أبحاث

هنا لكي تبقى: تدخّل إيران في سورية 2011-2021

ترجمة: نزار أيوب

منذ انطلاق الثورة الإسلامية عام 1979، زادت إيران جهودها لتوسيع نفوذها الإقليمي، كجزء من أيديولوجية تصدير الثورة. وقد أتاحت أحداث العقد الماضي (بزوغ “الربيع العربي”، وتقويض أطر الدولة التقليدية، واستمرار إضعاف النظام العربي) لإيران فرصةً فريدةً لتقوية نفوذها في المنطقة، في سياق محاولاتها إنشاء منطقة قارية تخضع لنفوذها، وتمتد من إيران إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط. يركز هذا المقال في جوهره على تشديد قبضة إيران على سورية، إضافة إلى الادعاء المتمثل بأنّ إيران، على الرغم من استثماراتها الواسعة، لم تتمكن حتى الآن من بناء تشكيلات عسكرية استراتيجية في البلاد. إلا أنّ إيران تمكنت من تحقيق بعض النجاح على الصعيد المدني، وذلك من خلال ترسيخ وجودها داخل أجهزة الدولة السورية، بشكل يجعل اقتلاعها من المنطقة صعبًا في المستقبل. لذلك، من المناسب لإسرائيل أن تعيد النظر في سياستها تجاه التموضع الإيراني في سورية، وأن تعقد العزم على استكمال النهج العسكري الهجومي، بالتوازي مع اتخاذ خطوات سياسية على المدى الطويل.

“إذا خسرنا سورية، فلن نكون قادرين على التمسّك بطهران … الشيء الرئيسي هو التمسك بسورية. من وجهة النظر هذه، سورية هي المحافظة 35، وهي ذات أهمية استراتيجية. وإذا فُرض علينا أن نختار بين سورية أو خوزستان، فالأفضل لنا أن نختار سورية”.

حجة الإسلام مهدي طائب، 2012

مقدمة:

اتخذت إيران في السنوات 2011-2012 قرارًا استراتيجيًا، بشأن التدخل في الحرب الأهلية في سورية، وذلك بهدف الحفاظ على التحالف الاستراتيجي بين إيران وسورية، الذي يعود تاريخه إلى أوائل الثمانينيات، لكون سورية دائرة نفوذ إيرانية، لا سيما في ما يتعلق بدعمها لحزب الله في لبنان. وقد اتخذت إيران منذ ذلك الوقت سلسلة من الإجراءات -عسكرية واقتصادية وثقافية ودينية- من أجل تعزيز سيطرتها على البلاد، وإنقاذ نظام بشار الأسد في الوقت نفسه. وفضلًا عن ذلك، استغلت إيران تموضعها في سورية لإنشاء ميليشيات تعمل كوكلاء لها (proxies) لاستفزاز إسرائيل، ومهاجمتها بأوامر من طهران.

البعد العسكري: المشاركة في الحرب الأهلية وتأسيس الميليشيات

في العامين الأولين من الحرب الأهلية في سورية، كان النشاط العسكري الإيراني ضئيلًا نسبيًا، إذ تركز على إرسال مستشارين من مقاتلي حزب الله إلى البلاد. وقد عزز الإيرانيون قواتهم في صيف عام 2014، وذلك نتيجة النجاحات الكبيرة التي حققتها (داعش) في سورية، والتهديد المتزايد لنظام الأسد؛ إذ أرسلت إيران المئات من عناصر الحرس الثوري إلى البلاد، بالإضافة إلى مقاتلي حزب الله الذين بلغ عددهم حوالى 5000 مقاتل، وأنشأت وسلّحت ميليشيات شيعية مكونة من متطوعين أجانب مثل “الفاطميون” الأفغان، و “الزينبيون” الباكستانيين، واستقدمت ميليشيات شيعية من العراق، كانت قد دعمتها ورعتها على مدار سنوات، وتحديدًا كتائب “حزب الله”، و”النجباء”، و”عصائب أهل الحق”.

لكن هذه الخطوات لم ترجّح كفة الميزان لصالح الأسد، إذ وصل النظام خلال صيف 2015 إلى أدنى درجات الضعف في الحرب الأهلية. وحينذاك، اتخذت موسكو وطهران قرارًا استراتيجيًا مشتركًا لإنقاذ النظام السوري، وزادتا بشكل كبير من مشاركتهما البرية في القتال، حيث زادت إيران من قواتها البرية، وقدّمت روسيا الدعم الجوي. في واقع الأمر، وصل عدد أفراد الحرس الثوري الإيراني في سورية في السنوات 2015-2016 إلى ذروته، حيث بلغ 2500 عنصر. إلا أن عدد هؤلاء كان يأخذ في الانحسار، كلّما خفّت حدة القتال في سورية. وقد برزت خلال العامين الماضيين محاولة إيرانية لتقوية الميليشيات الموالية لإيران، من خلال الاعتماد بشكل أكبر على المقاتلين السوريين المحليين كبديل للوجود العسكري الإيراني.

عمل الإيرانيون في هذا الإطار على بناء ميليشيات في البلاد، كما فعلوا في لبنان والعراق. أولًا، وحّدوا الميليشيات المحلية التي نشأت في جميع أنحاء سورية، في إطار منظمة شاملة تدعى “قوات الدفاع الوطني”. تم تنظيم هذه القوات المدربة والخاضعة لقيادة الحرس الثوري والمنتشرة في جميع أنحاء سورية، وفق نموذج “الباسيج”، بصفتها ميليشيا مسلحة، وكبيرة، تعمل كقاعدة دعم شعبية ومصدر استخباراتي لتعزيز رؤية النظام. ثانيًا، استغل الإيرانيون هجمات تنظيمات الجهاد العالمي على التجمّعات الشيعية في سورية (بشكل أساسي على الحدود السورية اللبنانية وفي البادية السورية في شرق البلاد) وأنشؤوا ميليشيات على أساس محلي، أبرزها “قوات الإمام الرضا”. أخيرًا، أقاموا علاقات مع الميليشيات السنية المحلية، كقوات “لواء الباقر” في دير الزور، وهي قوات تستند إلى اثنتين من أكبر العشائر في سورية، هما البكارة والعكيدات، وزوّدتهم بالسلاح وبالخبرات القتالية.

وعلى الرّغم من الهدوء النسبي الذي تشهده الحرب الأهلية في سورية، ما زال العديد من الميليشيات الموالية لإيران تعمل في سورية، وهي تتلقى الدعم المالي والعسكري من طهران التي تحاول تقويتها، على غرار حزب الله اللبناني. وبموجب البحث الذي أجراه مركز البحوث التركي “جسور” في حزيران/ يونيو 2021، تمتلك إيران والميليشيات المتحالفة معها 131 موقعًا عسكريًا في سورية منتشرة في جميع أنحاء البلاد، من درعا ودمشق في الجنوب عبر حلب وإدلب في الشمال إلى دير الزور في الشرق. علاوة على ذلك، يمتلك حزب الله أيضًا 116 موقعًا عسكريًا في البلاد، معظمها بالقرب من الحدود مع لبنان وإسرائيل. ومع ذلك، فشلت المحاولات الإيرانية حتى الآن في بناء تشكيلات عسكرية استراتيجية في سورية بشكل شبه كامل، بسبب الهجمات الإسرائيلية. على الرغم من ذلك، يحاول الإيرانيون تعزيز بنيتهم ​​التحتية العسكرية في سورية بما يخدم مصالحهم، سواء في سورية نفسها، أو في القتال ضد إسرائيل.

الجيش السوري: تعاون وتغلغل وصفقات سلاح

عمل ضباط الحرس الثوري الإيراني، منذ بداية القتال، كمستشارين للجيش السوري، ومع استمرار القتال وفقدان النظام سيطرته على أجزاء كبيرة من البلاد، زادت التبعية العسكرية التي أوجدتها دمشق بطهران. أولًا، ساعد الإيرانيون الجيش السوري في تعزيز صفوفه بعد الاستنزاف الهائل بسبب الحرب، وفي نهاية عام 2014، كان في سورية حوالى 125 ألف مقاتل يعملون في الميليشيات (الأجنبية والمحلية على حد سواء) أي ما يقرب من نصف القوة القتالية للنظام. ثانيًا، كجزء من الجهود المشتركة لإعادة تأهيل الجيش السوري، أنشأت روسيا وإيران في تشرين الأول/ أكتوبر 2015 إطارًا عسكريًا جديدًا، أسموه “الفيلق الرابع”، ويتكون هذا التشكيل بشكل أساسي من الفرقة الرابعة وقوة النخبة السورية، بقيادة ماهر الأسد (شقيق الرئيس) والميليشيات العلوية وأجزاء من قوات الدفاع الوطني. يتمركز “الفيلق الرابع” في شمال غرب البلاد، ويعتبر القوة الأكثر ولاءً لإيران، من بين القوات العسكرية السورية. لقد حقق الإيرانيون هدفين، من خلال إنشاء هذا الفليق: الأول تعميق اختراقهم ونفوذهم داخل الجيش السوري، والثاني توحيد معظم الميليشيات الموالية لهم تحت قيادة مشتركة.

وتموّل إيران عمليات شراء سورية للأسلحة الروسية، وتوفر بنفسها الأسلحة للنظام، خاصة في مجال الدفاع الجوي (بشكل محدود نسبيًا)، من أجل الحد من التفوق الجوي الإسرائيلي في المنطقة. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى الاتفاقية السورية الإيرانية الموقعة في دمشق، في تموز/ يوليو 2020، لتوسيع التعاون العسكري والأمني بين البلدين. تنصّ الاتفاقية -إلى جانب أشياء أخرى- على أن ترسل إيران نوعين من أنظمة الصواريخ المضادة للطائرات إلى سورية: “بافار 373، BAVAR-373“، وهي عبارة عن نظام صاروخي أرض – جو بعيد المدى، ويعتبر إعادة تقليد إيرانية للنظام الروسي 300-S بمدى 250 كم؛ و “Khordad-3“ صواريخ أرض – جو متوسطة المدى بين 50 و75 كم (وهي التي أسقطت بها إيران طائرة أميركية بدون طيار من طراز هوك، في حزيران/ يونيو 2019). ولا يعرَف شيء عن حقيقة تنفيذ الاتفاق، وإرسال مثل هذه الصواريخ إلى سورية.

عمليات ضد إسرائيل:

يسعى الإيرانيون منذ مطلع عام 2014 إلى فتح جبهة أخرى ضد إسرائيل في مرتفعات الجولان، من خلال مقاتلي حزب الله الذين يرتدون زي الجيش السوري ويتنقلون بمركباته، وإنشاء ميليشيات محلية مكونة من دروز وسنة في جنوب سورية، مستغلين الوضع الاقتصادي الصعب في المنطقة، إضافة إلى خشية السكان المحليين من المنظمات الإسلامية التي ظهرت فيها خلال الحرب الأهلية. يتجسد النشاط الإيراني على هذه الجبهة في الوقت الحالي بوضع عبوات ناسفة على الجدار الحدودي، وبناء تشكيلات صاروخية مقابل هضبة الجولان التي تسيطر عليها إسرائيل. إلا أن الرد المضاد القوي الذي تنتهجه إسرائيل حتى الوقت الحالي، وذلك بالتوازي مع سياسة ضبط النفس الجزئي لروسيا، واستمرار المقاومة المسلحة للمتمردين (بشكل رئيسي في الجنوب)، وتحييد قاسم سليماني من الساحة، حالت دون نجاح إيران وحزب الله في هذه الساحة.

القوة الناعمة:

بالتوازي مع التدخل العسكري في سورية، تستثمر إيران الكثير في عناصر القوة الناعمة في البلاد، بصفتها أداة تكميلية، وأحيانًا مركزية، لتصدير الثورة الإسلامية. ويستغل الإيرانيون وجودهم العسكري في سورية لتعزيز مصالحهم الاقتصادية والثقافية والدينية وغيرها. بذلك، تستفيد إيران على المدى القصير بتوقيعها اتفاقيات اقتصادية كوسيلة للالتفاف على العقوبات، إضافة إلى استخدام المواقع المدنيّة كغطاء للنشاط العسكري. أما على المدى الطويل، فتتغلغل إيران في مختلف المجالات المدنية، كالمجتمع والاقتصاد والتعليم والدين، ومن ثم تفرض حقيقة الاعتماد المحلي على خدماتها، مما يجعل اقتلاعها من سورية في المستقبل أمرًا شبه مستحيل.

البعد الاقتصادي:

Top-Down: من أعلى إلى أسفل – الاتفاقيات الثنائية وتطوير البنية التحتية

وقّعت طهران خلال سنوات الحرب سلسلة من الاتفاقيات الاقتصادية مع دمشق، ابتداءً من قروض طويلة الأمد، قدمتها البنوك الإيرانية للنظام السوري، مرورًا بتزويد النظام بالنفط، وإعادة إعمار المناطق المتضررة من الحرب وإعادة تأهيل قطاع الطاقة السوري، وانتهاءً بالتعدين المعدني. بذلك، تحاول إيران استرداد بعض الاستثمارات الاقتصادية الضخمة التي وظفتها في سورية خلال سنوات الحرب، والتي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، فضلًا عن توسيع التعاون الاقتصادي وتعميق قبضتها على البلاد.

كما ذكرنا من قبل، ترى إيران في سورية رابطًا جغرافيًا مهمًا في إطار سعيها للهيمنة الإقليمية. لذلك، تعكف على تحقيق هدفين استراتيجيين في غاية الأهمية: الأوّل إيجاد خط مواصلات شيعي يربط طهران ببيروت من خلال إنشاء خط سكة حديد سيمرّ عبر العراق وسورية، والثاني الحصول على موقع على ساحل البحر المتوسط. وقد فشلت المحاولات الإيرانية، لكسب موطئ قدم في أحد الموانئ السورية، بشكل أساسي بسبب المعارضة الروسية. وسمح النظام السوري لإيران، في نيسان/ أبريل 2019، باستئجار جزء من ميناء اللاذقية، وفتح في آذار/ مارس 2021 خط إمداد بحري دائم، يربط بينه وبين ميناء بندر عباس في جنوب إيران.

على الرغم من كل ما سبق، تجدر الإشارة إلى أن هناك فرقًا بين التصريحات والعقود الموقعة، وبين ما يحدث على أرض الواقع. فهنالك العديد من الحواجز البيروقراطية بالإضافة إلى الإحجام السوري الملحوظ عن الاعتماد على طهران، كمصدر حصري للمساعدة التي تعرقل المحاولات الإيرانية للسيطرة على الاقتصاد السوري. وفضلًا عن ذلك، لا نستطيع الجزم بحقيقة تأجير ميناء اللاذقية بالفعل للإيرانيين، على الرغم من التصريحات العديدة بهذا الخصوص.

Bottom-UP: من أسفل إلى أعلى: إنشاء شبكة اجتماعية شيعية

تكبّد الاقتصاد السوري أضرارًا بالغة على مدار عقد من الحرب الأهلية الدامية، إلى جانب تفشي فيروس كورونا وفرض العقوبات الأميركية على نظام الأسد بموجب “قانون قيصر” في حزيران/ يونيو 2020. وفقًا لتقرير أصدره البنك الدولي في آذار/ مارس 2021، انكمش الاقتصاد السوري بنحو 60% خلال العقد الماضي، وانخفضت الليرة السورية من 46 ليرة للدولار في كانون الأول/ ديسمبر 2010، إلى أكثر من 3000 ليرة للدولار في حزيران/ يونيو 2021. كما انخفض متوسط ​​الراتب بشكل حاد. وفيما راوحت الرواتب ما بين 300 إلى 600 دولار شهريًا في عام 2010، انخفضت إلى مستوى غير مسبوق بمتوسط 20-50 دولارًا شهريًا، اليوم. وقد لوحظ أن هناك نقصًا حادًا في المواد الغذائية الأساسية خلال الأشهر الأخيرة، وارتفعت الأسعار بشكل حاد. وعلى سبيل المثال، قفز سعر البيض مئة ضعف (من ثلاث جنيهات للوحدة إلى 300)، وارتفع سعر الخبز ستين مرة. وبحسب تقرير برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، فإن نحو ثلثي السكان السوريين يحتاجون إلى مساعدات شهرية من أجل تجنب المجاعة.

وإضافة إلى الاتفاقيات الاقتصادية التي استعرضت أعلاه، والتي تهدف إلى زيادة اعتماد نظام الأسد على الجمهورية الإسلامية، يستغل الإيرانيون ووكلاؤهم أيضًا الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في سورية لتعميق النفوذ الإيراني على المستوى المدني، مع التركيز على الشرائح الاجتماعية والاقتصادية الدنيا، في أكثر المناطق تخلفًا. تُعدّ محافظة دير الزور شرقي سورية من المحاور الرئيسية للجهود الإيرانية بهذا الخصوص. حيث عانى سكان هذه المنطقة الصحراوية، الذين يعتمدون بشكل أساسي على الزراعة ورعي الأغنام، من معدّلات بطالة عالية حتى قبل الحرب، وعانوا شدة الجفاف المتواصل الذي ضرب سورية في بداية القرن الحادي والعشرين. لذلك، ليس مستغربًا أن المنطقة التي تقع ضمن نقطة استراتيجية على الحدود العراقية، والتي تعدّ قليلة الكثافة السكانية نسبيًا، أن تصبح بمنزلة أرض خصبة لنمو التنظيمات الإسلامية المتمردة خلال الحرب، والتي خضعت لسيطرة (داعش) بشكل أساسي خلال 2014-2017.

بعد تحرير محافظة دير الزور من الإسلاميين، أنشأ الإيرانيون ومبعوثوهم عدة قواعد عسكرية. ففي دير الزور يوجد 13 معسكرًا إيرانيًا، وسبع معسكرات تابعة لحزب الله. وبهدف تعميق نفوذهم بين الأهالي، دخل الإيرانيون في الأوساط المدنية، حيث يقدمون المال، ويتبرعون بالسلال الغذائية للمحتاجين، ويقدمون الرعاية الطبية المجانية، وينظمون جولات للسكان إلى الأماكن المقدسة للشيعة في جميع أنحاء سورية. في الوقت نفسه، يحاول الإيرانيون، بسبب التركيبة العشائرية للسكان، تجنيد شيوخ العشائر المحليين إلى جانبهم، ودق إسفين بينهم وبين “قوات سوريا الديمقراطية/ قسد”، وهو تحالف عسكري كردي بشكل أساسي، في المنطقة، ومدعوم من الولايات المتحدة الأميركية.

سكان المنطقة، وجلّهم في الأصل من السنّة الذين اضطروا إلى الفرار للنجاة بأرواحهم خلال الحرب، عادوا إلى ديارهم تحت رعاية إيران، وانتسب قسم منهم إلى الميلشيات الإيرانية العاملة في دير الزور، بفضل الراتب شبه الخيالي، وفق المعايير السورية، والمتمثل بـ 200 دولار في الشهر، وراتب مضاعف لمن يغير ديانته إلى المذهب الشيعي. بطبيعة الحال، ليس لدينا بيانات دقيقة عن انضمام السكان المحليين إلى الميليشيات، لكن يمكننا الافتراض أن الظاهرة ليست هامشية، وذلك من جراء انخراط الميليشيات في الحياة اليومية للمجتمع. وهكذا في البوكمال، إحدى أكبر مدن منطقة دير الزور، الواقعة بالقرب من الحدود العراقية، حيث قام الإيرانيون بترميم الحديقة المدينة التي دمّرها تنظيم (داعش)، وتنظم فيه الميليشيات كل أسبوع نشاطات ترفيهية وثقافية ذات طابع شيعي تستهدف السكان المحليين. وينشط الإيرانيون بطريقة مماثلة في مناطق مهمشة وفقيرة أخرى على نطاق سورية، لا سيّما في الجنوب في درعا والسويداء والقنيطرة، وتستهدف جهودهم المتمثلة بالدعوة وتجنيد الفئات الفقيرة والأكثر تهميشًا وأبناء الأقليات.

البعد الديني: “المبشّرون” والتلقين الشيعي

تعتبر محاولات إيران لزيادة عدد الشيعة في سورية واحدة من أكثر الطرق إثارة للاهتمام، لترسيخ موقعهم في سورية. وبهذه الطريقة ستحقق إيران هدفين في وقت واحد: الأول تمكين الشيعة من العمل كقوة طليعية لتحقيق الأيديولوجية الإيرانية في سورية، والثاني تشكيل الوجود الشيعي في البلاد ذريعة دائمة لإيران للتدخل في سورية، بدعوى أنها “حامية الشيعة”. إن نسبة الشيعة في سورية أقل مما هي عليه في بلدان أخرى، كالعراق ولبنان واليمن، وهي لا تتعدّى 2 % فقط، مما لن يسمح بتغيير كبير في التوازن الديموغرافي الكلي. وهذا هو السبب في أن الإيرانيين، بتشجيع من عائلة الأسد، يهدفون إلى تقريب العلويين الذين يشكلون حوالى 15% من مجمل سكان سورية، ويشغلون المناصب العليا في الحكومة والجيش، من المذهب الشيعي الثالث عشر، بصفته أكبر الفصيل الشيعي المهيمن والأكثر شيوعًا في إيران.

تجدر الإشارة إلى أن ظاهرة “التبشير” الشيعي تجاه العلويين في سورية ليست جديدة، وهي مصلحة مشتركة لكل من الإيرانيين وعائلة الأسد على حد سواء، حيث إنّ الإيرانيين يريدون انتشار التشيع، بينما عائلة الأسد معنية بتوفير شرعية دينية لسلطتها. وقد اعتبرت الطائفة العلوية منذ مئات السنين نوعًا من الإسلام، إلى أن أصدر عالم الدين الشيعي المعروف موسى الصدر، الذي كان متحالفًا مع حافظ الأسد حكمًا شرعيًا (فتوى) في عام 1974، اعتبر بموجبها أن هذه الفئة العلوية هي جزء من الشيعة. تعززت العلاقات بين العلويين والشيعة مع قدوم الثورة الإسلامية في إيران، ومنذ ذلك الحين، بذلت عدة محاولات سورية إيرانية لتقريب العلويين من مذهب الشيعة الثالث عشر.

على سبيل المثال، أسس جميل الأسد، شقيق حافظ الأسد، في ثمانينيات القرن الماضي، جمعية خيرية سماها “المرتضى”، ودعا من خلالها أبناء الطائفة العلوية السوريين إلى تبني مذهب الشيعة الثالث عشر، وأرسل مئات السوريين إلى مدينة (قم) لتلقي العلوم الدينية الشيعية، ليكونوا رسلًا للمذهب الشيعي في بلادهم. وقد ازدادت عملية التشييع بعد تسلّم بشار الأسد للسلطة. فقد شيد الإيرانيون الحسينيات في مدينتي دير الزور والرقة المهمشتين، وتبرعوا بالأموال لبناء مستشفيات في سورية، وقدموا الأموال على شكل مساعدات، وقاموا بدعم المنتجات الغذائية الأساسية في مناطق السنة المهمشة والأكثر فقرًا. وأخيرًا، حاولوا حتى إغراء قادة الرأي العام، وبشكل أساسي رؤساء القبائل الكبيرة في شرق البلاد، الذين لديهم القدرة على التأثير على الناس بشكل كبير ليصبحوا شيعة، بينما يغمرونهم بالمال والهدايا. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الطائفة العلوية في سورية لها طابع مميز، من حيث كون أبنائها علمانيين ومثقفين، ويتعاملون مع الجهود الاستفزازية الإيرانية بالريبة على أقل تقدير.

أظهرت طهران ولاءً منقطع النظير لنظام الأسد منذ اندلاع الحرب الأهلية، حيث سمح الأخير للإيرانيين بفعل ما يحلو لهم تقريبًا في سورية. أولًا، زاد الإيرانيون من عدد المركز الثقافية في سورية بشكل ملحوظ. ويفترض أن تستخدم هذه المراكز لإثراء ثقافة الترفيه، إلا أنها تستخدم كأداة لنشر الشيعة، من خلال خطب يلقيها رجال الدين في معظم الأحيان. ثانيًا، ألزم الأسد في عام 2014 بتدريس العلوم الشيعية، بناءً على طلب إيراني في جميع المدارس والكليات والجامعات، وفُرضت بالمقابل قيود على أداء العلماء السنة لواجباتهم في سياق التعليم العام في سورية، وذلك ليس من قبيل الصدفة. كما افتتحت إيران منذ اندلاع الحرب حتى اليوم حوالى 40 مدرسة شيعية في دمشق، وعدة مدارس أخرى في منطقة اللاذقية، ودير الزور، والبوكمال، فيما يدعم الإيرانيون التعليم، ويقدمون مبالغ رمزية للطلاب، مستغلين واقع الاقتصاد السوري المدمر. وإضافة إلى ذلك، أسس النظام السوري بتشجيع من إيران عشر مؤسسات لدراسات الشريعة في جميع أنحاء البلاد، تدرس وفقًا للمدرسة الجعفرية (المدرسة الشيعية الأكثر شيوعًا). ويعمل الإيرانيون أيضًا على المستوى الأكاديمي، فقد أقام الإيرانيون خلال الأعوام الأخيرة فروعًا لخمس جامعات إيرانية في جميع أنحاء سورية، مع تشجيع الطلاب الشيعة من المنطقة (إيرانيون، عراقيون، أفغان، إلخ) على الدراسة في تلك المؤسسات، وتقديم منح دراسية لهم، وهذا من أجل الاستقرار في سورية بعد تخرّجهم. وأخيرًا، لا يهمل الإيرانيون أيضًا التعليم غير النظامي، وقد أنشؤوا حركتين شبابيتين في سورية، تجمعان بين التعليم الشيعي والتدريب شبه العسكري، وهم أتباع الإمام المهدي، وأتباع ولاية الفقيه التي تدمج بين التربية الشيعية والتدريبات العسكرية.

تتخذ طهران خطوات أخرى لتعزيز الهوية الشيعية في سورية، من خلال تقوية الأماكن المقدسة للشيعة في سورية، فيما يشجعون السياحة الدينية وزيارة هذه الأماكن والحج إليها، وتحويلها إلى مراكز رائدة للدراسات الشيعية. وقد قام الإيرانيون بترميم المقدّسات التي تضررت في المعارك، وشيّدوا العديد منها في أماكن أخرى جديدة، ويشجّعون الشيعة، من جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط، للقدوم من أجل التعلّم فيها، حيث يستقر البعض في سورية بعد إكمال التعليم.

وخير مثال على ذلك “قبر السيدة زينب” الواقع في ضواحي دمشق الجنوبية، حيث دُفنت زينب، حسب المعتقد الشيعي، ابنة علي وفاطمة وحفيدة الرسول محمد. أضحى قبر السيدة زينب خلال الحرب الأهلية بمنزلة رمز، تحصّن فيه سكان المنطقة الشيعة أنفسهم، بسبب الهجمات المتكررة من قبل تنظيمات الجهاد العالمي. وقد أودت عشرات العلميات الانتحارية بحياة العشرات من الحجاج، وأدى ذلك إلى حشد شيعي غير مسبوق في سبيل حماية القبر، عندما أرسل مقاتلو حزب الله والقوات الإيرانية مرة بعد مرة لاقتحام القبر المحاصر. في السنوات الأخيرة، بعد الاحتلال النهائي للقبر، اشترت إيران مبان عديد تقع في محيطه، من أجل إنشاء حزام واق حوله. ويشكل القبر اليوم، مثل المواقع الشيعية الأخرى في البلاد، مركز تحكّم يستخدمه حزب الله والميليشيات الموالية لإيران.

البعد الديموغرافي: التوطين وتشجيع الهجرة الشيعية إلى سورية

خطوة أخرى اتخذتها طهران لتعزيز الهوية الشيعية في البلاد هي توطين الشيعة في المناطق التي دُمّرت، أو تلك التي فرّ سكانها منها خلال الحرب. ومع ذلك، يدرك الإيرانيون أن التركيبة السكانية في سورية بعيدة كلّ البعد عن ضمان الهيمنة الشيعية، لذا فهم يركزون على المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية بالنسبة إليهم، كالمدن الكبرى، لقربها من مراكز الاقتصاد والحكومة، وعلى مقربة من الحدود مع العراق ولبنان، وذلك بسبب الرغبة في إقامة الممر البري، وضمان أمن الجبهة الداخلية لحزب الله.

في سياق ذلك، أجرت إيران ووكلاؤها في معرض الحرب الأهلية تبادلًا سكانيًا بين الشيعة والسنة، أحيانًا بالقوة، وأحيانًا أخرى في إطار اتفاقيات وقف إطلاق النار مع التنظيمات الجهادية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك بلدة القصير، وهي جيب سنّي في منطقة شيعية وعلوية، تقع على مفترق طرق يؤدي من الحدود اللبنانية إلى مدينة حمص. كانت البلدة مركزًا رئيسيًا لقوات المتمردين في بداية الحرب الأهلية، وخاضت فيها معارك ضارية، أدت إلى نزوح سكانها منها، واحتُلّت في منتصف 2013 إذ استولت عليها قوات حزب الله والجيش السوري. وبعد أن أدركت إيران موقع البلدة الاستراتيجي، حولت المنطقة إلى قاعدة لحزب الله، ووطنت فيها سكانًا شيعة من لبنان وسورية. وقد اعتقل لاجئو القصير الذين حاولوا العودة إليها، ووُضعوا في السجن.

إذا كانت إسرائيل مهتمة بالفعل بإحباط المخططات طويلة المدى للإيرانيين في سورية، فعليها القيام بعدد من التحركات السياسية المكملة للعمليات العسكرية الهجومية.

في أيلول/ سبتمبر 2015، تمّ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، بين النظام والمتمردين المحاصرين في بلدتي الزبداني ومضايا غربي دمشق. وأصرت إيران على إدراج بندٍ في الاتفاق يقضي بتهجير المتمرّدين من هاتين البلدتين، وتوطين سكان شيعة من قريتي الفوعا وكفريا المحاصرتين بالقرب من إدلب مكانهم. بعد مرور عام، قامت إيران في آب/ أغسطس 2016 بتوطين 300 عائلة شيعية من العراق، مكان المتمردين السنّة الذين أخلوا من منطقة داريا. وهناك تقارير تفيد بأن الميليشيات الموالية لإيران حرقت خلال الحرب الأهلية بشكل ممنهج مكاتب سجلات الأراضي في مناطق كثيرة، مما سيضع عقبات صعبة أمام عودة سكانها الأصليين وإثبات ارتباطهم بالمنطقة، وسيجعل إعادة التوطين فيها أمرًا سهلًا.

في نيسان/ أبريل من عام 2018، أقرّ مجلس الشعب المرسوم التشريعي رقم 10 لسنة 2018، الذي تم تعديله في كانون الثاني/ نوفمبر من العام نفسه. ويتيح هذا القانون للنظام مصادرة الأراضي في جميع أنحاء البلاد، بدعوى “إعادة التطوير”. ووفقًا لهذا القانون، عندما تعلن الدولة أن منطقة ما مخصصة للتطوير، يقع على عاتق السلطة المحلية بالتزام تقديم قائمة بأسماء ملاك الأراضي في غضون 45 يومًا، ويعطى لمن لا يظهر في القائمة حق استئناف القرار في غضون عام من لحظة الإعلان، وذلك من أجل الحصول على تعويض. بطريقة أو بأخرى، يتعين بعد الإعلان على جميع سكان المنطقة الإخلاء، عمليًا، ويستخدم النظام والإيرانيون هذا القانون كذراع مكمل لمشروع إعادة التوطين والتبادل السكاني في سورية.

خلاصة:

يجري النشاط الإيراني في سورية على مستويات عدّة -عسكري واقتصادي واجتماعي وديني وتعليمي- بهدف إنشاء شبكة دعم قوية في البلاد لا تعتمد فقط على الوجود الإيراني المادي. وتسعى طهران جاهدة لبناء قاعدة سلطة تنافس الدولة، سواء من حيث احتكار استخدام القوة أو من حيث المجتمع المدني الموالي للجمهورية الإسلامية. إن عمق الاختراق الإيراني، تحديدًا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، سيجعل من الصعب إخراج إيران من سورية، أو تقليص النفوذ الإيراني في البلاد. وتجدر الإشارة إلى أن إيران تواجه صعوبات تمنعها من الاختراق الأمثل لمؤسسات الدولة، مثل الوجود الروسي الذي أعاق خطواتها؛ الميزان الديموغرافي الذي يميل بوضوح ضد الشيعة؛ الطبيعة العلمانية للأقلية العلوية؛ والبيروقراطية السورية.

أما في ما يتعلق بإسرائيل، فمن المفضّل أن يعيد صانعو السياسة النظر في سياسة إسرائيل تجاه التهديد الإيراني المتمثل في ترسيخ وجودها في سورية. أولًا، يجب أن يكون واضحًا أن طهران تعتبر سورية رصيدًا استراتيجيًا أعلى بالنسبة إليها، وأن الإيرانيين يتصرفون وفقًا لتخطيط طويل الأمد. بمعنى آخر: إن الضربات العسكرية على الميليشيات الموالية لإيران في سورية لن تردع طهران، ولن تجعلها تعيد حساب مسارها في الشأن السوري. إذا كانت إسرائيل مهتمة بالفعل بإحباط مخططات إيران طويلة المدى في سورية، فعليها القيام بعدد من التحركات السياسية التالية التي تكمل النشاط العسكري الهجومي:

تسخير الروس: تتعارض التحركات الإيرانية في سورية مع المصلحة الروسية الهادفة إلى تعزيز النظام المركزي. وهنا يتعين التوضيح للروس أنه ما دامت القوات الإيرانية في البلاد والميليشيات المحليّة غيرَ مندمجةٍ في الإطار الأمني ​​السوري، فقد تتدهور سورية إلى وضع مماثل لذلك السائد في لبنان أو العراق، مما سيصعب على الروس جني عوائد اقتصادية وسياسية من إعادة تأهيل سورية.

العصا والجزرة في مواجهة دمشق: توجيه رسائل إلى النظام (عبر الروس) مفادها أن إسرائيل تقبل سيطرة الأسد على سورية ولن تعرّضه للخطر. ومع ذلك، إذا استمر الإيرانيون في ترسيخ وجودهم في سورية، فسوف تلجأ إسرائيل إلى ضرب أهداف تعرّض استقرار النظام للخطر. وإضافة إلى ذلك، إذا عمل الأسد على كبح جماح الإيرانيين وحزب الله في سورية، فستبذل إسرائيل جهدًا لدى واشنطن لإزالة العقوبات المرهقة المفروضة على البلاد.

إعادة التأهيل الاقتصادي: من المهمّ للغاية الترويج لعملية إقليمية لاستثمار الأموال في الخدمات والبنية التحتية في شرق سورية وجنوبها. ويجب على إسرائيل تفعيل علاقاتها الجديدة مع العالم العربي، وتسخير صداقتها في الخليج في سبيل هذه القضية، لكن بطبيعة الحال يجب أن يبقى تدخلّها سريًّا، لتجنب تعريض هذه الخطوة للخطر. بهذه الطريقة، سيستفيد الجميع: ستنخفض ​​تبعية النظام السوري والسكان للمال الإيراني، وستحصل دمشق على اعتراف متجدّد من الدول العربية؛ ستكتسب دولُ الخليج موطئ قدم في سورية، وستظهر كأعضاء فاعلة في النظام العربي، من خلال تقديم المساعدة لدولة عربية محتاجة؛ وسيتمكّن الروس من إعادة تأهيل صورتهم، من بعد ظهورهم مسؤولين عن تدمير سورية، ومن الحصول على نقاط ائتمانية في النظام الدولي.

* الآراء الواردة في المادة لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز

الكاتب  يوغيف إلباز: طالب دكتوراه في الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، وزميل رئيس في مدرسة جاك وجوزيف ومورتون مندل للدراسات المتقدمة في العلوم الإنسانية في الجامعة العبرية في القدس. وكان زميلًا في برنامج Neubauer في معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب.

مكان النشر وتاريخه      مركز دراسات الأمن القومي – جامعة تل أبيب

خارطة سياسية | المجلد 24 | العدد 4، كانون الثاني/نوفمبر 2022

الرابط    https://strategicassessment.inss.org.il/articles/kan-kedey-leishaer/

عدد الكلمات     3814

ترجمة  نزار أيوب

مركز حرمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى