مراجعات الكتب

قاموسٌ لعلم الجمال/ إتيان سوريو

تعدّ فكرة وضع قاموس لمصطلحات علمٍ ما رحلة بحثية شاقة، تتطلّب وعياً من القائمين على العمل بأن مشروعهم ذو بُعد استراتيجي، وإنجازُه يحتاج سنوات من التنسيق حتى يستقرّ على صورته الأخيرة. ولو تحدّثنا من جهة أكثر خصوصية، حول طبيعة العِلم الذي يستهدفه القاموس، سنجد أنّ المهمّات ستزداد دقّة في حال كان هذا العلم يحوز على نظرة تاريخية تجعله منضوياً بشكل فرعي ضمن علم آخر، أوسع وأشمل، وهذه هي علاقة علم الجمال بالفلسفة.

ضمن سلسلة “ترجمان”، صدر حديثاً عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في الدوحة كتاب “قاموس علم الجمال” Vocabulaire d’esthétique، بتوقيع المترجِمَين بسام بركة (1950)، وعلي نجيب إبراهيم (1955)، ويقع في ألفي صفحة. وقد أشرف الفيلسوف الفرنسي إتيان سوريو Etienne Souriau (1979 – 1892)، على لجنة إعداد القاموس التي شارك فيها 36 باحثاً من مختلف الجامعات والمراكز البحثية الفرنسية، غير أنه توفّي قبل الانتهاء من إعداده للنشر، وصدرت الطبعة الأولى منه في عام 1990، أمّا الترجمة التي قدّمها المترجمان فهي للطبعة الثالثة من القاموس وصدرت عام 2010.

تتأتّى أهميّة هذا الكتاب من اعتماده تقاطع التخصُّصات، حيثُ يفتتح “قاموس علم الجمال” مجالاً معرفيّاً مُزدوجاً، فهو يُبرِز أهميةَ أن يستعين كلُّ علمٍ بما تُقدِّمه سائر العلوم، من جانب، ويُنجِز الجهاز الاصطلاحي، راسماً حدود هذا العلم الذي بقي، منذ منتصَف القرن الثامن عشر حتى مُنتصَف القرن العشرين، فرعاً ثانوياً من فروع الفلسفة، من جانب آخر. ومن ثَمَّ، حرص واضِعوه، بإشراف إتيان سوريو، ثم ابنته آن سوريو بعد رحيله، على تثبيت مصطلحات “علم الجمال” كما استعملها المُنظِّرون، والفنانون، والفلاسفة، على مرّ العصور.

ولا يكتفي هذا القاموس بتحديد معاني مصطلحات علم الجمال، مثل: “الألمعية” و”المثاقفة” إلى “الإرادة”، مرورًا بـ”الصوت”، و”اللون” و”الشِّعر” و”الضّوء” و”الرّقص” و”العزف”، بل يبحث في زوايا الحياة الفكرية والاجتماعية، والبشرية أيضاً، عن مكامن الجمال ومظاهره، فيُحلِّل مكوناتها، ويدرس تأثيراتِها، ويُقارِن بعضها ببعض، ويُبيِّن ارتباطها بالحسِّ الجمالي والنقد الفنّي عند الإنسان المُعاصِر.

غلاف كتاب: قاموس علم الجمال

وتسُد هذه الترجمة ثغرةً كبيرة في المكتبة العربية، فهي تُرسي أُسس فنٍّ جمالي جديد عليه أن يترك أُطر الذوق والإحساس، المحدودة أصلاً، من أجل الالتحاق برَكْب العلوم المستقلّة والمنفتحة في آنٍ.

ولو أردنا وضع المشروع في إطاره التاريخي لعُدنا إلى عام 1931، عندما أُسِّست “جمعية دراسة الفنون والأبحاث الخاصة بالفن”، بمبادرة من فيكتور باش، وشارل لالو. وقد وضعت هذه الجمعية من بين أعمالها المستقبلية تأليف “قاموس” في مجال الجمال على غِرار كتاب أندريه لالاند Vocabulaire technique et critique de la philosophie. وقد بدأ العمل فيه ببطءٍ شديد، ثم تسبّبت الحرب العالمية الثانية عام 1939 في توقّف ذلك العمل.

في عام 1945، أصبح اسم هذه الجمعية “جمعية علم الجمال الفرنسية”، وبعد وقت قصير استأنفت مشروع “القاموس”. لكن شُكِّل آنذاك عدد من اللجان المتوازية التي عملت منفصلة، ومن دون تنسيق في ما بينها، وهذه طريقة بالغة التعقيد. علاوة على ذلك، كانت تُؤدّي إلى استعمالات مُزدوجة من جهة، وإلى نقائص من جهة أُخرى. وكانت تفتقر إلى المُقابلة الضرورية بين وجهات النظر في مختلف الفنون. ومع ذلك، تكوَّنت شيئاً فشيئاً بعضُ الأدوات من أجل تكوين المواد المستقبلية للأحرف الألفبائية الأُولى.

ترأّس إتيان سوريو مشروع “القاموس” بعد شارل لالو، فمنحَه زخماً جديداً، ونظّم إعادة تكوين مجموعات المُساهمين. وفي عام 1958، بادر إلى فكرة انطلاق أعمال توليف المواد وكتابتها على يد لجنة مركزية تضمّ، تحت رئاسته، أمناء سر اللجان المختلفة. ومن خلال التجربة، اتضح أن المنهجية الجديدة أنجعُ كثيراً من طريقة العمل التي سبقتها. وتدريجياً، تُرِكَت طريقة اللجان المنفصلة. وبدءاً من عام 1961، لم يبقَ سوى اللجنة المركزية التي اندرج في عداد أعضائها باحثون في علم الجمال من “المركز الوطني للبحث العلمي”.

ومن خلال الممارسة، تبيّن أنّ العمل ضمن مجموعة أمرٌ ضروريٌّ، لأن هذه المنهجية كانت تُبرِز متطلبات مثل هذا “القاموس” وضرورة تحقيقه في آنٍ. وفي حقيقة الأمر، يقع علم الجمال في نقطة التقاءٍ بين سائر الفنون والأدب والفلسفة. لكن توجد كلمات تُستعمل غالباً في كل ميدان من هذه الميادين، إلا أنها تكون موضوعاً لتوسيعات مختلفة، وتكتسب بذلك معاني شتّى.

وكما تطرأ حالات كثيرة من سوء الفهم، بحكم أنّ المتخصصين لا يُدركون دائماً وجودَ تعدّد المعاني في الألفاظ التي يَعرفون لها، في اختصاصهم، معنى واحداً. وإذا ظهرت هذه الألفاظ في قواميس الفنون والموسيقى والفلسفة… إلخ. فإنها تظهر في معانيها المُتخصِّصة هذه.

لذا، يُفترض أن يُستخدَم “قاموس علم الجمال” للتفاهم في مكان يُدرِك فيه بعض الناس معنى كلمات يستعملها آخرون بمعنى آخر. وهكذا يكون عِلم الجمال صِلةَ الوصل بين الميادين المختلفة. أضِف إلى ذلك أن اللغة العامة تستعمل كثيراً من الألفاظ في دلالاتٍ جمالية، لكنّ ذلك يحصل غالباً بطريقةٍ غامضة نوعاً ما. لذا، كان من الضروريّ تنظيمُ المفاهيم بدقة في هذه الأفكار المُشوّشة. وفي حالات اختلاط المفاهيم، كان من الضروري أيضًا تحليل المفاهيم المتجاورة والتمييز بينها، وإدراك التعدّد فيها.

الجدير بالذكر أن سوريو رحل بعدما أنهى الفريق إعداد مواد الأحرف A, B, C وبدأوا بالحرف D، الأمر الذي تسبب بصدمة كادت توقف العمل، إلا أن الفريق قرّر المُتابعة بالزخم نفسه. وكان أفضلُ تكريم يُقدّم للمُعلّم الفقيد أن يصِل مشروعه إلى نهايته.

حتى تلك اللحظة، كانت طريقة نشر “القاموس” لا تزال غامضة. فقد كانت ثمّةَ فكرة نظرية نوعاً ما متعلّقة بإصداره في كرّاسات. وكانت بعض موادّه تُنشر في “مجلة علم الجمال” Revue d’esthétique، ثم في “مجلة التعليم الفلسفي” Revue de l’enseignement philosophique. وتولّت آن سوريو، التي استلمت مهمّة التنسيق بدلا من والدها، مهمّة التواصل مع “المطبوعات الجامعية في فرنسا”، وهكذا حتى أخذ “القاموس” مكانه في سلسلة المعاجم في هذه الدار.

بعد هذا الشوط الذي قطعه الفريق والوصول إلى مرحلة الالتزام مع دار النشر بمواعيد محددة، أصبحت العودة إلى المواد الموسّعة قديماً أمراً ضرورياً، والتي كانت تتخذ شكلَ الروايات الطويلة. وكان على كلّ فردٍ عند صياغته لمواد جديدة، أن يعود إلى الآخرين من أجل تقرير احتفاظه بجانب، أو آخر، أو حذفه أيضاً.

وفي كل حالة تثير الحيرة، كان يُبتُّ في الأمر بأن يُحال إلى ثلاثة مبادئ، هي: قيام “القاموس” أولاً، بتعريف الكلمات للذين لا يعرفون معناها، أو يعرفون بعض معانيها، ثم لا يفيد “القاموس” إلّا إذا قدّم شيئاً جديداً لا يوجد في القواميس الأُخرى الموجودة، وأخيراً، إذا كان شرحٌ من الشروح موجوداً في إحدى المواد، فلا ضرورة لشرحه في مادة أُخرى، لكن يجب تنبيه القارئ إلى موضعِ شرحِه حتى يستطيع أن يجِد ما يحتاج إليه.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى