شعر

كنتُ بقعة شمس في الغابة/ كريستيان بوبان

■ ■ ■

رجل الفرح

لنبدأ من هذا الأزرق، إذا كنت لا تمانع. لنبدأ من هذا اللون الأزرق في صباح أبريل البارد. كانت له نعومة المخمل وبريق الدموع. أودُّ أن أكتب لك رسالة حيث لا يوجد فيها سوى هذا الأزرق. وستكون مثل الورق المطويّ في أربعة، الذي يلف الماس في حي الصاغة في مدينة أنتويرب، أو روتردام. ورقة بيضاء مثل قميص الزفاف، في داخلها حبيبات ملح ملائكي، ثروة من خرافات الأطفال، ألماس كدموع حديثي الولادة.

■ ■ ■

الملائكة كما أعرفها

الملائكة كما أعرفها

ليس لها سوى شغل وحيد

هو منع، تعطيل

ومقاطعة الحياة العادية

منع توقُّف السيل الجاري للحياة

كما لو نقيم سدّاً على نهر

للحصول على زيادة قليلة من الماء والطاقة

ثمّ يُمكننا الاستئناف والمتابعة

بعد ذلك فقط يُمكننا سماع

بشارة العيش.

الملائكة ليست أشخاصاً

ليست سوى صمت

ومحض حرّاس

لو نُمعن النظر جيّداً

يمكننا أن نراهم أحياناً كثيرة 

في الحدائق العامّة

قرب امرأة 

منحنية على طفلها

أو قرب شجرة 

مائلة على ظلها.

■ ■ ■

ذات صباح على حافّة النافذة، كانت هناك في هذه الغرفة صورةُ وجه من جهة، ومن الجهة الأُخرى باقة من زهور عود الصليب دخلتا في صراع.

وهذا الكتاب هو تاريخ حربهما.

■ ■ ■

بعد عشرين سنة من غيابك ما يزال أرشيف قلبي في متناولي.

أتذكّر جرائمك. أراها الآن مثل البراءة. لم أكن مخطئاً. تنبثقين ضاحكةً من الآلام التي تلحقينها مثل انبثاق من الماء، معمَّدةً بالشمس، عيناك مخبولتان بميلاد جديد. وحتى أخطاؤنا علينا أن نرتكبها بيد حازمة. من المستحيل العيش بلا قسوة. أن تتنفّسي وأن تمارسي متعك هو بالفعل جَرح كائن ما من محيطك. النساء قاسيات، أليس كذلك؟ تماثيل العذارى دمويّة. تراوح في حيّز حرية مغلق، تقفز على السياج وتمضي لتضيع في الليل. بدونها لا حياة خطرة، لاحبّ، لا شيء.

وضحكتك عندما تتَّهمين: هي خلاص قارب إذ ينفصل عن الرصيف ويمضي لعرض البحر.

كنتُ أنا بقعة شمس في الغابة. أبداً، لم أكن قريباً من معرفة كلّ شيء.

كنتُ أنا هو أنتِ وكان نفس الإيحاء.

■ ■ ■

أسأل أحدهم عن الطريق فيتوّهني نحو جسر الموتى. بلاطة حجر غرانيت مرقَّط تُذكّرني بخدَّيك المتورّدين مثل سمك السلمون المرقَّط الهارب، عندما يصعد الخجل إلى روحك.

جالسة على مدرج منزل الطفولة، وأنت في الخامسة عشرة تقرئين رواية مرتفعات ويذرينغ، لمّا مرّ أستاذ الفرنسية بشارعكم وهنّأك بهذه المطالعة، نار الكتاب انعكست على وجهك وعلاك الاحمرار كما سوف يعلوك مستقبلا آلاف المرّات، ملاك وخاطئ لا ينفصلان.

اقرئي، خُذي يدي، خُذي وجهي، وأوقاتي واحتياطي من الأمل وحوّلي كلّ ذلك إلى صمت، إلى دقيق جيّد من النور والصمت.

■ ■ ■

الكتاب الذي أعرتِني، وإن كنت فقدتُه، فسأظلّ أرى يديك تضغطان على تلك القطعة من النار لحمايتك من برد العالم.

يدك التي فوق الصفحة وضعت سطراً بقلم الرصاص تحت بعض الكلمات. لا توجد أيّ ممحاة قادرة على إزالة هذا الزلزال.

■ ■ ■

أيتها المرأة القاسية الناعمة نسيتُ اسم عطرك بيد أنّي أتذكّر الدراما التي تُشكّل جوهره.

■ ■ ■

الطحالب التي تتلألأ في الجدران العتيقة تتكلّم لغة الذين مضوا؛ هي لغة مضيئة بشكل مكتوم، أفعى زمريّة تصعد للقلب.

لماذا نحبّ كثيراً أوراق الأشجار الميتة والحال أنها علامة نهايتنا، أم لأنّ لدينا ضرورة عميقة للذهاب بعيداً عن العالم.

عندما تصّاعد فرحة من الصفحة البيضاء حتى يدي، أكون على يقين أن ليس هناك أيّ إنسان غاب.

■ ■ ■

في هبّاتٍ تمضي العصافير فوق الأرض، وفي الفضاء ترسم بطيرانها جبال فوجي صغيرة.

عندما يستشعر حكيمٌ ياباني اقتراب الموت يكتب قصيدة وهي طريقته لإيقاد شمعة في الغرفة التي تتهيّأ فيها روحه للخروج.

■ ■ ■

هذا الشاعر الصيني الذي من القرن الرابع يُكلّمني كما لو أنّنا التقينا الآن في دكّان بيع السجائر. أسير في شوارع باريس. ذاك الشاعر على يساري وأنت على يميني نمشي معاً عبر كثافة الزمن. لا شيء أكثر سعادةً من التفكير في أولئك الذين قضوا: فهُم يعودون عبر التفكير فيهم ويكون الأمر كما لو انتصرنا في ليّ ذراع الموت، شاعرين بحلاوة الانتصار المؤقّت على الظلمات. الابتسامة التي فوق شفتيَّ هي ابتسامتك. والسماء التي فوق خدّي هي سماء القرن الرابع، برودة النهار.

■ ■ ■

… جاءت السماء تأكل في كفّي…

■ ■ ■

… نغتال كلّ نعومة الحياة، فتعود بأكثر وفرة…

■ ■ ■

أُحاول أن أقول لك شيئاً هو من الصغر لدرجة أنّني أخشى أن أجرحه وأنا أنطق به… هناك فراشاتُ لا يمكنك لمس أجنحتها دون أن تنكسر كالزجاج.

■ ■ ■

الطائر: كان أيضاً يرتدي الذهب مثل قصيدة.

■ ■ ■

هنا، أقترب ممّا أردت أن أخبرك به، ذاك اللّاشيء تقريباً الذي رأيته اليوم والذي شرّع كلّ أبواب الموت: ثمّة حياة لا تتوقّف أبداً…

■ ■ ■

… نادراً ما نرتقي نحن إلى رفعة هذه الحياة…

■ ■ ■

وهي لا تتوقّف لحظةً عن غمرنا بنعمها نحن القتلة.

■ ■ ■

… كانت البحيرة تُزهر تحت السماء، وكانت السماء تتمشّط أمام البحيرة. كان العصفور ذو أجنحة الأنبياء يشعل الغابة. لبضع ثوان تمكّنتُ من البقاء على قيد الحياة.

■ ■ ■

… أُريد أن أتحدّث هنا ببساطة عمّا نُسمّيه “يوماً جميلاً”، “سماء زرقاء”. هذه التعابير تدلّ على سرّ. سكّين من نور بشفرة باردة تشقّ قلوبنا…

■ ■ ■

… بضع ثوان كافية، أليس كذلك لنعيش الأبدية…

■ ■ ■

2

كلمات عن الكتابة

أكتب قليلاً بيد أعمى، أكتب وأنا ألقي يدي في ظلمة اللغة لأظفر بالكلمات التي تنيرني، تسندني وتدفعني للاستمرار، وتساعدني على الحياة.

■ 

الكتابة هي أن ترسم باباً على جدار غير سالك، ثم تفتحه…

■ 

الكتابة هي القلب الذي ينفجر في صمت.

■ 

الكتابة ترنيمة للحياة والحبّ والصمت.

■ 

بيني وبين العالم زجاج نافذة. الكتابة هي طريقة لاختراقه دون كسره.

غياب الميت يغرقنا في طوفان حضوره ويجعله أكثر أثرة لدينا.

■ 

الحقيقة مطروحة على الأرض مثل المرآة المكسورة، كلّ قطعة منها تعكس السماء بأكملها.

■ 

لقد التقيت الله في الغدران، في رائحة زهرة العسل، في نقاء بعض الكتب وحتى لدى الملحدين. ولم أجده أبدًا عند أولئك الذين تتمثّل مهمّتهم الوحيدة في الحديث عنه.

■ 

الصور الحقيقية، الصور النقية للحقيقة تجد ملاذها في الكتابة، في تعاطف عزلة الكاتب.

■ 

ليس الحبر هو الذي يصنع الكتابة، إنّه الصوت، الحقيقة الوحيدة للصوت، نزيف الحقيقة في أعماق الصوت. 

■ 

يأتي الحبّ بلا سبب، بلا تدبير، ويمضي كذلك أيضاً.

* ترجمة عن الفرنسية: خالد النجّار

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى