أبحاث

بعد كل ما حدث؛ بشار الأسد

ترجمة: نزار أيوب

انتهت الحرب في سورية، وخرج منها نظام بشار الأسد ممسكًا بزمام الأمور. لكن النظام منهك، ويفتقر إلى القوة والموارد، ويصعب عليه فرض سيطرته على البلاد. وفضلًا عن ذلك، لا يزال لحليفتيه روسيا وإيران حضور ونفوذ في البلاد.

لكن على الرغم من ضعف النظام السوري، لا يوجد بديل واضح للعيان له. هذا الأمر مسلّمٌ به من قبل جميع اللاعبين السوريين الداخليين، بالإضافة إلى الإقليميين والدوليين الذين باتوا مستعدّين الآن لتجديد الحوار معه، ومنحه الاعتراف والشرعية.

لن تستعيد سورية قريبًا مكانتها التي كانت عليها قبل اندلاع الحرب، في حين نجا بشار الأسد من الحرب، ويعمل على استعادة السيطرة على البلاد. وهذا يعني أنه سيكون على إسرائيل، وعلى اللاعبين الآخرين في المنطقة -عاجلًا أم آجلًا- إيلاؤه الاعتبار مجددًا، في رسم سياساتهم بشأن المسألة السورية، وفي ما يتعلق بتصرفاتهم على أرض هذه الدولة.

مقدمة

شكلت الحرب الأهلية الدموية التي اندلعت في سورية طوال العقد الماضي تهديدًا وجوديًا للنظام السوري، وهددت نظام بشار الأسد، ووجود الدولة السورية التي يرأسها. لكن في النهاية، بفضل انخراط روسيا وإيران في المعارك، نجا بشار الأسد من الحرب وبقي في كرسيه، في حين أن “معسكر الثوار”، وبشكل أدقّ، مئات مجموعات المسلحين الذين قاتلوه، وتقاتلوا في كثير من الأحيان مع بعضهم البعض، هُزِموا في ساحة المعركة، وتشتتوا في كلّ مكان.

لكن الانتصار الذي حققه النظام في دمشق هو انتصار منقوص؛ فالنظام السوري منهكٌ وضعيف، ويفتقر إلى القوى البشرية والموارد الاقتصادية، ويعتمد إلى حد بعيد على تبعيته لروسيا وإيران، اللتين تسعيان إلى ضمان وجودهما في سورية، ومواصلة التحكم فيها. وغنيّ عن الذكر أنّ عملية استعادة الأمن والاستقرار في جميع أنحاء البلاد، وكذلك عملية إعادة تأهيل الاقتصاد السوري التي ترتبط بالدرجة الأولى بقدرة نظام الأسد على ضمان دعم السكان على المدى الطويل، تبقى بعيدة المنال.

هل يسيطر بشار على سورية؟

يتمثل ضعف النظام السوري في حقيقة أن ربع الأراضي السورية تقع خارج سيطرته؛ ففي شرقي البلاد، حيث توجد معظم حقول النفط وحاضنات الحبوب، أنشأ الأكراد حكمًا ذاتيًا برعاية الولايات المتحدة، التي لها وجود عسكري أيضًا في منطقة “التنف” الواقعة في جنوب شرق سورية.

وتسيطر فصائل مسلّحة، معظمها تتبع للسلفية الجهادية بقيادة هيئة تحرير الشام، على محافظة إدلب شمال غربي البلاد، وهي تتمتع بحماية من تركيا. وفيما تحتفظ تركيا بوجود عسكري على طول الحدود المشتركة بين البلدين، فإنها تدعم الجماعات المتمردة التابعة للجيش السوري الحرّ.

أخيرًا، تواصِلُ خلايا تنظيم (داعش) نشاطها في أطراف المناطق السكنية، في جنوب سورية وشرقيها، وتواصل شن عمليات إرهابية ضد قوات النظام السوري. ويستدلّ من ذلك على أن هزيمة التنظيم وانهيار الخلافة التي أقامها لم تفضِ إلى القضاء على سلطته، ولم تؤدّ إلى اختفائه، بل أعادته على الأغلب إلى وضع ما قبل تأسيس نظام الخلافة.

يحتفظ النظام السوري بسيطرة جزئية وليست كاملة، حتى في أجزاء البلاد التي تخضع لسلطته قانونيًا. ويرجع ذلك إلى الوجود الروسي والإيراني على الأراضي السورية، فضلًا عن استمرار نشاط الجماعات المسلحة التي تعمل في معظم الأحيان تحت رعاية ودعم طهران وموسكو. وهكذا، يسيطر النظام على المراكز الحضرية الرئيسية، وعلى طرق المرور الرئيسية والمعابر الحدودية، فيما يواجه صعوبة في الحفاظ على السلطة الفعلية، في المناطق الريفية والنائية التي كانت بؤرة الاحتجاجات وأعمال الشغب ضدّه، على مدار العقد الماضي.

السؤال الذي يطرح نفسه بطبيعة الحال: هل يحكم بشار سورية ويفرض سلطته عليها، أم أنه حاكم لا حول له ولا قوة خارج حدود قصره، أم أنه حاكم دمية في يد روسيا وإيران؟! يُطرح هذا السؤال في إسرائيل بطريقة مغايرة قليلًا، وذلك انطلاقًا من المصلحة الإسرائيلية في ما يتعلق بهذا البلد: هل لدى بشار القدرة على دفع أقدام إيران ومنظمة “حزب الله” إلى خارج سورية، أو على الأقل الحدّ من أنشطتهما في البلد؟

الصراع على سورية على الساحتين الإقليمية والدولية وانعكاساته الداخلية

أدى التدخل الخارجي في الشأن السوري إلى استمرار الحرب الأهلية، وهو يُسهم حاليًا في تخريب جهود إعادة السلام والهدوء إلى البلاد وإعادة وقوفها على قدميها. وعلى عكس آمال النظام وحلفائه، أفضى الحسم في ساحات القتال في سورية، بدرجات متفاوتة، إلى زيادة التدخل الأجنبي فيها، واشتداد الصراع بين القوى الإقليمية والدولية العاملة على أراضيها في معرض سعي هذه القوى للسيطرة عليها.

الصراع بين روسيا والولايات المتحدة: يتجسد الصراع بين واشنطن وموسكو أيضًا على الأراضي السورية. وعلى الرغم من إعلان الرئيس ترامب عزمه سحب القوات الأميركية من سورية، فإنه تراجع عن هذا الإعلان، وحافظ على الوجود العسكري الأميركي في البلد. إدارة الرئيس الأميركي بايدن عبّرت عن موقفها بأنها ليست عازمة على إنهاء الوجود الأميركي في سورية، لكن سحب قواتها من أفغانستان، والانسحاب المتوقع للمستشارين العسكريين من العراق، يثيران الشكوك حول أن الانسحاب من سورية سيأتي في مرحلة ما. في غضون ذلك، يشكل الوجود الأميركي على الأراضي السورية مصدر احتكاك مع كل من روسيا وإيران. هذه الأخيرة كانت قد هاجمت بواسطة وكلائها (الميليشيات العراقية الشيعية الموالية لإيران) مواقع أميركية في منطقة التنف في جنوب سورية، وذلك كرد على عمليات القصف الإسرائيلي في المجال السوري العراقي.

تركيا: سعت إلى الاستفادة من الأزمة في سورية، وكذلك من ثورات الربيع العربي في تونس ومصر، ولاحقًا في ليبيا، لتصبح لاعبًا إقليميًا له مكانة ونفوذ في العالم العربي، ولهذا السبب ما زالت تقدّم المساعدة للجماعات الإسلامية، ومنها تلك التي تعمل في شمال سورية. ومع ذلك، يستهدف التدخل العسكري التركي في سورية بشكل أساسي منع إقامة منطقة حكم ذاتي على الحدود بين تركيا وسورية.

ولهذه الغاية، شرع الأتراك في سلسلة من العمليات العسكرية: درع الفرات في آب/ أغسطس 2016، وغصن الزيتون في كانون الثاني/ يناير 2018، ونبع السلام في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، والتي كانت تهدف إلى منع الأكراد من تحقيق التواصل الإقليمي من الشرق حتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، ​وإلى إبعادهم عن منطقة عفرين في شمال غرب سورية، التي حوّلوها إلى شبه منطقة عازلة خاضعة لسيطرة الثوار السوريين الموالين لتركيا. في آذار/ مارس 2020، أطلق الأتراك عملية درع الربيع، وواجهوا قوات الجيش السوري ومقاتلي حزب الله الذين حاولوا السيطرة على محيط إدلب، بتشجيع من روسيا.

من هذا المنطلق، يمكن الافتراض أن تركيا ستواجه صعوبة في الحفاظ على وجودها العسكري على الأراضي السورية لفترة طويلة، لعدة أسباب، من بينها، عدم تلقي الدعم من الجمهور التركي في الداخل، إضافة إلى إمكانية التوصل إلى حل مرض بخصوص المسألة الكردية، مما سيفضي إلى تقليل الوجود التركي في سورية. ويشار إلى أن انسحاب القوات الأميركية من سورية قد يوقع الأكراد بين المطرقة التركية وسندان بشار الأسد، وقد يشجعهم على العودة إلى حضن النظام في دمشق، الذي لم يقطعوا صلاتهم به حتى في ذروة المعارك في البلاد.

الصراع بين إسرائيل وإيران: استغلت إسرائيل الفرص التي أتيحت أمامها خلال الحرب في سورية، لشن عمليات عسكرية لا ترقى إلى درجة الحرب، بمواجهة إيران وحزب الله، والتي درجت العادة على تسميتها في اسرائيل “الحملة بين الحروب”؛ إذ نفذت إسرائيل سلسلة طويلة من الهجمات الجوية، استهدفت عمليات نقل الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله، ثمّ منع توحيد الحرس الثوري الإيراني والميليشيات السورية الشيعية الفاعلة على الأراضي السورية، إضافة إلى إفشال مشروع حزب الله إنتاج صواريخ طويلة المدى، أكثر تطورًا ودقة في الإصابة.

هذه الهجمات مستمرة حتى اليوم. وقد أكدت إسرائيل، مرارًا وتكرارًا، أن هذه التحركات تستهدف إيران، وليست موجهة ضد النظام السوري. ويبدو أن اسرائيل ما زالت “تؤمن” ببشار، بل إنها تعتبر استمرار حكمه خيارًا مفضلًا بالنسبة إليها، باعتباره “الشيطان المألوف”. كما تأمل إسرائيل أن يؤدي الضغط الذي تمارسه على بشار، من خلال الهجمات المتكررة على الأراضي السورية، إلى إرغامه على إخراج الإيرانيين من سورية بتشجيع من الروس.

روسيا وإيران – حلفاء أم أصحاب البيت؟

روسيا وإيران ليستا فقط جزءًا من حلّ أزمة النظام السوري، بل هما في الواقع جزء من المشكلة. ويرتبط وجودهما العسكري في سورية بتلبية أطماعهما ومصالحهما في البلاد، وبقدر ما ساعد هذا الوجود النظامَ في الاستمرار، فإنه أصبح عاملًا مثبطًا، يحول دون تمكن النظام من الوقوف على قدميه.

تسعى روسيا إلى جني مكاسب سياسية من وراء تدخلها في سورية، مما سيسمح لها بتعزيز مكانتها وصورتها، والحصول على أوراق مساومة بمواجهة منافسيها، وبشكل خاص الولايات المتحدة. لكنها تسعى أولًا وقبل كل شيء إلى تحويل سورية إلى قاعدة أمامية على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى كسب أرباح اقتصادية من خلال السيطرة على مصادر الطاقة وحقول النفط والغاز الموجودة في البلاد.

وتأمل إيران في تحويل سورية إلى قاعدة أمامية ضدّ خصومها، وتحديدًا إسرائيل والولايات المتحدة، وهي ترى في سورية مركزًا مهمًّا في الجسر البري الذي تعمل على إنشائه من إيران مرورًا بالعراق ووصولًا إلى لبنان. وقد وضع الإيرانيون في سياق ذلك أنظمة قتالية، منها طائرات مسيرة وأنظمة دفاع جوي متطورة وصواريخ، على الأراضي السورية، واستقدموا ميليشيات شيعية (فاطميون، وحيدريون، وزينبيون) ممن جندتهم إيران في أفغانستان وباكستان والعراق. كان الهدف من وراء ذلك مساعدة النظام السوري في قتاله ضد المتمردين، ولكن الهدف من ذلك على المدى الطويل هو خدمة المؤسسة الإيرانية في سورية، بل هنالك من يزعم أن الإيرانيين يعملون على توطين مقاتليهم على الأراضي السورية، وعلى نشر التشييع بين العلويون في البلاد وبين السنّة أيضًا. ومن الأهمية بمكان التأكيد على حقيقة أن إيران تستهدف التحكم في الاقتصاد السوري، أسوة بالروس.

روسيا لا تخفي توجسها في ما يتعلق بالجهود التي تبذلها إيران لترسيخ أقدامها في سورية، والتي من شأنها أن تقوض الوضع الهش في البلاد، وأن تفضي إلى مواجهة عسكرية مع إسرائيل. ولا تخفي إيران بدورها شكوكها حول أن روسيا تتعمد تجاهل الضربات الجوية الإسرائيلية ضد أهداف إيرانية على الأراضي السورية، أو حتى تمنح موافقتها الضمنية لتنفيذ مثل هذه الضربات، وأن موسكو قد تمدّ يدها إلى إسرائيل والولايات المتحدة في سياق خطوة سياسية تجبر إيران على الخروج من سورية.

هذا الواقع من شأنه أن يؤدي إلى إضعاف النظام السوري، ويمنحه في الوقت نفسه القدرة على المناورة بين رعاته الروس والإيرانيين. ويبدو أنّ بشار يعطي أولوية واضحة للتحالف مع موسكو، إلا أنه مصمم على الحفاظ على حرية التصرف حيالها. وكدليل على ذلك فقد عوّق أو أفشل مبادرات طرحتها روسيا على الساحة الدولية، كانت تهدف إلى تحقيق تسوية سياسية، تملي عليه القبول بحلول وسط وتقديم تنازلات. في الواقع، لا يزال بشار بحاجة إلى إيران، ويعتبر أن من المهم الحفاظ على العلاقات معها، لأن الإيرانيين، إلى جانب حزب الله، كانوا أول من حشدوا لصالحه، عندما اندلعت الحرب في سورية. في الوقت نفسه، يسعى إلى تقليص الوجود الإيراني في سورية لعدة أسباب، منها الضغط العسكري الذي يمارس عليه من قبل إسرائيل في هذا الشأن. وعلى سبيل المثال، وردت تقارير من سورية مفادها أن بشار الأسد عمل على عزل قائد القوات الإيرانية في سورية جواد غفاري، بسبب “نشاطه المفرط” ضد إسرائيل.

جدير بالذكر أن الروس ليس لديهم مصلحة في السيطرة المباشرة على أراضي سورية، وكل ما يريدونه هو إعادة الاستقرار إلى البلاد، وتعزيز قوة النظام المركزي الذي يعوّلون من خلاله على تعزيز مصالحهم في سورية، دون الحاجة إلى وجود عسكري واسع، يمكن أن يغرقهم في المستنقع السوري. وعلى عكس الروس، تسعى طهران للسيطرة المباشرة على المنطقة نفسها، اعتقادًا منها أن الواقع الفوضوي السائد في سورية يخدمها فعلًا في سعيها لتحقيق هذا الهدف.

النظام السوري من الداخل – الحاضر الغائب: من علامات ضعف الجيش السوري، أن سيطرة النظام في عموم سورية هي فعليًا سيطرة بعيدة عن أن تكون كاملة، وفي أحيان كثيرة هي رمزية وناقصة. وبحسب التقديرات، فإن حوالى ثلث القوات التي خدمت فيه عشية القتال، أي أقل من مئة ألف جندي نظامي، يخدمون فيه اليوم. ويعمل العديد من حملة السلاح المدرجين في “قائمة متلقي الرواتب” من قبل النظام، كجزء من القوات شبه النظامية أو حتى الميليشيات، ممن يعتبر ولاؤهم للحكومة المركزية، ولمقر قيادة الجيش في دمشق فضفاضًا؛ إذ يتصرف العديد من قادة وحدات الجيش على أنهم “أمراء حرب” (warlords) منغمسون -الآن بعد أن انتهت الحرب ضد المتمردّين- في النضال، من أجل السيطرة والنفوذ في الأماكن التي يصطفون فيها ضد زملائهم وقادة وحدات الجيش والميليشيات الأخرى.

بذل الروس جهودًا كبيرة بهدف تحسين الكفاءة العملياتية للجيش السوري وتقوية سيطرته، فضلًا عن تجهيزه بأنظمة من الأسلحة المتطورة. وقادوا عملية إعادة تنظيم هيكل الجيش، وأنشؤوا وحدات جديدة تابعة مباشرة للقادة الروس الذين بإمكانهم التأثير فيها إلى حد كبير. لكن على الرغم من الجهود التي تبذلها موسكو، لا يزال الجيش السوري يفتقر إلى الكفاءة العملياتية للعمل ضد إسرائيل أو تركيا من ناحية، أو ضد خصومه في الداخل من ناحية أخرى، سواء كان تنظيم (داعش) أو الجماعات المسلحة الأخرى التي تواصل نشاطها في المناطق الخاضعة لسيطرتها الفعلية.

سورية – الصراع على الحكم: في مواجهة هذا الواقع المعقد، يعمل النظام بصبر وبتصميم، ليُحكم مرة أخرى قبضته على البلد بأكمله. مثال على ذلك جنوب سورية (التي تعتبر منطقة حساسة بسبب قربها من الحدود مع الأردن وإسرائيل). حيث هناك وجود روسي وإيراني في المنطقة، إضافة إلى وجود حزب الله، والجماعات المسلحة التي لا تزال تنشط هناك، كما الحال في مناطق شاسعة من سورية. قبِل النظام في البداية استمرار نشاط الجماعات المسلحة، التي غالبًا ما كانت تحظى برعاية روسية، ولكنه عندما شعر بأن الظروف مهيأة للعمل ضد هذه الجماعات، شرع في تحركات عسكرية مصممة لهزيمتها، بعد تلقي الضوء الأخضر والمساعدة من الروس. مثال على ذلك، عودة قوات النظام في صيف 2021 إلى مدينة درعا، التي انطلقت منها شرارة الأحداث قبل عقد من الزمن.

بعد كل هذا، ما زالت قوات النظام ضعيفة وتفتقر إلى القوى البشرية، فضلًا عن العزم والدافع للعمل على إعادة فرض سيطرة “اليد الحديدية” على المنطقة الجنوبية من سورية. وعلى الرغم من أنّ الجماعات المسلحة ألقت أسلحتها وتوقّفت عن قتال النظام، فإنها في نهاية المطاف انبثقت عن قوى اجتماعية محلية -عائلات وعشائر وقبائل- ما زالت تشكل مركبًا مهمًا في حياة المجتمع، حيث يتعين على النظام أن يأخذها على محمل الجد.

الدولة والمجتمع والاقتصاد: إلى جانب استعادة النظام قوته العسكرية والسيطرة على أراضيه، عمل على إعادة تأهيل مؤسسات الدولة، وبالتالي استعادة سلطته الأمنية، وبدرجة أقل النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي من خلاله يسيطر على السكان. إلا أن الموارد الاقتصادية لكل من النظام السوري وحلفائه روسيا وإيران شحيحة، ولا تتوفر لديهم الموارد المطلوبة لاستعادة البنية التحتية الاقتصادية للبلاد، ولا حتى لتلبية الاحتياجات المعيشية الأساسية لمواطنيها.

المعلومات المتوفرة تفيد بأن حوالى ثلثي السكان أو أكثر يعيشون تحت خط الفقر، وبمقدار 1.90 دولار في اليوم، أي أقلّ من دولارين، فيما نسبة البطالة بين السكان تفوق 50%. وقد أصبح الواقع الاقتصادي لهذه الأزمة أكثر حدة خلال عام 2020 في ظل أزمة كورونا، وكذلك العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الحكومة الأميركية (قانون قيصر في حزيران/ يونيو 2020). ولم تكن المساعدة التي قدمتها إيران وروسيا من النفط الإيراني والقمح الروسي كافية.

لكن الدولة السورية لم تنحدر إلى واقع الفوضى الكاملة، لأن مؤسسات الدولة لم تنهر، والنظام مستمر في الحفاظ على نظام خدمات في المراكز الحضرية الكبيرة بشكل خاص، حتى لو كانت ضئيلة، فيما تعمل مؤسسات الدولة بشكل جزئي. يجب أن نتذكر أيضًا أن سورية، حتى قبل اندلاع القتال، كانت دولة عالم ثالث ضعيفة، ودولة فاشلة، ذات مستوى معيشي منخفض، حيث كان معظم سكانها تحت خط الفقر.

وبالفعل، فإن الواقع الحالي -مهما كان صعبًا- أفضل في نظر الإنسان السوري العادي من واقع الخطر الدائم على الحياة الذي عاشه خلال المعارك. ومع ذلك، فإن استمرار الأزمة قد لا يؤدي على المدى الطويل إلى تخريب جهود النظام لاستعادة سيطرته على البلاد فحسب، بل يحمل معه أيضًا إمكانية أن يفضي ذلك إلى زعزعة الاستقرار الهش من جديد.

قضية اللاجئين: تجدر الإشارة إلى أنّ مصير الملايين من اللاجئين السوريين الذين فرّوا من بلادهم لا يؤرق النظام، ويبدو أنه مقتنع بأنه تخلّص من مشكلة اقتصادية، ومن الخطر المحدق بأمنه. وقد استغل النظام حالة الاستقرار النسبي ليمارس سلطته، لجأ إلى إصدار أوامر وتشريعات تعوق عودة اللاجئين إلى منازلهم، وتمنعهم من استرداد ملكياتهم. وكان الروس هم الذين سعوا دون جدوى إلى الترويج لإعادة اللاجئين إلى سورية، ربما بدافع الرغبة في محاولة كسب تأييد الولايات المتحدة والدول الأوروبية لتحركات موسكو في سورية من أجل ضمان الاستقرار في البلاد.

كل هذه الممارسات مرتبطة بالميزان الديموغرافي بين الطوائف في البلد، حيث إن معظم اللاجئين هم من المواطنين السنّة من أبناء المناطق الريفية والنائية، حيث اندلعت الاحتجاجات ضد النظام. وفقًا للتقديرات، ما زال في سورية اليوم ما يقرب من 17 مليون شخص: إذ يوجد حوالى 10 ملايين في الأراضي التي يسيطر عليها النظام، وحوالى أربعة ملايين في محافظة إدلب (معظمهم من السنة)، وثلاثة ملايين آخرين في مناطق الحكم الذاتي الكردي (معظمهم من الأكراد). هذا يعني أن نسبة السنة في سورية بشار الأسد انحدرت إلى حوالى 55٪ فقط مقارنة بنحو 70٪ قبل الحرب، فيما تضاعفت نسبة العلويين تقريبًا إلى حوالي 22٪.

بعد كل شيء، بشار الأسد: على الرغم من ضعف النظام السوري وواقع الفوضى السائدة في البلاد، تجدر الإشارة مرة أخرى إلى مصادر القوة الكامنة وراء نجاح بشار الأسد ونظامه في الاستمرار، وفي مقدمتها المرونة الشخصية، إضافة إلى التصميم الذي أظهره والاستعداد لقمع التمرّد ضده بوحشية، والدعم الذي تلقاه من قبل عائلته ومن الطائفة العلوية التي ساندته، والدعم الذي تلقاه من القوى التي تشكل قاعدة نظامه، كأبناء الأقليات المسيحيين والدروز ، وكذلك أعضاء النخب الحضرية، ومنهم أبناء الطائفة السنية، الذين دعموا النظام.

يضاف إلى كل ذلك اعتماد بشار الأسد على أجهزة الحكومة ومؤسسات الدولة، وفي مقدمتها الجيش والأجهزة الأمنية الذين تلقّوا ضربات قاسية، لكنهم لم ينهاروا، وحافظوا على التماسك، واستمروا في تأدية مهامهم، مما ساعد الأسد في الحفاظ على هيكل الدولة السورية وأركان سلطته بطبيعة الحال.

في المقابل، فشل معسكر الثوار في جهوده لتوحيد صفوفه وتنشئة قيادة فاعلة ومتفق عليها قادرة على تحقيق النصر. إذ انتشرت المئات وربما أكثر من ألف جماعة مسلحة في جميع أنحاء سورية، في الريف وفي المناطق المحيطة، وغالبًا ما كانت على خلفية محلية -عائلة أو عشيرة- وعملت بطريقة منفصلة، دون أي تبعية للكيانات التي نشأت وعملت خارج سورية، وشكلت مظلة وهمية لهذه الجماعات مثل “الجيش السوري الحر” أو “المجلس الوطني” أو “الائتلاف الوطني”. وقد خدم ظهور (داعش) النظام في نهاية المطاف، حيث شوه تشدده معسكر المتمردين، وأبعد أنصاره من الداخل والخارج.

إضافة إلى كل ما قيل، يتعين التأكيد أن سورية تُحكم وفق المنطق السياسي من حيث التنظيم، ولا تشكل مجتمعًا عشائريًا تسوده الفوضى كعنصر أساسي فيه، وأنّ الطائفية في سورية، على عكس لبنان، ليست المفتاح، وبالتأكيد ليست المفتاح الدستوري والعام لتسيير القوى المختلفة العاملة في الفضاء السوري. منطق الدولة -سواء الحدود الإقليمية والإطار المفاهيمي الذي يحدد هيكل ووظيفة الدولة ومؤسساتها- مقبول على جميع الجهات الفاعلة العاملة في البلاد، الخارجية والداخلية السورية.

لذلك، ليس هنالك بديل للنظام السوري، ولا لبشار نفسه؛ فروسيا وإيران وقوات النظام وأمراء الحرب (warlords) وقادة الجماعات المسلّحة والميليشيات العاملة في خدمة النظام من تلقاء نفسها أو تحت إشراف القوات الأجنبية، جميعهم يرون في بشار أنّه رأس النظام السوري الذي عليه يعتمد وجودهم، حتى لو كانوا يسعون إلى الحفاظ على درجة من الاستقلالية تجاهه وتجاه مركز الحكم في دمشق، وبمواجهة القوات العسكرية والأمنية المتنافسة التي توجد في المناطق التي ينشطون فيها.

وليس لدى القوى الإقليمية والدولية الأخرى التي تدخلت في الصراع في سورية أيّ بديل للواقع الدموي في سورية، وبالتالي فهي مستعدة لمتابعة مسار الحلّ السياسي الذي يُبقي بشار الأسد في كرسيّه. لقد عاد العالم إلى سورية، وهو يجدد الحوار مع النظام في دمشق، ومن الصواب الاعتراف به وبشرعيته. هكذا هي الحال بالنسبة إلى الدول العربية التي تسعى إلى تطبيع علاقاتها مع دمشق وإعادة سورية إلى جامعة الدول العربية، وفي مقدمتهم عمان، والإمارات، والجزائر، وأخيرًا الأردن ومصر، حيث يأمل بعضهم أن يؤدي ذلك إلى إخراج إيران من سورية. وكذلك الحال بالنسبة إلى الدول الأوروبية، وإنْ لم تكن منها بريطانيا العظمى أو فرنسا أو ألمانيا، التي استأنفت الحوار مع دمشق، وبعضها يُعيد فتح سفاراته هناك ويأمل واهمًا بأن هذه فرصة لعودة اللاجئين السوريين الذين فرّوا من البلاد في أثناء القتال، إلى بلادهم.

حتى واشنطن كانت قد أبدت استعدادها، في آب/ أغسطس 2021، للموافقة على مدّ مصر والأردن للبنان بالغاز والنفط عن طريق سورية. وتهدف هذه الصفقة إلى تسهيل الأمر على الحكومة في بيروت، لكبح خطط تنظيم حزب الله لاستيراد النفط من إيران، لكنها تشكل أيضًا اعترافًا من جانب الولايات المتحدة بالواقع السائد على الأرض في سورية، ويشمل ذلك القبولَ باستمرار حكم بشار الأسد، والاستعداد لمساعدته على ضمان الهدوء والاستقرار في لبنان المجاور.

ملخص

لن تعود سورية قريبًا إلى المكانة التي كانت عليها قبل اندلاع الحرب، على الرغم من أن بشار نجا من الحرب، ويعمل على استعادة السيطرة على البلاد. وتُظهر التقارير الواردة من سورية أن بشار بات أكثر جرأة تجاه الإيرانيين من ذي قبل، وهو يعمل على الحدّ من وجودهم في البلاد، مستغلًا دعم الروس له، ومستفيدًا من هجمات إسرائيل ضدّ أهداف إيرانية على الأراضي السورية.

هذا الواقع قد يضع إسرائيل أمام تحديات صعبة، كخطوة عربية وربما غربية في المستقبل لإعادة سورية إلى حضن العالم العربي، وإلى المجتمع الدولي، وبالتالي إعطاء النظام في دمشق شرعية من جديد، على أمل أن يُفضي ذلك إلى إخراج إيران من سورية. لكن من المشكوك فيه أنّ بشار يريد عزل نفسه عن إيران، لأنه بالنظر إلى تصوره للتهديدات التي تواجهه من الداخل والخارج، فإنه لا يزال بحاجة إلى مساعدة طهران، حتى لو كان يرغب في الحد من وجودها ونفوذها داخل سورية. لكن المحاولات -العربية والغربية- لاحتضان نظام بشار قد تكون لها عواقب على إسرائيل، إذ قد تضغط عليها للحدّ من أنشطتها على الأراضي السورية، أو حتى إعادة إحياء قضية مستقبل الجولان، الذي يبدو أنه تم التوقيع عليه وإغلاق ملفه في العقد الماضي.

في ما يتعلق بالعمليات العسكرية التي تنفذها إسرائيل في سورية، يتعيّن افتراض أن بشار سيستمر في الامتناع عن أي رد على الهجمات الإسرائيلية على أراضيه، ولكن لا شك في أنه سيسعى -على المدى الطويل- إلى المطالبة بالعودة إلى واقع ما قبل اندلاع الحرب، عندما كان هناك توازن رعب بينه وبين إسرائيل، امتنعت بسببه الأخيرة عن العمل على الأراضي السورية، بل ربما قد يعود إلى ماضيه، ويعمل على تجديد مخزونه من الأسلحة الكيميائية.

بالمناسبة، لا تقتصر نافذة الفرص التي تنغلق تدريجيًا في سورية على إسرائيل، بل على إيران أيضًا. هذا من شأنه زيادة التوتر في طهران، وكذلك الرغبة في محاولة جني الثمار لأطول فترة ممكنة، مما قد يقود كلا الطرفين إلى القيام بتحركات من شأنها أن تزيد من حدة التوتر وتفضي إلى الاحتكاك بينهما.

بشكل أو بآخر، يجب على إسرائيل، وكذلك الجهات الفاعلة الأخرى في المنطقة، أن تأخذ بشار مرة أخرى في الاعتبار، وأن تفترض أنه سيعود للعب دور أكثر أهمية في سورية -داخليًا وخارجيًا- حتى لو تطلّب الأمر وقتًا طويلًا. في غضون ذلك، يجب على إسرائيل أن تبقي أعينها مفتوحة على إيران، وتعمل على تعميق الحوار مع موسكو حول هذه القضايا.

الكاتب  البروفيسور إيال زيسر: نائب رئيس جامعة تل أبيب (منذ 2015). وكان قبل ذلك عميدَ كلية العلوم الإنسانية في جامعة تل أبيب (2010-2015)، وكذلك رئيس مركز موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا (2007-2010)، ورئيسًا لقسم تاريخ الشرق الأوسط وأفريقيا (2004-2008)

مكان النشر وتاريخه      التحديث الاستراتيجي – مجلة متعددة التخصصات للأمن القومي

آذار/ مارس 2022

الرابط    https://strategicassessment.inss.org.il/articles/bashar_al_assad/

عدد الكلمات     3511

ترجمة  نزار أيوب

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى