أبحاث

تحولات اليسار في سوريا/ أحمد عيشة

يمكن القول إن اليسار، ولا سيما في سوريا، قد انتهى من حيث شكله التقليدي ودوره، فكثيرٌ من الأحزاب والتيارات والجماعات التي كانت تحشر في أسمائها الطويلة -وربما في دلالة عكسية- كلمةَ “الاشتراكية” قد حذفتها بشكل نهائي، وتحوّلت نحو صيغ أخرى من الأيديولوجيات التي حوّلتها -كعادتها- إلى أيقونات سحرية، كما كانت تتعامل ذات يوم مع عناوينها وأيديولوجيتها السابقة. وهناك قسم آخر، ممّن كان يصنف نفسه تحت فئة اليسار، تخلى عن عناوينه بالطريقة نفسها، لكنه تميّز بالحفاظ على “المضمون نفسه”، رغم تغيير الأدوات واللغة، فالتصق بأسوأ الأنظمة وحشية في العالم، نظام السلالة الأسدي، تحت حجة محاربة الإمبريالية الأميركية، أو المؤامرة والحرب التي تشنها الإمبريالية نفسها على نظام الأسد.

لا يزال هذا الشقّ من اليسار مخدوعاً بأيديولوجيته السابقة، رغم التغيّرات الكبرى التي عصفت بالواقع السابق، وخلقت وقائع جديدة، لكنه ظلّ مصمماً، بعماه الأيديولوجي، على القول بأن الحرية تأتي من الشرق، أي من روسيا، مع أنها تحوّلت إلى دولة لصوص تدعم أنظمة الاستبداد والنهب حول العالم. وانسجاماً مع ذلك، تجده، رغم تلك التغيرات، يلتصق يوماً بعد يوم بالنظام الأسدي “الوطني”، كونه محط مؤامرة كبرى من القوى الإمبريالية الغربية، وهو ما جعل تلك الفئة من اليسار تتخفى تحت بنى لا وطنية، سواء تقليدية أو حديثة، معادياً صراحة كل تطلعات السوريين نحو بلد تسوده الحرية والكرامة ويشارك أبناؤه في صنع مصيرهم، بل بات يدعو، مثل نظام أسياده، إلى التخلّص من هؤلاء الغوغاء.

القسم الآخر من اليسار السوري، ولربما هو الأكبر من حيث العناوين، حيث لا إمكانية لمعرفة رصيد ووزن أي جماعة في سوريا في ظل سيادة القمع والقتل، تحوّل في أعقاب هيمنة الولايات المتحدة على النظام العالمي، وانهيار معسكر “الاشتراكية” المزعوم في نهاية القرن الماضي، نحو تبني الديمقراطية كشكل من أشكال النظم السياسية التي لا تزال حتى اليوم من أفضل النماذج التي عرفتها البشرية في اختيار أنظمة الحكم وإمكانية تغييرها، وتوفير الحريات العامة والأساسية للفرد والجماعة. لكن ما ميّز هذا التحول أنه كان شكلياً، أي لم يكن نتاج حركة تغييرية على المستويات كافة في الداخل، وإنما كان نتاجاً للتغيرات الدولية واستجابة لها، وكثير من هؤلاء المتحولين يبرهنون، يوماً بعد يوم، على احتفاظهم بعقليتهم القديمة ومواقفهم من قضايا الديمقراطية والتشارك مع الحركات السياسية المختلفة، إذ ظلوا إقصائيين بالكامل.     

ثمة فئة من هذا اليسار، ولا سيما “المثقفين” منهم، أرادوا أن ينظّروا لتحوّلهم، فلم يكن تنظيرهم نتاجَ دراسة وتفهّم للواقع والحياة في بلدهم، وإنما كان، كما في السابق، بتبني أيديولوجيات ونزعات جديدة رافقت تلك التحولات في الغرب، سواء في الولايات المتحدة (المحافظين الجدد) أو في إنكلترا، حيث الطروحات التاتشرية، وأكثرها فجاجة التي تنفي وجود إرادة المجتمع، وتركز على أن هناك أفراداً يبحثون عن مصالحهم. وقد راقت هذه الأفكار كثيراً لهؤلاء المثقفين، تحت حجج التحرر من وهم الأيدولوجيات، وخاصة بعد أن دشن المحافظون الجدد نموذجاً في الحكم في العراق بعد احتلاله، يقوم على مبدأ “المكونات”، وحقّها في المشاركة في الحكم.

وفي كتاباتهم عن سوريا أو غيرها من البلدان العربية، كانوا أوفياء لأيديولوجية تاتشر، التي لم يكن لها وقعٌ في البلدان العربية، سوى الإجهاز على ما تبقى من روابط مجتمعية وأهلية يمكن أن تسهم في بناء نسيج وطني، بدلاً من وصل تلك “الرُقَع -المكونات” مع بعضها بطريقة مشوّهة. وبذلك، فقد أبدعوا في وصف الجماعات التي تعيش في هذه البلاد، وحاولوا إيجاد تأصيل لها، لا تعيه تلك الجماعات، وربما هو غير موجود بالفعل، لكن مع تصميمٍ قويّ على إنكار انتماء تلك البلدان الأساسي. ويتجلى ذلك عند الحديث أو الكتابة عن تصوراتهم لسوريا المستقبل، حيث يبدؤون بالتوصيف التالي: “سوريا مؤلفة من أكراد وتركمان وأرمن وأشوريين وشركس وسنة وشيعة ودروز وعلويين وإسماعيليين ومسيحيين ويزيديين”، ويزيد البعض بكرمه، فيضيف: “وصابئة وماردليين..” وغيره.

الغائب عن تلك الكتابات مقصودٌ بالطبع، وهو أن سوريا مكونة من غالبية عربية (80 -85) في المئة من سكانها، وهي موزعة على أديان ومذاهب وطوائف، وبالوقت نفسه يبرزون وجود الأقليات الصغيرة جداً، حتى لو كانت لا تتجاوز بضع آلاف. وهذا التغييب يجد أولاً، مبررات أو جذوراً له عندهم، في عسف الأنظمة السياسية “القومية” التي حكمت سوريا والعراق، متناسين أن أكثر ضحاياها هم من العرب، وأنها سلطات تستهدف الجميع من غير الموالين لها، وثانياً، في النزعات الليبرالية الجديدة التي تحاول إبراز دور الأقليات، ليس فقط الإثنية وإنما الدينية والمذهبية وحتى الاجتماعية، مثل مجتمع (ميم)، والنسوية، ومحاولة إكسابها هويات، لا نزعات تحررية.

إن ما تعيشه سوريا والبلدان العربية، من فشل وتخبّط وتقسيمات بالقوة برعاية أجنبية، والفشل المريع الذي لحق باليسار سواء المتحول أو الملتصق بالأنظمة القمعية، يدعو إلى بناء تيار سياسي متأصل في واقع البشر، يعمل بجدية على أن يكون خطابه بعيداً عن خطاب الأنظمة القمعية، من حيث اللغة وحتى المطالب، وعن النزعات الليبرالية الجديدة، والغوص في معركة الحياة اليومية الحقيقية للناس، بكل آلامهم وتطلعاتهم. وهذا يعني ألا يتصوّر واقعاً في الذهن أو يخلقه، بل يعتمد البرامج والشفافية، بدلاً من الأيديولوجيات وتقليدها، سواء القديمة أو الحديثة، من دون تجاهل انتماء البشر والبلاد الفعلي وحق الآخرين في التعبير عن ذاتهم. وهذا ليس مبرراً للانعزال بدافع الخصوصية، وإنما هو دعوة للمشاركة من خلال الانخراط في الحياة وصراعاتها.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى