مقالات سينمائية

مهرجان كانّ: سينمائيّون كبار خرجوا بأقلّ ممّا يستحقّون!/ جورج كعدي

لم يُضأ كفايةً، في ما نُشر من تغطيات عربيّة، على أفلام سينمائيين عالميين مكرّسين ضمن المسابقة الرسميّة لمهرجان كانّ السينمائيّ الأخير في دورته السادسة والسبعين، وهو بلا شك الأعرق والأهمّ للسينما الفنّية والإبداعيّة. سينمائيّون أعلام ومعلّمون سبق أن نالوا في هذا المهرجان الأضخم والأرفع قيمةً إما السعفة الذهبية (بعضهم لمرّتين، مثل البريطانيّ الرائع كِنْ لوتش) أو الجوائز الكبرى التي تلي السعفة أهميّةً مثل “الجائزة الكبرى” أو “جائزة لجنة التحكيم” أو “جائزة الإخراج”. وكان هناك استثناء وحيد لأحد هؤلاء الكبار في الدورة الأخيرة هو الفنلنديّ المميّز والفريد أكي كوريسماكي الذي نال جائزة لجنة التحكيم عن فيلمه “الأوراق المتساقطة”. فأيّ مواضيع وقضايا ورؤى جاء بها هؤلاء السينمائيّون الكبار إلى المهرجان الذي افتتح في السادس عشر من أيّار ̸ مايو الفائت واختتم في السابع والعشرين منه؟ ألا يستحقّون إضاءة “استلحاقيّة” على إبداعاتهم الجديدة، بعيدًا عن حديث الجوائز التي تكافئ بالتأكيد، لكنّها لا تُخْفِضُ من قيمةٍ إبداعيّة ولا تزيدها تكريسًا؟

فندرز

البداية مع السينمائيّ الألمانيّ الكبير فيم فندرز Wim Wenders الذي سبق أن قطف السعفة الذهبيّة عن إحدى تحفاته الكثيرة “Paris, Texas” عام 1984، فضلًا عن العديد من الجوائز لأفلامه اللاحقة. أتى هذه السنة مع جديده “Perfect Days” بعد غياب تسع سنوات، وقد بدت علامات التقدّم في السنّ (هو اليوم في السابعة والسبعين) قياسًا بصورته العالقة في ذاكرتي يوم حاورتُه في مهرجان غوتنبرغ السويديّ عام 1995 وألفيته شديد اللطف والتواضع، فذانك من صفات الكبار.

لكون فنذرز شغوفًا بالحضارة اليابانية ومجتمعها الحديث منذ شريطه الوثائقيّ “Tokyo – G” (1983) عن المخرج اليابانيّ الرائد ياسوجيرو أوزو Ozu، وصوّر فيه شوارع طوكيو لسبر روح السينمائيّ اليابانيّ المعلّم. وها هو يعود إلى اليابان بعد أربعين سنة ليروي في فيلمه الجديد يوميّات منظف مراحيض عامة في أحد أحياء طوكيو يدعى “هيراياما” (كوجي ياكوشو، نال جائزة أفضل ممثل) وهو خلافًا لعمله المتواضع متذوّق فنّ يغذّي روحه بالموسيقى والكتب وجمال الطبيعة، ويزاول عملًا غريبًا قياسًا بثقافته ورهافته، إنّما بتفانٍ وحبّ وانتظام كأنّه يمارس طقسًا يوميًّا… إلى حين ينبثق ماضيه مجدّدًا حين تطلب إليه إبنة أخيه، شبه المجهولة بالنسبة إليه، أن يؤويها في منزله.

يلجأ فندرز إلى الإعادة لإحاطة أفضل بشخصيته “هيراياما” ذي الحياة المنظّمة مثل ورقة النوطات الموسيقية. حركته هي نفسها كلّ يوم، والمسار هو عينه، والأمكنة والمهمّات هي ذاتها… اختيار فيم فندرز مراحيض طوكيو كمفتاح لفيلمه ليس اعتباطيًا، فهي موضع اهتمام خاص من قبل البلديّة التي تستعين بأمهر المهندسين المعماريين الخلَّاقين لوضع تصوّر لها. وعبر شخصية “هيراياما” يمجّد فندرز الجمال والمتعات البسيطة، فهذا العامل في تنظيف المراحيض ذات التصاميم الجميلة يُشعرنا بتعاطف تلقائيّ معه إنسانًا مرهفًا ومثقفًا يسمع أغاني لو ريد مغنّي الروك وعازف الغيتار الأميركي، وأغاني باتي سميث المغنية الأميركية والشاعرة والرسامة، والمغني والعازف والكاتب الإيرلندي فان موريسون (هذا الجانب يعكس اهتمام فندرز المعروف بأغاني الروك)، ويلتقط يوميًّا بكاميراه القديمة ذات الشريط الخام صورة للأشجار التي يهيم بها، ويقرأ في كتاب ورقيّ لا إلكترونيّ، ويبدو سعيدًا في كلّ ما يفعل، ولا يعكرّ سكون حياته إلاّ مجئ ابنة أخيه المباغت… الفيلم يلامس بهدوئه ورهافته وعمقه الإنسانيّ (قد يكون فيلم مورناو البديع “الرجل الأخير” وبطله العجوز الذي يعمل في مراحيض فندق…) درجة التأمّل كما في فلسفة الزِنْ والبعد الشاعريّ في البحث عن الجميل في اليوميّ العادي أو حتى المبتذل.

لوتش

السّينمائيّ البريطانيّ الملتزم، عميق الإنسانيّة، كِنْ لوتش Ken Loach هو بين قلّة نادرة نالت السعفة الذهبية مرّتين في تاريخ مهرجان كانّ (من أصل خمس عشرة مشاركة في المسابقة الرسمية)، فضلًا عن سبع مشاركات في مهرجان برلين وخمس في مهرجان البندقية. خرج هذا السينمائيّ الرائع، غزير الإنتاج، من سباق هذه السنة خالي الوفاض من أي جائزة كبرى أو صغرى، إثر مشاركته بجديده “The old Oak” وهو اسم الحانة المتواضعة الوحيدة المهدّدة بالإقفال في مدينة بريطانية صغيرة، بالتزامن مع قدوم لاجئين سوريين إليها، وتعاطف مالك هذه الحانة “تي جي بالانتاين” (يؤدي الشخصية الستّينية ديف تورنر) بلاجئة سورية شابة يتشارك وإيّاها في عمل تضامنيّ مع اللاجئين وسكان المدينة الفقراء. لكنّ هذه المبادرة سوف تقلق زبائنه المعهودين الكارهين للأجانب، إذ يُقدم غليظٌ على تحطيم كاميرا تصوير للاجئة سورية لدى نزولها من الباص فيصلحها لها صاحب الحانة المحبّ للمهاجرين الذي يعيش في مجتمع ضيّق يهبّ بعض سكانه لاحقًا بكل ما أوتوا من همّة ونشاط إلى مساعدة هؤلاء اللاجئين، في حين تدافع حفنة من المعادين لهم عن “أرضهم المهدّدة”، وتشوّش على عمل صاحب الحانة. اللطفاء هم حقًا لطفاء، والأشرار جدّ أشرار.

هذا الفيلم يؤكّد مرة جديدة على التزام كِنْ لوتش الإنسانيّ الذي أفصح عنه في سائر أفلامه، فهو ذو خلفيّة يساريّة ثابتة، وسينما واقعيّة بامتياز، ملتزمة، تدافع عن المجتمعات والبيئات الفقيرة المهمّشة الموجودة بكثرة في سائر أنحاء بريطانيا، وبخاصة في ضواحي المدن التي تشهد حرمانًا وفقرًا لا يخال أحد أنّه موجود في بلد رأسماليّ يضمّ مئات ألوف الأثرياء والأريستوقراطيين والرأسماليين الكبار… كِنْ لوتش هو دومًا إلى جانب الفقراء والمهمّشين، يضيء على يومياتهم وأوضاعهم الاجتماعية الصعبة، مظهرًا تعاطفًا معهم من دون طرح لثنائيّة الخير والشرّ.

نوري بيلغي دجايلان

يوصف هذا السينمائيّ التركيّ المبدع، كتابةً وإخراجًا وإدارة للممثلين، بأنّه “برغمان تركيا” فالمعلّم السويديّ يُعتبر ملهمًا أساسيًّا له، مبدعًا حتى الآن عددًا من الأفلام العميقة والفذّة، وبينها “Winter Sleep” الذي حاز السعفة الذهبية في كانّ عام 2014، وكان نال مرتين جائزة لجنة التحكيم عام 2002 عن فيلمه ” Uzak” وعام 2011 عن فيلمه Once upon a time in Anatolia. وحضر إلى مهرجان هذه السنة مع جديده “العشب الجافّ”. فيلم كئيب، على مألوف سينما دجايلان، غزير الحوارات كسائر أفلامه، يغمره الحضور الآسر للطبيعة كما في سائر أفلامه، وللثلج والريح أيضًا حضورهما كعنصرين دراميين مؤثّرين، كأنّنا في بيئة قطبيّة حيث نرافق شخصية “ساميت”، مدرّس الفنون التشكيلية الضَجِر في القرية التي لا يحلم سوى بمغادرتها إلى مكان بعيد. يحاول إدخال أساليب تعليم جديدة لكنّه يخشى الجوّ المحليّ المحافظ. يحضّ تلاميذه على التمرّد، على الحب، على أن يكونوا على سجيّتهم. ويجد “ساميت” نفسه مع “كينان” زميله ورفيق سكنه متّهمين بالتحرّش بتلميذتهما الشابة المفضّلة، تلك التي أعارها “ساميت” اهتمامًا كبيرًا، ربما أكثر ممّا يلزم، لنكتشف مع الوقت أنّ لدى “ساميت” جانبًا مظلمًا ومتلاعبًا.

يضعنا هذا السينمائيّ التركيّ القدير في مناخ من الغموض حيث لا تبدو الأمور على الإطلاق كما هي في الظاهر. يؤدي الممثل دنيس سيليلاولو شخصية “ساميت” بأسلوب ملهم جدًا. إنسان مكروه، ماكر، ذو شرّ مجّاني خلف مظهر تقدّمي ساخر، يدمّر جميع المحيطين به. يملك دجايلان حسّ الاستدارات المفاجئة، فسرعان ما يُقفل ملفّ التحرّش لدى السلطات المعنية، ويُدعى الجميع إلى النسيان والانتقال إلى مسائل أخرى، وهنا يُدخلنا الكاتب والمخرج في قصة مختلفة تدور حول علاقة حب بين “كونان” (زميل “ساميت”) و”نوراي” المناضلة اليساريّة التي فقدت ساقها اليمنى في هجوم انتحاريّ. لكنّ الأفضل لدى الآخرين يُشعل الأسوأ لدى “ساميت” فيخرج الوحش القابع في داخله فينفجر حسدًا إزاء علاقة زميله بالمرأة، فهو يبغي دومًا تقبيح الجميل لدى الآخرين… وعلى مألوف دجايلان، ثمة مشاهد حواريّة طويلة تدور غالبًا بين شخصيتين، والسينمائي التركيّ القدير يبدع في نسج الحوارات الطويلة التي قد تمتدّ لنصف ساعة في مكان مغلق. كما أنّه يصوّر الطبيعة مثل رسّام، فنغدو أمام إطارين متلازمين، خارجيّ طبيعيّ وداخليّ نفسيّ.

نانّي موريتّي

المخرج الإيطاليّ القدير نانّي موريتّي Nanni Moretti في التاسعة والستين من العمر اليوم، وبعد مشاركات عديدة له في مسابقة مهرجان كانّ ونيله السعفة الذهبية عام 2001 عن فيلمه “غرفة الإبن” عن فتى يموت بالمرض العضال متسبّبًا بمأساة لأفراد عائلته، حاز أيضًا جائزة الإخراج في المهرجان نفسه عام 1994 عن “يوميّات حميمة” ثم جائزة لجنة التحكيم في مهرجان البندقية عن فيلمه “برج الذهب” عام 1981، والدب الفضي في مهرجان برلين عن فيلمه “القداس انتهى” عام 1986، إلى جوائز أخرى في مهرجانات متفرقة. أتى إلى كانّ هذه السنة مع جديده “نحو مستقبل مشعّ”، إلاّ أنّه خرج هذه المرة بلا أي جائزة.

يؤدي موريتّي في فيلمه (على مألوفه مخرجًا وكاتبًا وممثلًا) دور سينمائيّ يهيّئ نفسه للاعتزال بعد إنجازه فيلمًا روائيًا يدور حول قدوم سيرك مجريّ إلى روما في الفترة التاريخيّة التي شهدت سحق الاتحاد السوفياتيّ تمرّدًا ضدّ السلطة المجريّة عام 1956. والمخرج هذا (أي الشخصية التي يؤديها موريتّي في فيلمه) يكابد صعابًا شخصيّة ومهنيّة وعدم تأقلم مع عصره، كأنّه من آخر الديناصورات في عالم السينما يواجه النجاح الكبير لمنصّات الدفق الإلكترونيّة (ستريمنغ)، وهو مرغم على إعادة التفكير في عاداته كي يصارع البقاء في القرن الحادي والعشرين. كما أنّه سينمائيّ يُحسن تصوير الحب ولا يُحسن عيشه. أزمته وجوديّة بامتياز، رغمًا عنه، بين ابنته الشابة التي تحبّه كثيرًا والمتولّهة رغم صغر سنّها برجل بولندي ستينيّ. كذلك تعجز زوجته عن الانفصال عنه… ونبرة الفيلم كوميدية في جانب منه، مثلما عوّدنا موريتّي، وهي حاضرة دومًا في سينماه التي تحاكي سينما الأميركيّ وودي ألن… يقدّم هنا حكاية استبطانيّة، كوميدية – دراميّة، تندرج في خانة السينما داخل السينما. فيلم عن الوقوف عند الهاوية، مؤثّر، ذو إيقاع خفيف، رغم الثيمات غير المفرحة للوهلة الأولى. رهافة، صدق، ذاتيّة، مهنيّة، في آن واحد. بين الكآبة والحنان والابتسامة، يطرح “نحو مستقبل مشعّ” معضلة التأقلم في عالم يشهد ذروة التحوّل ولا يعثر الجميع على موقعهم فيه.

أكي كوريسماكي

بوحدة الأسلوب الخاص وفرادته، يستمرّ المخرج الفنلندي الخلاّق أكي كوريسماكي Aki Kaurismaki في النسج على القضايا الإنسانيّة والفرديّة والاجتماعيّة التي عوّدنا عليها، وهو ذو نظرة يساريّة منتقدة لآفات مجتمعه، ويشبه بذلك زميله كِنْ لوتش إنّما بلغة سينمائيّة مختلفة وأسلوب معالجة خاص. لم يخرج بالأمس القريب خالي الوفاض تمامًا، إذ نال فيلمه المشارك في مسابقة كانّ “الأوراق المتساقطة” جائزة لجنة التحكيم (الثالثة في تصنيف الجوائز)، وكان الاستثناء الوحيد بين الكبار المكرّسين هذه السنة.

بالأسلوب الذي لا يقلَّد والذاتيّ الذي اشتهر به، يرسم كوريسماكي البورتريه اللاذع، الحنون والمليء بالدعابة، للطبقات الشعبية في فنلندا والأوضاع الاقتصادية الصعبة وحرب أوكرانيا. رجل وامرأة وحيدان يلتقيان مصادفةً ذات ليلة في هلسنكي. يرى كلٌّ منهما في الآخر حبّه الوحيد والأخير. دربهما نحو هذا الهدف المحمود معتم بسبب الإدمان على الكحول، وفقدان رقم الهاتف، وجهل كليهما باسم الآخر وعنوان سكنه. تبدو الحياة كأنّها تعترض طريق باحِثَين عن السعادة.

يمكن التعرّف إلى أسلوب كوريسماكي من المشهد الأول. الديكورات رزينة، الإخراج مجرّد، وتنبعث من الشخوص والمواقف شاعريّة اليوميّ، المنطوية على رهافة وقسوة معًا. السينمائيّ الفنلنديّ المعروف ينخرط في مواضيع ذاتيّة جدًا، بدءًا بالإدمان على الكحول. إحدى الشخصيتين تُظهر نوعًا من الكآبة، حتى وقوعها شيئًا فشيئًا في الإدمان. ولعلّ “الأوراق المتساقطة” هو الفيلم الأكثر حميميّة لمخرجه. يروي قصته في خضمّ وقائع الحرب الأوكرانية والانهيار المالي المتسارع في فنلندا والأزمة الاقتصادية المتفاقمة. يصعب بالتالي الفصل بين المخرج نفسه وشخصية الفيلم. لم يفقد ذرّة من رهافته، ومن دعابته اللاذعة، ومن حبّه العارم للناس الضعفاء. هو يهتمّ دومًا بالعمّال والموظفين الصغار الذين يحصّلون عيشهم بصعوبة ويواجهون مشقّة في سداد فواتير الكهرباء أو إيجار المنزل ويضنون في أعمالهم غير المقدّرة. لكنّ خطاب كوريسماكي السينمائيّ ليس محض اجتماعيّ أو بؤسويّ، بل إنّ قراءته للواقع شاعرية وأدبية. يؤثر المشاهد التي يتناغم فيها حنان شخوصه على نحو ساحر مع قسوة الحياة اليومية. الشوارع كئيبة، الوجوه شاحبة، والخيبة في كلّ مكان. ولعلّ هذا الفيلم هو خلاصة سينما كوريسماكي كلّها: الجمال والحزن اليوميّان المتعاليان بالضحكة والشعر. كما اشتهر كوريسماكي بلقطاته الثابتة والطويلة، إذ نادرًا ما تتحرّك الكاميرا، والتقطيع والمونتاج قليلان، فينعم الممثلون بمساحة أداء واسعة، وبحضورهم تحضر الكرامة الإنسانية.

جيمس غراي

بعد نحو ثلاثين عامًا على شريطه المميّز “أوديسّا الصغيرة” Little Odessa وفد المخرج الأميركي جيمس غراي James Gray هذه السنة إلى مسابقة كانّ حاملًا جديده “Armageddon Time” ويروي فيه علاقة أب بابنه (شخصيته تحاكي ذاكرة المخرج الشخصية) الذي يعيش رفقة شقيّة مع صديقه أسمر البشرة في مدرسة رسمية، فيقلق عليه والداه وجدّاه ويدخلانه مدرسة خاصة مموّلة من مؤسّسة تخصّ عائلة ترامب الأب، علمًا أن حوادث الفيلم في حقبة ريغان زمن كانت الولايات المتحدة تشهد تحوّلًا مفصليًّا غير مُدْرَك بعد، فالنسخة هذه من “الحلم الأميركيّ” قاسية، ويؤوب غراي إلى طفولته المثقلة بالسنين، بلا تسامح. الفيلم محيِّر في نهاية المطاف، آسر، جميل الحوارات، وإن يكن في ساعتين وثلاثة أرباع الساعة، وفيه عودة أيضًا إلى حقبة سباق التسلّح النوويّ الذي أوقف بمعاهدة عام 1966. وتطغى على الفيلم إشكاليّات المجتمع اليهوديّ الأميركيّ (ذوو المخرج من أصول يهودية أوكرانية) و”التظلّم” الدائم من “كره اليهود” حتى في المجتمع الأميركيّ حيث يسيطرون على مفاصل القوة في الولايات المتحدة! لكن أبعد من هذا الجانب ذي الخصوصية الإشكالية، غراي مخرج متمكّن بالنظر إلى أعماله السابقة، ويحظى هنا بفرصة التعاون الثمينة مع النجم القدير أنطوني هوبكنز وحضوره الآسر في دور جدّ الفتى (Alterego المخرج نفسه) الذي يهبه كامل الرعاية والتفهّم والحنان، في مرحلة حرجة من تاريخ أميركا.

ماركو بيلوكيو

ماركو بيلوكيو Marco Bellocchio (83 عامًا) مخرج إيطالي لامع وذو شهرة عالمية، شارك في مسابقة كانّ بفيلمه “الاختطاف”. دراما حميمة وسياسيّة تدور في منتصف القرن التاسع عشر، حول الفتى إدغاردو مورتارا ابن السنوات السبع الذي انتُزع من ذويه على يد السلطة البابوية. والطفل هذا يهوديّ من بولونيا الإيطالية، رعته مربّية مع عائلة لديها تسعة أولاد وعمّدته مسيحيًا بالسرّ، لذا كان من الضروريّ تبعًا لقوانين الكنيسة أن يتلقّى تربية كاثوليكية تحت طائلة اعتباره كافرًا. وسرعان ما تتخذ معركة والديه لاسترداده بُعدًا سياسيًا. ووضع بيلوكيو لفيلمه تصوّرًا لجداريّة باروكية يمتزج فيها الخاص بالسياسيّ، وبأسلوب كاريكاتوريّ يتحرّك تحت أنظار البابا بيّوس الرابع. ينتقد بيلوكيو برودة الكنيسة والتبشير القسريّ الذي يدفعها نحو أسوأ الأفعال.

أنجز بيلوكيو فيلمًا قويًّا يحوي مشاهد صادمة، وهو يحتفظ رغم التقدّم في السنّ بالحيويّة والصفاء الذهنيين والأسلوب المتّقد والهجّاء للمراحل المظلمة من تاريخ الكنيسة والأفكار والممارسات القهريّة المهينة لحرية الإنسان وكرامته.

*****

ختامًا، الجوائز لا تصنع إبداعًا، بل الإبداع يصنعها. وفي المهرجانات والمسابقات قد تصيب لجان التحكيم وقد تخطئ. هامش سوء الحكم والتقدير واسع، لذا لا يعني حرمان فيلم أو أكثر من الجوائز الكبرى أنّ قيمته الإبداعية، أو الإنسانية، مشكوك فيها، بخاصة لدى السينمائيين الكبار المكرّسين والمعلَّمين، فاعتبارات وتدخلات وتأثيرات جمّة تدخل على الخطّ فتحرف أعضاء اللجان عن حسن التقدير والتكريم، والبرهان ما حصل السنة من “هيصة” نقدية عالية وغير مبرّرة حول فيلم البريطاني اليهوديّ الصهيونيّ جوناثان غليزر Glazer الذي عاد إلى الموضوع “الكليشيه” الخاص بالهولوكوست، وقد مللناه ولم يملّه النقّاد الفرنسيون والأوروبيون والأميركيون الذين تتحكّم فيهم إلى اليوم هذه المسألة المشبعة معالجةً روائيًا وتسجيليًّا، وكم هي مسألة تنطوي على عقدة التودّد والمحاباة، فيما ينزل أحفاد هؤلاء قتلًا وتنكيلًا بالشعب الفلسطينيّ ولا يرفّ لهؤلاء النقاد والصحافيين جفن ولا يتحرّك ضمير ميت فيهم!

٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى