مقالات سينمائية

فيلم “قائمة الطعام”… أوبرا لمسرحة البذخ/ حسام الخولي

هذه المسرحة تبدو اختياراً أمثل لحدث خيالي نوعاً ما، أنتجه المخرج والكاتب الذي تبدو معركته شخصية مع طبقة تقوم على البذخ، مقابل وجبات دقيقة الصنع تُقدّم لإثبات الكفاءة لا الولاء.

يبدو أن الأسئلة التي يواجهها جنسنا البشري في ظل الظروف التاريخية المكانية والزمانية، ليست أسئلة أدبية حالمة- كالتي تتحقق شروطها في أوقات تبدو أكثر هدوءاً- بقدر ما هي أسئلة “وعي” عام للمخيال الجمعي، ومن ذلك يمكن أن نقرأ كتاباً أو نشاهد فيلماً لإعادة تشكيل هذا الواقع والتفكير فيه في لحظة ضباب تام تعيشه المجتمعات العربية خصوصاً، والعالم عموماً، إنما بدرجات مختلفة. 

يمكن النظر إلى الفيلم الأخير للمخرج والكاتب مارك ميلود “قائمة الطعام” المرشح لأوسكار هذا العام من هذا المنظور، إذ يأتي تصنيفه كفيلم رعب يستقي خوفه من خيالات مخرج يكاد ينفجر بسبب طبقة ثرية تزرع الكبت وانعدام المساواة في كل عقل.

يسكن الشيف سولويك (رالف فايس) جزيرة هوثورن البعيدة، وهي أشبه بمطعم عائم منعزل لا يصل إليه سوى أفراد طبقة شديدة الثراء، نشاهد مجموعة صغيرة؛ ريتشارد (ريد بيرني) وآن (جوديث لايت)، ناقدة الطعام ليليان (جانيت ماكتير) ومحررها المنسحق، ثلاثة تقنيون: سورين (أرتورو كاسترو) وبرايس (روب يانغ) وديف (مار سانت سير)، إلى جانب ممثل مشهور (جون ليغويزامو) ومساعدته فيليسيتي (إيمي كاريرو)، وعاشق الطعام المهووس تايلر (نيكولاس هولت)، ومارغو (جون ليغويزامو أنيا تايلور جوي) التي قدمت دوراً مذهلاً، ووالدة الشيف سلويك (ريبيكا كون).

يتعين على الضيوف في هذا العشاء تجربة خمسة أطباق من الطعام المستخلص من الطبيعة بطريقة مختلفة، أعدت بغضب شديد. يفاجِئ الشيف أثرياءه بمواقف وأحداث غريبة تكشف أسرارهم، وتحيل تلك الرحلة إلى رعب حقيقي عبر أطباق قاتلة. مطبخ مفتوح يجمع كل هؤلاء للتذوق لا لسد جوعهم، الكل يشاهد الكل، يبدو ذلك صراعاً متكافئاً بين طبقتين، يحدث للمرة الأولى، وينتصر فيه الصنّاع للطبقة المسحوقة هذه المرة، لفتح حسابات قديمة والانتقام بطبخ مسموم.

يبدو كل شيء في فيلم “قائمة الطعام” وكأنه مُعد سلفاً، وربما مكتوب في قائمة مبتكرة يجرّبها الجميع للمرة الأولى، نشاهد مجموعة من الأثرياء الذين لا تجمعهم علاقات حقيقية ثرية تبدو غريبة عن بعضها الآخر لا يجمعها سوى الطبقة، تبحث عن قاتل للملل أو وسيلة للترقي والإيهام بالاستثناء، الذي لن يحدث دون شواهد من طبقة أدنى، يعيش أبناؤها في حالة سُكر أبدي، إلى أن يظهر مجنون/ مخلّص يهيم الجميع أمام موهبته/ سِحره، يتمثل هنا والآن في هيئة شيف ظل في مطبخه لسنوات من أجل الإشادة بخدمته وطعامه، قبل أن يفقد معنى كل شيء أمام شراهة لا يمكن إيقافها. 

لا يمكن فهم “قائمة الطعام” دون إعادة تأويله من خلال شريط الصوت الأكثر نباهة في صناعة الفيلم، إذ يعتمد الأخير على موسيقى أوبرالية موازية لحدث مسرحي كبير، يحاول أن يجمع العالم في غرفة للتنبيه بخطورة الوضع العام، مشهد مركزي لجلوس الجميع في المطعم/ المسرح وحركات محسوبة للكاميرات فقط لإظهار انفعالات الجميع كفرد واحد، للطبقة المتفرقة كخصم فردي أمام رجل واحد يهذي وينتقم، من نفسه تحديداً قبل الآخرين.

هذه المسرحة تبدو اختياراً أمثل لحدث خيالي نوعاً ما، أنتجه المخرج والكاتب الذي تبدو معركته شخصية مع طبقة تقوم على البذخ، مقابل وجبات دقيقة الصنع تُقدّم لإثبات الكفاءة لا الولاء. ويأتي التقسيم الفصلي للحكاية في عناصر الديكور والمكان وروحه، فالمكان ضيق، مغلق من كل اتجاه، وعدسات الكاميرا تظهره أصغر مما يبدو، كما لو أنه يحاول خنق طبقة شديدة الثراء يقتلها التميّز والمساحات الكبيرة.

هذا الإيهام الواعي أو غير الواعي بالعالم المختلق من رأس صاحبه، لا يستند سوى إلى خيالات شخص غاضب من أفعال طبقة تتجاوز “وعي” العالم إذا جاز اللفظ، يظهر في لحظة استثنائية، تقدم في إطار كاريكاتوري لأبطال عليهم أن يدركوا وجودهم المعركي لا الترفيهي، من يطبخ ومن يأكل، فيما الجميع سيخضع للمحاسبة على تجاهل “العالم الحقيقي” المعزول عن الجزيرة، يبدو انتقاماً للتجاهل واحتقاراً كاملاً للبذخ. 

خطوة إلى الوراء

قبل أشهر قليلة أعلنت شركة “فيرجن جالاكتيك” التابعة للملياردير البريطاني ريتشارد برانسون عن إتاحة حجز رحلات الفضاء على موقعها مع دفع 200 ألف دولار مقدماً، بينما باعت بلو أوريجين التابعة للملياردير الأميركي جيف بيزوس تذاكر رحلتها الأولى في مزاد علني مقابل مبلغ قيل إنه بلغ 100 مليون دولار، وقد أطلقت الشركتان أولى رحلاتها التجارية إلى الفضاء خلال أسبوع واحد في تموز/ يوليو 2021.

تتطلع الشركتان إلى إتاحة الرحلات المدارية وشبه المدارية بسهولة للعملاء القادرين على دفع الثمن. وكانت المصرية سارة صبري (29 سنة) مهندسة الطب الحيوي ومؤسسة مبادرة الفضاء العميق على متن آخر رحلات بلو أوريجين، التي انطلقت في آب/ أغسطس 2022. أثار خبر الفتاة المصرية رد فعل عربياً مختلفاً تماماً عما خلقته القصة عالمياً لدى الجمهور العام، فالجمهور العربي الساخر الساخط من الأمر، يرى في رحلة صبري عبثاً لا تحتمل خفته، جاء في لحظة قاسية تتصاعد صرخاتها الاقتصادية وتعلو على كل شيء دون رحمة، في لحظة “حقيقية” كهذه وأخبار كتلك يمكن الرجوع قليلاً لمحاولة تفهم النظرة الغاضبة الموازية، لتفكيكها أكثر من تبريرها، وإزاحة همومها ورفاهيتها من خلال رجل يبدو أنه يسخّر جهوده دون هوادة للتعمّق فيها والغضب من خلالها سينمائياً وطبقياً. 

المخرج مارك ميلود كان شارك في إخراج نحو 12 حلقة كاملة في مسلسل “Succession”، الذي كان بمثابة تصفية حساب طويلة مع الطبقة شديدة الثراء ذاتها. يتناول المسلسل قصة عائلة روي المسيطرة على أكبر شركة إعلامية وترفيهية في العالم، في لحظة تغير عالمهم عندما يتنحى والدهم عن الشركة، يُنتج المسلسل تصورات بديلة حول الرفاهية التي يعيشها أبناء هذا العالم.

تبدو السينما هنا منتجة لخطاب غاضب يواجه بغضب شديد هذه الطبقة دون أن ينسحق أو يتباكى أو يقدم أبطالها كأشرار منتصرين دائماً، يسرق لحظة ضعف استثنائية ويبني عالم خيالي يمكن أن يُنتج من خلالها، يظهر أنه أكثر تشويقاً وإغراءً من خطابات أقل حدة لا تحاول التصادم والتشفّي. 

هل سمعت من قبل عن  “الحدنوية” minimalism؟ أو عن ما يمثله معناها العام؟ يمثّل هذا اللفظ الجديد المشتق من جملة “الحد الأدنى” مفهوماً شاملاً يشير إلى التحرر من الأشياء الزائدة عن حاجة الإنسان الأساسية عموماً، أو ما يعنيه لنا “الزهد”. فإذا كان اللجوء إلى الشراء يعد طريقة مغرية لحل المشاكل والهروب من واقع الإنسان، فإنه وفق الحدنوية يفضي إلى دائرة مغلقة يحاول معتنقوها التخلص من هذه الدائرة التي تبدأ بالشراء وتراكم الأشياء لدى الإنسان إلى ما لا نهاية.

في وقت قليل أصبح مؤيدو هذا المذهب من كل مكان حول العالم، يناصروه ويبشّروا به ليصبح أكثر رواجاً في مواجهة مجتمعات تزداد فيها الرأسمالية القاتلة، في موقف يكاد يكون صدامي، إذ تريد المجتمعات الرأسمالية الحديثة من الإنسان أن ينشغل بالبحث عن أشياء وأشخاص جدد، باعتبار ذلك يبعث السعادة. فبينما يقف هذا المذهب ليقول إن التخلص من كل هذا هو السبيل “الحقيقي” للسعادة، يبدو خطاب الحدنوية السينمائي والأدبي مضاداً بشكلٍ ما لخطاب “قائمة طعام” مارك ميلود عموماً الذي يعتبر أي مواجهة دون قتال عديمة الجدوى، تماماً كعنفه المبرر تحديداً في هذا السياق لأبطال يُعاقبون على “بذخهم”.  

قبل سنوات قليلة حصد الفيلم التجاري nomandland، جوائز دولية وعالمية، لم يكن ذلك لجودته الفنية، إنما لإتاحته عرض الفكرة ذاتها في إطار قصة تجارية تراهن على الزهد الشعبي وتنازل الناس وفق البطلة وقصتها، عن حياتهم ومنزلهم مقابل حياة “مريحة”.

يمكن أن نسأل هنا، لماذا انتشرت في السنوات الأخيرة الأفلام التي تتحدث عن الحدنوية أو عدم الاستهلاك؟ ربما تصلح هذه الأعمال لتهدئة الأوضاع السياسية المضطربة نسبياً، وربما لا يبدو الأمر زهداً بالفعل، إنما يعتبره البعض تسكيناً وتهدئة للأوضاع الضحلة التي يعيشها المواطنون في البلدان المختلفة. إنما هل تنجو هذه الفكرة من فخ السذاجة التي تستغلها مجتمعات عدة لتهدئة أوضاع لا حل لها أساساً؟

ثمة قاعدة تقول “لا زهد لمن لا يملك”، ربما يصلح أن يقرر الإنسان أن يصبح زاهداً إذا كان يملك خياراً آخر في الأساسي، وربما أيضاً من الأولى قبل أن يسأل الإنسان نفسه السؤال ذاته الذي بدأ به الفيلم “هل يمكنني أن أعيش بالأقل؟”، أن يسأل نفسه أولاً، هل يساعدني الوضع العام على العيش بالكثير أم يمثل العيش بالقليل فكرة إجبارية؟

هل يبدو خطاب مارك ميلود الغاضب منطقياً، وإن جمحت خيالاته إلى البعيد؟ وهل يبدو انتقامه أكثر مشروعية لعدم ترك الوجبة الأكبر لطبقة صغيرة دون وجه حق لمجرد سيطرتها اللحظية؟ يمكن من خلال إعادة السؤال حول سينما تطرح وعياً أكثر مما تهيم داخل رومانسية مدمرة، أن نفهم أكثر لماذا يبدو خطاب “قائمة الطعام” أكثر واقعية وأقل خيالاً، وفي مطلق الأحوال أشدّ رعباً.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى