أبحاث

في الدوغما الشامية والحاجة إلى عكيد/ كريستا سالاماندرا

(1/2)

ترجمة أزدشير سليمان

– جَمال دمشق مخفي ولا يمنحك كل شيء منذ اللحظة الأولى. جمالها يأتي إليك شيئاً فشيئاً. (غسان جبري، مخرج تلفزيوني من دمشق)

– دمشق مثل الفتاة الجميلة التي تريد أن تكون مرغوبة. (ناديا خوست، كاتبة من دمشق).

– دمشق عاهرة لكنها راقية. لا تعطي نفسها إلا لمن يدفع أكثر. (صحافي علوي).

استناداً إلى بحث ميداني بين العامين 1992-1994 في دمشق، وبناءً على رؤى بورديو حول التمايز والعلاقة بين الاستهلاك والوضع الاجتماعي، تهتم أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة نيويورك CUNY، كريستا سالاماندرا(*)، بشكل أساسي، ببناء هوية النخبة الدمشقية من خلال الاستهلاك والإنتاج الثقافي. تجادل بأن دمشق و”النزعة الدمشقية” تعملان كنقطتين محوريتين للمناقشات والحجج حول الهوية والمكانة والأصالة والهيبة، وأن مثل هذه الجدالات تتم بشكل أساسي من خلال “شعرية الاتهام”. هذه “النزعة الدمشقية” يمكن تحريها وتلمسها في اشتباكها مع الحداثة ومع هويات أخرى في طور البروز. تتعقب فصول كتابها “دمشق القديمة الجديدة” هذه الخطابات المتنازع عليها لدى ظهورها في إنتاج مجموعة متنوعة من الاستدلالات البصرية والنصية للمدينة القديمة. على وجه التحديد، تتطرق سالاماندرا إلى التاريخ والجغرافيا الحضرية لدمشق، وتسليع التراث من خلال مواقع الترفيه مثل المطاعم، والممارسات الرمضانية والمسلسلات التلفزيونية، والمذكرات، وغيرها من أشكال الإنتاج الثقافي… وهنا بعض من مقدمة الكتاب، مع التنويه بأن سالامندرا تستخدم مصطلح مُخبِر بالمعنى الفضفاض للكلمة، بمعنى الإدلاء بإفادة أو رواية خبر ما، وليس بالمعنى الازدرائي الدال على الوشاية وهو المعنى الدارج لدينا:

لم يكن العمل الميداني أول تجربة متعمقة لي في سوريا. ففي العام 1987، قضيت عاماً في دمشق أدرس اللغة العربية من خلال منحة فولبرايت بعدما أكملت درجة البكالوريوس في لغات وآداب الشرق الأدنى. في الفصل الأول الذي عشت فيه في مهاجع للطلاب، عشت تفاعلاً حميماً يومياً مع طالبات سوريات من خلفيات متنوعة. في النصف الثاني من العام، انتقلت إلى البلدة القديمة، واستأجرت غرفة في الطابق الأرضي في منزل في حي باب توما، مع مهاجرين جدد من منطقة حوران في جنوب سوريا، وهم أسرة رقيقة الحال جاءت هجرتها في سياق محاولتها التكيف مع الحياة الحضرية.

كانت الحياة قاتمة بالنسبة لمعظم مواطني دمشق. فقد أصاب انقطاع التيار الكهربائي اليومي الطويل، الكثيرين الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف المولدات الخاصة. والصناعة المحلية، المزدهرة الآن، كانت في حدودها الدنيا، وكان الاستيراد مقيداً. كما أدت المحاولات المتكررة لوقف تدفق التهريب من لبنان والأردن، إلى نقص حاد في السلع الأساسية مثل الأرز والشاي والسكر وزيت التدفئة وغاز الطهي. جنّد السوريون حيلهم كلها ما أدى إلى توسيع علاقات المحسوبية والالتزامات الأسرية إلى أقصى حد.

أبرزت دمشق، بشوارعها النظيفة وحياتها الليلية الفقيرة والخفية، واجهة مرتبة ولكنها مقتصدة. كانت الثقافة العامة أقلّ تطوراً بكثير مما هي عليه الآن، مع وجود عدد قليل فقط من الفنادق والمطاعم. كما استاء المسؤولون من العروض العامة الواضحة للاستهلاك، حتى أنهم حدوا من تصوير الأطعمة الفاخرة في التلفزيون الخاضع لسيطرة الدولة. ومع ذلك، وسط هذا المشهد الكئيب للمدينة، حيث أُجبر الكثيرون على قضاء الكثير من وقتهم في البحث عن ضروريات الحياة، كانت ثمة إشارات إلى نمط حياة مختلف تماماً. بعد ظهر أحد الأيام، ذهبت لتبديل العملة في فندق شيراتون، وهو مكان بعيد كل البعد عن أسلوب حياتي الطلابي وخلفيتي في الطبقة العاملة. رأيت هناك مجموعة من سبع أو ثماني نساء يتكئن على الكراسي الجلدية الفخمة في الردهة، في انتظار العشاء في مطعم الفندق ذي الطراز الفرنسي. جلست لبضع دقائق، مفتونة، أراقب من خلف نبات كبير موضوع في أصيص. طاردتني صورة “السيدات اللائي يتناولن الغداء” واللواتي يرتدين الثياب الفخمة والمنسوجات باهظة الثمن، وتناقضها مع معظم ما كان يقع خارج هذا الفندق. عندما عدت إلى سوريا للعمل الميداني في خريف 1992، كنت أخطط لتركيز بحثي على الثقافة العامة والتمايز الاجتماعي لدى النخبة، وهي تيمة مفقودة إلى حد كبير من الإثنوغرافيا في الشرق الأوسط. كنت سأكتشف ساحة عامة جديدة مزدهرة من مواقع الترفيه حيث تعرِض الطبقات القديمة والجديدة المكانة والثروة.

لم تكن دمشق موقعاً ميدانياً سهلاً. شبابي النسبي وأنوثتي يسّرا بعض العلاقات وفي بعض الحالات ربما خففا الشكوك، كما أنهما أحدثا توترات لم يكن من السهل التغلّب عليها. كانت الهياكل الأبوية لدى النخبة الحضرية في سوريا تضع النساء في مواجهة النساء، وكان على المرأة الأجنبية التي تدخل هذا المجال أن تتعامل مع التفاعلات الاجتماعية والمهنية شديدة التنافسية. عقبة أخرى تمثلت في الافتراض العام، الذي يتشاطره السوريون من جميع الفئات الاجتماعية والدينية، بأن الباحثين الأجانب جواسيس. مثل هذا الشك يمثل خطراً شائعاً في العمل الميداني في معظم أنحاء الشرق الأوسط العربي. أحد المخبرين صاح في وجهي ذات مرة: “سؤالك استخباراتي، وليس أكاديمياً”. وتحدثت أخرى عن رد فعل زملائها السوريين عندما علموا أنها تعمل مع باحثين أجانب: فقد قالوا لها “ألا تعلمين أن كل هؤلاء الأجانب جواسيس؟” كيف يمكنكِ إحضار س. إلى النادي العربي، ماذا لو كانت جاسوسة؟ وقد قلت لهم “وإن تكن جاسوسة، فهي تسأل فقط أسئلة عامة جداً”. مع ذلك، ما زال الناس يشككون كثيراً في الأجانب، وهذا من وجهة نظر سياسية”. وبالمثل، قال صديق سوري إنه حتى لو كنا، نحن الباحثين الأجانب، لا نعتبر أنفسنا جواسيس، فإن هيئات التمويل لدينا لها صلات بأجهزة المخابرات الغربية، التي تستفيد بعد ذلك من أعمالنا المنشورة. حتى عندما استشهدتُ بمجموعة من المنح الدراسية التي يتم إنتاجها كل عام، والغموض النسبي للإثنوغرافيا ضمن هذه المنح، وصغر جمهورها، لم أستطع إقناعه بأنني كنتُ أي شيء آخر سوى  إثنوغرافية استعمارية تم توظيفها للمساعدة في إخضاع السكان الأصليين.

الأنثروبولوجيا نفسها جديدة على سوريا، وقد عمل القليل من علماء الأنثروبولوجيا في دمشق. لا علماء أنثروبولوجيا سوريين، ولا قسم للأنثروبولوجيا في أي جامعة سورية. ولم تكن الإثنوغرافيا مفهوماً مألوفاً لأي تخصص آخر، في حين يمتاز قسم علم الاجتماع في جامعة دمشق بالمناهج الكمية. نظراً لعدم وجود منحة دراسية أنثروبولوجية أصلية، واجه مخبريّي ذوي التعليم العالي صعوبة في فهم البحث الإثنوغرافي وكانوا في بعض الأحيان في حيرة من اختياري للتحدث معهم بدلاً من الاعتماد فقط على المصدر التاريخي الكلاسيكي في المدينة.

ومما فاقم عدم الإلمام بالممارسات الإثنوغرافية تركيزي على الثقافة الشعبية. بالنظر إلى الحداثة والتهميش النسبيين للأشكال الثقافية الشعبية كأهداف للبحث العلمي الاجتماعي، لم يكن تشكك السوريين تجاه دراستي مفاجئاً. بدت الثقافة الشعبية شيئاً غريباً وصعباً على نحو غير عادي للتحقيق في نظر السوريين، نظراً للانحياز القوي للثقافة العربية تجاه الكلاسيكية مقابل اللغة العامية. هذا التمييز، المرتبط بالازدواجية الواسعة للغة العربية، أكثر وضوحاً في سوريا مما هو عليه في مصر أو دول الخليج العربي، حيث يتم إعطاء الأشكال العامية تعبيراً أدبياً ذا قيمة اجتماعية. كان الاهتمام العلمي بالمطاعم والبرامج التلفزيونية غريباً جداً على السوريين.

ومع ذلك، تؤكد الحالة الدمشقية على بروز الثقافة الشعبية. بينما اقترح مخبريّي أن أقرأ محمد كرد علي، وعلماء آخرين من دمشق، فإن ما تحدثوا عنه في المناقشات اليومية للمدينة كان تمثيلها في وسائل الإعلام الشعبية. إن تجاهل أهمية مثل هذه المواد يعني أن نُسلِم أماكن مثل سوريا إلى تصورات نمطية قديمة من اللاحداثة. حتى بين المجموعات الصغيرة وغير المتعلّمة التي تشكّل موضوعاً أكثر تقليدية للبحث الأنثروبولوجي، أصبحت الثقافة الشعبية جانباً ذا مغزى متزايد في العالم الاجتماعي اليومي.

عنصر مهم آخر في التصورات الأكاديمية المعاصرة للحياة السورية هو بنية وتأثير الدولة السورية، بأجهزتها الأمنية القوية والقاسية في بعض الأحيان. إن عملي يقلل من شأن هذا الجانب من سوريا، والذي غالباً ما يكون مبالغاً فيه في كل من المنح الدراسية ذات التوجه السياسي وفي وسائل الإعلام الغربية والخيال الشعبي. بالنسبة للزائر العادي، قد تشير الصور الأيقونية الطاغية للرئيس، ووجود حراس مسلحين في شوارع دمشق إلى دولة بوليسية أكثر تدخلاً مما هو موجود بالفعل. لم أتعرّض أبداً لأي مضايقات، على الرغم من أنني أجريت بحثاً علنياً، وكثيرًا ما كنتُ أدوّن الملاحظات وأجري مقابلات في الأماكن العامة مثل مقهى Bresil في فندق شام بالاس، أو مطعم لاتيرنا. المسؤولون السوريون، في المناسبات النادرة التي تعاملت معهم، كانوا دائمًا متعاونين وداعمين. وعلى حد علمي، لم يتعرض أي سوري مشارك في بحثي للخطر. ومع ذلك ظللت مدركة تماماً أن موضوعي الذي غامر بالدخول في التضاريس الحساسة للفوارق الطبقية والدينية والمناطقية، مكروه بالنسبة لأيديولوجية حزب البعث ويوحي بالنقد السياسي. أنا ممتنة للعديد من السوريين الذين تحدثوا معي بسخاء، على الرغم من أي رقابة ذاتية قد مارستها غرائزهم.

هويات النخبة

يتطلب فهم ظاهرة دمشق القديمة الإلمام بالتكوين الاجتماعي لسوريا المعاصرة، وهي دولة تكتنز مجموعة معقدة من الهويات الدينية والطبقية والإقليمية والعرقية المتداخلة والمتشابكة في كثير من الأحيان. ما زال المشهد الاجتماعي السوري محاطاً إلى حد كبير بالصمت الأكاديمي، حيث يتجنّب كل من الباحثين الأجانب والمحليين الموضوعات المعاصرة – وبالتالي الحساسة سياسياً – في هذه الدولة البوليسية تقريباً. يؤدي الافتقار إلى إحصاءات موثوقة إلى تفاقم المشكلة. بالنظر إلى النقص في الدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية، وتركيز معظم المؤرخين على ما قبل العام 1960، فإن العمل في السياسة والاقتصاد السياسي هو الذي شكل الفهم الغربي للمجتمع السوري المعاصر. وتتمحور معظم هذه المواد حول تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي وسيطرته على النظام السياسي السوري لما يقرب من أربعين عاماً. من غير المفاجئ أن يستمر صعود حزب البعث في إبهار المحللين السياسيين، لأنه قصة صعود فلاحين فقراء “من الخِرق إلى الترف”، قصة فلاحين من طائفة دينية موصومة تنتزع السيطرة السياسية من نخبة حضرية من العائلات “البارزة” التي هيمنت على الحياة السياسية والاجتماعية المحلية لعقود، إن لم يكن لقرون.

من الصعب المبالغة في التأكيد على الدرجة التي سيطرت بها عائلات النخبة الدمشقية على النظام السياسي والمجتمع السوري قبل العهد البعثي. في كتابه عن التعبئة السياسية الجماهيرية في عشرينيات القرن الماضي، يشدد جيمس جلفين James Gelvin على إحجام “المتنورين” الدمشقيين عن توسيع الحركة القومية خارج دائرتهم الضيقة. كانت الحركة القومية السورية مؤلفة إلى حد كبير من النخبة الدمشقية، التي “لم تتفاوض مع السكان حول الأيديولوجيا أو البرنامج، لم تؤلف أبداً خطاباً سياسياً مقنعاً لغير النخب، ولم تُنشأ أبداً روابط مع السكان مماثلة لتلك التي أقيمت بين النخب القومية ومواطنيهم المستقبليين في مناطق أخرى من العالم”.

ظل وضع ومكانة العائلات الرائدة في المدينة مستقراً خلال النصف الأول من القرن العشرين، على الرغم من التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الواسعة النطاق التي أحدثتها الحرب والمجاعة والاستعمار. جاءت الضربة الأولى لهذا الاحتكار مع محاولة الوحدة مع مصر وتنفيذ السياسات الاشتراكية الناصرية. مع توطيد حكومة حزب البعث في العام 1963، تحولت السلطة السياسية إلى نخبة عسكرية غير دمشقية وغير حضرية إلى حد كبير، والتي أصبحت أكثر قوة بعد النجاحات المتصوَّرة في حرب 1973. خلال السنوات الأولى من حكم حزب البعث، تم تهجير الدمشقيين بشكل منهجي من المناصب الرئيسة في الجيش والحكومة والحزب. ولا يشغلون اليوم مناصب رئيسة في أي من القوى الأمنية المختلفة التي يعتقد معظم المحللين السياسيين أنها تتولى زمام السلطة في سوريا. في المجال الاقتصادي، كان على الوجهاء الدمشقيين أن يزاحموا منافسين جدد وأن يخسروا أمامهم أحياناً، بما في ذلك الدولة، لأن التأميمات في منتصف الستينيات قوضت سيطرة الأعيان على التجارة والصناعة. ظهرت نخب بيروقراطية وحزبية جديدة مع توسع النظام في قاعدة سلطته. وغالباً ما عاد الفلاحون السابقون الذين حققوا ثروات في الخليج خلال طفرة النفط في السبعينيات، ليس إلى قراهم، بل إلى دمشق، وشكلوا جزءاً من طبقة من الأثرياء الجدد الذين تربطهم صلات قوية بالنظام.

بين خصوم الدمشقيين كان أعضاء من الطائفة العلوية. ففي انعكاس مذهل للثروات، صعدت هذه المجموعة التي كانت في يوم من الأيام في أسفل السلم الاجتماعي، إلى أعلى ذرى السلطة السياسية، وباتت تسيطر الآن على معظم المناصب الرئيسة في حكومة الأسد. تعتبر الطائفة العلوية أو النصيرية، والتي تعتبر هرطقة من قبل المسلمين السنّة الذين سيطروا لفترة طويلة على المدن السورية، فرعاً من الإسلام الشيعي، ومزيجًا توفيقياً من المعتقدات والممارسات الإسلامية والمسيحية واليهودية. في القرن التاسع عشر، كان العلويون في القرى الساحلية في شمال سوريا أقلية مُضطهدة ومستغلة يعملون غالباً كمزارعين ويرسلون بناتهم إلى المدن- دمشق على وجه الخصوص- للعمل كخادمات في المنازل الغنية. في حين جند مسؤولو الانتداب الفرنسي، كجزء من تكتيكهم “فرّق تسُد” أعداداً كبيرة من العلويين في جيشهم، مما أدى إلى تفاقم التوترات بين العلويين في المناطق الريفية وسُنّة المدن.

إن تاريخ العلويين، الذي يدركونه جيداً هم ونظراؤهم الدمشقيون، هو تاريخ فقر وذلّ وعبودية. مصطلح “علوي” الذي كان ذات يوم تحقيرياً، بات يشير الآن إلى مصدر القوة السياسية والقمع. يقوم العلويون وغير العلويين على حد سواء بالتعبير عن ذلك بصمت، أو باستخدام واحد من مجموعة متنوعة من المصطلحات المشفّرة بدلاً من ذلك. عادة ما تشير مصطلحات مثل “الغرباء”، “القرويين”، “أهل الريف”، “الفلاحين”، أو “الأقليات” إلى العلويين على وجه الخصوص.

في المناقشات اليومية، غالباً ما يربط السوريون الهوية العلوية بكل من الثراء المُحدث الأرعن والتأثير غير المستحق. من الصعب تقييم مدى دقّة هذا التصور في عكس الحقائق المعاصرة. إن علاقة الانتماءات الطائفية والمناطقية والطبقية بين النخب السورية معقّدة ومتغيرة باستمرار. والمحللون الذين حاولوا تصنيف التركيبة الطبقية في سوريا -وهي مهمة ضخمة باعتراف الجميع- لم يُظهروا كيف تتقاطع الانتماءات الطائفية والإقليمية مع الانتماءات الطبقية. لم يحلل أحد التركيبة الطائفية أو الإقليمية للبنية الطبقية في دمشق بالطريقة التي قام بها حنا بطاطو في عمله “فلاحو سوريا” على الرغم من أن هذه الانتماءات مهمّة لسكان دمشق أنفسهم ويتم التذرع بها دائماً في مناقشات السلطة أو الامتياز أو الفقر.

الفروق الاجتماعية من جميع الأنواع تظهر بشكل متزايد، على الرغم من – أو ربما بسبب – الجهود الرسمية لحزب البعث على مدى أربعين عاماً لمحوها. كان تفكيك الفروق الطبقية والإقليمية والدينية من الأمور المركزية في النسخة الاشتراكية من القومية العربية. وبحسب دستور الحزب: “الأمة العربية وحدة ثقافية وأي اختلافات قائمة بين أبنائها عرضية وغير مهمة وسوف تختفي مع يقظة الوعي العربي”.

سعى مشروع البعث إلى خلق شعور بالأمة يربط تعدّد المجموعات العرقية والإقليمية والدينية واللغوية. فالأمة الحديثة في سوريا لها صدى تاريخي ضئيل. كان الكيان السابق أكبر – المقاطعة العثمانية لسوريا الكبرى – وأصغر – المدن والبلدات والقرى الفردية. قبل فترة الانتداب (1922-1946)، كان الانتماء إلى المدينة هو الغالب. عرّف السوريون أنفسهم على أنهم دمشقيون أو حلبيون ونادراً ما عرفوا أنفسهم على أنهم عثمانيون. حاولت عملية التأميم خلق مفاهيم وطنية – ما وراء الوحدة العربية – للترابط لتحلّ محل مفاهيم المحلية والدين والطبقة. هذا لا يعني أنّ سوريا أصبحت أكثر تجانساً أو مساواة خلال ذروة الاشتراكية القومية في الستينيات والسبعينيات، بل يعني أن التعبيرات العامة للهويات دون الوطنية كانت من المحرّمات. كان الملتزمون بالقومية العربية يؤمنون بسياساتها المتجانسة. تشهد التأكيدات الأخيرة لهوية النخبة المحلية من قبل قوميين سابقين بارزين، على فشل مشروع البعث الاشتراكي. كما أخبرتني شابة من مدينة حمص “لا أتذكر أن الناس كانوا يذكرون من أين أتوا، أو ما هي طائفتهم عندما كنت في المدرسة. الآن هذا كل ما تسمعه”.

أدى التخفيف النسبي للقيود المفروضة على حرية التعبير خلال التسعينيات إلى فتح مساحة للتعبير العام عن الاختلاف، حيث أدى الزوال العالمي للأيديولوجية الاشتراكية إلى إضعاف مبادئها المتجانسة. بدأ نقاش حيوي حول الموضوعات المحظورة سابقاً في وسائل الإعلام وفنون الأداء وحولها. بعد فترة طويلة من الابتعاد عن الأنظار بشكل متعمّد، بدأت طبقة التجار الدمشقيين – أبناء وبنات النخبة الحضرية الحاكمة القديمة- في إعادة تأكيد نفسها. تعبّر النخبة الدمشقية عن هوية محلية دينية وثقافية وطبقية تتعارض منذ فترة طويلة مع سياسة حزب البعث والنظام الحالي، وهي تفعل ذلك بصوت عالٍ.

التحول الحضري

يتجلى النزوح السياسي للنخبة القديمة في المشهد الحضري المتغير. فقد شهدت دمشق نمواً سكانياً سريعاً طوال القرن العشرين، واشتمل معظم هذه الزيادة على حركة سكان الريف، العلويين وغيرهم، إلى المدينة. غالباً ما يؤرخ أنصار دمشق القديمة هذا التدفق للمهاجرين من الريف بفترة صعود حزب البعث والسيطرة العلوية، ومع ذلك، كانت العملية قد بدأت بالفعل خلال فترة الانتداب، عندما تضاعف عدد سكان المدينة. إذ سعى بعض المهاجرين للحصول على فرص اقتصادية في العاصمة بعد المجاعات التي تسببت فيها الحرب العالمية الأولى التي دمرت القاعدة الزراعية في سوريا. جاء البعض الآخر خلال الخمسينيات، عندما أدت الممارسات الزراعية الجديدة وفرص العمل الحضرية المتزايدة إلى جعل حياة الفلاحين غير محتملة بشكل متزايد. استبدلت التنمية الرأسمالية أنظمة الحيازة بالمكننة والعمل المأجور، وحولت الفلاحين إلى بروليتاريا ريفية وخلقت بطالة منتشرة. في الستينيات، أسفر صعود العسكر إلى السلطة عن جلب العديد من عائلات الفلاحين، غالباً من العلويين، إلى مساكن جديدة بخسة الثمن في ضواحي دمشق. يصف أحد المخبرين الدمشقيين تأثير هذا التدفق، كاشفاً عن حالة من الاغتراب يتشاركها الكثير ممن يتعاطفون مع النظام الاجتماعي القديم: الدمشقيون مستاؤون من كل الأشياء التي لا تنتمي إلى دمشق القديمة. يبلغ عدد سكان دمشق الآن ثلاثة ملايين نسمة، من بينهم ما لا يزيد عن نصف مليون من أصل دمشقي. البقية من الخارج. يسميهم الدمشقيون الغرباء، الأجانب. يعود الدمشقيون إلى عاداتهم القديمة لتمييز أنفسهم عن كل ما هو غير دمشقي.

إن هجرات الفلاحين على نطاق واسع إلى المدن، وما ينتج عنها من تغيرات اجتماعية واقتصادية عميقة، هي ظواهر عالمية. لكن ما يجعل الحالة الدمشقية مميزة هو أن هؤلاء المهاجرين الريفيين يُنظر إليهم من قبل النخبة السياسية النازحة على أنهم اغتصبوا السيطرة على الدولة. عندما يشير الدمشقيون إلى هؤلاء “الغرباء”، فإنهم يفعلون ذلك غالباً بمصطلحات طائفية، ويربطون المهاجرين بالعلويين. ومع ذلك، من المهم التأكيد على أن “علوي” هنا لا تشير إلى مجرد طائفة، بل مجموعة من الخصائص الطبقية والثقافية والإقليمية واللغوية الحقيقية والمتصورة. ففي البيئات غير المتجانسة، تكون الفروق الاجتماعية كتجربة معيشية فوضوية وأكثر تعقيداً مما قد يوحي به حتى مخطط التصنيف العلمي الاجتماعي الأكثر صرامة.

بعبارة أخرى، فإن الفروق الاجتماعية التي أستقصيها ليست تلك الخاصة بالدين بالمعنى الضيق، لكنها تتعلق بالمظاهر، والتوجه إلى العالم، والأذواق، والمواقف، والتصورات. هذه الفروق ليست فطرية أو ثابتة، بل يُعاد بناؤها باستمرار وفقاً للظروف المتغيرة- في بعض السياقات التاريخية  تم التأكيد عليها، وفي حالات أخرى تم التقليل من شأنها. على سبيل المثال، ظهرت التوترات الطائفية المتصاعدة في دمشق في القرن التاسع عشر، عندما أدت هيمنة التجار المسيحيين بين أولئك الذين استفادوا من التوغل الأوروبي في الأسواق المحلية إلى اندلاع موجة قصيرة ولكنها دراماتيكية من أعمال العنف ضد المسيحيين.

يأخذنا هذا الفهم للتمييز الاجتماعي إلى ما وراء ثنائية الطائفية مقابل الانتماءات الأخرى المنصوص عليها في الكثير من أدبيات العلوم السياسية. فهو يساعد في استكشاف تناقض الهيمنة العلوية على النظام السياسي السوري على الرغم من الإيديولوجية العلمانية المعلنة لحزب البعث. العلويون هم مجرد التجسيد الأقوى والأكثر وضوحًا لما يعتبره الدمشقيون “الآخر”. وبالتالي فإن ما أشير إليه على أنه “تمايز اجتماعي” لا يمكن اختزاله بشكل صحيح في الطائفية. أزعم أن الإشارات الطائفية تعمل كتعبير محلي بدلاً من تصنيفات تحليلية. لا يكمن التحدي الذي يواجه المحلل في تجنب المفاهيم الخاطئة الواضحة المضمنة في فئات التمييز هذه، لكن بدلاً من ذلك وضعها في محاور تحليلية تساعدنا على فهم كيفية عمل التعابير المحلية.

———————————-

الجزء الثاني

دمشق الخوف من الغرباء والمجهول السياسي/ كريستا سالاماندرا

 (2/2)

في سوريا، تختلف الفروق الدينية والطبقية عن تلك الموجودة في المنطقة. توترات الريف/ المدينة التي اكتشفها عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي جاك ويلرس في ثلاثينيات القرن الماضي، كما تنبأ، تتزايد وضوحاً. إن الفروق بين الريف والحضر شديدة الوضوح لدرجة أنّ حتى الصحافيين الغربيين لا يستطيعون تجاهلها. تشارلز غلاس، على سبيل المثال، يتعامل مع هذه القضية في قسم دمشق من كتابه عن رحلات الشرق الأوسط. يشعر البعض أن المدينة تترّيف: “سكان المدينة يأكلون طعام القرية”، على حد تعبير أحد السكان الدمشقيين. لكن الطعام غالباً ما يتجاوز الحدود التي لا يستطيع الناس عبورها أو لن يتخطوها. لا يعني توافر المواد الغذائية الريفية تزايد القبول الاجتماعي، أو الاحتضان العالمي، لأولئك الأقل حضرية. الدمشقيون واضحون بشأن ما يرونه عدم ملاءمة سكان الريف في المدينة. بحسب صناعي دمشقي: لا يقوم القرويون بإحضار عائلاتهم فحسب، بل إنهم كذلك يجلبون أسلوب حياتهم إلى المدينة. إنهم يعيشون حياة قروي في المدينة، وهذا له آثار سلبية على المدينة نفسها. كما أنهم لا يتكيفون مع حياة المدينة، وهذا سيء بالنسبة للمدينة، خاصة إذا كانت دمشق.

القوالب النمطية السلبية للريف الآخر شائعة. شدّد أحد المدافعين البارزين عن دمشق القديمة الذين قابلتهم، على التخلّف المفترض لسكان الريف، بحجة أن الفلاحين متعددي الزوجات -على عكس سكان المدن المتقدمين- يستغلون نساءهم: “الفلاحون [الذكور] في مجتمعنا كسالى” كما أشار. “لكن السيدات، إذا كان بإمكانك الاتصال بهن، ينهضن في الساعة 5:00 ويقمن بكل العمل”. الشعور بالحصار، وحتى الخوف من التدنيس، ملموس وكثيراً ما يتم التعبير عنه في مخاوف الدمشقيين في ما يخص الزواج من غير الدمشقيين: أصبح من المهم للدمشقيين أن يتزوجوا من دمشقيات أكثر بكثير مما كان عليه الأمر قبل عشر سنوات. بهذه الطريقة، ستنتمي إلى جزء من هذا البلد يتمتّع بالمكانة، وليس فقط من حيث المال. في بعض الأحيان يكون من الأسهل إخبار أصدقائك أنك متزوج من أجنبي، طالما أنه مسلم، من إخباره أنك متزوّج من شخص من قرية سورية.

غالبًا ما ينجم الخوف الجماعي عن تغييرات في ميزان القوى بين المجموعات القائمة وتلك التي يُنظر إليها على أنها خارج الحيز المادي للمدينة أو الفضاء المجازي للنخبة. عندما تُجبر الفئات الاجتماعية على الدخول في حالات من الاعتماد المتبادل، ويتنافس التابعون سابقاً “الغرباء” مع النخبة الراسخة “الأصلاء”، غالباً ما يتم التعبير عن علاقتهم الجديدة من خلال بناء الهوية أو بناء “الصورة”. يمكن رؤية مثال دراماتيكي على صنع “صورتنا” في دمشق، حيث لم يتغير ميزان القوى بين النخبة الحضرية القديمة والمهاجرين المحرومين سابقاً فحسب، بل انعكس إلى حد ما. إن الإحساس القوي بـ”نحن” الدمشقية، الذي تم التعبير عنه ومناقشته في تمثيلات لا تعدّ ولا تحصى لدمشق القديمة، هو رد فعل ليس فقط على أعداد الغرباء، لكن أيضاً على القوة السياسية التي يمتلكها الآن هؤلاء التوابع الاجتماعيون السابقون. في هذا العالم الذي يبدو مقلوباً رأسًاً على عقب، يتم التذرع باستمرار بالتسلسل الهرمي الاجتماعي القديم. وكما لاحظ أحد الدمشقيين، “يعيش الدمشقيون في الماضي أكثر من الحاضر لأنهم لم يعودوا يملكون القوّة”.

إن المشاعر المتصاعدة التي تتخلّل الجدل الخاص في دمشق القديمة تعكس أكثر من مجرد انعدام الأمن. ربما يكون الخوف، وليس الخوف من النظام وحده، هو السمة المهيمنة على المجتمع السوري الحضري. يرى بعض الباحثين في التمدن إلى الخوف والقلق بوصفهما النقيض لحياة المدينة المثيرة وتشويقها. يجب أن تستوعب الثقافة الحضرية الخوف من الغرباء، والعدوان والبارانويا اللذين ينتجهما هذا الخوف، وأن تقوم بموازنتهما مع الأمن والاستقرار. في دمشق، يجتمع الخوف من الغرباء مع الخوف من المجهول السياسي. ذكريات الاضطرابات السياسية العنيفة خلال العقد الأول بعد الاستقلال- عندما جعلت الانقلابات المتتالية الحياة في العاصمة كابوساً من عدم اليقين- والحكاية التحذيرية للبنان المجاور- حيث دمرت سنوات الحرب الأهلية بيروت العالمية- تخلق الشعور بالخوف. وقد ظهر هذا القلق بعد وفاة نجل حافظ الأسد وولي عهده باسل. إذ إن حالة من الذعر بشأن ما قد يحدث، إذا استسلم الرئيس لحزنه، استحوذت على الحضريين المتأرجحين في أحسن الأحوال إزاء النظام. في ظل هذه الخلفية من القلق، أصبحت صور الماضي الأكثر أمانًا وثقة تهيمن على الخيال الجماعي للنخبة الدمشقية. في العالم الذي عادوا بالذكرى إليه، عرف الدمشقيون من كانوا وأين وقفوا.

مَن يحكم حقاً؟

في سياق النخب المتنافسة، من الصعب التأكد من المجموعة التي تمارس أي شكل من أشكال السلطة. فالعلويون، الذين يشكلون ما يقدر بنحو 11.5 في المائة من السكان السوريين، ممثلون بشكل كبير في الرتب العليا من الجيش وحزب البعث، وفي الدائرة المقرّبة من الرئيس. مدى سيطرة الروابط “المذهبية” أو “الطائفية” على المستويات العليا من نظام الأسد هيمن على تحليلات النظام السياسي السوري. إن وفرة المواد حول هذا الجانب من المجتمع السوري، وإهمال الكثير من الأمور الأخرى، أمر لافت للنظر. كما تختلف الآراء حول مقدار القوّة التي تتركز في أيدي أتباع الأسد أو أفراد قبيلته. ومع ذلك، بينما تختلف التقديرات حول التكوين الدقيق للنظام، يتفق جميع المراقبين على أنه لا يشمل، إلى حد كبير، أعضاء النخبة الدمشقية القديمة. المسلمون السنّة القلائل الذين لعبوا دوراً رئيساً في النظام لم يكن بينهم دمشقيين. بينما نُفي الدمشقيون من المراتب العليا للنخبة السياسة، إلا أنهم بعيدون عن كونهم محرومين من حقوقهم. فهم يحتفظون بأشكال أخرى من السلطة. في الواقع، يعتمد تحديد من يهيمن فعلياً على الحياة الاجتماعية والاقتصادية في سوريا على كيفية تحديد الهيمنة ومن الذي يحددها. بالنسبة لأنصار دمشق القديمة، فإن البرابرة من الريف، ولا سيما العلويون، هم من دمروا أشكال التجارة القديمة التي كانت تسيطر عليها دمشق من خلال تطبيق السياسات الاشتراكية، لكنهم حققوا ثرواتهم من خلال ترخيص التجارة المشروعة والسيطرة على التهريب. يعتقد الدمشقيون أنّ نظام الأسد سعى إلى محو الحياة الاقتصادية والاجتماعية والدينية للسنّة (الدمشقيون). بعد احتفال صوفي في ليلة القدر، دُعيت خلاله إلى عرض للثقافة السنيّة المحلية، وصف مخرج تلفزيوني دمشقي موقف الحكومة: “كان هناك الكثير من الاحتفالات مثل هذا، لكن الحكومة تخلّصت منها. يحاولون تدمير كل شيء سنّي. ما أحبه فيكِ هو أنك احترمتِ هذا الحفل حقاً وأنك لا ترين في ذلك دليلاً على التخلّف. تعتقد هذه الحكومة أن كل ما يحتاجه الناس هو تناول الطعام والذهاب إلى المرحاض”.

لكن من هو الدمشقي. وبشكل أكثر تحديداً، من هي أسر النخبة القديمة؟ ليس من الواضح إلى أي مدى يجب أن تكون جذور العائلة في المدينة عميقة ومدى الأهمية التي يجب أن تكون عليها العائلة لتستحق مكاناً بين الأعيان. مفهوم البارز الحضري (بنت أو ابن العائلة) غامض إلى حد ما. بالتأكيد، يتم دائمًا تضمين سلسلة من الأسماء المعروفة في هذه الفئة، لكن في بعض الأحيان يتمّ تطبيقها بشكل فضفاض. والأكثر إشكالية هو السؤال عن مكان وجود عائلات النخبة القديمة الآن، وما علاقتها بما أسميه في الفصول اللاحقة حركة دمشق القديمة. تزوج العديد من أفراد تلك النخب القديمة من أفراد من الطبقات المالية الجديدة. غادر آخرون سوريا منذ عقود مع ظهور حكم الحزب. يفتقر بعض الذين يتعاطفون الآن مع ثقافة النخبة القديمة إلى نسبٍ ملحوظ.

قد تبدو الإجابة على سؤال من يمكنه المطالبة بشكل شرعي بمكانة دمشق القديمة واضحة، لكن نهج “الخانة الاجتماعية” غير مفيد في النهاية. ما هو مهم اجتماعياً ليس فقط صحة ادعاءات المكانة ولكن كيفية استخدام هذه الادعاءات في سجالات الهوية الحضرية، بين الأنداد الاجتماعيين، عندما يشكل تمثل عادات وتقاليد نظام اجتماعي وسياسي منصرم مصطلحاً للنقد، وحتى المقاومة. تصبح الأصالة عندها  تكتيكاً.

أسلحة من ليسوا ضعفاء

يجد الدمشقيون القدامى أنفسهم مهمشين بشكل متزايد من قبل مجموعات جديدة. وفقاً للمعايير المحلية، تعيش النخبة القديمة بشكل مريح، وأحيانًا فاخرة، ومع ذلك، يشعر الكثيرون بإحساس بالتهميش بعد التحول الاجتماعي والاقتصادي في العقود العديدة الماضية. إنهم ناجحون نسبياً في عالم لم يعودوا يسيطرون عليه. عالم لا يحبونه كثيراً. نظراً لأن أنماط الهيمنة السياسية والاقتصادية لم تعد متوفرة، فإن النخبة الدمشقية تؤكد بشكل متزايد على هويتها من خلال الإنتاج والاستهلاك الثقافي العام. إذ إن الأشكال المُسلَّعة لدمشق القديمة نفسها، في المطاعم والحانات والمقاهي، وتمثيلها في الكتب والمعارض الفنية والنوادي الاجتماعية والبرامج التلفزيونية، توفّر سبلاً مسموحاً بها سياسياً للنقد الاجتماعي والسياسي. لقد جرى تسليع دمشق القديمة والدمشقيين، ومن المفارقات، أنهما أيضاً تعبير عن مقاومة ما يراه العديد من الدمشقيين على أنه تحول نحو معايير قائمة على الاستنزاف بالكامل لمكانة النخبة. استنفاذ دمشق وتسليعها هو وسيلة يتم من خلالها انتقاد الممارسات الاستهلاكية للآخرين، سواء بشكل ضمني أو صريح. وتشكل هذه المنازعات الحياة الاجتماعية للسوريين الحضريين، كما تشكل دمشق القديمة، مثل أجساد النساء، نقطة محورية تدور حولها منافسات المكانة.

هويات قلقة؟

في ما يتعلق باقتراحي بأن الاهتمام بدمشق القديمة كان تعبيراً عن مجتمع تتقلّب فيه الهويات الاجتماعية، أجاب المفكر الدمشقي صادق العظم: لا توجد أزمة هوية هنا، وبالتأكيد ليس بالمعنى الذي يفهمه الأميركيون. في دمشق، ما زال الجميع يعرف بالضبط من هو، ومن هو والده، ومن تكون والدته، ومكانته الاجتماعية، وحالته. يعرف التجار هذا أيضاً، ويعرفون أنهم كانوا تجاراً ويخططون لهذا في المستقبل. أزمة الهوية هامشية للغاية. فكرة أنه يجب عليك تعريف نفسك، والعثور على نفسك، واتخاذ قرارات بشأن حياتك بالطريقة التي يفعلها الأميركيون لا تنطبق هنا. على العكس، ما لدينا هنا هو فائض هوياتي! الهويات هنا مُصمتة وقوية، ومن وجهة نظري، متحجرة للغاية.

ومع ذلك، تظهر الهويات الاجتماعية والطبقية السورية القليل من الأدلة على التحجر. أو ربما تتغيّر النخب لتظل كما هي، حيث أن العديد من أنماط التمييز الاجتماعي القديمة تتلاشى. فلم يعد يُنظر إلى التعليم العالي على أنه علامة مهمة على المكانة الاجتماعية للنخبة، أو كوسيلة موثوقة للارتقاء الاجتماعي. أصبحت الشهادة الجامعية الآن أقلّ وزناً على مقياس القدرة على الزواج. وبالمثل، فإن مهن القانون والطب والزعامة الدينية تحمل هيبة أقل مما كانت عليه في السابق. لم يعدْ لقب “دكتور” له نفس الرنين العميق.

يرتبط هذا التقليل من قيمة التعليم بغياب الإحساس المشترك بثقافة محلية عالية. بدلاً من ذلك، يتمّ عرض الثروة في فنادق النخبة، والمطاعم باهظة الثمن، وفي حفلات الخطوبة، وحفلات الزفاف، والجنازات، وغيرها من طقوس التغيرات الاجتماعية البارزة. تتضمّن بعض هذه الأحداث إشارات إلى دمشق القديمة أو على الأقل تلميحات إلى أشكال أقدم من الحياة الاجتماعية – مقاهي دمشق القديمة، وعربات الزفاف التي تجرها الخيول على الطراز القديم، ووجبات الإفطار والسحور في المطاعم الفاخرة. أكثر ما تم الحديث عنه حفل زفاف في العام 1995، نظمه نجدت اسماعيل أنزور مخرج مسلسل “نهاية رجل شجاع”، فقد ظهرت العروس تدخل فندق شيراتون راكبة على ظهر الجمل.

لا تشكل زخارف ثقافة النخبة الغربية – الإلمام بالاتجاهات الحالية في الفنون المسرحية والبصرية، الذهاب إلى المسرح والأوبرا والسينما، زيارة المتاحف والمعارض، والقراءة الروائية الرفيعة- رأس مال رمزي في الروافد العليا للمجتمع الدمشقي. الأجانب – الدبلوماسيون وموظفو شركات النفط – هم رعاة الفن الوحيدين تقريباً. غالباً ما يشكل الجزء الأكثر فقراً من المجتمع الفنّي نفسه الجمهور والقراء للإنتاج الثقافي المحلي العالي. يمكن رؤية الوجوه نفسها في جميع أحداث الفن الرفيع المستوى: الحفلات الموسيقية والمسرحيات والأفلام وافتتاحات المعارض.

بالنظر إلى هذا الوضع، يبدو أن ثمة بعض التبرير للادعاء، الشائع بين أنصار دمشق القديمة، بأن نوعية الحياة الاجتماعية، وخاصة ثقافة النخبة، قد تدهورت في ظل هيمنة الفلاحين الأثرياء الذين يحتفظون بالمال كمقياس لكل شيء جيد. ومع ذلك، فإن هذا التدهور المفترض هو على الأقل نسجٌ من خيال الحنين إلى الماضي. من جانبهم، يسارع غير الدمشقيين إلى الرد على أن الدمشقيين لطالما تمتعوا بعقلية تجارية، وأنهم لم يكونوا أبداً رعاة فنّيين عظماء، وأن الوسط الفني وجمهوره غير دمشقي إلى حد كبير. نادراً ما يوجد الدمشقيون بين شخصيات المعارضة الصريحة، ويميل الدمشقيون إلى عدم إعطاء الأولوية لحرية التعبير. كما أجاب أحد رجال الصناعة البارزين عند سؤاله عما إذا كان التحرير الاقتصادي سيؤدي إلى زيادة الحرية السياسية: “لا أعتقد ذلك فحسب، أنا لا أتمنى ذلك حقاً. كل ما نريده هو الحرية الاقتصادية والاستقرار السياسي. بالنسبة لنا، غالباً ما تعني الديمقراطية انقلابًا كل عامين. أما بالنسبة لكاتب دمشقي، فإن التعاون السطحي هو جوهر النجاح الدمشقي: “نلتزم الصمت، لكننا نبقى على قيد الحياة. هذا الصمت سلاح. ربما هذا هو السبب في أن دمشق هي أقدم مدينة مأهولة باستمرار في العالم. لقد جاء العديد من القادة والغزاة والمجرمين وحكموها، لكنهم ذهبوا جميعاً. هناك عبقرية في فنّ السياسة هذا: اليوم نلتزم الصمت، وغداً سنتحدث، وفي اليوم التالي، سنعود.

يكافح الأفراد والجماعات إما من أجل التمسّك بحل أشكال الهيبة الاجتماعية، أو المطالبة بأشكال جديدة. كما يتم إعادة تعريف الأوضاع الاجتماعية للنخبة من خلال الممارسات الاستهلاكية الجديدة، حيث يتم تحويل طرق الحياة إلى أنماط حياة من النوع الحديث. نادراً ما تتمّ مناقشة مثل هذه العمليات في الأدبيات المتعلّقة بالشرق الأوسط، حيث يُفترض على الرغم من وجود أدلة على حدوث تحوّل اجتماعي سريع وعميق، أن الأعيان الحضريين القدامى ما زالوا يعرفون من هم- ويعرفهم الجميع- وليس لدى هذه الأدبيات ما تثبته.

مع تناول الهويات الاجتماعية دون الوطنية ومناقشتها في الثقافة العامة، يتم الاحتفال بدمشق والدمشقيين من قبل أولئك الذين يزعمون وجود روابط بها. من خلال وسائل الإعلام ومواقع الاستهلاك الجديدة، يعود الدمشقيون إلى الصدارة العامة. تم اختيار عدد كبير من رجال الأعمال الدمشقيين في انتخابات 1994 النيابية حيث انتشرت نكات عن مجلس الشعب الجديد الذي يشبه غرفة تجارة دمشق.

لقد حاولت هنا استكشاف الطرق التي تستولي بها النخب السورية المختلفة على أشكال ثقافية عالمية وتحولها لأغراضها الخاصة. لقد حاولت أيضاً أن أبين كيف أن جهودهم لا تتقدّم بلا منازع. إن توطين التلفزيون والمطاعم وأدبيات الحنين إلى الماضي والأشكال الثقافية العالمية الأخرى ينتج في الواقع تنوعاً غزير الإنتاج. ومع ذلك، كما يشير عالم الاجتماع أرجون أبادوراي وليلى أبو لغد (ليلى أبو لغد ‏ أستاذة أميركية من أصول فلسطينية مختصة بدراسات الأنثروبولوجيا والدراسات النسوية)، فإن هذا بدوره يخلق ويعزز الهيمنة المحلية، حيث تتحكّم المجموعات المهيمنة في الوصول إلى أنماط التمثيل. كما يقول أرجون أبادوراي Arjun Appadurai “المجتمع المُتخيل لرجل ما هو سجن سياسي لرجل آخر”. في سوريا، الزعامات الثقافية المحلية لا تسيطر أبداً، أصبحت مجموعات النخبة منتقدين صريحين لوسائل الإعلام والتمثيلات الأخرى، وتستخدمها في مسابقات صاخبة تحدث في ساحة الثقافة العامة المزدهرة.

يشارك المنتجون والمستهلكون الثقافيون السوريون في إنشاء مجتمعات محلية مُتخيلة. مسلسلات تلفزيونية مثل أيام شامية ومنظمات مثل أصدقاء دمشق تسمح للدمشقيين بتخيّل أنفسهم متميزين عن بقية سوريا. يذكرنا الجدل حول دمشق القديمة بأن لا نفترض أن وجود الدولة قد ينطوي بالضرورة على إحساس قوي بالأمة. كما أكد رسام علوي: “سوريا ليست أمة، ولم تكن قط. هي مزيج من الناس الذين صودف أنهم يعيشون هنا”.

تعكس الأشكال الثقافية المعتمّدة حديثاً- البرامج التلفزيونية، والمطاعم، والكتب- البناء المتكلّف للذات وتسليع الأفكار والمثل العليا للماضي. أصبحت الأشياء والمشاهد والأصوات والأذواق والروائح التي كانت جزءاً من العلاقات والهويات القائمة على القرابة والدين تجارب يجري التمتع بها بوصفها جزء من “مشهد الحداثة”، حيث تتخلل الصور الرمزية والسياقات العلاقات الاجتماعية بشكل متزايد. تعمل الممارسات الترفيهية الجديدة على تحويل طرق الحياة إلى أنماط حياة. وأصبحت الثقافة الأصيلة حدثًا ينظمه أصدقاء دمشق أو يرعاه صاحب مطعم مغامر.

تمثل دمشق القديمة “الأصيلة” في “أيام شامية” استهلاكاً جماهيرياً حقيقياً متاحاً للجميع ومرفوضاً من قبل البعض. لكن أولئك الذين يصنعون الأصالة للجماهير قد يتردّدون بأنفسهم على أماكن حصرية مثل Le Piano Bar، حيث تكلف المشروبات خمسة دولارات لكل منها والديكور هو خليط ساخر من الماضي والحاضر، المحلي والأجنبي.

استكشاف العودة إلى “الثقافة الأصيلة” لدمشق القديمة هو رحلة إلى التجربة الحضرية والشرق أوسطية للحداثة: من المدينة القديمة نفسها (التي سيغادر معظم سكانها من الطبقة المتوسطة الدنيا إذا استطاعوا)، إلى المثقفين والشخصيات الإعلامية التي تدّعي تمثيل التقاليد المحلية وتشكو من اللامبالاة والإحباط، إلى المعارض وحفلات العشاء، والمكتبات والبرامج التلفزيونية، إلى مكان الإقامة المفضل لقدامى الدمشقيين، فندق الشيراتون، وأخيراً، إلى انعدام الملامح المطلق لـLe Piano Bar، والذي، على حد تعبير أحد السوريين: “لا هوية له على الإطلاق. فيه شيء من دمشق. لكن ماذا عن معدات ركوب الخيل تلك؟ الشخص الذي صنع ديكور المكان استوعب ثقافات عديدة، “من كل بستان زهرة”، تلك الأطباق على الحائط هولندية، غير أنها ليست مرتبة بطريقة هولندية. هذا المكان مخصص للشباب. يقدمون لائحة محدودة للغاية- شيش طاووق التركي، والمعكرونة الإيطالية. لديهم قطعة قديمة خلف البار كانت جزءاً من القصر الأموي. هذا المزيج لا يصدق. والستائر! لم أر قط هذا القماش الذي كان يستخدم في الوسائد يُستخدم للستائر. نعم، إنه دمشقي، لكنه مستخدم بطريقة مختلفة تماماً. بعد ذلك أخشى أن أجد جزءاً من الملابس الداخلية لوالدتي معلقًا كستارة! إنهم يرتبون الأشياء القديمة بطريقة فنية حديثة إلى حد ما. لدينا هذه الرغبة في العيش بطريقة حديثة، لأنه على الأقل في الأثاث يمكننا القيام بذلك. في أفكارنا، غالباً ما نرتبط بالأفكار القديمة.

المفارقة الأخيرة هي أن “الأفكار القديمة” بحد ذاتها مفهوم مميز للحداثة، والسعي وراء المدينة القديمة هو ظاهرة معاصرة. دمشق القديمة كمساحة تاريخية ومثالية متخيّلة تشكّل أساس ما أسميته “شعرية الاتهام”، والتي من خلالها تتعامل المجموعات المختلفة التي تعيش في دمشق مع تعقيدات الحياة الحديثة، وتمزقاتها وانعكاساتها، وتدفقاتها العالمية وخصوصياتها المحلية. مناقشة النجاحات والإخفاقات الحقيقية والمتصوّرة لقومية البعث الاشتراكية ومشروعها الحداثي تجري من خلال سجالات الهوية حول ما أسماه هنري لوفيفر “الحق في المدينة”، وفي الحالة السورية يمكن توسيعها إلى “الحق في الأمة”.

_______________________

(*) كريستا سالاماندرا:

أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة نيويورك CUNY، مؤلفة أول كتاب عن ثقافة الاستهلاك في سورية: “دمشق القديمة والحديثة. الأصالة والتمايز في سورية المدينية”، 2004.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى