أبحاث

ثلاث مقالات تناولت “حزب البعث” والسلطة في سورية

الأنماط البعثية/ مهند أبو الحسن

ترك العنف الذي مارسه حزب البعث العربي الاشتراكي، بشقَّيْه العراقي والسوري، ندوباً غائرةً في ثقافة وذوات شعبي البلدين، سرعان ما تضع نفسها كأولوية عند التذكير بذاك الحزب، كما تلعب  حداثة خروج تفاصيل دقيقة عن جرائم وحشية، يرقى الكثير منها ليكون جرائم إبادة جماعية، ارتكبها الحزب أثناء جميع مراحله دوراً في هذا؛ فصندوق بَندورا العراقي لم يُفتح إلا بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، أما مثيله السوري فكان عليه الانتظار حتى ما بعد اندلاع الثورة السورية في العام 2011. مع ملاحظة أن كلا الصندوقين فُتح جزئياً فقط؛ وتزامن فتح هذه الصناديق مع أوضاع عنفيّة بالغة التوحش أخذت تُشكّل تمظهراتٍ متنوعةٍ، كان ولا يزال أبرزها النزاعات الإثنية والقومية، مما جعل أولوية الفاعلين السياسيين الدوليين تتجه غالباً لإيجاد حلول سريعة وسطحية تُقلّل النزيف في الأرواح والموارد. كما فاقم الأمر سوءاً تعقيدُ علاقات البلدين مع محيطهما الإقليمي من جهة، ومع باقي العالم من جهة أخرى، مما أدى لوجود فاعلين إقليميين ودوليين قليلي الرغبة في إجراء مراجعات دقيقة قد تكشف تورطهم في بعض ما حصل. يضاف إلى كل ذلك عجز الفاعلين في المعارضات السياسية في البلدين، ولأسباب كثيرة أبرزها العزل السياسي الذي مورس عليهم أثناء سنوات سلطة البعث، عن تشكيل جسم سياسي يحمل مشروعاً وطنياً يحقّق الحد الأدنى من الإجماع الوطني ويملك الوعي الضروري؛ ليس فقط لتكبد أعباء مهمة العمل على جميع المسارات الانتقالية، بل أيضاً للحُؤُول دون اجتزاء وتحوير حقائقها بحيث تصبح أدواتٍ تُوظَّف في سياقات شعبوية لخدمة مصالح ضيقة قد يتسم بعضها بالتضاد مع مفهومي الوطنية والسيادة.

ركزت الكثير من الأبحاث التي تناولت حزب البعث السوري، على أساليب ممارسته العنف والسياسة، فيما سنحاول هنا التقاط بعض النقاط التي كرّست و/أو أَسّست لأنماط العلاقة التي ربطت البعث، كحزب سياسي، و«نظام الحكم» مع الوظيفتين الشَرطيتين للدولة: احتكار العنف وتنظيم الاقتصاد. وكيف كانت أجهزة إدارة الدولة غرضاً للصعود الطبقي والكسب السياسي بطريقةٍ أعادت تشكيلها من أداةٍ باتجاهين تنظّم علاقة السلطة بالشعب، إلى أداة باتجاه واحد تساهم بفرض إرادة السلطة على الشعب.

تأسيس النمط

1.Tilly, C., Evans, P. B., Rueschemeyer, D., & Skocpol, T. (1985). In War making and state making as organized crime. essay, Cambridge University Press.

2.نزيه الأيوبي،

3.تضخيم الدولة العربية:

4. السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، المنظمة العربية للترجمة – بيروت 2010. ص71

تطور الإطار المفاهيمي للدولة الحديثة بتطور السياسة والجماعات البشرية في الدول الأوروبية، ويقترح البعض أن جذور الدولة الأوروبية الحديثة بدأت منذ القرن السابع عشر، وتطوّر هذا الإطار مروراً بمعظم المدارس الفكرية؛ كالهيجلية والماركسية والليبرالية والميكافيلية وتنويعاتها. وما يزال الكثير من علماء الاجتماع يعملون على الإطار النظري للدولة الحديثة في يومنا الحاضر، ولكن منذ الثلث الأخير من القرن العشرين تعالت كثيرٌ من الأصوات التي ترى عدم جواز تطبيق معايير ومنهجيات تطور الدولة الأوروبية حرفياً لدراسة دول العالم الثالث1، ومنها بطبيعة الحال الدول العربية234. في المجمل، تبقى عمومية الدولة بمعنى «الفاعل الذي يحتكر العنف ووسائل تطبيقه ضمن مجموعات بشرية في منطقة جغرافية محددة» عمومية لا يُختلف عليها بين أغلب المدارس الفكرية التي تناولتها. 

5.الأيوبي، مصدر مشار له سابقاً. ص76

وُلدت الدولة في سوريا الحالية قسراً نتيجة صراع كولونيالي وكمنتج كولونيالي. وبموجب اتفاقية بين العديد من الإجراءات المشابهة التي كانت تهدف إلى ضبط جديد للنزاعات بين العثمانية المندثرة والكولونيالية الصاعدة في تلك المنطقة. وبهذا أولاً: عُرِّفت الدولة في سوريا ووُجدت قانونياً قبل أن تكون مفهوماً منبثقاً من التفاعلات الاجتماعية للشعوب القاطنة ضمن حدودها الجغرافية، ثانيا: تشكَّل تعريفها في زمن طغت فيه هيمنةً أجنبيةً فرضت صيغةً لا تنهي النفوذ الأجنبي التركي (مسلم) وإنما تستبدله بآخر فرنسي (مسيحي)، وصْفَتُه الدينية المشار إليها ليست الوجه الوحيد في اغتراب الدولة، لكنها تعبيرٌ عن أحد الوجوه البارزة لنظرة فئات ليست بالقليلة للدولة. من هنا تأسست علاقة الفرد العربي على تضاد ما مع الدولة بكونها سلطة سياسية ساهم اغتراب أدوات إدارتها بتعزيز نفورها عن المجتمع عوضا عن التغلغل فيه5.  

6.الأيوبي، مصدر مشار له سابقاً. ص66

7.الأيوبي، مصدر مشار له سابقاً. ص50

قال البروفيسور في العلوم السياسية نزيه الأيوبي (1944 – 1995) في معرض حديثه عن تشكل الدول العربية، إنها ورِثت العثمانيين بمعنى «الغازي»؛ أي قبائل البدو6. ما معناه أن السلطة السياسية لم تشكلها علاقات الإنتاج ضمن المجتمع (نمط التطور الرأسمالي الكلاسيكي)، بل كانت السلطة السياسية تصدر من علاقات تضامن أهلية (عصبية بالمعنى الخلدوني) بهدف السيطرة على الثروة والميزات الأخرى7. وبالتالي استخدمت السلطة الناشئة سلطتها المركزية لتحديد نمط الإنتاج، على عكس النمط الرأسمالي الكلاسيكي حيث تؤثر علاقات وأنماط الإنتاج بشكلٍ جوهري في تحديد شكل السلطة السياسية.

8.حنا بطاطو، فلاحو سورية: أبناء وجهائها الريفيين الأقل شأنا وسياساتهم. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2014. ص263

9.عبد الله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الطبعة التاسعة 2011. ص190

وأخيراً، كانت المجتمعات المحلية في سوريا مُنهكة بعد قرون من النزاعات شبه المستمرة منذ القرن السادس عشر، حين توسطت سوريا جغرافياً بين مراكز الثقل الإسلامية في مصر وتركيا والعراق ومن ورائها بلاد فارس، فقدّمت حدوداً جديدةً تضع أعباءً إضافية على طرق التجارة المعتادة، مما يزيد الإنهاك الاقتصادي8. كما أن الحدود لم تُراع ديناميكية العلاقات القبلية وانتشاراتها الجغرافية، مما حدّ من مناطق النفوذ وأتاح الفرصة لظهور مراكز ثقل منافِسة ضمن القبيلة نفسها. في خضم كل هذا كانت المنطقة تُطوّر تأثّرها بنظريات الدولة القومية، مما مهد الأرض لتطور القومية العربية ونيلها انتشاراً غير قليل، حيث نُظر إليها كأداة لإعادة ترتيب البيت الداخلي للإمبراطورية الإسلامية، وبقيت الحدود الفاصلة بين الأمة العربية والأمة الإسلامية رماديةً يشوبها الكثير من الخلط. يرى عبدالله العروي أن الحركة القومية وفقهاء هذه الحركة كانوا متعلقين بأفكار «طوباوية» منعتهم من التَفكّر في أهمية الدولة9.

10.حازم صاغية، البعث السوري: تاريخ موجز. دار الساقي، بيروت 2012. ص15

في الرحم الطوباوي للحركات القومية هذا، تشكلت الأطر الفكرية الأولى لحزب البعث العربي في سوريا. بدأ «التبشير» بالبعث منذ العام 1939 على أيدي ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وزكي الأرسوزي وهم مجموعة أساتذة كانوا قد أنهَوا تعليمهم في السوربون وعادوا من فرنسا حديثاً متأثرين بمزيج من الأفكار الاشتراكية والقومية10. وكان نفورٌ ما يصف علاقة الثلاثة ببعضهم، على الأخص بين عفلق والأرسوزي. فكان الأول إنشائياً ركّز على وحدة دور اللغة والتاريخ والوجدان، الأمر الذي اعتبره الثاني كسلاً فكرياً، لأن الأرسوزي – الذي كان حادّ الطباع – يركّز متأثراً بأفكار عرقية على عنصر عربي متفوق. ودون عملٍ جاد على حل الخلاف الفكري بين الاثنين، تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1947 واضعاً الوثائق الأولى التي يُعرّف نفسه بها، ويعبر بواسطتها عن إيديولوجيا فضفاضة وإيمانية ورومانسية الصيغ، ركّزت في مبادئها الأساسية، كما يُرتّبها الدستور: على وحدة الأمة العربية سياسياً واقتصادياً وثقافياً وجغرافياً، إذ «تزول الفوارق القائمة بين أبنائها بيَقَظَة الوجدان العربي»، وعلى قابلية الأمة العربية للتجدّد والانبعاث. كما قدَّست «حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن»، ولكنها سبقت ذلك التقديس بأن حدّدت الحريات الفردية بـ«مدى الانسجام بين تطورها وبين المصلحة القومية»، كما شدّدت فيما بعد على «طبع كل مظاهر الحياة الفكرية والاقتصادية والسياسية والعمرانية والفنية بطابع قومي عربي»، وانتهت بالرسالة الخالدة للأمة العربية ودورها في الكفاح ضد الاستعمار، وعملها مع الأمم الأخرى «على إيجاد نظم عادلة تضمن لجميع الشعوب الرفاهية والسلام، والسمو في الخلق والروح». تُذكر الدولة أولاً في المبادئ العامة لدستور الحزب، لكنها ترِد فقط بصيغ تُعرّف لغة الدولة ورايتها، وتحدد النظام البرلماني الدستوري كسلطة تشريعية منتخبة مباشرة من الشعب يُكوّن نظام حكم لا مركزي للدولة [العربية]، وهي تكافح «سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية»، فلا يُسمح إلا بالرابطة القومية ضمن الدولة. كما أن «وسائل الإنتاج الكبيرة ووسائل النقل ملك للأمة، تديرها الدولة مباشرةً، وتُلغى الشركات والامتيازات الأجنبية». وعلى الدولة تحديد الملكيات الزراعية والصناعية والشخصية، بالإضافة إلى أجور العمال، بما يتناسب مع المصلحة القومية. وكان دستور حزب البعث العربي الاشتراكي قد حدد منهجيات أدوات عمله بأنه حزب اشتراكي «يؤمن بأن الاشتراكية ضرورة منبعثة من صميم القومية العربية»، وهو حزبٌ شعبي يؤمن بأن قدسية الدولة متوقفة على مدى حرية الجماهير في اختيارها، لكنه حزبٌ انقلابي لا يمكن أن تتحقق أهدافه الرئيسية إلا عن طريق الانقلاب، وأن «الانقلاب على الواقع الفاسد يشمل جميع مناحي الحياة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية». 

في التكثيف أعلاه للدستور أمثلة واضحة على العديد من الصياغات شديدة العمومية، والقابلة لإعادة التأويل بسهولة، مما يعرّضها لخسارة وظيفتها المرجعية الضابطة والحامية بحيث تصبح هي نفسها توظيفية، وهو ما حصل لاحقاً في جميع الأحوال. إضافةً إلى ذلك كله، أنهت الإيديولوجيا البعثية دستورها بمادةٍ تقطع جميع إمكانيات النجاة المستقبلية، إذ منعت تعديل المبادئ الأساسية والعامة. وبالفعل لم يُعدَّل دستور حزب البعث العربي الاشتراكي منذ تأسيسه في 1947 حتى يومنا هذا، وبتوقّف تطوير الأطر المعرفية سيتوقف تطور مفاهيم كثيرة تمثل ديناميكيات العلاقات داخل المجتمعات، وعلى رأسها الدولة. 

11.العروي، مصدر مشار له سابقاً. ص190

الإيديولوجيا عضوية في الحزب السياسي، فهي الروح/الوعي التراكمي، ما يجعل لحياة الحزبيّ معنى، وهي الوجدان/الخير العام وآليات الوصول إليه. وعندما يصبح الحزب السياسي هو الحزب الحاكم والقائد الأوحد، كما حدث في سوريا، فإن إيديولوجيته ستكون روح الدولة ووجدانها. لقد تشكلت إيديولوجيا البعث باندفاع عنيف، وأثّر فيها السياسي الآني الضاغط المترافق بقلة الخبرة والمعرفة، فنَحَتْ إلى الطوباوية لإسكات -طوعاً أو قسراً- المشاكل المرحلية. وباستذكار أن سوريا أصلا وُجدت جغرافياً وقانونياً وليس نتيجة تطور طبيعي للمجتمعات المحلية، فقد حَرَمت الطوباوية الوحدوية العربية الدولة السورية القطرية من شرعيةٍ كان ممكن اكتسابها وكانت بأمس الحاجة إليها11. فوق ذلك أتاحت إمكانية التأويل، ما سهل وضعها في خدمة الحفاظ على السلطة خلال جميع مراحل الحزب، وليس أدلّ على ذلك من أن الناس ما زالوا في سوريا إلى وقتنا الراهن يقضون سنوات طويلة في السجن بتهم إضعاف الشعور القومي ووهن عزيمة الأمة والتآمر على المجتمع الاشتراكي.

12.صاغية، مصدر مشار له سابقاً. ص25

الرغبة في توسيع القاعدة الشعبية للبعث عند تأسيسه لعبت دوراً في عدم الاشتغال الحقيقي بين منظريه/مؤسسيه على إيجاد صيغ وسطى بين اختلافاتهم الفكرية، وذلك إلى درجة أن الاندماج في عام 1952 مع الحزب العربي الاشتراكي تمّ دون المساس بدستور الحزب. وكان المحامي والسياسي الحموي أكرم الحوراني اشتراكيا شعبوياً ذا نزعة جمهورية حاسمة12، نجح في تأسيس حزب جماهيري فلاحي الطابع أَوْصله إلى عضوية البرلمان. وأتى توسيع القاعدة الشعبية، من بين أشياء كثيرة، عبر القفز عن التعرّف الحقيقي على التمايزات الثقافية والاقتصادية بين المجتمعات السورية، فتغذّت الاختلافات الشخصية والفكرية على العلاقات العائلية والقبائلية والمناطقية. وفقاً لهذا كان يمكن أن نفسر انحياز البعثيين المنحدرين من لواء اسكندرون إلى صف زكي الرسوزي وليس ميشيل عفلق. ظهرت الكتل الحزبية المتنافسة في وقت مبكر جداً من حياة الحزب، ثم أصبحت نمطاً في بنيته ظل يلعب دوراً محورياً في تقلبات مراحله المختلفة. ومنذ استيلائه على السلطة، وجد هذا النمط طريقه إلى بنيوية أجهزة إدارة الدولة واستمر فيها حتى بعد أن استولى حافظ الأسد على الحزب وجعله، بممارسة إشراك أو عزل الآخرين، كتلةً واحدة. 

13.Haydemann, S. (1999). Authoritarianism in Syria. Ithaca & London. Cornell University Press.

بقليل من التعميم يمكن القول إن عشية الوحدة مع مصر عام 1958 كانت نزاعات الحزب الداخلية بين عسكري ومدني، شيوخ وشباب، يتضمن كلٌّ منها كتلاً لعبت الارتباطات المناطقية والإثنية دوراً هاماً في تشكيلها، تواجه حائطاً مسدوداً، فكان الحل بالقفز عن المشكلة عبر البوابة الطوباوية للوحدة العربية. وإن كان المطلوب من التخبط والتسابق الذي ارتكبه البعثيون أثناء طلب ود عبد الناصر تجاوز مشاكلهم الداخلية، فإنه أتى عليهم بوَبالٍ أكبر عندما اشترط الأخير على الحزب أن يحل نفسه، واضعاً البعثيين أمام أول امتحان عقائدي حقيقي لهم، اختاروا فيه التضحية بالتنظيم الحزبي المتهالك في سبيل القيمة الوحدوية العظمى. ولم تمض فترة طويلة على قرار البعثيين هذا حتى وجدوا أنفسهم خارج ساحة العمل السياسي، فبادروا إلى تشكيل خلية عسكرية سرية في مصر أسموها «اللجنة العسكرية»؛ ستلعب دورا محورياً في تنفيذ انفصال العام 1961 ومن ثم في إحداث تغييرات بنيوية في الدولة السورية. وكان مما سهّل الانفصال أن إنجازات دولة الوحدة بدورها لم تصل الحد الأدنى من الآمال التي بُنيت عليها، لكن تجربة الوحدة السورية – المصرية لم تنته دون أن تترك آثاراً عميقة في الدولة السورية، فقد تسبب قرار حل الأحزاب السياسية الذي أصر عليه عبد الناصر في إعادة خلط توازنات القوى السورية التي كانت تشكل أجهزة إدارة الدولة، كما أنها سببت تغيّراً بنيوياً في بنية أجهزة القمع (العنف) ووسائل تطبيقه، لعب فيه وزير الداخلية آنذاك العقيد عبد الحميد السراج دوراً محورياً، يضاف إليه فتح أبواب التسليح والتعاون العسكري مع دول الكتلة الاشتراكية. نتاج هذه التغييرات كان أن امتلك السوريون الأدوات التنظيمية لبناء الدولة المركزية كمدخل لإنهاء أزمة النخب السورية المتصارعة على السلطة13.

احتاج الرفاق البعثيون، وتحديداً لجنتهم العسكرية، سنتين بعد الانفصال ليعيدوا حزبهم شبه الميت إلى الحياة، كما ليجدوا مخارج فكرية لفشل تجربة الوحدة. وكانت إيديولوجيا البعث القابلة للتأويل مُساعِداً سخياً ليس في هذا فقط، بل أيضا في إعطائهم المرونة اللازمة لإعادة التموضع في الحياة السياسية والعسكرية السورية بما يكفي ليتحالف البعث مع الناصريين والمستقلين وينفّذوا انقلاباً عسكرياً يستولي البعث بموجبه على السلطة في العام 1963. ولأن الإيديولوجية نفسها عرّفته على أنه حزب انقلابي، لم يجد البعث صعوبةً في أن يسمي انقلابه العسكري ذاك «ثورة». وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ اللجنة العسكرية البعثية قد بدأت في العام 1959 نمط الاختراق، فكانت ترسل بعثيين سريين لاختراق الكتل المنافسة ومعرفة أخبارها، وهكذا كانت اللجنة غالباً ما تسبق أعداءها بخطوة. هذه الممارسة ستصبح في الثمانينيات وما بعدها، وبسبب امتزاجها بعنف الأجهزة الأمنية المنفلت، معاناةً مستمرة للشعب السوري، فالكل يمكن الشك بأنه «مخبر» لنظام يحصي على أفراد الشعب – بمن فيهم البعثيين – أنفاسه.

14.صاغية، مصدر مشار له سابقاً. ص46

وإن لم يُخالط ثورة البعث تلك الكثير من الدماء، إلا أن الأشهُر والسنوات التي تلتها كانت مانيفيستو متواصل لتطبيق واستعراض العنف، فاللجنة العسكرية البعثية التي كانت نواة الانقلاب، والتي ستسيطر لاحقاً على جميع مفاصل السلطة والدولة، تحركت سريعاً لإقصاء جميع التشكيلات التي قد تنافسها على السلطة، مستخدمةً العقيد السنّي الحلبي أمين الحافظ وزيراً للداخلية لتعمل من ورائه. تسبّب طلب اللجنة العسكرية قمع الاضطرابات التي دعى لها الناصريون في أيار (مايو) 1963 من أمين الحافظ، بقتل ما يزيد عن 50 شخصاً. لقد عرفت سوريا ستة انقلابات سابقة لانقلاب 1963، كانت تنتهي بنفي الخاسرين فيها كملحقين بسفارات البلاد في الخارج، لكن المحاكمات الميدانية الشكلية والإعدامات الفورية بحق 27 ضابطاً، والتي أمر بها وزير الدفاع أمين الحافظ رداً على المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها الضابط الناصري جاسم علوان، عبّرت عن تغيّر عميق في منهجية احتكار الدولة للعنف، أجازته إيديولوجيا البعث التي وإن كانت قد نصّت على حصانة واستقلالية القضاء عن أي سلطة أخرى، إلا أنها لم تُشر بوضوح إلى كيفية معالجة الأمر إذا تعارضت الجريمة مع المصلحة القومية العليا. إلى جانب العنف العلني، فُرضت الأحكام العرفية التي ستستمر لنصف قرن من القهر المقونن والمشرع. كما أن ثورة البعث شرعنت لأول مرة في تاريخ الدولة إقامة ميليشيات «الحرس القومي» شبه العسكرية، والتي استُخدمت لأعمال قمع المدنيين باسم الحفاظ على الأمن، والتي كانت تُنسق مع وزارة الدفاع لكن تبعيتها كانت للجنة العسكرية، وكان هذا تأسيساً لنمط طويل من الجماعات شبه العسكرية التي لا تتبع للجيش بل إلى القيادات الأمنية الحزبية والمخابراتية؛ كميليشيا سرايا الدفاع في ثمانينيات القرن الماضي ومعظم الميليشيات التي استُخدمت لقمع انتفاضة 2011 إلى درجة أن تحمل أحد هذه الميليشيات اسم «كتائب البعث». كما شهدت فترة نشوء الميليشيات شبه العسكرية قصف جامع السلطان في حماة رداً على انتفاضة صغيرة أعلنها الإخوان المسلمون والناصريون وجماعات أهلية عام 196414، لَحِقه أيضاً أول تهجير قسري للسكان على مستوى أحياء بأكملها بحجة إعادة إعمار الأحياء المدمرة. سيتكرر ويزداد نمط العنف الأدائي هذا كمّاً ونوعاً في المدينة نفسها عام 1982، ومن ثم سيُعمّم على جميع المناطق المنتفضة بعد العام 2011.

15.صاغية، مصدر مشار له سابقاً. ص41

16.بطاطو، مصدر مشار له سابقاً. ص283

خلال ستة أشهر من قيام ثورة الثامن من آذار، كانت اللجنة العسكرية البعثية قد تخلصت من كل منافسيها على السلطة، فاستخدمت تأويلات إيديولوجية أسبغتها على منافسيها كـ«الانفصاليين» و«المستقلين» و«الناصريين»، وكان هؤلاء يمثلون السنّة الحَضَريين15، في حين تشكلت نواة اللجنة العسكرية من المنحدرين من القرى والبلدات الريفية وتنتمي إلى طوائف أقلية16. نمط العزل هذا سيتكرر لاحقاً مستخدماً رطانات مشابهة لتطهير حزب البعث نفسه من كتل طائفية و/أو سياسية؛ كعزل الجناح المدني بتهمة «القيادة القومية»، أو لتصفية الخصوم السياسيين كوصم الإخوان المسلمين بتهمة «عملاء» ووصف مُنتفضي العام 2011 بـ«المندسين» و«الإرهابيين».

في المجمل، أسس بعث الستينيات أو «البعث الانتقالي»بطاطو، مصدر مشار له سابقاً. ص281 الأنماط الأساسية للهيمنة التي ستشكل لاحقاً أنماط دولة البعث الأسدي. خلال كل هذا لم يشعر البعثيون بأي وازعٍ لتطوير أطرهم المفاهيمية، بل تحوّلت اللجنة العسكرية إلى «مكتب الأمن القومي» التابع للقيادة القطرية عام 1966، وسيصبح هذا المكتب لاحقاً جهازاً يعمل على التنسيق بين الأجهزة الأمنية والعسكرية من خارج الدولة لأنه يتبع للقيادة القطرية لحزب البعث وليس لوزارة الدفاع أو الداخلية، ثم عمل المكتب الأمني بدوره في تلك المرحلة على توسع سلطة شُعبة الاستخبارات العسكرية مفتتحاً مرحلة تغوّل الأجهزة الأمنية متعاونةً ومتنافسةً على الدولة. تغير الاسم إلى «مكتب الأمن الوطني» عام 2012، لكنه بقي أعلى سلطة أمنية في البلاد. 

استعان البعث في عام 1966 أثناء معركة عزل مؤسسيه عفلق والبيطار بالماركسيِين كياسين الحافظ، فأصدر «بعض المنطلقات النظرية» التي تبنّى الحزب بموجبها «اشتراكية ثورية» ستكون مُحرّك عمليات إعادة توزيع الأراضي والتأميم اللاحقة، ولكن هذا التأميم كان في حالات كثيرة يهدف لخفض التوتر السياسي، وزيادة القاعدة الشعبية عبر كسب الفلاحين وتسهيل السيطرة عليهم، ولم ترتبط سياسات التأميم بخطط تنموية أو استراتيجيات عامة بعيدة الأمد.

لقد انحصر الصراع على السلطة في سوريا منذ استلام البعث في 1963 وحتى 1970 داخل اللجنة العسكرية وعليها، وفي مرحلة حافظ الأسد، أصبح الصراع على من يكون الأكثر قُرباً من الرئيس. وفي كلتا المرحلتين كانت الدولة هي المجال الذي يتنافس المتصارعون فيه وعبره، لأن حزب البعث كان قد انتشر بين الطلاب والمعلمين والعسكر، وبعد إقصاء جماعة أكرم الحوراني، أصبح هؤلاء طبقةً وسطى لا ترى في الدولة وأجهزتها إلا طريقاً للصعود الطبقي (الجيش، الوظيفة العامة، البيروقراطية).

بعث الأسد

بعد عزل جميع خصومه الحزبيين ووصوله إلى السلطة في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، لم يتأخر حافظ الأسد بالاستيلاء على كل شيء، بما في ذلك الحزب. أنشأ وقاد الجبهة الوطنية التقدمية التي تضم مجموعة الأحزاب السياسية في سوريا التي ارتضت مشاركته، فيما تكفّلت قواه الأمنية بعزل الذين لم يوافقوا. وشرعن الأسد حزبه بنيوياً في جسم الدولة عبر دستور البلاد عام 1973 بتحديده «الحزب القائد للدولة والمجتمع». ثم ترد في المادة 11 من الدستور نفسه عبارة «القوات المسلحة ومنظمات الدفاع الأخرى مسؤولة عن حماية أرض الوطن وتحقيق أهداف الثورة» دون أي تعريف مؤطر لـ«منظمات الدفاع الأخرى هذه». في الوقت نفسه سيطر الأسد باسم البعث على جميع المنظمات والنقابات وحوّلها إلى ما يشبه مؤسسات بيروقراطية تابعة ومُغذّية للسلطة. حتى أن البعث نفسه كان قد تحول إلى مؤسسة في خدمة السلطة ليصبح الحديث عنه كتنظيم حزبي مخالفاً حتى لبعض مواد دستور الحزب شديدة المرونة التأويلية. وبينما حرص الأسد على زيادة عدد أبناء الطائفة العلوية في الجيش والأجهزة الأمنية وحصْر معظم القيادات بهم، أحاط نفسه بمجموعة من السنّة المخلصين له في الجناح البعثي المدني وأجهزة إدارة الدولة. 

كان هدف الحزب الأول «الوحدة»، التي يتوقف على تحقّقها كل شيء، قد أصبح مَثار تهكم في الوعي الجمعي مع تمكن الأسد من السلطة، ولحق به الهدف الثاني «الحرية» سريعاً. بينما ستصمد «الاشتراكية» و«التصدي للإمبريالية» حتى العام 1991؛ حيث سقطت الأولى بإصدار قانون الاستثمار رقم 10 الذي بدأ بلَبرَلة غير منهجية للاقتصاد، وعلى إثره سرت بين بعض شيوعيي الحزبين المنضويَين في الجبهة الوطنية التقدمية دعابة أنهم «ينتمون للحزب الشيوعي السوري لصاحبه حزب البعث» في إشارة مريرة إلى التبعية والخصخصة المتناقضتين نظرياً مع الاشتراكية الثورية. أما الثانية فسقطت بقرار الأسد الانضمام إلى التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية في حرب الخليج الثانية، ثم قبوله المشاركة عام 1994 في عملية سلام لم تكتمل مع إسرائيل.

في المرحلتين السابقتين لم يستطع البعث بوصفه «نظام الحكم» أن يجدد نفسه بتجديد معرِّفات العلاقة مع المجتمعات التي يقودها، لأن التجديد يبدأ من تحدي الأطر الفكرية في وقت كانت إيديولوجيا البعث قد تهالكت. فأخذ البعث ودولته يكرران أنماطهما ولكن على مستويات أكبر كماً ونوعاً، مما زاد من صلابة نظام الحكم، ولكنه زاد أيضاً من هشاشة الدولة (العروي،2011). هذا التكرار، الذي مرده الأول انسداد الأفق، سيقود إلى «إلغاء جميع القنوات والوسائط المفترضة لممارسة السياسة التي كانت في الماضي أسلوب تشكيل كل الثنائيات كـ: الدولة والمجتمع، العام والخاص، الرسمي وغير الرسمي، الشخصي والعقلاني-القانوني، الديمقراطي والاستبدادي. مما يعيد المجتمع إلى وحدة سياسية أكثر صرامة، تطيع بدورها في الاسم والمحتوى والنية والاستراتيجيات ممارسة سياسية واحدة: «حكم السلالة»، وهو ما يسميه ياسين الحاج الصالح أيضا بـ«الدولة السلطانية المحدثة».

أبناء السلطة البعثية

كانت سوريا قد قطعت 10 سنوات من لَبرَلة غير ممنهجة وغير مؤطرة حين استلم بشار الأسد مقاليد الحكم في العام 2000. وإنْ حرص حافظ الأسد على حصر الربح غير المشروع في حلقة ضيقة من رجالات الدولة مدنيين وعسكريين وأمنيين، فإن الفساد في النصف الأخير من التسعينيات تغلغل وانتشر في جميع مستويات إدارة الدولة. وكان من بين ما نتج عن سياسات اللبرلة هذه نقطتين تجدر الإشارة إليهما: الأولى أنها أعادت تشكيل علاقات السلطة مع بعض أصحاب رؤوس الأموال من الوجهاء المدينيين السنّة – خاصةً في دمشق وحلب – الأمر الذي سيتطور لاحقاً إلى شبكات من الشراكات التجارية والعائلية المباشرة بين كبار ضباط الأجهزة الأمنية ورجال الأعمال. والثانية أن معظم أبناء الحلقات الضيقة من الضباط ورجالات الدولة الذين كدَّسوا ثروات معتبرة في العقود السابقة كانوا قد أتمّوا دراستهم في أميركا وأوروبا وعادوا متأثرين بالليبرالية الاقتصادية والعولمة، وبالتالي فإن فكرة الحزب السياسي العقائدي غير جذابة لطموحاتهم، ففضلوا الاستثمارات الخاصة. وساعد التضخم البيروقراطي والانهيار شبه التام لمؤسسات القطاع العام الإنتاجية التي سيطر عليها وأدارها البعث سابقاً، على ازدهار الاستثمار الخاص مستفيداً من تسهيلات توفرها له العلاقات المعقدة مع السلطة. 

في العام 2012 لم يعد حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع دستورياً بعد تعديل هذا الأخير، ورُفعت حالة الطوارئ، إلا أن هذا ليس تغييراً بقدر ما هو تسمية الأمور بمسمياتها؛ فحزب البعث العربي الاشتراكي كان انتهى منذ فترة إلى بوابة يعبر منها البيروقراطيون الأكثر إخلاصاً الذين لا يستطيعون شراء مواقعهم في أجهزة الدولة، وخزاناً لأفراد الميليشيات شبه العسكرية الأقل تكلفة.

دولة البعث

في القسم التالي سنستعرض بواسطة الرسوم البيانية بعض المؤشرات المعبرة عن أداء دولة البعث منذ استيلائه على السلطة عام 1963 حتى عام 2020، بالاعتماد على بيانات البنك الدولي – إلا إذا تمت الإشارة صراحةً لمصدر آخر-. في أغلب الرسوم استعضنا عن القيمة الحقيقية بالمعادل اللوغاريتمي، واستخدام المعادل اللوغاريتمي للقيمة جعل الرسم البياني أكثر وضوحاً، ما يسمح بمقارنة أفضل، لكنه لا يعكس الاختلافات الحقيقية بين القيم.

الشكل الأول: الناتج الإجمالي المحلي السوري

يمثّل الخط الأزرق الناتج المحلي الإجمالي مُقدّراً بالليرة السورية، بينما يمثل الخط الأخضر هذا الناتج مُقدّراً بالدولار الأميركي. ترمز المساحة المحصورة بين الخطين إلى الفارق في سعر الصرف بين العملتين، ويلاحَظ اتساع هذا الفارق بمرور السنوات. يكشف الخط الأخضر أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لم يكن ثابتاً كما يظهر بالعملة المحلية، حيث تظهر تغيرات حادة، كما في العام 1988. 

Chart, line chart Description automatically generated

الشكل الثاني: الإنفاق العسكري في سوريا

يظهر الشكل الإنفاق العسكري بين العامين 1960 و2011. أيضاً هنا يُظهر الخط الممثّل للإنفاق العسكري بالدولار الأمريكي اضطرابات لا يوضحها الخط الممثّل لنفس الإنفاق بالليرة السورية. الحقيقة أن الإنفاق العسكري في سوريا هبط بشكل حاد في المرحلة نفسها التي انخفض فيها الناتج الإجمالي المحلي في العام 1988، ولم يستعد نمطه التصاعدي منذ تلك السنة. قد يكون هذا الانخفاض مرتبطاً بمرحلة انهيار الكتلة الاشتراكية التي كانت المورد الرئيسي للسلاح.

Chart, line chart Description automatically generated

الشكل الثالث: قيمة المستوردات السورية

يُظهر قيمة المستوردات سنوياً بالليرة السورية، ويُقرأ هذا الشكل بالتزامن مع الشكل الرابع. ولكن يلاحظ منه أن سورية استوردت في العام 2008 ما يعادل 80 مليار ليرة سورية. بينما انخفض الاستيراد متراجعاً 75 بالمئة عن قيمته في العام 2011 وقبل حزمات العقوبات الموسعة.

Chart, histogram Description automatically generated

الشكل الرابع: الميزان التجاري بين الصادرات والواردات بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي السوري

يظهر الشكل النسبة المئوية التي يكابدها الميزان التجاري بين الصادرات والواردات في حال خسارته للإنتاج الإجمالي المحلي، كما يظهر نسبة دعمه للإنتاج في حالة الربح. أي أن 17 بالمئة من الناتج الإجمالي العام صُرف لتعويض خسارة الميزان التجاري. بينما شكّلت عائدات الميزان التجاري الرابح في عام 2002 ما قيمته 7 بالمئة من الإنتاج الإجمالي العام.

Chart Description automatically generated

الشكل الخامس: صافي المساعدات الخارجية بهدف دعم التنمية في سوريا مقدرةً بالدولار الأميركي

يُظهر الشكل المساعدات التنموية الأجنبية التي قُدّمت إلى سوريا بين الأعوام 1960 و2020 مقدّرةً بالدولار الأميركي (جميع القيم في الشكل يجب ضربها بمليار لمعرفة قيمتها الحقيقية). بلغت هذه المساعدات 8.8 مليار دولار في العام 1990، وتضاعفت تقريباً إلى 16.7 مليار في عام 2012.

Chart, histogram Description automatically generated

الشكل السادس: التوزّع السكاني

يُظهر الشكل أن بداية التغيّر في توزّع السكان بين الريف والمدينة حصل تقريباً في العام 1995، حين بدأت أعداد السكان في المدن تفوق أعدادهم في الأرياف.

موقع الجمهورية

————————————

تشبيه بالفاشية واتهامات بالطائفية واعتذارات للشعب… في ذكرى الانقلاب السوري: كيف هجا مثقفو «البعث» الكبار حزبهم؟

محمد منصور

يستحضر السوريون في مثل هذا الشهر قبل ستين عاماً ذكرى انقلاب الثامن من آذار/مارس عام 1963 الذي أوصل حزب البعث إلى حكم سوريا.

يستطيع الكثير من السوريين اليوم أن يكتبوا أقسى مقالات الهجاء في الحزب الذي صار في نظر الكثيرين منهم، عنوان الخراب الذي حاق بسوريا على مدى ستين عاماً، ويستطيع المرء أن يستحضر كذلك كتابات انتقادية قاسية من خصوم البعث ومناوئيه الأوائل، كالمحامي والكاتب الدمشقي البارز زهير شلق (1918- 1994) الذي كتب في مقال له عام 1966 يقول: «لقد تهلهلت واجهة الحزب حتى أصبح ينكر نفسه، بحيث لم يعد أكثر من واجهة من العسكريين وضع كل واحد منهم يده على لواء مدرع أو فرقة مغاوير أو مجموعة طائرات دون طيارين مدربين، وأصبح الحزب اسما يصلح للإذاعات فقط» كذلك الكاتب الصحافي غسان الإمام (1938- 2018) الذي كتب على مدار العقود الثلاثة الأخيرة من حياته عشرات المقالات التي حللت ظاهرة حزب البعث، معتبراً في إحدى مقالاته التي نشرها عام 2013 أن ميشيل عفلق «استخدم ضباط الأقلية العلوية، للاستيلاء على الحكم (1964) فقلبه هؤلاء منفردين بحكم سوريا منذ ذلك الحين، متسترين بخرقة «البعث» البالية. ومسقطين الحرية. والديمقراطية، بسيف الديكتاتورية» إلا أن الظاهرة اللافتة في مسار حزب البعث، هي الانتقادات الهجائية القاسية التي صدرت عن مؤسسي الحزب أنفسهم وقادته الكبار، والتي لم تقتصر على تصريحات عابرة، أو مقالات انفعالية طارئة في هذه المناسبة أو تلك، بل تعدتها إلى تأليف كتب سجلت أسوأ الشهادات في انحرافات الحزب وجرائمه.

«التجربة المرة» لمنيف الرزاز: أساليب النازية والستالينية

فاتحة تلك الكتب كانت «التجربة المرة» لأمين عام الحزب مؤنس الرزاز، الذي صدر عام 1967، بعيد عام على انقلاب اللواء صلاح جديد الذي سمي (حركة 23 شباط) الذي كان أول انقلاب يقوده أحد أجنحة البعث ضد جناح بعثي آخر، والذي تم بموجبه سجن رئيس الجمهورية الفريق أمين الحافظ بعد الهجوم بالأسلحة الثقيلة على منزله في معركة استمرت أكثر من ثلاث ساعات وقاوم فيها الحرس الرئاسي حتى نفاد الذخيرة. وقد أقصي الرزاز بموجب هذا الانقلاب كما باقي أعضاء القيادة القومية للبعث التي انقلبت عليها القيادة القطرية. ينطلق الكتاب من هذا الحدث الانقلابي تحديداُ، الذي يقول عنه منيف الرزاز في مقدمة الكتاب: «إنني لأشعر، وقد كنت أميناً عاما للحزب يوم وقع الحدث المشؤوم، بأن من واجبي أن أحاول تحليل هذا الحدث، وأنا أتابع نموه التاريخي المتدرّج حتى نضج يوم 23 شباط/فبراير، وأن أتعمق ما أمكنني التعمق في تشريح ما وراء الحدث من ظروف وضغوط وأحداث وأمراض وأخطاء تعرض لها الحزب فانتهى إلى النكسة السورية بعد النكسة العراقية «. ويمضي المؤلف ليوضح أن هدف الكتاب ليس تقييم حكم البعث في سوريا بعد أربعة أعوام من وصوله إلى السلطة (زمن صدور الكتاب) ولا ذكر الإنجازات التي حققها في الحكم، وإنما «ذكر الأخطاء والانحرافات محللا أسبابها وعواملها، وهو ينقد نقدا ذاتياً، لكنه لا يقيّم كامل المرحلة». رغم تمسك المؤلف بما قال إنها مبادئ البعث التي ما زال مقتنعا فيها، إلا أن ما يكتبه من أفكار انتقادية، يكاد ينسف تجربة البعث برمتها، ويجعلها مجرد شعارات وأحلام طوباوية لم تنتج على أرض الواقع سوى الكوارث والأخطاء، ومنها قوله مثلا:

– تفشى في الحزب مرض آخر من خلال أزماته المختلفة، ومن خلال الفراغ الفكري الذي انحدر إليه، هو «الولاء الشخصي» الذي لم يعد مجرد مرض في الفئة المتسلطة حسب، بل امتد إلى الفئة القومية نفسها، فأصبحت في الحزب: «جماعة صلاح جديد» و»جماعة الفريق» و»جماعة البيطار» وكنت واثقا أن قواعد الحزب أوسع من كل هذه الجماعات.

وإذا كان منيف الرزاز يولي حركة 23 شباط (انقلاب صلاح جديد) جل اهتمامه واصفا إياها بأنها «أكبر طعنة وجهت للحزب منذ قيامه» ومشبها فهمها للاستيلاء على السلطة بالقوة بأساليب الفاشية والنازية قائلا: «إنهم يفهمون الحزب زعامة تصنع قاعدة على هواة وقاعدة ترضخ للزعامة وتنفذ أوامرها. وهم لم يخترعوا هذا الفهم، فقد كانت له سوابق في النازية والفاشية من جهة، وفي الستالينية من جهة أخرى» فإن الرزاز لا يغفل عن وضع انقلاب صلاح جديد في سياقه الطائفي، وعن إعادة جوهر أزمة البعث إلى قبولها بتنظيم اللجنة العسكرية الذي صنع انقلاب الثامن من آذار الذي أوصل حزب البعث إلى السلطة، ثم أراد أن يلتهم الحزب ويمتطيه كأداة لممارسة ديكتاتورية عسكرية أولا وطائفية ثانياً، وفي ذلك يقول:

«كانت حركة 23 شباط نتيجة طبيعية لكل أخطاء الحزب السابقة، والثور الأبيض أكل يوم 8 آذار، يوم رضي الحزب بأن يحالف حركة عسكرية غير تابعة له تنظيمياً، بل ولا عقائدياً، دون أن يضع أي شرط لهذا التحالف، بل تجاوز مرحلة التحالف إلى مرحلة الدمج، مسلماً إياها الحزب دون أن يستلم بالمقابل شيئاً، ودون أن يعرف أين يقف هو من هذه الحركة، وأين تقف منه «.

«البعث» لسامي الجندي: الحزب الذي أصبح تهمة!

لم يكد ينقضي عقد الستينيات حتى فاجأ قيادي بعثي سابق أصدقاء الحزب وخصومه بكتاب مدوٍ صدر عن «دار النهار» في بيروت عام 1969 وحمل عنوان «البعث» لمؤلفه الدكتور سامي الجندي. كان سامي الجندي قياديا له دور كبير في حزب البعث العربي الاشتراكي، فمع انقلاب آذار عام 1963 أصبح عضواً في مجلس قيادة الثورة وناطقا رسميا باسمه، وتبوأ منصب وزير الإعلام في حكومة صلاح الدين البيطار، وبعد محاولة جاسم علوان الانقلابية في تموز عام 1963 كلف بتشكيل الحكومة لكنه اعتذر عنها، ثم أوفد سفيرا إلى فرنسا عام 1964 وظل في منصبه حتى عام 1968. من مقدمة الكتاب وحتى الصفحة الأخيرة من صفحاته المئة والستين، يقدم الجندي، مرافعة هجاء طويلة لا تستثني شيئا من بنية الحزب ومساراته وآليات عمله وأدائه في الحكم بعد استيلائه على السلطة، منطلقا في مقدمته الأولى من الشعور بالخجل الذي بات يثيره وصف «بعثي» قائلا: «من كان يحسب أن البعث ينتهي إلى كل هذا العبَث؟ من كان يحسب منا أن تصبح كلمة «بعثي» تهمة يدفعها بعضنا عنه بسُخرٍ مُر؟ من كان يظن منا أن يوما يأتي نخجل فيه من ماضينا، نفر منه كذنب اقترفناه عن عمد فتلاحقنا عيون البشر احتقاراً، نكاد ننكر أنا كنا منه، نخفي هويتنا».

يعتبر سامي الجندي أن رحلة البعث إلى الاستيلاء على الحكم بالقوة كانت «سريعة وخطرة» ويصف البعث في الحكم بأنه آخر آيات التخلف فيقول: «ظننا أن عصور الانحطاط قد انتهت بسلفنا من السياسيين وأننا بدءٌ عظيم لحضارة جديدة، فإذا نحن آخر آيات التخلف، تعبير فاجع عنه. أردنا أن نكون بعثا للمناقب والبطولة فما بعث فينا – في الحكم – غير عصر المماليك». بهذه اللغة الاعترافية القوية التي تنضح ألما وترفعاً عن التزلف والمحاباة والتبرير، يمضي سامي الجندي في كتابه الذي غدا على مر عقود من أبرز المراجع عن جرائم الحزب، وعن طائفية صلاح جديد الذي صنع خلف الحزب «حزبا آخر للطائفة» والذي استغل انتماء زكي الأرسوزي الطائفي وأراد أن يحله محل ميشيل عفلق كأب مؤسس للحزب، ويمضي سامي الجندي بلغة أدبية رفيعة شديدة الحساسية في تصوير الحالة الرثة، متسائلا بمرارة: «بقي أن نسأل من هو المتهم، الجواب: كل الناس، فتقرير بسيط على ورقة من أحد الرفاق، تبدأ: بأمة عربية واحدة، وتنتهي بالخلود لرسالتنا، يعني شهوراً في الزنزانة، ثم إنساناً يُحطم مدى الحياة». ثم ينهي السطور الأخيرة من كتابه الذي روى فيه تاريخ البعث في مختلف العهود السياسية وصولا إلى تسلطه على الحكم كما لم يرو من قبل… ينهي كتابه بالقول: «بدأ البعث بالإنسان وتقديسه وآل إلى جلاد. أصبح البعثيون بلا بعث، والبعث بلا بعثيين: أيديهم مصبوغة بالدم والعار يتسابقون إلى القتل والظلم والركوع أمام الجزمة».

«حزب البعث العربي» لجلال السيد: العدو والخصم!

يعتبر جلال السيد ابن مدينة دير الزور، ثالث ثلاثة أسسوا حزب البعث، فقد شكل نواة اجتماعاته الأولى مع ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار حين زار دمشق في نيسان/أبريل من عام 1942 وأقام فيها مدة ثلاثة أشهر. ألف جلال السيد كتابا عن انحرافات وتصدع الحزب وأخطائه نشرته «دار النهار» عام 1973 بعنوان: «حزب البعث العربي» انتقد فيه الممارسات الوحشية التي قام بها الحزبيون ضد خصومهم، وسطر في كتابه شهادته على الطريقة التي كان يعامل فيها البعثيون خصومهم حيث قال: «وقف هؤلاء الحزبيون موقف العدو من كل مواطن لا يدين لهم ولا يسير وفق منهجهم وسلوكهم… واستباحوا دم الخصوم من المواطنين إذا لزم الأمر ذلك».

وبخلاف لغة سامي الجندي الهجائية المرة، فقد سعى السيد لتقديم معاينة أقل حدة نسبياً، لكنها لم تغفل عن إبراز الخلل والتجاوزات التي بلغت حد الجرائم.. وعبر أكثر من 300 صفحة حلل فيها نشأة الحزب وصولا إلى استيلائه على السلطة، يذهب السيد إلى تحليل صورته في أعين الناس بعد وصوله إلى الحكم فيقول: «إن مؤيدي البعث قبل أن يستلم الحكم كانوا أكثر عددا وأكثر تعلقا به، وقد تناقص عددهم وخفتت حماستهم بعدما تولى البعث الحكم، ورأى منه الشعب عجباً. فهناك احتكار للمناصب بصرف النظر عن الكفاءة والقابلية. كما أن القوانين التي صدرت قد أصابت فئات كثيرة في أرزاقها وعيشها. وقد ظهر التسابق بين البعث وعبد الناصر، فإذا خصص عبد الناصر للمالك ثمانين هكتاراً، جعل البعث للمالك مئة وخمسين هكتاراً لأن تقدميته واشتراكيته يجب أن تزيد على تقدمية عبد الناصر واشتراكيته، والفرد العربي في سوريا هو الضحية لهذا السباق». وفي الصفحات الأخيرة من الكتاب يوجه جلال السيد انتقادات قاسية لانقلاب حافظ الأسد في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1970، معتبراً أن كل ما جاء في بيان حركته «التصحيحية» من إطلاق للحريات وحفظ لكرامة المواطن وتحقيق للعدالة لم يتحقق، فكأن كل أجنحة البعث كانت تلتقي عند هذا الكذب الشعاراتي الذي تناقض وعوده البرّاقة واقع الحال: «إن الشعب يفهم بفطرته وعقله أن حكم الشعب الذي أشرتم إليه إنما يعني الحكم الديمقراطي، وهذا يستلزم أن يكون ممثلو الشعب من صنع الشعب، لا من صنع الحكّام».

صلاح الدين البيطار: عفوك شعب سوريا العظيم

لا تكتمل شهادات الآباء المؤسسين الاعترافية هذه، دون الإشارة إلى مقال صلاح الدين البيطار المدوي، الذي نشر في العدد (21) من مجلة «الإحياء العربي» التي أسسها وأصدرها في باريس، والذي نشر في العدد الأخير الذي صدر في الخامس والعشرين من تموز/ يوليو 1980 بعد أربعة أيام على قيام مخابرات الأسد باغتياله. يعتبر صلاح البيطار مع ميشيل عفلق الثنائي المؤسس لحزب البعث، بل يذكر جلال السيد أن عفلق اعترف له بأن كثيرا من الأفكار التي كانت تنسب إليه هي للبيطار الذي لم يكن مهتما بتصحيح نسبها أمام المريدين والأتباع… وقد شكل صلاح الدين البيطار أول ثلاث حكومات بعد صول البعث إلى السلطة عام 1963 ثم فر إلى خارج البلاد بعد انقلاب صلاح جديد عام 1966، وتنقل بين بغداد وبيروت قبل أن يستقر في باريس. قدّم البيطار اعتذارا للشعب السوري عما سماه «جريمة البعث» وما ولدته من أنظمة استبدادية، إذ كتب يقول: «عفوك شعب سوريا العظيم… عفوك شعبنا الجريح الذبيح، إذا ما تطلعت نحو القريب والبعيد، وتلفتّ نحو الشمال واليمين خارج الحدود ترقب بصيص أمل في نجدة معنوية وسياسية وإعلامية تأتيك من وراء هذه الحدود لوقف الظالمين عن ظلمهم، عفوك إذا إرتد طرفك وهو كليل. عفوك إذا الملوك والرؤساء هنا وهناك رأيتهم يستقبلون السفاحين الملطخة أيديهم بالدماء بالأمس القريب في جسر الشغور وحلب وحماة واليوم في تدمر استقبال الفاتحين». ولعل أخطر ما يشير إليه البيطار أن مفاوضات وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر مع حافظ الأسد بعيد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، نصت على أن التسوية مع إسرائيل لن تتم إلا إذا تمكن النظام البعثي من «إحكام العزل السياسي على شعب سوريا، وهو شرط لا بد منه».

لقد شكلت كل هذه الشهادات والمراجعات السابقة من مؤسسي البعث الأوائل، وقادته الكبار، صورة تاريخية غير مسبوقة عن حزب رفع شعار التقدمية فترحم الناس على الرجعية، وتحدث عن العدالة الاجتماعية فأصبح لعنة على العدالة وعلى المجتمع وعلى المرحلة التاريخية التي طبعها بطابع المراهقة السياسية والاستبداد السلطوي والخراب الذي دمّر حياة أجيال بأكلمها.

‏كاتب سوري

——————————–

مرحلة ازدواجية السلطة في سوريا.. انتهاء حكم البعث وبداية حكم الجيش/ رعد أطلي

ستبدأ مرحلة ازدواجية السلطة في سوريا في الربع الأخير من عام 1968 لتشهد لعبة الصراع الأخير على السلطة بين آخر المتحاربين، الصديقين سابقاً، حافظ الأسد وصلاح جديد. كما ستشهد تلك المرحلة الانقلاب الأكثر تأثيراً في تاريخ السلطة في الدولة السورية، ولعلها المرحلة التي لم تأخذ حقها في البحث من ناحية أنها أرّخت لانتقال مركز القوة والسلطة من حزب البعث باعتباره المهيمن على الدولة ومؤسساتها ومن ضمنها الجيش، ليصبح المركز في الجيش الذي سيهيمن على الدولة والحزب معاً، ويحول الأخير لأداة ضبط اجتماعي تابعة لمؤسسة الجيش قبل أن تنزاح مرة أخرى لتصبح السلطة بيد الميليشيات المسلحة البديلة التي ستخضع الدولة والحزب والجيش لحكمها. بعبارة أوضح ستنهي تلك المرحلة حكم البعث في سوريا، وسيبدأ حكم الجيش.

رغم تغول العسكر على الحكم في سوريا في مرحلة مبكرة من الاستقلال، إلا أن ذلك التغول سيتأتي دائماً عبر إحلال الضباط على مقاعد الحكم المدني، وسيتصدر الجنرالات “المزيفون” في مرحلة البعث الواجهة السياسية ما بين 1963 وحتى 1968.

الحكام العسكريون الذين هيمنوا على السلطة في سوريا كانوا في الوقت نفسه هم أعضاء القيادة القطرية والقومية، وبالتالي استندوا في شرعيتهم في الحكم من واقع قيادتهم لحزب البعث على اعتبار أنه القائد للدولة والمجتمع، ولذلك احتدمت الصراعات بين أقطاب العسكر للحصول على مكان لهم ولأنصارهم في مكاتب القيادتين القطرية والقومية، القيادة السياسية حينها. يبدو ذلك لأن موازين القوى في الجيش لم تكن موحدة عبر قبضة جنرال واحد يضع بيده مفاتيح القوة كلها، وسيستمر ذلك حتى يتم للأسد وضع كل تلك المفاتيح في يده ويعلن بثقة مطلقة جملته التي افتتحت مرحلة ازدواجية السلطة: “أنا لا أعترف بهذه القيادة السياسية”.

سينضم صلاح جديد للجنة العسكرية البعثية عندما كان ضابطاً في مصر، ونتيجة عملية ترميمية في اللجنة بعد خروج جنرالات منها نتيجة تحويلهم للسلك الدبلوماسي، وكما سيأتي محمد عمران بصلاح جديد للجنة العسكرية، سيأتي الأخير بحافظ الأسد.

سيعيش الأسد تحت جناح صلاح جديد حتى يسلمه وزارة الدفاع. حافظ الأسد الذي كان برتبة نقيب عام 1961 سيكون وزيراً للدفاع بعد أقل من ست سنوات. لم يمتلك الأسد ولا جديد الضابطان الصغيران بحكم العمر العسكري الكبيرين بقوة السياسة خبرة عسكرية تمكنهم من قيادة جيش وخوض معركة قائمة بشكل يومي مع إسرائيل، لكن خبرتهم ستكمن في حيك المؤامرات السياسية واللعب بالخيوط للوصول للسلطة.

يصف كل من عمل مع صلاح جديد عبقريته في قدرته الفائقة على عزل خصومه وتشكيل تحالفاته ثم تفكيكها، وتمكنه من نقل الأشخاص بسهولة من خانة الأصدقاء لخانة الأعداء والعكس بما يضمن له وصوله للسلطة وبقاءه فيها، وسيأخذون عليه جهله في السياسة الخارجية وجهله لتموضع سوريا ولنمط العلاقات الدولة والإقليمية.

بالمقابل لم يكن حافظ الأسد، أو لم يكن قادراً، سوى أن يكون التابع المخلص لصلاح جديد، حتى لعب دوره المهم في انقلاب 1966 ضد القيادات المدنية أو السياسية لحزب البعث، والتي ستكون الخطوة الأولى بالانقلاب على البعث نفسه من ناحية أنه المؤسسة الحاكمة للدولة السورية، وليصبح بعدها وزيراً للدفاع.

من المسلَّم به أن صلاح جديد كان راديكالياً، لكن هل كانت راديكاليته نابعة عن إيديولوجيا يؤمن بها؟ من المرجح أنها لم تكن كذلك، وهو القادم من الحزب القومي السوري الصورة النقيضة لحزب البعث الذي سينضم إليه لاحقاً. هل كان يسارياً اشتراكياً؟ لهذا أيضاً تبريراته الوسائلية، فجديد الذي سيرتبط اسمه باليساريين الثوريين والاشتراكيين في المراحل الأولى من انقلاب البعث من عيار ياسين الحافظ وعبد الكريم وخالد الجندي وآخرين من خارج البعث من أمثال قيادات في الحزب الشيوعي، هو نفسه الذي أبعدهم وأقصاهم بل واتهمهم بانحرافات عن مسيرة البعث كما فعل مع خالد الجندي الذي اعتبره قد أنشأ الميليشيات العمالية من دون علم الحزب، أو اتهام اليساريين بجرهم الحزب لمظلة الأممية الشيوعية.

ستكون هزيمة حزيران – التي ستظهر بوضوح انعدام الخبرة العسكرية لجديد وحافظ الأسد ورفاقهم من قادة الجيش وأولويتهم في حماية سلطتهم على حماية الحدود – المفترق الرئيسي الذي سيبني من خلاله الأسد طريقه بعيداً عن جديد بنفس أسلوب الأخير.

سيبدأ حافظ الأسد ببناء قوته الخاصة المستقلة عن جديد قبل أن يصبح وزيراً للدفاع، وسيرفض ضم المخابرات الجوية لجهاز الأمن القومي المتشكل بمنتصف الستينات ليكون هذا الجهاز نواة مملكته الأمنية اللاحقة، وسيتمكن بعد الفوضى التي أحدثتها هزيمة حزيران من الاستفادة من كل فرصة ممكنة لتعزيز انفصاله عن مسار جديد وهيمنته. إلا أن المرتكز الأساسي في ثقته بالانفصال عن ذلك المسار كان قرار صلاح جديد بالتخلي عن بزته العسكرية وتسليمه الجيش عبر وزارة الدفاع للأسد، بمقابل تسلمه للمنظمات الحزبية وقيادتها على اعتبارها المؤسسة الحاكمة في سوريا.

بعد حرب 1967 سيجتذب حافظ الأسد إليه الضباط الذين اتهموا بالإهمال في الحرب وحماهم، كما سيستخدم الهزيمة لخلق مسار مستقل في الحزب والجيش عن مسار جديد، فلما أعطى صلاح جديد الأولوية لمسار التحول الاشتراكي في سوريا، اتجه الأسد للمناداة بالمصالحة الداخلية مع مختلف طبقات الشعب، مما جذب الملاك ورجال الدين وغيرهم من القوى الاجتماعية إليه.

من ناحية السياسة الخارجية، وبخطوة متهورة من جنرالات فاشلين ستعلن سوريا خط “الحرب الشعبية” ضد إسرائيل رداً على الهزيمة، والتي كانت أكبر من إمكانيات وقدرات الدولة السورية. بداية انضم الأسد لرؤية جديد، ثم سرعان ما انفصل عنه، واتجه لتسوية الأمور مع الأنظمة العربية بغض النظر عن توصيفها “البعثي” منادياً بوحدة الكفاح العربي، بينما سيستمر جديد بنداءاته الراديكالية واهماً بأنها تخدم بقاءه على رأس السلطة، ناعتاً تلك الأنظمة من مثل السعودية والأردن بالقوى الرجعية. سينفتح الأسد أيضاً على إعادة التعاون مع ألد الخصوم للبعثيين، والمتمثلين بالبعثيين في العراق، الذين احتووا القيادة القومية للبعث التي انقلب عليها جديد.

سيبدأ الصراع بشكل أوضح بعد اجتياح القوات البرية السورية للأردن بحجة الدفاع عن الفدائيين الفلسطينيين، في مغامرة ترسخ للفشل في فهم السياسة الخارجية وقدرات الدولة من قبل جديد، فهو يدخل بإمكانيات دولة قد انهزمت للتو في حربها، وتعاني عزلة كبرى نتيجة خطاباته وسياساته الراديكالية. ستُبيد الدبابات الأردنية القوات البرية السورية في ظل انكفاء سلاح الجو السوري عن التدخل بأمر من حافظ الأسد، وسيبرر الأخير ذلك بأن دخوله سيؤدي لاشتعال حرب إقليمية بين دولتين عربيتين، وأن الدخول البري كان مغطى بحجة أن المدرعات المتدخلة لم تكن قوات سوريا، وإنما من قوات جيش التحرير الفلسطيني، في حين يصعب تغطية التدخل الجوي سياسياً بتلك الحجة.

لم يترك الأسد فرصة أيضاً في التنقلات العسكرية إلا وأخضعها لصالحه، وسيشكل إقطاعات خاصة له في الجيش مبنية على أساس طائفي وعشائري، ولعل الجملة الواردة في رسالة الانتحار التي تركها عبد الكريم الجندي رئيس مكتب الأمن القومي في قيادة البعث أحد أنصار جديد، والذي أقدم على الانتحار عام 1969 نتيجة تضييق الخناق عليه من قبل رفعت الأسد توضح ذلك: “لقد حاولت باستمرار أن أكون متجرداً من كل العلاقات الاجتماعية البالية لإيماني المطلق بأنها لا تبني معركة الشعوب.. في نفس الوقت كان غيري يركز باستمرار ويتمسك بهذه العلاقات من أجل دعم موقفه الشخصي وحماية نفسه”.

سيتخلص الأسد من أحمد المير أحد أعضاء اللجنة العسكرية والمناصر لجديد بتحميله مسؤوليةً في هزيمة حزيران على اعتباره آمر الجبهة في الجولان بعزله عن منصبه وتعيينه سفيراً في مدريد. وسيستفيد من إقصاء الجنرال الحوراني أحمد سويداني عن رئاسة الأركان ليضع عليها مصطفى طلاس الذي لم يكن سوى ذيل للأسد حتى موته.

سيصل ذلك الصراع إلى ذروته في المؤتمر القطري الرابع للحزب في أيلول 1968، حيث سيستهجن أنصار جديد في مفارقة مضحكة في المؤتمر تدخل العسكر في شؤون قيادة الحزب ومؤسسات الدولة، ويأتي هذا الاستهجان من ناحية أن قادة الحزب بغض النظر عن خلفيتهم هم قادة الدولة، أم العسكر الذين كانوا قادة مؤسسة الجيش فحسب فلا شأن لهم بذلك.

لن ينقض الأسد مباشرة على البعث، حيث كان لواء المدرعات 70 ما زال تحت قيادة عزت جديد أحد أنصار صلاح جديد، بل سينتظر حتى يعزل عزت جديد عنها، ولكنه سيحاول أن يعرقل انعقاد المؤتمر حتى لا يأتي بنتائج ضده، فمنع أعضاء قيادة فرع اللاذقية من الوصول لدمشق، وسيطر على الصحف والتلفزيون والإذاعة، ورداً على ذلك شجبت القيادة القطرية هذه التصرفات غير الشرعية لوزير الدفاع وأعلنت في تعميمٍ داخلي أن “قيادة سلطة الدولة لم تعد في يدي الحزب”.

بعد عزل أنصار جديد عن لواء المدرعات أصبح الطريق معبداً للأسد، وفي محاولة يائسة من جديد دعا لعقد المؤتمر القومي الاستثنائي العاشر للبعث، وانتقد في خطابه تصرفات العسكر وامتيازاتهم، وقرر المؤتمر إقالة حافظ الأسد من وزارة الدفاع. إلا أن الوقت كانت قد تأخر على هكذا خطوة، ففي الوقت نفسه كان حافظ الأسد يجتمع بـ 500 ضابط في مقر القوى الجوية، ويعلمهم بأنه أقدم الأعضاء العاملين، وأن هؤلاء في المؤتمر جاء بهم الجيش، وهو يعرف كيف يتعامل معهم. ليعلن في صبيحة 16 تشرين الثاني عن حركته التصحيحية ويبدأ انقلابه على البعث، ويحوله من مؤسسة حاكمة لأداة من الأدوات التي يحكم بها، ويضع الجيش على رأس السلطة في سوريا.

تلفزيون سوريا

————————————

===================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى