، وكان مالكها مدافعًا شرسًا عن الرأسمالية الحديثة المتكاملة عالميًّا، ويُنظر إليها في الغرب على أنها نموذج يُحتذى به في حوكمة الشركات. تقول الصحافية كاثرين بيلتون، مؤلفة كتاب «رجالات بوتين»: «من بين كلّ أوليغارشيي موسكو، كان ميخائيل خودوركوفسكي أكثر من سعوا إلى دمج شركته بالغرب، وأكثرهم محاباةً للمستثمرين والقادة الغربيين قصد الحصول على الدعم الغربي لأعماله. كان يقود مسيرة استيعاب قواعد الشفافية وأساليب حوكمة الشركات الغربية في شركته، بعد سنوات من لعبه دور الولد الشقي في مشهد الأعمال الدارويني الروسي. أمّا الصراع الذي اندلع حين حاربت «مجموعة سيلوفيكي» [النخبة الأمنية المحيطة ببوتين والتي خدم العديد من أعضائها في جهاز الاستخبارات السوفيتية «كي جي بي»] لانتزاع سيطرة خودوركوفسكي على حقول نفط «يوكوس» في غرب سيبيريا، فقد كان صراعًا على الرؤى المتعلقة بمستقبل روسيا، وصراعًا من أجل الإمبراطورية في الوقت نفسه، يهدف إلى تحديد شكل النهوض الإمبريالي لروسيا وإظهار جهود بوتين في استعادة دور بلاده كقوّة مستقلّة ضدّ الغرب. لكن الصراع كان أيضًا صدامًا شخصيًّا للغاية. فمن الواضح أن بوتين وخودوركوفسكي كان يكره واحدهما الآخر، ليس بالمعنى الشخصي، إنّما لما يمثّله كلّ منهما للآخر. كان خودوركوفسكي صريحًا إلى حدّ الغطرسة، وغالبًا ما يهاجم مسؤولي الدولة في وسائل الإعلام، ويندِّد بالفساد علنًا، ولم يكن من السهل ضربه حتى عندما جاءت المحاولة من بوتين. أفادت بيلتون بأنّ خودوركوفسكي «كان يضخّ عشرات الملايين من الدولارات لتمويل الشيوعيين»، وأنّ اثنين من كبار المديرين التنفيذيين في «يوكوس» «ترأّسا قائمة مرشّحي الحزب الشيوعي».

ومن الواضح أن تمويله أحزاب المعارضة في مجلس الدوما أثار حفيظة بوتين. يُذكر أنه دعي في أيار/ مايو ٢٠٠٣ هو و[رومان] أبراموفيتش إلى مأدبة عشاء خاصّة أمره بوتين خلالها بـ«التوقّف عن تمويل الشيوعيين». ويقال إن خودوركوفسكي رفض الأمر بشكل قاطع مشيرًا إلى أن «دعم الديموقراطية في روسيا لا يقلّ أهمية عن دعم الأعمال». وفي وقت لاحق، في تموز/ يوليو من ذاك العام، أخبر بوتين رئيس الوزراء ميخائيل كاسيانوف أن «خودورسكوفسكي تجاوز الحدود بتمويل الشيوعيين من دون إذنه». في كتابه اللامع عن عجلة الثروة في صناعة النفط الروسية، قدّم ثاين غوستافسون وصفًا مسهبًا وواضحًا لقضايا الخلاف، التي تعارضت فيها مواقف بوتين والمدير التنفيذي لقطاع النفط، واشتبكا عليها علنًا، بما فيها خطّ الأنابيب الذي يصل إلى الصين وكانت شركة «يوكوس» تؤيّده بشدّة، في مواجهة فكرة بوتين عن بناء خطّ يمتدّ لآلاف الأميال ويصل إلى ساحل المحيط الهادئ، والتي سخر منها خودوركوفسكي علنًا. ثم كانت هناك خطّة لدمج «يوكوس» مع «شيفرون» الأميركية لإنشاء أكبر شركة نفط في العالم.

تكمن المشكلة الأوسع في وجود نسقين في التطوّر الرأسمالي. فمن جهة، ثمة التطور عبر خدمة الدولة لتراكم رأس المال- وهو النموذج المرتبط بالديموقراطيات الليبرالية التي تهيمن عليها مصالح كبريات الشركات – وثمة مراكمة رأس المال لخدمة الدولة، من جهة أخرى – وهو النسق الاستبدادي الحكومي غير النموذجي الذي يذكّر بما سمّاه تيم ماسون «أولوية السياسة»، ويمثّله السعوديون في عهد محمد بن سلمان بقدر ما تمثّله روسيا في عهد بوتين.

جامعي ومؤرخ ماركسي، الهند. يدّرس في «كلية الدراسات الآسيوية والأفريقية» بجامعة لندن. آخر أعماله «تاريخ موجز للرأسمالية التجارية» (2020)

بدايات

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى