أبحاث

مراكز الأبحاث الإسرائيلية وتقسيم سورية.. التوقعات والتصورات والأهداف/ مأمون كيوان

ملخص تنفيذي:

شهد العقد الماضي من عمر الأزمة السورية طرح أفكار وتوقّعات وتصوّرات مشاريع ترمي إلى تقسيم سورية وفدرلتها من قبل جهات دولية وإقليمية و”محلية”. وذلك في الوقت الذي يشير فيه المشهد السوري إلى وجود نمط من أنماط تقاسم النفوذ بين تلك الجهات، يعبّر عنه وجود عددٍ من الحكومات في سورية تُدعَم سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا مباشرة أو مداورة، من تلك الجهات.

إسرائيل التي تفرض نفسَها لاعبًا وقوة إقليمية عُنِيت مراكز الدراسات والأبحاث فيها بتتبع ما يجري في سورية والشرق الأوسط عامّة، وتحليله وتقصي انعكاساته على إسرائيل، وركّزت اهتمامها على ما ينبغي لإسرائيل فعله لمواجهة المخاطر الناجمة عن هذه التطورات. وكان بين مَن شاركوا في المتابعة وإبداء الرأي صفوة من كبار الباحثين والأمنيين والسياسيين الإسرائيليين الذين اهتمّوا بما جرى ويجري في سورية، انطلاقًا من موقعها الجيوبوليتيكي والإستراتيجي المهم والدور الإقليمي من جهة. ومن جهة أخرى، انعكاسات ما يجري فيها من تغيرات سياسية دراماتيكية على الأمن القومي الإسرائيلي، بشقيه “الإستراتيجي الأعلى” المتعلق بما يجري في عواصم “دول الطوق” و”الأمن الإستراتيجي الجاري” المرتبط بعملية “تهويد فلسطين أرضًا وشعبًا وسوقًا”، وهي العملية التي لم يستكمل إنجازها بعد مرور سبعة عقود ونصف العقد من الزمن على صدور قرار تقسيم فلسطين الذي أسس لحل الدولتين في فلسطين. فأقيمت دولة واحدة فقط وهي إسرائيل التي لم تضع دستورًا لها، ولم ترسم حدودًا ثابتة لكيانها السياسي، إذ ما زالت تسعى إلى تقسيم المقسّم ممّا تبقى من “فلسطين الانتدابية”، حيث كان يفترض قيام دولة عربية.

ولذلك كان لا بد من إطلالة على مكانة ودور مراكز الأبحاث الإسرائيلية وعرض تحليلات وتصورات أهم باحثيها من مشروع تقسيم سورية ودوافعه ومتطلباته، وتم التمييز بين مرحلتين في التاريخ البحثي الإسرائيلي في هذا المشروع الذي كانت مكانته هامشية في المرحلة الأولى، وأصبحت في صدارة الاهتمامات في المرحلة الثانية الجارية.

وتتبعت هذه الدراسة بدايات الاهتمام البحثي الإسرائيلي بمشروع تقسيم سورية وتفكيكها وتصغير خريطتها السياسية، التي جرت محاولات لتوسيعها ضمن مشروع “سورية الكبرى” و”الهلال الخصيب” و”الجبهة الشرقية” والوحدة مع مصر.

وعرضت الدراسة نماذج من نتاجات أهم مراكز الأبحاث الإسرائيلية ذات الصلة، خلال السنوات القليلة الماضية، والتي تربط بشكل وثيق مشاريع التجزئة والتفكيك والتفتيت والتقسيم بمسألتي: الحدود الإثنية وجماعات الأقليات الإثنية. وهما مسألتان تشغلان حيّزًا مهمًّا في الفكر السياسي الإسرائيلي على اختلاف مدارسه وتياراته.

تمت ملاحظة التقاطعات والنقاط المشتركة في تصورات مراكز الأبحاث الإسرائيلية، مثل: الحدود الإثنية والأقليّات والتركيز على الدروز والأكراد في سورية، وإغفال وتجاهل الأقليّة المسيحية، وأقليات دينية إسلامية وغير إسلامية وغيرها من أنواع الأقليّات التي تعبر عن تعددية المكونات الاجتماعية للدولة، أو تدفعها عمليات اضطهادها وتهميشها نحو المساهمة في تعميق الانقسامات والنزاعات الأهلية والسياسية والاعتقاد أن الانفصال قد يكون أهون الشرور.

وتضمنت أبحاث وتصورات مراكز الأبحاث الإسرائيلية المتعلقة بتقسيم سورية فجوات وعيوب، حيث إنها لم تستخلص العِبر والدروس من تاريخ الصراع، ومنه أن جميع عمليات التقسيم وترسيم الحدود ورسم الخرائط كانت نتاجًا لمصالح القوى الدولية ومتطلباتها الإستراتيجية التي دفعت الحركة الصهيونية وقادتها إلى تقليص خرائط مطالبهم الجغرافية لرقعة الاستيطان، وفق مزاعم الوعد الإلهي التوراتي من خريطة إسرائيل الكبرى إلى حدود قرار تقسيم فلسطين وما يعرف بــــ “الخط الأخضر” مع الفلسطينيين. وهو خط وهمي يحيط بالمناطق الخاضعة لـ “السيادة الإسرائيلية”، وعلى تماس مع قطاع غزة والقدس والضفة الغربية التي جرى تقسيمها، بموجب اتفاق “أوسلو” الإسرائيلي- الفلسطيني 1993، إلى ثلاث مناطق إحداها خاضعة لــ “السيادة الإسرائيلية” التامّة.

ويبدو أن رؤى مراكز الأبحاث الإسرائيلية مؤسسة على اعتقادٍ يُفيد أن تقسيم سورية يُحقق مصلحة إستراتيجية لإسرائيل، تتمثل في الهيمنة على محيطها الإقليمي وإخضاعه ونهبه عبر مشاريع “السلام الاقتصادي”.

المقدمة: 

يحمل مصطلح (Think Tanks) دلالات موغلة في العمق للدور الذي تقوم به تلك المجموعات التي تعكف على صياغة الأفكار في اتخاذ القرارات، خاصة ذات الصبغة الإستراتيجية منها. وتسميتها “مصانع التفكير” تعبيرٌ شائعٌ يدل على استقلالية مراكز الأبحاث، وهي تزعم أنها غير متحيزة، ولكن كثيرًا منها يعبّر عن ميول فكرية وسياسية معينة. ويمكن القول إن مراكز الفكر ترتكز على عصارة فكر المفكرين، وعلى استثمار هذه العقول وجمعها في مجامع يمكن من خلالها “طبخ” القرارات الإستراتيجية وبناء السياسات. ويعود استخدام مصطلح (Think Tanks) إلى مرحلة الحرب العالمية الثانية، وذلك للتعبير عن الغرف الآمنة التي يتناقش فيها كلٌّ من المخططين العسكريين وعلماء الدفاع، وفي أثناء الحرب الباردة، بدأت تتكاثر مراكز الفكر في الولايات المتحدة وأوروبا والعالم، وبدأ تأثر السلطات السياسية بما تنتجه تلك المراكز.

ينشط في إسرائيل منذ عقود عددٌ كبيرٌ من خزانات التفكير، أي مراكز الأبحاث والمؤسسات البحثية الرسمية التابعة للوزارات والكنيست، ومراكز أبحاث حزبية و”هستدروتية” النقابية، ومعاهد الأبحاث المرتبطة بالجامعات الإسرائيلية، إضافة إلى المعاهد ومراكز الدراسات الخاصة المرتبطة أو المتعاونة مع جهات خارجية. وتصنف مراكز الأبحاث، بناءً على اهتماماتها، على النحو التالي: مراكز أبحاث تهتم بالأمن، مراكز أبحاث تهتم بالأمن والسلام، مراكز أبحاث تهتم بوضع خطط إستراتيجية وسياسات عامة، مراكز أبحاث تهتم بالقضايا الاجتماعية، مراكز أبحاث تهتم بالجانب الفكري، مراكز أبحاث تهتم بالاقتصاد، مراكز أبحاث تهتم بالتعليم، مراكز أبحاث تهتم بتعزيز التعايش بين العرب واليهود، ومراكز ومؤسسات استشراقية.

ومن أبرز المؤسسات البحثية الإسرائيلية: المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة، مركز البحوث والتخطيط السياسي، مركز الدراسات الاستيطانية/ رحبوت، معهد الدراسات العربية/ جفعات حفيفا، معهد دراسات الصهيونية والشتات، مركز المعهد اليهودي العربي للهستدروت/ بيت بيرل، مؤسسة الأبحاث الشرقية، المعهد الإسرائيلي للأبحاث الاجتماعية التطبيقية، مركز تراث إسحاق بن تسفي للدراسات اليهودية، معهد هاري س. ترومان للأبحاث وخدمة السلام، مركز دراسة أوضاع عرب (أرض إسرائيل)، مركز فيدال ساسون الدولي لبحوث اللاسامية، معهد الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، معهد ليفي أشكول للأبحاث الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، معهد مارتن بوبر للتقارب اليهودي العربي، مؤسسة أبحاث الشرق الأوسط، معهد شيلواح للدراسات الشرق أوسطية والإفريقية، مركز موشي ديان، مركز جافي للدراسات الإستراتيجية، معهد الدراسات الشرق أوسطية، معهد أبحاث الجولان/ كتسرين، مركز بحوث الأمن القومي، معهد دراسة الحركات السرية، مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان/ بتسيلم، مركز هرتسيليا متعدد المجالات معهد السياسات والإستراتيجيات، المؤسسة الدولية لسياسات مكافحة الإرهاب، كلية لادور لشؤون الحكم والدبلوماسية والإستراتيجيا، مركز أدفا، مركز مولاد، معهد الإستراتيجية الصهيونية، مؤسسة ريئوت [الرؤيا] ، معهد فان لير، والمعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية “ميتفيم”.

ولمراكز الفكر الإسرائيلية دورٌ مهم في صياغة الإستراتيجيات والتوصيات الموجّهة إلى صنّاع القرار في إسرائيل، ولها كذلك نشاط وتأثير على الرأي العام في إسرائيل والمنطقة ومراكز الفكر الأميركية والأوروبية، وتأثير على السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط.

ونظرًا لأهمية دورها في رسم ووضع السياسات والإستراتيجيات والمخططات ومساهمتها في صنع وصياغة القرار السياسي الإسرائيلي، تعنى هذه الدراسة بتتبع نتاجات تلك المراكز والمؤسسات البحثية المتعلقة بمسألة تقسيم سورية، وذلك على خلفية سابقة تقسيم فلسطين.

إشكاليات مصطلح التقسيم

 لا بدّ من إيضاح إشكاليات مصطلح التقسيم ورواجه منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث قسمت الإمبراطورية العثمانية، وتطبيقاته العملية بعد الحرب العالمية الثانية في ألمانيا والهند وفلسطين. ويعتبر التقسيم الترجمة العملية لسياسة “فرّق تَسُدْ” التي تعود لحقبة الإمبراطورية الرومانية ومرادفاته من تجزئة وتفتيت وتشطير حجر الزاوية في إستراتيجيات الهيمنة والإخضاع الإسرائيلية، ويستند إلى ركيزتين أساسيتين، تتمثلان بدورهما بقضيتي الحدود والأقليات الإثنية المرتبطتين جدليًّا ببعضهما وكانتا من محاور اهتمام الفكر الصهيوني ومؤسساته البحثية.

وللحدود أنواع ووظائف مختلفة، وتعتبر الحدود السياسية معيارًا لدراسة الدولة ومراحلها التاريخية، وتطورها السياسي والحضاري، فالحدود ليست مسألة جغرافية أو سياسية بحتة، بل ذات أبعاد ثقافية وحضارية بعيدة وعميقة الجذور. ولا يتم ترسيم الحدود وتحديدها على الأرض فحسب، بل تحدد مساحات الوعي السياسي الجماعي للمجموعة السكانية التي تعيش داخل كيان سياسي لدولة معينة. ولا تعتبر عملية ترسيم الحدود عملًا جغرافيًا فقط، بل للحدود انعكاسات سياسية وثقافية على الهوية الجماعية المرتبطة بالإقليم، وعلى الذاكرة التاريخية وعلى بناء الشخصية الوطنية.

أما حول الأبعاد الإثنية، ففي الأنثروبولوجيا تستخدم الحدود في دراسة العلاقة بين السلالات لتفسير التداخل -عبر الحدود- بين الجماعات الإثنية المختلفة، أو بين حاملي الثقافات المختلفة، خلال عمليات الهجرة والتنمية. وقد تكون الحدود ديمغرافية-سكانية، عندما يتوسع شعب أو تتوسع جماعة إثنية في داخل إقليم شعب آخر أو جماعة أخرى. وقد تكون حدودًا اقتصادية، عندما يتم استغلال الإقليم بواسطة إقليم آخر، أو ضمّه إليه بفرض استخراج ثروته، أو لأي أغراض اقتصادية أخرى. ويمكن أن تكون الحدود عسكرية أو سياسية، إذا توسعت المؤسسات العسكرية أو السياسية في إقليم جديد. وربما تكون حدودًا أيديولوجية عند ممارسة أنشطة تبشيرية أو تربوية أو دعائية… إلخ [1].

وتشكل الحالة الإسرائيلية نموذجًا للتداخل بين الحدود السياسية الجغرافية والحدود الثقافية، حيث تنعكس الأولى على الثانية، وعلى هوية الدولة عمومًا. ويعتقد أن إسرائيل قامت بتحديد حدودها الإثنية قبل حدودها السياسية الجغرافية، من منطلقات ومزاعم توراتية تمحورت حول أرض إسرائيل وإسرائيل الكبرى. ولمتطلبات براغماتية فرضتها موازين القوى الدولية ومتغيرات الصراع في فلسطين وعليها، وتم تقليص الحدود الإثنية إلى حدود سياسية مع مصر والأردن فقط.

وكانت فكرة التقسيم الفكرة الموجهة للعمل السياسي الصهيوني قبل وبعد إعلان قيام إسرائيل، إذ اقترحت خطط عديدة لتقسيم فلسطين خلال فترة الانتداب البريطاني: خطط لتقسيم فلسطين أو لحل الصراع، وكانت تأتي هذه الخطط أو المشاريع من الانتداب نفسه، أو من الأمم المتحدة، كان أول يهودي يعرض خطة مفصلة لتقسيم البلاد مع ترسيم واضح للحدود، قبل خطة “بيل” 1937، أو قرار التقسيم، الدكتور أفيغدور يعقوبسون في عام 1931، وكانت خطته لتقسيم فلسطين مشابهة لقرار التقسيم في عام 1947، ويمكن اعتبار اقتراح يعقوبسون الذي حظي بتأييد بعض أقطاب الحركة الصهيونية أوّل خطة صهيونية جدية ومفصلة لتقسيم البلاد وترسيم حدودها، بين دولة يهودية ودولة عربية. وقد كانت حدود يعقوبسون حدودًا استيطانية ما عدا منطقة النقب، فقد تم ترسيم الحدود في المناطق التي تركّز فيها المستوطنون اليهود، ولا شك أنها أعطت إلهامًا لمن جاؤوا بعده في كيفية تقسيم فلسطين، وخصوصًا في قرار تقسيم فلسطين في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947 [2].

وتسعى المخططات الإسرائيلية إلى تعميم وتعويم مفهوم الحدود الإثنية، واستخدامه في عملية حلّ صراعها مع الفلسطينيين، من خلال الجدار الفاصل، أو من خلال اقتراحات لتعديلات حدودية شاملة أو جزئية، أو خطط فصل أحادية الجانب، كفكّ الارتباط عن قطاع غزة وشمال الضفة الغربية وتطبيق مبدأ الحدود الإثنية على عملية ترسيم الحدود المستقبلية مع أبناء الشعب الفلسطيني في الخارج والداخل، من خلال الاستناد إلى خطاب ديموغرافي عنصري، ومع السوريين واللبنانيين. فقد بدأ يطالب بالحدود الإثنية كثير من الأكاديميين والسياسيين اليهود، لضرورة الأخذ بعين الاعتبار العامل الديموغرافي كعامل مركزي وأساسي في رسم الحدود [3].

تقسيم سورية في التاريخ البحثي الإسرائيلي:

في تاريخ اهتمام مراكز الأبحاث الإسرائيلية بتقسيم سورية قبل العام 2011 وبعده، يمكن التمييز بين مرحلتين لكل منهما سمتها الرئيسة المميزة لها.

المرحلة الأولى من التوسّع إلى التجزئة:

تمتدّ المرحلة الأولى من العام 1948 إلى العام 2010، وتميّزت باندلاع حروب تقليدية بين إسرائيل والدول العربية، في محيطها الإقليمي، أوحَت نتائج أبرزها، حرب 1967 المتمثلة في احتلال ما تبقى من فلسطين إضافة إلى الجولان السوري وشبه جزيرة سيناء المصرية، بأنّ اولوية إسرائيل تتمثل في التوسع وتحقيق حلم “إسرائيل الكبرى” من الفرات إلى النيل. لكن نتائج وتداعيات حربي 1973 و1982، أكدت تراجع مكانة المشروع التوسعي الصهيوني، لصالح مشاريع ومخططات تجزئة وتفتيت وتقسيم البلاد العربية.

في هذه المرحلة، لعبت مراكز الأبحاث وطواقمها، من باحثين أكاديميين وسياسيين وعسكريين، ومؤتمراتها وندواتها، دورًا رئيسًا في وضع الإستراتيجيات والمخططات والسياسات الإسرائيلية لمواجهة التحديات والتهديدات الداخلية والخارجية. فوضع رؤفين شيلواح، خبير العلاقات السرية مع الأقليّات، وخصوصًا الأكراد، مخططًا عُرف في ما بعد بـ “إستراتيجية الأطراف”، يقضي بتطوير علاقات إسرائيل مع الدول الأجنبية المحيطة بالدول العربية، كإيران وتركيا وأثيوبيا، لتهديد الدول العربية والضغط عليها وإبقاء بؤر الصراع قائمة بينها وبين الدول العربية، لإضعافها. وأنشأ رئيس الحكومة دافيد بن غوريون فريق عمل في سنة 1953، من الجيش والعناصر الأمنية وأجهزة الاستخبارات والمهمات الخاصة، لكي يتولى الاتصال بالأقليات في الوطن العربي، وتوثيق العلاقات معها [4].

وتم تبنّي فكرة تفيد أن “أساس وجود مشكلة الأقليّات في الوطن العربي يعود إلى العرب أنفسهم”، ويقول: “إن هنالك وطنًا واحدًا للعرب عائدًا لهم، وليسوا غرباء فيه، ألا وهو الجزيرة العربية. أما بقية البلاد التي يقيمون الآن عليها، فليسوا سوى محتلين لها مسيطرين عليها، يقيمون فيها إمبراطورية مغتصبة، ويستنكرون بكل وقاحة الحقوق الطبيعية للشعوب التي لها الحق الشرعي في هذه المنطقة قبل “الاحتلال العربي” والتي أصبحت الآن “شعوبًا وطوائف لاجئة” في الشرق الأوسط، لها كل الحق في تقرير المصير والاستقلال السياسي. وهنالك عبء من الحقوق والواجبات ملقًى على كاهل الإسرائيليين، كي يقدّموا يد العون إلى المتعفنين في عبوديتهم داخل السجن العربي. لذا يجب إيجاد لغة مشتركة وطريقة عمل واحدة مع الأكراد في العراق، والدروز في سورية، والزنوج في السودان، والموارنة في لبنان، والأقباط في مصر، وسائر أبناء الشعوب والديانات التي تحارب سوية من أجل التحرر والاستقلال. إن من العدالة والحكمة السياسية أن تعمل إسرائيل على الفك التام للإمبراطورية التي تعتبر آخر إمبراطوريات الماضي التي انتهت في عهدنا” [5].

 وتأكيدًا لأهمية قضية الأقليات، عقدت عدة من ندوات ومؤتمرات في مراكز البحوث والجامعات الإسرائيلية، ناقشت مخططات ومشاريع إسرائيلية لتنفيذها في الوطن العربي. وتمخضت عنها المواقف التالية:

 1ـ تأييد إسرائيل للنزعات الانفصالية والإثنية في الوطن العربي.

 2ـ البحث في أساليب دعم الأقليات في الأقطار العربية.

 3. الدفاع عن الأقليات التي تتعرض لاضطهاد عربي في المحافل الدولية.

ومن أهم تلك المؤتمرات والندوات:

 أولًا: الندوة التي عقدت في سنة 1979، في مركز الأبحاث السياسية التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية، وشارك فيها باحثون إسرائيليون مختصون في الشؤون السياسية والمهمات الخاصة وبعض العسكريين، أمثال ديفيد ساسون (مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية)، ويهوشافاط حراكابي (رئيس الاستخبارات العسكرية الأسبق)، وديفيد كمحي (مدير عام وزارة الخارجية الأسبق)، وبرئاسة مدير المركز زيونستين، بحث المجتمعون في مستقبل العلاقة بين إسرائيل والدول العربية، وأوصت بدعم الأقليات في الوطن العربي وتشجيعهم على إقامة كيانات خاصة بهم.

ثانيًا: الندوة التي عقدها مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا التابع لجامعة تل أبيب سنة 1990، تحت عنوان (تفتيت المنطقة العربية)، وقُدّم فيها 20 بحثًا، قدّمها متخصصون إسرائيليون في الشؤون العربية، ومن المشاركين البروفيسور يحزقيل درور، وأوري لوبراني، وديفيد ساسون، مدير قسم المهمات الخاصة ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية. ووضع المؤتمر توصيات في كيفية الاستفادة من التناقضات الموجودة بين الأقليات والدول العربية والاتصال معها وكيفية تقديم المساعدات لها ودعمها.

ثالثًا: الندوة التي نظمها مركز بار إيلان للأبحاث الإستراتيجية، التابع لجامعة بار إيلان الإسرائيلية في 22 أيار/ مايو 1992، بالتعاون مع مركز الأبحاث السياسية بوزارة الخارجية الإسرائيلية، عن “الموقف الإسرائيلي من الجماعات الإثنية والطائفية في العالم العربي”. وشارك فيها خبراء وباحثون إسرائيليون متخصصون في الشؤون الإستراتيجية والعربية، منهم ديفيد كيمحي، ويهوشافاط حراكابي، وأوري لوبراني، وعوفر إبانجو، الباحثة الإسرائيلية المتخصصة في شؤون الأكراد. وقُدّم في الندوة أحد عشر بحثًا عن الأقليات في الوطن العربي، وصدرت توصيات عن المؤتمر عبرت عن موقف الحكومة الإسرائيلية من انتشار الأقليات العرقية والطائفية في الدول العربية.

ولخّص المؤتمر توصياته في ما يلي:

1ـ ضرورة تقديم الدعم العسكري وعدم الاكتفاء بالدعم السياسي المعنوي للأقليّات.

2ـ إن مصلحة إسرائيل تقتضي أن تتكرس تلك الصراعات وتتعمق، لأن تجزئة الوطن العربي تؤدي إلى إضعافه وتشتيت قواه، ما يؤدي إلى بقاء إسرائيل.

3ـ إن تفتيت الدول العربية الرئيسية يتطلب جهودًا عملية من جانب إسرائيل، لدعم الأقليات ماديًا وعدم الاكتفاء بالدعم المعنوي.

4. الاتصال المباشر بتلك الجماعات، وحثها على الثورة والانفصال وإقامة كيانات مستقلة.

5. الاستعانة ببعض الدول لتحقيق عدم الاستقرار في الدول التي توجد فيها الأقليات.

رابعًا: الندوة التي عقدها مركز بار إيلان سنة 1993، عن الأقليات ومستقبل الصراع العربي الإسرائيلي، وتنبأت الأوراق التي قدمت بأن الصراع في العقدين القادمين سيكون داخليًا في الدول العربية نفسها، بينها وبين الأقليات فيها [6].

ووضع عوديد يينون الدبلوماسي الإسرائيلي السابق، أهم الدراسات الإسرائيلية الإستراتيجية وأخطرها، وهي المتعلقة بدعم إسرائيل للأقليات في الوطن العربي، من أجل تحقيق خططها في تجزئة الوطن العربي وإضعافه. وحملت الدراسة عنوان إستراتيجية إسرائيل في الثمانينيات” A Strategy for Israel in the Nineteen Eighties، وقدمها يينون لوزارتي الخارجية والدفاع الإسرائيليتين، ونشرها في مجلة Direction الصادرة عن إدارة الاستعلامات التابعة للمنظمة الصهيونية العالمية كيفونيم Kivunim في العدد رقم 14 / 2/ 1982. دعا يينون إلى إقامة دولة علوية على طول الساحل، ودولة سنّية في منطقة حلب، وأخرى سنية في دمشق، ودولة درزية في هضبه الجولان تمتد إلى حوران وشمال الأردن [7].

وحين تنبهت رابطة الخريجين الأميركيين العرب لخطورة هذه الدراسة، قامت بتكليف الناشط الحقوقي الإسرائيلي وأستاذ الكيمياء العضوية، إسرائيل شاحاك، بترجمتها إلى الإنجليزية، ونشرت تحت عنوان: «الخطة الصهيونية للشرق الأوسط – The Zionist Plan for the Middle East»، مصحوبة بمقدمة وخاتمة.

وقد أكد شاحاك في تقديمه لهذه الدراسة أنها أشمل ما كُتب في إسرائيل حول هذا الموضوع، وأنها تعكس حقيقة ما يجول بالعقل الصهيوني. أما في الخاتمة، فقد حاول التعرّف إلى الأسباب التي تدفع بمجلة إسرائيلية لنشر دراسة كاشفة لنيّات ومخططات الحركة الصهيونية، وطرح تفسيرين مقنعين إلى حد كبير: الأول يتعلق برغبة الحركة الصهيونية في تثقيف الأجيال الجديدة في النخبة الإسرائيلية، خاصة العسكرية، وتوعيتها بما يدور في عقل الآباء المؤسسين حول أمور خطيرة، كان تداولها يقتصر حتى وقت قريب على تلقين شفهي تبيّن أن فيه عيوبًا كثيرة، وهو ما يفسر الاكتفاء بنشر هذه الدراسة بالعبرية فقط. والثاني استهانة الحركة الصهيونية بقدرة العقل العربي على التعامل الواعي مع ما تضمنته هذه الدراسة من خطط تهدد مصالحه الإستراتيجية، بسبب افتقاره للنهج العلمي وغياب آليات فعالة لصنع القرار الجماعي على مستوى العالم العربي ككل. ولأنها دول لا تقوم على أسس راسخة وقابلة للدوام، فمن السهل تفكيكها وإعادة تركيبها على أسس جديدة، وهو ما يتعين على إسرائيل، من وجهة نظر “يينون”، أن تعمل عليه بكل طاقتها [8].

 كما اهتمت الحركة الصهيونية وإسرائيل بإضعاف سورية، عن طريق خلق فتن طائفية وعرقية ومذهبية فيها، تمهيدًا لتفتيتها إلى دويلات صغيرة ضمن مخططاتها لتفتيت الوطن العربي. وكان الاهتمام الإسرائيلي بخلق صراعات محلية في سورية، والمراهنة عليها لإضعافها ومنعها من مقاومة الوجود الإسرائيلي على حدودها، ووجدت تلك الدراسات أن على إسرائيل استغلال نقاط الضعف في سورية، وذلك عن طريق استغلال وجود الأقليات فيها. ومن تلك الدراسات التي وضعتها مراكز الدراسات، دراسة وضعها الباحث د. يعقوب شمشوني، في الندوة التي عقدها مركز ديان في 28 شباط/ فبراير 1994. وحللت أوضاع الأقليات الطائفية والعرقية في سورية، وقال: “إن الصراعات الطائفية في سورية مجمّدة ومرهونة ببقاء الحكم الحالي فيها، ولكن هذه الصراعات سوف تتفجر بشكل دموي وعنيف، حيث يهدف الصراع إلى مسك زمام الحكم مستقبلًا، لأن الصراع المتوقع في سورية لاحقًا لن يكون صراعًا بين رموز وشخصيات على السلطة، بل سيكون مظهره طائفيًا، لا سيما أن مجموعة العلويين القابضة على زمام الأمور لن تسمح للأغلبية السنية بالعودة إلى السيطرة على مقاليد السلطة في سورية، وسينضم إلى هذا الصراع الذي سيكون بشكل حرب عنيفة تنسف الاستقرار السياسي والاقتصادي خلال الفترة القادمة، الدروز في السويداء، والأكراد الذين يعيشون في مناطق متاخمة لتركيا والعراق، والذين قد يعلنون عن انضمامهم إلى الكيان الكردي في شمال العراق” [9].

وقدم د. ايتمار رابينوفتش، المتخصص في الشؤون السورية، دراسة عن التركيبة الديموغرافية في سورية، وادعى أن قضية الأقليات فيها “قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، مثلما انفجرت من قبل في كل من لبنان والعراق ويوغوسلافيا”. وركز على موضوع الدروز في سورية ولبنان وفلسطين، وإمكانية الاستفادة من الدروز الذين يقيمون في إسرائيل للاتصال مع الدروز السوريين، للتأثير عليهم ودعوتهم لإقامة “كانتون” درزي يضم الدروز في سورية ولبنان. وأشار رابينوفتش إلى العلاقة بين الحركة الصهيونية والدروز في الأربعينيات، وإلى أن المخابرات الإسرائيلية سعَت إلى إقامة دويلة درزية، تمتد حدودها من محافظة السويداء في جبل العرب في سورية حتى منطقة خلدة جنوب بيروت، وإلى أنّ هناك مخططًا لتشجيع إقامة دولة علوية في سورية. واعترف رابينوفتش بوجود “جمعيات يهودية صهيونية، كانت نشطة في مناطق العلويين قبل الاستقلال، منها حركة فابي وحركة حالوت هاتسوفيتم، واستمرت العلاقة حتى قيام الدولة واستقلال سورية” [10].

المرحلة الثانية: “هاجس التقسيم”

تمتد المرحلة الثانية من العام 2011 إلى العام 2022، وهي مرحلة لم تشهد حروبًا بين إسرائيل والدول العربية، بل شهدت ثورات عربية نتيجة لنزاعات أهلية وأزمات اقتصادية عجزت أنظمة الحكم عن حلّها، مما جعل دولها دولًا فاشلة وغير مستقرة.

وفي حالة سورية، وجدت إسرائيل أن استقرارها الأمني مرتبط بتقسيم سورية، لا ببقائها موحدة، وبرهن على ذلك الخبير الإستراتيجي الإسرائيلي، جيورا إيلاند، في بحث بعنوان “الاضطرابات في الشرق الأوسط وأمن إسرائيل”، وقد نشره معهد الأمن القومي الإسرائيلي، ويؤكد فيه أن إسرائيل كانت لا تريد أن تؤثر على الأحداث في سورية بداية من اندلاعها، إلا أن ما يحدث أصبح يؤثر في إسرائيل. وأشار إلى أن هناك 4 سيناريوهات مستقبلية للأوضاع في سورية: الأوّل بقاء الأسد في السلطة، والسيناريو الثاني سقوط الأسد، ودخول سورية إلى فترة من عدم الاستقرار والصراع الداخلي، ما يفتح المجال لزيادة التأثير الإيراني في سورية، وتكوين جماعات مدعومة من إيران ضدّ إسرائيل. والسيناريو الثالث هو وصول التيار السني للحكم في سورية، وهو ما يعني زيادة التشدد الإسلامي ضد إسرائيل، بالرغم من أن التيّار السنّي سيكون فاقدًا للدعم الإيراني الشيعي. والسيناريو الرابع هو إقامة حكم ديمقراطي في سورية مؤيد للدول الغربية، وفي هذه الحالة، من الممكن أن تضغط الدول الغربية على إسرائيل لقبول الدخول في مفاوضات للتنازل عن هضبة الجولان [11].

تناول عاموس يدلين، رئيس معهد دراسات الأمن القومي، في دراسةٍ البيئةَ الإستراتيجية لإسرائيل في السنوات التي تلت الأزمة السورية (2011) وصولًا إلى عام 2015. ثم استشرف الوضع حتى 2020، وأشار بوضوح إلى ضعف الدول العربية، وإلى اضمحلال دول مواجهة كبرى، وإلى أن (داعش) أصبحت لاعبًا مركزيًا وقوة لا يستهان بها، وأن الدول الكبرى عادت إلى لعب أدوارٍ عسكرية -بشكلٍ مباشر لا عبر وسيط- في المنطقة، كما أشار إلى تطابق مصالح بين العالم “السني البراغماتي” (كما يصنّفه) وبين الدولة العبرية، وأن الوضع الفلسطيني أخذ بالتحوّل صوب انتفاضة طعنٍ ودهس، وأشار أخيرًا، وهذا هو الأهم، إلى أن الخطر على دولة الاحتلال بات أكبر، وذا تنوعٍ أكثر عمقًا. وقدّم نوعًا من الاستشراف المستقبلي ضمن حلول للتخلص من عداوات مستقبلية، من خلال محاصرة إيران عبر اتفاقيات أكثر تفاهمًا وعمقًا مع الولايات المتحدة، وثانيًا محاولة إضعافها عبر إنهاكها أكثر في الحرب السورية [12].

وأكد رون تيرا، في دراسته حول مرحلة ما بعد (سايكس – بيكو)، أنَّ تلك المرحلة قد ولّت إلى غير رجعة، فنحن “أمام شرق أوسط جديد، على إسرائيل لعب دور أكبر فيه، من خلال تفاهم وتنسيق أكبر مع مصر (خصوصًا فيما يتعلّق بغزّة وسيناء، مثلًا) والأردن والسعودية” [13].

الأمر نفسه ينسحب على دراسة (حان الوقت للقول وداعًا سوريا، وداعًا سايكس بيكو) التي قدّمها جدعون ساعر وغابي سيبو، وهما باحثان في معهد دراسات لأمن القومي، إذ وجدا سببين أساسيين وراء عودة الحرب الأهلية في سورية إلى رأس جدول الأعمال: السبب الأول يتصل بتعاظم الوجود العسكري الروسي في تلك الدولة، أما السبب الثاني فيتعلّق بإغراق أوروبا بتدفق متزايد للاجئين، وقد اتّضح منذ أوائل الحرب أن تداعياتها لن تقتصر على سورية [14]. وأشارا إلى أن سورية التي يعرفانها قد انتهت إلى غير رجعة، ولا يمكن توحيدها من جديد. ووجدا أن تقسيمها يَصبّ في مصلحةِ الجميع (اللاعبين الإقليمين جميعهم في المنطقة)، ويُسهم في كبح “داعش”. وأشارا إلى أنه “يجب أن تقر جميع الجهود المبذولة لحلّ الأزمة السورية بأن سورية عام 2010، دولة ذات سيادة ذات حدود معترف بها دوليًا، لم تعد موجودة. ولن يتم إنشاء دولة ذات سيادة مع حكومة مركزية فعالة في المنطقة المعترف بها كسورية، في أي وقت قريب”. وأضافا أن “دافع البعض في المجتمع الدولي لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وتحقيق الاستقرار في سورية “القديمة” في ظل حكومة جديدة ليس له أي جدوى سياسية أو إستراتيجية. يجب أن يكون لأي إستراتيجية تُصاغ بهدف وقف الحرب الأهلية في سورية وتشكيل مستقبلها افتراض بداية واضح: لا يمكن تجميع سورية المنهارة والمنقسمة معًا. لذلك من الضروري التركيز على تحديد البدائل العملية للدولة السورية وصياغة خطة أساسية قابلة للتطبيق ومقبولة لدى القادة في الأنظمة الإقليمية والعالمية”.

وذكرا أنه “في سياق الحرب الأهلية، كانت سورية في الواقع مقسّمةً إلى مناطق سيطرة، على أساس خطوط ديموغرافية في المقام الأول. التدفق الداخلي للاجئين والمقيمين نحو المراكز العرقية والدينية، حيث يشعر المدنيون بالأمان…. وعلى الرغم من أن المصالح داخل المجموعات الإثنية لا تتقارب تمامًا، فمن الناحية العملية هناك تقسيم واضح إلى مجالات ديموغرافية متجانسة نسبيًا… في ظل هذه الظروف، يبدو أن التقسيم القانوني لسورية إلى عدة كيانات عرقية ودينية هو الخطوة الأكثر طبيعية، لأسبابٍ ليس أقلها أن هذا لديه فرصة حقيقية للمساعدة في استقرار الساحة ووقف الحرب” [15].

ووجَد الباحثان جدعون ساعر وغابي سيبو أن الترتيبات المقترحة لها جذور في التاريخ السوري، إذ إن فرنسا، خلال حكمها الإلزامي في بلاد الشام، تصورت خمس وحدات شبه حكومية للأراضي السورية، يمكن أن تشكل دولة ذات سيادة في المستقبل. استندت مناطق الحكم الذاتي الدرزي والعلوي إلى عامل ديموغرافي عرقي، فتم إنشاء أربع من الوحدات الخمس في أيلول/ سبتمبر 1920، وتم إنشاء دولة جبل الدروز بعد ذلك بعامين. أصبحت المنطقة المسيحية فيما بعد لبنان، وضمّت تركيا الأقلية التركية في منطقة الإسكندرونة عام 1939. وربط المبدأ الفرنسي الأصلي بنية الدولة بالرغبة في حماية الأقليات.

وزعما أنه يبدو أن “التطلعات القومية للدروز أكثر تواضعًا من تطلعات الأكراد. إنهم مهتمون بشكل أساسي بالبقاء في حد ذاته. لكن بالنظر إلى الوضع، يمكن أن يرحب الدروز بالحكم الذاتي للدروز في جنوب سورية (من النوع الذي كان يتمتع به أثناء الانتداب الفرنسي، والذي تم سحبه عشية الاستقلال السياسي لسورية) كجزء من الاقتراح. من المحتمل العثور على عناصر إقليمية ودولية لدعم مثل هذا الكيان، لأنه سيعمل أيضًا كحاجز بين الأردن في الجنوب والنظام السني الراديكالي في وسط سورية، وما دام  الفاعلون الرئيسيون في الساحة الدولية يلتزمون بالفكرة العبثية المتمثلة في دولة علمانية في سورية، في ظل حكومة مركزية واحدة، فسيكون من المستحيل تقديم أي حل”.

وخلصا إلى أن “اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت بلاد الشام إلى ما يقرب من مئة دولة منذ سنوات، لم يكن ملحوظًا لالتزامه الوثيق بالهويات الديموغرافية والأسباب المنطقية. حان الوقت للابتعاد عن هذا التراث، على الأقل في سورية” [16].

خصّص مركز أبحاث الأمن القومي في تل أبيب مكانًا بارزًا في تقديره الإستراتيجي السنوي للعام 2014، للحرب الدائرة في سورية وسيناريوهاتها المحتملة، مع توصيات لصنّاع القرار الإسرائيلي، بماهية السياسات الواجب اتباعها تجاه كل سيناريو. وفي ما يأتي أهمّ ما جاء فيها، ويصفها التقدير بـ “الفرص”. الفرصة الأبرز، وبحسب التقدير، هي أنه كلّما طالت الحرب ضعفت سورية أكثر، وضعفت قدرتها على مواجهة إسرائيل في حرب تقليدية بين جيشين. بحسب التقدير، مقابل ضعف فرضية التدخل الخارجي وترجيح كفة طرف على آخر، فإنها ستبقى كذلك. الأمر الذي يعني بقاء أربعة سيناريوهات معقولة للحرب، مع تعذر تقدير أرجحية أي منها: أولًا سيناريو الصومال، أي استمرار الحرب بلا نهاية منظورة، وصولًا إلى فوضى كبيرة، شبيهة بأوضاع الدول الفاشلة؛ ثانيًا «سايكس بيكو» سوري جديد، أي تقسيم الدولة إلى دول صغيرة: علوية في الساحل باتجاه دمشق، سنيّة في الشمال مع قسم من الجنوب والشرق، وكردية في الشمال الشرقي؛ ثالثًا، انتصار النظام. وهو انتصار يتحقق بعد قتال مستمر ودموي لسنوات عدة؛ رابعًا، انتصار المتمرّدين بعد حرب استنزاف لسنوات مقبلة.

ولكلٍّ من السيناريوهات الأربعة انعكاسات على إسرائيل ومصالحها وأمنها، وليس بالضرورة أن تكون كل الانعكاسات سلبية؛ ففي السيناريو الصومالي، يُقدّر أن تتعاظم التهديدات إزاء إسرائيل، وتحديدًا من قبل المجموعات المتطرفة غير المنضبطة، ومع أنّ الفرصة في هذا السيناريو هي انعدام قدرة سورية، تمامًا، على مواجهة إسرائيل كدولة؛ فإن حضور اللاعبين غير الدول في الساحة السورية سيتزايد، مع تعاظم إمكان انزلاق سلاح غير تقليدي باتجاهها. أما في سيناريو سايكس بيكو، وتقسيم سورية كنهاية للقتال، فيقدّر أن يتولّد واقع مريح لإسرائيل. ذلك أنه مقابل كل دولة صغيرة من الدول المتشكلة في سورية، يوجد نظام مركزي يتيح لإسرائيل تركيز سياساتها عليه، ويكون بإمكانها أيضًا أن تبني منظومة علاقات جيدة مع بعضها. ومن جهة أخرى، فالدول، أو الدويلات الثلاث، ستكون ضعيفة وغير قادرة على تهديد إسرائيل.

ومن ضمن التوصيات بإمكان إسرائيل أن تستغل الأوضاع في سورية، لإقامة حوار مع لاعبين جدد في الساحة السورية، يشمل جهات من المتمردين أنفسهم، ومع الأكراد أيضًا، الذين لا مبرر لديهم لمعاداة إسرائيل [17].

من جانب آخر، دعا واضعو دراسة صادرة عن “معهد أبحاث الأمن القومي” صنّاعَ القرار في إسرائيل إلى إعادة النظر في سياسة “الوقوف جانبًا”، والتعاون مع من وصفوهم بـ “اللاعبين الإيجابيين” في سورية. ورأى الباحثون أنه في “الوقت الحالي يتعين على إسرائيل إجراء بحث عميق حول تبعات التغيرات في سورية ومخاطر وصول قوى مؤيدة لإيران أو سلفية – جهاديّة إلى جنوب سورية، وهي المنطقة الوحيدة التي تخلو من تأثيرهما، ودراسة إمكانية إقامة منطقة تخضع لتأثير إسرائيل في الحيّز القريب من حدودها، من خلال التعاون مع لاعبين سوريين، إقليميين ودوليين” [18].

ودعت الدراسة إسرائيلَ، في باب التوصيات، إلى توسيع وترسيخ العلاقات مع “لاعبين براغماتيين” في سورية في جنوب سورية، وفي مقدمتهم “الجيش السوري الحر”، وكذلك مع “مجموعات مصالح محلية” والائتلافات التي تجمعهم، وخصوصًا الدروز والأكراد، وتطوير التزامات متبادلة مع هذه القوى. وتطرقت التوصية الثانية إلى تعزيز “شراكات محتملة”، وخصوصًا في جنوب سورية، مع جهات لديها مصالح مشتركة مع إسرائيل، بهدف لجم المحور المؤيد لإيران والتنظيمات السلفية-الجهادية، ومنع اقترابها من منطقة الشريط الحدودي في الجولان المحتل، وأن يتم تعزيز مثل هذه العلاقات من خلال تقديم إسرائيل مساعدات مختلفة، من ضمنها مساعدات اقتصادية، وممارسة تأثيرها في الحلبة الدولية، من أجل زيادة الدعم العسكري أيضا لهذه القوى. لكن الدراسة حذّرت إسرائيل من المبادرة إلى إقامة كيانات ذات حكم ذاتي في سورية وتنصيب حكام، لأن من شأن ذلك الإضرار بصورة إسرائيل واحتمال جرها إلى صراعات هي في غنى عنها، سواء مع النظام أو مع معارضين يدعون إلى وحدة الأراضي السورية. وطالبت التوصية الثالثة إسرائيل بالعمل من أجل ترسيخ شراكات إستراتيجية طويلة الأمد، وتتجاوز المستوى التكتيكي، مع لاعبين سوريين، وذلك في إطار خطة عمل إقليمية ودولية تحظى بدعم واسع. ودعت التوصية الرابعة إسرائيل إلى تنفيذ خطوات لبناء الثقة وتحسين صورتها لدى “شركاء محتملين” في سورية. ولفت الباحثون إلى أنه “على الرغم من موقف إسرائيل الحيادي والعمليات المنسوبة لها ضد أهداف لنظام الأسد وحلفائه، فإنها ما زالت تعتبر لدى كثير من اللاعبين السوريين حليفة للطاغية”. وخلصت الدراسة في توصياتها إلى أنه يتعين على إسرائيل تشجيع، أو على الأقل السماح، بإقامة علاقات بين جهات إسرائيلية رسمية ومدنية وبين لاعبين سوريين “إيجابيين”، والسماح بعقد لقاءات بين الجانبين في إسرائيل وخارجها. كما دعت الوزارات الإسرائيلية إلى تسهيل الإجراءات البيروقراطية، لإصدار تأشيرات لشخصيات سورية ترغب بزيارة إسرائيل [19].

وتوقّع تقرير مركز ديان للدراسات الشرق أوسطية في تل أبيب، في دراسة بعنوان (نظرة تحليلية إلى الشرق الأوسط والربيع العربي في 2013)، أن يشهد العام 2013 سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وتقسيم سورية إلى عدة دويلات على أسس طائفية. وذكر التقرير أن مدير مركز ديان للدراسات الشرق أوسطية في تل أبيب، عوزي رابي، لا يستبعد، بعد سقوط نظام الأسد، تفكّك سورية طائفيًا إلى ثلاث دويلات: كردية وسنية وعلوية، مشيرًا إلى ما وصفه بـ “الجيب الكردي” في شمال شرقي سورية، وإلى تدفق العلويين إلى المناطق الساحلية، مثل طرطوس واللاذقية، وأنّ “السنّة” قد يتمسكون بالعاصمة دمشق ومدينة حلب، واستبعد سيناريو مجيء معارضة تحمل طرحًا جديًا لاستقرار سورية ما بعد الأسد ([20]).

يُعدّ مؤتمر هرتسليا الذي يقيمه سنويًّا منذ العام 2000 المركز متعدد التخصصات في هرتسليا، معهد السياسات الإستراتيجيّة (IPS)، من أهمّ المؤتمرات في إسرائيل، ويُعنى بالشؤون الإستراتيجية الخاصة، وقد أصدر وثيقة تقدير هرتسيليا لعام 2012.. إسرائيل في عين العواصف.. في الداخل والخارج، كتبها كل من اللواء (احتياط) داني روتشيلد (مدير معهد السياسة والإستراتيجية في هرتسليا IDC ورئيس سلسة مؤتمر معهد هرتسليا)، وتومي شتاينر (زميل بحثي متقدم في معهد السياسة والإستراتيجية IDC في مركز هرتسليا متعدد المجالات، ومدير لسلسة مؤتمرات هرتسليا، وقد خدم، سابقًا، كمدير تنفيذي لمنتدى الأطلسي في إسرائيل)، وذكر الكاتبان في مقدمة الوثيقة أن هناك سلسلة من الأحداث الدراماتيكية والعمليات البنيوية بدأت، في العام الماضي، في خلق تطورات تغير قواعد اللعبة في الفناء الخلفي الخاص لإسرائيل.

ويلخص جدول أعمال مؤتمر هرتسليا لعام 2012 ثلاث عمليات متداخلة ومؤثرة تعطي الأطر الجديدة للمشهد الإستراتيجي الإسرائيلي؛ الأزمة الاقتصادية العالمية، والاضطرابات الاجتماعية – السياسية في أرجاء الشرق الأوسط، وتنامي قوة الأفراد عالميًا. وبعد عام من انطلاق الانتفاضات الشعبية في أرجاء الشرق الأوسط، تؤكد الأحداث على الأرض التقديرات الإسرائيلية الحذرة والمقلقة التي تمّ التعبير عنها في مؤتمر هرتسليا في عام 2012، والمتعلقة بالمخاطر الجديدة المنبثقة من الاضطرابات السياسية الإقليمية. ويزيد ابتعاد القوى العالمية التقليدية عن الشرق الأوسط عدم الاستقرار الإقليمي، ويسهل تجرؤ الإسلام السياسي/ الراديكالي، كما يشجع إيران على مواصلة السيطرة الإقليمية، ويحرم المنطقة من الموارد المطلوبة لمواجهة التخلف الاجتماعي – الاقتصادي الواهن.

وذكرت الوثيقة أن الأحداث على الأرض تؤكد التقديرات الإسرائيلية المقلقة والحذرة بشأن المخاطر الجديدة المنبثقة عن الاضطرابات السياسية الإقليمية، وأن مجتمعات السياسية الغربية انتقدت الموقف الإسرائيلي، غير أن تقويماتهم المتفائلة ثبت خطؤها.

فتقدّم الإسلام السياسي الراديكالي عبر الشرق الأوسط، وليس في البلدان التي أجرت انتخابات فقط، كما هو واضح، يشكل مصدر قلق عميق بشأن مستقبل هذه المنطقة. فالظروف على الأرض لا تبدو مساعدة على تشجيع التطور السياسي والاجتماعي – الاقتصادي، ربما باستثناء المغرب. فالأمن والاستقرار الإقليميان عرضة للخطر، وينبغي على المرء ألا يعتبر أن التكامل الإقليمي لبلدان الشرق الأوسط أمر مسلم به، ومن ضمنها سورية والعراق ولبنان واليمن. ففي معظم الحالات، سوف يحمل تفكك البلدان عواقب إقليمية جمة [21].

وتابعت الوثيقة إن مستقبل جارتي إسرائيل الشماليتين غير واضح. فعند هذه النقطة، يستخدم نظام الأسد، بمساعدة فعالة من إيران وحزب الله، وبدعم سياسي من روسيا، كل الإجراءات والموارد التي لديه للاحتفاظ بالسلطة. وتشير غالبية التقديرات إلى أن نظام الأسد يقترب من نهايته (…)، والأمر مسألة وقت فقط (كذا!!).

إن انعدام ردّ دولي كاف على نظام الأسد يضاعف تصميم نظام الأسد على استخدام جميع الوسائل لإخماد التمرد. وعلى خلفية عدم الانسجام بين المعارضة السورية، مع الأداء العسكري المتدني، فإن سفك الدماء من المحتمل أن يستمر. ومن دون تدخل عسكري دولي، وهو أمرٌ لا يبدو أنه سيأتي، ستكون الإطاحة بنظام الأسد مهمة صعبة وطويلة الأمد [22].

اهتمت النقاشات والأوراق البحثية التي قدمت لمؤتمر هرتسليا عام 2015، بشكل خاص، برصد التطورات المتلاحقة في العالم العربي واستشراف تداعياتها على إسرائيل، لا سيما التطورات في كل من العراق وسورية، وزيادة تأثير الحركات الجهادية على المشهد الإقليمي، والثورات المضادة، والبرنامج النووي الإيراني [23].

ومن بين القرارات والتوصيّات ونتائج المناقشات التي تضمنها مؤتمر هرتسليا 2016، حول الصراع في سورية، توقع المؤتمر ألا تنعم سورية بوحدة أراضيها تحت سلطة قائد واحد في السنوات القريبة، ودعا إلى أخذ الحذر من “أسوأ نهاية ممكنة للصراع في سورية، بالنسبة لإسرائيل، وهي اندحار تنظيم الدولة الإسلامية وانحسار رقعة نفوذه وتأثيره وترك الدول العظمى للمنطقة، وبقاء المحور الراديكالي المتمثل بإيران وحزب الله”.

وأصدر “مركز يروشليم لدراسة المجتمع والدولة”، الذي يرأسه وكيل وزارة الخارجية الإسرائيلي السابق دوري غولد، تقريرًا أفاد بأن “إقامة إقليم يضمّ درعا وجبل الدروز (السويداء) والقنيطرة يُعدّ من أفضل الخيارات التي يمكن أن تسفر عنها التسوية الشاملة للصراع في سورية”[24].

وذكر التقرير أن تطبيق ما جاء في “وثيقة حوران” كان سيجعل “فرص تحوّل منطقة جنوب سورية إلى مناطق تهديد لإسرائيل، سواء من خلال تواجد إيران وحزب الله، أو من خلال تمركز الجهاديين، تتقلّص إلى حد كبير[25]. وأقرّ بأن تنفيذ ما جاء في هذه الوثيقة التي تدعو إلى الإعلان عن جنوب سورية كإقليم مستقل، ضمن ما يسمى الاتحاد “الفيدرالي السوري المستقبلي”، يعني عمليًّا تقسيم سورية [26].

يلاحظ أن بعض الباحثين والمؤرخين والمستشرقين الإسرائيليين قدّموا دراسات وتحليلات خطيرة، تتعلق بمشروع تقسيم سورية، ومنم غاي بيخور (مستشرق) الذي ذكر أن قليلين مَن يعرفون أنّ سورية ليست مجرد اختراع للانتداب الفرنسي، بل كانت تتشكل في بدايتها من ستّ دول أقيمت على أساس طائفي. وقد كانت هذه الدول مستقلة بكل معنى الكلمة: مع حكومات، عملة، طوابع، أعلام، عواصم وبداية جيوش. والآن، بدأ كل شيء يتفكك، على الأساس الطائفي ذاته، وكأنه لم تمرّ مئة سنة. تلقى الفرنسيون الانتداب على ما أصبح لاحقًا سورية، في مؤتمر سان ريمو في نيسان/ أبريل 1920، وقرر الجنرال الفرنسي هنري غورو تقسيم أراضي سورية إلى ست دول مستقلة مختلفة، على أساس طائفي:

• لبنان، دولة ملجأ للمسيحيين الموارنة، الذين تلقوا بالفعل مفاتيح الدولة الجديدة. لبنان أخرج تمامًا من المنظومة السورية في العام 1936.

• دولة ملجأ للأقلية الدرزية، التي سميت جبل الدروز او دولة سويدا. هذه الدولة وقعت في الجنوب الغربي من سورية اليوم، ووجدت بين أعوام 1921 و1936، حين قرر الفرنسيون توحيد سورية بأسرها، وألغيت المكانة المنفصلة لهذه الدولة [27].

• دولة للأقلية العلوية على شاطئ البحر المتوسط، تسمى دولة العلويين، وبعد ذلك على اسم مدينة اللاذقية، ولها مدينتان كبيرتان ووحيدتان على الشاطئ السوري: اللاذقية وطرطوس. وحصلت دولة العلويين من الفرنسيين على استقلال حقيقي، ولم تكن جزءًا من العموم السوري بين أعوام 1924 – 1936. غير أنها ألغيت هي أيضًا في 1936، وانضمت إلى ما أصبح لاحقًا “سورية الكبرى” [28].

• دولة للأقلية التركمانية في شمال – غرب سورية، سميت بالإسكندرونة، تأسست في أعوام 1921 – 1923، وكان معظم المواطنين عَربًا، إلا أن الفرنسيين قصدوا أن يجسد التركمان في إطارها تطلعاتهم الطائفية. غير أن زعيم تركيا، أتاتورك، طالب بالملكية على الدولة، وفي العام 1938، اجتاح الجيش التركي الإسكندرونة، وغيّر اسمها وطرد منها العرب. وأقيمت هناك حكومة بسيطرة الأتراك، أجرت استفتاءً شعبيًّا قررت الأغلبية فيه الانضمام إلى تركيا. وكان الاستفتاء الشعبي، حسب الادعاءات العربية، زائفًا لكون الأتراك أدخلوا إلى هذه الدولة عشرات الآلاف من مواطنيها، كي يؤثروا على نتائجه، وفي العام 1939 أصبحت الإسكندرونة جزءًا من تركيا، وهي كذلك حتى اليوم [29].

• وأخيرًا، دولتان للأغلبية السنّة: دولة دمشق ودولة حلب. وهاتان ستسقطان في نهاية المطاف بأيدي الثوار، حيث سيقيمون دولتهم السنية.

دولتان طائفيتان صغيرتان، دولة العلويين ودولة الدروز، سيطرتا في الأربعين سنة الأخيرة على دول الأغلبية. سورية هي دولة يسيطر فيها نحو 30 في المئة على نحو 70 في المئة.

وماذا الآن؟ بعد سنوات من الاشتباكات الطائفية في سورية، دون صلة ببشار الأسد ونظامه، من المتوقع أن نرى بعضًا من هذه الدول بشكل كانتونات أو دول بكل معنى الكلمة. فالعلويون سيتطلعون للعودة إلى الاصطفاف على الشاطئ في كيان خاص بهم، الدروز سيتطلعون للحفاظ على جبلهم في شكل سياسي، ودولة أخرى، لم تكن في عهد الانتداب الفرنسي، من المتوقع أن تقوم: دولة الأكراد. منذ اليوم، يتحدث أكراد سورية عن مطلب الحكم الذاتي، في ظل الارتباط بكردستان العراق [30].

وأكد المستشرق “غاي بيخور” أنه هذه ليست سياقات ترتبط بإسرائيل، وحذار عليها أن تتدخل فيها . الكيان السوري “الكبير” كان نتاجًا للاستعمار، لم يتناسب والواقع على الأرض، ومن المتوقع أن يبحث الآن عن سبيله الجديد، لشدة الأسف بعنف داخلي شديد. المستقبل في سورية، على ما يبدو، سيكون في واقع الأمر – الماضي. . . . إن ما يحدث في سورية وما سيحدث بعد ذلك في تركيا ولبنان وإيران وغيرها أعمال تُقسم من جديد الشرق الأوسط العربي والمسلم، بدل الدول القومية المزيفة التي أُنشئت هناك في المئة سنة الأخيرة. إن هذه الدول لم تلائم التقسيم العرقي أو الديني أو القبلي أو الطائفي، ولهذا ستجري هذه المسارات مع أو بلا تدخل أميركي أو غربي [31].

أمّا شلومو أفينيرى، وهو صحفي وأستاذ جامعة وعالم سياسة وتربوي ومؤرخ، فذكر أن السؤال عن بقاء بشار الأسد لم يعُد مهمًّا، والسؤال المهم اليوم: هل تبقى سورية دولة؟ فسورية في حدودها الحالية ليست وحدة تاريخية أو عرقية متجانسة، بل هي ثمرة تسويات استعمارية إنجليزية فرنسية، حدّدت على أثر الحرب العالمية الأولى حدودَ الدول التي نشأت على أنقاض الدولة العثمانية. كان في البدء اتفاق سايكس بيكو والنتائج المعوجة لثورة الأمير فيصل؛ وبعد ذلك قرار فرنسا فصل لبنان عن سورية، وضمّ أراض وراء جبل لبنان المسيحي التاريخي إلى “لبنان الكبرى”. وفي آخر المطاف، في عشيّة الحرب العالمية الثانية، جاء خضوع فرنسا لمطالب تركيا بأن يُنقَل إقليم إسكندرونة (هاتاي) إلى سيادتها [32].

ولم تعد الحرب الأهلية الحالية في سورية حربًا لنظام الأسد القمعي فحسب، بل تحوّلت إلى صراع ذي خصائص دينية وعرقية، وهي من هذه الناحية تُذكّر بما حدث في يوغسلافيا. وتشير قوة جهات إسلامية متطرفة في صفوف المعارضة -بتأييد السعودية أحيانًا وهي في جزء منها متصلة بالقاعدة- إلى أن البديل عن نظام الأسد سيكون بعيدًا من أن يكون ديمقراطيًّا [33].

 تفهم الأقليات هذا جيدًا، فهناك مسيحيون بدؤوا يغادرون سورية، ويفكر الأكراد في الشمال الشرقي في منطقة حكم ذاتي، ربما تُضمّ إلى الإقليم الكردي الذي يُحكم ذاتيًّا في شمال العراق. إذا سقط الأسد، فلا يمكن نفي سيناريو اجتماع العلويين في حصنهم الجبلي، ومن ذا يعلم كيف سيردّ الأتراك الذين لهم حساب طويل مع سورية، في كلّ ما يتعلّق بالحدود بين الدولتين. وفي المقابل، قد تكون هناك تأثيرات في الأقلية العلوية الكبيرة في جنوب شرق تركيا، وفي مصير السنّة في لبنان أيضًا المركزين في الأساس في طرابلس التي تحاذي سورية [34].

الخاتمة:

تتبعت هذه الدراسة بدايات الاهتمام البحثي الإسرائيلي بمشروع تقسيم سورية وتفكيكها وتصغير خريطتها السياسية التي كانت هناك محاولات لتوسيعها ضمن مشروع سورية الكبرى والهلال الخصيب والجبهة الشرقية والوحدة مع مصر. وعرضت الدراسة نماذج من نتاجات أهم مراكز الأبحاث الإسرائيلية ذات الصلة، خلال السنوات القليلة الماضية، وهي دراسات تربط بشكل وثيق مشاريع التجزئة والتفكيك والتفتيت والتقسيم بمسألتي الحدود الإثنية والجماعات الإثنية الأقليات، اللتين تشغلان حيّزًا مهمًّا في الفكر السياسي الإسرائيلي على اختلاف مدارسه وتياراته.

ولاحظت الدراسة التقاطعات والنقاط المشتركة في تصورات مراكز الأبحاث الإسرائيلية، مثل: الحدود الإثنية والأقليات الإثنية والتركيز على الدروز والأكراد في سورية، وإغفال وتجاهل الأقلية المسيحية وأقليات دينية إسلامية وغير إسلامية، وغيرها من أنواع الأقليات التي تعبّر عن تعددية المكونات الاجتماعية للدولة أو تدفعها عمليات اضطهادها وتهميشها نحو المساهمة في تعميق الانقسامات والنزاعات الأهلية والسياسية والاعتقاد أن الانفصال قد يكون أهون الشرور.

ولا بد من الإشارة إلى أن مراكز الأبحاث الإسرائيلية اهتمّت بدراسة الحروب الصليبية وعوامل اضمحلال وزوال الممالك الصليبية، وتجنبًا لتكرر المصير نفسه في حالة إسرائيل، نجد أن التركيز البحثي الإسرائيلي على تفتيت وتجزئة وتقسيم الدول العربية، وخصوصًا سورية، راهنًا، يستحضر حالة دول الطوائف في الأندلس وحروبها البينية التي أدت إلى زوالها وطرد المسلمين واليهود من الأندلس.

ومن الملاحظ أنّ التصوّرات الإسرائيلية التي تمحورت حول مصلحة إسرائيل، من جرّاء تقسيم سورية، تجاهلت مصالح قوى دولية وإقليمية منخرطة في الصراع في سورية وعليها، تطرح مشاريع لتقسيمها وفدرلتها وإحياء واستحضار تجربة الاتحاد السوري التي طبقها الجنرال الفرنسي هنري غورو، قبل قرن من الزمن، ولم تعمّر طويلًا، مع أن الإعداد لها يعود إلى العام 1913.

ولم يلاحظ الباحثون والمستشرقون والمؤرخون الإسرائيليون أنّ مشروع تقسيم سورية لن يحصل على موافقة دولية، ولن يكون نزولًا عند رغبة إسرائيل، بل سيخضع -على غرار المشاريع التقسيمية السابقة- للتوازنات وحسابات القوى الدولية والإقليمية أيضًا التي تستند إلى سياق تاريخي يُلبّي مصالحها الجيوبوليتكية والإستراتيجية الحيوية.

وفي تصوّرات مراكز الأبحاث الإسرائيلية المتعلّقة بتقسيم سورية، فجواتٌ وعيوبٌ، حيث إنها لم تستخلص العبر والدروس من تاريخ الصراع، ومنها أن جميع عمليات التقسيم وترسيم الحدود ورسم الخرائط كانت نتاجًا لمصالح القوى الدولية ومتطلباتها الإستراتيجية التي دفعت الحركة الصهيونية وقادتها إلى تقليص خرائط مطالبهم الجغرافية لرقعة الاستيطان، وفق مزاعم “الوعد الإلهي التوراتي” من خريطة إسرائيل الكبرى، إلى حدود قرار تقسيم فلسطين وما يعرف بالخط الأخضر مع الفلسطينيين.

ولم يقدّم الباحثون والمستشرقون والمؤرخون الإسرائيليون، في أوراقهم في الندوات والمؤتمرات البحثية للأقليات في سورية، تصوراتٍ تتعلق بالضمانات التي يمكن أن تقدمها إسرائيل للدروز أو للأكراد وغيرهم لحماية كياناتهم، بل يبدو أنها ستوظف تلك الكيانات لحماية نفسها والحصول على شرعية وجود إقليمي تضمن الانتقال من مرحلة الكيان الاستعماري الاستيطاني، إلى طور الدولة الاستيطانية العادية على غرار الولايات المتحدة الأميركية.

ويبدو أن رؤى مراكز الأبحاث الإسرائيلية مؤسّسةٌ على اعتقادٍ يفيد أن تقسيم سورية يحقق مصلحة إستراتيجية لإسرائيل، تتمثل في الهيمنة على محيطها الإقليمي وإخضاعه ونهبه عبر مشاريع السلام الاقتصادي.

ختامًا، يمكن القول: إن ترويج مختلف مراكز الأبحاث الإسرائيلية لمشروع تقسيم سورية لا يستهدف إقناع صناع القرار والرأي العام في إسرائيل بأهمية المشروع فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى الدفع نحو استثمار إسرائيل علاقتها الخاصة وشراكتها الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية، وعلاقاتها مع روسيا وتركيا والأردن، في سبيل تجسيد هذا المشروع بما يحقق مصالح هذه القوى الدولية والإقليمية.

1ـ مهند مصطفى، إسرائيل والجغرافيا السياسية من الحدود الأيديولوجية إلى الحدود الإثنية، مجلة قصايا إسرائيلية، العدد 74 تموز/ يوليو 2019 ص19.

[2] ـ المصدر السابق نفسه ص22.

[3] ـ المصدر السابق نفسه ص28.

[4] ـ د. أحمد سعيد نوفل، دور إسرائيل في تفتيت الوطن العربي، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، الطبعة الثانية 2010 ص57.

5ـ المصدر السابق نفسه، ص59

 6ـ المصدر السابق نفسه، ص69 ص70.

7ـ المصدر السابق نفسه، ص67.

 8ـ د. حسن نافعة، مشروع صهيوني لتفتيت الوطن العربي، صحيفة المصري اليوم المصريةـ 8 آذار/ مارس، 2013. https://2u.pw/l5kKz

9ـ أحمد سعيد نوفل، دور إسرائيل في تفتيت الوطن العربي، ص87-89

10ـ المصدر السابق نفسه.

11ـ سيد خميس، إسرائيل تخرج عن الصمت وتضع خطة تقسيم سوريا، صحيفة الوطن المصرية، 26 شباط/ فبراير 2016. https://www.elwatannews.com/news/details/993832

12ـ عبدالرحمن جاسم، الرؤية الإسرائيلية لصراعات المنطقة: تقسيم سوريا، جريدة الأخبار، 30 أيلول/ سبتمبر 2017 https://al-akhbar.com/Kalimat/238445

 13ـ المصدر السابق نفسه.

14 https://www.jstor.org/publisher/instnatlsecstud  – Farewell to Syria Gideon Sa’ar and Gabi Siboni INSS Insight No. 754, October 13, 2015

 15ـ المصدر السابق نفسه.

16ـ المصدر السابق نفسه.

17ـ يحيى دبوق، تقديرات تل أبيب: تقسيم سوريا وإنهاكها أفضل، جريدة الأخبار، 31 كانون الثاني/ يناير 2014 https://2u.pw/i3u2Y

18ـ الأقليات والطوائف في سورية جزء من اللاعبين الإيجابيين”!”، وثائق، تغطيات خاصة، 5 كانون الثاني/ يناير 2016 مدار https://bit.ly/3D7w3b0

19ـ المصدر السابق نفسه.

20ـ تقسيم سوريا وعدم استقرار مصر وأفول عباس وسقوط الممالك العربية، موقع عرب 48، 29 كانون الأول/ ديسمبر 2012.

[21] – وثيــقة تقدير هرتسليا لعام 2012، إسرائيل في عين العواصف موقع مؤتمر هرتسليا- كانون الثاني/ يناير 2012.. الرابط: https://bit.ly/3SlQVQr

 -[22] وثيــقة تقدير هرتسليا لعام 2012، إسرائيل في عين العواصف موقع مؤتمر هرتسليا- كانون الثاني/ يناير 2012. الرابط: https://bit.ly/3SlQVQr

[23] – محمد أبو سعدة، مؤتمرات هرتسليا والاستراتيجية الأمنية الصهيونية، 18 تموز/ يوليو، 2016 “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”. https://eipss-eg.org/% A%D8%A7–

[24] – احتفاء إسرائيلي بـ “وثيقة حوران” وخطة تقسيم سوريا، 19.07.2017،  https://2u.pw/Xyk4J

-[25] المصدر السابق نفسه.

-[26] المصدر السابق نفسه.

[27] -غاي بيخور، عودة الى الماضي سوريا واحدة ست دول “يديعوت أحرونوت” 22/7/2012. ترجمة صحيفة الرأي 23/ الاردنية 7/2012. https://alrai.com/article/526799/%D9

[28] – المصدر السابق نفسه.

[29] -غاي بيخور، عودة الى الماضي سوريا واحدة ست دول “يديعوت أحرونوت” 22/7/2012. ترجمة صحيفة الرأي 23/ الاردنية 7/2012 .https://alrai.com/article/526799/%D9

[30] – المصدر السابق نفسه.

[31] – المصدر السابق نفسه.

[32] – شلومو أفنيري، هل ستبقى سوريا، هآرتس – 7/8/2012. https://samanews.ps/ar/post/134681/%D9%87

[33] – المصدر السابق نفسه.

[34] – المصدر السابق نفسه.

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى