أبحاث

عن الخجل وعما يخجل و«يكسر العين» / ياسين الحاج صالح

لمرات كثيرة خلال السنوات السابقة تملكنا، جمهورا متنوعا منحازا إلى الثورة السورية، شعور حاد بالخجل، بل بالعار، بفعل ممارسات أطراف تفرعت عن جذع الثورة، أو التبعية والركاكة المخزية لممثلينا المفترضين، أو مزيج التفاهة والدموية الذي يعرضه غير قليل من الضحايا، بمن فيهم مهجرون لمرة ومرات، يقوم بعضهم بدور قوى احتلال في مناطق من الشمال الغربي السوري، ومنهم قتلة المدنيين الكرد الأربعة مساء عيد النيروز في جنديرس. أحدث ذلك على الدوام حالة من التنافر الانفعالي، إن جاز التعبير، بين ما نحسبها عدالة قضيتنا ضد الحكم الأسدي وبين لا عدالة، بل إجرام، شركاء لنا في الموقع من الثائرين عليه، حالة قلما أمكن لنا نقلها إلى مجال التفكير الواعي، بما قد يساعد على فهم أفضل لما يجري، ثم العمل على بناء موقع يبقى أوفى للتطلعات التحررية للثورة. الانفعال يشمل الجميع، وزمنه سريع، مزامن للمثيرات الانفعالية، الأحداث التي تثير في النفس الخجل أو الغضب أو المهانة…، بينما الأفكار زمنها أبطأ، يتأخر عما يحدث، وقد لا يأتي.

توزعت الاستجابات الفكرية حيال انفعالات الخجل المتكرر إلى أربعة عناوين رئيسية. أولها الإنكار، حيث قد يقرر المنكرون أن الثورة مستمرة وأنها ستنتصر «إن شاء الله». أما ما وقع من انتهاكات وجرائم فهو إما لم يحدث، أو هو تفاصيل قليلة الأهمية، أو إنها ليست جرائم أصلاً. العنوان الثاني هو نسبنة الجرائم بالإشارة إلى جرائم النظام (وهي أكبر بما لا يقاس) أو بخصوص مقتل الكرد الأربعة إلى جرائم لـ«قوات سوريا الديمقراطية» (وهي أقل دون جدال). ولا يبدو أن أصحاب هذا المنطلق يدركون أنهم بذلك يقولون إننا مجرمون، صحيح، لكن لسنا الوحيدين. تجري مداراة الخجل بنسبة المخجل للجميع. وتدفع المقارنة مع النظام المرء إلى التساؤل: ما هي القضية التي يجري الدفاع عنها، حين يكون جل ما قد يقوله المرء عن طرفه أنه أقل إجراماً من نظام هو الجريمة مجسدة؟ عدا أن ذلك يترك في الأذهان سؤالاً معلقاً: ترى لو كان لدى هؤلاء الذين يقللون من شأن جرائمهم بمقارنتها بجرائم النظام قوى النظام نفسها، هل كانوا يقصرون عنه في شيء؟ قد يكون هذا السؤال بلا معنى قانونياً حيث المعول عليه هو ما حدث فعلاً، وليس ما كان يمكن أن يحدث، لكنه شرعي جداً وواجب الطرح أخلاقياً.

العنوان الثالث هو جهود مخلصة هنا وهناك للنقد الفكري والسياسي والأخلاقي للقوى التي لا تزال تعرف نفسها بمنازعة النظام، وللتمايز ضمن طيفها العريض. يأخذ هذا المسعى شكل حرص على المعنى الأول للثورة، كاحتجاج شعبي واسع القاعدة، يتطلع إلى الكرامة وامتلاك البلد والتخلص من نظام القتل. وباسم هذا المسعى يجري الإصرار على أننا خسرنا وأن الثورة انتهت قبل سنوات، ربما منذ عام 2013، وأن لحظة 2011 انطوت وصارت وراءنا، وما يجري اليوم ومنذ سنوات ليس استمراراً لتلك اللحظة، بل هو استمرار لموتها. كاتب هذه السطور أقرب إلى هذا المسعى الذي يحركه جزع من خسران المعنى، وإرادة استمرار في شكل من العمل العام في شروطنا الجديدة، شروط الهزيمة (أمام عدو) التي قد تتحول إلى خسارة (فقدان معنانا فضلاً عن الهزيمة).

هناك عنوان رابع وهو طي الصفحة تماماً، والانفصال النفسي والفكري عنها، سواء باتجاه إعادة الاعتبار لتركيبات تفكير وحساسية قديمة، أو بتصفير العداد كلياً، والبدء من صفحة بيضاء أو ما يقاربها. هذه مساع مفهومة، يصعب الاعتراض عليها بعد ما آلت إليه الحال من تحلل وكسرة عين وتغريب عن الاهتمام العام، لكنها مسعى انسحابي مع ذلك، يؤول إلى فقر فكري وسياسي.

كانت الثورة السورية ومسار السنوات الماضية حدثاً كبيراً، إقليمياً وعالمياً، وليس سورياً فقط، ومن أهم ما يقع في عالم اليوم على ما قال الراحل هشام جعيط عام 2016. يشهد على ذلك وجود الأمريكيين والروس والإيرانيين والأتراك والإسرائيليين، وكذلك لبنانيين وعراقيين وغيرهم. ويشهد على ذلك دور جميع الأديان المعروفة في المنطقة، وجميع المذاهب الإسلامية، ويشهد عليه أخيراً أن سوريا موضع تلاقيات بين اليسار المضاد للإمبريالية واليمين الديني والفاشي الغربي. وإخفاق الثورة هو حدث كبير جداً، يرجح له أن يبقى معنى لسنوات طويلة، بل عقود. لم يأخذ الإخفاق شكل هزيمة سياسية عسكرية مثلما حدث في موجة سابقة للصراع بين أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، بل شكل تمزق اجتماعي وجغرافي ونفسي عميق، مع نزوع الأوضاع إلى التحلل في المناطق التي ظلت تنسب نفسها إلى الثورة، وقد كانت ملاذاً لمجموعات مهزومة هُجِّرت إليها. في تجربتنا التاريخية السورية (وتجارب عربية) هناك درس لا يحضر في الأذهان بقدر ما ينبغي، ولا بأي قدر في الواقع: من الخطير جداً أن يبقى محتفظاً بقوته من يهزم لأنه سيستخدم هذه القوة للانتصار على أقرب الضعفاء إليه. هذا فعله حافظ الأسد بسوريا بعد 1967، وصدام حسين في العراق بعد 1991، وفعلته في مناطق الشمال والشمال الغربي السوري مجموعات هزمت أمام النظام وحلفائه. أياً تكن أسباب الهزيمة، ينبغي للمهزوم أن يسائل ويحاسب، أو على الأقل أن يقدم كشف حساب علنياً. المهزوم الكريم يبادر هو ذاته إلى الاستقالة والتقاعد لأنه فشل في المعركة، وربما في تقدير موازين القوة وعلاقاتها قبل المعركة، مثلما كان حال جمال عبد الناصر عام 1967. ثم كذلك من أجل أن يأتي آخرون، من خارج الطاقم المهزوم ونهجه، يتولون المسؤولية. وإذ لم يحصل ذلك، وهو لم يحصل في سوريا، فقد صارت هذه القوى المنفصلة عن بيئاتها الأصلية والمهزومة قوى تفسخ وتحلل.

هذا للقول إن للخجل منطقاً هو الهزيمة ومفاعليها التحللية. ما يحدث ويثير فينا شعور العار كل بضعة أيام أو أسابيع هو تحلل جسد ميت لم يدفن. فإن صح ذلك، فإنه لا يعد بغير تواتر ما يشين ويخجل. وإن صح كذلك، فإن ما قد يكون مسعى مثمراً لمن هم في مثل حالنا، يصيبهم الخجل ويعملون من أجل الفهم، هو الخوض في جوانب سجل السنوات المنقضية بكل أوجهه. الإنكار لا يجدي، بل هو بمثابة تستر على المشين الوفير؛ ونسبنة الجرائم هي بمثابة خسارة أي قضية؛ أما الانفصال هروباً إلى ماض منقض أو نحو مستقبل غير محدد فمفقر وسلبي. ما قد يكون مثمراً هو الخوض فيما جرى والاشتباك مع السجل كاملاً بجميع أوجهه وجميع الفاعلين، ورواية القصة بكاملها من الألف إلى الياء. هذا ما يستجيب لدور الفكر في تحويل الانفعالات إلى معان وأفكار.

ليس هناك ما هو يسير في هذا المسعى، لكن لا مفر منه من أجل «التنبؤ بالماضي» بما جرى فعلياً خلال اثنتي عشرة سنة ونيف، وقلما أمكننا الإحاطة به في وقته، إما لإيقاع الحوادث اللاهث، أو لأن هناك ما هو محجوب عنا، وما قد لا نعرف عنه شيئا لسنوات طويلة. المهم هو تطوير حقل للدراسة والبحث، يعيد امتلاك هذه التجربة الهائلة. هذا هو تاريخنا ولا مهرب من التاريخ، إن كنا لا نريد أن نتحلل فيه إلى ما لا نهاية.

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى