مقالات سينمائية

نظرية الفيلم: النقد السينمائي مساحات من التمايز والتماثل/ رامي أبو شهاب

تعدّ نظرية الفيلم أو النظرية السينمائية مجالاً أكاديمياً يستهدف اكتناه جوانب الفيلم المختلفة، بوصفه وسيطاً ثقافياً وفنياً، غير أنّ هذه النظرية نتيجة هذا المسعى قد تتطلب جملة من المقاربات التي تتضمن موضوعات لامتناهية تبعاً للتّحول الدائم في تكوين الإنسان، وما يواجهه من تحدّيات على مستوى القيم والأسئلة، بيد أن النظرية السينمائية تُعنى أيضا بجانب تأملي في ذاتها، أو بمعنى آخر بمنهجية مقاربة الفيلم، فضلاً عن الجماليات، وعملية الإنتاج، مع التأكيد -أيضاً- على الآثار الاجتماعية والسياسية والثقافية، ومن هنا ينبغي أن نقيم تمايزاً بين النظرية السينمائية من جهة، والنقد السينمائي من جهة أخرى، كما تاريخ السينما كون هذه الحقول تنتج عن رؤى أو مقاربات مختلفة تحتمل الكثير من التمايز والتماثل.

مفاهيم

تعرف «نظرية الفيلم» في موسوعة السينما التي يحرّرها جيمس موناكو على أنّها «مجموعة الأفكار التي تطوّرت حول دراسة السينما بوصفها شكلاً فنياً، كما وسيلة من وسائل الاتصال لكونها ظاهرة ثقافية، واجتماعية». كما تضيف الموسوعة بأن نظرية السينما تشمل مجموعة واسعة من المناهج، وطرق التحليل، ومنها الشكلية والدلالية، والنفسية والنسوية والدراسات الثقافية، وغيرها.

تعرّف الموسوعة النقد السينمائي بأنه «عملية تقييم الأفلام على أسس أو معايير خارجية» ومن هنا ينبغي التنبه إلى أن مقاربة الفيلم تنتج عن وعي التلقي الذي ينبغي أن يكون وعياً مثقّفاً، بالإضافة إلى حساسية تجاه ما يتضمنه الفيلم من رسائل، غير أن هذا يتطلب وعياً مبدئياً أو بمعنى الإطار العام لهذا الفن؛ ولهذا تشير الموسوعة إلى أهمية وصف التقنيات والمحتوى وتحليلهما، كما المنجز، علاوة على إنزال التحليل في سياقات الفيلم التاريخية والجمالية والاجتماعية، لكن هذه العملية تبقى أسيرة الناقد، وقدرته على التذوق، مع التنبه إلى الموجّهات التي ينطلق منها في عملية تحليل الفيلم، ونقده، ونعني ما إذا كانت تصدر عن وعي قيمي أو جمالي، أو غير ذلك، بينما تاريخ السينما يُعنى بالتتابع الزمني لتطور الفيلم، وتاريخه، والمراحل التي يمثلها، ودور التكنولوجيا والرؤى الفنية في تعديل فعل الصناعة، والآثار المترتبة على ذلك.

يمكن أن نشير في هذا السياق إلى أن النظرية السينمائية تُعنى إلى حد ما بالطرائق التي تؤسس عبرها الأفلام، ولا سيما اللغة البصرية، وأهمها التصوير السينمائي، والتحرير، والصوت، والتركيب المشهدي.. بهدف الكشف عن الإسهامات التي تؤديها هذه العناصر في تكوين مقاصد الفيلم ورسالته. من أهم الجوانب المتعلقة بالنظرية السينمائية عنايتها الفائقة بدراسة السياقات الاجتماعية والسياسية، التي يتم فيها إنتاج هذه الأفلام، واستهلاكها، بما يشمل أيضاً عوامل التأثير التي تتصل بفعل التوزيع والإنتاج.

على الرغم من التجاور مع الأبعاد الجمالية التي تهتم بها مجموعة من النقاد، الذين ينطلقون من أطر أو منطلقات فنية، فثمة أيضاً الأبعاد الإشارية أو السيميائية التي تنظر إلى العلامات والرموز المستخدمة في الفيلم، لنقل المعنى، أو توليده، وهي نزعة نقدية تبدو لنا جزءاً من نظرية الخطاب كما شاعت في الأدبيات التي انطلقت من رؤى متعددة بغية تعريف الخطاب، حيث قدمت تفسيرات متعددة، ما يقودنا إلى القول إن مفهوم الخطاب يمكن أن يجد صداه ـ على سبيل المثال لا الحصر- في المقاربات الأخرى ومنها النفسية التي تستكشف الأبعاد النفسية للفيلم، فضلاً عن الدراسات الثقافة التي تدرس الآثار الاجتماعية والسياسية؛ ما يعني أننا إزاء طيف كبير من الموجهات التي تعتمد عدسات مختلفة لمواجهة الفيلم، واكتناه أعماقه.

التمايز والتماثل

ومن أجل استعادة التقييم المنهجي للتمايزات بين هذين الحقلين، ونقصد النظرية السينمائية والنقد السينمائي بوصفهما حقلين متغايرين على المستويين: الإجرائي والنظري، على الرغم من الإقرار بوجود بعض التداخلات التي تفرض نفسها على المشتغلين في هذه الحقول، ذلك أن كلا النظرية السينمائية والنقد السينمائي نهجان متميزان في تحليل الأفلام، وتفسيرها. إذ تعدّ النظرية السينمائية نهجا أكاديميا وتحليليا يسعى إلى فهم المبادئ الأساسية التي تقوم عليها السينما، بوصفها فناً ينطوي على دلالات، ومن هنا كان لا بد من استحضار المقاربات الخارجية من أجل إضاءة القيم أو المعاني والمقاصد.. من مبدأ مقولة فعل التمثيل (بالمعنى الخطابي) في حين تركز نظرية السينما على ميكانيكا السينما بما في ذلك العناصر الشكلية (مثل التصوير والمونتاج وتصميم الصوت) مع الاستئناس بالسياقين: التاريخي والثقافي للأفلام. كما يمكن النظر إلى نقد السينما على أنه نهج ذاتي، لكنه لا يتجاهل جملة المعايير التي يمكن أن تقود إلى تكوين توجهات فنية أو ثقافية أو ترفيهية، ونعني من حيث قدرة الفيلم على تحقيق هذا الأهداف.

يمكن القول إن النقد السينمائي يمكن أن يفيد من النظرية السينمائية ضمن طابع مزجي بهدف دعم أو تعزيز الحجج والتقييمات المقدمة في نقد الفيلم، ومن ذلك المفاهيم والأطر النظرية التي توفر فهماً أعمق لموضوعات الفيلم، ودلالاته واختياراته، ولاسيما على المستوى الأسلوبي، لكن عبر العودة إلى النظريات والمفاهيم ذات الصلة. يشير كتاب «Film Theory and Criticism « للمؤلفين براودي وكوهين إلى الفروق الواضحة التي يمكن أن نحيل إليها من أجل فهم أعمق للتمايزات بين النقد السينمائي والنظرية السينمائية، فالأولى تُعنى بالفيلم بوصفه آلية تشكيل مع التركيز على قدرة خلق التأثير في وعي المشاهد، بالتوازي مع تحليل العناصر الشكلية للفيلم، ومن ذلك زوايا الكاميرا والإضاءة والصوت، وهذا يعني تقدير فهم الآلية التي تنتج من خلالها المعاني، كما إثارة العواطف، في حين تُعنى النظرية السينمائية – بصورة جوهرية – بالعالم أو الواقع، وحيثياته المعقدة أو الجدلية، ومنها تشكيل القيم والأعراف الاجتماعية، حيث يقول جان -لوي بودري، إن «جهاز السينما يعمل على خلق وهم من الواقع الذي هو في الواقع عبارة عن إطلاق لرغبات وأوهام المشاهد».

من ناحية أخرى فإن النقد السينمائي يبدو أقرب إلى نهج ذاتي قوامه التقييم، ولاسيما التوجهات الفردية لفعل الصناعة، وهنا يقتبس الكتاب من الناقد السينمائي الأمريكي أندرو ساريس مقولة إن «أفلام المخرج تعكس رؤية المخرج، وأسلوبه الشخصي، مما يجعله المؤلف الفعلي للفيلم».

ينطوي كتاب براودي وكوهين على تظليل واضح للتعالق القائم بين النظرية السينمائية والنقد السينمائي، حيث يؤكدان على فاعلية التوظيف الأمثل للوجهات التي يمكن أن تقود الناقد في تكوين المعيارية، ومن ذلك على سبيل المثال توظيف النظرية النفسية التي تكشف الوسائل والأساليب التي تختبر أفعال تمثيل الرجل والمرأة في الأفلام، غير أن كتاب «مفردات جديدة في السيميائية السينمائية» – من تحرير روبرت ستام ـ ينص على أثر علم الدلالة في فهم معاني الأفلام، وهو ما يمكن أن يوفر نظرة إلى الاختلافات بين النظرية السينمائية والنقد السينمائي، كون هذا الإجراء يعمد إلى تكريس قيمة النظرية السينمائية في اكتناه الفيلم، بوصفه إجراء مبدئياً، من منطلق أن علم الدلالة، أو دراسة العلامات والرموز المرجعية، يعدّ منهجاً مهماً من أجل فهم كيفية إنشاء المعنى في الأفلام، حيث يقول الكتاب: «إن علم الدلالة يحاول تحديد العناصر الأساسية التي تستخدم في إنشاء المعنى في الأفلام والقواعد التي تحكم استخدامها».

ولعل هذه المنهجية قد تتناغم بقدر أكثر إقناعاً مع النقد السينمائي، الذي يسعى إلى فهم المبادئ الأساسية للسينما بوصفها شكلاً فنياً أو تعبيرياً، غير أن الأفلام تبقى مراوغة على مستوى الخطاب حيث يذكر الكتاب «بأن السينما، على الرغم من قدرتها على التعبير، فإنها تمتلك أيضاً القدرة على إخفاء أو إضمار المعنى» مما يعني أن النقد السينمائي قد يتناول تقييم فعالية رسالة الفيلم، بدلاً من تحليل المبادئ الأساسية أو الشكلية المؤسسة لفعل صناعة الفيلم.

رؤية

لعل ما سبق يحملنا إلى توجيه الأنظار لأهمية التركيز على الأسس التي يمكن من خلالها مقاربة السينما التي – تعدّ من وجهة نظري- ربما من أكثر الأشكال التعبيرية تعقيداً ومراوغة… نظراً لقدرتها على توظيف جملة من الفواعل التي تعمد إلى مخاطبة حساسية المتلقي أو المشاهد، فثمة في الصياغات الفنية، والرؤى والتقنيات.. الكثير من المعاني التي تبدو مضمرة، كون هذه العناصر لا توجد بهدف تكريس مقولة العمق الفني، وتحقيق النجاح، وتجنب الإخفاق بدافع وجود ارتهانات تتصل بفعل الصناعة فحسب، وإنما لقدرتها على حجب السياقات الثقافية، والتشويش عليها عبر التركيز على المتعة القادرة في لحظة ما على سرقة المشاهد، وتكريس مقولات تُقدم على شكل جرعات مخففة ربما تحتمل الكثير من المغالطات والتشوهات.

كاتب أردني فلسطيني

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى